
إن إزالة المذهبيات مثل إزالة الأديان مسألة غير مطروحة، خاصةٍ ان للمذاهب تطورات تاريخية عريقة، كذلك تختلف التوجهات السياسية التي تظهر في المذاهب عن المذاهب الاجتماعية كما يمارسها الناس، فهذه التوجهات السياسية تخترق المذاهب وتتشابك معها، غير أنها تختلف عن بنية المذاهب الاجتماعية، وهي تتيع موضات العصر والظروف السياسية المختلفة، وتأثير الحكومات، وتدخلاتها في صياغة هذه المذاهب بهذا الاتجاه أو ذاك، وأحياناً مؤامراتها لعرقلة التطور، أو أحياناً كشكل سياسي لسيطرة المحافظين الأغنياء الرجال وعرقلتهم لتحرر العاملين والنساء.
ولهذا فإن ادعاء الحركات السياسية أنها تتطابق مع المذاهب هو مجرد لافتة سياسية ترفعها هذه الجماعات بفرض استثمار المذاهب سياسياً؛ واتخاذها أداة في نيل الشعبية أو المناصب أو للقيام بأغراض سياسية متعددة.
كما أن المذاهب الاجتماعية التي تبناها الناس عبر التاريخ هي نفسها خضعت لتحولات سياسية واجتماعية كبيرة، بحيث إن طابعهاً التحولى المعارض لخدمة الناس تم إزالته أو تذويبه لخدمة السلطات والزعماء الدينيين والقوى المتنفذة، ولهذا فإن الحركات المذهبية السياسية تتوجه لاستغلال هذا الكم الخام في عملياتها السياسية المختلفة، ومن هنا تتعدد هذه الاطروحات وتتباين تبياناً شديداً مع صدورها عن مذهب واحد، مما يعبر بأنها لا تعود لمصدر مقدس حقيقي؛ ولو كانت تعود لهذا المصدر المقدس لما اختلفت كل هذه الاختلافات؛ وتصارعت حول شؤون مادية رخيصة محضة، أو لما استخدمت مثل هذه الأساليب الملتوية الانتهازية في سبيل الوصول للثروات والجاه!
إن هذه المذهبية السياسية تحاول أن تربط نفسها بالمذاهب الفقهية الإسلامية دون أن تقول بأنها مجرد حركات سياسية عادية أنشأها هذا الإنسان المعاصر أو ذاك في سبيل أن يصل إلى الحكم ويتمتع بنفوذ سياسي.
ولهذا فإن العلمانية العربية تحاول أن تفكك العلاقة بين المراجع الإسلامية المميزة العظيمة، وبين هذه الحركات السياسية المعاصرة، فلا بد من أن نسيّج رموزنا الإسلامية عن هذا الابتذال المعاصر، فمن المستحيل أن نرى علاقة بين الخليفة الراشد عمر بن الخطاب النزيه العادل، الذي طلق الثروة والجاه وحكم الناس بموضوعية وسمو، وبين الحركات المذهبية السياسية الراهنة، التي تضع المتفجرات في الباصات، والتي تخطف الناس الخ..
إن تنحية رموزنا الإسلامية عن الاستخدام السياسي الانتهازى المعاصر لا بد أن يكون عاماً شاملاً، بمعنى أن هذه الرموز للتداول العبادي وللتراث والحياة الاجتماعية للمؤمنين، وليس لاستخدامها في الانتخابات وصناديق الاقتراع ولصراعات القوى السياسية وخططها للسيطرة على البشر والمال العام.
فلا حزب سياسي أو جماعة فكرية تحتكر الرموز ولا هي مخولة بالحديث السياسى عنها، ولا بد من النظر أن أي تدول سياسي بهذا الشأن وأي تجارة سياسية إنما هي ستكون ضد القانون عاجلة إم آجلاً.
أي أن الناس سيقتنعون بعد تجاربهم بأن أي جماعة سياسية لا حق لها في التحدث عن الميراث السني أو الشيعي أو الدرزي أو المسيحي الخ.. وأن أي زعيم ينشق لخدمة أهدافه الشخصية وزعامته يجب ألا يحملها للمذاهب والإسلام، بل يلزم قانوناً أن يقول إن ذلك هو من أجل أهدافه السياسية الشخصية، وليس أن ذلك تم لخدمة الإسلام المفترى عليه!
سوف تعرف الناس ذلك بعد تجارب ربما تكون مريرة، فالعلمانية الشعبية الإسلامية سوف تشقُّ طريقها وسط الصعاب والآلام، منتزعةٍ الأقنعة الأيديولوجية الزائفة، محررةٍ الميراث الإسلامي العظيم من الاستخدامات الوضيعة للقوى الانتهازية وللمحافظين المتاجرين بلحم وروح هذه الأمة على مدى القرون السابقة.
