الأرشيف الشهري: ماي 2023

من أفكار الجاحظ الاجتماعية والفلسفية

من أفكار الجاحظ الاجتماعية والفلسفية

1 ــ نقد [النابتة ] ومعناه
عبر الجاحظ عن عقلية موسوعية استطاعت أن تهضم معارف عصرها المختلفة و تدونها و تعلق عليها، في نظرة تجزيئية للمادة الثقافية العربية المختلفة الواسعة التي دونها، وفي ظل ا لمهمات الفكرية و السياسية التي و جد المعتزلة أنفسهم منساقين فيها.
فالجاحظ في كتابه [ النابتة]( 1) ، يقوم ببحث التاريخ الإسلامي عبر تحليل رموزه الشخصية فيؤكد سلامة السياق التاريخي و بتسلل الخلفاء الراشدين المعروف ، و ينقد سيطرة بني أمية على السلطة بشكل متعسف وعنيف، معتبراً معاوية رأس هذه العائلة الباغية،و يتحول نقد شخوص الدولة الأموية إلى بحث في عنفها و طغيانها، دون أن يكون ذلك جزءً من سياق اجتماعي، فتظهر العائلة الأموية كنبت شرير بلا جذور في التاريخ العربي، و ينقطع هذا التحليل و النقد عن تشكل الدولة العباسية، بل هو يظهر المنصور رأس هذه الدولة بشكل مغاير لحقيقته، فكأن تاريخ القهر والاستغلال قد أنقطع، و لهذا تبدو أراء الجاحظ السياسية كصدى لشعارات الدولة العباسية ، في الخطوط العريضة لها.
من عناوين هذه الرسالة: معاوية يحول الملك إلى كسروية ـ إدعاء معاوية الخلافة كفر ـ جرائم يزيد بن معاوية ـ مزاعم النابتة ـ تناقض النابتة ـ مخازي عبد الملك بن مروان ـ النابتة تقول بالجبر و التشبيه ـ النابتة تقول إن القرآن غير مخلوق ـ كفر النابت ـ الشعوبية و دعواها.
تمثل هذه الآراء نقداً لجماعة يسميها الجاحظ تحقيراً [النابتة]، ومن الواضح انهم من جماعة أهل الحديث التقليديين الذي أشرنا إلى صعودهم المستمر في فضاء هذا العصر، ثم يربطهم بالإمام أحمد بن حنبل، و الجاحظ يكتب رسائل عدة حول مسألة خلق القرآن ، باعتبارها ذروة العصر الصراعية ، مما يؤكد إن النابتة هم جماعة أهل الحديث.
إن الخيوط تبدو متقطعة بين الدفاع عن عصر الخلفاء الراشدين ، ثم نقد عصر بني أمية ثم الهجوم على النابتة و الدفاع عن خلق القرآن. إن المسائل مع هذا مترابطة، فالنابتة حسب تعبير الجاحظ، كانت تدافع عن معاوية بن أبي سفيان، وبالتالي كل تاريخ بني أمية السابق ، وهي النقطة الخلافية المحورية مع هذا التيار، الذي بدأ يؤكد حضوره الفكري و الاجتماعي المؤثر، وخلافاً للمنحى القدري ـ الاعتزالي الذي مثل الصعود المدني النقدي ، فإن النابتة كانوا يؤكدون العكس في مختلف خطوط الجبهة الفكرية الصراعية، فعدم سب معاوية كان يعني الدفاع عن التاريخ الإسلامي السابق بعمقه المحافظ ، و بقواه الرعوية العربية المتنفذة ، و بكل ظلال وعيها، ومستواه الاجتماعي. كما أن ذلك هو نقد من قبل أهل الحديث لهذا الصعود الحضاري المدني المتفاقم، و هو رفض أيضاً لهذا الوعي الذي يعيد إنتاج الدين على ضؤ المعطيات الجديدة، ولهذا فإن الهجوم المستمر على الدولة الأموية و رموزها من قبل العباسيين ومثقفيهم، و أبرزهم الجاحظ هنا، يتحول لدى المعارضة [اليمينية] الدينية ، إلى دفاع عن الأمويين، وسبق أن تشكل حزب يسمى الحزب السفياني يأمل بعودة الإمام السفياني المنتظر، ورافقته انتفاضات في الشام خصوصاً، ولم يكن ذلك صراعاً بين المركز العراقي الجديد و المركزي الشامي السابق فحسب، بل كان صراعاً بين هذه الأقسام السكانية المتضررة من هيمنة الأشراف العباسيين على الثروة، و لهذا فإن رجال الدين المحافظين كانوا يشعرون بأن الاعتزال يشكل بداية فقه يسحب الامتيازات من تحت أقدامهم، وهم حينئذٍ لا يستطيعون معارضة المعتزلة في دفاعهم عن الإسلام وعن حكم الخلفاء الراشدين، باستثناء السنوات الأخيرة من عهد عثمان، كما يؤكد الجاحظ نفسه، فيبحثون عن نقاط الاختلاف، فيجدونها في الدفاع عن الدولة الأموية ورموزها ، و يستجيب المثال لجانبين مهمين، والأول هو الاختلاف مع الدولة العباسية و المعتزلة وخطهم التحديثي للدين ، و الأمر الآخر وهو الظهور بمظهر الدفاع عن الناس.
و يستطيع هذا الخطاب المحافظ المتصاعد أن يهزم الدولة [التحديثية] في خاتمة المطاف ، و لكن علينا تتبع ذلك عبر المواد الصغيرة المتراكمة، ومن خلال وعي الجاحظ و عبر الأدلة التي يقدمها لنا.
فالجاحظ يقول في رسالته المعنونة باسم [خلق القرآن] ـ راجع كتاب رسائله السابق ص 165ـ [ و النابتة اليوم في التشبيه به مع الرافضة و هم دائبون في التألم من المعتزلة، عددهم كثير و نصبهم شديد و العوام معهم والحشو ..]، (2 ).
لقد أخذت المعسكرات الفكرية في الظهور وبدت النابتة هي القوة الكبيرة التي تتقدم ومعها [العوام] و[الحشو] وهي ألفاظ تحقيرية أخرى للناس هذه المرة، و تعبر عن نزعة أرستقراطية أخذت تهيمن على المعتزلة المندغمين بالطبقة الحاكمة ، ولا يناقش الجاحظ أسباب هذا الوقوف للعوام مع النابتة والرافضة. وإذا كانت [الرافضة ] مع لعن معاوية بطبيعة الحال، فإنها في التشبيه مع النابتة، وهذا الموقف المعقد و المتناقض يشير إلى الأقسام الاجتماعية العديدة التي اتفقت على معارضة الدولة من منطلقات مختلفة، كما يشير من جهة أخرى، إلى المستويات المعرفية المحدودة التي لدى الناس، والذين لا يتبعون المعتزلة بل الآخرين، رغم إنهم لا يقودونهم إلى الصواب كما يرى الجاحظ، وهو لا يتساءل ما هي قيمة لعن معاوية على حياة هؤلاء الناس، أو ما هي علاقة المفاهيم المجردة كخلق القرآن بتغيير ظروفهم، ولماذا عددهم كبير ونصبهم شديد؟!
إنه و هو يقوم بقطع قضية الخلاف عن الجذور الاجتماعية و المعرفية، يحيلها إلى مسألة مجردة . صحيح إنه يشير إلى الجوانب النفسية المتضادة لدى البشر من حسد وكراهية و ثأر في تشكيل الموقف الفكري الصراعي ، لكنه لا يقيم رابطة بين الجوانب النفسية و الفكرية و جذورها الاجتماعية، حيث إن هؤلاء العوام يبدون منساقين وراء النابتة و الرافضة بسبب الجهل المحض، و ليس بسبب انفراد الدولة بالثروة العامة المادية، و هي أيضاً تحاول الانفراد بالثروة الروحية، فتريد تشكيل الدين بصورة تتوافق مع مصالحها، في كونها دولة واسعة موحدة ، و هو الأمر الذي يشاركهم في تأييده المعتزلة ، و هذا الاحتكار للدولة للثروتين الاقتصادية و الدينية، يلغيه النمو المستمر للتعدديات المختلفة الدينية و المذهبية، فاحتكار الدولة للثروة المادية يقودها إلى تكييف الدين تكييفاً متفقاً مع ذلك الاحتكار، بحيث ترفض تعدديات الآلهة، وتقوي صورة الإله الواحد، ولكن تعدديات الآلهة بالشكل المسيحي والمانوي غدت محصورة في تجمعات بشرية محدودة، وأخذت صورة الإله الواحد تنتشر و تسود تدريجياً، نظراً للمصالح المترابطة للشعوب و الهيمنة العربية القوية في القرن الأول الهجري خاصة، ولكن مع انتشار هذه السيادة بدأت الشعوب المختلفة تبحث عن مصالحها المستقلة في إطار الوحدة الفكرية الإسلامية كذلك. ونحن في القرن الثاني الهجري لا تزال سيطرة المركز[ العراق] قوية، ولكن معارضة المركز قوية و مستمرة كذلك.
وقد وضعت المذاهب الإسلامية الأولى ركائز الوحدة، وكذلك ركائز الاختلاف أيضاً، وقد رأينا كيف عبر المذهبان المالكي و الحنفي عن مستويين اجتماعيين مختلفين للمسلمين، فالمذهب المالكي عبر عن خصائص الجزيرة العربية ببداوتها و مدنها التجارية معاً، في حين عبر المذهب الحنفي عن المصالح التجارية و المدنية بصورة أكبر، وإن لم يخرج من الإرث الرعوي، في حين كانت الجعفرية تعبيراً عن الطموح السياسي المستمر للأشراف العلويين، فهي محاولة لإبعاد العباسيين عن الحكم بدرجة أساسية، ولهذا كان صراع العباسيين والعلويين حول النور الإلهي تعبيراً عن الصراع حول الثروة المادية وامتلاكها. في حين قبل المذهبان المالكي والحنفي السيادة العباسية، خاصة مع فقهاء المذهبين التالين للمؤسسين ، والذين أخذوا يكونون البنية السياسية ـ الاجتماعية المطلقة، أي المتجذرة في الحياة بصورة ثابتة، سواء كانت الدولة عباسية أم أموية، فقد غدا هؤلاء الفقهاء هم السلطة الأيديولوجية الدائمة ، ولكن ظل مصدر الفقهاء الموالك والأحناف واحداً حيث أن النور الإلهي تجسد في القرآن والسنة وبعد هذا أنقطع وصار العقل المسلم قادراً على الاجتهاد ضمن الكليات المستخرجة، وهذا ما جعل هذا الفقه متوافقاً مع البنية السياسية العباسية المسيطرة المركزية ، لأنه يعتبر أن النور الإلهي قد أنقطع عن التراسل المباشر مع البشر بانتهاء الرسالة المحمدية، ولابد من تطبيق الأحكام حسب القرآن والسنة التي غدت منتهية، ويمكن الاستخلاص منها أو رؤية العام فيها وتطبيقه على الوقائع الجديدة، مع مراعاة المصالح العامة، مما يعني التوافق المرن مع حاجات الدول وسياساتها المتبدلة. وهذا ما جعل المذهبان الحنفي والمالكي ينتشران في رقع واسعة ، يتناغم فيها المستويان المدني(الحنفي) والرعوي (المالكي) ، أي الحضاري والبدوي، التجاري والزراعي، بتكوينات متداخلة معقدة ستشهد شيئاً من التبلور في القرن الثالث الهجري . ولهذا نجد أهل المغرب، شمال أفريقيا ، يتحولون في هذا القرن من المذهب الخارجي المعارض بشدة والمهزوم بقسوة ، إلى المذهب المالكي المتكيف مع الدولة ، ولكن الذي يعطي المغاربة هوية متميزة ، وكلا المذهبين الخارجي والمالكي نتاج الجزيرة العربية بمستواها الرعوي الغالب، وهو الأمر المقارب لسكان شمال أفريقيا.
في حين كانت الجعفرية تعبيراً عن معارضة للسلطة المركزية ، وهي في هذا القرن تنمو بشكل حثيث داخل العراق وإيران ، مما يجعلها في صراع مستمر لتفكيك الهيمنة المركزية، ولهذا تلتقي مع الطموحات القومية المتوارية،ويتشكل نسيج مشترك.
ومن هنا نرى الجاحظ وهو يحمل على من يسميهم بالرافضة، وهو تعبير حاد، ولكنه ينسجم مع ماكينة الدولة الدعائية في تحقير و انتقاص المعارضة.فهؤلاء يفككون الدولة المركزية، ولهذا فإن لديهم التأويل الخاص للصورة الإلهية، الذي يفكك الصورة السائدة عند العباسيين، مثلما يفككون جسم الدولة المركزي السياسي.
ولكن لماذا صعود [النابتة] و داخل العاصمة العباسية، مركز الحضارة و السيادة؟ أي لماذا تشكلت الحنبلية في عقر دار الخلافة؟
إن الحنبلية تقطع مع المذهبين السابقين:المالكي والحنفي، وهذا القطع غريب أن يتشكل في العاصمة،خلافاً لهذا التراكم في نمو المذاهب باتجاه التيسير و العقلنة الحضارية، فهي تقف ضد هذا التطور، و تشدد على النصوصية الحرفية المطلقة، وترفض التأويل.
لابد أن نرى المسألة كشكل معقد من التراجع والصراع والتمايز، فالهيمنة الفارسية على الخلافة العربية قد تفاقمت، ووجد الفرس و الموالي في القدرية و الاعتزال و الجعفرية و الحنفية والزيدية أشكالاً من المساواة ، وكانوا الأسبق للحضارة ، فاستطاعوا التغلغل في شتى مناحي الحياة ومراكز الدولة، في حين كانت مكانة العرب تتدهور بصورة مستمرة، و قد كانت القبائل المسلحة الغازية العربية هي التي حصلت على الثروة من البلدان المفتوحة، و لكن هذه المكانة العسكرية انخفضت و جاء الفرس، و الأتراك الآن، ولم تؤدِ تلك الثروة السابقة إلى مستويات راقية من الوعي لهذه القبائل البدوية، ولكن التدفق الرعوي العربي والتركي والكردي مازال مستمراً خاصة في العاصمة، و مناطق العراق ، و أخذ هؤلاء العرب و غيرهم يعبرون عن مستوياتهم الفكرية البسيطة بالعودة المطلقة إلى النصوص الحرفية، وبهذا كانوا يزيحون الفرس عن السيادة، وكذلك أصحاب الأديان الأخرى المهيمنين على الصرافة والتجارة كالمسيحيين و اليهود و الصابئة. إن الحنبلية تعبر عن هذا الصعود المستمر و تغير طبيعة السكان، فتشكل [هجوم] رعوي واسع النطاق من الأتراك والعرب على الهيمنة الفارسية و تحالفاتها، ولكن الانقلاب الكلي لن يتحقق الآن.
إن سكان الجزيرة العربية و بلدان الصحارى التركية والكردية و سكان شمال أفريقيا ، الذين أثخنتهم ضرائب العاصمة و الصرف المستمر على بذخ الأغنياء المرفهين، و الذين لم يكونوا يفهمون اللغة المجردة و الفلسفية لمثقفي المعتزلة المرتبطين بالقصور ، والذين لم تشكل النهضة في المركز أي تغيير ثقافي لهم، والذين كانوا يتدفقون على العمل في الجيش، إن هؤلاء كانوا ينتمون لمذهب المواجهة مع الفرس المهيمنين، ومع هذه العقلانية الثقافية ، التي لا تتحول إلى نضال اقتصادي لبلدانهم و فئاتهم المحرومة ، أي كانوا في سبيل التصدي لقرن من العقلنة الديني.

