الانتهازية كاسحة

يقول: إن فيلم (كلنا يا عزيزي لصوص)، فيلم مبالغ فيه وأنت تمدحه بقوة!
أقول له: هذا زمن سادت فيه الانتهازية وأنت لن تعرف فيه المناضل من الحرامي، والكاتب كان رغم تشاؤمه ذو استشعار دقيق، فحتى معارك الكفاح والسجون والتعذيب قد تـُجير للانتهازية والتلاعب بالمشاعر والمواقف!
ـــ كيف ذلك ؟ أنت تخيفني؟
ـــ الناس عامة تعيش سذاجة سياسية، خاصة بعد غياب طويل للممارسة السياسية المباشرة، فما بالك أن تكون عندها ثقافة نقدية عقلانية تزن الأشياء بمعايير الحقيقة لا بمعايير التحزب والتطبيل، وأي جماعة وأي ثلة سياسية لديها طابور من المنافقين والمداحين، بغض النظر عن تاريخها السياسي ومدى عمقها الفكري ومدى إخلاصها للوطن ولتحوله إلى الديمقراطية.
ـــ هل تشير بهذا إلى تجربة معينة؟
ـــ العديد منا عاش فترة مؤلمة في السجون، واكتشف هناك قبل أن يكتشف هنا أن الكثيرين من السياسيين ليست لديه أية أمانة أخلاقية ونضالية، وإنه مستعد أن يتعاون مع مهربي المخدرات والقتلة قبل أن يتعاون معك وأنت معه في زنزانة واحدة! ليس لشيء سوى لأن هؤلاء المجرمين قادرون على إعطائه بعض السكر والشاي وعلى تهريب رسائله!
ـــ إلى هذه الدرجة ؟ أين المبادئ؟ أين الأخلاق؟
ـــ أي وضع كنا فيه، أكلٌ يجعلُ أمعاءك تتفجرُ ويُسمع دويها عن بُعد كبير، وأولئك المجرمون الممسكون بمطبخ السجن يتلاعبون في المواد المعيشية، ولكن زميلي في الزنزانة يجد لهم كل المعاذير! وبعد هذا كله تريدني أن أثق بهؤلاء؟! هؤلاء بلا ذمة وبلا شرف سياسي، وإنما هي المصلحة الشخصية ومصلحة العصابة الحزبية وهي فوق كل شيء لديهم. يبحثون عن مصلحتهم أين توجد فيندفعون إليها، فلا أهمية لحركة ديمقراطية، ولا أهمية لحركة وطنية، اليوم مع الله وغداً مع الشيطان، اليوم ضد الحكومة وغداً معها، اليوم مع الطائفيين وغداً ضدهم. المصلحة فوق كل شيء! ألمانيا فوق الجميع!
ـــ للأسف حدث هذا حتى في زمننا مع الدينيين أيام السجن، كانوا يعتبروننا أنجاساً مثل الكلاب، ويغسلون محل مشينا وملابسنا المعلقة على حبال الغسيل المشتركة!
ـــ أحدث هذا؟ ياللعار!
ـــ لكن ألا يوجد أحد فوق هذه الانتهازية؟
ـــ لا تعرف تماماً، فما دام هؤلاء البرجوازيون الصغار، مثقفو الجمل الثورية، مسيطرون على حركة الحياة السياسية، ويضللون بها العامة، وهم يستهدفون إنتقالهم إلى صفوف البرجوازية الكبيرة، فيتلاعبون بالقواعد النائمة الساذجة، لكي ترفعهم على الأعناق الحزبية نحو الثروة والمجد، ثم يقلبون ظهر المجن لها، كما تقلب آخرون كثيرون، وقالوا أن الظروف تغيرت وعلينا بالتكتيكات المرنة، وهم يقصدون الدفاع عن مواقعهم الاجتماعية الجديدة، فلا أمان للجمهور العامل منهم، وعليه أن يستقل عنهم، وينأى بنضاله عن صفقاتهم وألاعيبهم. وأن يؤسس عمله
المستقل بعيداً عن كل هذه الجماعات.
ـــ ألاحظ كيف كنا نركض وراء هيئة الاتحاد الوطني ودفعنا الكثير من التضحيات وعاد بعضهم ليكسب الغنائم، وذاب الشهداءُ في الذكريات الجميلة، وكذلك جماعات القوميين والتحديثيين والليبراليين، تكلموا كثيراً عن النضال والتضحيات ثم رسوا على الغنائم من الدول، والقواعد خبر خير!
ـــ ذكرتني بالشهداء، الغريب أن كل حركة سياسية عربية من العصور القديمة حتى الزمن الحالي، تبكي على الشهداء، دون أية جردة حساب على ميزانية التنظيم والجماعة على مدى تاريخها الحافل بالاشتراكات والتبرعات، ولماذا لا يجري تقييم دقيق لدور الجماعة ومشكلاتها وتطوراتها، وأسباب إخفاقاتها وما تثيره من نزاعات بين القوى السياسية، وما تسببه من كوارث للقوى الوطنية؟! وتسأل أين ذهبت وثائقها وأموالها ومن أعطاها كل ذلك ولماذا هذا المسمار الدائم في الظهر وأي وأين . .؟ والتاريخ سري غامض مريب، ولا يبقى لأعضاء الجماعات سوى البكاء على الشهداء؟! فهل تتحول الأحزاب العصرية إلى مراكز للبكاء؟
ـــ هذا ضمن وحدة القوى النضالية على مستوى الماضي والحاضر، أي على مستوى الانتهازية التراثية والعصرية! بكاء وسرقة!
