تتشكلُ الدياناتُ القديمةِ على أساسِ القبلية ونموها، التي تبعد عنا الآلاف من السنين، ولكن لا تزالُ مستمرةً فينا، ولهذا فإن صورَ هذه الألوهياتِ المؤَّسسةِ للدياناتِ تتبدلُ بين لحظاتٍ مجردةٍ إلى لحظاتٍ ملموسة تندمجُ في التواريخ وتضاريس البلدان والشعوب. (أنا يهوه. تراءيتُ لإبراهيمَ وإسحاقَ ويعقوبَ إلهاً قديراً. وأما اسمي يهوه فما أعلمتهم به. وعاهدتهم على أن أعطيهم أرضَ كنعان، التي تغربوا فيها)، (الخروج 6:6-4). إن تبدلَ الأسماء هو جزءٌ من تطورِ القبيلة، هو إنعكاسٌ لأطوار الترحل والبحث في زمن ما قبل الحضارة، ثم يأتي دخولها في الحضارة، وتأثرها ببعضِ مرتكزاتها، فتتوجه القبيلةُ للسياسةِ، وتصبحُ القبيلةَ – الدولةَ، وهي إذ تمارسُ ضَبطاً على شعبها الداخلي، ولا نعرفُ حتى الآن أشكاله، تواجهُ عنفاً خارجياً من قبل الدولةِ المصرية، التي تتوجسُ من كثافةِ تجمعِ هذه القبائلِ اليهودية العاملة في أرضِها التي بلغت أكثر من نصفِ مليون إنسان. الرسالةُ الدينيةُ وصورُ الإلهِ المُنتَّجةِ والقيادة الدينية في هذا الظرف الصراعي، كلها تعبيرٌ عن نموِّ القبائل اليهوديةِ وتضخم السلطة فيها، أي إن الانقسام والصراع والانشقاق مراحل لذلك التطور السياسي الكامن، ولهذا فإن الصورَ الألوهيةَ تعبيرٌ عن هذا التبلور للسلطةِ السياسية المتصاعدة. إن مرحلةَ الخروجِ تُظهرُ تجريبيةً قبلية دينية سياسية لم تتبلور طويلاً في أسس الحضارة ولا في نص، ولا في عقلية متبلورة بل تعيشُ ترحالية مضنية، ولكن الهدف السياسي موجود وساخن: (فاعمل بما أنا آمركَ بهِ اليوم. ها أنا أطردُ من أمامكم الأموريين والكنعانيين والحثيين والفرزيين والحِويين واليبوسيين. لا تعاهدوا سكانَ الأرضِ التي أنتم سائرون إليها، لئلا يكون ذلك شركاً لكم، بل اهدموا مذابحَهم وحطموا أصنامَهم، واقطعوا غاباتهم المقدسة لآلهتهم. لا تسجدوا لإلهٍ آخر لأني أنا يهوه إلهٌ غيور. لا تعاهدوا سكانَ تلك الأرض لئلا يدعوكم حين يعبدون آلهتهم ويذبحون لهم فتأكلون من ذبائحهم.(الخروج 34: 11 – 15). تقومُ أولوياتُ سلطةِ القبيلةِ – الدولةِ على العنف، عبر إزاحة الأقوام الأخرى، وعدم الذوبان في تقاليدِها الدينية والاجتماعية، وعبر هدم مؤسساتها، أي بكلمةٍ واحدة سحق الآخر المختلف، وإذا بقي حياً حراً فيجب من وجهة نظر هذه السلطة عدم التعايش معه. هناك مسافة كبرى بين القبيلةِ المنتجةِ للعنفِ والزاحفة نحو إقامةِ سلطة على أرض وبين تحققها، فلاب د من فترة قبل السلطة وتتكرسُ فيها نظرتها، وهي رؤيةٌ عامةٌ للشعوب القبلية والأمم، ومن ها فصورُ الإلهِ سوف تصاب بالتعديلات المستمرة لكي تلائم نمو مضامينها الاجتماعية من جهة، وإختلافها عن الشعوب الأخرى من جهة ثانية. فعلى حسب تقاليد القبائل اليهودية الوثنية، والتي لم تستطعْ العيش الحضاري في مصر لأسبابِ تخلفِ هذه القبائل، فإنها تواصل عبادة أربابها الوثنية القديمة، لكن المرويات اليهوديةَ الرسمية لا تخبرنُا بحالةِ هذه القبائل العبادية الحقيقية، إنها تقدمُ لنا هذه القبائلَ بصورةٍ تجريديةٍ مقدسة، نورانية، رغم بعض الاعترافات الوامضة، التي هي أشبه بفلتاتِ اللسان لكن المعبرة عما هو متوارٍ حقيقي في تاريخها السابق. إن المرويات القصصية الشعرية اليهودية تقدمُ لنا البطلَ الرمزي هذا، والسماءُ تشاركهُ في صنعِ التاريخ، وتآزرهُ ضد أعدائه، مثل أي بطلٍ محظوظ ديني أو أسطوري، لكن هذه المؤازرة تتم بأدواتِ الوعي السحرية، ومستويات تطوره في النقل وكسب الغذاء والسلاح ورعي الحيوان. ولكن الواقعَ الموضوعيَّ يختلفُ عن ما يصورهُ البطلُ عن نفسه، أو ما كتبهُ آخرون بعد أزمنةٍ بعيدة، وهم يكيفون تلك التواريخَ لزمنِهم، وينزعون منها أشياءَ كثيرةً هي خارج سياق التوحيد الديني الذي صاغوهُ تَميزاً سياسياً عن غيرهم، لتظلَّ السلطةُ فيهم، ولكي لا يذوبون في الشعوبِ الأخرى، فتذوبُ دولتُهم القبليةُ التي أسسوها، وهو ما ستفعلهُ الشعوبُ الأخرى كذلك وهي تتأثرُ بهِم وتصارعهم، وتطورُ تجربتَها السياسيةَ الخاصة وتشكل دولها. من هنا شكلت القبائل اليهودية رمزية مقدسة نقية لتاريخها السابق، حيث الآباء يصارعون الحياة الوثنية ويختارون طريقاً آخر، ومن هنا يتم تصويرهم بشكل فردي رومانسي في تلك البيئة الصحراوية القبلية المتخلفة. وهو أمرٌ مستحيل ومن هنا فلا يمكن أن تكون القبائل اليهودية في مصر غير وثنية، خاصة إن البيئة نفسها تعتمد على تعدد الآلهة وصورها وكثرة المعبودات. ومن هنا فإن الأسماء المقدسة السابقة تلك تعبير عن هذا التاريخ المتواري، وعن القبائل والجماعات المترحلة والتي لم تكتسبْ تاريخَ عنف سياسي كبير مدون خاصةً، وحين ظهرتْ الكلمةُ المؤسسةُ:(إسرائيل) ظهر مصطلح الصراع العنفي هذا، فالإسم هنا هو عن الإله والإنسان في حالة الصراع العنيف. إن التجربةَ اليهوديةَ أعطتنا مواداً واضحةً مكتوبة لكيفيةِ التشكل والنمو للبناء القامع العنيف، ثم للانهيار الداخلي الذي سيكون من فعل غزاة آخرين لليهود فيما بعد. وقد بينتْ التجربةُ كيف أن سياسةَ القبائل الساعية للسيطرةِ على مناطق قبائل وشعوب أخرى تعتمد على القوة الدموية، وهو عنفٌ تصورهُ بشكلٍ ديني مقدس، كما تُظهرهُ صورُ الإلهِ المؤسسِ لمثل هذه السياسات، فتلك الصورة الألوهية الراهنة وقتذاك هي المشكلة للعنف، لا أن البشرَ وهم الكهنة والأمراء الكبار هم الذين يصيغونها في لحظة سياسية صعودية لمشروعهم السياسي. إن الأديانَ القبليةَ تقومُ في المشرق على العنف لأنها تطرحُ التوسعَ وتشكيل دول فاتحة، فيما أن الأديانَ المدنيةَ تقومُ على خلاف ذلك، عبر الدعوة والحوار. اليهوديةُ شكلٌ مجسدٌ لذلك، ولهذا حالما غدتْ القبائلُ اليهودية قوةً عدديةً كبيرةً وهي تنزحُ من مصر مرعبةً المصريين من تناميها هذا، توجهتْ نحو مناطق الفراغ السياسي، لكنه لم توجدْ مناطقُ فراغٍ، لأن الأرضَ ممتلئةٌ بالشعوب: (اسمعْ يا شعب إسرائيل. أنتَ اليوم تعبرُ نهرَ الأردن لتدخل وترث شعوباً أكثر وأعظم منك.. فأعلمْ اليوم أن يهوه إلهك يعبرُ أمامك كنارٍ آكلة. هو يدمرُهم ويخضعُهم أمامك، فتطردهم وتبيدهم سريعاً كما علمك يهوه)،(التثنية 9: 1 – 6). من المؤكد إن هذه الصياغات العنيفة هي صياغاتٌ تاليةٌ عن التجربةِ القبلية اليهودية التوسعية، والتي تمتْ بذات الأساليب المروعة، وهي أساليبٌ كانت منتشرةً بين الدول والقبائل في الحروب في ذلك الزمان ولم يفعل اليهود سوى كتابتها وتسجيلها على أنفسهم، لكن أن تكون هي صياغاتٌ مقدسةٌ مؤبدةٌ عند المؤمنين بها حتى يومنا هذا، فهي التي تمثلُ مجموعةً من الإشكالياتِ الدينية والتاريخية. لقد تمت فعلاً عمليات الحرق للمدن والإعدامات الواسعة للقبائل والرجال والنساء ونصوص التوراة تعطينا تفاصيل دقيقة عليها، ولكننا نقول بأن الصياغات الأدبية تمت في مراحل تالية ورغم إخضاعِها للتأنقِ في الكتابةِ لكن الحوداثَ الرهيبةَ ظلتْ محفورةً بين سطورِها مؤكدةً إياها حتى وهي مكتوبة بإسم إله. إن الكهنةَ اليهودَ في مرحلةِ الأسرِ البابلي أو بعد ذلك يكتبون تفاصيلَ العنف، خاصةً في المراحل الكتابية الأولى: (فنفخَ الكهنةُ في الأبواق، فهتف الشعبُ عند سماعِ صوتها هتافاً شديداً، فسقط السورُ في مكانه. فاقتحمَ الشعبُ المدينةَ، لا يلوي أحدُهم على شيءٍ واستولوا عليها. وقتلوا بحدِ السيفِ إكراماً للربِ جميعَ ما في المدينة من رجالٍ ونساءٍ وأطفال وشيوخ، حتى البقر والغنم والحمير)،(يشوع 6: 20 -21). الكهنةُ والشعب المخدر بالشعارات الدينية، علاقةٌ تاريخية قديمة بين منتجي النصوص والممسوسين بها، وإستخدام الموسيقى وأدوات التأثير النفسي الحربي والشعارات والشعائر، كلها بغرضِ القيام بالعمليات الحربية الإبادية للخصم، لتنمو العملية السياسية وهي تحرقُ الأعداء. تسبق العملياتَ الحربيةَ الجوانبُ العباديةُ، فهي المقدماتُ الضروريةُ للتخديرِ والتمكنِ من تحويل البشر من كائناتٍ مسالمة إلى كائنات وحشية، ولهذا فإن كلَ جماعةٍ تصنعُ أدواتها العبادية المميزة، والجماعةُ اليهوديةُ أثناء الخروج من مصر إحتاجتْ لسنوات عديدة لإحداثِ عملياتِ الغسل للعبادات السابقة وإحلال العبادات الجديدة، وجعلها تحوطُ بالبشر في كلِ ناحية، غير قادرين على الإفلات من جزئياتها الكثيرة في الصلواتِ والأحكام والفرائض الإنسانية والطقوس، بحيث تنشىء العقيدةُ سياجاً ملتفاً حول الكائن البشري، توجههُ نحو الخضوع للكهنةِ ورجال الدين والأمراء العاملين لخدمةِ أهداف سياسية معينة. وأخذت العقيدةُ اليهودية المصاغةُ في فترة الخروج مناخَ الزمن العبودي المطلق، ويتجلى ذلك في صورة الإله المهيمن الكلي في هذا الزمن، الذي هو سيفٌ وبرقٌ وصواعق من السماء، هو روح القبيلة التي فقدت قدراتها العسكرية وتمت عسكرتها، وخلق الأناشيد الحربية فيها، ومناخُ العبودية المطلقة جاء من الحكومات السائدة وقتذاك، حكومات الفاتحين الشرسين وإبادة الخصم وتحويل الشعوب إلى ارقاء. ومن هنا عملت المسيحيةُ على كسرِ إيقاعِ هذا العنف الوحشي، وجاءت الأناجيلُ متفرقةً متعددةً مختلفة، لتعارض الغزو والحروب والعبودية المطلقة فتؤنسن السياسة، لكن مسارها التاريخي قاد إلى هيمنة الإمبراطورية الرومانية عليها، ثم دُمجَ العهدُ القديم(التوراة وكتبها) بالعهدِ الجديد وهو الأناجيلُ المُعترفُ بها من قبلِ كنيسة روما. فبقيتْ الأقسامُ العسكريةُ اليهودية المفعمةُ بأجواءِ المذابح والعنف الوحشي في الكتاب المقدس المشترك، وغدت تلك الأقسامُ مادةً ثقافيةً مبجلةً لدى الملايين من المسيحيين خاصة وعلى مر العصور، لأن اليهود يقدسونها من باب أولى، وهو أمرٌ شكلَ الثقافةَ الاستعمارية المشتركة فيما بعد، وغذا العنف ضد الشعوب في العالم الثالث. أفــــــــــــــــــق عبـــــــدالله خلــــــــيفة
قال ابن خلدون عن العرب إنهم قوم غير محبين للحضارة، فكلما أسرعوا إلى مكان أسرع الخراب إليه، وحين فتحوا البلدان حولوا جدران القصور إلى أثافٍ توضع تحت القدور للطبخ وألواحها إلى خشب للنار. هذا الفهم هو مطلق ولكن لو كان ابن خلدون قد قال إن هذا لا ينطبق على كل العرب بل على الأعراب، على (الصحراويين) لكان ذلك أصوب من هذا التعميم. وقد قال الشاعر الجاهلي امرؤ القيس (ترى بعرَ الأرامِ في عرصاتهِا وقيعانها كأنه حبُ فلفل)، فشبه البعر بالفلفل، ورفع الجماد والبقايا إلى ثمار زرع. وتجد ان البلدان التي كانت عامرة بالنخيل والشجر والينابيع تتحول بعد سنين أو قرون إلى صحارى من تحكمهم إلى فلوات، كأن الصحراويين يستدرجونها لطبيعتهم الاجتماعية. المظاهر العابرة من قصور وأسواق ومبانٍ عامرة تصير بعد مدة إلى خرائب، فهم يحملون طبيعتهم الصحراوية أينما يولوا في أقطار الأرض، وكان النداء الرسولي الذي حفظوه وما استوعبوه والقائل إنه حتى لو جاء يوم القيامة وبيد أحد غصن لابد أن يكمل عمله ويزرعه، والتوجيه الآخر بأن الأرض الخلاء، الصحراء، ملكٌ لمن يزرعها، وليست أراضي مسيجة وأعطيات تـُعطى. وفي العصور الوسطى وفي المشاعيات الشعبية الإسلامية كثـُر زرع الأرض الصحراوية، وكثرت القرى حتى صارت بالآلاف، والمؤرخون لا يصدقون ذلك ويعتبرونه من الخيال العامي. وأيضاً هناك تلك الوصايا الجليلة بضرورة أن يتمدن الأعراب ويكفوا عن العودة للبوادي والصحارى، ولكن كانت الرحلة عكسية فهم يذهبون لبلدان متطورة قليلاً ويجعلونها مثلهم. يحمل الصحراويون بضاعتهم الاجتماعية وهي الأسرة الكبيرة والأولاد الكثيرون، وكراهية العمل اليدوي ووضع النساء في مؤخرة الخيام، وحفظ النصوص وعدم استخدام العقل والحكم المطلق والعراك المستمر على السلطة أساس إنتاج الإبل والغنم والثروة. المدن التي يؤسسونها قاحلة، كأنها خيام من حجارة وطابوق، لا يفكرون في المياه إلا لشربهم ولدوابهم، والشوارع خالية من مظاهر الجمال، ويفضلون الأشجار البلاستيكية، أو يقلعونها ببساطة ويدفنون بها الشواطئ، فيضاف قتل الشجر مع قتل البحر، ومن أجل أبنية طابوقية كريهة أخرى. فظهر استيراد الشجر والنباتات الخارجية التي لا تعيش في المناطق الصحرواية. تظهر بوادر الكوارث الصحراوية مع التوسع اللاعقلاني في الأبنية على حساب الطبيعة، ومن أجل تراكم النقود وتفريغ الإنسان، محاولة تجميع البشر في بقع ضيقة محاصرة هو من أجل بضعة فلوس من تقليص مصاريف الكهرباء والمياه، ولهذا فإن الكهرباء والمياه هما أول من يشوط في هذه السياسة (الذكية) المقتصدة. في المدن الكبيرة تقاوم الأنهار والزراعة والثقافة العلمية كالقاهرة الزحف الصحراوي، بصعوبة شديدة، تبدو بعض الأشجار كغابات صغيرة في الشوارع، وتحتضن البنايات كالجدائل، وتصحو العصافير فيها في الظهيرة، ونهر النيل يغذي الجميع، والإرث الحضاري القديم والخصب النهري يقاومان رغم كل شيء، لكن التلوث والسياسة النفعية اليومية وتكوين المدن العربية بشكلٍ صحراوي أضعفت القاهرة. إذا كانت المدن العربية الإسلامية قد تكونت بشكل صحراوي، أي عبر قرارات الفاتحين العرب لتكون المدينة بقرب الصحراء، فإذا هُزمت القوات رجعت إلى البادية كظهير عسكري لا يُهزم، لكن من جاءوا بعدهم حافظوا على الشكل الانتقالي العابر للمدن العربية، مثلما جعلوا الأشياء الانتقالية والملحقات في الدين ومضافاتها السياسية الكسروية والرومانية بديلاً عن الجوهر الاجتماعي النضالي في الدين. في تجربة بني عبدالقيس القبيلة الكبرى التي استوطنت إقليم البحرين نجد الصحراويين ينتقلون للزراعة والتحضر على مدى أجيال، ويؤسسون القرى والجزر الزراعية ذات التجربة الأخاذة وهم المحاصرون بين البحر والصحراء، غير قادرين على صنع عاصمة عربية كبرى، فالمدينة لديهم ظلت قرية. لكن كان هذا أحفل بالعطاء، لأن الحراك الاجتماعي من قبل العامة ظل متدفقاً، ومع هذا فإن البدوي حين يغدو فلاحاً، فهو يجلب عادات البدوي فيه، مثل الكسل والعنف والغزو والرغبة في الحصول على الثروة جاهزة، يعمل قليلاً ثم يترك كل شيء للقدر، والنصيب، وقد فارقوا أفكار الجزيرة العربية البدوية لبدوية فلاحية، قدسوا الأشجار لأنها العيش ثم بصقوا عليها لأن العيشَ جاء من مصدر آخر. ومع هذا فإن الزراعة لم تنهر بفعل كل هذه العوامل، بل تدمرت عبر فعل (الحداثة) الاستعمارية، عبر جلب كل المنتجات من الخارج، ومن دون رؤية القرى البحرينية – البحرانية كمدن، فتضخمت وتغيرت من دون الأسس التي قامت عليها من قبل الفاتحين العرب، فهي ليست مدناً ومع هذا أقحمَ كلَ شيء فيها. كانت القرية البحرينية هي صديقة النبع والشجرة، في ذلك الحصار الصحراوي الغباري الحار، ولكن الفاتحين الغربيين لم يفهموا سيرورة المدينة الخليجية عامة، كأنهم في مدنهم الباردة في أغلب فصول السنة، رغم أن ثمة جهوداً منهم في الاهتمام بالزرع والخضرة عموماً. القرية الخليجية محاصرة بفعل البحر والصحراء، مواردها المائية قليلة، وحين حصلت على كمية كبيرة من النقود لم يُخطط توزيعها بشكل عقلاني بل أقحمت القرية في المدينة بشكل حاد، فقامت المدينةُ المقامة بشكل اصطناعي بإزالة القرية الزراعية، وزاد الأمر حدة حين تحولت المدينة الخليجية إلى مدينة عولمية فيها كل أمم العالم واقتصادياته، ومع هذا فإن الطواقم ظلت صحراوية، وظلت تنظر للزرع والماء والبيئة الجميلة كملاحق تافهة بالمدينة العملاقة الخاوية من الحضارة العميقة. لاحظ كيف انحشرت مدننا الخليجية العربية على رؤوس البر المتغلغلة بين البحر، وهي القرى التي كانت هاربة من الصحراء والتي تحاول الإطلال على التجارة والانفتاح الخارجي مع وجود خلفية زراعية وراءها، لكن العقليات الإدارية حولتها إلى مدن (كبرى) محشورة في البحر وزادتها بضرب البيئة البحرية وترك الصحارى تزحف على المدن من خارجها وداخلها.
