كتب: عبـــــــدالله خلـــــــيفة
على مدى أعوام طويلة من الدرس والتحليل للتاريخ والتراث العربي أقتربت من تلمس محاور عميقة ، بل وسببيات جوهرية لتشكل التاريخ الإسلامي ، ولكيفية إنبثاق الثورة الإسلامية الأولى والمرجعية الكبرى للمسلمين ، عبر العوامل والسببيات البشرية ، فهناك العامل الأول وهو وجود طبقة متوسطة حرة ، غير تابعة في نشاطها الاقتصادي للقوى الأجنبية ، وتقوم هذه الطبقة التجارية ـ المالية الحرة بالتحالف أو بالتعاون الوثيق مع الفقراء لتغيير قمة الهرم في سلطة المدينة [ الملأ ] ، وينتقل التحالف الاجتماعي بين الطبقة الوسطى والعاملين ، ليكون على مستوى الجزيرة العربية ، بجذب الجمهور الرعوي الكبير إلى حركة الفتوح . وهناك أيضاً العامل الثالث الجوهري وهو قيام الإسلام ، أو هذه الحركة التغييرية الكبرى في التاريخ ، بنقل العرب من ما قبل الحضارة ، إلى تشكيلة اقتصادية متقدمة تتجاوز العبودية العامة كتشكيلة قائمة منذ الحضارة الرافدية والفرعونية ، ليس على مستوى البنية الاجتماعية داخل الجزيرة العربية ، بل في المشرق العربي والعالم الذي يُعرف الآن بـ[ الإسلامي ].
إن سمات هذه الحركة التحويلية الكبرى في التاريخ على مستوى الفعل السياسي ، هي إقامة التوحيد الجماهيري الواسع ، بالربط بين الطبقة القائدة الطليعية والجمهور العامل ، وإحداث التوحيد والتحرير والتغيير على مستوى الأقليمي الواسع ، وتبديل الخريطة الدولية بالتالي.
والعملية التوحيدية والتحالفية النهضوية تتشكل في مسار تطوير حياة الجمهور المادية والفكرية ، وهو القوة التي تخلق التاريخ على الأرض.
هذا ما يمكن أن نقرأه بشكل سياسي من التاريخ العربي ، لنرى عدم تكراره ، أو عجز العرب عن إنتاج نموذج مماثـل ، عبر تلك السببيات العميقة التي ظلت متوارية عن البحث التاريخي والاجتماعي.
فالطبقات الوسطى التي تشكلت على مدى العصور العربية التالية ظلت تابعة للأشراف ، أي للطبقات الأرستقراطية المبذرة للفائض المالي في البذخ والحروب ، وفي العصر الحديث نجدها قد أضافت التبعية للغرب. وإذا أخذنا بعض اللحظات التاريخية التي أقتربت فيها الطبقات المتوسطة من المماثلة للثورة الإسلامية الأولى ، فسنجدها تحقق نتائج طيبة ، وإن لم تكن شاملة بسبب عجزها عن الوصول إلى تلك المماثلة الجوهرية. فنجد ثورات الطبقات الوسطى في العشرينيات من القرن العشرين كثورة الوفد وثورة العشرين في العراق ، قد أقيمت على التحالف بين التجار والفقراء كشرط حقق جزءً من التوحيد الاجتماعي وفي مسار النهضة والتجديد ، ولكن الطبقات الوسطى لم تكن حرة ، بل كانت التبعية للإقطاع والاستعمار قد شلتا الكثير من قواها ، فعجزت عن خلق استمرارية في التحالف وتقديم مكاسب مستمرة للقوى الشعبية ، يؤدي في النهاية إلى تجاوز التشكيلة الراهنة.
إننا نطرح المماثلة مع الثورة الإسلامية الأولى ، ليس من باب القبلية ، بل من باب مرجعيتها المستمرة للوعي العربي ـ الإسلامي ، وقول الأطراف بالانتماء إليها ، لكن بدون قراءة جذورها التحولية وإعادة إنتاجها في شروط وأوضاع جديدة.
ولهذا نجد التباين معها هو السائد حيث التفكيك واللاوحدة والتبعية والعجز عن تقديم نموذج نهضوي تجاوزي ، يضفر بين الطبقات المالكة والعاملة في تشكيلة متقدمة.
إن تلك الثورة هي التي أسست الأمة العربية والأمم الإسلامية بمرجعياتها الفكرية وحدودها التاريخية ، وبآفاقها التحولية ، ولكن القوى الاستغلالية على مدى التاريخ قامت بشكلنة الثورة ، أي تحويلها إلى أشكال ، وعدم تفعيل مبادئها الجوهرية التاريخية السياسية في التغيير الحضاري الشامل.
الآن تطرح مسائل الوحدة وتجاوز المذهبية ، على مستوى كل قطر ، وعلى مستوى العالم العربي ، ولكن آفاق التوحيد السياسي بين القوى الطليعية المختلفة ، وخاصة بين الطبقتين المنتجتين ، الرأسمالية الصناعية و العاملين ، وإعادة النظر في الإرث الاجتماعي والأيديولوجي التفكيكي والمتخلف ، وتشكيل بؤر نهضوية توحيدية قوية للأمة ، هذه مسائل أخذت تتسرب للوعي بشكل بطيء وعسير ، لكن الضرورات تتكشف ، ومسار الأمة المشوش والمضطرب يمكن رؤيته على أضواء جديدة ، تجمع ما بين السلف والثورة التقنية والاجتماعية المعاصرة ، بين طرق التعبئة والتحالف المعاصرة والأهداف المستمرة للشعوب العربية في النهضة والتغيير الشامل.
طبقات التوحيد وطبقات التفكيك
أضف تعليق