ـــ النضال هو من أجل الأحياء، وهؤلاء السياسيون الانتهازيون على مدى التاريخ الحديث يحرنون دوماً على مسألة قومية ما، في السابق حين ننتقد عبدالناصر أو العروبة يحرقون الأخضر واليابس، والآن انتقد هذين الرمزين فلا أحد يهتم! وصار الدفاع الآن عن الطائفيين وسيطرتهم على الحركة الوطنية هو الراية المرفوعة، فهؤلاء صاروا المقدس! فكيف تجري التحولات وتصير الشعارات والكلمات كالأحذية والجوارب العتيقة!
ـــ كما قلت ليس سوى أن العمال ينأون بأنفسهم عن هؤلاء، ويتوجهون لمصالح طبقتهم، أوسع الطبقات في الناس، وأكثرها فقراً، هنا تتوضح المسائل وتتحدد، فمن يناضل عنهم ويرفع من حياتهم المعيشية وظروف عملهم السيئة فليتقدم، هنا تخرس الإيديولوجيات والمزايدات، كذلك فإن العمال ابتعدوا عن الفوضى والعنف، وشقوا طريق العقلانية النضالية، يحدثون بها تغييرات في حياتهم وظروف عملهم، ويجمعون الطوائف والأمم في طبقتهم، وبدلاً من أن يسمحوا للسياسين والبرجوازية الصغيرة بسرقتهم والقفز فوق ظهورهم يطورون حياتهم بأنفسهم، ويعرفون إلى أين تمضي أموال النقابة وكيف تتوزع ويتفاوضون مع الشركات على زيادات وتغييرات محددة.
ـــ لكن حتى في هذا فإن القوى السياسية اليمينية وأنصارها قادرون على التلاعب بكل شيء وتمييع القضايا الوطنية التوحيدية وتمزيق صفوف الشعب، فلديهم حجج وتلاعبات وحيل يصنعونها بكل طول نفس وذكاء، فلا تظن إن القضية هينة.
ـــ على العمال أن يعرفوا ذلك، وعلى القواعد الشعبية أن تبصر، وتحدد مصالحها الطبقية وتناضل من أجلها، فلن يعطيها أحدٌ شيئاً، وعليها أن تعتمد على أدمغتها الواعية المخلصة وساعدها، عبر النضال القانوني وتكوين وحدتها، ولا تلتفت لألاعيب السياسيين الانتهازيين حتى لا نصير كلنا لصوصا!
انتهازيةٌ نموذجيةٌ
منذ أن أخطأ بعضٌ من أفراد الجيل الوطني القديم في التحالف مع الطائفيين، نظراً لهشاشة جذورهم الفكرية السياسية العلمانية الوطنية، والأعشاب الضارة تتالى من هذا المنبت.
قام الجيل بتضحياته ومغامراته وكان من الضروري نقده، لكن الحالة النموذجية الانتهازية رغم تكرارها لأهمية العقلانية والهدوء التحليلي وبعد النظر تروح تصرخ هائجة وتحيل الموقف وتشريح الجيل القديم لحالةِ تشنجٍ شخصية بدلاً من تطبيق تلك المفردات الكبيرة في الموضوعية والعلمية لكون القائل الناقد لا يعجبها ولا يقترب من مستنقعها وانتهازيها.
ويمكن أن يستفيد بعض المتعلمين من خلفياتهم السابقة، ويتلاعبوا أكثر بقضايا النضال بدلاً من تجاوز الجيل القديم الذي لم تتح له فرص الدراسة الأكاديمية.
خلطهم بين العمل السياسي والدين يغدو تلاعباً، فهم من المتعبدين ومن الانتهازيين. فأي جهة تجلب مصلحة ذاتية يمكن تسويقها. من حقك أن تصلي لكن ليس من حقك أن تلغي تاريخ التيار الوطني في العلمانية وفصل الدين عن السياسة!
حين يغدو الصراع السياسي الطائفي حالة اشتباك عامة يجري تصويرة كثورة وجر الوطنيين إليه، وحين يفشل يتبدل القناع، وتـُفضل المصلحة الخاصة. ولا تـُنقد هذه الأخطاء وتـُحلل بل تـُترك للاستفادة من غموضها!
حتى كوارث الشعب العارمة لا تنجو من الفلتر المصلحي الذي يقضم بعض خيراتها رغم الضحايا والكوارث!
كتاباتٌ هزيلة تستفيد من أي موقع، ويهمها التراكم المالي لا النقدي، لا تقوم بتجذير أي تحليل، وتحاول التقليل من شأن الكتابات الوطنية التقدمية وتخريب حتى أسماء أصحابها والتصغير من نتاجاتهم والتعتيم على وجودهم بأشكال صبيانية.
هذا الحقد نتاج تضخم ذاتي وإعطاء هذه الذات الهزيلة فكرياً مقاماً رفيعاً، فهي يجب أن تكون القائد الأول والزعيم المعترف به رغم الهزال الفكري والتلاعب السياسي وغياب النتاج الموضوعي الدارس للبنى الاجتماعية والصراعات الطبقية.
تخريب التيار هو جزء من المصلحة الذاتية فكلما كثر العميان المتخبطون في الليل السياسي كلما وجدت هذه الذات فرصاً للتلاعب بمصير الوطن والناس.
هي جزء من هذا الخراب الذي أمتد عقوداً وهو خريف اليسار حيث لا جدل عميق ولا شخصيات تؤصل الماضي وتصعد بإنجازاته، فهي مشغولة بمنافعها واستغلالها للماضي والحاضر، أو هي جامدة لا تقرأ وتدرس.

أضف تعليق