أسلوب القصة عند الجاحظ في (البخلاء)

المسالم والأناني            
أسلوب القصة عند الجاحظ في (البخلاء)

اعطى عبدالحميد الكاتب النثر العربي الخطوط الإنشائية العريضة ، دون ربط هذا الإنشاء بجنس أدبي قصصي ما ، وهو ما تجاوزه ابنُ المقفع الذي بدأ من هذا الإنشاء العام ، داخلاً به في المنحى الأخلاقي التحليلي كما في كتابه(الأدب الصغير والأدب الكبير) ، ثم تجاوز هذا أيضاً في صياغته القصة ، وإن كانت مترجمة كما في كليلة ودمنة ، لكن عبر هذا المؤلف جمعَ بين خطوط الصياغة الإنشائية الأولى المجردة وبين موضوعات الحكمة وجنس القصة ، وبهذا فقد انعطف بالنثر من كونهِ كياناً إنشائياً ، كما في الرسائل ، إلى كونه جنساً قصصياً.
لا شك أن هذا الإدخال ساعد فيهِ عنصرُ الترجمة ، وهو ما يشير إلى عمليةِ نقلٍ من أدب قومي إلى أدب قومي آخر ، كذلك فإن العنصر الخيالي الحيواني المستخدم في كليلة ودمنة ، يجعل من هذا النثر القصصي المترجم والمصاغ عربياً ، على ضفاف تحليل الحياة المعاصرة وقتذاك ،(1).
والخطوة التالية قام بها الجاحظ ، الذي كان عضواً نشطاً في حركة المعتزلة ، ونستطيع أن نعتبره القائد الأدبي للجماعة في العصر العباسي الأول ، وهو إذ يصل إلى طرح مفاهيم فلسفية تجريدية للحركة فكذلك هو مبدعٌ كبيرٌ شكل موسوعة في كل فن ثقافي ، وإذ له كتابات التحليل للثقافة العربية البيانية ، فإن له صياغة النثر القصصي الداخل في تحليل الحياة المعاصرة وقتذاك ، من جوانب متعددة فيها ، عبر قراءته للفئات الاجتماعية الحقيقية ، وعرض وجهات نظرها وحكاياتها جنباً لجنب.
لقد برزت موضوعية القصة الواقعية التسجيلية لديه ، عبر عرض الحكايات بصدق ، فهو يسجلُ ليس بشكل فوتغرافي مبسط ، بل هو يُضفي على هذه الصور ألواناً من فن الخطابة ، ومن التجسيد الحكائي ، ومن التحليل العرضي .
ففصل سهل بن هارون الذي يبدأ به كتابُ(البخلاء) يعرضُ المرافعة الدفاعية أو الخطبة وهو شكلٌ أدبي مفتوح ، يعتمد التقرير أكثر من التصوير ، يقول سهل:
(عبتموني حين قلتُ للغلام: إذا زدتَ في المرق فزد في الإنضاج ، لنجمع ما بين التأدم باللحم والمرق ، ولنجمعَ مع الارتفاق بالمرق الطيب ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : إذا طبختم لحماً فزيدوا المرق ، فإن لم يصب أحدكم لحماً أصاب مرقاً .
وعبتموني بخصف النعال وبتصدير القميص ، وحين زعمت إنه أبقى وأوطأ وأوقى ، وأنفى للكبر وأشبه بالنسك ، وأن الترقيع من الحزم..) ، (2)
يحول الجاحظ المرافعة الذاتية لشخصية سهل بن هارون في دفاعه عن البخل إلى ما يشبه اللغةٍ الموضوعية الرصينة ، التي تستعينُ بالمشاهد والمرويات التراثية ، وبأشكال اللغة الجدالية الفكرية للعصر ، للتدليل على أهمية الاقتصاد في الحياة حتى يتحول الدفاع الرصين إلى كاريكاتير ساخر .
إن الشخصية المسجلة تـُؤخذ كأقوالٍ منتقاةٍ مرصوفة بروحٍ فكاهية مرحة ، لكن مشهديات حياتها الأخرى تغيب ، بل أن هذه الشخصية تنقطعُ تماماً ولا تبقى سوى الخطبة الاستهلالية في الكتاب ، وهو ما يقطع بين ماض ومستقبل الشخصية ، وجذورها وسيروتها وتناقضاتها المختلفة ، فتتحول الخطبة إلى ملحة ساخرة موجهة نحو عرض كيفية البخل من خلال الدفاع عنه بقلم مثقف .
إضافة لاستخدام الخطب ونموذجها في تجسيد الموضوع الأدبي فهو يستخدم بوفرة كبيرة اللوحات القصصية الصغيرة والكبيرة لعرض الموضوع من جهاتٍ أخرى ، وفي أمكنةٍ مختلفة ، وعند شخصيات مختلفة .
نقرأ من هذه المشهديات:
(وزعم أصحابنا أن خرسانية ترافقوا في منزل ، وصبروا على الارتفاق بالمصباح ما أمكن الصبر . ثم أنهم تناهدوا وتخارجوا ، وأبى واحدٌ منهم أن يعينهم ، وأن يدخل في الغرم معهم ، فكانوا إذا جاء المصباح شدوا على عينيه بمنديل ولايزال ولا يزالون كذلك إلى أن يناموا ويطفئوا المصباح ، فإذا أطفؤوه أطلقوا عينه) ، (3).
إن الجاحظ يشكل لوحات دقيقة بلغة مكثفة تصويرية ، ولكن تبقى اللقطة جزئية مرصودة بشكل قدحي مسبق ، وهو على طريقة الروي القولي السائد يأخذ الروايات من أصحابه ومن معارفه . وهو يغوص في هذه الظاهرة في تلافيف صغيرة فيها ، دون أن يهتم بربطها بظاهرات أخرى إلا من جوانب الاجتماعية تأتي داخل هذا السرد ، دون أن يقصد إليها ، فبؤرة السرد تأخذه دائماً إلى قلبها:
(قال أصحابنا من المسجديين:
اجتمعَ ناسٌ من ينتحل الاقتصاد في النفقة والتثمير للمال من أصحاب الجمع والمنع . وقد كان هذا المذهب عندهم كالنسب الذي يجمعُ على التحاب ، وكالحلف الذي يجمع على التناصر ، وكانوا إذا التقوا في حلقهم تذاكروا هذا الباب وتطارحوه وتدارسوه التماساً للفائدة واستمتاعاً بذكره) .
إن هذه المجموعة المكونة من صغار المنتجين والباعة ذات عائدات اجتماعية معينة ، لكن الجاحظ يدعُ كلَ هذه الظروف المحيطة بهم ، مركزاً على خلة الاقتصاد المرئية كعادةِ بخلٍ شديد ، وينغرس في ظروفهم واصفاً إياها بذات اللغة المعبرة الدقيقة:
(فقال شيخٌ منهم:
ماء بئرنا – كما علمتم – مالحٌ إجاجٌ ، لا يقربه الحمار ولا تسيغهُ الإبلُ وتموت عليه النخل ، النهرُ منا بعيد وفي تكلف الَعذب علينا مؤونة) ،
وسواء كانت هذه الخصلة لدى مثل هؤلاء الحرفيين والمزارعين أم لدى أحمد بن خلف اليزيدي الذي ورث الكثير ، ويخاف أن يدعو أصدقاءه لعشاء ويستفيد من دعواتهم الكثيرة له .
إن الخصلة هذه ومظاهرها المختلفة المعزولة عن مظاهر الحياة الأخرى هي ما يشكلُ طبيعة النثر هنا ، وهي تتمظهرُ عند هذه الشخصية المعروفة أو عند أهالي مرو الكثيرين غير المحددين .
فهنا ما نطلق عليه بنية التجاور(القصصي) ، رغم أن بعض هذه المتجاورات ليست قصصاً ، بل حكايات صغيرة ، أو لقطات سريعة .
وبنية التجاور القصصي هذه مكرورة ، فالجوهرُ واحدٌ ، هو تجسيد تلك الخصلة وذمها والسخرية منها ، وهذه المماثلة تقود إلى عدم نمو القصص أو الحكايات مع بعضها البعض ، وإفادة بعضها البعض بكشفِ نواحٍ جديدة ، أو عرض جذور متناقضة وأسباب لهذه الخصلة ، أو عرضها مع خصلة مضادة تكشفُ جوانب جديدة ، أو أن الشخصية التي تظهرُ تواصلُ الحضورَ وتتعرض لمشكلات وتطورات تعمق فهمنا لهذه الرذيلة أو الفضيلة .
فهذه الخصلة التي يعيشها نفرٌ من الفئات الوسطى الصغيرة والكبيرة ، وكذلك بعض الأفراد العاديين ، غير معروضة في زمنيةِ هذه الفئات ، حيث أنها تدخل مدناً جديدة التكون ، صعبة الظروف ، ذات طبقة حاكمة باذخة ، فيظهرُ هؤلاءُ الشخوص في فضاءٍ مجرد ، لا صعوبات عيش يعانونها ولا مخاوف يستبقونها ، والمؤلفُ يأخذ التصرفات ويصفها في حدثها الجزئي بموضوعية ، فلا يبالغ أو يضخم ، بل يصورُ بشكل تسجيلي مباشر .
وهذا العزل وعدم المبالغة وتكاثر ذات الأنماط وغياب التاريخية لها ، يحيلـُها إلى كائناتٍ صغيرةٍ في ذواتها ، غيرِ واسعة الدلالة .
فهي لا ترتبط بتطورٍ عميق للمدينة المرصودة ، بؤرة المرحلة النثرية الجديدة ، رغم العلاقات الخفية التي نستشفها من هذا التواجد الكثيف لهذه الأنماط .
إن ارتباط الوعي الفكري العام بالكائنات العلوية واعتباره الوجود البشري نتاجاً مباشراً لها يجسد عدم القدرة على الوصول لسببيات أبعد من السببيات المباشرة التي تبدو هنا لدى الجاحظ في كون أسباب البخل شخصية جزئية ، فهي صفات فردية محضة ، فلا يقدر الوعي للنفاذ أبعد من ذلك ، مثلما أن وعي الاعتزال في هذه المرحلة يقف عند السببيات القريبة ، ويعجز عن ربطها بسببيات اجتماعية كبيرة ، ولهذا تأتي القفزة إلى التفسير الإلهي البعيد ، (4).
وتعتمدُ طريقة الجاحظ عموماً على الاستطراد وعرضِ رويٍّ موسع ، يأخذ الأقوال على مدى زمني كبير ، وتجثم المرويات متجاورة قرب بعضها البعض بلا حفر سببي تعليلي عميق كما يفعل في(البيان والتبيين) لكلمة(العصا) ، ويرتبط هذا الروي المتجاور بتصور عقلية مطلقة خاصة للعرب ؛ (وكل شيء للعرب فإنما هو بديهية وارتجال ، وكأنه إلهام) ، (5).
إن بنية التجاور القصصي ، وبُنى المتجاورات الجدالية ، القصصية ، التشريعية ، هي بنى سائدة في زمنية عدم تبلور الأنواع الأدبية وفي زمنية الانتقال من الثقافة الشفاهية إلى ثقافة الكتابة المشروطة بُبنى المجتمع .

ــــــــــــــــــــــــــ
مصادر:
(1):(راجع تحليلنا المطول لفكر ابن المقفع في كتابنا(الاتجاهات المثالية، جزء2 ، فصل 6 ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، ص 407 – 434).
(2): (البخلاء ، ص 11).
(3):(المصدر السابق، ص 18).
(4):(الاتجاهات المثالية ، مصدر سابق ، فصل الاعتزال ، ج 3 ، ص 77).
(5):(البيان والتبيين ، جز3 ، دار ومكتبة الهلال ، بيروت ، ص 20).

الوعي الجدلي في رسالة الغفران لأبي العلاء المعري

كلُ شيءٍ يتغير إن التناقضَ هو أساسُ حياة البشر، وبدون تناقض يزول البشر.
الوعي الجدلي في رسالة الغفران لأبي العلاء المعري

المنعزل أبو العلاء المعري يجادل عصره وينقده ويسخر منه، فهو في بؤرةِ الصراع مع هذا العصر، الأسطوري، الممزِق لعالم البشر، وضد نماذجه المختلفة.
في قلب المعركة وقد إمتلأ بثقافته حتى التشبع، وتجذر فيما هو محوري مسيطر عليها، يتلاعب به، ويوظفه ويسخر منه.
اللغةُ كشكلٍ تعبيري تاريخي مهيمن لديه هو بسببِ عدم إمكانيته الشخصية ليصور تصويراً حسياً متصاعداً، يكشفُ سيرورةَ وواقع الأشياء.
فعبر اللغة التي هضمها وغدت الانعكاس المباشر جاءت ألوانُ الثقافة، وهي القريبةُ المباشرةُ المتولدة من اللغة، وعبر هذا تتصاعد الصورُ التركيبية: الغابية الرمزية في البداية.
فالبطلُ المضاد هو(علي بن منصور) ممثل الثقافة الدينية الإسطورية المستغِّلة للجمهور، يتقدمُ على المسرح التاريخي الجغرافي ليقذف في وجه الشاعر المقاتل أبي العلاء بإنتقاداته المقزمة من قامة أبي العلاء.
الوعي الجدلي عند أبي العلاء يتسم بالمكر والتعدد وتحويل اللغة لشبكة رموز.
(قد علم الجبرُ الذي نُسب إليه جبريل، وهو لكلِ الخيرات سبيل، أن في مسكني حماطة ما كانت قط أفانية، ولا الناكزة بها غانية، تثمر من مودة مولاي الشيخ الجليل، كبتَ اللهُ عدوَهُ، وأدام رواحه إلى الفضل وعدوه، ما لو حملتهُ العاليةُ من الشجرِ، لدنت إلى الأرض غصونُها، وأذيل من تلك الثمرة مصونها)، ص 1.
يقول هنا بأن الوعي الجبري المشكلَّ للدين عَرفَ بأن في صدرهِ غابةُ أفاعٍ.
ولهذا فإن المفردات المتراقصة طرباً موسيقياً، المتشكلة تصويراً تكشف ذلك:
حماطة: شجرٌ حين ييبس.
الحضبُ ضربٌ من الحيات.
أفانية أي لم تخضر هذه الشجرة أبداً.
إن هذا الوعي الذي يحمله أبو العلاء هو مثل هذه الشجرة المليئة بالرموز والحيات ذوات السم المعرفي وهي تنحني حتى تلامس الأرضَ من ثقلِها ولموضوعيتِها في تعرية الواقع.
وطرقُهُا الصلدةُ هي هذه المعرفةُ الموسوعية باللغة، البطلة الرئيسية التي ستنطلق في التراث تضعَهُ في خيوطِ الغزلِ الدقيقة في التاريخ وفي الشعر المتوهج بحبِ الحياةِ وبالحب الجنسي، هذا هو الشيخُ المتكلمُ الذي وصفوه بالزاهد يتحول إلى متفحص دقيق للشجر وصنوف الحياة والمأكولات والمشروبات الروحية وكافة الأشياء اليومية.
الرجل الذي أُتهم بالزهد المخل يكشف معرفته باللذة بكل أشكالها.
والمعري في توضيحهِ للكلمات لا يعدمُ السخريةَ المستمرة من هذه الثقافة التقليدية، فيشرحُ معنى(حماطة) التي أستلها من تلك الشجرة المليئة بالسم:
وإذا أمُّ الوليدِ لم تعطني حنوتُ لها يدي بعصا حماطِ
ويتوقف ساخراً حول حبة القلب تلك.
يتحول الكلامُ لغموضٍ يتوهُ فيه القارئ من نمط علي بن منصور، فحبُ الشاعر حبٌ يضمرُ للشيخ علي ما لم تضمرهُ أمٌ لولد، سواء كانت حيةً مليئة بالسم أو لم تكن. وأبو العلاء وهو في المنزل المنعزل يمتلك تلك المعرفة المكتنزة المخبؤة التي لا يكشفُ عنها، يحيطُها بشجرِ اللغةِ الكثيف، حيث الحيات، التي تلدغُ من يتحرشُ بها.
وفي هذه التشابيه تتناثرُ الأسماءُ الرمزيةُ البطولية والفاعلة التي يحتمي بها أبو العلاء:
عنتر، وزبيبة، والسليك، وخفاف السلمي، والأسود بن المنذر، والأسود بن معد يكرب، إنهم أبطال العمل والشعر والسلاح والكفاح في تاريخ العرب والإسلام.
فيما علي بن منصور يعيش على حساب المترفين في (هذا) العصر.
إن حبةَ القلب هذه سوداء مكتنزةٌ بالتاريخ وأصحاب العطاء:
إنهم هؤلاء المنغمرين في الثقافة واللغة، والذين يؤلونها ويتجاوزون جمودها.
أبو العلاء لا يعرف الألوان إلا من خلال الثقافة، ويشكل جدليته هنا من تضاد الأسود والأبيض، ومن تضاده مع علي بن منصور، وحيث يتعارضُ كدحُ السودِ مع إرستقراطية البيض.
سويد بن الصامت؛ من أحناف الجاهلية، معروف بمكانته الأخلاقية الرفيعة عرض على النبي صحيفة لقمان.
ويزيد بن زمعة الأسود وهو ذو مكانة عالية عند قريش قبل الإسلام وأسلم وهاجر إلى الحبشة.
أما خفاف بن ندبة السلمي فشاعرٌ مخضرم، إشتهرَ نسبة إلى أمه ندبة بنت شيطان، وكانت سوداء، وهو من فرسان العرب المعدودين، وروي عن الأصمعي قوله: خفاف ودريد بن الصمة أشعر الفرسان.
وسويد بن أبي كاهل كان شاعراً مخضرماً فقيراً(مرهف الإحساس، راقي الذوق، مع إحتمال أن يكون قارئاً كاتباً)، الموسوعة العربية.
الأسود بن المنذر وكان أحد ملوك المناذرة وكانوا يعظمونه.
نماذج ليست بالضرورة سوداء البشرة لكنها عالية الشمم تنتمي إلى الأرض.
وسويد بن صميع يقول:
إذا طلبوا مني اليمين، منحتهم يمنياً كبرد الأتحمي الممزقِِ
وإن أحلفوني بالطلاق أتيتها على خير ما كنا ولم نتفرقِِ
يتشابه وعي هذا الشاعر(سويد)بقراءة ابي العلاء الجدلية، فشكلياتُ العلاقة الرسمية الزوجية مخترقةٌ بحب عميق، مثلما يَخترقُ أبو العلاء الألوان الطبقية غير المرئية لا ببصره بل ببصيرته، ويرى خيط هذا التقدم الاجتماعي الثقافي من زمنية الفرسان.
(وحضرَ في نادٍ حضره الأسودان اللذان هما الهنم والماء، والحرة الغابرة والظلماء. وإنه ينفر عن الأبيضين، إذا كانا في الرهج معرضين، الأبيضان اللذان ينفر مهما: سيفان، أو سيف وسنان)، ص3.
إن أشكال الحياة تتضاد مع أشكال الموت والحرب، الماء والتمر بخلافٍ مع مناطق الجدب والقتال، والقوى البشرية الترابية بخلافٍ مع القوى العليا البيضاء التي تقود لجدب الحياة.
الألوان ذاتها تتغير وتتداخل مع الحالات الإنسانية، ف(الأبيضان أبردا عظامي الماءُ والفتُ بلا إدامِ)،
على خشبة مسرح المعري
إن أبا العلاء يدخلنا عالم التضادات الجدية والساخرة، يحول علياً بن منصور الجاد التقليدي إلى بطل يقتحمُ الغيبَ الآتي، ويدخل الأسطورةَ الدينية، ويسأل عن دقائق الشعر، ويعيش عالماً آخر على النقيض من عالم الحياة، وعلى النقيض من وعي التقليديين بالحياة.
وتحويل علي بن منصور إلى بطل قصصي، ليس كلياً، فأدواتُ المعري النثرية خطابية، وهو لم يُشكل معالجات نثرية قصصية مطولة سوى هذه(رسالة الغفران) و(الصاهج والشالح) التي كُتبت قبلها بعدة سنين، ولهذا أعتمد على سيرورة النثر النقدية والسيرية وموسوعات أدب البلاغة وغيرها من الطرائق التي لم تجعل البطولة البشرية في مبنى سردي وقائعي حياتي متصاعد.
ولهذا فإن علياً بن منصور يقفز إلى مسرح المعري، منتقلاً من الحياة الدنيا إلى الآخرة، ومن عالم البلاغة النصوصية لعالم البلاغة الإلهية، ومن حراكِ الأرض الزاحف الجامد لحراك السماء الصاعق.
الخصمُ الأرضي يصيرُ راوياً سماوياً، والمؤلفُ المعري المسيطر على لغة العرب وأشعارهم وحكاياتهم يحركُ هذه المادة التراثية والراوي.
وإذ يصير علياً بن منصور مراسلاً للمعري، حيث يبدأهُ بالخطاب، فهذا من لغةِ العصر الأدبية، حيث الرسالة والرد عليها جنسٌ أدبي منتشر سائد، وتتحول الرسالةُ لشكلٍ أدبي ذي تاريخ وعادات إبداعية، وهو شكلٌ يقوم على العلاقة بين مرسلٍ ومرسل إليه، والشكل حواري بلاغي، هو نتاجُ المجلسِ الأدبي العربي وقد صار حواراً ثنائياً مكتوباً، وجمعَ البحثَ الأدبي والتصويرَ القصصي.
ويحول المعري الرسالة الشخصية المنصورية المتعالية المنتفخة بغرورها الثقافي الاجتماعي إلى ملهاةٍ شعبية،
وتُفتتح الملهاةُ بلغةٍ أطنابيةٍ مجلجلة:
(وغرقتُ في أمواج بدعِها الزاخرة، وعجبتُ من اتساق عقودِها الفاخرة. ومثلها شفعَ ونفع، وقرّب عند الله ورفع).