لا يكون الإنتاج الروحي إلا من أجل الناس، وبؤرتهم وقلبهم أصحاب العمل والإنتاج، قوى المعاناة والعطاء. الفئات المنتجة للثقافة هي فئات وسيطة، لديها بعض الغنى المادي وبعض الغنى الثقافي، وتنمو حسب توجهها للناس، وتضحيتها بغناها الشخصي، لأجل أن تزدهر السعادة والغنى عند الأكثرية المنتجة. وحتى حين كان المثقف ساحراً في العصور البدائية قبل التاريخ كان يشتغلُ من أجل الصيادين، فيرقص ويغني ويقص من أجل أن يزداد الصيد ويتكاثر الإنتاج ويعم الفرح. وحين دبت الخلافاتُ بين الناس، وصار العبيدُ والأحرار، والفقراء والأغنياء، ظل قانون الإنتاج الثقافي هو نفسه. هل ينتمي المنتج الثقافي للمنتجين، والمعذبَّين، وللأغلبية المنتجة؟ لكن كان أغلبية المنتجين الثقافيين عبيداً في الروح، يوجهون إنتاجهم لمصلحة الأقلية، وبقي الإنتاج الذي انتمى للناس، وذاب إنتاج النفاق والاستعراض. لقد ظل مكتوباً كذكرى مؤسفة على هدر بعض الناس طاقاتهم من أجل النقود، لا من أجل سموهم الروحي. أنظرْ يا من غيبت نفسك في طوفان الأشياء كيف أن كلمات التوراة والأنجيل جسدت معاناة أنبياء هربوا من الإستغلال وعسف الدول إلى الصحارى كي ينشئوا دولاً حرة، فتسامت كلماتهم وتواريخهم وتوحدوا مع السعادة العميقة والصلبان والزنزانات. ولعلك لم تقرأ جيداً القرآن وهو كلماتٌ عن نبي رفض أن يخدم الملأ الاستغلالي وفضلَّ أن يكون مع العبيد والفقراء وغيّرَ التاريخ. لعلكَ يا منْ غيبتَ نفسك وراء الأشياء تظن إن حمايتك من قبل أصحاب النفوذ سوف تعلي كلماتك الباهتة، أو لأنك مررت بتجربة سجن عاصفة وألم كبيرة سوف يحميك هذا الجبل الطيب من طوفان زحفك نحو المعدن الأصفر، فالناس تعرف استمرار مقاومتك لا تاريخك ذلك وتخليك عن أصلك الطيب. ومهما جئتَ بأصولٍ حاكمةٍ أو أسرةٍ كريمة أو إنتماء لحزبٍ مناضل قدم الشهداءَ الكثيرين، ومهما كان أقرباؤك وأئمتك من جهابذة في الدين والتاريخ، فإن مقياسك هو شخصك ومدى إنتاجك المضيء ونقدك للأشياء السيئة والظاهرات المخربة للإنتاج وحقوق الأغلبية من العاملين. لا تقل أسرتي وحزبي وأئمتي وقادتي، بل قل ما هو عملي وموقفي الناقد ودفاعي عن شعبي وكفاحي ضد الأخطاء. والأديب ليست كلماته بمعزل عن قانون الإنتاج المطلق هذا، الذي يتساوى فيه الأنبياء العظام والشعراء الصعاليك، وهو ميزان الحق، فيظن أنه له فترة يجاهد ويتعذب لكي ينير ثم تأتي له فترة خاصة يتكاسل ويبحث عن المناصب ويغدو رئيس جريدة النفاق. ميزانك هو كلمتك، مدى تحول قصصك وأشعارك ومسرحياتك ونقدك إلى كشافات تفضح مستنقعات الفساد، لا تقلْ إنني أديب ناشىء أبحث عن سبل التعبير والعيارة، ليشتد عودك وتنضم إلى الحرامية، بل أغمسْ مدادك في معاناة البشر ولا تستجدي الشهرة والمال. لكن الكثيرين اتخذوا الكلمات مطايا، وهدايا، وضحايا، وقادة الفكر وعباقرة الكلمة غدوا مثالاً سيئاً للنشء، وهذا يحدث كثيراً في التاريخ، عندما تقبضُ الطبقة المسيطرة على الكثير من المال فتستطيع أن ترشو بكثرة، لكن ذلك مؤقت، لأن وفرة المال على هذا النحو لا تدوم، بل تدوم حين تستمع هذه الطبقة للنقاد، وترهفُ جميعُ آذانِها للضربات الكلامية والأدبية والعلمية التي توجه لتبذيرها وفسادها وحينئذ تطور سيطرتها وإنتاجها المشرف على الأفلاس بفضل جوقات النفاق والبذخ. المال اليوم عندك وغداً عند غيرك ، فتذهب للاستلاف، فلماذا تبيع ماء وجهك وكنت عزيزاً، ولا تحفظ كرامتك وهي من كرامة الأمة والناس؟ لا تقل أصلي وفصلي وحزبي وجماعتي، بل قل هي كلمة الحق أوجهها ضد كل مخطئ ومستغل ومبذر، أرفع بها من يسمو إلى المعالي، وأعصف من خلالها بكل من أهدر ثروة الأمة ونشر الأرهاب وغزا الأخوة والجيران ووسع الاستبداد. كلمتي هي مع الحق والحقيقة، لا مع الخزائن. ليست كلمتي مرهونة بمديح النقاد وأن يرضى عني رئيس الجامعة والكلية، فأدبج (الدراسات والأبحاث) كما يشتهي رئيسُ القسم المريض، فأعلي من يرضى عنهم، وأخسفُ الأرضَ بمن يكرههم لكي أحصل على الوظائف والمال، فأي علم هذا الذي يكون ذاتياً وجائراً وغير منصف؟ وكيف تنشأ الحقيقة بين جماعات القول الواحد والصوت الواحد، وجماعات نحن مع الزعيم أينما توجه وكيفما قال؟ وهل تـُدار الأوطان والأحزاب بقول الفرد؟ يتباين الإنتاج الثقافي في كل هذه الأنواع في أشكاله وتعابيره، ويتحد في مضامنيه، وفي عصوره السحيقة والمعاصرة، على بعد المسافات والأشكال والأزمان، فكلمة الحقيقة تشق طرقها بوسائل مختلفة، وهي تنمو من خلال الألم الشعبي، تنور صهر الأشكال ووحدتها وتطورها، وفي الفرح والغنى ظاهرات مقاربة حين تتصل بذلك الهم الإنساني العميق.
تقوم الأفكار الماركسية اللينينية على التجميع المركب بين فلسفتين متضادتين . إن الماركسية فلسفة ديمقراطية على المستوى الفلسفي وعلى المستوى الاجتماعي ، فماركس قام بدراسة قوانين البنية الاجتماعية الرأسمالية وتوصل عبر بحوث مطولة إلى نتائج أوربية هامة ، وحين جسد نتائج هذه الدراسة في العمل السياسي أشار إلى ضرورة العمل النضالي من داخل قوانين هذه البنية واعتبر الاشتراكية تتويجاً لذروة التطور النقني والعلمي والأخلاقي والكفاحي داخل هذه المنظومة . فيما بعد قام شموليو رأسمالية الدولة في روسيا ، القوميون الروسيون ، كما سيظهرون في المجرى التاريخي لنمو رأسمالية الدولة الشمولية الروسية ، بالجمع بين هذه الماركسية الأوربية مع استبداد الدولة المركزية ، وإنتاج خليط نظري متناقض اسمه ( الماركسية – اللينينية ) . هناك جانب علمي في الماركسية الأولى هو اكتشاف القوانين والذي عرف باسم المادية الجدلية ، وكذلك فإن المادية التاريخية كانت علماً وهي تقرأ التجربة الأوربية الغربية ، بضخامة المواد والمعلومات التي استندت إليها كما هو واضح من كتاب رأس المال . إن هذه المادية التاريخية هي علم بتوصلها إلى اكتشاف قوانين التشكيلات التاريخية ، لكن هذه القوانين لم تكن مطبقة على تاريخ الشرق بخصوصيته ، ومن هنا كان نقل التاريخ الأوربي إلى الدول الشرقية ، بتباين مستواها لم يكن سوى نقل ميكانيكي وسياسي غائي للمادية التاريخية . إن القوانين الأعم للمادية التاريخية المتعلقة بالتشكيلات : المشاعية ، والعبودية، والإقطاع ، والرأسمالية ، والاشتراكية ، لم تؤخذ عند مثقفي الأمم غير الأوربية خاصةً كبديهية مُلزمة ، وتم رفضها لدى العديد من الباحثين . أي أن نمو الأمم تاريخياً لم يتم التأكد العلمي الكامل منه ، وهو يخضع للبحوث المستمرة . ومن هنا فإن هذه التشكيلات رُئيت من خلال التجربة الأوربية الغربية ، التي توفرت لديها أدوات وقوى البحث الكبرى والديمقراطية الثقافية التي أمكن خلالها الوصول إلى قراءات موضوعية لا يكرسها جهازُ سلطةٍ مستبد . أي أن الماركسية كنظرية أوربية غربية تشكلت على أرض بحثية ديمقراطية ، أما اللينينية فأمرُها يختلف ، ومع هذا فإن الماركسية يتجلى جانب القصور فيها في طرحها نفسها كنظرية عالمية ، بدون أن تــُرفد بتجارب الأمم غير الأوربية ، وبهذا فإن السيادة الأوربية – الأمريكية على العالم يمكن أن تغدو الماركسية جزءً منها ، وبهذا يصبح اختزال تجارب ومستويات الشعوب غير الأوربية ممكناً ، بفضل هذا التفوق . إن جرَ الماركسية من إطارها القاري إلى التداول العالمي ، سيعضدهُ ولا شك غيابُ الجامعات العلمية التي تدرسُ الماركسيةَ وتفحصها وتنقدها ، في العالم الثالث ، بحكم اعتبار الماركسية لدى هؤلاء نظرية انقلابية مدمرة مع ارتباطها بالدولة الروسية فيما بعد، وكذلك لتطورات الماركسيات وتناسخاتها في العالم الثالث التي اتحدت مع الأبنية الشمولية . إن جذر القضية يقع في أزمة روسيا ودول العالم الثالث في الانتقال السلس إلى الرأسمالية ، ومن هنا لعبت ( اللينينية ) باعتبارها الحلقة الأولى في نشر وأدلجة الماركسية على المدى العالمي . وكان الجمع بين النظرة الماركسية كنتاج أوربي ديمقراطي شعبي ، وبين الفكر المعارض الروسي ، قد كرسته ثقافة روسيا المتخلفة ، فعبر هذا المحيط الشمولي تم تداول الماركسية وتصوير خيانة أوربا الغربية لها ، وأمانة روسيا في احتضانها . فروسيا المتخلفة التي تملك بحراً من الفلاحين هي الجديرة بتطبيق النظرية العمالية الحديثة ، في حين أن أوربا التي تملك ذلك البحر العمالي والعلوم لم ترتفع إلى مستوى تطبيق الماركسية وإنجاز الاشتراكية . وفي سبيل هذا الزعم ابتكر العقل الشمولي الحكومي الروسي مجموعة من الخرافات ( العلمية ) لتبرير هذه القفزة غير العقلانية ولحرق المراحل وقيادة العالم الثالث في هذا السبيل الصعب المكلف . كان من أولى الخرافات ( العلمية ) التي ابتكرها العقل الشمولي الروسي هي [ نظرية الحلقة الأضعف في مسار التطور الرأسمالي ] . فقد قام هنا بتعميم المسار الروسي باعتباره مساراً رأسمالياً ، في حين أن هذا الوعي الروسي نفسه يضع روسيا في خانة الدول الإقطاعية ، وبين المسارين تضيع روسيا . فأوربا الغربية حين انتقلت إلى الرأسمالية من الإقطاع احتاجت إلى عشرة قرون ، فبدءً من تفكك الإقطاع وانكسار سطوة البابوية وظهور البروتستانتية ، ثم مجيء عصر النهضة ، ثم عصر الكشوفات الجغرافية في القرنين الخامس عشر والسادس عشر ثم عصر الثورة الصناعية في القرنين السابع عشر والثامن عشر ، فعصر الثورات الرأسمالية والاستعمار في القرنين التاسع عشر والعشرين الخ . . أما روسيا فكانت في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر متحجرة عند الإقطاعو العبودية وأخذت في القرن العشرين تتململ اجتماعياً لما يمكن أن يُسمى عصر نهضة روسي ، وبهذا فإن ثمة بوناً شاسعاً بين إمكانيات أوربا الغربية وروسيا ، وإذا أمكن لأوربا أن تنتجَ الماركسية ضمن نظريات علمية عدة ، أمكن لروسيا أن تحيل نظرية علمية كالماركسية إلى إيديولوجيا ، بمعنى أن تقوم أجهزةُ الدولة بتبني هذه النظرية العلمية وأن تخنقها . فكان على روسيا لتستوعب الماركسية أو أية نظرة علمية أخرى أن تتشرب بيئتها الاجتماعية والثقافية الكثير من النظريات والآراء التي تحفرُ في البناء الاجتماعي وتخرجه من التكلس الأبوي والنظام الإقطاعي والأمية الخ . . بمعنى إن النظريات العلمية في أوربا الغربية هي تتويجٌ طويلٌ لعصر نهضة أبعد النظرات الدينية الشمولية وحفر تعددية دينية ديمقراطية ، وهو أمر على سبيل المثال لم يتحقق حتى اليوم في روسيا ، وتتكرس المسيحية الأرثوذكسية كفكر مسيحي مُغلق ، تتماهى فيه الألوهية وتقديس التماثيل والصور وحكم الكنيسة الهائل . وهو ما تحقق في الماركسية – اللينينية على مستوى تحويل الزعماء إلى أيقونات وأصنام للهيمنة على الشعب المقدس لهم . وعلى مستوى الديمقراطية فلم يجرب الشعب الروسي الانتخابات كشكل أولي من العملية الديمقراطية ، فهو من الشعوب المتخلفة المتكتلة وراء القيصر والكنيسة ، وكان يحتاج إلى زمن موضوعي لكي يخرج من حالةِ القطيع التاريخي . لم تقم هذه الرؤية السياسية النخبوية بالحفر في هذه الكتل الشعبية المتخلفة ، وهي الإشكالية الكبرى التي تواجهها نظم العالم الثالث كذلك ، وسيتم الإبقاء على أبويتها الاجتماعية وتدني مكانة المرأة فيها ، وسيطرة المؤسسات الفوقية وضعف وجود الفردية المبدعة الخ . . ، أي على كل الخصائص السلبية التي أنتجتها أنظمة ما قبل الرأسمالية ، الُمجسَّدة في روحية القطيع والجمود والحفظ النصوصي . لم يحدث هذا الحفر النهضوي والديمقراطي وتفجر الفردية وتفكك الكتل الأبوية الإقطاعية ، وانغمار البلد بتعددية فكرية وفلسفية واشتراك الجمهور في هذه الاتجاهات والانقلابات الفكرية العميقة ، ولهذا فإن المؤسسات السياسية القيصرية القديمة أُستبدلت بسهولة بمؤسسات جديدة ، فحدث تغير في الشكل ولم يتغير المضمون . إن المؤسسات السوفيتية لم تحدث فيها الانتخابات الديمقراطية إلا في توصيل مندوبي الأحزاب ، وسرعان ما رُفضت التعددية الحزبية ، وهيمن طاقمٌ بيروقراطي واحد ، فتم دفن المؤسسة البرلمانية الشعبية والصحافة الحزبية ثم الحرة الخ . . أي أن البنيةَ المتحولةَ من الإقطاع إلى الرأسمالية شهدت سيطرة المؤسسات الحكومية مجدداً ، فأبقت الكتلَ الجماهيريةَ بدون الدخول في عصور النهضة والتنوير والإصلاح الديني والتغيير الديمقراطي الواسع ، وبالتالي تم الحفاظ على الطابع ( الآسيوي ) للجمهور، ولم يتأورب ، أي لم يتحدث ، ولم يُعط الفرصة ليعرف التنوع والحداثة في الأسرة وتنوع الأفكار وفعالية المؤسسات الشعبية الخ ..
