
في واقعةِ ثورةِ حزب العمل المصري اليساري ضد رواية(وليمة لأعشاب البحر) للكاتب حيدر حيدر، مادةٌ تحليليةٌ مهمةٌ لنسيجِ قوى وَضعتْ نفسَها في تيارِ اليسار والعلمانيةِ والحداثة والمقاومة، ثم دافعتْ عن قيم إنتهازية.
فكيف تحدثُ هذه القفزة غير المعقولة من نسيجٍ فكري يحترمُ الكتابَ في إبداعاتِهم ويثمنُ ويوسعُ هذه الإبداعات إلى أن يقفَ شرطياً متدخلاً في عمق هذه الإبداعات؟!
كيف تجري هذه القفزة من جماعاتٍ يُفترضُ أن تنمي حالات الوعي والنقد للتراثِ وللواقع إلى أن تصطفَ فجأةً مع قوى اليمين التي تفتقدُ أية قراءات في فهم الوطن والإسلام والواقع والمستقبل؟
الجواب واضح وبسيط لكلِ من يتابع هي السياسةُ الذاتية والمصالح الخاصة!
جماعاتٌ صغيرةٌ ظلتْ منعزلةً عن الجمهور لعقود، لم تملك قوى فكرية نظرية تحليلية حقيقية، وكونتْ بعضاً من تحليلاتٍ محدودة نادرة فاقعة بضرورة تجاوز الأنظمة الراهنة وقتذاك وهي الأنظمة (الإشتراكية) القومية العسكرية، إلى ضرورة هيمنة البروليتاريا وإقامة دكتاتوريتها الساحقة لكلِ أشكالِ الإستغلال. وهي _ أي هذه القراءات – لا تكتبها تلك الأحزاب بل يكتبها فردٌ فيها لأنها أحزاب أمية إجتماعياً وهي تتبعُ الفردَ في جنوحهِ للاشتراكية الصاعقة ول(لإسلام) المهاجم لكلِ تَنور ولكل ثقافة حرة والمعمق لمصالحه الخاصة المتجذرة داخله!
أفكارٌ تنتقلُ بشدةٍ من نقيضٍ إلى نقيض، ولكن إنتقالها هو هو، المضمونٌ واحد، هو عدم القراءة الموضوعية للنص الأدبي، وللنص الديني، وللواقع المنتج في تاريخهِ لكلا النصين.
النص الأدبي وهو (وليمة لأعشاب البحر) يجسدُ خطابات الثوار العراقيين الفوضويين المهاجرين للجزائر، وكلمات العراقيين ملأى بالشتائم للحياة والسلطات والناس والدين.
وقد تحولتْ هذه الشتائم لدى جماعة حزب العمل اليساري في تصوره إلى هجومٍ مخطط ضد الإسلام تقوده قوى الحكومة المصرية!
لم يخطر في وعي كاتب الرواية أن يُحَاكم من خلال أقوال شخصياته، لكن هذا يدل على أن رواد النضال (الديمقراطي) التحديثي في مصر قد إنعزلوا عن عوالم القراءة والثقافة والحداثة، وهو ديدن الأحزاب العربية عامة، فليس فيهم من يقرأ نصاً أدبياً بعمق، وأن يصبرَ على قراءته كله، وأن يقدر على فهم معناه العام، بل هو يقتطعُ جملاً ثم يتصورُ أنها هي أقوالُ المؤلفِ وتهجمه.
هذا الوعي العامي يرتبطُ من جهةٍ أخرى بوعي عامي سياسي، فهذه النخبةُ السياسيةُ التي عاشتْ في (صمودِها) على علاقاتها بالدول الدكتاتورية في المنطقةِ ومعوناتِها، إنقطعتْ علاقاتُها بالجمهور، وبالجدلِ السياسي العميق معه، وجاءتْ جماعاتُ الشعارِ الديني المعارض السطحي لتنتشر في الأزقة، وتسيطر على الناس.
في هذه الحالة لا تستطيع جماعة اليسار القديم وقد تآكلتْ أدواتُها التحليليةُ للنصِ الأدبي، وللنص الديني بتحولاتهِ عبر العصور، وفي وجوده الراهن ضمن بنية مختلة، أن تفهم هذا الواقع المركب، وأن تتصور أن هذا المؤلف الحداثي هو معها، وأن حلفاءها الدينيين والسياسيين هم خصومها، لأن مستوى وعيها هو قطعُ الجملِ من كتابٍ كامل غني بالمعاني، وتعليقها في مناخ ديني سياسي، وقطع ظاهرة في الواقع الراهن كفساد الطبقة الحاكمة، وعزلها عن سيرورة التطور والديمقراطية والحداثة، وجعلها هي الكل.
وبالتالي فإن من يعارض تلك الجمل في الرواية، وذلك المظهر في الواقع هو حليفي.
التسييس الفاقع والتسيس اليميني هو لدى إنتهازيي اليسار ظاهرة مقدسة، في مرحلةٍ سابقةٍ كان يمكن أن يرى تلك الجمل في الرواية بأنها عظيمة مبهرة، وأن يرى الفسادَ ضريبةً ضرورية في عملية التنمية، لكن ليس ثمة قراءة كلية موضوعية للإيجابي والسلبي، ومن الحماقة الكبرى أن تُهاجم رواية نقدية مضيئة لبضعة جمل فيها لا تتفق مع رؤيتك، ثم تتحالف مع قوى ظلاميةٍ ستخربُ الواقعَ كله.
يمكن أن تنقدَ الجملَ في كليةِ الرواية، لكن من المستحيل الاتفاق مع قوى دينية وسياسية تريدُ العودةَ بالتاريخ الراهن للوراء أو التمركز حول الذوات الحصالات، بدلاً من نقدها وتنويرها لتكتشف الواقعَ الحقيقي ولتتطور ديمقراطياً.
نقد الواقع أساسي لكن عبر رؤية الحلقات فيه، فأهداف التقدم والحريات وفصل الديني عن السياسي لا تنفصل عن النضال من أجل حقوق الناس وتطورهم.
وأبطال رواية (وليمة..) في صراخهم الكلامي وطفوليتهم اليسارية والانتهازية كانوا يعبرون عن فشل التفجير المدوي للجمل الثورية وللتلاعب بين المعسكرات لأجل ملء الحصالة التي لا تشبع ولغياب التحليل العميق النقدي للواقع لديهم، وغربتهم المكانية والنضالية، فكانت الروايةُ تحللهم لا أن تمدحهم!