أخوان الصفا

أخوان الصفا

تألفت جماعة أخوان الصفا بشكل سري في مدينة البصرة في القرن الرابع الهجري ، ( العاشر الميلادي ) ، ولها فرع في بغداد كذلك ، ولم تعرف أسماء هذه الجماعة بشكل دقيق ، يقول عنهم أبو حيان التوحيدي :
[ قالوا أن الشريعة قد دُنست بالجهالات ، واختلطت بالضلالات ، ولا سبيل إلى غسلها وتطهيرها إلا بالفلسفة ، لأنها حاوية للحكمة الاعتقادية والمصلحة الاجتهادية ، وزعموا أنه متى انتظمت الفلسفة الاجتهادية اليونانية ، والشريعة العربية فقد حصل الكمال ] ، ( 1 ) .

أسس الوجود
يتصور أخوان الصفا أن تشكل الوجود [ من الجواهر والأعراض والبسائط والمجردات والمفردات والمركبات ] هو من [ علة واحدة ومبدأ واحد ، من مبدع واحد ، جل جلاله ] ( 2 ) .
وبما أن الله واحد فإن العدد واحد هو مصدر بقية الأعداد ومنه تتالى ، كما تتالى من الخالق مختلف أنواع الموجودات ، حيث الوجود قبله عدم ، فهنا يطابق أخوان الصفا بين مصدرين من مصادرهما هما القرآن والفلسفة الفيثاغورية ، وهما لديهم يؤكدان على أن الواحد هو الأساس لكلا المظهرين من الوجود ، الوجود الفيزيائي والوجود الرياضي ، ولهذا فهم في القسم الرياضي يقولون بأن الأعداد هي جوهر الوجود ، كما أن الواحد لا يتجزأ ولا ينقسم وليس قبله شيء ومنه تفيض الأشياء .
[ الأمور العددية مطابقة لمراتب الأمور الطبيعية ، وذلك أن الأمور الطبيعية جعلها الباري ، جل ثناؤه ، مربعات مثل الطبائع الأربع .. ] ، ( 3 ) .
إن الأعداد والإله هي بلا جذور تاريخية ، وانعكاسات مادية ، فالوجود المجرد هو الخالق للظاهرات الطبيعية والاجتماعية ، وقد أتفق أن خلقَ الإلهُ الأشياءَ بشكلِ مربعات ، وأن العدد أربعة يتضمن تراتبية الظاهرات المخلوقة إلهياً .
أن [ الأمور الطبيعية إنما صارت أكثرها مربعات بعناية الباري ، جل ثناؤه، واقتضاء حكمته ، لتكون مراتب الأمور الطبيعية مطابقة للأمور الروحانية ] ( 4 ) ، وهذه المراتب الأربع غير المادية الروحية هي التي ستشكل المادة بتراتبيتها الرباعية ، لأنها هي ذاتها مربعة ، فأولها هو الباري ، ثم دونه العقل الفعال ، ثم دونه النفس الكلية ، ثم دونها الهيولى الأولى ، وكل هذه ليست بأجسام .
وكما أن الأعداد تتكون من الأعداد 1 ، 2 ، 3 ، 4 ، فكذلك يتكون الوجود من تلك الكينونات الأربع ، الإله ، والعقل الفعال ، والنفس الكلية ، والهيولى الأولى .
إن هذه التراتبية الرباعية الخاصة هي مأخوذةٌ من أفلوطين وليس من الفلسفة اليونانية ، أما القسم اليوناني فهو الاستعانة بسحرية الأعداد المأخوذة من فيثاغورس ، أي أنهم استندوا على الفلسفة الأفلوطينية في تكوين التراتبية الإلهية المهيمنة على الوجود، حيث يفيض الإلهُ العقلَ الفعال ثم يفيضُ هذا النفسَ الكلية التي تلعب دوراً محورياً ، فهي تنبث في الكون خالقة ً النفوس الجزئية وهم البشر الذين يكون مصدرهم هذه النفوس الجزئية التي تتحد بالأجسام المادية العرضية ، وإذا قاموا بأعمال شريرة فإن نفوسهم الجزئية تــُعذبُ في برزخ خاص تحت فلك القمر ، وإذا قامتْ بأعمالٍ خيرة عادت إلى الاتحاد مع النفس الكلية فهي الجنة والمصير المشرق .
إن هذا الترتيب الأفلاطوني المحدث هو ترتيب كما أوضحنا في الجزء الثاني ، ( 5 ) ، يستند إلى الاعتماد على فاعلية المثقفين غير المنضمين إلى الكهنوت الرسمي ، وبالنسبة لأخوان الصفا فإن الكهنوت المعادي هو المتمثل في الحنابلة خاصة أو الدينين التابعين للدولة المسيطرة في بقعتهم .
فأخوان الصفا الذين يقولون بأنهم يريدون احتواء الشرائع في منظومة محبة عامة ، يهاجمون بشدة قوتين فكريتين في العالم الإسلامي هما أهل السنة النصوصيين ، وأهل الفكر المادي ؛ الدهريين وأمثالهم ، ( 6 ) .
إن تلك التراتبية الرباعية تعني كون الإمام الذي يتبعونه ، أو الرموز المقدسة بالنسبة إليهم المشكلة للإرث وللعالم السياسي الاجتماعي المتخيل من قبلهم ، تأتي ثانياً بعد الإله الذي يعبر عن جذور هذه العقيدة وهذا النظام التراتبي المشكل ، وأن هاتين القوتين الإلهية والإمامية متحكمتين في الوجود الديني بإطلاق ، الأولى من حيث هي مصدر التكون الأول، والثانية من حيث هي مصدر الانبثاق من التكوين الأول ثم تأتي القوة الثالثة الفاعلة حقاً وهم المثقفون المنبثقون من هذا الإرث ، أي هم أخوان الصفا أنفسهم ، كتكوين ثقافي إمامي يتحرك في الوجود الاجتماعي لجماعة المسلمين . ثم تأتي الهيولى المعبرة عن العامة التي هي في حالة سيولة ، فأما أن تنضم للخير فتـُعطى شهادة النور والقدوم إلى النفس الكلية ، وأما أن تكون مع القوى الفاسدة والشريرة التي لم تستطع أن ترتفع إلى مستوى النفس أو الأخوان أو النور .
وتغدو النفسُ الكلية هي المشكلةُ للأجرام السماوية المتعددة ، التي هي نجوم وكواكب ومع ذلك فهي كائنات روحانية كذلك تفيضُ على الأرض وعلى بشرها وتاريخها ، فتشكلها عامةً وتشكل تغيراتها وتحولاتها ، فهم يعتقدون أنفسهم أصحاب علم خاص ينفردون به عن مختلف القوى الفكرية :
[ ولنا كتابٌ آخر لا يشاركنا فيه غيرنا ولا يفهمه سوانا ؛ وهو معرفة جواهر النفوس ومراتب مقاماتها ، واستيلاء بعضها على بعض ، وافتتان قواها ، وتأثيرات أفعالها في الأجسام من الأفلاك والكواكب ، والأركان والمعادن والنبات والحيوانات ، وطبقات الناس من الأنبياء والحكماء والملوك وأتباعهم والسوقة وأعوانهم ] ، ( 7 ) .
إن سيطرة النفس الكلية ، هذا الكائن الغيبي الميتافيزيقي على الطبيعة ، يدفعهم إلى حشود من الخرافات ، في إثبات وعرض دور الكواكب والنجوم في السيطرة على الأقدار الأرضية والبشرية والاجتماعية خاصةً ، ولكن ذلك يغدو بوابةً وأساساً إيديولوجياً لعرض معلوماتهم الوفيرة عن النبات والحيوان والمعادن .
إن هذا الموقف من النفس الكلية ودورها يجعلهم يركزون على أثر الأجرام السماوية ودورها وهو أمرٌ مأخوذٌ من تاريخ الصابئة الطويل في هذا الصدد ، وكذلك من الفلسفة المسيحية والأفلاطونية المحدثة ، وهذا التقارب بين أهل العبادات القديمة والمسيحيين والإماميين تفرضه الظروف الموضوعية في معارضة النظام الإقطاعي الحاكم ، الذي ارتدى عباءةً دينية نصوصية تتجاهل تاريخ المنطقة السكاني والثقافي ، ويتضح الطابع الديني الزهدي المتعدد في هذه الفقرة ، فهم يتعبدون :
[في الأمور الشريفة من الحكمة على المذهب السقراطي ، والتصوف والتزهد والترهب على المنهج المسيحي ، والتعلق بالدين الحنيفي ..] ، ( 8 ) .
إن النفس الكلية تلعب دوراً محورياً في هذا البناء الرباعي ، وفي كل الأجزاء الأربعة من موسوعتهم فإن ذكرَ النفس يتخللُ الكتابَ كله ، فهي نفسٌ كلية تجريدية ليست مؤطرة في دين ومذهب ما ، بل تضم كافة المؤمنين الذين صاروا يؤمنون بقوة روحية عليا مهيمنة على الوجود .
[ أعلم أيها الأخ أن النفس الجزئية لما هبطت من عالمها الروحاني ، وأُسقطت من مرتبتها العالية للجناية ، وغرقت في بحر الهيولى ، وغاصت في قعر أمواج الأجسام وقيل لها ( انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب ) فغرقت في هياكل الأجسام ، وتفرقت بعد وصلتها وتشتت شمل ألفتها ، كما ذكر الله ، عز وجل اسمه ، بقوله ( اهبطوا منها جميعاً ) .] ، ( 9 ) .
إن النفس الكلية التي فاضت من العقل الفعال حدث فيها شيءٌ غامضٌ هنا ، ففجأة بدلاً من نزولِ النفسِ الكلية تهبطُ النفسُ الجزئية ، إلى الأرض بعد أن قام آدم بخطيئته وأكل من الشجرة المحرمة ، ومع هذا فإن النفس الكلية لم تزل باقية في مصدرها العلوي الغيبي ، وتنزل منها النفوس الجزئية ؟
علينا أن نقرأ هذه المركبات المثالية بطريقة تفكيكية متنامية ، ففرضية النفس الكلية تتطابق هنا والميراث الديني في المنطقة ، وهو المشكل لفرضية النفس الكلية هذه ، كما أن الميراث هو الصائغ لفرضية القوى المثالية المفارقة الأخرى الصانعة للوجود الطبيعي في تصورهم ، والصانعة لوجود الوعي الديني في الحقيقة ، فيغدو الإرث الديني السابق هو المشكلُ للحركة الطبيعية والاجتماعية ، فيكون لأرواح البشر مصدرٌ علويٌ ، في حين يكون لأجسامهم مصدر أرضي ، وهذا المصدر الأرضي المتناقض مع المصدر العلوي ، نقرأه لدى أخوان الصفا حين يتتبعون مسألة ظهور الإنسان على الأرض وتصورهم ظهوره وحشياً في بدء أمره ، ( 10 ) .
فإذن يعود كون النفس الكلية لفيض ديني غيبي ، وهو ما يعبر عن الفيض الثقافي المتراكم ، أي هو الحركات الدينية المتشكلة لوعي المنطقة ، فتغدو النفس الكلية مصدر تشكل الأرواح الجزئية التي تتواجد في الأجسام ، المشكلة ككل الأجسام من الهيولى الدنيا ، أي من مواد الطبيعة المختلفة ، مثلها مثل النبات والحيوان ، وتترابط هذه المخلوقات من الأدنى إلى الأعلى ، من النبات إلى الإنسان ذروة التطور في الطبيعة .
فإذن يغدو مسار الروح مختلفاً ، متكوناً في الغيب ، ولكن لا نعرف سبب انقسام هذه الروح الكلية وتفككها إلى أرواح جزئية ثم تناقض هذه الأرواح بين أرواح خيرة وأرواح شريرة ، إلا باعتبار الأرواح الخيرة ترفض الانحباس في الجسم ، مصدر المحدودية والنقص والشر كذلك ، لأن الانقسام في ملذات الجسم يدفعه إلى حدوده القصوى .
في حين يكون الخير والفضيلة من عدم الانغماس في الملذات والشهوات :
[ وأعلم أيها الأخ أن النفس إذا انتبهت من نوم الغفلة واستيقظت من رقدة الجهالة ، وأبصرت ذاتها ، وعرفت جوهرها ، وأحست بغربتها في عالم الأجسام ، ومحنتها وغرقها في بحر الهيولى ، وأسرها بالشهوات الطبيعية ، .. اشتاقت إلى هناك ، ومالت إلى الكون في ذلك العالم ، ومقتت الكون مع الأجساد ، وزهدت في نعيم الدنيا .. الخ …] ، ( 11 ) .
تقيم هذه العبارة تناقضات تجريدية بين السماء والأرض ، بين النفس والمادة ، بين الروح والجسم ، بين الدنيا والغيب ، فهي تبدو مركبات لا يمكن أن تتمازج في تكوين عضوي ، ونظراً لكونها مركبات تجريدية فهي يمكن أن تتمازج مع مثيلاتها من التكوينات الفكرية التجريدية ، أي مع الأفلاطونية والمسيحية واليهودية الصوفية والصوفية الإسلامية الخ ..
وهذا التكوين الذي يقوله أخوان الصفا التجريدي الغيبي كمعبر عن جغرافية النفس الكلية وأثرها على النفوس الجزئية ، لا يشير إلى أوضاع سياسية واجتماعية سيئة يواجهها الجسم أو تواجهها الروح ، بل أنهما يواجهان فقط الانغماس الحيواني في الملذات ، وغياب الزهد . والحل يكمن في الوقوف مع أحد أطراف التضاد التجريدي ، أي التوجه إلى الزهد والرحيل إلى السماء الخ..
وهذا المسار هو مسار خلقته في البدء حركية الكون الغيبية ، فهي مكونة من حركة النفس الكلية السارية في جزئيات الكون كالنور ، الذي هو لديهم جسم أثيري روحي ولم يكتشفوا بعد كونه مادة ، ونظراً لسقوط الروح في أدران المادة فلا بد أن تتحرر من أسرها .
ويتعلق ارتباط النفس الجزئية بالكلية، أي تأثر الأفراد وانخراطهم في الحركة ، [ حسب قبولها ما يفيض عليها من العلوم والمعارف والأخلاق الجميلة ، وكلما كانت أكثر قبولاً كانت أفضل وأشرف من سائر أبناء جنسها ، مثل نفوس الأنبياء ، عليهم السلام ، فإنها لما قبلت بصفاء جوهرها من النفس الكلية أتت بالكتب الإلهية التي فيها عجائب العلوم الخفية ..] ، ( 12 ) .
وسبب طرح الكتب السماوية في خطابهم هو كما قلنا بسبب تنوع فئات المثقفين المنتمين إلى عدة أديان في المشرق الإسلامي ، فتغدو النفس الكلية هي الإرث الثقافي الديني السابق ، ويتعلق اتصال الفرد بها عبر ذلك القبول بالفيض الثقافي ، والانخراط في النموذج المطروح وهو نموذج المثقف الزاهد كسبيل وحيد لمقاومة بذخ القصور وسيطرتها .
ومن هنا يصورون الحركات الدينية السابقة عبر أنبيائها كأفراد مجردين من خريطة البنية الاجتماعية وكزهاد :
[ وكان من سنة المسيح التنقل كل يوم من قرية إلى قرية من قرى فلسطين .. يداوي الناس ، ويعظهم ويذكرهم ويدعوهم إلى ملكوت السماء ، ويرغبهم فيها ويزدهم في الدنيا .. ] ، ( 13 ) .
إن الكتب السماوية ، والميراث الفكري السابق ، تغدو خارج التاريخ عملياً بسبب تحولها إلى مبادئ مجردة ونماذج فردية ، وخصال مقطوعة السياق بظروفها وجذورها ، أي تمت رؤية الإرث السابق حسب لحظة حركة أخوان الصفا في ظل الحكم العباسي كحركة معارضة سرية ، عبر رؤيتها كأفراد زاهدين ، وهو سياق تتفق فيه مع بقية الحركات من صوفية إسلامية ومسيحية وأفلاطونية .
إن السياق الفكري هنا يقود إلى عدم درس الواقع والحياة الاجتماعية ، رغم أن موسوعة الأخوان مليئة بشتى ألوان العلوم ، ولكن كلها علوم تبحث النبات والحيوان والجماد ، بعد أن تربطها بالعلل الكبرى السابقة الذكر ، وبالمنطق الصوري وتقسيماته .
أما الجانب الاجتماعي فهو ضئيل ومقطوع دائماً بالصوفية وبالانسحاب من العالم كحل وحيد للمقاومة ، أو عبر طرح جوانب أخلاقية مثالية بدون أن أي نقد للعلاقات الاجتماعية الموضوعية أو تحليل للسيرورة التاريخية الإسلامية .