اللينينية
ليس بالضرورة أن تكون الآراء عن النفس صحيحة ومطابقة للواقع الموضوعي ، فالواقع كما قال لينين أكثر تعقيداً وتركيباً ، وهذا ما ينطبق على كل قائد كبير ، وعلى كل مسيرة سياسية كبيرة ، فغالباً ما ينخدع الناس بالظاهر والمرئي ، في حين يكون للتاريخ كلمته الفصل . لكن كيف تحول لينين من قائد للثورة الاشتراكية العظمى التي وعدت بإزالة الطبقات وإذابة الدولة بأن يصير في خاتمة المطاف مؤسساً لنظام انبثقت عنه رأسمالية المافيا البشعة ؟ ! علينا أن نقرأ بشكل موضوعي مسارات التاريخ المركبة والمعقدة التي قِبل لينين بها نظرياً ورفضها عملياً . لقد انضم لينين مبكراً إلى الحركة الاشتراكية – الديمقراطية ورفض طريقة الشعبيين الفوضويين في العمل السياسي الإرهابي ، وهم الذين اعتبروا الاغتيالات وسيلة أساسية لعملهم السياسي ، وراهنوا على طبقة الفلاحين كطبقة قائدة للتحول السياسي الديمقراطي في روسيا ، حيث أن هذه الطبقة كانت هي الغالبية من السكان المنتجين ، وهم قد انبثقوا منها ، وهي طبقةٌ مفتتة إنتاجياً ، تخضع لأسلوب إنتاجي عتيق ومتخلف ، وتتراكب فوقها ظلماتُ القرون الوسطى من أمية وخرافة وفقر الخ . . فلم يكن لهذه الطبقة عبر التاريخ من نضال منظم ، إلا عبر الثورات الفجائية ، لكن العمل السياسي في القرن التاسع عشر الأوربي بدأ يخرج إلى تنظيمات جديدة . وقد أحست معظمُ الإمبراطوريات الشرقية الإقطاعية كالإمبراطورية العثمانية والروسية والصينية بضرورة الإصلاح ، وهي كلمةٌ تعني الحفاظ على أسس النظام القديم وتطعيمه بعناصر جديدة لا تلغي السابق ، ولهذا قامت الإمبراطوريةُ الروسية بمجموعة إصلاحات منذ الستينيات من القرن التاسع لتجاوز ظاهرات العبودية والتخفيف على الفلاحين الأقنان ، وإتاحة الفرص للنبلاء لكي يتحولوا إلى رأسماليين أو نبلاء حديثين كما فعلت ألمانيا ، وكانت التجربة الألمانية رهن التداول في الإمبراطوريتين التركية والروسية ، إلا أن مستوى تطور الرأسمالية في كلا الإمبراطوريتين لم يكن يسمحُ بهذه النقلة التحديثية وهذا يعود للتركيبةِ السكانية الشعبية المتخلفة ، فكان الريفُ بنمطهِ العائلي واعتماده الكلي على الزراعة المتخلفة لا يسمح بمثل هذه القفزة . وهكذا كانت روسيا أمام مهمات التطور الديمقراطي كأفق راهن مهم ، وقد أكد الحزب الاشتراكي – الديمقراطي الروسي هذا المسار ، لكن مسألة ( الاشتراكية ) هذه خضعت للتطور السياسي في أوربا الغربية ، باعتبارها قارة القيادة في الصناعة والعلوم والتجربة السياسية . لقد اعتبرت الأحزاب الاشتراكية – الديمقراطية الغربية مسألة الاشتراكية مسألة تطور تاريخي طويل ، باعتبار أن أسلوبَ الإنتاج الرأسمالي لا يمكن تجاوزه في أوربا بمستوى التطور الاقتصادي الراهن وقتذاك ، وأن الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية المتراكمة هي التي سوف توصل ممثلي الطبقات العاملة إلى الحكم من خلال الأدوات البرلمانية ، حيث سيقومون بإصلاحات ديمقراطية ويخضعون لأصوات الناخبين . لم يكن قادة الأحزاب الاشتراكية – الديمقراطية سوى مثقفين غالباً ، أي لم يكونوا عمالاً ، وكانوا من الفئات الوسطى التي تتأثر باتجاهات الطبقات السفلى والعليا ، ورسوخ رؤاها من أجل تطور الطبقات العاملة ومصالحها التاريخية مسألة تتعلقُ بمستوى هذه القيادات وأفكارها والتزامها بتلك المصالح ومدى ثقافة القوى الشعبية التي تــُصعّد تلك القيادات . فالقوى العمالية ذاتها تتأثر بمختلف تيارات الفكر والسياسة ، ويمكن أن تتغلغل بينها الانتهازية لمصالح قوى أخرى ، وهذا ممكنٌ بسبب دور الاستعمار في جلب ثروات الأمم المستعمرة ورشوة هذه القوى المختلفة ، كما أظهر لينين في تشريحهِ لهذه الظواهر . لقد كان لينين يعملُ في خضمِ الحركة الاشتراكية – الديمقراطية الروسية والأوربية عامة ، وقد استقرت هذه الحركة عموماً على فهم معنى الاشتراكية باعتبارها في العصر الراهن هي إصلاحات مختلفة في ظل النظام الرأسمالي الغربي لمصلحة تطور الطبقات العاملة ، حتى تغدو لها المشاركة السياسية الواسعة في النظام لتقوم بإصلاحات جذرية فيه . لكن الأمر لا يصل إلى الثورة والاستيلاء على الحكم بالقوة والتأميم الشامل وضرب الملكية الخاصة الخ .. وقد استقرت الحالةُ السياسية في الأحزاب الاشتراكية – الديمقراطية الأوربية ، وبما فيها الحزب الاشتراكي – الديمقراطي الروسي ، على هذا الفهم العام للتغيير ، والكلمة الشعارية المكونة من الاصطلاحين ( الاشتراكي والديمقراطي ) معاً ، كانت تشير إلى أن الاشتراكية ديمقراطية وهي تـُخلق من خلال أدوات البرلمان والانتخابات ، أي هي سياسة اشتراكية ضمن النظام الرأسمالي السائد . إن هذا المصطلح المُركب كان يثير البلبلة ، والحوارات النظرية العميقة كذلك ، فالرأسمالية الغربية ذاتها كانت تنتقلُ من مرحلة إلى مرحلة ، وعمليات إفقار الجمهور وفي العالم الثالث خاصة وإثارة الحروب العالمية وهدر الإنتاج ، كانت تجتاح العالم وتستدعي النظر في هذا الشعار ، فظهر جناحان أساسيان ، جناحٌ يميني يؤكدُ على البقاء ضمن الشعار والاكتفاء بالإصلاحات ، وكان حين يصل للحكم يتمادى في خدمة رجال المال أكثر من خدمة الناس . أما الجناح اليساري فكان لا يستطيع في ذلك الوقت الوصول للحكم ، فيطرح شعاراته ويجندُ الناسَ ويقود المظاهرات الخ . . كان العالم في العشر سنوات الأولى من القرن العشرين يمر بأزمة عامة ، فالرأسماليات الكبرى لم تتوصل إلى طريقة في اقتسام غنائم الإمبراطورية العثمانية وبقية المستعمرات وتريد ألمانياً توزيعاً جديداً لهذه المستعمرات ، يراعي التطورات الاقتصادية في البلدان الرأسمالية الكبرى ، وهذا ما جعل الأحزاب الاشتراكية – الديمقراطية متأثرة بشكل كبير بصراع الدول . وعلى درجات هذه الدول الرأسمالية الكبرى ومدى نجاحها الداخلي في استقطاب الطبقات العاملة ونقابييها ، كان يجري استقرار النظام السياسي، ومن هنا كانت إنجلترا في حالة مختلفة عن ألمانيا المضطربة المتحولة تواً إلى الرأسمالية ، في حين كانت روسيا تعاني أزمة كبرى في عملية الانتقال إلى الرأسمالية . كان لينين يعترف وليس مثل زعماء الحركة الشيوعية فيما بعد ، بالتشكيلات الخمس لتطور البشرية وهي : المشاعية البدائية ، والعبودية ، والإقطاع ، والرأسمالية ، وأخيراً الاشتراكية . ولهذا كان يحلل روسيا كمجتمع إقطاعي في طور الانتقال إلى الرأسمالية، وإن هذا الانتقال يحتاج إلى ثورة اجتماعية ديمقراطية تقوم بتغيير الأساس السياسي والاقتصادي للمجتمع . لكن هذه الآراء للتحول خضعت لنمو الدكتاتورية السياسية داخل الحركة الاشتراكية – الديمقراطية . كان لينين يصرُ على وجود حزب ( حديدي ) ، مركزي ، تخضع فيه الأقلية للأكثرية ، والقواعد للقيادات ، ويحطم التكتلات الفكرية السياسية داخله . كان هذا النمط من الحزب الدكتاتوري ليس فقط مقنعاً للنخبة في مواجهة نظام تعسفي ، بل كان كذلك يتحولُ هو نفسه إلى بناءٍ دكتاتوري مماثل لقمعية النظام . لكن الأكثر تأثيراً هو قيام الحزب الدكتاتوري بضم القوى والجماعات الُمجيشة والمنضبطة بشكل عسكري والتي سترفدُ ببشر عاميين مؤدلجين وخاضعين للزعماء . وفي مثل هذا الحزب ستكون البذرة الأولى للدكتاتورية القادمة ، التي سيظهر منها ستالين ، وسيؤكد ستالين دائماً على رفد الحزب الذي دخل فيه مثقفون لامعون ومفكرون كبار ، بالعامة ( البروليتارية ) أي بأنصاف المتعلمين والمتحمسين لكي يتم القضاء على الفكر النير في الحزب . وهكذا فإن لينين قام بمواجهة الكتل التي سُميت ( انشقاقية ) و ( انتهازية ) ورفض اطروحات التحول الديمقراطي البعيد المدى ، عبر أحزاب ذات تعددية داخلية وفكر حر ، فحدث الانشقاق في الحركة بين من يسمون بـ( البلاشفة ) و ( المناشفة ) . مع نمو الدكتاتورية داخل الحركة الاشتراكية – الديمقراطية الروسية أخذ هذا الشعار المزدوج بالانشراخ ، بين الشموليين الاشتراكيين والديمقراطيين الاشتراكيين ، وقد قوت مواقفُ الأحزاب الاشتراكية – الديمقراطية اليمينية وتفريطهم بحقوق العمال والشعوب ، من مواقف الاتجاهات الشمولية ، وقد قوى ذلك من توجه لينين لخرق موضوعة التشكيلات الخمس للبشرية ، فقد كانت أزمة الحرب العالمية الأولى ، وأزمة التحول في روسيا ، ونمو الحزب البلشفي الذي يقوده، تحول الأزمة في روسيا إلى مناخ ثوري مفتوح . إن خرق لينين لهذه الموضوعة وخروجه عن الماركسية تم تحت غطاء الماركسية ، ولهذه مواد سياسية وفكرية كثيرة ، ملخصها إنه خلط بين مرحلة الانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية ، وبين عملية الانتقال من الإقطاع إلى الرأسمالية ، فلم تكن روسيا مجتمعاً رأسمالياً لكي يجري الانتقال فيه إلى الاشتراكية ، بل كان مجتمعاً إقطاعياً يحتاج إلى تطور رأسمالي كبير ، كأمرٍ موضوعي بغض النظر عن رغبات السياسيين ، ولكن لينين وجد أن الماركسية ( الموضوعية ) أصبحت تعرقل مشروعاته السياسية التحولية السريعة . وهكذا أخذَ يفسرُ تفسيرات مختلفة النصوص المعروفة ، فبعد خرق موضوعة التشكيلات الخمس ، وطرح إمكانية الانتقال من الإقطاع مباشرة إلى الاشتراكية ، سيّح عبارات لماركس عن كومونة باريس التي تقول بضرورة وجود [دكتاتورية للبروليتياريا ] أي بضرورة تنفيذ قوانين المجتمع بالقوة ضد المتمردين عليه ، ولكن ماركس يقصد هذه الإجراءات [ الاستثنائية ] التي تقومُ في مجتمعٍ رأسمالي متطور عبر مؤسساته الشرعية والتي أصبحت الطبقات العاملة أغلبية فيها ، في حين كان لينين يضعها في خانة القفز من المجتمع الإقطاعي المتخلف إلى الاشتراكية وبدون تطور رأسمالي وبدون مؤسسات شرعية منبثقة من إرادة الملايين ! وثمة فرقٌ كبير بين إجراءات استثنائية مؤقتة تــُتخذ في ظلِ برلمانات منتخبة وبين إقامة دولة ذات مؤسسات استبدادية تتحكمُ في الطبقات المختلفة ، وبطبيعة الحال لن تكون هذه دكتاتورية العمال في دولة ديمقراطية بل دكتاتورية الأجهزة البيروقراطية العسكرية التي ستقع السلطة في قبضتها ! وهذه الفئات البيروقراطية – السياسية – العسكرية هي جنين الطبقات البرجوازية الحكومية التي ستنقض على السلطة السوفيتية بعد أن وصلت هذه السلطة إلى العجز عن أن تكون مع العمال أو مع البرجوازية . ولكن الفرق بينها وبين الطبقات البرجوازية الحاكمة في الغرب بأن الأخيرة شكلت نظامها عبر الديمقراطية ، فأمكن للعاملين أن يتقدموا فكرياً ونقابياً ، في حين رأسمالية الدولة الروسية حولت العاملين إلى جمهور مدمن ومنهار نفسياً ومُدمر اقتصادياً وكاره للسياسة ولرموز الثورة ( الاشتراكية ) ، إن لم نقل أنه تابع للمافيا ! لقد أصبحت البنيةُ الروسيةُ الاستبدادية تجرُ لينين إلى هياكلها ، وقد حدث ذلك عبر بنية الحزب الشمولية ، وبنية الوعي الشمولي ، وبالتالي فإن الأفكار الاشتراكية – الديمقراطية أخذت تــُجّير لتحولات دكتاتورية عبر مؤسسات الدولة الفوقية وعبر نقض قوانين التطور الاقتصادي الموضوعية ومن خلال الإرادة السياسية النخبوية ، التي أعطاها زخمُ الجماهيرِ الشعبية المتحمسة إمكانيةَ التحليق الخيالي بأنها تستطيع أن تقوم بالقفز فوق التشكيلات التاريخية . ولهذا يمكن رؤية الجماهير الغفيرة التي كانت تشارك في أحداث التحولات في العشرينيات ثم تنسحب تدريجياً حتى صارت في النهاية هي التي تنقض على مؤسسات الدولة السابقة . علينا هنا أن نرى أن ثمة تغيرات إيجابية كبرى فيما سُمي بـ( ثورة أكتوبر الاشتراكية العظمى ) ، ونستطيع أن نسميها ثورة روسيا البرجوازية الحكومية التي جمعت العمال والبرجوازية تحت قبضتها الإدارية . إن تلك التغيرات كانت تحول روسيا فعلاً إلى دولة رأسمالية حديثة ، كالإصلاح الزراعي الواسع ، وهو الإصلاح الذي رفضه البلاشفة حين كانوا في المعارضة ، وتبنوا برنامج حزب الفلاحين الشعبيين ، وهو إصلاح ديمقراطي اجتماعي ، ضخم ، جعل حزب البلاشفة ذا جماهيرية كبيرة ، فالتف الناس حول النظام الاجتماعي الذي قدم لهم الأراضي ، وواجهوا جيوش التدخل الأجنبية والقوى الاجتماعية التي أيدتهم . وهنا لم يتواجد حزب روسي مؤيد للتحولات الاجتماعية الديمقراطية هذه ، وكذلك بأن يعمل لمواجهة دكتاتورية البلاشفة السياسية كذلك . كذلك فإن إجراءات التصنيع والكهربة ومشروعات التقدم الاجتماعي والثقافي الواسعة كلها تحسب للنظام ، لكن كلها تمت عبر أدوات العنف والشمولية الإدارية ، فأخذت أجهزةُ الدولة القيصرية تتبدل بشكل بلشفي ، وراحت الأجهزة العسكرية والبوليسية تتسع ، وتقلصت الديمقراطية داخل الحزب البلشفي نفسه ، فحيث كان يقرر الأمور اللجنة المركزية اقتصر الأمر بعد ذلك على المكتب السياسي، ثم على الزعيم الأوحد ، الذي ظهر بشكل لينين ثم ستالين . ثم تعرض ( الماركسيون ) داخل الحزب للقمع والقتل . لقد تحولت الدولة إلى المالك الأكبر لوسائل الإنتاج ، وهكذا فقد فهم لينين أن تملك الدولة لوسائل الإنتاج هو النظام الاشتراكي ، فعبر المصادرة ينشأ النظام الحكومي للملكية فتظهر الاشتراكية . لكن الرأسمالية ليست هي الأموال فهي بناء اجتماعي واقتصادي وثقافي عميق ، فنشوء المصانع والتقنية ليس هو مسألة مالية وإدارية ، بل مسألة بناء اجتماعي قائم على التطور الموضوعي الداخلي عبر قوانين موجودة في كتاب ( رأس المال ) . ( 1 ) الذي قرأه لينين ولخصه ولكن لم يفهم مقولات الرأسمال كمقولات تاريخية وليس كمقولات تقنية أو سياسية . وهكذا فمع عدم وجود رأسمالية في روسيا كان ينبغي بناءها من أجل بناء الاشتراكية فيما بعد ! أي ترتب على أفكار لينين أن يقوم هو ببناء الرأسمالية ، فصار من قائد للثورة الاشتراكية إلى قائد لبناء الرأسمالية الحكومية الشمولية . فبعد الكوارث التي ظهرت في روسيا بعد الحرب العالمية الأولى كان عليها أن تدخل حرب التدخل الأجنبية ثم الحرب الأهلية التي راح ضحيتها الملايين . ولكن ليس لتقيم الاشتراكية وتزيل الطبقات وتطفئ مؤسسة الدولة غير الضرورية بل لتتعلم كيف تطور رأس المال وتخرجه من جحوره التي اختبأ فيها ، وتحدث تراكماً رأسمالياً ، فبدأ لينين ما سُمي بالسياسة الاقتصادية الجديدة ( النيب ) منذ 1920 ، لكن هذه العودة للرأسمالية لم تكن عودةً ديمقراطية ، أي أن لينين لم ير أن مشروعه ( الاشتراكي ) فاشل ، وأن عليه أن يعود للرأسمالية الديمقراطية فيسمح للأحزاب ولحرية الصحافة ويشكل دولةً ديمقراطية تقرر فيها الطبقات المختلفة تطوير البلد بالشكل المناسب ، بل واصل استخدام أدوات السلطة السياسية والعسكرية في الحكم ، لكنه أعطى للملكيات الصغيرة والمتوسطة في الزراعة والصناعة والحرف الحق أن تنمو ، بشكل لا تتحول إلى ملكيات كبرى وتتعاون مع قوى سياسية لتغيير النظام ، بل سمح لها بالتطور الاقتصادي الحر المفصول عن التطور السياسي . راح الحزب البلشفي يعمل لإيجاد الرأسمالية تحت غطاء الاشتراكية الحكومية ، ولا بد للرأسمالية من تراكم أولي ، يسمى التراكم البدائي ، حيث توفر الدولة رؤوس الأموال المنتزعة من الفلاحين من أجل الإنتاج الرأسمالي الموسع ، من هنا عمل خليفة لينين ستالين على تجريد الفلاحين الأغنياء والمتوسطين من مدخراتهم وتشكيل التعاونيات بالقوة ، وسحب فيوض المال للصناعة ، وتمت إجراءات وحشية هائلة هنا ، لا تقل سوءً عن إجراءات التراكم البدائي في أوربا الغربية . كانت نمو ملكية الدولة الضخمة تتم بالأشكال الإدارية ، فتتحول كافة المؤسسات الحزبية والسياسية والنقابية إلى ذيول للدولة ، وكان الفكر الرأسمالي الحكومي يصير نظرية أسمها ( الماركسية – اللينينية ) حيث يمكن القفز على المرحلة الرأسمالية بمساعدة الدولة الاشتراكية الأم . ويحدث وهمٌ هنا في الدول الاستبدادية الشرقية بأن بإمكانية الدولة أن تتلاعب في التاريخ وتقفز على المراحل وتحقق المعجزات الاقتصادية ، بسبب أن التخلف يتيح لماكينة الدولة الضخمة أن تقوم بمعدلات تنمية كبيرة ، لكن هذا بشكل مؤقت ، لكن هذا لا يحقق اشتراكية بل رأسمالية حكومية ، ولكي تتحول إلى رأسمالية حرة تحتاج إلى ثورة لوضع حد لهيمنة الهياكل الإدارية – البوليسية . وهنا على الطبقات العاملة مهماتٌ جديدة مركبة باستثمار المرحلة السابقة ونقدها والتعاون مع البرجوازية الصناعية لتغيير مشترك . والآن لم تكتمل الثورة الديمقراطية في روسيا بعد وتحتاج للتخلص من الجوانب الشمولية من فكر لينين وتبقي إنجازات فكره الديمقراطي والعلمي . وستلعب هذه ( الماركسية – اللينينية ) دورها في بث الأفكار العلمية وكذلك الأفكار الإيديولوجية ، وعملية الفصل بين هذه العناصر هي مهمة دقيقة وقد ظهر مفكرون عرب كان لديهم هذين العنصرين المتداخلين .
