
من الصعب أن يكون الانتهازي موضوعياً، فهو يرى الجهة التي يستفيد منها كأعظم الجهات، والجهة التي يخسر منها كأسواء الجهات، ولهذا لا يرى أي جانب إيجابي في الجهة التي تعارض مصلحته، ولا يرى أن الجهة التي يستفيد منها تسبب الأضرار للآخرين.
وحين تصبح المصلحة الذاتية مُسيرةً لوجهات النظر الفكرية والسياسية، يتشابك الذاتي والموضوعي، وتضيع الحقيقة !
ولهذا حين تصطف جمعيات عديدة مع الدولة لأنها تستفيد منها، وتختفي لغة النقد الموضوعي منها، حيث إذا رأت شيئاً سلبياً من الدولة صمتت، وإذا رأت شيئاً إيجابياً اندفعت تلهج بالمكاسب والمآثر.
وعلى العكس حين ترى شيئاً إيجابياً في الخصوم تسكت، ولا تشير إلى هذا الإيجابي وكأنه لم يكن، وحين ترى شيئاً سلبياً تندفع لإصدار البيانات والتصريحات.
بطبيعة الحال هم يستخدمون هنا لغة تتظاهر بالموضوعية، والصدق والوطنية، والحفاظ على مصالح الشعب العليا وضرورة رؤية التقدم والتسامح الخ..!
وتفعل الجمعيات الأخرى ذات الأمر ، وتتبع نفس الخط، ولكن لمصلحة مختلفة. فإذا قامت الدولة بشيء إيجابي سكتت، أو تحدثت عن النواقص الكبيرة في هذا الإنجاز، وتصبح أحياناً التحولات المهمة في الحياة السياسية بعد عقود الجفاف وكأنها تخلو من أي شيء إيجابي في المسائل المفصلية للحياة السياسية.
وحين يقوم أصدقاؤها بأعمال ما ترفعها إلى السماء، ولا تشير إلى أي جانب سلبي، وخطر على الحياة السياسية والاجتماعية، وكأنها تقدم هؤلاء كأنهم حملان أو غزلان، ولا ترى عمليات التحشيد السلبية أو تراكم الجهل في الجمهور وعدم تبصيره بالحقائق عن هذه الظواهر، فقط لأنها ظواهر صديقة، فصديقي منفوخ كالبالون وعدوي مخسوف إلى أسفل سافلين !
إن الرؤية الذاتية هنا، سواء عند مناصري الدولة الأشداء أو خصومها الأشداء، لا تنتج حالة سياسية وثقافية صحية، ولا تكون وعياً موضوعياً يتراكم عند الناس، بل تقوم على ثقافة الشحن الانتهازية التي لا تتبصر الطرق ومنعرجاتها القادمة، ويقودها سائق مسرعٌ لا يفكر سوى بالوصول إلى وجبته الساخنة، ولا يهتم بالمارة وإشارات المرور !
ولكن يظهر من هذه الحالات الذاتية المصلحية أناسٌ يتبصرون بموضوعية الأشياء، ويغدون أكثر حكمة وعقلاً، ويقومون بتغيير زوايا رؤيتهم ويكتشفون في خصومهم نقاطاً إيجابية، وفي أصدقائهم نقاطاً سلبية.
وعلى مدى نشاط هؤلاء الموضوعيين وتجميعهم للقوى السياسية، وتركيزهم على السلبي أياً كان مصدره، والإيجابي أياً كان منفذه، تتوقف العمليات السياسية والفكرية والتغييرات واتجاهها.
وكلما أزداد عدد هؤلاء في مختلف الجمعيات والتيارات وناضلوا بجرأة من أجل الموضوعية الفكرية والأمانة السياسية، كلما ترسخت خطوط العقلانية والدفاع عن المصلحة العامة، ويزداد انحصار أولئك الذين يكرسون مصالحهم الخاصة، باعتبارها هي الوطن والحقيقة والمستقبل.
لكن هؤلاء الذاتيين المصلحيين ليسوا ضعافاً، بل هم أقوياء، ويستمدون قوتهم أساساً من تفكك الموضوعيين وأصحاب النزاهة، ومن قلة المدافعين عن المصلحة العامة بشكل مستقيم وكلي، لكن النضال السياسي يعتمد على التغلب على هؤلاء بأدوات الوضوح والكشف والتعاون بين مختلف العناصر النزيهة.
إن الانتهازية تتكشف عبر التحليل الواسع والموضوعي وعبر النضال المشترك لتعرية الأقنعة المختلفة.