مصادر :

أنظر كتابنا: الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الإسلامية
( 1 ) : ( رسائل أخوان الصفا وخلان الوفاء ، المجلد الأول ، مقدمة بطرس البستاني دار صادر ، بيروت ، 2004، ص 6 ) .
( 2 ) : ( المرجع السابق ، ص 48 ) .
( 3 ) : ( السابق ، ص 52 ) .
( 4 ) : ( السابق ، ص 53 ) .
( 5 ) : ( راجع فصل [من الاعتزال إلى الفلسفة ] ، ج 2 ) .
( 6 ) : ( حول هجومهم على أهل السنة الرافضين للتفسيرات الباطنية يقولون : وهم شاكون في الأشياء الظاهرة الجلية ، ويدعون فيها المحالات بالمكابرة في الكلام والحجاج في الجدل ، مثل دعواهم أن قطر المربع مساوٍ لأحد أن أضلاعه ، والنار لا تحُرق .. وأن علم النجوم باطل ، وما شاكل ذلك من الزور والبهتان . فأحذرهم يا أخي فهم الدجالون .. ) ، الجزء الرابع ، ص 50 – 51 . كما ينددون بمن لا يؤمن بالظواهر الغيبية مثلما يدعون القارئ إلى عدم الالتفات إلى [ما يقوله هؤلاء القوم في تكذيب القول بوجود الروحانيين وجحودهم لأفعالهم الظاهرة ..] ، ( ج 4 ، ص 245 ) ، أو أنظر فقرة ( في خطاب المتفلسفين الشاكين في أمر الشريعة الغافلين عن أسرار الكتب النبوية ، ج 4 ، ص 177 ) .
( 7 ) : ( المرجع السابق ، الجزء الرابع ، ص 168 ).
( 8 ) : ( المصدر السابق ، جزء 3 ، ص 8 ).
( 9 ) : ( المصدر السابق ، ج 4 ، ص 184 ) .
( 10 ) : (
( 11 ) : (المصدر السابق ، ج 4 ، ص 185
( 12 ) : ( المصدر السابق ، ج 2 ، ص 10 ) .
( 13 ) : ( السابق ، ج 4 ، ص 30 ) .

البطل الشعبي بين الماضي والحاضر

في إنتاجِ دكتاتوريته الفردية يصعدُ لينين صراعَهُ ضد التعددية في الحزب، فيقسمهُ، ويصعدُ صراعَه ضد التنوع الديمقراطي في الغرب فيغدو الغرب برجوازياً لا بد له من شيوعية نافية له بكليته.
البطل الشعبي بين الماضي والحاضر

كان الأنبياء العظام أبطالاً شعبيين بظروف عصورهم، وكان البطلُ الشعبي عموماً شخصية يتيمة أو فقيرة مُطاردَّة متشردة في المكان، مُعذبَّة في الزمان، وربما هي تــُلقى بسبتٍ في النهر لــُتنقذ وتقاوم وتقوم بأفعال عظيمة تغير مجرى الإنسان.
ما يميزُ هذا البطلَ الطالعَ من بين صفوفِ الناس المعذبة، هو الأخلاصُ للقضيةِ والتضحية بالغالي والنفيس من أجل تحقيق الهدف الجليل.
وكثيراً ما تقومُ القوى المناوئة بتعذيب البطل عبر النار والطرد والسجن أو تحل فترة أخرى من الإغراءات بتقديم العروض المُبهرة من سلطانٍ وأموال، وعلى رد فعل البطل تتوقف مجرى العملية النضالية، فالقبول بها يقود إلى تلاشي البطل ورفضها يقود إلى صعوده.
ويسوق لنا القرآن قصص هؤلاء الأبطال المقاومين الذي عاشوا في اليتم والفقر وربما انتقلوا للغنى لكنهم لم يتخلوا عن القضية:
فقصة النبي موسى عليه السلام في سورة(الشعراء) ، توضح لنا ذلك يذكرُ، فهو يأتي إلى فرعون ويطلبُ إطلاق سراح بني إسرئيل المعتلقين، إن القصة هنا وامضة كما في السور المكية ، ومركزة لموقف البطولة والإغراء :
(فأتيا فرعون فقولا إنا رسولُ رب العالمين . أن أرسل معنا بني إسرائيل . قال ألم نــُربك فينا وليداً ولبثتَ فينا من عمرك سنين . وفعلتَ فعلتكَ التي فعلتَ وأنتَ من الكافرين ) .
إن ثمة ماضياً يغدو للنبي موسى جذوراً لا يستطيع قلعها من نفسه، هو انتماؤه للناس، فالمسألة ليست حليباً من الأم ولكن تلك صورة رمزية للعلاقة بالجذور، للارتباط بقضايا الناس. ويطرح الفرعونُ ذلك متسائلاً في دهشة ؟!
لقد كان مشرداً يتيماً ثم تربى في القصر وذاق ملذاته وعلوه فلماذا قبل أن يكون مع المعذبين المشردين؟!
ثم تواصل الصراع ولم يقبل موسى بالإغراء الفرعوني وتوجه للناس واندمج بهم:
(وأوحينا إلى موسى أن أسرِ بعبادي إنكم متبعون . فارسلَ فرعونُ في المدائن حاشرين . إن هؤلاء لشرذمة قليلون . وإنهم لنا لغائظون . وإنـّـا لجميعٌ حاذرون . فأخرجناهم من جنات وعيون . وكنوزٍ ومقامٍ كريم . كذلك وأورثناها بني إسرائيل ) .
وبين ظروف العز والتلاحم مع الفقراء مسافة كبيرة فيها تضحيات وعذاب، ولكنها تقود إلى تحولات تاريخية فلم تنفع الدكتاتور ما لديه من جيوش يجمعها في أحكام الطوارئ وأمام الشرذمة القليلة، بل هُزم وسحبت منه الكنوز!
وهذا نوح عليه السلام يواجه موقفاً مماثلاً، فيقف مع الفقراء والمحرومين والملأ لديه كل قوة ونفوذ وتسجل ذلك سورة هود:
(( فقالَ الملأُ الذي كفروا من قومهِ ما نراكَ إلا بشراً مثلنا وما نراكَ أتبعكَ إلا الذين هُم أرذالنا بادى الرأي وما نرى لكم علينا من فضلٍ بل نـُظنــُّكُم كذابين )) .
ماذا سوف يستطيع هؤلاء (الأرذال) وهو لفظ تحقيري، أن يفعلوا أما جبروت حكام بابل؟
ومهما كانت صورة الطوفان مادية عجائبية فإننا يهمنا الطوفان الأكبر طوفان التغيير الاجتماعي الذي أزال هؤلاء القوم المكابرون في سيطرتهم وإستغلالهم، وجعلهم ماضياً غابراً!
ويعرض نوح الصراع الاجتماعي بوضوح أمام ابتاعه وأعدائه معاً مصراً على الاستمرار في النضال:
((ولا أقوُلُ لكم عندي خزائنُ الله ولا أعلمُ الغيبَ ولا أقولُ إني مَلكٌ ولا أقولُ للذين تزدرِى أعينكم لن يؤتيهم اللهُ خيراً اللهُ أعلمُ بما في أنفـُسِهم إني إذاً لمن الظالمين)).
فليس لديه سوى معركة من أجل المطالب العامة.
كانت تلك بعض ملامح البطل الشعبي بصورة أنبياء وهم يتتالون في القرآن، كنماذج نضالية ودروس تاريخية لمن يقرأ.
إن قصة النبي شعيب عليه السلام تأخذ تضاريس المنطقة العربية الحجازية المختلفة عن الشمال (العربي)، فهنا نجد صراعاً اجتماعياً بسيطاً معبراً عن مستوى البدو العرب وهم يتحضرون :
(( وإلى مدين أخاهم شُعيباً قال يا قومِ أعبدوا الله ما لكم من إلهٍ غيرهِ ولا تنقصوا الميكالَ والميزانَ إني أراكم بخير وأخافُ عليكم عذابَ يومٍ محيط . ويا قومِ أوفوا المِكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين )) .
إن الدعوة النضالية تأخذ جوانب اجتماعية ملموسة، كترك الغش التجاري ، واحترام الملكية الخاصة ، وعدم السرقة واللصوصية، وهي جوانب يظل شعيب يطرحها بشكلٍ أخلاقي، ويزاوجها بالدعوة للتوحيد لكن القوم لا يستجيبون للدعوة الأخلاقية المجردة، ويواصل الملأ السرقة الاجتماعية.
وكان النبي محمد صلى الله عليه وسلم هو ذروة هذه القصص النضالية، وتنطبق عليه سمات البطل الشعبي، حيث الفقر واليتم والتشرد، وهي كلها لا تجعله يذوبُ ويستسلم، كما أن الغنى الذي انهالَ عليه فجأة لا يجعلهُ يبطر أو يتخلى كذلك، مواصلاً مقارعة الملأ، لكنه لم يحولْ الدعوة فقط إلى دعوةٍ أخلاقيةٍ بل كذلك إلى نضال سياسي عارم، جاذباً الجمهور الواسع لدعوته، رغم إنه هو نفسه في اللحظات الطويلة من القمع والأغراء شعر بأشياء صعبة، مع موت زوجته وعمه وحصاره الطويل العنيف فجاء في سورة هود:
((فلَعلك تاركٌ بعضَ ما يوحى إليك وضائقٌ به صدرُك أن يقولوا لولا أُنزل عليه كنزٌ أو جاء معهُ مَلَكٌ إنما أنتَ نذيرٌ والله على كلِ شيءٍ وكيل )).
ليست لديه كنوز وليست لديه معجزات بل معجزته هي الكلمة التي حركت الناس وصنعت التاريخ، أي هذه الحروف التي تأتي وتحتقرونها وتتكاثر أمامكم بسهولة مثل ط وسين وعين الخ!
وكما في سورة أخرى هي سورة النمل:
((طس تلك آيات القرآن وكتاب مبين . هُدى وبشرى للمؤمنين . الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهُم بالآخرة هم يوقنون )) .
وقد عاشت الحركات السياسية العربية في الماضي والحاضر بين هذه النماذج دون استيعاب كافً ودون تمسك شديد بالدفاع عن الأغلبية المحرومة، فما أن ترتفع جماعة حتى تتردد، وغالباً ما كان الأخفاق بسبب هذا الوضع الرجراج حيث قدم في المعارضة وقدم أخرى تتجه بحثاً عن المكاسب!
وما ان يظهر زعيم وترفعه الجماهير ويصل لشيء من السلطة حتى يبدأ يفكر في منصبه ورواتبه، وحتى لو وصل الزعيم بثورة مظفرة إلى الحكم، فإنه يتراجع قليلاً قليلاً حتى تجده في خاتمة المطاف مع كبار المنتفعين بالنظام السابق حتى يكنسه إنقلاب تافه! وحتى رمزيته تتلاشى فكيف الوصول إلى (الرسالة)!
ويقول قائلهم لو أنهم أعطوني الأراضي وجعلوها في يساري ووضعوا الأموال في يميني فإنني سوف أتخلى عن هذا الأمر، وما أنا سوى حرامي يلبس لباس الثوار والأتقياء!
أية كنوز بل هي الكلمة صانعة التاريخ عند مناضلين.

المسيحيةُ والإسلامُ تجريداً وتحليلاً

(إذا كانت العلاقة بين الإنسان والإله في المسيحية قد قامت على إرتباط وجودي(انطولوجي) فقد افصحت عن نفسها عبر ثلاثية الأب والابن والروح القدس)، طيب تزيني، من اللاهوت إلى الفلسفة، ص 70.).
تباينت مصائرُ المسيحية والإسلام في نضالهما المشترك لتكوين مجتمعات إنسانية مفارقة للزمن العبودي المرهق الطويل على شعوب المشرق خاصة، بسبب تباين ظهور كل منهما في ظروف مختلفة وبين سكان مغايرين.
عبرت مفاهيمُ الثالوث المسيحي: الأب والابن والروح القُدس، عن فاعلية رجال الدين والفئات الوسطى المناضلة، حيث مثلتها مقولة الابن، المتداخل مع الإله، الفائض على البشر والحياة، وهي المقولةُ التي عكست نضالية الرهبان ورفضهم الذوبان في الدول الشمولية، فيما سوف يظهر كذلك جماعات من رجال الدين يوظفون هذه المقولات للدولة الرومانية.
كما عبر الوعي المسيحي عن تقاليد الشمال الكنعاني العربي الزراعية، حيث التداخل بين الإله والبطل الشعبي جالب الحياة والخير والنار للناس، ولهذا حدثت سيولة إجتماعية سياسية بين الحاكم الأعلى الإله والقوى الدينية التي تجسده، ولهذا كان رفض الرهبان للسياسة العبودية السائدة، وتطلعهم لنموذج تحولي مختلف، عبر العزلة وإنتاج ثقافة جديدة.
فيما قطع المسلمون عمليةَ التداخل هذه وإنفصل الإلهُ عن الالتحام المادي بالبشر، وارتبطت الفئاتُ الوسطى المدنية والدينية بالناس وبالخيارات الدنيوية التي غدت مفتوحة لهم، ومن هنا كانت مشاركتهم في التحولات الاجتماعية والسياسية، مغايرة للرهبان، وفاعلة خلال عدة قرون، لكن إمكانيات الفئات الوسطى الدينية والمدنية العربية لانتاج حضارة راسمالية ديمقراطية كانت محدودة نظراً لاندماجها بالنظام الإقطاعي وموارده المؤسَّسة على الخراج الزراعي.
ولهذا حين عاشت المسيحية الغربية في ظل العبودية في زمن الرومان كانت في موقع مختلف عن المسلمين الذين تطوروا عنها، مؤسسين نظاماً إجتماعياً مختلفاً، ومع سقوط الوثنية والعبودية في القسم الأوربي صعد رجالُ الدين المسيحيين كحكام، واستولوا على أجزاء من الأراضي الزراعية، وكانت البابوية قمة لهذا التحول، ولكن هذا لم يجلب نهضةً بل تدهوراً لحالة الوعي والثقافة والانتاج، فغدت المسيحية الرسمية غير معبرة عن أحلام رجال الدين المسيحيين الأوائل.
تطور المسلمين النهضوي المتكون عبر إنتقال العرب من البداوة للحضارة ولنمط إنتاج متطور أدى إلى ازدهار الحضارة لديهم، وتوسع الفئات الوسطى التجارية والثقافية وهو الأمر الذي هيأ للنهضة السياسية الفكرية.
كذلك فإن المقولات الدينية الفاصلة بين صورة الإله والبشر، أدت إلى نشاط رجال الدين والعامة في مختلف صنوف الانتاج والعيش ودنيويتهم، ولم تجعل لرجال الدين مكانة مقدسة أو سلطة جاهزة مهيأة من السماء، ومن هنا كانت السلطة الأموية أقرب للحكم المدني، وهو أمرٌ مفيد على المستوى القريب حيث تطورت الأعمال والآداب والفنون، لكنها على المدى البعيد وفي مستوى الوعي، أدت إلى العداء للوعي المدني هذا، وصار التركيز على الوعي الديني وضرورة حكم القوى الدينية أو التي تمثل ما هو مقدس للدولة مطلباً يعبر عن الانهيار المتواري المتصاعد لقوى الانتاج المادية والفكرية، وازداد هذا مع الدولة العباسية التي واصلت نفس مسار الدولة الأموية المدني مع التوسع الكبير فيه دون أن تحل سلطة رجال الدين في السلطة لكن حلت الأشكال الدينية الشديدة الغيبية.
ونظراً لتدهور أعمال الزراعة وأحوال المنتجين الزراعيين وتفكك الأقاليم وعجز القوى المدنية عن التوحد وتحليل الواقع بصورة موضوعية عميقة، فإن العناصر الفكرية التحديثية والتنويرية لم تتطور وتغدو سائدة، وتصاعد الوعي الديني ذو الأشكال الخارقة، وجاءت العناصر اللاعقلانية من الفلسفة الهندية والمسيحية لتتوسع في الوعي العربي الإسلامي فيما أتسمت العناصر العقلانية المجلوبة من الفلسفة الأغريقية بالمحدودية و سيطرة التفاسير الشرقية الدينية.
إن تدهور الفئات الوسطى والعاملة وتدفق الجمهور المُنتزع من أريافه وصحاريه جعل تنامي الوعي الأسطوري الديني الذي إنتهى إلى الدروشة قمةً لهذا العصر.
وهكذا حدثت مقاربة بين الانهيار العربي والانهيار الغربي المسيحي، لكن كانت الظروف الإقطاعية في أوربا تتفكك وتنمو عناصر مدنية حديثة، فيما كان العرب يتفككون بشكل واسع وتنهار ظروفهم المادية والثقافية.
ليست المقولات التجريدية عن صور الألوهية سوى تعبير عن مسارات إجتماعية وهي تترابط مع الأنظمة والبُنى الاجتماعية، وعدم قراءتها في مساراتها يجعل اللوحة غامضة وغير مفهومة.