هادي العلوي
المثقف العربي الكبير الراحل هادي العلوي من الذين كرسوا أنفسهم لتحليل التراث العربي تحليلاً موضوعياً كاشفاً لجذوره وأبعاده الفكرية والسياسية ، في مشروع ضخم موزع على مجموعات من الكتب . وهادي العلوي هو امتداد لـ[ المدرسة ] العراقية في بحث التراث العربي ، حيث تغلبت على المدرسة المصرية بغزارة إنتاجها وتواصلها ، خلال القرن العشرين كله ، بسبب تجذر دراسة تاريخ العرب والإسلام في هذا البلد ، إذا عرفنا إن العلامة جواد علي قد وضع أسس البحث الموضوعي لهذا التاريخ في مجلداته الكبيرة العشرة عن تاريخ العرب قبل الإسلام . ولكن كعادة العراق فإن العملية تقوم على جهود أفراد أبطال ، بسبب فترات القمع الواسعة في هذا البلد. ويمكن اعتبار حسين مروة هو استمرار لهذه المدرسة بسبب دراسته الطويلة في النجف والعراق ، لكن الفحص الواسع والدقيق لهذا التراث حققه هادي العلوي ، بشخصه الوحيد المستقل ، وكأنه أكاديمية كاملة ، وفي ظروف معيشية بالغة القسوة ، وفي حياة مليئة بالنفي والتشرد . لا يمكن استعراض عشرات الكتب التي صنفها في حياته ، حيث كرس نفسه كلياً للبحث والكتابة وانقطع عن الوظائف ، ولم يقبل أجوراً أو مكافآت من جهة رسمية أو خاصة ، وعاش نباتياً في حياة زهد وتضحية نادرة . أهم ما يمكن ملاحظته على قراءاته للتاريخ والتراث العربي هو رجوعه للمصادر القديمة ، واعتماده عليها ، للوصول إلى رأي دقيق حول أي مسألة فقهية أو سياسية أو فكرية أو اقتصادية أو ثقافية أو لغوية ، أي بكل هذا التعدد الاختصاصي المعقد والمركب . فمسألة الشورى يطرحها بالصورة التالية ، فالشورى معناها لديه : [حق مجموع المسلمين في اختيار الخليفة ، واستخدمت من قبل المعارضة في كفاحها من أجل خلافة يرضى عنها الجمهور . وانتقلت فكرة الشورى بهذا المعنى إلى الفقه فاعتبرت الخلافة غير شرعية إذا استندت إلى القهر والغلبة . . وهذا رأي أغلبية الفقهاء ، وقد شذت عنه فرقتان : الحنابلة الذين أجازوا أن تكون الخلافة بالقهر والغلبة ، والشيعة الذين قيدوا الخلافة بالنص .] ، ( 2 ) . في هذه المسألة المحورية في كل مجتمع يقول العلوي بأن الفقهاء المسلمين تتبعوا بدقة شروط أهل الحل والعقد الذين يشاورهم الحاكم المُنتخب ، ويلزمهم ثلاثة شروط : العدالة ، والعلم الذي يتوصل إلى معرفة من يستحق الإمامة ، والرأي والتدبير المفضيان إلى حسن الاختيار . [ وهنا يقول الفخر الرازي إن أهل الحل والعقد هم العلماء وهم أولو الأمر المطلوب طاعتهم ، وأما طاعة الأمراء والسلاطين فغير واجبة ] ، [غير أن الفقهاء عدلوا في العصور المتأخرة عن هذا المبدأ فاعتبروا الشورى حقاً خاصاً بالأشراف والأعيان الذين منحوا صفة أهل الحل والعقد .] ، ( 3 ) . ولذا كان تثبيت النظام الوراثي صعباً حسب رأي العلوي في تاريخ المسلمين [وقد عانى معاوية صعوبات جمة في تثبيت حق الوراثة للخليفة واعتبر إجراؤه في تعيين ولده يزيد ولياً للعهد عودة إلى دين الهرقلية والكسروية ، أي إلى الملكية .] . وهنا يقدم العلوي مراجعه في هذه المسألة : الاستيعاب لأبن عبدالبر ، والأغاني ، والخوارزمي في مقتل الحسين وكتابه الإمامة والسياسة . وحتى خلافة عمر بن عبدالعزيز رآها الفقهاء بأنها تشكلت بطريقة خاطئة عبر كونه ولياً للعهد ، وقد استخلف بإرادة سليمان بن عبدالملك ، ولكن كما يضيف العلوي مستشهداً بسفيان الثوري : [ أخذ عمر الخلافة بغير حق ثم استحقها بالعدل] . يحدد هادي العلوي الكسروية التي رفضها فقهاء المسلمين بأنها تتعين بالأمور التالية : [1 – التصرف الشخصي بالأموال العامة . 2 – القتل الكيفي . 3 – الانهماك في الملذات . 4 – تضييع أمور الرعية والتعالي عليها.] ، ( 4 ) . ولكن لماذا تراجع الفقهاء والتيارات السياسية الدينية عن معارضتها الحازمة للاستغلال والدولة الاستبدادية ؟ يقول هادي العلوي إن ولاية العهد التي كانت مرفوضة في أغلبية الفقه الإسلامي حظيت باعتراف بعض الفقهاء في القرن الخامس الهجري . [ وقد سبق هذا الاعتراف أخذ الفرق المعارضة بنظام ولاية العهد في حالات وصولها إلى السلطة كدولة الإدارسة التي أقامتها الزيدية في المغرب والدولة الفاطمية التي أقامتها الإسماعيلية في مصر ] ، ( 5 ) . وهنا ينعطف العلوي ليناقش الوضع العام في التاريخ الإسلامي : [ يلاحظ أنجلز أن الحركات الاجتماعية التي قامت في الإسلام تتراجع عن أهدافها كلما وصلت إلى السلطة . والأمثلة التي ذ ُ كرت أعلاه تبرهن على صواب تشخيصه . ولكن لهذا الحكم استثناءات مهمة يمكن أن نتعرف عليها في شخصيات حاكمة مثل علي بن أبي طالب وعمر بن عبدالعزيز أو يزيد الناقص (. .) وفي حركة القرامطة في العراق والبحرين نموذج في غاية الوضوح للسلطة التي تتقيد ببرامج الحركة. ] ، ( 6 ) . وهنا يمكننا أن نتصور وننتقل إلى تصورات عامة لدى العلوي عن التاريخ العربي الإسلامي ، فالقول بأن الحركات الدينية تتراجع عن أهدافها حالما تصل إلى السلطة يبقى حديثاً عاماً غامضاً سواء من فريدريك أنجلز أو من هادي العلوي نفسه ، الذي أيد الحكم ثم قدم استثناءات تتمثل في شخوص هامة في هذا التاريخ ، ثم أنعطف إلى أحكام عامة تنظيرية له فقال : [ على أن تشخيص أنجلز لمصائر الحركات الاجتماعية في الإسلام يمكن أن يكون له مدلول آخر في ضوء نظريته ونظرية ماركس حول الوضع الآسيوي ، وهو هنا يلمس ما فصله أبن خلدون من خضوع التاريخ ( الإسلامي ) للدورات . ويمكن بالاستناد على هذه النظريات في الواقع حل إشكالات كثيرة في تاريخ تطور الشرق دون اللجئو على التخطئة الاعتباطية لعلماء عظام .] ، ( 7 ) . هنا نعثر على لمحات متقطعة لتصور العلوي عن عموميات التاريخ الإسلامي ، الذي لم يقدمه ، لأنه كان متوغلاً في الجزئيات والأوضاع الملموسة للظاهرات ، فهو لم يناقش مسائل مثل أسلوب الإنتاج الذي ينطبق على التاريخ الإسلامي ، وفي العبارات السابقة نلمح ذلك . والواقع إن حديث أنجلز حول التاريخ الإسلامي غير ممكن الاعتماد عليه بسبب عدم إطلاعه الكافي على مواده ومصادره ، وتدور فكرته على أن الصراع الاجتماعي في العصر الوسيط يتخذ له طابعاً دينياً ، وبالتالي فإن الصراعات المذهبية هي صراع طبقي بالضرورة ، ولكن أنجلز يقصد هنا إن أشكال الوعي في العصور السابقة مرتبطة بزمنها ، وليس من الضروري نقل ذات الأساليب إلى العصر الرأسمالي الحديث ، الذي يقوم فيه الوعي التقدمي بإزالة القشرية المثالية عن الصراعات الاجتماعية ويبرزها واضحةً نقيةً باعتبارها صراعات اجتماعية بدون عباءتها التي اختبأت تحتها طوال العصور القديمة السحرية أو الدينية فيما بعد . وسنجدُ إن مفكرين وحركات تستخدم مقولة أنجلز الواردة أعلاه بشكل خاطئ ويضر بالحركات السياسية التقدمية المعاصرة . أما قول العلوي بأن تشخيص أنجلز يمكن أن يكون له مدلول آخر حول نظريته حول أسلوب الإنتاج الآسيوي ، فهنا يتضح عدم وضوح فكرة هادي العلوي لهذه المسائل المركبة عن أسلوب الإنتاج في العالم الإسلامي . فأسلوب الإنتاج الآسيوي هو تعبير خاطئ وهو تعبير لا يحل لغز أسلوب الإنتاج في التاريخ العربي الإسلامي . إنه تعبير يضيعُ فرادة التاريخ العربي ، وهذا ما وقع فيه حسين مروة في تشخيصه لهذا الأسلوب كذلك . وقد أوضحنا في مواضع سابقة من هذا البحث ( الجزء الأول وفي فصل : دخول العرب في التاريخ العالمي ) ، بماذا تعبر الفترة الجزيرية من التاريخ العربي الإسلامي ، ثم الفترة التي تليها وهي فترة النظام الإقطاعي العام التي تبدأ من عصر عمر بن الخطاب ، التي لم تنفجر فيها الصراعات الاجتماعية ، مع زخم الفتوحات المالي والتوزيع العادل للفيء بين العرب ، وفي العصر الأموي والعباسي يتشكل نظام الإقطاع (المذهبي) المستمر إلى يومنا هذا . رأينا كيف كان تردد مقولات هادي العلوي حول أسلوب الإنتاج ، تعبيراً عن عدم الوصول إلى تعميمات نظرية عن تطور التاريخ العربي الإسلامي . فحديث أنجلز عن أشكال الوعي الدينية التي تعكس صراعات اجتماعية ، لا تفضي إلى اكتشاف أسلوب الإنتاج العربي ، كذلك فإن [ أسلوب الإنتاج الآسيوي ] هو خرافة أخرى في عملية البلبلة النظرية لهذا الاكتشاف ، أما تطرق هادي العلوي إلى رأي ابن خلدون وإن أنجلز يلمس ما فصله أبن خلدون ، فنجد هنا سلسلة من الارتباكات الفكرية ، وعلينا أن نفكك خيوطها واحدةً واحدة . إن أنجلز في طرحه للمادية التاريخية ، لم يعرف آراء أبن خلدون للأسف ، ولكن أبن خلدون من جهته لم يصل إلى المادية التاريخية . فابن خلدون تجاوز كثيراً مؤرخي عصره في مقدمته التي حدد فيها عوامل بشرية لتطور العمران ، ولكنه رأى ( القانون ) العام في صراع البداوة والحضارة ، ولم يأخذ صراع أهل الوبر وأهل المدر ، الرعاة من جهة ، وأهل القرى والمدن من جهة أخرى ، كعملية مركبة داخلة في أسلوب الإنتاج ، فأسلوب الإنتاج الإقطاعي الذي لم يتبلور بشكل ناجز في المرحلة الجزيرية الإسلامية ، أسسه العرب البدو وهم يطيحون بأنظمة العبودية الُمعممة ، المتشكلة منذ فجر التاريخ ، لأن التمايزات الطبقية المتحجرة لم تتجذر فيهم كبدو عاشوا حياة حرة ، وبهذا فإن الأمر ليس فقط لأنهم بدو استطاعوا أن يستولوا على المدن ، ويغيروها ، بل لأنهم يحملون أسلوباً جديداً للإنتاج ، وإلا كيف نفسر مرحلة أخرى قام فيها البدو : بنو هلال والقرامطة بالغزو لكن لم تحصل سوى آثار الخراب ؟ ! أي أن هؤلاء الأخيرين لم يستطيعوا أن يشكلوا أسلوبَ إنتاجٍ جديد . فهنا كان أسلوب الإنتاج الإقطاعي قد تمزق واهترأ . إن ابن خلدون يقدم لنا مواداً ثمينة لاكتشاف كل ذلك ، ولكنه يقف عند الموجات السطحية للتاريخ ، عند الملامح الأولى لها ، بدلاً من رؤية خطوط القارات ، وكان ذلك شيئاً مبهراً في زمنه . ( أنظرْ نفس هذه الدراسة ، الجزء الثالث : الفصل السابع عشر ، ص 428 وهو المتعلق بوعي ابن خلدون ) . ويحاول المؤرخون و[ المفكرون] الوقوف عند هذه الخلطة غير المتفاعلة بين آراء ابن خلدون وبين خطوط عريضة تائهة من المادية التاريخية ، فتفسد الخلطة بقسميها . لكن هادي العلوي لم يستهدف مثل هذه الخلطات ، ويكفي المقطع المستشهد به السابق ، ليوضح عملية الحيرة الفكرية التي وقع فيها ليصل إلى استنتاجات متقاطعة . إن التحليلَ العميقَ للتاريخ لا يمكن أن يصل إلى قوانين التطور الموضوعية إذا كانت هناك إسقاطات إيديولوجية معاصرة . أي أن الباحث وهو يحلل التاريخ عليه أن يتجرد من المواقف الضيقة لحزبه ، أو التي تنبع من ذاته ، ويكتشفه في سيرورته الحقيقية ، بغض النظر عن مدى تعاطفه مع الفرقاء المتصارعين في الماضي والحاضر . والعلوي يمتلك تعاطفاً قوياً وحاداً مع الفقراء وثوراتهم حتى لو كانت سلبية ، ويكره الأغنياء وأعمالهم حتى لو كانت إيجابية . وقد انعكست روحية الزاهد الثائر على مواقفه من الشخصيات ومن التاريخ والحركات الفكرية والاجتماعية . ولهذا فإنه ضد الرأسمالية ، ويطرح تجاوزها والقفز عليها ، ويريد من المناضلين أن يكونوا مجموعة من الزاهدين المتصوفين . هنا يتداخل الذاتي الشخصي مع الذاتي الحزبي ، فرفض الرأسمالية والعيشة بطرقها ، يندمج مع الفكرة الشيوعية لهذه المرحلة برفض الرأسمالية والقفز عليها للوصول إلى الاشتراكية ، أي يتداخل المسار العراقي بالمسار الروسي ، وتــُطرح شخصيات عراقية كنموذج للينين ، ويأخذ المسار الشيوعي العراقي المسار الشيوعي الروسي ، ومن هنا يغدو التراث العربي لوحة لظهور الكفاح الطبقي المتواصل ضد الاستغلال ، ويحدث غبشٌ خاص حول العمليات الموضوعية للانتقال من الإقطاع إلى الرأسمالية . وبهذه المنهجية المضادة لقراءة القوانين الموضوعية للتطور الاجتماعي ، فإن المواد الثمينة والدقيقة في رصد الوقائع الجزئية والظاهرات التحليلية الملموسة ، سوف تتشوش مواقعها بعدم رصد اللوحة العامة لمسار التاريخ . أي لعدم رؤية لماذا عجز التاريخ العربي الإسلامي عن إنتاج الرأسمالية والحداثة ؟ فقراءة هذا العجز تقود إلى اكتشاف علل التخلف ، وخاصة البُنى الاجتماعية الراهنة . إذا كانت الرأسمالية مرفوضة في الماضي والحاضر لدى هادي العلوي والعديد من المفكرين العرب والنخب ، فكيف يمكن أن يتواصل التاريخ الثوري ويحدث التقدم ؟ إنهم يرون إن الملكيات العامة التي كانت تـُدار وتستغل من قبل الطبقات الحاكمة ، ينبغي أن تستمر وتدار من قبل خلفاء عادلين . وهو الأمر الذي جرى في عهود علي بن أبي طالب وعمر بن عبدالعزيز ويزيد الناقص ، كما حدد هادي العلوي هذه الأسماء سابقاً . ولهذا فما على الحزب الثوري المعاصر سوى أن يواصل استخدام الملكيات العامة لخدمة التحول وإزالة الفقر والرأسمالية . ولا شك إن وجود القطاع العام الُمدار بشكل ديمقراطي برلماني أو من خلال وزارة يقودها الديمقراطيون ، أي ما نسميه الآن برأسمالية الدولة الوطنية الديمقراطية ، هو أفضل حل لقيادة اقتصاد يتجه للتنمية وإزالة الفقر ، ولكن كيف يمكن إزالة الرأسمالية ؟ ! إن المسألة تنطرح لدى العلوي بالقفز على المرحلة الرأسمالية ، وهذه الوجهة النظر حين تــُطبق على التاريخ العربي الإسلامي ، سوف تضع حركات الزهد والصوفية باعتبارها حركة ثورية عظيمة ، في حين إنها رغم دورها الاحتجاجي مثلت كارثة للتطور الاجتماعي والفكري . أو حين نرى زهد الخلفاء واستمرار الملكية العامة كشيء إيجابي أخير في عملية التغيير ، في حين كان توزيع الملكيات العامة الزراعية وتحرير الفلاحين من الإقطاع السياسي العام هو بداية الحل لظهور الرأسمالية بشكل واسع وإحداث تحول جذري في التاريخ العربي الخ . . ولكن كيف يمكن أن يرى في الرأسمالية تطوراً ؟ ! وتتطابق هذه التصورات مع حياة هادي العلوي الشخصية ، فقد كانت أسرته تنتمي إلى طبقة الفلاحين العراقية الجنوبية ، التي تعرضت للتدهور ، يقول : [فيما يتعلق بالوضع الاجتماعي ، كان والدي عامل بناء . وقد نشأتُ في ( كرادة مريم ) ، وهي ضاحية ريفية من ضواحي بغداد يصدق عليها بالضبط وصف أنجلز ( فلاحين مستقرين لكنهم في حالة انحطاط ) ] ، ( 8 ) . إن هذه الحياة المطحونة لفقراء الفلاحين وأبنائهم قد قادت العلوي لتأييد الخطوات البرامجية اليسارية القصوى ، فعبر الارتكاز على الملكيات المشاعية والعامة التي يؤكد العلوي على وجودها الغابر في الجزيرة العربية خاصة ، وبإحداث سياسة زهد وتقشف عامة ، وفي قراءة التراث بتأكيد ملامح الزهد والزاهدين والثائرين في التاريخ العربي الإسلامي ، ورفض البرجزة ورفض تحول القوى السياسية التقدمية إلى دكاكين ومجموعات من المقاولين والسماسرة ، يمكن تشكيل الطريق إلى الاشتراكية . وإذا كان هذا البرنامج رد فعل على تردي بعض الجماعات التقدمية في الانتهازية السياسية ، فمن المستحيل جعل الناس تعيش على اشتراكية الكفاف . وقد قادت هذه الأفكار العلوي إلى رؤية التجربة الصينية كنموذج للطريق إلى الاشتراكية ، وبدت ( الماوية ) هي الحل النموذجي ، فهنا ملايين الزاهدين العاملين على الحد الأدنى من الطعام وهنا الملكية العامة وتجربة التصنيع التسريعية وإحداث النهضة بأقصر الطرق . لكن العلوي يرفض ما أسفرت عنه التجربة الصينية من انتصار رأسمالية السوق ومافيا الحزب الحاكم ، وهو لا يرى كيف قادت اشتراكية الثكنات العسكرية إلى هيمنة بيروقراطيي الدولة ونخرهم للملكية العامة ، مثلما قادت دكتاتورية قادة الحزب إلى هدم الرأسمال العام النظري ، وإلى دخول الرأسمالية من الشباك الاشتراكي ، ولكنه لم ير في تحولات البيرسترويكا سوى خيانة لقضية الاشتراكية مثلما ينظر اشتراكيو الكراسات العتيقة ، وليس عودة للقوانين الموضوعية للتطور الاجتماعي .
مهدي عامل
لا شك أن المفكر اللبناني الراحل مهدي عامل من المساهمين البارزين في تحليل الواقع العربي المعاصر من منطلقات نقدية عميقة وخاصة من رافد الماركسية البنيوية ، التي قام بتطبيقها على الواقع العربي بصورة حرفية ، دون رؤية الاختلاف بين مستوى التطور الغربي ، وتطور البُـنى الاجتماعية العربية . ونحاول في هذه الموضوعات قراءة آرائه وتحليلاته لندوة جرت في الكويت في السبعينيات من القرن الماضي ، اتخذت لها عنواناً هو ( أزمة التطور الحضاري في الوطن العربي ) ، وقد ناقشها في كتابه : ( أزمة الحضارة العربية أم أزمات البرجوازيات العربية؟). يفترض مهدي عامل مسبقاً ، ودون دراسات ، بأن المجتمعات العربية هي مجتمعات رأسمالية . فهو يصر على أن ( نمط الإنتاج الرأسمالي المسيطر في البنيات الاجتماعية العربية) ، ( 9 ) . إن هذا يبدو لوعيه شيئاً بديهياً ، صحيح إنه يقول أن ثمة علاقات ما قبل رأسمالية في هذا الإنتاج غير أنها ليست سوى بقايا . فيقول بوضوح : إن فهم تطور بنية علاقات الإنتاج الرأسمالية مثلاً في البلدان العربية في الوقت الحاضر ، وفهم أزمات هذا التطور يستلزم بالضرورة الانطلاق بالتحليل من هذه البنية بالذات في شكل وجودها القائم في كل من البلدان العربية. ) ، ( 10 ) . وليس ثمة من الضرورة بحث جذور هذه البُنى ( مع ظهور الإسلام مثلاً ، أو مع الجاهلية ، أو مع بدء العصر العباسي أو الأموي أو الأندلسي أو عصر الانحطاط الخ . . ، بل هو يبدأ مع بدء التغلغل الإمبريالي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.) ، ( 11 ) . وهو يعترف بأن ثمة ( أشكالاً من الإنتاج سابقة على الإنتاج الرأسمالي لا تزال حاضرة في البنيات الاجتماعية العربية ) ، غير أنها ليست سائدة فيه ، بل الإنتاج الرأسمالي هو السائد . ونحن نحاول أن نفهم كيف استطاع الاستعمار أن يجعل من هذه العلاقات سائدة ؟ أي كيف استطاع أن يجعل العلاقات ما قبل الرأسمالية لا تسود بل أن تسود العلاقات الرأسمالية ؟ لا يقوم مهدي عامل ببحث هذه المسألة تاريخياً ، بأن يعطينا أمثلةً عن بلد عربي ومنذ القرن التاسع عشر تحول إلى الرأسمالية ؟ فلا نجد . ولا أن يقوم بتحديد متى استطاعت البرجوازيات العربية أن تستولي على الحكم وتنشر النظام الرأسمالي الشامل ؟ ومن جهة أخرى فهو يؤكد بأن ( كثيراً من علاقات الإنتاج الاجتماعية ، سواء في الحقل الاقتصادي أم السياسي أم الإيديولوجي ، التي تنتمي إلى أنماط من الإنتاج بالية ، أي بالتحديد ، سابقة على الرأسمالية ، لا تزال قائمة في البنيات الاجتماعية المعاصرة ) ، ( 12 ). ينطلق مهدي عامل لتحديد هيمنة الرأسمالية على العالم العربي منذ القرن التاسع عشر بشكل مضاد للقراءة الموضوعية ، وهو يفترض رأسمالية سحرية تتشكل منذ أن تطأ بوارج بريطانيا وفرنسا الشواطئ العربية ، في حين إن الرأسمالية تتعلق بمدى تشكل الرأسمال الخاص في القطاعات الاقتصادية المختلفة ، ومدى انتشار العمل المأجور على بقية أنواع العمل في النظام الاجتماعي . وتتحددُ سيطرةُ البنيةِ الرأسماليةِ بوصولِ منتجي البضائع إلى سدة الحكم ، وإزاحة ملاك الأرض وإقطاعيي السلطة السياسية ، وسيادة العمل بالأجرة ، وهي كلها أمور لم تتحقق في نهاية القرن التاسع عشر ولا في نهاية القرن العشرين العربيين ! ولكن مهدي عامل يُصادر ببساطة ، قبل أن يبحث ، فهو منذ البدء يقول : ( أزمة البرجوازيات العربية. .) فأفترض إن هذه البرجوازيات قد حكمت وتعفنت في الحكم وهي مأزومة الآن ؟ ! في حين إن البناء الاقتصادي والسياسي لم تتحقق فيه شروط انتصار الرأسمالية ! ولكن ذلك لا يتعلق فقط بالبحث الفكري بل والأخطر بالمهمات السياسية المباشرة ، فيقول بأن : ( المهمة الأساسية لحركة تاريخنا المعاصر بهذا الشكل ، لاتضح لنا أن تحققها يمر بالضرورة عبر عملية معقدة من الصراع الطبقي ضد البرجوازيات العربية المسيطرة . .) ، ( 13 ) . ولكن كيف يمكن إسقاط أسلوب إنتاج لم يُسد وطبقات لا تحكم ؟ علينا أن نناقش مسألة أسلوب الإنتاج الكولونيالي التي طرحها مهدي عامل ، كي نقوم بتفكيك تفكير هذا المفكر ، وهي التي اعتبرها حجر الزاوية في نظريته حول تطور العالم العربي . كما رأينا سابقاً ، ( راجع الفقرة حول التاريخ العربي ) إن مهدي عامل يرفض تحليل البنية الاجتماعية العربية الحالية من خلال جذورها ، وهو ينتقد المفكرين العرب المجتمعين في الكويت لمناقشة ( أزمة تطور الحضارة العربية) بسبب قيامهم بالعودة إلى جذور التاريخ العربي ، طالباً الوقوف عند العصر الراهن والنظر إلى الماضي من خلال البنية الاجتماعية الراهنة . إن مهدي عامل ينظر للبُنى الاجتماعية العربية الراهنة وكأنها صياغة أوربية غربية ، فقد قام الاستعمار الغربي برسملتها ، أي بتحويلها إلى رأسمالية ناجزة ، وهذه الرأسمالية الناجزة يُطلق عليها أسم ( أسلوب الإنتاج الكولونيالي ) ، وبهذا قام مهدي بخطئين كبيرين مزدوجين ، فهو قد قطع السيرورة التاريخية للبُنى العربية الاجتماعية ، أي قام بإزالة طابعها الطبقي التاريخي ، وهي عملية يقوم فيها بالتمرد على القوانين الموضوعية لرؤية المادية التاريخية عن التشكيلات الخمس : المشاعية ، والعبودية ، والإقطاع ، والرأسمالية ، والاشتراكية. فهو عبر هذه المقولة قد ألغى كون البُنى الاجتماعية العربية بُنى إقطاعية ، فحين لا نبحث ألف سنة من التطور الاقتصادي والاجتماعي السابق ، ونعتقد أن أسلوباً جديداً للإنتاج قد تشكل ، وأسمه الأسلوب الكولونيالي ، في خلال بضع سنين ، وأن علينا أن ننظر للتاريخ من خلال هذا الأسلوب غير المحدد والغامض ، فتتشكلُ لدينا هنا رؤيةٌ سياسية دكتاتورية تحاول أن تفرض نفسها على جسدِ التاريخ الموضوعي ، بمعطيات غير مدروسة . إن رفضَ تحليل الماضي ، أي رفض بحث التاريخ الإقطاعي للعرب ، يتضافرُ لدى مهدي عامل ، ورفض تحليل الحاضر ، أي قراءة عمليات التداخل بين الإقطاع والرأسمالية ، كأسلوبين للإنتاج موضوعيين في التاريخ العربي الراهن ، ويطالب بمناقشةِ أسلوب إنتاج من اصطلاحاته هو أسلوب الإنتاج الكولونيالي . ومع هذا فعلينا أن نناقش تسمية أسلوب الإنتاج المقترح ، فمهدي عامل لا يُنكر وجود بقايا نظام تقليدي في هذا الأسلوب الذي انتصرت فيه العلاقات الرأسمالية ، ودون أن يطرح أية أرقام أو معطيات على انتصار العلاقات الرأسمالية الموهومة ، لكنه يعتبر إن العلاقات الرأسمالية المنتصرة في العالم العربي تشكل علاقة تبعية مع العالم الغربي حيث العلاقات الرأسمالية الأقوى ، وهذه الأخيرة الغربية هي التي تقوم داخلها بتقويض أساليب الإنتاج الأخرى ، في حين تعجز الرأسمالية العربية في علاقتها التابعة من تقويض أساليب الإنتاج السابقة داخلها ، وبهذا فإن أسلوبَ الإنتاج الكولونيالي الذي سادت فيه البرجوازياتُ العربيةُ يحتاج إلى ثوراتٍ عمالية لتقويضه والانتقال إلى الاشتراكية . تتشكلُ هذه العمومياتُ الفكريةُ من منهجٍ مجردٍ يفرضُ قوالبه على الواقع الحي غير المدروس ، فتـُـلغى مسألةُ التشكيلة الإقطاعية بجرة قلم ، ويتم تحويلها إلى تشكيلة أخرى متطورة بقفزة خيالية أخرى هي التشكيلة الرأسمالية الكولونيالية ، ثم تحدث القفزة الأكبر إلى الاشتراكية . . ولا يزال الباحث لم يحلل الإقطاع العربي وسيرورته السابقة والراهنة . والغريب إنه في كتابه هذا ( أزمة الحضارة العربية . .) يناقش جملةً من المفكرين العرب الذين يقدمون له مادة تحليلية ممتازة ، ولو أنه أبعد فرضياته الإيديولوجية المسبقة ، أو استفاد بعمق من الماركسية البنيوية التي نقل تطبيقاتها لفهم البنية الاجتماعية ، لأمكنه أن يدخل إلى دائرة التاريخ العربي وتشكيلته التي تضاربت أسماؤها لديه . ولكنه حدد منذ البدء هؤلاء الباحثين كمنظرين للبرجوازيات العربية المستولية على الحكم والتي وصلت إلى الأزمة ، وبالتالي يجب نقد وعي هذه الطبقات المسيطرة عبر وعي الطبقات الثورية الخ . . حين يناقش مهدي عامل الباحث العربي شاكر مصطفى يتجاهل مهدي المادة الفكرية الثمينة التي يقدمها شاكر لتوصيف تطور المجتمعات العربية بقوله : ( إن الاستمرار الاجتماعي الذي تعيشه الشعوب العربية إنما تحكمه عناصر عديدة في مجموعها التركيب العربي القائم . . وأن لامتدادات التاريخ في هذه العناصر المكان الواسع إن لم يكن الأول. . ) وهذه ( العناصر الأساسية الباقية عند أربعة جوانب : أ ــ طرق الإنتاج المادي ب ــ تكوين نظام السلطة ج ــ طبيعة العلاقات الاجتماعية د ــ قيم الفكر التراثية . .) ، ( 14 ) . هكذا نرى لدى شاكر مصطفى نظرة تاريخية موضوعية واقتراباً دقيقاً من فهم أسلوب الإنتاج الإقطاعي العربي الإسلامي المستمر عبر ألف سنة ، الذي يتأسس في نظام السلطة والإنتاج معاً ، ثم يتمظهرُ في العلاقات الاجتماعية : الأبوية ، هيمنة الذكور ، اللامساوة الجنسية ، الطائفية الخ . . ثم يصل النظام الإقطاعي إلى المستوى الثقافي : الأمية ، الخرافة الخ . . إن شاكر مصطفى يمثـل مقاربة علمية ( ماركسية ) من فهم التاريخ ، ولكن ماذا يفعل مهدي عامل بمثـل هذه المقاربة ؟ بدلاً من أن يقوم بفهمها ودرس التاريخ العربي يقوم بالمصادرة السريعة ، فيقول : ( أما أن يكون هذا التاريخ الذي تكونت فيه البنية الاجتماعية للواقع العربي الحاضر ، تاريخاً يرجع إلى ما قبل عشرة قرون خلت ، أي إلى العصر العباسي أو أواخر العصر الأموي ، فهذا ما نختلفُ فيه جذرياً مع الدكتور مصطفى ) ، ( 15 ) . فهو يحتار كيف أن هذه البنية المزدهرة يوماً ما تصبح هي نفسها سبب التخلف ؟ فيقول بلغته : ( فالبنية هذه ليست في حاضرها ، من حيث هي بنية ، أي كلٌ معقد متماسك ، سوى البذرة التي كانتها في الماضي ، تنامت ، فتنافت وتواصلت في حركة من تماثـل الذات بالذات ، وما الذات هذه إلا الذات العربية نفسها . ) ، ( 16 ) . إن مهدي عامل الذي ينتقد شاكر مصطفى على أنه صار يفكر بمنهج هيجل الجدلي المثالي ، يعجز عن اكتشاف رؤية الوعي الموضوعي لدى مصطفى شاكر في فهمه للتاريخ العربي ، ويصبح هو هيجلياً مثالياً . فالبنيةُ العربيةُ الإقطاعية في زمن الإمبراطورية العباسية كانت نظاماً مركزياً ، والإقطاع المتحكم في الخراج الهائل يصرفه على البناء الترفي والثقافة المقربة المفيدة للنظام ، ثم يتحلل هذا الإقطاع المركزي بسبب ثورات الشعوب ، ليجيء نظام الإقطاع اللامركزي ، وتظهر الدول والدويلات الإقطاعية ، وتكرر بشكل أوسع إنجازات ومشكلات النظام السابق ، ثم يتهرأ هذا النظام الإقطاعي الديني العام بتشكيلاته المتعددة ، ليغدو أنظمة وإمارات إقطاعية صغيرة مذهبية الخ . . إن هذه السيرورة التاريخية تحافظ على قسمات عامة أشار لبعضها شاكر مصطفى في المقطع السابق ذكره ، حيث يغدو الحكام هم المستولون على القسم الأكبر من الثروة العامة ، وتتواشج السلطة والثروة ، ويشركون رجال الدين في السيطرة على العلاقات الاجتماعية ، أي ينقلون العلاقات الإقطاعية إلى البيوت والأحوال الشخصية الخ . . وإذا لم نقم كما يريد مهدي عامل بقراءة هذه السيرورة التاريخية الاجتماعية التي امتدت خلال ألف سنة ، والتي تتغلغل في أبنيتنا الاجتماعية وقوانينا الوراثية وفي سلطاتنا المطلقة، وفي شعرنا ونثرنا وعاداتنا ولاوعينا ، فكيف نقوم بتغيير هذه البنية التقليدية وتشكيل النهضة ؟ ! إن مهدي عامل يخرق قوانين الوعي على مستوى قراءة الماضي ، وعلى مستوى قراءة الماركسية ، فعبر قراءة الماضي يتجاهل البنية الإقطاعية وسيرورتها الراهنة ، وعلى مستوى الماركسية يقوم باختراع مغامرات سياسية محفوفة بالكوارث ، عبر اختراعه مقولة أسلوب الإنتاج الكولونيالي وتصفية البرجوازيات العربية . فهو بدلاً من قراءة الماضي ورؤية أسباب عجز البرجوازيات العربية القديمة عن تشكيل النهضة ، والقيام بثورة رأسمالية ، وقراءة أسباب ضعف البرجوازيات العربية الراهنة وعدم قدرتها على تغيير أسلوب الإنتاج الإقطاعي وتشكيل تحالف معها لتغيير التركيبة التقليدية يقوم بوضعها في خانة العدو والقفز ضدها إلى مهمات غير حقيقية ومكلفة كما دلت تجربة الشعب اللبناني . يمثـل المفكرون الذين تواجدوا في الكويت لمناقشة مسائل النهضة العربية وكيفية إيجادها ، نخبة اشتغلت في حقول الدراسات لزمن طويل ، وبغض النظر عن اجتهاداتها ومدارسها فإنها تعبر عن عقول مهمة تعارض المجتمعات العربية التقليدية من منطلقات مختلفة ، لكن المفكر اللبناني مهدي عامل نظر إليها كخصوم وليس كقوى مساندة للطبقات العاملة العربية في تغيير مجتمعات التخلف ، وبهذا كان يرفض العديد من الآراء المهمة التي تقدمها كما فعل مع مصطفى شاكر . ويعترض مهدي عامل كذلك على زكي نجيب محمود الذي يمثل المدرسة الوضعية أو التجريبية المنطقية في دعوته لاحكام العقل في النظر إلى الأشياء ، وخاصة في جملته التي قالها بضرورة ( الاحتكام إلى العقل في قبول ما يقبله الناس وفي رفض ما يرفضونه) ، ودعا زكي نجيب العربَ إلى التوجهِ لتمثل الحضارة المتقدمة ، واعتبر إن الاحتكام إلى العقل ميز الحضارات العقلانية ، معطياً نماذج أربعة على حضارات احتكمت إلى العقل وهي : أثينا في القرن الخامس قبل الميلاد ، وبغداد في عصر المأمون ، وفلورنسة في القرن الخامس عشر ، وباريس في عصر التنوير في القرن الثامن عشر . أي إن زكي نجيب يقدم درجات من صعود البرجوازية عبر العصور ، أعطى إنتاجها المادي قدرة على الفهم الموضوعي للطبيعة المجتمع ، على درجات متفاوتة . ويعترض مهدي عامل على هذه التصنيفات ويقول : ( وهنا تظهر الدلالة الطبقية لهذا المنطق من التفكير : فانتفاء الطابع التاريخي ، أي النسبي ، من شكل العقلانية الخاص بالبنية الاجتماعية الرأسمالية يجعل من هذا الشكل الخاص مطلقاً ، فيظهر ما هو تاريخي – أي ما يحمل فيه ضرورة تخطيه ونفيه – بمظهر ما هو طبيعي – أي يحمل فيه ضرورة تأبده – ويظهر الشكل الطبقي البرجوازي للعقلانية بمظهر العقلانية الإنسانية ، أي بما هو طبيعي ملازم للحضارة كحضارة . .) ، ( 17 ) . إن فئاتٍ برجوازيةً عربية تعاني من هيمنة تقليدية متخلفة ، وحين تقوم باستعادة لحظات من فعل الفئات المتوسطة عبر التاريخ الماضي إنما تريد شحذ عقلها وإرادتها من أجل تشكيل عالم نهضوي عقلاني عربي ، يمكن حتى للقوى الشعبية فيه أن تناضل بصورة حديثة ، لكن زكي نجيب محمود هنا يفصل العقلانية عن أسلوب الإنتاج ، ولا يرى إن العقلانية في أسلوب إقطاعي ( عباسي ) هو غيره في أسلوب رأسمالي جنيني في أوربا ، وبالتالي كان هذا يحتاج لقراءة العنصر العقلاني في سيرورته التاريخية . إن النموذج الذي يختاره مهدي عامل في الفصل الرابع من الكتاب السابق الذكر ، هو الشاعر والباحث أدونيس ، الذي صاغ دراسة حول الإمام أبي حامد الغزالي في ذلك المؤتمر مُستنتجاً ــ أي أدونيس ــ بأن الفكر الديني : [بقواعده وغاياته ، هو الذي يسود المجتمع العربي ، اليوم . ولذلك فإن الإيديولوجية السائدة ، سواء في المدرسة والجامعة والبرامج التربوية ، والصحافة والإذاعة والكتاب ، إنما هي قوة ارتداد نحو الماضي ، وقوة محافظة على الراهن الموروث . . فعلاقات الإنتاج الموروثة . . ما تزال هي السائدة . . والبنية الإيديولوجية التقليدية . . ما تزال كذلك هي السائدة] ، ( 18 ) . هذا الكلام يقوله أدونيس في سنة 1974 ، وبالتالي استطاع أن يشخص الواقع العربي تشخيصاً مهماً بحيث أننا الآن ( سنة 2005 ) ندرك الفجائع المترتبة على هذه السيادة الماضوية . ولكن اليسار حينذاك لم يكن ير مثل هذا التشخيص ، كرفيقنا الراحل مهدي عامل ، الذي يتصدى لهذه المقولة قائلاً رداً وتحليلاً للرأي السابق : [1 – الفكر العربي هو نموذجه ، ونموذجه هو الغزالي ، فالفكر العربي إذن هو فكر الغزالي . 2 – الفكر السائد في الماضي هو الفكر السائد في الحاضر . 3 – البنية الإيديولوجية السائدة في الماضي هي البنية الإيديولوجية السائدة في الحاضر. 4 – علاقة الإنتاج المتوارثة – أي السائدة في الماضي – هي علاقات الإنتاج القائمة في الحاضر . إذن الماضي هو هو الحاضر ، لا شيء تغير. ( خلاصة ). ] ، ( 19 ) . من الواضح إن مهدي عامل يقوم بتبسيط نظرة أدونيس إلى التاريخ الفكري العربي ، فالغزالي لدى أدونيس هو كل الفكر العربي الديني المحافظ ، ولكن أدونيس يقول إن هذا الفكر المحافظ المذهبي هو الذي ساد ، وإذا طورنا مقولة أدونيس كما توصلنا إليها ، فنقول إن رؤية الغزالي كانت هي ثقافة الإقطاع السائد . ولكن ثقافة الإقطاع المذهبي متعددة ، وحتى تسود قامت بالقضاء على التيارات الدينية المعارضة ، وهذه لها حراك وصراع استمر إلى وقتنا الراهن ، فليس معنى ذلك سكون الخريطة الفكرية الاجتماعية ، بل أن لها ألواناً وتضاريس معقدة . ولكن من الناحية الجوهرية فإن المنظومة العربية الإسلامية لم تخرج عن التشكيلة الإقطاعية ، ومعرفة وتحديد التشكيلة هذه هي الخطأ الجوهري لدى مهدي عامل كما بينا سابقاً ، في حين أن الباحثين المنبثقين من الفئات الوسطى الحديثة كأدونيس وشاكر مصطفى ، يرون أنها مستمرة ، لكنهم لا يعرفون كيف يبلورن ذلك نظرياً . يضع مهدي عامل بعض ممارسات الفلاسفة العرب كابن رشد في دائرة ما يسميه [بالممارسة الإيديولوجية لما يمكن تسميته بالطبقة الأرستقراطية العربية المسيطرة في المجتمع الاستبدادي في القرون الوسطى.] ، وبغض النظر عن جمله من المفاهيم الخاطئة في هذه العبارة ، فإن مهدي عامل يضع الممارسات النقدية للمفكرين العرب المسلمين السابقين في سياق [مجتمع استبدادي] ، وليس في سياق التشكيلة الإقطاعية المعروفة بداهةً للمادية التاريخية ، ثم يقوم بوضع الحركات والفكر الديني الإسلامي المعاصر في سياق آخر فيقول : [ أما في الحالة الثانية ، ” فالإسلام ” موجود بالشكل الذي يتحدد فيه بحقل آخر من الممارسات الإيديولوجية الطبقية ، خاص ببنية اجتماعية مختلفة ، يغلب عليها الطابع الكولونيالي، في انتمائها التاريخي إلى نمط الإنتاج الرأسمالي .] ، ( 20 ) . إن هذه البنية الحديثة التي يضع مهدي عامل الوعي الديني السابق فيها ، هي بنية يغلب عليها ( الطابع الكولونيالي وتنتمي تاريخياً إلى نمط الإنتاج الرأسمالي) ، وهي توصيفات نرى كيف أنها بذاتها قلقة مضطربة ، وهو يلجأ إلى كلمة ( كولونيالي) الأجنبية المنتفخة ، لكي يُشعر القارئ بأنها مصطلح غني في حين يمكن القول بأن البنية العربية هي بنية تابعة ، ووجود التبعية لا يخلق تشكيلة جديدة ، أي أنه حين تقوم الرأسمالية المسيطرة غربياً بإلحاق البلدان الفقيرة الإقطاعية في العالم الثالث باقتصادها ، فإن هذه البنية التابعة تظل في تشكيلتها الإقطاعية السابقة ، لأن الاستعمار لا يقوم بثورة اجتماعية فيها بحيث يحولها إلى نموذجه أو نموذج الرأسمالية ، بل يبقيها في بنيتها السابقة ويجري تغييرات سياسية واقتصادية بحيث تقوم بضخ المواد الأولية إليه وتغدو سوقاً