أيوب الإنسان

يقول بعض المؤلفين الغربيين والعرب بأن قصة أيوب موجودة في الأدب السومري، وهي أصل لكل قصة أيوب بعد ذلك!
تقول أبيات قصيدة أيوب السومري الموجودة في ألواح وبشكل مؤثر:
(ليلهج الإنسان بلا انقطاع بعظمة إلهه
ليمجد الإنسان كلام إلهه بكل إخلاص
ولينجُ هذا الذي يقيم في بلد العدل، ويشرح في بيت الغناء قضيته لزميله وصديقه
الرجلُ المخادعُ طوقني بريح الجنوب وإنا مكرهٌ على خدمته، والذي لا يحترمني أخزاني أمامك ..
أنت حكمتَ علىَّ بعذابٍ دائم التجدد،
أدخل البيت وأنا مثقل الروح،
أنا الحكيم لماذا أُحسب في الأغرار الجهلة؟
أنا المستنيرُ، لماذا أُوضعُ في عدادِ الجهال؟
القوتُ ميسورٌ في كلِ مكانٍ وقوتي أنا هو الجوع.
ويوم قـُسمت الحظوظ كان العذابُ حصتي.
إلهي، النهارُ الذي يفيضُ نورَه على الأرض هو عندي نهارٌ اسود،
والعذاب يغمرني كمن أُختير وحده للدموع،
والحظ السييء يطبقُ عليّ بقبضتهِ، يسلبني حتى نـَفَس الحياة،
والحمى الخبيثة تغمر جسدي).
يقولون إن هذه القصيدة من صنع سومري ثم صارت بابلية ثم غدت يهودية ثم مسيحية حتى غطت الأرض، أي ثمة تناسخ للنص.
لكن هذه المعاناة موجودة في كل مكان وفي كل زمان، وقصد الكتابة بهذا الأسلوب هو خلق الإنسان الصابر، الإنسان الراضي رغم كل عذابه وتفتت جسده من الجراثيم، وهو الشعوب المتألمة المستغلة غير القادرة على التغيير.
ومن الممكن أن يظهر أيوب المعاصر فيقول:
إلهي لقد مزقتْ راتبي الضئيل الإيجاراتُ العالية لسيدي المهيمن.
وتحاوطتني ذئابٌ كثيرة؛ صاحبُ البناية النهم للإيجارات، وأصحابُ الأقساط والديون الذين يجرون ورائي، وأتخفى منهم، فلا أستطيع!
ويقف على رأسي قاض صارم يأمر ببيع سيارتي المستعملة وأثاث بيتي، فنجثم على بلاط بارد، أو نمضي للشوارع نتسول ونقول حسنة لله!
ولم تفعل الوزاراتُ شيئاً، فحقوقي في التأمينات ضاعت أو أمام الحصول على درهم منها جبالٌ من القرارات والتوصيات والملاحقات، ولا تكفي مؤنة الشؤون حتى لثلاثة أيامٍ من الشهر، والعمال الأجانب المنهمرون مثل زوابع الشتاء يسرقون اللقمة من فمي، ومن أفواه عيالي الضائعين في المقابر والخرابات.
إلهي أرجو أن لا تتزايد الأسعار بهذا الشكل الجنوني، وكان لدي قارب أصطادُ به السمك واستولت عليه المحكمة، والبحر أستولى عليه الملاك، والحظور صارت خاصة وبها شركات مسيطرة.
وكان أباؤنا لديهم دكاكين أفلست من الهجوم الجوي التجاري الكاسح للعولمة.
إلهي لا أرجو سوى أن أحصل على قبري بعد هذه السن الطويلة، لكن حتى القبور صارت محجوزة، والمقابر تحولت إلى أراض مبيوعة، وعليك لكي تحصل على قبرك أن تكون لديك واساطات كثيرة.
ولهذا فإن الدودَ بدأ يغمر جسدي منذ الآن، وهو يأكل لحمي، وأنا قد صبرت كثيراً أكثر من أيوب نفسه، فمتى أحصل على دوائي وراحتي؟

كلمات الاغلفة        

الجزيرةُ العربيةُ وقوانينُها

للجزيرةِ العربيةِ مستوى من التطور الاجتماعي مختلفٌ عن مستوى الأقطار العربية الشمالية، وقد شُوهد ذلك في الحضاراتِ القديمة وكيف إزدهرتْ في أوديةِ الأنهارِ الكبرى كالنيل ودجلة والفرات، فيما كانت الجزيرةُ العربيةُ ذاتُ بقعٍ حضارية لا تعمُّ ولا تزدهرُ طويلاً وبإتساع مثل تلك.
وحين تفجرتْ حضارةُ الإسلامِ إنتقلتْ بثقلِها الكبير إلى حوضِ الأنهار ثانية حيث وَجدتْ خريطتَها الكبرى فلماذا حدث ذلك ومركزها في مكة؟!
إن هذين المستويين من التطور يتعقدان ويتداخلان بحدةٍ في العصر الراهن.
وعلى المستوى السياسي فإن التداخلات التي تمت ْوأينعت في بعض البلدان العربية لم تزدهر في الجزيرة العربية.
ومثال على ذلك تعدد الجمهوريات في الشمال وندرتها في الجزيرة العربية، والجمهوريةُ الوحيدةُ وهي اليمنية في الجزيرة العربية تعاني أشد المعاناة ولم تنتقلْ لتكونَ نموذجاً متقدماً على جيرانها.
ومن هنا كانت ثورات حرق المراحل في الجزيرة العربية تتسم بتطرفٍ شديد لم يكن له حضور خلاق، كالثورة في عُمان التي كانت شديدة الغرابة والطفولية. وقامت ثورةٌ في جنوب اليمن أممت حتى الدكاكين، لكن الأجيال القديمة وقيادات القبائل والقبائل السياسية لم تراكم تحضراً داخلها.
وعندما حدثت الثورة الراهنة في اليمن قام بها الشبابُ عائدين إلى شعاراتِ الليبرالية الكلاسيكية عبر إيجاد مجتمع ديمقراطي فقط، لكن كيف يجري ذلك وكلُ القيادات والقبائلُ السياسية والأجهزة والرئاسة العتيدة شمولية عنيفة؟
الشباب كفروا بالأجيال القديمة ويريدون فرصاً في الحياة والطبقات القديمة لا تتركهم يتنفسون هواءً سياسياً جديداً؟
وفي عُمان رفضوا طريق المغامرات القديمة وعضوا بأسنانهم السياسية على التطور الإصلاحي المتدرج، لكن هل إستفاد الآخرون أو حتى درسوا هذه التجارب؟
من السهولة أن تخترق الأفكارُ الحديثةُ الجزيرةَ العربية لكن منابت هذه الأفكار صعبة، فإن أهل البادية متجذرون لقرون في حياتهم القديمة، والأشكال التقليدية من الحياة العائلية تعبرُ عن عدم القبول بأية أفكار جديدة، وتظل العائلة أكثر الأشكال مقاومة للتحديث، وإذا تداخلت القبلية والنظم السياسية والدينية والاجتماعية فتغدو أقرب للجبال أو أشد صلابة.
وإنه لأولِ مرةٍ في تاريخ الإنسان تغدو الجزيرةُ العربية موطناً عاماً للتحديث وليس مدناً وامضة، فأنظرْ كم قطعتْ البشريةُ من ملايين السنين وأسستْ من حضارات؟ وكان وسط الجزيرة الهائل مركزاً طارداً للسكان على مر التاريخ فيما هو الآن وعلى العكس ودفعةً واحدة يصيرُ مركزاً جاذباً وبشكل هائل للسكان! والكثيرون يندفعون لمصالحهم ورغباتهم وعواطفهم الحادة والكل يريد أن يأخذ، فلهذا تكون سياسات التأني العقلانية مهمة، وكثرة البحث في مشكلاتنا وكيفية حلها والاعتماد على الإنتاج العقلي في رؤية هذه الأوضاع أمورٌ شديدة الأهمية.
وهنا في وسط الجزيرة العربية نجدُ الثقلَ المحافظ الذي عاشَ طويلاً على الحياة الرعوية من المستحيل أن يقبل الأشكال الحديثة بسهولة ولا بد من تدرج وزحزحة الصخور الثقال بحذرٍ حتى لا تنقلب الصخور على الناس.
ونظراً لغياب الحواضن التاريخية الاجتماعية فقد قامت القوى السياسية على أشكال المغامرة أو على الجمود الحاد، وهي تخرق قوانين التطور الاجتماعية، وتخرق قوانين تطور الأمم. إن الأمة العربية لا تقبل النسخ من الأمم الأخرى، خاصة في هذه الأقسام المحافظة، والمهم أن يكون العرب عرباً، ويعرفوا كيف تطورت العرب، فهي لها قوانين إجتماعية في التطور الفكري السياسي، مثلما أن الأمم الأخرى لها قوانين.
الآن حين غرزت الأمةُ الروسيةُ تطوراتَها السياسيةَ الاجتماعية في سوريا يُصعبُ إنتزاعُ هذه الأشكالِ من لحمِ الشعب السوري وهو يتفتت. مثلما أن الأمةَ الفارسية وإنغراسَ التطورِ الألماني الهتلري في لحمِها يصعب أن تُعالجَ بسهولة، ولا بد أن نكونَ حذرين منها ومن تأثيراتها المَرضية. مثلما أنهم في ظفار حاولوا أن يغرزوا المرضَ الصيني فيها وشُفيت، ولكن نحن في البحرين لدينا عدة أمراض متراكبة لم تُعالج بعد، وجمعنا كافةَ الأمراض الروسية والصينية والعراقية والنسخة اليمنية والنسخة العمانية، وخاتمة الطوفان النسخة الفارسية الإيرانية.
التدرج والإصلاحية المتنامية وعدم إستيراد النسخ والعمل من خلال القوانين الاجتماعية والسياسية لكل بلد هذه هي ثمار تم التوصل إليها خاصة في هذه البلدان ذات التاريخ الصعب.

الوعي والتطور الجزيرة العربية
الوعي هو الثمارُ الفكريةُ الصائبة التي تنتجها القوى الجماعية والأفراد خلال الفترات والحقب والتي تستفيد منها الأجيال، وتوظفها للمزيد من التطور والحرية.
وقد وقع الوعي في الجزيرة العربية أسير التكوين الطبيعي القاسي وأسير البنية الاجتماعية التي تكونت في قيود هذه الطبيعة.
ولم تستطعْ الحضاراتُ القديمةُ في ما قبل الإسلام أن تنتجَ نهضة جزيرية عربية مترابطة متكاملة، في حين إستطاع الإسلام ذلك لقيادة مدنه الحجازية إستيعاب العناصر النهضوية للشمال العربي في مبنى تحويلي عربي عالمي.
فيما بعد مكة والمدينة لن تظهرَ مثل هذه المدن التحويلية النهضوية الشاملة. وعادت الجزيرة العربية لإمكانياتها الرعوية والمدنية المحدودة.
إن العناصرَ الجوهريةَ في العقلانية الإسلامية هي قيام العقل النقدي بقيادة طليعة الجمهور في أعمالٍ نضاليةٍ متدرجة وإشراك الجمهور في المنافع الاقتصادية والتطور الثقافي، بالمواد الفكرية والاجتماعية السائدة وقتذاك.
الإسلام كثورة أقام سلطةً ليس ثمة بينها وبين الناس حواجز، قام بتوزيع أملاك الغزوات لمنع تركيز المُلكية، ومنع نشؤ سلطة إستبدادية، أي قدم جملة مفاتيح لدولة شعبية، وهذا الوضع تغير بعد الفتوحات والإنتقال للشمال العربي.
عنصر التجار الأحرار المتحالف مع الفقراء، شكَّلَ تلك النهضة، ولكنها إنساحتْ خارجَ الجزيرة العربية أكثر مما تكرستْ داخلها.
ولهذا فإن التراكميةَ العقلانية لن تكون من نصيب الجزيرة العربية، بل سوف تظهر في المدن الجديدةِ كالبصرةِ وبغداد والقاهرة.
في الجزيرة العربية فضاءٌ جغرافي واسع، لكن الحرية صعبة، لأن تاريخَ البداوةِ المديد خلق سيطرات كثيفة: فحتى المركزية التي شكلها الإسلام لم تستمر وظلت العاصمة الدينية للمسلمين رمزاً غير محمي في كثير من الأحيان.
إن الوعي النهضوي مجسداً في مكتسبات العقل كأرث فكري وقوانين ومؤسسات سياسية ديمقراطية شعبية يحتاج إلى مدنٍ وإلى مدينة مركزية على الأقل وجمهور حر، لكن هذا لم يتوفر للجزيرة العربية بعد قرن من الفتوح. فمع تراكم الثروة في بلدان الشمال العربي تفاقم الفقرُ في الجزيرة وخاصة في نجد والبحرين وعمان واليمن. فهل ظهرت إمكانيات للحرية؟
كان إنتاجُ الجزيرةِ العربية الفقيرة عبر تلك الإقاليم(اليمن والبحرين ونجد وعُمان) هو خلق التمردات والعصبيات القبلية والإنقسامات المنقطعة عن خلق التراكمات الحضارية.
لماذا كانت التحولات السياسية منقطعة عن العقل؟ لماذا لم تشكل تجارب تراكمية باقية ومفيدة للقرون؟
لقد إعتمدت التراكمية النقدية النهضوية في قلب المدن العربية الإسلامية وفي عالم الخلافة على فئات وسطى من التجار والمتعلمين والحرفيين، وهي القوى التي شكلتْ المدارسَ والتيارات الفقهية والمنطقية والثقافية والفلسفية، وهي التوجهات التي وقفتْ وسطاً بين النظام الإقطاعي الحاكم بخلفائهِ وأمرائهِ وبذخه ونهضته وتمزقاته الكثيرة فيما بعد، وبين القوى الخارجة على القانون الداعية لإنشاء أنظمة خلافة بديلة، وشكلتها في الصحارى، وهي لم تبدلْ نظامَ الخلافةِ الإقطاعي بل جعلتْ من أمرائِها خلفاءَ تفتيتٍ وفقر مدقع.
من هنا كانت الصحارى في الجزيرة العربية هي الملاذُ لهؤلاء وهو أمرٌ كرّسَ الوضعَ المتصحر للعقل في هذه المنطقة الخليجية، وأغلب تلك الفرق قامت على النصوصية الشديدة.
في المجتعات خارج الجزيرة العربية حدثت تطورات خارج القبلية، وحدث تفكك لهذه المباني الاجتماعية، ولكن في الجزيرة العربية بقيت هذه القبلية، ولم تؤدِ تياراتُ التمرد من خوارج وقرامطة وزيدية إلى بلورةٍ مدنية إلا حين إنهارتْ هذه الفرق أو تحولت إلى إجتهادات أخرى.
إضافة إلى عدم التحول هذا تكرست المحافظة الاجتماعية عبر تهميش النساء وهيمنة الأبوية، وسيطرة النصوصية الشديدة.
وجاء تطور المذاهب الإمامية متدرجاً عبر قرون، وبعد فشل الزيدية ثم القرامطة فإن الإثناعشرية قامت بالتطور المديد والتغلغل الاجتماعي في بيئة الفلاحين من جنوب العراق حتى البحرين.
وجاءت المذاهب السنية المعتدلة كومضاتٍ في هذه الأثناء وتزايدت منذ القرن الثامن عشر الميلادي وبأشكالٍ قبليةٍ عسكرية قفزتْ نحو السيطرة على المواقع التجارية والمرافئ.
وضع المذهبُ أسسَ نمو الحياة الريفية في المدن الساحلية الشرقية البحرينية بالمعنى القديم، ولكن في هذه الأثناء جاء المذهب الحنبلي بتطوراتهِ ومخضاته من الشمال العربي عبر السلفية الجهادية وتغلغل في الجزيرة العربية وفي نجد خاصة أي في الأقاليم الصحراوية وشكل مناخاً دينياً شديد المحافظة، وبهذا حدث تناقض بين مستويين إجتماعيين وفقهيين مختلفين كثيراً.
علينا أن نقول بإن الإثناعشر تمثل في بعض ما تمثله تقاليد الفلاحين الإحيائية الضاربة بجذروها عبر آلاف السنين، الممتدة من التموزيين مروراً بالمسيحين حتى المسلمين، وهي إعطاء قيم الأرض والتضحية حالات إحتفالية فلاحية قوية، وفي المذاهب السنية الأقرب للبدو والتجار ثمة إنفصال عن هذا الموروث، والاعتماد على النصوصية العقلية مثل الشيعة في هذا المجال كذلك.
في المجتعات خارج الجزيرة العربية حدثت تطورات خارج القبلية، وحدث تفكك لهذه المباني الاجتماعية، ولكن في الجزيرة العربية بقيت هذه القبلية، ولم تؤدِ تياراتُ التمرد من خوارج وقرامطة وزيدية إلى بلورةٍ مدنية إلا حين إنهارتْ هذه الفرق أو تحولت إلى إجتهادات أخرى.
إضافة إلى عدم التحول هذا تكرست المحافظة الاجتماعية عبر تهميش النساء وهيمنة القبلية والأبوية، وسيطرة النصوصية الشديدة.
إن مجالات الاستقرار كانت أكثر على سواحل الجزيرة العربية الكبرى، حيث أمكن نشؤ الحضارات في الحجاز واليمن وعُمان والبحرين، في حين كان الداخل الصحراوي أقرب لحراك القبائل، ولهذا مع نشؤ المدن والزراعة والملاحة حدثت مواضع مهمة لاستقرار الوعي وتطور العقل.
وجاء تطور المذاهب السنية والإمامية متدرجاً عبر قرون في الجزيرة العربية، وبعد فشل الخوارج ثم القرامطة فإن المذاهب السنية والإثناعشرية قامت بالتطور المديد والتغلغل التدريجي في بيئة الفلاحين من جنوب العراق حتى البحرين وعمان واليمن لكن كان شأنها في الحجاز مختلفاً، حيث بيئة الاستقرار الإسلامية السابقة الهامة.
السواحل كانت بيئة الاستقرار والإنتاج، لكن نجد لم تعرف ذلك بشكل كبير، ولهذا فإن مذهب الحنبلية تغلغل فيها، وعبر عن هؤلاء البدو الرحل وطرقهم في العيش والتفكير.
وجاءت المذاهب السنية المعتدلة كومضاتٍ في هذه الأثناء وتزايدت منذ القرن الثامن عشر الميلادي وبأشكالٍ قبليةٍ عسكرية قفزتْ نحو السيطرة على المواقع التجارية والمرافئ.
وضع المذهبُ الاثناعشري أسسَ نمو الحياة الريفية في بعض المدن الساحلية الشرقية، في حين تحرك المذهبُ الحنبلي بتطوراتهِ ومخضاته من الشمال العربي عبر السلفية الجهادية وبرز في نجد خاصة أي في الأقاليم الصحراوية وشكل مناخاً دينياً مغايراً، وبهذا حدث تناقض بين مستويين إجتماعيين وفقهيين مختلفين كثيراً.
علينا أن نقول بإن الإثناعشر تمثل في بعض ما تمثله تقاليد الفلاحين الإحيائية الضاربة بجذروها عبر آلاف السنين، الممتدة من التموزيين مروراً بالمسيحين حتى المسلمين، وهي إعطاء قيم الأرض والتضحية حالات إحتفالية فلاحية قوية، وفي المذاهب السنية الأقرب للبدو والتجار ثمة إنفصال عن هذا الموروث، والاعتماد على النصوصية العقلية والقراءة الحرفية مثل الشيعة في هذا المجال كذلك.
يمكن أن نرى في قبيلة عبدالقيس المسيحية قبل الإسلام المسلمة بعده، هذا التضفيرَ بين الجذور الإحيائية ومصالح أهل الزراعة وإحتفالية الأرض المتخلصة من الوثنية كذلك والمتمايزة عن القبائل البدوية المتكرسة بشكل كبير عبر الرعي والترحال.
لكن كان التباين الاجتماعي السياسي هو الأساس ثم تشكلت الوحدة عبر الاختلاف، ومثلت أملاك المزارعين وأهل المدن مطمعاً للبدو وهي حالة عيش ضارية طالما اعتمدتها القبائلُ البدوية المترحلة في معيشتها، ولكنها هنا اتخذت أشكالاً مذهبية. وهذه أدت لمفارقات وصراعات إجتماعية تاريخية للغالبية من المنتجين الشعبيين.
وعوضاً عن أن تنتشر في الجزيرة العربية ثمار الشمال النهضوية جاءتها الإشكاليات الفكرية لها، وثمار تراجع التطورات العقلانية الفقهية وغلبة النصوصية الشديدة، وهو أمرٌ يعكس مستوى الناس حينذاك، فهم غير قادرين على أفكار أكثر تطوراً، لكن هذه الأفكار المحافظة من جهة أخرى تمثل وحدتهم وإستقلالهم.
هذا التحقيب الاجتماعي التاريخي يظهرُ ثلاث حقب مهمة، فثمة فترة الإسلام التأسيسية التي هي ثورة لكنها عقيدة كذلك قامتْ عبر تكوين أبعادٍ غيبيةٍ ميتافيزيقية وتجسيدات تاريخية سياسية وعبادات ومعاملات بناء على ذلك المنظور الغيبي، ومن هنا حين إختفت الثورة ظهرت ظروفُ الجزيرة العربية الحقيقية خاصة خارج الحجاز، وعادت القبائلُ لما كانت عليه، ولكن عبر صورٍ إسلامية مُنتزعة من حياتها الترحالية التمردية، ولكن هذا الفصلَ بين المستويين لم يكن مفهوماً أو متيسراً عبر العصور، ولهذا فإن الحركات التمردية كالخوارج والقرامطة والزيدية كانت محافظة على المستوى الاجتماعي العميق، ولم تقم تمرداتها بشيءٍ يمكثُ في الأرض، بل على العكس أحدثت القلاقل، نظراً لأنها لم تأخذ العناصر النهضوية في الإسلام وتشتغلُ عليها، وهو الأمرُ الذي قامت به الحركاتُ الفكرية في المدن الإسلامية دون أن تطوره كذلك ليكون حركة تغييرية شعبية. وتلك الحركات التمردية الصحراوية بشكل كبير مثلتْ حراك القبائل الرعوية العائشة على الغزو.
أما عمليات الخلخلة التي قامت بها للعناصر المحافظة في الإسلام لم تُحدث نقلات، فحدث فشلٌ كبيرٌ لها، قامت على أثره مذاهب السنة والاثناعشرية والأباضية في شرق الجزيرة العربية، بملءِ الفراغ المترتب على ذلك الزوال لحركات التمرد.
هذا لا يعني عدم وجودها من قبل لكن نقصد هنا الانتشار والاكتساح.
لماذا إنتصرت مذاهب السنة والاثناعشري والأباضية في شرق الجزيرة بعد عقود من سيطرة المذاهب الحركية التمردية؟ يعود هذا بشكل كبير لتصاعد الإنتاج الزراعي والاستقرار الاقتصادي ونمو المدن، وغياب البداوة.
اعتمدتْ مذاهبُ السنة والإثناعشرية والأباضية على المبادئ العامة المحافظة عامة، أي لم تطرح مسائل التغيير وتبديل حال العامة بطرق الحركات التمردية السابقة الذكر، وركزتْ على الشعائر والعبادات والفقه الخاص لكلٍ منها. ولكنها خلقتْ عبر ذلك تطورات إجتماعية مديدة رغم الغزوات والصراعات والحروب المكلفة.
وكانت ظروفُ العالم في تبدلٍ كبير، فمركزُ العالم إنتقلَّ من العالم الإسلامي للغرب، وبدأت حضارةٌ جديدةٌ وعلاقاتٌ إقتصادية- إجتماعية جديدة، ولم ينعكس ذلك أول الأمر على مذاهب العرب في الجزيرة العربية، الغارقة في بناها الاجتماعية التقليدية.
وبدا ذلك في جمود المذهب الحنفي في تركيا، وتقلقل الإثناعشرية في فارس، الدولتان الكبيرتان وقتذاك، وبهذا فإن تحول المركز العالمي قاد إلى صعودِ العلاقات الرأسمالية والليبرالية معها، وهذا حرك العلاقات الاجتماعية في مدنِ الخليج التي بدأت تقدمُ موادَها الخام للغرب عبر الهند أو مباشرةً. ومن هنا فإن القبائل والجماعات المدنية سوف يتحرك فقُهها ببطءٍ شديدٍ لملائمة هذا التطور، فيما سوف يتصاعدُ الوعي السياسي الحديث بصورٍ كبيرة ومفارقة لمستويات التطور الاجتماعي، حيث إنه يعبر عن مستوى النخب الوسطى الصغيرة ومغامراتها الفكرية والسياسية.
هذا يعكس المستويات المدنية فالريفية فالبدويةب التراتبية هذه، حيث ستتشكل تدرجات مذهبية إجتماعية، وتحرك إجتماعي بطيء من السواحل نحو الداخل الصحراوي.
العالمُ الإسلامي المنقسم بين مذهبين كبيرين غابت عنه التقسيماتُ القوميةُ المتوارية الهامة جداً، فالقومياتُ التركيةُ والفارسيةُ والعربيةُ، كانت تتجلى وتتصارع وتتداخل مع المذهبيات الاسلامية المختلفة. والعربية كانت الأكثر تهميشاً، وستظهر من بدو الصحراء العربية بأشكال دينية محافظة كثيراً.
المذهبُ الحنفي عبرَ الاتراكِ المتغلغلين في عالم العرب لم يرفعْ عقلانيتَهُ الفقهية إلى مركز المذهب، بل تعايش مع الصوفية الخرافية حينذاك، وهذه الغيبية الدينية كانت تجسد عالماً من الدول المفككة والإقطاعيات الفسيفسائية وخمود الخلافة، ومن هنا لم تجد هذه الحنفية أصداءً لا في عقلانيتها المفتقدة ولا في هيمنتها، حيث كانت الجزيرةُ العربيةُ تبحثُ عن الوحدة، فوجدتها في حراكِ المذاهبِ السنية البدوية للانتشار والسيطرة والتجارة، فمن الغرب والجنوب تحركتْ المذاهبُ المعتدلة نحو الشرق ومن الشمال إنحدرتْ الحنبليةُ كشكلٍ متصلبٍ جهادي واتحدت مع طموح القبائل البدوية الأقوى لفرض السيطرة والتوحيد.
ولهذا عملت هذه المذاهب على إلغاء الدروشة والتفكيك وكانت تعبيراً عن توحيد سياسي قسري في أغلب الأحيان.
حققت قفزاتُ القبائلِ البدوية ذات الطابع العسكري توحيدات مختلفة، فيما كانت المناطق الريفية ذات إستقرار طويل الأمد ونشرت الاقتصاد الزراعي وهيأت الفرص لتصاعد التجارة وقوى العمل والحرف. ولهذا حدثت قفزات القبائل البدوية نحو المناطق الساحلية ذات الثروة الجديدة بسرعة خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر الميلادية.
يمكن ضرب المثل بقبائل العتوب، حيث تتعدد طبيعة هذه القبائل المهاجرة ويغلب على بعضها الطابع التجاري المدني أو يغلب عليها الطابع البدوي ومن هنا ستعرف مدن الخليج القادمة تدرجات في المدنية حسب جذور كل شعب ومدى تطور إقتصاده وإنتاجه النفطي.
قفزت القبائلُ المهاجرةُ على المرتكزات الريفية ووصلت إلى مناطق الثغور المنفتحة، فكونت مدناً رأسمالية صغيرة كموانئ، وبعدئذ كانت الدول الوطنية الصغيرة والتكونات الاجتماعية المذهبية المتعددة، حيث سيوحدها الوعي الوطني المكون من الفكر الليبرالي النهضوي إلى حين.
لكن مهما كانت الظروف فإن المدينة السياسية تولد هيمنة محافظة في البناء الاجتماعي، والعناصر العقلية الديمقراطية تنمو مثل نموها في العصر العباسي في الفئات الوسطى الصغيرة المُحاصرة بين محافظة الحكومات والمناطق الريفية والصحراوية.
ونمو هذه العناصر في الريف والبادية الصحراوية يغدو صعباً لأن العلاقات الاجتماعية التقليدية لم تتفكك لكنها تتفكك ببطء طويل.
وإذا كانت عناصر التيارات التحديثية كالبعث والقومية والماركسية كانت لحظة مشابهة للتيارت المتمردة في العصر العباسي وأن كانت ذات ثمار أكبر ومؤسسة لدول، فإنها كذلك تراجعت وإستعادت مذاهب السنة والشيعة والأباضية المظلة الكبيرة على المناخ السياسي الاجتماعي، بسبب وجود الأفكار التحديثية في الشعارات السياسية وعدم تغلغلها في البُنى الاجتماعية والاقتصادية وظهور تنمية بأدوات العمالة الأجنبية والمؤسسات المالية والاقتصادية الأجنبية.
مثلما عرفت الشعارات (الثورية) غربة عن العلاقات الاجتماعية، عن حال القبائل والأسر والأفكار الاجتاعية، في العصر القديم عرفته كذلك في الزمن المعاصر، حيث أن العلاقات الرأسمالية التحديثية لم تصبح علاقات إجتماعية وثقافية شعبية، ولم تُعد إنتاج الأفكار الدينية التقليدية، ولأن الاقتصاد الحديث لم يصل إلى التصنيع الواسع العميق بكل قواه السكانية الوطنية وأفكاره وتعليمه.
لنقل بأن الفئات الوسطى التي نتجت في المنطقة خاصة في شرق الجزيرة زمن الدولة العباسية كانت شبه متلاشية ولهذا كان حفرها في المؤسسات الدينية وفي البيئة الشعبية وتأسيس الزراعة أهم إنجازاتها، وكذلك كانت العناصر الوسطى في العصر الحديث محدودة، لكنها أسست الأشكال العصرية من الاقتصاد والأحزاب والثقافة الفوقية والعلاقات الاجتماعية النخبوية.