لمنتجاته الخ . . لكن عمليات الإلحاق والتغيير الرأسمالية المحدودة تكون في إطار التشكيلة الإقطاعية ، أي أن التشكيلة السابقة لم تتبدل بثورة تبدل البناءين ؛ التحتي بثورة اقتصادية ، والبناء الفوقي بثورة ثقافية ، بل جاءتها عناصر رأسمالية فقامت باستيعابها في قوانين التشكيلة الإقطاعية التقليدية . إذن عدم فهم مهدي عامل للقضية المحورية وهي قضية التشكيلة يقوده إلى سلسلة من الأخطاء اللاحقة ، حيث ينفي كون الدين أيديولوجية فكرية مسيطرة في الحاضر ، لأنه نفى كون التشكيلة المعاصرة تشكيلة إقطاعية ، وبهذا لم يُدرك المهمات الفكرية والسياسية الأساسية الراهنة ، وهي تغيير التشكيلة وبناءها الفكري التقليدي . ولهذا يقوم بنقد أدونيس لأنه يقول باستمرار التشكيلة الإقطاعية ووعيها الديني الأساسي ، ( ويجب أن نقول هنا وعيها : المذهبي السياسي ) ، منتقداً إياه بأنه ينقل : [مركز الثـقل في الممارسة الإيديولوجية للصراع الطبقي ضد البرجوازية المسيطرة ، من صراع ضد إيديولوجية هذه الطبقة ، بمختلف تياراتها ، إلى صراع ضد الشكل الديني أو الطابع الديني من هذه الإيديولوجية..] ، ( 21 ) . وهنا يواصل مهدي عامل عدم فهمه وخلطه للأمور ، فأدونيس في نقده للشمولية الدينية ينقدها في ظل نظامها التقليدي الإقطاعي ، أي باعتبار الوعي الطائفي المحافظ تجلياً فكرياً واجتماعياً للممارسة الإقطاعية المهيمنة على المسلمين (والمسيحيين) ، وليس باعتبارها نضالاً ضد الشكل الديني ، أي بأنها قضية فك علاقة الدين بالسيطرة السياسية والاجتماعية الإقطاعية الراهنة ، وتشكيل منظومة سياسية حديثة علمانية . أي أن مهدي عامل يريد تجيـير النقد ضد الدين ، ويجعله بإطلاق ، وليس ضد الوعي السياسي الطائفي المستغل للإسلام في تأبيد البنية الإقطاعية المتخلفة ، وبالتالي يريد توجيه الوعي الفكري ضد البرجوازية العربية الحديثة ، باعتبارها سبب الأزمة والعائق ، أي أنه في النهاية يقوم بالدفاع غير المباشر عن الإقطاع الديني ، أو أنه بالهجوم على البرجوازية الحديثة يفتت الصفوف الموجهة ضد الإقطاع الديني والسياسي . فلنحلل أكثر التباس المفاهيم والمراحل واستراتيجيات النضال لدى مهدي عامل . يقول : [ فالعلاقة هذه التي تمنع تطور الإنتاج الرأسمالي ، في شكله الكولونيالي ، من أن يميل ، في قانونه العام ، إلى القضاء على علاقات الإنتاج السابقة عليه ، في سيطرته بالذات عليها ، هي نفسها العلاقة التي تمنع البرجوازية الكولونيالية ، في ممارسة سيطرتها الإيديولوجية / من القضاء على مختلف الإيديولوجيات السابقة على الإيديولوجية البرجوازية ، في سيطرتها بالذات .. ] ، ( 22 ) . يعتمد مهدي عامل على منطق ارسطي شكلاني يجرد التاريخ من سيرورته الحقيقية ، ويضعه في قوالب لاتاريخية ، أي لا توجد إلا في وعيه الذي يقع خارج التاريخ الحي . فهو أولاً قد أثبت انتصار الإنتاج الرأسمالي في العالم العربي ، في القرن التاسع عشر كما سيقول لاحقاً أيضاً ! لكن هذا الانتصار تم في إطار كولونيالي ، ورغم إن البرجوزايات العربية التي انتصرت على أشكال الإنتاج ما قبل الرأسمالية قد انتصرت إلا أنها مع ذلك تحافظ على الأيديولوجيات ما قبل الرأسمالية وهو ذات السبب الذي يجعلها تحافظ على أساليب الإنتاج ما قبل الرأسمالية ! فأولاً حين جاء الاستعمار إلى العالم العربي في القرن التاسع عشر ، كرس الإقطاع والطائفية والأمية ، ولم تستطع الفئات الوسطى (البرجوازية ) أن تنمو إلا بشق النفس ، وخاصة الفئة الصناعية ، وبقيت الأبنية الاجتماعية تسود فيها عبودية النساء وعدم خروجهن للعمل والإنتاج، وهيمنة الإقطاع الطائفي الخ . . وبهذا فإن نضالات الفئات الوسطى كانت تتحدد في كل بنية اجتماعية عربية ، حسب تطورها الاقتصادي الاجتماعي ، فإن تنمو فئة وسطى وتقود نضالاً ديمقراطياً كان ذلك يحتاج إلى عقود ، وليس كما يظهر في وعي مهدي عامل ، بشكل أزرار سحرية ، وكأن تشكل علاقات الإنتاج الرأسمالية تتم في الذهن وليس في الواقع الحي . أي أن الرأسمالية تحتاج إلى شروط موضوعية وهي انتشار الصناعة وانتشار العمل بالأجرة وتحرر النساء الخ . . ولو افترضنا جدلاً بنشؤ الرأسمالية الواسعة في نهاية القرن التاسع عشر ، وهذا محض خيال ، فإن أشكال الوعي الدينية ، المرافقة للتشكيلة الإقطاعية ، لا تنهار بسهولة كبيت من ورق . إن الوعي الديني المترافق مع التشكيلة الإقطاعية العربية تأسس فوق بنية زراعية / حرفية / رعوية ، وداخل صراعات اجتماعية ( قومية ) ومناطقية ، وقادته الصراعات السياسية الاجتماعية إلى الانقسام المذهبي الكبير في عصر الثورة والمعارضة ، بين التيارات المحافظة والتيارات المعارضة ، بين التيارات الإقطاعية الناجزة وتيارات الفئات الوسطى الفاشلة ، ثم إلى الانقسام المذهبي الكبير الثاني حين انتصرت التيارات والدول المحافظة ، أي الانقسام بين السنة والشيعة . إن هذه السيرورة الاجتماعية الإيديولوجية المتلونة بمراحلها وآثارها لا يمكن أن تزول آلياً مع الانتصار الموهوم للرأسمالية كما يظن مهدي عامل ، بل إن هذا البناء الفوقي يحتاج إلى قرون لكي تتم زحزحة خطوطه المتكلسة ، ولكن الأمر أعقد من ذلك لأن هذا البناء الفوقي يتأسس تحت بناء قاعدي لم يتغير كثيراً . وكما أوضح شاكر مصطفى في عبارته الهامة التي اقتطعاها مهدي عامل ورفضها ، بأن النظام الإقطاعي العربي الديني تتداخل فيه مسألتي السلطة والُملكية ، أي تتواشج فيه جوانب من البناءين التحتي والفوقي ، فالمسيطرون على الثروة والملكية العامة والأوقاف الخ . . هم الإقطاعيون السياسيون والدينيون ، وهو أمر يتمظهر مذهبياً في البلدان ذات المذاهب المتنوعة ، ودينياً في الأقطار الإسلامية ذات الاختلاط مع المسيحية ، وهذه الهيمنة الإقطاعية تظهر على شكل مَلكيات استبدادية وهو أمر استمر حتى منتصف القرن العشرين في بعض الدول العربية وليس في أغلبها ، وعلى شكل جمهوريات رئاسية أو ملكيات لم تستطع أن تـُنجز مهام الثورة الوطنية الديمقراطية المكتملة ، أي في جميع الأقطار العربية الإسلامية حتى الوقت الراهن . يحكم مهدي عامل على البرجوازيات العربية منذ تشكلها وصراعها ضد الإقطاع والاستعمار ، بحكم سياسي واحد ، فبعد أن شكلها بشكل ناجز في ذهنه فحسب ، وبعد أن شكل الأنظمة الرأسمالية العربية في وعيه فحسب ، غدت متطابقة مع البرجوازية الاستعمارية المسيطرة وبالتالي غدت منذ البدء عدواً . لهذا فإنه لا يقرأ سيرورتها الفكرية والاجتماعية وبالتالي مراحل تطورها ومن هنا لا يرى فرقاً بين ( ما نراه في أيديولوجيتها من مفاهيم ” عصرية ” ليبرالية ، وما نراه أيضاً في بدء ” تاريخها الإيديولوجي ” من مفاهيم أرادت أن تكون مثيلة مفاهيم الثورة الفرنسية البرجوازية ، كما هو الأمر عند رفاعة الطهطاوي ولطفي السيد وغيرهما ) ، ( 23 ) . ومهما كانت عدم الدقة في المطابقة بين آراء الثورة الفرنسية وآراء الطهطاوي ولطفي السيد ، فإن عدم رؤية أهمية آراء المنورين العرب في ذلك الكهف الإقطاعي التي كانت ولا تزال الشعوب العربية تحاول الخروج منه ، فذلك يدل على وعي الأرادوية الذاتية ( الثورية ) في إلغائها للقوانين الموضوعية للتطور الاجتماعي ، مثلما تفعل في مسألة الوعي بالتشكيلة وبالوعي المهيمن فيها ، حيث يلغي مهدي عامل أهمية أفكار البرجوازية النهضوية ويثبت آراء الإقطاع الديني ، فيقول بأن الإيديولوجية الدينية : ( ليست هي الإيديولوجية المسيطرة ، أو التيار الإيديولوجي المسيطر في الإيديولوجية المسيطرة ، أو أيديولوجية البرجوازية الكولونيالية المسيطرة ) ، ( 24 ) . إذن إنه في عدم وعيه بسيرورة الإقطاع السياسي الديني في الماضي : بقوانين تشكله وصراعاته وظهور الفئات الوسطى بين أشداقه وأسباب انهيارها وغلبته ، فإن مهدي عامل لا يرى قوانين استمراريته وانهياره في العصر الحديث العربي ، وأسباب ضعف الفئات الوسطى ، وصراعها معه ومع الاستعمار. إن عدم رؤية قوانين البنية الاجتماعية في الماضي ، هي ذاتها تتجلى في عدم رؤية قوانينها في الحاضر ، ويقود ذلك إلى عدم رؤية قوانين التشكيلة الإقطاعية عامة ، خاصة عملية تفكيكها وتغييرها المعاصرة ، وإذا أحلنا آراء مهدي عامل الفكرية العامة إلى الميدان السياسي ، فيعني ذلك تقوية الإقطاع . فعدم تثمين مقاومات الفئات الوسطى في الماضي والحاضر ، وتشكيل جبهة سياسية تحديثية واسعة ، تراكم الوعي النهضوي وتقود في الخاتمة إلى الثورة أو القطع مع المنظومة الإقطاعية ، واستبدالها بمنظومة حديثة ، يعني تصفية القوى النهضوية وتفكيكها ، وبالتالي تصعيد الإقطاع في مستويات البنية المختلفة . علينا أن نرى إن ثمة عدم دقة تحليلية للإقطاع المذهبي وتطوره في التاريخ العربي لدى أدونيس كذلك ، أي أن أدونيس لا يرى الجذور الاجتماعية لتشكل الحداثة قديماً وحديثاً ، التي تؤسسها الفئات الوسطى العربية ، ولكنه يقترب من هذا التحديد بشكل أفضل من مهدي عامل، الذي يقول عن ذلك : ( لكن المنطق الذي قاد أدونيس إلى عدم رؤية هذا الطابع الطبقي المميز للصراع الإيديولوجي في واقعنا الراهن ، هو تلك المعادلة الرابعة التي أقامها بين علاقات الإنتاج السائدة في الماضي وعلاقات الإنتاج القائمة في الحاضر. .) ، ويضيف مهدي عامل : ( أما أن تكون هذه العلاقات الموروثة نفسها هي هي العلاقات القائمة حالياً ، فهذا ما لا يمكن للمنطق العلمي أن يقبل به ، برغم وجود الانسجام الداخلي في منطق أدونيس..) ، ( 25 ) . ومن المؤكد إن الإقطاع العربي الكلاسيكي القائم على ملكية الأرض الزراعية والخراج ، لم يعد شاملاً ، لكن مهدي عامل لم يقم بدرس العلاقات الاقتصادية العربية الحديثة ، وكيف أن ملكية الدولة لوسائل الإنتاج تمثل شكلاً إقطاعياً حين تغدو تابعة بالوارثة لأسرة أو جماعة سياسية ، بدلاً من أن تكون هذه الوسائل بضاعة متداولة ، ولهذا ثمة استمرارية كبيرة بين حقول النفط وحقول الزراعة ، وبين الآثار الاقتصادية والاجتماعية التي تتركها في تقوية الإقطاع الأسري والحزبي الخ . . ونعرض ذلك كمثال عابر فقط ، من أجل أن نرى استمرارية الحياة التقليدية ، وبالتالي فإن الحكم العام الذي يطلقه أدونيس باستمرار الوعي التقليدي وهيمنته لا يجانب الصواب . إن أدونيس إذن عبر تلك الفقرة التحليلية يقربنا من رؤية البنية الحقيقية للحياة العربية ، فيما يعمل مهدي عامل على إخراجنا من تلك البنية وإدخلانا في بنية موهومة من قراءته ومعايشته للحياة الغربية ، فيريد نقل مهمات الصراع الطبقي فيها، إلى بلدان متخلفة ، تشكو من قلة البرجوازية والعمال والتصنيع ، دون أن يحاول العودة إلى مصادر أدونيس في قراءة المجتمعات العربية ، في كتابه (الثابت والمتحول) خاصة . في إحدى الفقرات من كتابه ( أزمة الحضارة العربية أم أزمة البرجوازيات العربية ؟ ) ، يقر مهدي عامل ضمناً بسيادة العلاقات الإنتاجية والاجتماعية التقليدية وهو يرد على أدونيس فيقول : ( إن وجود هذه العلاقات السابقة في البنية الاجتماعية الكولونيالية لا يعني أنها العلاقات السائدة في هذه البنية ، حتى وإن كانت هي تنتشر على القسم الأعظم من السكان ، كما هي الحال في الهند مثلاً، أو في كثير من البلدان العربية . .) ، ( 26 ) . إنه يعتبر الإنتاج التابع شكلا تاريخياً محدداً من الإنتاج الرأسمالي ، فمهما كانت الأشكال ما قبل الرأسمالية منتشرة فإن ما يحدد توجه التطور هو النمط الرأسمالي . وبطبيعة الحال لا يمكن أن نأخذ بهذه الجمل إلا عبر تحليل للأبنية الاقتصادية الاجتماعية المحددة في كل بلد ، فرغم أن التطور الرأسمالي هو تطور عالمي عاصف ، إلا أن كل منطقة وبلد لهما خصوصياتهما ، أي أن الأمر يعود لتطور التشكيلات وتاريخها ، وتناقضاتها الداخلية ، فالتشكيلة الإقطاعية العربية الإسلامية ، عبر سيطرة مختلف الدول الاستعمارية على أقطارها المتعددة ، لم تقم هذه الدول الاستعمارية برسملتها بشكل شامل ، وحتى بعد مختلف الثورات الوطنية فإن المسألة الديمقراطية لم تـُحل ، أي أن هذه الأنظمة ظلت على بنياتها الإقطاعية المذهبية ، وظلت الدولة طائفية واللامساواة بين المواطنين سائدة ، وظلت قوى ما قبل رأسمالية تتحكم في الثروة العامة الخ . . لكن مهدي عامل لا يرى ذلك ، بل يرى إن هذه الأنظمة أنظمة رأسمالية فيجب أن : ( يرفض الدولة البرجوازية ، أي هذا الشكل التاريخي الطبقي المحدد من الدولة، ويرفض علاقات الإنتاج البرجوازية الخ . .)، (27). كما أن القوى العاملة مدعوة ( لممارسة العنف الثوري ، من حيث هو عنف طبقي ، بأدواتها هي وبمنطقها هي وبنظامها هي ، من أجل القضاء على سبب وجود العنف الذي هو المجتمع الطبقي ) ، ( 28 ) . إن مهدي عامل لا يقول ذلك في فرنسا والولايات المتحدة ، بل في لبنان وسوريا والعراق والجزيرة العربية ، فبدلاً من معرفة ما يحدده شاكر مصطفى وأدونيس من دولة استبدادية طائفية إقطاعية متخلفة ، يقوم مهدي بصناعة دولة موهومة هي الدولة البرجوازية ، وقد اكتملت علاقات الإنتاج الرأسمالية فيها ، وبين النموذج الواقعي الذي يرفض الدخول فيه وتحليله ، يجر نموذجاً آخر ويريد مجابهته ، وهذا الجر يخلق مهمات سياسية وعسكرية مختلفة ، فهو هنا يريد إزالة البرجوازية بالقوة ، فتتحول هذه الكلمات في يد اليساري اللبناني إلى سلاح ، ويغدو كل الفلاحين المقتلعين من الجنوب والنازحين على المدن والفقراء ، جيش الثورة البروليتارية في مواجهة البرجوازية . إن مهدي عامل بعد أن حول المجتمع المتخلف الطائفي التابع الجائع إلى المصانع والبرجوازية إلى ( مجتمع برجوازي مأزوم بسيطرة هذه البرجوازية ) ، لم تعد المهمة سوى اقتلاع هذه البرجوازية لكي تحل الأزمة ، وهكذا يُفتح الطريق للحرب الأهلية اللبنانية من البوابة النظرية . لا يعني ذلك بأن توصيفات أدونيس للمجتمع العربي التقليدي متكاملة ولا أن الحلول التي يطرحها لتجاوز أزمة المجتمعات العربية التقليدية ، فهي كذلك تعاني من عدم فهم سيرورة التطور العربي . إن أدونيس يقول حسب رواية مهدي عامل بأن ( شخصية العربي ، شأن ثقافته ، تتمحور حول الماضي / القديم ) . وأنه في الحضارة العربية ( لما انتفى الفرد في الموضوع وتغرب عن ذاته في الجماعة أو الدولة أو السلطة أو النظام … كان الاتباع ، وكان التخلف ، وكان حاضر الإنسان العربي أو ماضيه ) ، ( 29 ) . نستطيع أن نقول بأن مقاربة أدونيس للتشكيلة الإقطاعية تركز هنا على غياب الوعي الفردي ( البرجوازي ) ولكنه يجعله مطلقاً ، والمسألة ليست مسألة انتفاء الوعي الفردي فهذا مظهر للبنية الإقطاعية التي جعلت الفئات الوسطى تابعة لها ، ولكنه وهو حين يشير إلى ( تلاشي ) الفرد المبدع أو هيمنة التقليد في الحضارة القديمة ، فهو يشير إلى شيء موضوعي لم يتبينه تمام التبين ، وهو سيطرة الهياكل الإقطاعية العامة الاقتصادية والاجتماعية والإيديولوجية ، ولهذا فإن الفردية، وتوسع الفئات الوسطى الحرة ، وبالتالي انتشار الإبداع لم يحدث بصورة جذرية ، وقد تتبعنا ذلك في قراءات سابقة ، وبينا جذور الفئات الوسطى وارتكاز قواها الأساسية على الدولة الإقطاعية . وبهذا فإن الفئات الوسطى العربية في الماضي والحاضر ، لم تستطع أن تتحول إلى طبقات برجوازية كلية ، وهذا بخلاف رؤية مهدي عامل التي تقول بأنها وُلدت كبيرة ناجزة بفعل الأزرار السحرية الغربية ، ولكنها بعد كما يقول أدونيس كذلك لم تستطع حتى الآن أن تزيح الاتباع وتنشر الحرية بشكل شامل ! تلخيصاً وتطويراً لما سبق ، يقيّم مهدي عامل تقييماً سلبياً الجوانب التي يتلمسها المفكرون المنبثقون من الفئات الوسطى الحديثة والتي تميل لتشكيل النظام الرأسمالي الحديث بكل قسماته ، فمهدي عامل يقوم بإزاحة لهذا المجتمع التقليدي الحقيقي المرفوض من قبل هؤلاء المفكرين ، ويضع بدلاً منه توصيفات مستقاة من تطور أعلى ، هو تطور البلدان الرأسمالية المتطورة ، ويضع المهمات التي تواجه الطبقات العاملة في هذه البلدان الرأسمالية المتطورة ، والتي تعالج مهمات تاريخية مختلفة ، وبدلاً من تشكيل جبهات موسعة للقوى الحديثة والديمقراطية لإزاحة التشكيلة الإقطاعية الطائفية العربية ، فإن يوجه القوى ضد أحد الأجنحة المهمة في عملية التغيير الديمقراطية ، ولهذا فهو يجعل ممثلي القوى الليبرالية والعقلانية الفكرية في الندوة المذكورة ، كخصوم ألداء وليس كحلفاء في معركة واحدة ضد تشكيلة تجاوزها التاريخ . وهذا يقوده لعدم تثمين الأحكام الموضوعية التي يطرحها هؤلاء المفكرون والباحثون، وعدم الاستعانة بهذه المواد الفكرية الثمينة لتطويرها عبر المنهج المادي الجدلي ، ورؤيتها في سياق التشكيلة الحقيقية . ولكن مهدي عامل دخل في قراءة التاريخ بذاتية ثورية تـُسقط رغباتها على التاريخ الحقيقي ، بدلاً من اكتشاف تطوره ، فكان ابتكاره لمقولة ( أسلوب الإنتاج الكولونيالي ) بداية لخرقه أساسيات المادية التاريخية ، حول أساليب الإنتاج المحددة والُمكتشفة ، وهذا الخطأ المحوري قاده إلى سلسلة من الأخطاء النظرية في تحليل الجوانب المحددة في تطور التشكيلة الإنتاجية العربية ، السابقة الذكر، فهو قد اعتبر علاقات الإنتاج الرأسمالية مُـنجزة في حياة المجتمعات العربية منذ نهاية القرن التاسع عشر ، وهذا ما دعاه إلى عدم تثمين حلقات التنوير المتعددة التي قامت بها الفئات المتوسطة العربية ، في الماضي والحاضر ، ثم الدعوة إلى خلق اصطفاف حاد إلى معسكرين رأسمالي تجاوزه التاريخ ، وعمالي يجب انتصاره . وكان هذا خرقاً للمهمات الحقيقية لقوى الثورة والتغيير العربية التي تواجه تشكيلة متخلفة ، ولكن الخطوط الفكرية التي طرحها مهدي عامل كانت تتضافر ووضع دولي مواتٍ ، مما جعلها في حيز التنفيذ ، ولكن النتائج المترتبة على هذه الخطوط النظرية والسياسية كانت كارثية خاصة على البلدان التي طبقتها بشكل عنيف ، وأهم هذه النتائج إن القوى السياسية ما قبل الرأسمالية ، والمذهبية الاجتماعية ، هي التي استفادت من تناحر القوى الحديثة ، وهي التي برزت إلى السطح والفاعلية ، حيث ساعدتها عوامل أخرى ، مما أوضح بشكل جلي بأن مهمات حركات التغيير العربية لا تزال مواجهة الأبنية التقليدية ، وضرورة عدم التحالف مع هذه القوى التقليدية وابرازها ، رغم السهولة التي تبدو بها عمليات التحالف مع هذه القوى الماضوية ، وضرورة تكريس تحالف الجبهة النهضوية التحديثية الديمقراطية ، حتى لو كانت الصعوبات جمة في طريق تشكيله وتعزيز عناصره الديمقراطية والعلمانية . لكون التحالف مع القوى التقليدية وتعزيزها هو تقوية للتشكيلة الإقطاعية وسيرورتها الطويلة في الحياة العربية ، لأنها تشكيلة متكاملة ومتجذرة ليس في الحياة السياسية ولكن أيضاً في الحياة الاجتماعية والفكرية . ونظن لو كان المناضل والمفكر مهدي عامل حياً ، لكان قد راجع الكثير من أفكاره ، التي كان يعززها حينذاك وضع عالمي مختلف .