لحظات حرجة في تاريخ الجزيرة العربية الحديث
كانت سنوات الستينيات تمثل نقطة تحول خطيرة في تاريخ الجزيرة العربية، وخاصة في الساحل الشرقي منها، حيث تفاقمت الصراعاتُ بين شعوب المنطقة والاستعمار، وتغلغلت قوى دولية فجأة في الجسد المضرج بالدم في مناطق التوتر فيها، وكانت البقعة الملتهبة جداً هي (ظفار)، التي لم تكن على الخريطة السياسية العربية ثم فجأة تصدرتها وبعد هذه الفترة غابت وكأنها لم تكن ملء السمع والبصر!
كانت هذه المنطقة الضائعة بين الجغرافيا والأساطير، تجثم في جنوب الجزيرة العربية بين اليمن وعُمان، أهلها يتكلمون بلغات حميرية قديمة، انقطعت صلاتـُها بالعربية، وهي منطقة مغايرة كذلك في طبيعة المناخ والتضاريس بالجزيرة العربية، وهي كذلك تمثل بشراً قفزوا فجأة للثورة المسلحة بشعارات (شيوعية)، فكأنها تمثل نيزكاً سقط من السموات العلى على التاريخ المعاصر!
قررت هذه المنطقة الثورة بعد حادث عرضي بين مجموعة عسكرية وشركة تنقيب عن النفط، وكانت ثمة تنظيمات تشتغل في الأرض البكر، كلها تتركز في منطقة ظفار، وما لبث الحادث العرضي أن تحول إلى حادث جوهري مفصلي تاريخي.
والحوادث التاريخية الخطيرة هنا تقوم على مثل هذه الحواث العرضية البسيطة، فالحماس وقلة التبصر تحولُ الأحداثَ العرضية إلى لحظات تاريخية مفصلية.
كانت عُمان كلها في الواقع تتعرض لسوءِ إدارة قديمة، ولم يكن ثمة قهر خاص لظفار، ولكن كان الاستيراد السياسي لأفكار القوميين العرب إلى هذه البيئة المتخلفة قد لعب دوراً في تصعيد فكر المغامرة لدى هذه الجماعات.
لم يكن القوميون العرب يدركون إختلاف مستوى البـُنى العربية، وأن القبائل (العربية) في اقصى الجنوب في الجزيرة العربية لا يمكن أن ترتفع فجأة لأفكار صُنعت في الدول الغربية المتطورة، أو حتى لأفكار تم إختلاقها في دمشق وبيروت.
فما بالك إذا كانت هذه القبائل نفسها لا تقرأ، وإذا قرأت فإنها لا تقرأ العربية؟
لكن الاستيراد المناطقي كان يغذيه الحماس، وهو لا يعترف بالتضاريس الاجتماعية أو بالمراحل أو بالأمم وتنوع تطورها التاريخي، أو باللحظات الموضوعية الممكنة للتغيير.
فكانت جبهة تحرير ظفار (تكونت سنة 1963) هي نتاج لمعاناة معينة، للتخلف الشديد في منطقة، وكان يمكن أن تتحول إلى تنظيم إصلاحي بعيد النظر، يتوجه للخطوات السلمية التدريجية، وهو كان واعداً بذلك، لكن أعضاءه لم يكونوا ذوي خلفية فكرية عميقة، فهم عرضة للرياح الحماسية بسبب الأمية الثقافية.
وهكذا ففي خلال شهور تم تحول هؤلاء الإصلاحيين المناطقيين، إلى شيوعيين يطالبون بالثورة البروليتارية الساحقة للبرجوازية.
ما الذي دفعهم لهذه التحولات الكبرى في الفكر؟
كانت هناك عدة أفراد يحلقون في الفضاء السياسي المجرد، ارتبطوا بقادة من القوميين العرب في بيروت ودمشق، وكانت الظروف في الستينيات في بلدان الشمال العربية بعد أزمات الأنظمة القومية تطرح ضرورة تجذير التحولات، ومجيء القيادات العمالية، لتحقيق الاشتراكية الجذرية.
ولم يكن ثمة فهم لهذه الاشتراكية الجذرية لا على الصعيد العالمي ولا على صعيد الدول العربية.
وكان عدم الفهم هذا بسبب المنزلق الذي دخلتْ فيه روسيا لتطبيق الاشتراكية وإزالة الطبقات والذي راحت تنسخهُ شعوبٌ أحرى، أقل تطوراً من العراق حتى اليمن، وفي مثل هذه الخيالية السياسية، كان يمكن بكلِ جدارةٍ أن يطرحَ مثقفون في ظفار مسألة القفزة للاشتراكية حتى ولو لم تتوفر أية مقومات حتى للنهضة البسيطة في ذلك الحين.
وهكذا في لحظة صوفية سياسية سحرية قررَ بعضُ المجتمعين في مؤتمر في ظفار أن يتحدوا وهي خطوة حسنة، ولكن بأن يشكلوا جبهة لتحرير عُمان والخليج العربي كله!
وإضافة للقفزة على الخريطة الجغرافية السياسية، فإنه قرروا الالتحاق بأفكار الماركسية ولكن على آخر طراز تمثل في شعارات ماوتسي تونغ وجيفارا وكاسترو وهم المعروفون بالوعي الفوضوي والمغامر.
كان هذا يعني في الواقع استمرار التجريب العسكري واستخدام العنف في بلد قبائل بسيطة هي بحاجة إلى أبسط الخدمات بدلاً من القفزة للاشتراكية.
كان هذا يغذيه من الجانب الشعبي عدم وجود تطور للعلاقات الرأسمالية وحضور حياة تعاونية مشتركة بين الفقراء، وسيطرة العلاقات الاقطاعية حيث يهيمن شيوخ القبائل المتحكمة في المراعي والأراضي الزراعية على عموم القبائل الفقيرة وعلى العامة المنبوذة من المراكز القبلية الكبيرة.
وكان يمكن لبرنامج إصلاحي متدرج ذي خطوات سلمية من قوى سياسية بعيدة النظر أن يجنب المنطقة مثل ذلك التجريب الدموي.
لكن المغامرين كانوا أقوى في مثل وعي شعبي ديمقراطي غائب تماماً، ولوجود مجموعة من الشباب الهائج عاطفياً وسياسياً، والذي يتوهم إنه سوف يقفز للمسرح السياسي الكبير ويصير مثل ماو محقق الثورة وباني الوحدة الصينية.
وهو الرجل الذي في نهاية عمره كتب الكتاب الأحمر ككتاب ديني شرقي، بسبب عجز وعيه عن فهم تطور الصين، وأن الصين تحتاج للرأسمالية الديمقراطية وليس لنظام القفزة الشيوعية!
(وسنرى بعد ذلك تداخلات مصير الصين وظفار وروسيا في شبكة معقدة تداخلة من التحولات).
كان التسارع في خطى الجبهة الشعبية لتحرير عمان والخليج العربي يتضح على صعيد التبدل المستمر لمسميات التنظيم ونطاق عمله، فمن ظفار حتى عمان كما اضيف كذلك تحرير دول الخليج. فأية قوة عسكرية تستطيع تحرير هذا الخليج من شماله إلى جنوبه وبتلك المجموعات المسلحة البسيطة؟
هذا جزء من خيال سياسي سوف يواصل خلق هذا التخييل المستمر.
أما على صعيد البرامج فيتضح تناقض الأهداف الاجتماعية الوطنية والأهداف السياسية الكبرى.
ففي حين تركز هذه البرامج في البدايات على مهمات بسيطة وأهداف اجتماعية معقولة كإصلاح الأوضاع المعيشية والخدمات، فإنها بعد ذلك تقفز لمهمات سياسية كبرى لا تقدر عليها حتى الدول.
كان المؤتمر الثاني للجبهة في (حمرين) الذي تم فيه إقصاء المجموعات الوطنية المعتدلة قد عُقد في سبتمبر 1968، وهيمن عليه أصحاب الجمل الثورية:
فالجبهة كما يقول البيان تلتزم(بنضال الجماهير العربية في شتى أرجاء منطقة الخليج العربي المحتل، والالتزام بالاشتراكية العلمية، واعتماد خط جذري في مواجهة الاستعمار والرجعية يقوده حزب ثوري يستلهم إيديولوجية البروليتاريا ويستقطب كل الطبقات الثورية لخوض نضال طويل المدى ضد الاستعمار وتبني شعار الكفاح المسلح بصفته شكل النضال الأساسي، وعبر العنف الثوري المنظم، وإدانة(القيادة البرجوازية) للحركة المتمثلة بتنظيم الكويت وتعليق عضوية هذا التنظيم ..).
مع ذلك فإن المهمات الاجتماعية في ظفار لا تتعدى؛ (تحرير الرق وتنظيم الزراعة وتحقيق المساواة بين المرأة والرجل).
أناسٌ تعمل من أجل إلغاء الرق وفي نفس الوقت تريد بناء الاشتراكية؟
كان هذا البرنامج يعني عدم الإدراك السياسي وزج جمهور في مغامرة خطرة محفوفة بالمخاطر الجسيمة، كما أنه يطرح أسئلة سياسية لا تزال الإجابة عليها محدودة، فقد كانت القوى السائدة في الخليج تعيدُ تنظيم أنظمتها بغرض التغيير، وتتوجه لشيء من التحديث والاستقلال، وكان الاستعمار البريطاني قد أعلن عن بدء إنسحابه في نفس الوقت الذي صدر فيه بيان حمرين السابق الذكر.
هل كانت الأجهزة الخفية تعمل لضرب الجماعات المثقفة التنويرية والإصلاحية في الخليج ودفعها لمغامرات للقضاء عليها وتخويف الأنظمة الخليجية من اليسار ومن الديمقراطية؟
خاصة وكان هذا كله يجري والاستعمار البريطاني يتقلص، ولا يريد زوال ركائزه.
لا أحد يعرف الإجابة حتى الآن، لكن العداء للجماعة القومية الوطنية في الكويت وغيرها من الجماعات الوطنية المعتدلة، كان يشير مهما كانت الدوافع إلى إزالة الممكن السياسي الوطني الوحيد في ذلك الوقت والذي كان يمثل قوى صغيرة لكنها ذات صوت قوي فهي التي أسست نفسها وحصلت على مساندة شعبية مؤثرة حينذاك.
كان يعاضد هذا الصراخ الثوري مجيء جمهورية اليمن الشعبية الديمقراطية، التي ساندت الكفاح المسلح في ظفار، وبتلقي مساعدات من جمهورية الصين الشعبية التي غيرت مواقفها بعد زوال حكم عصابة الأربعة، ومجيء حكم الانفتاح الرأسمالي – الشيوعي! فقد كانت أول الأطراف الدولية التي ساندت جماعة ظفار ثم تخلت عنها نظراً لما وجدته من مزايا اقتصادية في التعامل مع دول الخليج وإيران.
لكن أفكار ماو تسي تونج ظلت لدى الجبهة الشعبية لتحرير عمان والخليج العربي.
وفي حين كان الكتاب الأحمر يتم تدريسه للرعاة والفلاحين في ظفار كانت الصين تقيم علاقات قوية مع نظام شاه إيران الذي بدأ القيام بعمليات عسكرية ضد ثوار ظفار وتمكن من سحقهم والاستيلاء على طريق حمرين الذي كـُتب في إحدى مواقعه ذلك البرنامج السالف الذكر.
بطبيعة الحال كان الوقوف مع العمال والفلاحين والبسطاء مفخرة للمناضلين، ومهما كانت الخسائر في ظل النضال الوطني الواقعي فهي مبررة، لكن من الضروري أن تكون معقولة وتؤدي لتراكمات، كما يُعاد النظر في أطروحاتها وبرامجها، لا أن يتم تكرارها.
يمكن تلخيص هذه التجربة بأن طرح برنامج بذلك المدى هو عملية خارقة تتجاوز حتى مستوى بلدان رأسمالية متطورة، وقد حدثت تراجعات على مستوى تمثيل الجبهة للمنطقة فقلصت حدودها وتركزت في بلد واحد، لكن محتوى البرنامج القافز للمراحل، والمعتمد على شكل صعب ومخيف وهو شكل المواجهة العسكرية الكاسحة، والذي يريد سيطرة طبقة غير موجودة في ذلك البلد وهي الطبقة العاملة، كل هذا يعبر عن استمرار المراهقة السياسية وعدم تغيير محتواها.
كما أن إعادة التحولات في دول الخليج تمثل برنامجاً معاكساً قوياً مؤيداً من دول الغرب وبعض الدول العربية المؤثرة، وهو الأمر الذي انعكس على التسلح، ففيما كان الجيش المواجه لجبهة ظفار يزداد قوة وتنظم إليه طائرات كثيرة متعددة الأنواع، ويحصل على معدات متطورة، وينضم له المنقسمون والمنشقون عن الجبهة، والمواطنون العاديون، كانت جماعات الجبهة تتحلل وتعجز على تحقيق إنتصارات وتتخلى عن مواقعها، وتـُحاصر في مؤنها وإمداداتها، حتى تتحول إلى جماعات خارج الحدود تضربُ من الخارج، لكن الدول المساندة تتخلى عنها، وتـُمنع من إطلاق النار!
وكانت الإيديولوجية اليسارية المتطرفة من جهة أخرى الرافضة للإسلام والعبادات الشعبية قد ساهمت هي الأخرى في إنفضاض الجمهور عنها وتركها مجموعات صغيرة، وسلم الكثير منهم نفسه للجيش الحكومي وعمل معه ضد رفاقه السابقين.

الدمج القسري في الجزيرة العربية
تعاني الشعوب العربية من التمزق والتشتت، فقد ورثت هياكل اقتصادية واجتماعية منقسمة مفككة، ففي بداية الدولة الإسلامية كان الحكم قائماً على الدخول الطوعي للقبائل في جسم الدولة المركزية، التي لم تطرح نموذج الدولة المركزية بمؤسساتها العنفية القاهرة، بل طرحت نموذج الدين الواحد الموحِّـد، وتأتي من خلاله عملية التبعية الطوعية للدولة المركزية في عاصمتها الحجازية.
إن عدم ظهور الدولة بمؤسساتها القاهرة، وانبثاق الزكاة كركن من أركان الدين، التي تكون الدولة مسئولة عن تطبيقه، كان يعكس عدم قدرة العرب في ذلك الحين على تجاوز مفهوم الدولة الدينية.
لكن عدم التجاوز هذا كان له نتائجه، فعكست حروب الردة تحول الدخول الطوعي تحت مظلة الدولة إلى دمج قسري، وأخذت الدولة تتوسع بأجهزتها وخاصة العنفية منها، وحلت تدريجياً عن ذلك الانضمام الشعبي الواسع للدولة.
وحين تشابكت مصالح الأقليات الحاكمة في مختلف العواصم التالية بالتحكم الشامل في الأقاليم أخذت مناطقُ الجزيرة العربية في الانتفاض والعودة إلى حكوماتها الداخلية المستقلة، فعادت الأجسامُ السياسية الأساسية كاليمن وعــُمان والبحرين ونجد إلى استقلالها.
لكن ظلت السيطرة من الحكومة المركزية متواجدة بشكل الولاء الديني، أو عبر الحملات العسكرية المتواصلة التي تــُشن بين الحين والآخر.
وإذا كان أقليم الحجاز ذا أهمية خاصة، ولا يمكن أن ينفصل عن جسم الدولة المركزية، وقام الحج بجعله ذا أهمية دينية وتجارية وثقافية كبيرة، فإن الأقاليم الأخرى كانت تفتقد إلى مثل هذا الطابع، فعاشت حياة شبه مستقلة، خاصة المناطق شديدة الرعوية كأقالمي نجد، التي اتاح لها هذه الظرف الانفصال الكلي والقدرة على التدخل والغزو للأقاليم الأخرى.
وهكذا فإن جسم الدولة العربية الإسلامية خاصةً في الجزيرة العربية بمختلف مراحله لم يعرف التوحد الديمقراطي العميق، وكان القصد من هذا الدمج الحصول على الخراج، الذي صار جباية اقتصادية يفرضها النظام بأداته العسكرية.
فلم يحدث أي توحد في الهياكل الاقتصادية بسبب كون الأرض الزراعية هي الوحدة الأساسية في الإنتاج، فظلت القوة وانتزاع الخراج هما المظهران الأساسيان للحكم.
وصار هذا المظهر هو الديمومة المستمرة للدول، فأي مجموعة من القبائل تمتلك قدرة عسكرية تفرض نفوذها وتستولي على الخراج، ثم تأتي قوة أخرى وتزيحها وتعيد نفس السيطرة وهكذا..
ولم تكن التمردات التي سمعنا بها من ظهور للخوارج بفرقهم الكثيرة والقرامطة سوى عمليات انفصالية واستيلاء على الخراج المحلي، فقد كانت هذه الأقاليم بعيدة عن اهتمام السلطة المركزية فما كان منها سوى أن سيطرة على مقاليد الثروة فيها.
لكن هذا الاستيلاء تم بأشكال قسرية حربية من القبائل القوية، فصار الصراع القبلي يكتسي أشكالاً مناطقية ومذهبية، فتظهر دولٌ قبلية، ولكن قانون الصراع والتفكك يواصل عمله داخل الدولة الواحد المنفصلة، فتظهر دويلات في اليمن، وعمان الداخل وعمان الساحل ثم عمان الساحل المتصالح، وتتفكك دولة البحرين الكبيرة إلى مناطق.
فيغدو بناء الدول توحيدي سياسي فوقي وتفكك قاعدي مستمرو أساسه سيطرة مجموعة على الموارد وعدم قدرتها على تشكيل أسلوب توزيعي للثروة.
وقد ورثت الدول الوطنية الحديثة عمليات التفكك هذه وقوانين الصراع الموروثة لقرون عديدة.
ولكن الاستعمار البريطاني ثم الغربي عموماً أدخل جوانب جديدة ومنها ربط المنطقة العربية القليلة السكان بالهند وجنوب شرق آسيا، وأبعادها عن محيطها السكاني والقومي والديني.
وهو مظهر زاد من حدة الصراعات القديمة وأضاف إليها مادة قوية جديدة.
ورغم التطورات الاجتاعية والسياسية الكبيرة بعد القرون الوسطى في الجزيرة العربية، وضخامة البناء الذي جرى بفضل انفجار الثروة النفطية، فإن الانفصال بين السلطات والجمهور العامل ظل مستمراً، وهذا يتجلى بغياب السلطات البلدية المنتخبة، أو عدم فاعليتها الحقيقية، مما يجعل تلك الأقاليم الصغيرة أو الشاسعة لا تلعب أي دور في تقرير معيشتها وأحوالها البعيدة عن العدل في توزيع الثروة على الأقاليم المختلفة.
وقد أدى ذلك إلى تضخم المدن المستمر وزيادة سكانها إلى درجة هائلة، تناقض كلياً ما كان يجري في العصر السابق، وهو أمر أدى إلى زيادة مشكلات الفقر والتلوث والاختلاط الفوضوي بين الأمم، دون وجود أدوات سياسية شعبية قادرة على فحص هذه المشكلات وتفكيك الغامها.
فيلاحظ هنا المظهر المتضاد وهو إنه مع زيادة الثروة وفواضها على مختلف جوانب الاقتصاد تحدث عمليات صراع حادة تتسم بالعنف، كما يحدث بشكل مستمر في اليمن على شكل حروب أهلية وخطف وصراعات مسلحة في الجبال الخ..
أو بشكل أرهاب متسع وصراع مزمن مفكك للبنية الوطنية، وهذا كله يعود إلى أن تلك الثروة المتصاعدة تتجه إلى هياكل الدول التي تقوم بتوزيعها بشكل بيروقراطي.
وكما أن هناك إنجازات كبيرة على أصعدة التحديث والتطور الاجتماعي للسكان لكن (الخوارج) المعاصرين امتلكوا هم أيضاً تطورات واستفادوا من التقنيات العصرية وتسللوا إلى مناطق مدنية، واستغلوا الفوارق الاقتصادية الكبيرة بين السكان، وبين المناطق، وبين العرب والمسلمين وبين معتنقي الديانات الأخرى.
فحدثت صراعات قبلية ومناطقية باسم المذاهب، وصارت (العودة للإسلام النقي الأصيل) وجهاً لدكتاتورية أخرى تغيبُ مضمونــَها كما غيب الخوارج والمذهبيون السياسيون القدامى أهدافهم الخاصة باسم الإسلام.
إن (الخراج) النفطي المعاصر، يتوزع على جهات دولية ومحلية عديدة، ويثير إشكاليات أكبر وأكثر حدة من الخراج الزراعي القديم، ويجذب إلى دوائر الصراع قوى إقليمية وعالمية كبرى.
فهو لا بلا تحديد كمي، وانعاساته ضخمة حيث يقوم المنتفعون به بجلب عمالة أجنبية متزايدة، وتحتشد المؤسسات الاقتصادية في رقعة صغيرة لدواعي الاعتماد على خدمات الدول الرخيصة المركزة في المدن الكبرى، دون أن تسهم هذه المؤسسات في الاهتمام بجسم الدول الواسع وبتوزيع الثروة على مختلف السكان المواطنين.
ويحتشد أبناء القبائل الفقراء في الجيوش وينقلون همومها إلى أداة التوحيد الوحيدة، وهي الجيش، وستكون لهذا انعكاسه على التطور مع بطء المؤسسات السياسية في عكس رغبات الناس وتغيير ظروفهم.