المادية التاريخية والمثالية
إن عجز المادية التاريخية هنا أن تفهم التطور الموضوعي بقوانينه هو عملية إسقاط لمقولات سياسية على الواقع ، على المادة الموضوعية ، فتغدو ثمة هوةٌ بين المادية الجدلية والمادية التاريخية ، فيغدو الوعي الذاتي هو أساس الوجود ، فيقتربُ هنا من شكل الوعي الديني ، فيصيرُ نصاً سابقاً للمادة ، ثم يتحجر في نصوصيته ، ومع عملية ارتباطه بالاستبداد سواء داخل المنظومة ( الاشتراكية ) أو داخل الحزب ، ينفصل عن المجرى الموضوعي للتطور . وعلى مستوى المعسكر ( الاشتراكي ) يغدو هذه الوعي المسيطر على دول تفقد قدرتها أن تطور القطاع العام ، معبراً عن الفئات الطفيلية داخل الأجهزة البيروقراطية ، التي تنتقل إلى فكر رأسمالي طفيلي ( المافيا ) ، وعلى مستوى الوعي النظري تنهار النظرية المادية ، وتتقارب مع المذاهب الدينية المسيطرة ، وهذا يحدث في الأحزاب التابعة لمثل هذا الوعي التي تستورده ، وغير القادرة على إنتاج وعي للمادية التاريخية في تطورها القومي الخاص . إن مشكلات المادية التاريخية هنا هي مشكلات للمادية الجدلية كذلك ، فهي عجزت عن فهم التاريخ عبر المادية ، وأحلت أفكارها الذاتية بدلاً من قراءتها للقوانين الموضوعية . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ المصادر : ( 1) : ( يتعرض كارل ماركس في مقدمة الطبعة الأولى من كتابه رأس المال إلى أهمية الإجراءات الإصلاحية في الدول الرأسمالية المتطورة فيقول [ وهكذا ، وإلى جانب بواعث ما أكثر سمواً ، فإن المصلحة الملحة جداً للطبقات السائدة حالياً تحتم إزالة كل ما يمكن إخضاعه للضبط التشريعي من عقبات تعرقل تطور الطبقة العاملة ] ، رأس المال ، المجلد الأول ، دار التقدم موسكو ، 1985 ، ص 14 – 15 ) . ( 2 ) : (من كتابه خلاصات في السياسة والفكر السياسي في الإسلام ) . ( 3 ) : ( نفس المصدر ، ص 48 . ) . ( 4 ) : ( المصدر السابق ، ص 53 . ) . ( 5 ) : ( المصدر السابق ، ص55 ) . ( 6 ) : ( المصدر السابق ، الهامش ص55 ) . ( 7 ) : ( فصول من التاريخ الإسلامي ، ص 55 ، 56 ، الهامش 22) . ( 8 ) : ( حوار الحاضر والمستقبل ، هادي العلوي ، دار الطليعة الجديدة ، دمشق، ص 24 . ) . ( 9 ) : ( أزمة الحضارة العربية أم أزمات البرجوازيات العربية ؟ ) ص 16 ، ونعتمد على الطبعة السابعة للكتاب الصادرة عن دار الفارابي ببيروت سنة 2002 . ( 10 ) ، ( 11 ) : ( المصدر السابق ، ص 21 ) . ( 12 ) : ( المصدر السابق ، ص 53 ) . ( 13 ) : ( المصدر السابق ، ص 39 ) . ( 14 ) : ( المصدر السابق ، ص 43 ) . ( 15 ) : ( المصدر السابق ، ص 54 ) . ( 16 ) : ( المصدر السابق ، ص 54 ) . ( 17 ) : ( المصدر السابق ، ص 34 ) . ( 18 ) : ( المصدر السابق ، ص 73 ) . ( 19 ) : ( المصدر السابق ، ص 74 ) . ( 20 ) : ( المصدر السابق ، ص 76 – 77 ) . ( 21 ) : ( المصدر السابق ، ص 78 – 79 ) . ( 22 ) : ( المصدر السابق ، ص 81 ) . ( 23 ) : ( المصدر السابق ، ص 82 ) . ( 24 ) : ( المصدر السابق ، ص 82 ) . ( 25 ) : ( المصدر السابق ، ص 85 ) . ( 26 ) : ( المصدر السابق ، ص 87 ) . ( 27 ) : ( المصدر السابق ، ص 104 ) . ( 28 ) : ( المصدر السابق ، ص 105 ) . ( 29 ): ( المصدر السابق ، ص 97 ) .
عادتْ كتلُ البرجوازيةِ الصغيرة لطائفيتيها الشيعية والسنية. بلدانُ عدمِ النقاء المذهبي، بلدان التجمعات المذهبية المتعددة فشلتْ في تطوير تجارب ديمقراطية، كما يتضحُ في العديد من البلدان ذات الإصطفافات الطائفية الحادة. جرى هذا على مستويي الوعي السائد وعلى مستوى الوعي العامي. الوعي المذهبي السني في بعض البلدان العربية إندمج بالمؤسسات الحكومية، عاجزاً عن خلق مسافة بينه وبينها، وحين يخلق مسافة تغدو أشبه بإنتحار على طريقة القاعدة، فلم يندمج بالأشكال المتعددة لليبرالية الأقرب إليه ويطورها بعدم مفارقة جذوره كذلك. وكلُ بلدٍ له بنيتهُ الاجتماعية التي تخلقُ حراكاً مختلفاً عن البلدان الأخرى، لكن قانون التطور فيها يعتمدُ مدى تداخل الطائفة السائدة بالوعي الديمقراطي الحديث، وهكذا نجد مصر تصارع التطرف على مستوى الوعي المذهبي السني عبر الإبتعاد عن قوى العنف، وعبر الإبتعاد عن السلفية الحربية، وعبر التقارب مع الليبرالية واليسار الديمقراطي، وإذا حدث ذلك فإن الكتلة المسيحية الدينية السياسية تقترب هي الأخرى من هكذا تعاون وسطي وتقارب ديمقراطي وطني. الطائفة السنية ذات الأغلبية بالمقاربة مع الحداثة تؤسسُ شيئاً جديداً، هذا سيكون مصير إيران بعد سوريا، فلا بد للطائفة الشيعية من مقاربة للديمقراطية التحديثية عبر مركزها المسيطر ثم يفيض ذلك على الآخرين المتأثرين بها. يصعب هذا في لبنان، ذي الفسيفساء المذهبية السياسية، التي تعبر عن تاريخ قديم مضطرب، وعن حاضر ذي مراكز مهيمنة سياسية كثيرة بعدد الطوائف وعلاقاتها. وهو الأمر المشابه للعراق ذي المراكز الثلاثة المذهبية – القومية. فهنا نقارب قوميتين آخريين إضافة للعرب وهما القومية الفارسية والكردية المؤثرتين في هذا البلد. والطائفة السنية من خلال وعيها السياسي الرئيسي عبر القوميين والبعثيين لم تستطع إنتاج وعي ديمقراطي كما حدث في مصر رغم المنعطفات والصراعات الضارية في الأخيرة نفسها، لكن العراق كان العنفُ متجاوزاً للوجود البشري وإمكانيات تحمله، وهذا يعكس جذور صراعات الأمم والطوائف والشعوب والأقليات. عدم خلق تراكمات ديمقراطية على مختلف الأصعدة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في بلدان الطوائف يقود لإنقسامات كبيرة وتفكك سياسي وطني كامل على طريقة السودان والعراق. ومن هنا نجد الكتل السياسية البحرينية تنفرز على أساس الطائفتين في الأحداث الأخيرة. التراكمات الديمقراطية المحدودة في بضع سنوات لم تكف لخلق بنية إجتماعية وطنية مندمجة، مزدهرة بالتطور على صعيد الوعي خاصة. منتجو الوعي من البرجوازية الصغيرة يتسمون دائماً بالاضطراب والانتقائية والانتهازية والبحث عن حلول جزئية وعدم قراءة للُبنى الاجتماعية الوطنية والعالمية في تطورها التاريخي. ما راكموه خلال تاريخهم السياسي – الثقافي لم يكف ليكوَّن مدارس فكرية- تعبيرية- سياسية، فهي شعارات ولمحات من الرفض الحاد أو القبول الحاد. من الأشكال الجزئية والنظرات المحدودة، والتصقوا مطولاً بالأفكار العامة للرأسماليات الحكومية الشرقية الاستبدادية المنهارة أو التي في طريقها للانهيار، وهي أفكارٌ تحللتْ وذابت، ولم ينتلقلوا لجذورها الديمقراطية، وعادوا لكونهم ذكوراً مستبدين في أسرهم وعالمهم أو إناثاً تابعات لهذا الوعي نفسه، فهمشوا الأفكار العقلانية النقدية الوطنية التوحيدية داخلهم، ولم تتطور لقدرات تحليلية لتاريخ الجماعة المذهبية أو لتاريخ الجماعة السياسية التي دخلوا فيها، أو لتاريخ البلد، فوجدوا أنفسهم في النهاية مع طائفتهم، طائفيين بيافطات متوارية خادعة. لماذا؟ لأن جماعتهم السياسية لم تتطور فكرياً، بل تحللت فكرياً، ولم يبق منها سوى الهيمنة لرؤوساء على أفراد جماعتهم غير المكرسة لأعادة نظر عميقة من الوعي، فارتفعت التبعية لدولةٍ سنية أو شيعية حسب إنتمائهم، ففصموا البلدَ سياسياً. إنهم لا يقدرون على خلق إشاراتٍ من فكرٍ ديمقراطي فكيف يراكمون وعياً ديمقراطياً على مستوى الطبقة أو على مستوى الوطن؟ التحللُ عبر الاستقالات وعبر تكوين منابر جديدة ومواقع مختلفة غدا هنا ضرورة، لأن الشموليين المذهبيين يعرقلون التطور الديمقراطي الذي لا بد أن يشق طريقه بعد تكشف لحمهم الطائفي في الشمس السياسية، وعجزهم عن التطور الفكري السياسي، ليس هذا يجري على المستوى المحلي فقط بل على المستوى الإقليمي كذلك، فالشعوب في المنطقة تتغير. إن الطالئفة السنية بمقاربتها للحداثة والديمقراطية والعلمانية نسبياً وحدوث مراكز من دول في طريقها لتداولية السلطة، تبدأ بقيادة الأمم الإسلامية مجدداً، وهذا لا بد أن يصل لطوائف أخرى، لأن (ملة المسلمين) حسب تعبير الأوائل هي تحولٌ مشترك متداخل.
الزعيم الديني عاش مثل التاجر المبتعد عن السياسة، فهو كائن بدوي قبل أن يكون كائناً مدنياً، فالمذاهب الإسلامية كانت مذاهب متحولة، والمنطقة التي كانت سنية تتحول إلى شيعية والعكس، كان العرب في ترحال مستمر وانتقالات عبر القرون، ومن هنا لم يوجد فيها شيءٌ اسمه الوطن، ولم تظهر حركات وطنية، والوطن لدى البدوي هو الخيمة والنجعة ومورد الماء والنهر والمضارب. والزعيم الديني يعطي إنتماءه للنص الديني، فهو وطنه، وهو عدة الشغل الاجتماعية والسياسية، التي تتبدل حسب التواريخ والصراعات والتحولات، وقد يعيشُ في بلدٍ غيرِ بلدهِ الأصلي لكنه يحوله إلى بلده، عبر العيش فيه دون أن ينتمي إليه إنتماءً عميقاً، وقد يعود لبلده السابق دون أن تتغير الأحكام الفقهية ولا ذاته. فلم تكن ثقافتنا الدينية السابقة ممتلئة بقيم النضال الوطني. الزعيم الديني ذو جذورٍ بدوية ترحالية، ورغم أن الركائز القومية تبقى غائرة عبر اللغة، فإن اللغة ذاتها تتبدل ويبقى الأنتماء القومي ضارباً ومضطرباً وغائماً في القاع في زمن الملة، حتى إذا أخذت البلدانُ العربية والإسلامية تتقسمُ على أيدي الاستعمار، لم تستطع الحركاتُ الدينية أن تؤسسَ الحركات الوطنية أو أن تشاركَ فيها مشاركة واسعة، ووجدتْ نفسَها غريبة لأن ثقافتها قائمة على ما هو غير الوطن، ولم تبدأ الحركاتُ الدينية بالظهور إلا حين لاحَ غروبُ الأوطانِ وتمزقها بين المذاهب. وهكذا حين تستعيدُ الأوطانُ وحدتها ستجدُ هذه الحركات نفسها خارج تاريخها التوحيدي. وإذا تنامتْ عند رجلِ الدين المشاعرُ الوطنية الفياضة فإنها لا تظهر عبر الدين بل عبر الحداثة، ولهذا تجدُ الأفغاني أو محمد عبده عميقي الوطنية، لأنهما جعلا الحداثة أداتهما في النضال الإسلامي. وقد كان سكانُ شمالِ أفريقيا العرب يستغربون بشدة أن يكون في المشرق أشخاصٌ عربٌ وغيرُ مسلمين وغير عملاء للاستعمار كذلك، نظراً لغربتهم عن الحداثة! تماهى لديهم الدين والقومية والوطنية واستمرت خريطة العالم الإسلامي القديمة في نفوسهم رغم تبدل الأوضاع السياسية ونشؤ دولٍ مستقلة، لكن هذه الكيانات تغدو لديهم مصطنعة، زائفة، والأصل هو الملة الإسلامية، فقراءتهم للإسلام قراءة بدوية عتيقة، لا تعترف بالأوطان ولا بنتاجاتِ الحضارات الإسلامية فهي لديهم مشوشة ضالة حتى بدون قراءتها وفحصها. والبدوي الديني هذا المتصحر عقلاً يعتقدُ إنه مصيبٌ في كل شيء، لحفظهِ بعض الجمل المقدسة، وعلى أساسها يريدُ أن يحكم العالم، وإذ لم يستطع ذلك دمره، فليس عنده شيءٌ اسمه تاريخ وعصور متغيرة وظروف اقتصادية وأمم وشعوب إسلامية متبدلة، ويظل يعيش في جملهِ الدينية باعتبارها هي الملة والوطن، وهي متعالية موجودة مسبقاً، تعيشُ في الفضاء المقدس، غير قابلة للنزول للأرض وفهم العالم والاحتكاك بمشاكل البشر العميقة. والإسلام لديه أحكامٌ مُبسَّطة عن الشعائر الدينية، ويعتقد إنه يتطابق وأحكام السلف الصالح كما يفهمُ السلفَ عبر تلك النصوصية المُبسّطة، التي تتركز على الديكورات الخارجية في الشكل والملابس والعلاقة مع الغير، وحين يجثم في مسرح الديكورات هذا يرضى عن نفسه أشد الرضا وينطلق في محاربة العالم الوثني. وهذه التبسيطية الدينية راحت تواجه عالماً مغايراً أصبحت فيه الوطنية أساساً للوجود السياسي، وانبثقتْ حكوماتٌ وظهرتْ أعلامٌ ملونة متعددة ومؤسسات وطنية وعالمية ومواثيق أممية، لكن الزعيم البدوي الديني لا يعبأ بهذه التغييرات والخرائط (الزائفة). فهو يريد أن يحطم ويهزأ بالزمن الراهن الذي لا يحكمهُ السلفُ ولا عقيدتهم، بل تسود فيه عقائد الكفار، وهنا يغدو من الصعب أن يفهم الوطن المعاصر، الذي هو شيءٌ مختلف عن المذهب والجمل الدينية ذات التاريخ الخوارجي غير المدني. ويبدو الحال أن الكثير من الحركات الدينية تعترف وتقر بوجود أوطان مختلفة عن بعضها البعض، لكنها في الممارسة خارج الأوطان وتتبع حركات لا تعترف بالحدود، وبالدول وظروفها المختلفة ودرجات تطورها المتباينة، مثلما فعلت الحركات الشمولية السابقة. لو وجدنا حركة دينية لها اهتمام كبير بوطنها، فإن هذا الاهتمام ليس وطنياً، فالنص الديني المقولب الشكلاني هو الوطن، فترى إن الطائفة فقط هي الموجودة في الوطن وأنها البؤرة لديها، هي القلب الذي تدق نبضاته السياسية عبره، والطائفة تتجاوز الوطن إلى أن تلغي الأوطان، وحتى هذه الطائفة تتحولُ في النهاية إلى نص، إلى كلامٍ فقهي مقدس مفصول عن مشكلات الطائفة وقضاياها وتطوراتها، ويتركز النصُ على العبادات والأحوال الشخصية حيث الذكورية المتطرفة سيدة عالم البدوي الاستراتيجية، وفي نهاية النص يقفُ الفقيهُ المحافظ، وهو بدوي متوارٍ في ملابس دينية، لم يغدُ مهاجراً مترحلاً كما في السابق، لكنه مترحل عبر البيانات التي تأتيه من زملائه رجال الدين في المراكز الطائفية المخلتفة، ويغدو المركز هو مركز الجمل الدينية المسيطرة على عقله، لا مركز المشكلات الشعبية التي يعاني منها المسلمون في كل بلد له ظروفه الخاصة! وحتى هذا المركز يمكن أن يتغير فليس المهم المركز بل الجمل الدينية. في مثل هذه الأحوال تغدو العموميات السياسية القديمة مسيطرة، فعالم الإيمان والكفر يتصارعان ولا بد من نصرة الأول ضد الثاني، والغربيون كفار فيجب مواجهتهم والدفاع عن الإيمان والوطن الذي هو وطن المسلمين سواء كان في الجزيرة العربية أم في إفغانستان أم مصر، لا فرق بين بلد وآخر، والسلاح هو ذاته يصلح لكل مكان. تمت إستعادة مناخ الحروب الصليبية عند الزعيم الديني بسبب إنه لا يفهم العالم المعاصر، وكلُ شيءٍ يرجعُ لديه لمؤامرات صليبية وغربية وأمريكية! ولهذا تجد الكثيرين من التحديثيين شكلاً هم مثل هذا البدوي الخوارجي حيث الكره العميق للديمقراطية والحداثة ومن أجل سيادة قيم الذكورة المستبدة والعداء الزاعق الشكلي للاستعمار. ونجد أن زعيم الدينيين في دولة عربية تطورت يستخدم نفس اللغة السياسية التي يستخدمها زعيم الدينيين في الريف الباكستاني، فثمة عالم مجرد محدود داخلي ثقافي يعيشه الأثنان، ولا فرق إذا تم تشريد الملايين أو عاشت هذه الملايين في المقابر أو هاجرت للصحارى، فالوطن شيء غير موجود، وتستخدم هنا عبارة مقدسة لإضفاءِ شرعية على مثل هذه الفوضى وغياب الأنتماء والمسئولية، فـُيقال كلها أرض الله. توحدُ الدفاعاتُ عن الذكورية المتطرفة والعادات العتيقة والخيمة الدينية المتجولة وقانون القبيلة، زعماءَ الدين اللاوطنيين، تغدو هي وطنهم، وتغدو الهجرة من ديار المسلمين للبادية، وإلى الجبال هي الحق، أو أن الريف المحافظ يريد فرض هيمنته الذكورية على المدن الاسلامية المتوجهه للحرية والتطور. الرعبُ من حداثة النساء والعقول هي المخاوف الدائمة للزعيم الديني، فيعرقل تطور المجتمعات الإسلامية وتوحدها وتحررها، ويجلب لها الجيوش الأجنبية، ليس هذا إلا لأنه لا يفهم الدين ولا يفهم العصر ويريدُ فرضَ قراءته المُبسّطة المحدودة في عالم كثير التعقيد والتنوع ويحتاج لخطط نضال في مستواه، ويجد الزعيم لسؤ الظروف إن لديه من البسطاء الجهلة من لا يعرف أسباب مآسيه فيتوحد بهذا الانتحار الجماعي الواسع النطاق! علاج المشكلات لدى الزعيم الديني اللاوطني هو الانتحار في حين تريد الشعوب الحياة.
يعتمد بعض إداريي الدول على المثقفين والتقنيين لكي يقدموا لهم المعلومات من أجل أن يتخذوا القرارت التي تضمن مصالحهم وسير الأنظمة. لكن المستشارين والتقنيين والمثقفين المرتبطين بالأجهزة الإدارية هذه لا يعملون فقط من أجل مصالح المتنفذين بل يعملون من أجل مصالحهم كذلك. وهؤلاء المساعدون يستعينون بنظائر أصغر منهم لكي يحافظوا على مصالح المتنفذين الكبار وعلى مصالحهم هم أيضاً، فيعمل هؤلاء كذلك على حماية المصالح العليا وعلى مصالحهم أيضاً. وهم كذلك يقومون بذات الواجبات المقدسة وهكذا دواليك حتى تصل مثل هذه الخدمات إلى أصغر موظف فيبحث عن مصالحه هو الآخر ويصير متنفذاً. إن الطواقم الوسطى من المثقفين والتقنيين التي يــُفترض فيها أمانة الضمير وعلو الواجب الوطني والديني والإنساني، تفلسف وتبرر الضمير حسب الظروف من خدمة الوطن العزيز و(الموضوعية) و(النضال القومي) والجهاد الإسلامي والكفاح العارم والشرس ضد الأمبريالية والتطرف والعمل ضدالمعارضة إلخ وكله كلامُ حق يُراد به باطل هو الهدف الشخصي المتواري العزيز! هم يعرفون كيف يتسلقون وكيف يجمعون الأموال ولا يكتفون بأجورهم التي أعطاها لهم عملهم بل يندفعون إلى كل وسيلة تقفز بهم إلى مكانة أصحاب الملايين! وهناك طرق صارت مكشوفة في عمليات التحايل هذه، بحيث إن طلبة المدارس صاروا يعرفون هؤلاء، وهو أمر يحطم الأجيال الغضة، ويدفعها إلى سبل الغواية والضلال والفساد في كل مجرى. مثقفون صغار أبتسمت لهم دنيا السذذاجة السياسية وحصلوا على رواتب عالية ليست في مستوى عملهم المحدود القيمة، فيتصورون أنفسهم فلتات تاريخية، لأن الأموال الحرام ملئت أفواههم وسدت عقولهم! إن المشكلة هنا ليست فقط في الأموال لكن هذه التخمة جعلتهم يتكاسلون ويكونون حصالات تدفعهم للكسل في عملهم البسيط المحدود وهو التبصبيغ والمدح من جهة والذم الشرس من جهة أخرى، والواحد منهم يقول إذا كانت الدولة بمثل هذا البساطة فلماذا لا أتقوى وأصير في المستقبل مثلهم بل وأرتفع عن مستواهم وأتغلب عليهم، فيكونُ هذا المــُفسَّد دولة تحت الدولة، ويفتتح الفضائيات ويشكل الأعوان ثم يتمرد ويعلن العصيان! مثل هذا الكائن الصفر ارتفع بغمضة عين فتخيل نفسه فريد زمانه ووحيد عصره، وإنه ملك إمكانيات لا يجود بها الزمان، ولا يعرف إنه مجرد بعوضة في آلة الدولة، متى ما أرادت طيرتها ومتى ما أرادت فعصتها! وآخر أُعطي المال بلا حساب ليشكل جريدة أو يؤلف كتباً زائفة أو مسروقة أو يصنع حزباً أو تجمعاً برلمانياً إصلاحيا! أو يكون مؤسسة اقتصادية، فتراه نسي مصدر المال وراح يتوهم إنه يصنع إعلاماً وسياسة واقتصاداً، فيصرف الأموال، ويقرب الجماعات ذات الامية الثقافية، التي تبحث عن خلايا العسل الدولاري وليس عن خلايا العقل والنقد، ولو كان المسئول قد صرف هذه الأموال على الأطفال المصابين بالسرطان أو الحارات الفقيرة للضوء والهواء النقي، لحصل على دعاية تبقيه أمد العمر في ضمير بلده. فالمثقفون الانتهازيون اليوم معك وغداً ضدك، حسب تدفق السائل المالي، فهم بلا ضمير ولا إله ولا مقدسات، المهم لديهم هو المصلحة الذاتية، ويستطيعون تلوين كلامهم التافه بألف لون، لكنهم لا يقدرون على قراءة شيء عميق ولا كشف مرض خطير! بدلا من إنقاذ الأطفال من الأمراض الخبيثة والأمهات من الأمية تُصرف الأموال على الخفافيش التي تريد استمرار الظلام! ولكن هذه هي عادات الدول حين تُصاب بمرض الكسل السياسي والغرور والخوف من كل المحبين والأصدقاء، فكل ناقد مستقل في نظرها خطر، والإنتهازي الكاذب المنافق هو الصدق كله، فتشرب السم في حليب الصباح! وكانت تلك المرأة تبيح كل المحظورات وفجأة تغدو من أعلام الإسلام، وزميلها كان نزيل جنوب شرق آسيا الدائم صار فجأة مرشداً إسلامياً! والجاهل صار صاحب الموسوعة الفكرية والشاعر الضحل صار مشرعاً، وكلهم أغواهم رنين الذهب! يبدلون العقائد كما يبدلون الجوارب والأحذية وكأنهم يضحكون على شعوب بلا تاريخ وبلا عقل وبلا عيون! ألم يكن تقرير اللجنة الرقابية على ما فيه من مرارة حادة أفضل من ألف قصيدة مدح للدولة؟ ألم يجعلها في مكانة أرفع وإهتمام أجل من قبل الناس؟!
تعبر المعركة الانتخابية البحرينية الواعدة عن دخول اليمين المذهبي بقوة شديدة، مع ضعف فصائل اليسار المختلفة. وهاتان السمتان تمثلان وجهي العملة، فقوة اليمين المذهبي تستندُ إلى ضعف اليسار وضعف اليسار يقود إلى قوة اليمين الطائفي بفصائله المختلفة. والفئاتُ الوسطى المرتكزة على هذا الوعي اليميني المنتشر تقود بالضرورة إلى التهاون في قضايا العمال والموظفين عموماً، فالوعي المذهبي السياسي غير ملتزم بأي برنامج لمصلحة الشغيلة، وهو عبر هذا الغموض الاجتماعي يصَّعدُ بعض افراده لحيازة المكاسب. إن الوعي المذهبي السياسي كوعي انتهازي عميق يحتاج إلى مثل هذا الغموض لعدم الارتباط بالقوى الشعبية وتغيير أوضاعها الاجتماعية، ولبقائها في خدمته. ويجرى هنا استغلال الإسلام لخلق مثل هذا الدخان الاجتماعي لتصعيد الانتهازيين. وبالتأكيد يجرى ذلك عبر الطائفية وليس عبر التوحيد الإسلامي. فنحن نتمنى أن يسيروا على درب عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب في مكافحة الاستغلال، ولكن على من تقرأ مزاميرك يا داود؟ والطائفية بحد ذاتها إعلان عن توسع تمزيق الشعب وتوسيع هذا التمزيق إلى مستويات سياسية عليا. وضعف اليسار هو الوجه الآخر لقوة اليمين، فاليسار بذيليته لقوى الطائفية، قام بتمزيق صفوفه، لعدم قدرته على الارتقاء إلى مهمات الإسلام التوحيدية، والوطنية، والإنسانية، وتبعيته للطائفيين. وتمزيق صفوفه تشكل لملاحقته الشعبية السطحية لهذه القوى، وبدغدغة عواطف الجمهور الجاهل بمصالحه، الذي يقود نفسه للكوارث، كما تشكل ذلك بالضعف التنظيمي الداخلي والصراعات الذاتية، التي شكلها أفرادٌ مرضى معقدون منفصمون عن معارك الناس، ومهووسون بذواتهم الفارغة المريضة. إن طرد هؤلاء من صفوف اليسار صار مهمة ملحة للقواعد بأسرع وقت ممكن. ومن هنا فالوعي الوطني الذي علامته البارزة هو اليسار في هذه المرحلة والمرحلة السابقة، لم يجد ممثلين بارزين له. ومن هنا ستتواصل اللعبة الذاتية في استخدام قضايا الناس لتعبئة الجيوب. كما يتضح ذلك في ضخامة أعداد المستقلين، الذين لم يحسموا الخيار التاريخي بالصراع الوطني ضد الطائفيين وضد الاستغلال على أغلبية الناس والعاملين؛ والذين يتمسحون بأذيال الطائفيين لتصعيدهم إلى الكراسي، وليس في نضالهم من أجل مصالح الجمهور، التي تترابط مع النضال الوطني ومع قيادة اليسار في هذه المرحلة من التاريخ. وأقول اليسار لأن الفئات الغنية العليا صمتت عن الكفاح خلال العقود السابقة، ومن يحمل خطها الآن في المعركة، لم يثبت موقفه بشكل ملموس ومتجذر في الأرض. ومن الواضح أن قوى التضحية تضعف مع ضخامة الجهل الشعبي، ولهذا فمن الصعوبة في هذه المرحلة هزيمة القوى الطائفية، لكن يجب عدم الاعتماد عليها حتى في هذه المرحلة؛ وبضرورة عدم خداع الناس بأن هؤلاء سيفعلون أشياء مهمة؛ والخوف أن يفجروا معارك مجانية داخل البرلمان، فنرجو أن يواصلوا التعقل الذي بدأوه مؤخراً بالركون للوحدة الوطنية والنضال السلمي الداخلي المتأني. وتتضاعف المسئولية في الخليج مع طرح الملف النووي الإيراني وما سوف يحدثه من كوارث على المنطقة. إن ظهور برلمان وطني توحيدي يكرس نفسه للولاء الوطني ولا يكون تابعاً لقوة سياسية خارجية يصعد الأزمات والصراعات تبعاً لريموت كنترولها، هو الخندق الأساسي الذي يجب أن نصطف فيه، مدافعين عن التطور الديمقراطي الداخلي في أي بلد، وبضرورة رفض التدخلات الأجنبية وإعطاء الشعوب حقوقها كذلك. إن مهمات النضال الوطني التوحيدي ومعالجة المشكلات الكبيرة من تدني الأجور وسياسة سيادة العمالة الأجنبية وضخامة تلوث البيئة وعدم وجود تخطيط عمراني — اقتصادي متكامل الخ، ان كل هذه المهمات وغيرها يجب أن تكون بؤرة عمل البرلمانيين. لكن توجه المذهبيين السياسيين هو توجه طبقي بخدمة شرائح صغيرة في المجتمع.
تعود أسباب انتشار الانتهازية في اليسار إلى عجزه الفكري عن التحليل، وفي الحياة السياسية تمثل تلك انتهازية من قبل القوى القيادية فيه، لمشاركة قوى الاستغلال في شيء من غنائم المال العام. وهكذا يتم غض النظر عن جوانب والتركيز على جوانب، بهدف إظهار حسن النوايا سواء للإقطاع المذهبي أو السياسي، بحيث تبدو وجهة النظر المساقة متفقة مع نضال الشعب والديمقراطية والوطنية الخ، لكن من يطلقها يحسب حساباً طبقياً استثمارياً فهو يهدف لخدمة مصلحته. حين يهاجم الدينيين بقسوة فهو يقصد هنا إظهار نفسه تحديثياً رسمياً وإنه يصلح للارتفاع إلى مقام الموظفين الكبار، وحين يهاجم الرسميين بقسوة مماثلة يريد مغازلة الدينيين لكي يصعدوه إلى مراتبهم العلية. وتتشكل هنا أقسام جزئية أخرى داخلية ضمن هذا التعدد السياسي والطائفي المتنوع، فهذا يغازل طائفة وآخر يغازل طائفة وثالث يغازل جناحاً في السلطة وآخر يغازل جناحاً آخر، وخامس يغازل جناحاً في الجماعة المذهبية المنشقة وهكذا دواليك يقوم هؤلاء بجرنا إلى الخراب الطائفي.. وبدلاً من نشر الوعي الديمقراطي بين الناس كوعي أساسي يجري نشر الوعي الشمولي وتغليب العناصر الانتهازية.. إن الذين أيدوا إنجازات التحولات نسوا سلبياتها لأنهم قبضوا ثمن السكوت عن السلبي وركزوا على الإيجابي..! والذين ركزوا على السلبي سرعان ما قفزوا لاستثمار إيجابياتها دون ذكر هذه الإيجابيات، لأن الجمهور الذي صنعوا وعيه على كراهية النظام لا يستسيغ مثل هذه القفزة البهلوانية! وهو إذ يريد معارضة السياسة السائدة يريد تحولات في رواتبه ومساكنه وأحجام عمالته، لكن الذين يتسلقون على نضاله ومشاعره يريدون الوصول لأهدافهم الخاصة مع بعض البهارات النقدية. وإذ استطاعت قوى اليمين أن تزيف تحركاتها الاستغلالية تحت غطاء كثيف من البخور الديني، لكن قوى اليسار تاهت ووضحت انقساماتها القائمة على الأهداف الذاتية، فشاركت في التقسيم الطائفي وتعميقه بين فئات الشعب المختلفة. وصار الوصول للكراسي بديلاً عن إنتاج ثقافة سياسية ديمقراطية تحديثية توزع على كافة السكان، لأن التقلبات في السيرك السياسي كانت كبيرة لا تتيح خلق وعي، فيظهر موقف حاد ثم يعقبه موقف مناقض، ولا تردم الهوة بين الموقفين من خلال مواقف عقلانية صبورة في كل المواقف. وهذا كله يفتت جبهة المعارضة وجمهورها الذي يبدأ بالانحساروالتشتت والتمزق وربما التضارب مستقبلاً! وظهر هناك اتجاهان أساسيان في اليسار الاتجاه الأول هو اتجاه انتهازي، ويتوجه لدعم اليمين الديني، مقابل رشوة سياسية، واليمين الديني أثبت خواء تجربته السياسية سواء لدى المقاطعين أم المشاركين، بل وخطورة تسيده على القوائم والكراسي، لما يقود إليه من أخطار. والاتجاه الثاني حائر متصارع متذبذب، بين حدة في الهجوم على التيارات الدينية اليمينية، وبين الخشوع لهجومها الخطر على التقدم الوطني. والاتجاهان يكملان بعضهما، وهما نتاج خطة خفية مشتركة، تمهد الدروب للمتطرفين الدينيين لكي يتقاتلوا ويخربوا..
تنبع الديمقراطية من احترام تقاليد الشعوب، وتشكيل أبنية تحديثة من داخل هذه التقاليد، تعكس مصالح الأغلبية الشعبية فيها، وهذه عملية مركبة، لأنها فيها احترام وصراع مع هذه التقاليد كذلك. ومنها تصعب على القوى الانتهازية أن تشكل هذا الموقف المركب، فهي تأخذ جزءً منه، وتترك أجزاءَ أخرى. فالعلمانية حين تغدو انتهازية تصبح تابعة للمذهبيين السياسيين في جانب سياسي جزئي، هو التماشي مع هدف المذهبيين في تكوين ديمقراطية سياسية، تقتصر على جوانب صغيرة من الحياة، هي تلك التي تتيح صعودهم السياسي وتحولهم إلى قوة دكتاتورية في المجتمع، وحينئذٍ يكون مثل التأييد والتصعيد خطراً على الديمقراطية! لو كان هذا الصعود يترافق وعمليات ديمقراطية فقهية وتحرر للنساء ونمو ثقافة وطنية، وصعود للفلسفة، وللنقابات الحرة، لما كان هذا الصعود يمثل خطراً. تغدو العلمانية هنا انتهازية، وليست موقفاً شاملاً، وتسلقاً على موجةٍ شعبية ملتبسة، تسيطرُ عليها قوى محافظة غير مدركة لتعقيدات الموقف وغير قادرة على مجاراة عملية تحرر المسلمين وتقدمهم، ومن هنا حين يحاول بعضُ القادة ركوبَ الموجة فإن مسائل ذاتية تتغلب عليهم هنا، ويغدو هدفهم الشخصي طاغياً على مستقبل المجتمع. مثلما أن العلمانية التي تجعلُ أوراقَ التحديثِ والتحرر كلها بيد الغرب، تمثل موقفاً معاكساً، ومماثلاً في الجوهر. إن المميزات المشتركة بين هذين النمطين من العلمانية هو غياب ذلك الموقف المركب، المرتكز على مصالح الأغلبية، وعلى جذور الكفاح لدى المسلمين والمسيحيين العرب وكل التراث السابق في المنطقة، حيث لا يمكن لهذه العلمانية إلا أن تنهض فوق تلك المصالح وذلك التراث، ولكن بشكل نقدي يعري طبقات التخلف واللامساواة والاضطهاد، ويجمع تلك الأغلبية في موقف نضالي مشترك واسع وعميق. ومن هنا يغدو عزل الجوانب المحافظة والمتخلفة في المذاهب، وتطوير الجوانب العقلاينة والديمقراطية والتوحيدية في التراث، ورفدها بإنتاج الإنسانية المعاصر الديمقراطي والإنساني، عملية سياسية بالغة الدقة، وموضوعية، لا تهدف إلى تسلط طائفة أو زعيم، بل تستهدف تجميع الناس التعاوني والخلاق لتشكيل وطن حر متقدم، يكرس كذلك احترام تقاليدهم ومذاهبهم وتطورها الحديث، بحيث أن لا تمثل تسلطاً على المجتمع أيضاً وعلى تنميته وتقدمه ووحدته. ولهذا تحتاج العملية إلى سياسيين فقهاء علماء، أي سياسيين علمانيين إسلاميين شعبيين ديمقراطيين، في هذه العملية المركبة الدقيقة. ومن هنا يغدو نفخُ جانبٍ واحد كالتعصب لمذهب، أو لجهة عالمية، تديناً ناقصاً، أو علمانية انتهازية، تكرس التخلف والتبعية لا التحرر والتقدم.