الرأسمالية الصحراوية
في عهد الإسلام الأول جلبت سياسة الفتوحات الكثير من الأموال للفئات الغنية، وبذلك نقضت سياسة الإسلام وشكلت سياسة الاستغلال الفاحشة تجاه العاملين والنساء والأرقاء والشعوب الأخرى.
كما أنها انتقلت من الأقاليم العربية الجزيرية الفقيرة إلى العواصم في البلدان المفتوحة الأكثر غنى، ثم قامت برشوة منطقة الحجاز بالإكثار من بعث الأموال لأسرها الغنية من أجل إفسادها وعدم نضالها مع بقية الأقاليم العربية الإسلامية ضد سياسة الانفراد بالموارد، وبحرمان مناطق الجزيرة الأخرى كاليمن وعُمان والبحرين وهذا ما جعل هذه المناطق بؤراً للإمامية والخوارجية وغيرها، فسياسة البذخ من جانب والحرمان من جانب آخر تولد الفتن.
تلك الموارد المالية الضخمة التي انهالت على أجهزة الحكم الأموية والعباسية وما تلاها، شبيهة بما حدث لدول الجزيرة العربية من تدفق موارد نفطية، بلا جهد كبير، وقد ارتكزت على سياسة قديمة وتوزيع عتيق للثروة بين الأسر والمناطق والطوائف المحظوظة.
إن العصرين المتباعدين زمناً فيهما العديد من السمات المشتركة.
وإذا كان العصر النفطي الحديث قد جعل العديد من الحكومات في المنطقة تقوم بالكثير من تشكيل البنى الأساسية التي هي ضرورة مهمة لكل العمليات السياسية والاقتصادية والاجتماعية اللاحقة، غير أنها توقفت عند حيز محدد محدود من التطور، واستغلت الرساميل الضخمة لحساب الحكومات والمتنفذين فيها ولصالح الأسر الغنية الكبرى والشركات المتداخلة مع الحكومات.
لقد وُجهت أغلب هذه الرساميل نحو المحافظ النقدية والشركات والبنوك الغربية ومن يحيط بها من دول تدور في فلكها، فكان ذلك إسهاماً في تطور البـُنى الغربية الرأسمالية المتطورة بحد ذاتها، وبعد أن فاضت المداخيل على هذه الرساميل العربية الجزيرية توجهت لخدمة الاقتصاد العربي!!
وبنفس عقلية تاجر الرقيق الأموي فإن الرساميل العربية المعاصرة توجهت نحو الرقيق الحديث، أي نحو المحطات الفضائية التافهة التي تنشر الخلاعة والتجارة الرخيصة، ونحو مجلات الموضة، ونحو تكريس الجوائز الثقافية لعتاة الرجعية الدينية، وإلى تضخيم جيوب هؤلاء ليشتروا الفلل الكبيرة والمرسيدسات، ولكي يؤجروا فتاواهم لأصحاب الطول والحول، ولكي ينشؤوا الطائفية ويستولوا على المجلات والجرائد بالرشوة..
ألم يكن الخليفة الأموي يقذف بكيس النقود للشاعر والراقصة ورجل الدين لكي يقوم هؤلاء بخدماتهم الجيدة للدولة؟
ويستطيع رجل الدين أن يشذب لحيته ويقطع من لسانه ويطور كاسيته حسب أوامر وزارة الأوقاف، تماماً كما يفعل نظيره الشاعر في العصر التليد، الذي يقول لخليفته بماذا تأمرني أن أنظم بمدح أم بهجاء، فأنا مجرد متحدث بلسانك وتابع لجنانك !..
وكما فعلت القوى المحافظة من مجابهة الفلاسفة ومخاصمة المتكلمين وإثارة قضايا الطائفية البغيضة في العصور الماضية تفعل نظيراتها من الجماعات الطائفية المعاصرة بشكل أقل من حيث المستوى الثقافي عبر البطش بالسكاكين وبنصوص التكفير!
لا تشكو البلدان العربية الشمالية من نقص في أعداد الراقصات والمحجبات، أو في الفنادق، بل تشكو من ضعف الصناعة وتخلف التطور التقني، وضعف الجامعات الخ..
لكن رؤوس الأموال الجزيرية وقد سيطرت عليها هواجسُ الخوف من الثورة والحداثة والتأميم ولفت رؤوسها ألف عمامة تمنع البصر والبصيرة، تريد أرباحاً سريعة وتتوجه للخدمات المبتذلة وصناعة الفساد غير مدركة أن صناعات التفاهة التي تقوم بها هي التي سوف تعجل برحيلها..
وبنفس قوانين النظام العتيق، يلعب البذخ وتضييع أموال الدول على السباقات وبناء القصور وإعطاء الحلاقين البيوت والقرداتية أموال اليتامى، تقوم الآليات المالية المعاصرة بشطف الأموال العامة للفئات الانتهازية وتسريبها لمن يخون الأمانة ويتلاعب بالأراضي والعلوم والأجيال الخ..
بماذا يختلف قادة دول المنطقة عن معاوية وهارون الرشيد والصفويين والبرامكة والقرامطة والمماليك الذين ضيعوا ثروات هائلة على الجواري والخدم والقصور وإرسال الأموال للخارج؟
إن وضع رؤوس الأموال داخل هذه البلدان وفي التنمية والصناعة والتطور الاجتماعي والثقافي هو الذي يخلق الاستقرار والأنظمة القوية.
فما أغنانا عن تجربة الكوارث مراراً!

مستقبل الجزيرة العربية الديمقراطي
لا شك أن التحولات الديمقراطية في الجزيرة العربية تحتاج إلى وقت أطول من بعض البلدان التي سبقتها في التطورين الاجتماعى والسياسى.
فإذا عرفنا أن الديمقراطية تحتاج إلى بلدان تسود فيها مدنٌ متطورة، وشعوبٌ تحدثت على مدى عقود طويلة، فإننا نرى حتى عملية تكون الدول في الجزيرة العربية احتاجت إلى جهود تبلغ قروناً، بسبب ضخامة وجبروت الصحارى الواسعة التي جعلت الناس على طول الزمن الماضى غير قادرين حتى على توحيد الجزيرة رغم الترابط العضوي بين أجزائها.
إن سيادة القبائل الرعوية بعاداتها وأنماط عيشها وفرضها أسلوب حكمها على المدن كان أكثر استمراراً في هذه البقعة من الأرض دون غيرها من البقاع، وفجأة تظهر الثروة النفطية ويحدث التكالب عليها، والهجرات الواسعة من كل شعوب الأرض قاطبة إليها!
ولعب التحكم الغربي الطويل دوره في إضعاف الهياكل السياسية الأهلية، وتقوية العناصر السياسية العتيقة التقليدية، حتى حدثت التحولات الانقلابية في السياسة العالمية وانقلب الغرب السائد المحافظ على معاييره السابقة، ورأى في تلك الجوانب السياسية التقليدية عامل إضعاف للبناء السياسي الحديث وشجع إقامة التحولات (الديمقراطية) المحسوبة على مقاس استمرار تدفق النفط الخام إليه.
ورغم ذلك فإن هذه التغيرات عامل تحديث مهم للجزيرة العربية، التي تحتاج إلى إعادة نظر اقتصادية كبيرة في خريطتها الاقتصادية التي لم تتغير جذرياً إلا في المدن الكبرى وفي الأحياء الرئيسية منها.
ولهذا فإن صيغ (الدستور) السياسية تعني مشاركة السكان في مراقبة هذه الثروة وتوزيعها، وبالتالي فإن من شأن ذلك أن يقلل من التطرف في تدفق الثروات إلى جهات معينة.
إن التمهل والحذر والمرحلية في التحول الديمقراطي تتطلبها ضخامة المنطقة وتباين جهاتها وأقاليمها وبلدانها، حتى أن شبكة مواصلات لم تقم بين أجزائها، ولم تنصهر الشعوب في بوتقة حضارية واحدة.
ولم تزل الجزيرة العربية كأنها ليست من الوطن العربي فهي مربوطة ببلدان شرق آسيا، وتضخ هذه الهجرات يومياً أشكالاً من الانفصال والتغريب عن الجسم القومي، فحتى التعريب لم يتحقق فيها، وإذا بعض القوى السياسية تطالب بقفزات في التحول، تخدعها مناظر البناء وأشكال التحديث الخارجي في حين إن المضمون التقليدي متجذر في الأرض.
وفي الوقت نفسه تتلكأ الحكومات في التوزيع العادل للثروة على مناطقها المتعددة المتباعدة شبه المنفصلة، حيث تكون العاصمة أو المجموعة القرابية هي التي تتنعم بأغلبية الثروة.
وتتفاوت هذه العملية ففي بلدان ثمة تماسك قوي بسبب قيام الإدارات بتوزيع كبير للثروة على الأهالي. وبعضها الآخر لايتوافر فيها ذلك، بل إن بلداً مثل اليمن يعيش في عالم آخر.
تتطلب هذه الإشكاليات ضرورة التعريب والتحديث حتى في أبسط صوره كعمل سكك حديدية تربط كل هذه المنطقة، وإعادة النظر في وضع الثروة النفطية المغيب حيث الإهدار في ضخ هذه الثروة وغياب التصنيع الواسع لها، وإعادة النظر في الجامعات النظرية ونقل المعرفة غير المجدية.
والحكومات والقوى المالية الكبرى عموماً لا تتطلع إلى تصنيع متجذر مثل هذا، ولا تحقيق تنمية منتشرة ومتوزعة على بقع الجزيرة، بل هي تضخ الأموال إلى الخارج للحصول على العائدات فقط تاركةٍ أقاليمها الفقيرة والمحرومة لمصير مجهول .

في إنتاجِ دكتاتوريته الفردية يصعدُ لينين صراعَهُ ضد التعددية في الحزب، فيقسمهُ، ويصعدُ صراعَه ضد التنوع الديمقراطي في الغرب فيغدو الغرب برجوازياً لا بد له من شيوعية نافية له بكليته.

الموقف الجوهري

دعْ الإنسانَ حراً

يتصور بعض المتشددين دينياً أن التحديثيين يؤيدون نشر الموبقات والإدمان والدعارة وغيرها من الكبائر، ولهذا يستميتون قتالاً ضدهم.
إنهم لا يتصورون أبداً إن هذه الأعمال كريهة وتُقاوم من قبل هؤلاء المؤيديون للحداثة.
يتصورون التحديث بأنه فتح البوابات لهذا السيل العرم من الشر وإنه القبول بهتك الأعراض ونشر المحرمات!
إن التحديثيين الحقيقيين المناضلين لشعوب عربية وإسلامية حرة متقدمة هم بخلاف ذلك تماماً.
ولهذا تغدو للمحافظين الشعائرَ فيصلاً بين الحق والباطل.
ولهذا تغدو أسهل الحلول لهم هي المنع والبتر والقضاء الشكلي على الموبقات والآثام!
الكائن الإنساني لديهم عجينة صناعية يتم هرسها منذ الطفولة بالعصا والأوامر فإن لم تفلح فبالزنزانات فإن لم ترض الشعوب فبالأحكام العرفية والدساتير المفصلة حسب العصا، وإن لم ترض فبعزلها عن العالم ووضعها في قمقم، ولهذا يقولون أحسن الدواء هو الكي.
العصف بالموبقات هنا مثل عصف عصابات بول بوت بالعناصر الرأسمالية الشريرة، وكانت قد تبعت في ذلك جبابرةً أنزلوا الجيوشَ لسحق العناصر الرأسمالية الاستغلالية ومحوها من الجنان حتى لو تضاءل البشر من على وجه البسيطة!
وكان في التراث العربي الإسلامي كثيرون من إمتشقوا السلاحَ لبتر الخطايا وسحق أصحاب الرذيلة، وكان الخوارجُ والعتاة يرهفون الأسماع لكي يئدوا أي نغمةٍ طربية تخرجُ من وراء جدران بيت، ويقطعوا حناجر من يحتفل ويمرح!
ولكنهم أين ذهبوا؟
التحديثيون الاسلاميون العرب الأوائل كانوا يصنعون المعرفةَ ويعادون الشر والفساد والموبقات، فلا تناقض بين الاثنين بل هما متكاملان لا ينفصمان.
فالرذائلُ تأتي من الفقر والجهل، وحين يفصل الديني المحافظ النصوصي بين تنامي الخير والفضيلة وبين عدم إنتشار الغنى والثقافة بين الفقراء والعاملين، يعلق دعوته في فراغٍ لا تتمسكُ بشيءٍ ولا تقفُ على قاعدة صلبة.
وكأن الخيرَ حسب خطاباته الدائمة في الفراغ الاجتماعي تأتي من الكلام، وكلما أكثر من الكلام أمطرتْ السماءُ فضيلةً!
وكأنه لا صلةَ بين الأجور المنخفضة والمساكن الرثة والأولاد الهائمين على وجهوهم بين الخرائب والإبر، وبين الفضائل المبتغاة الممتنعة عليهم.
وكأنه لا صلةَ بين يُولدون وفي أفواههم ملاعق من ذهبٍ وهذا الموتُ السريري البيروقراطي وهذا الرفاه الباذخ المُفسد للعقول ولزوال الإراداتِ والمواهب والبحث عن المتع الشريرة!
وكأن الخيرَ يمكن غرسه عبر شاشات التلفاز ومكبرات الخطب، وإنه يمكن إجبار هذا الكائن البشري الحر على أن يتبع روشتةً صادرةً من صيدلية واحدة متنفذة، وأن يَدهس نوازعه الشريرة ويقتل مشاعره وأهواءه المختلفة بالأوامر الصادرة من مركز كلي متحكم.
وهذا محال، فالحريةُ الفردية هي هواء البشر حتى لو أطبقتْ القيودُ على أجسادهم وأرواحهم، ولكن الحرية تتحول خراباً مع غياب الثقافة وعدم تغيير حال المجتمع الفقير المعدم الذي يتفجر بظرفه وينحرف نحو الكثير من المشكلات، كما أن الحرية موجودة بقوة في المجتمع الغني المادي لكن الذي يتلاعب بالأموال ولا يمتلك خططاً إجتماعية لتطوير غناه الروحي.
التحديثيون من يصارع الجانبين وتوجيه الأحول نحو الرفاه المادي والروحي، وهذه لا تأتي بدون معرفة جذور المشكلات و«الخطايا» وأسباب الانحرافات، والطبيب النفسي يصغي للمريض للوصول إلى جذور مرضه، فلماذا لا يعرف المربي الروحي المشكلات الغائرة وراء الأدمان والشرور؟ بل أن يصير جزءً من كتائب المناضلين لتغيير الأكواخ والمستشفيات البيروقراطية الخاسرة غير المعالجة أو المستشفيات الباذحة المعالجة الاستغلالية، والمدارس التي لا تدرس وتربي والمصانع التي تسرح العمال؟
إن التيارات السياسية والفكرية يمكن أن تلعب أدواراً مساندةً لبعضها البعض في التحويل الاجتماعي، فالمدنُ تُختطفُ شيئاً فشيئاً، فنحن جزءٌ تابع في العالم، ولسنا في كوكبٍ خاص مستقل، وبدون تعاون التيارات الدينية العقلانية والتحديثية وعملها معاً ضد ظاهرات الاستبداد والفساد والشر تتجه الظروف والأحداث للمزيد من الكوارث والموبقات!
إن مقاومةَ المحافظين للتحديث والديمقراطية والحرية هو بخلافِ أهدافهم زيادةٌ للشرورِ وتكسيرٌ لإراداتِ العقول للوقوف ضد طوفان الغرب بجانبهِ السلبي ولعدم الاستفادة من جانبه الايجابي، وترك الشباب بلا سلاح يواجهون به الاغترابَ والأدمان والتسطيح والتخريب والعهر وتضييعَ ثروات الأسرِ والأمةِ في ملذاتٍ فارغة وأهواء عابرة وأمراض متجذرة!
دعْ الإنسانَ حراً ومسئولاً عن حريته ودعْ الحياة حرة وقاوم الشرور.

الموقف الجوهري

يمثل الموقف من مساندة الفقراء سياسياً واقتصادياً جوهر المواقف النضالية عبر العصور . فلكون الفقراء والعمال والعبيد والفلاحين يتحملون عبء الإنتاج، ولا يحصلون إلا على النزر اليسير لما يسد رمقهم ويجعلهم يواصلون حمل عجلة الإنتاج الدائرة دوماً، يغدون هم أساس المواقف النضالية الاجتماعية، ومن يقترب من الدفاع عنهم يغدو هو داخل تيارات التغيير والتقدم.
فهكذا كان الأنبياء والأئمة والمناضلون عبر العصور، فهم قوى التغيير والدفاع عن هؤلاء المنتجين، ومن هنا يتلاقى المناضلون عبر العصور رغم اختلاف طرق التفكير، وأنماط الإنتاج، وأشكال التعبير، ومن هنا يصم المتجبرون من يقف مع الفقراء والمعوزين بنعوت التحقير، كقول كطغاة قريش عن المسلمين الأوائل بأنهم كانوا مع الدهماء وأراذل الناس، ومع ذلك وقف المسلمون معهم، فمالوا عن سنن قريش، واقتربوا من المنتجين ودافعوا عنهم ! والآن حين يقف المعارضون المعاصرون مع هؤلاء الفقراء والعمال، وهم لا يختلفون كثيراً عن بلال الحبشي وعمار بن ياسر وصهيب الرومي، يوصمون بما وُصم به المسلمون الأوائل، لأن هؤلاء الواصمون ابتعدوا عن الفقراء وامتلأت جيوبهم، وغيروا مواقفهم .
إن الغنى والفقر عمليات موضوعية في التطور الاقتصادي والاجتماعي، وهي عمليات ضرورية تقود إلى انتقالات كبرى للمجتمع، على صعيد التطور الاجتماعي والثقافي والسياسي، فلا يحدث أن يصير جميع الناس أغنياء، لأن ذلك مستحيل في أساليب الإنتاج القائمة على الملكية الفردية .
ولكن الحركات السياسية غالباً ما تضلل جمهورها زاعمةً أنها سوف تحقق الثروة للجميع، وتحقق العدالة للجميع، وهذه شعارات خيالية في ظل مستويات التطور الاقتصادية السابقة والراهنة. ورغم أن هذه الحركات تتحول من مساندة الفقراء بأسلوبها الخيالي السابق ذكره، فإنها تصر أنها تمثل الفقراء بعد أن راحت تصعد في سلم التطور الاقتصادي، ويتغير دخل أفرادها، ويرتفعون من الفقر إلى الغنى !
فتظل الشعارات اليسارية والنضالية مستمرة في حين تكون مياهٌ أخرى قد جرت في قنوات الحركة، وهكذا فإن الحركات الدينية الإسلامية قد تغيرت لغتها السياسية بعد الفتوح، وتراكم الأموال في أيدي قيادييها، وتحول الحزب الشيوعي السوفيتي إلى مؤسسة حاكمة مالكة لأغلبية الدخل القومي بدلاً من أن يكون المدافع عن العمال، وصار الحزب الشيوعي الصيني منتجاً للمليونيرات، وغدت الأحزاب الليبرالية الغربية غير مدافعة كثيراً عن الحريات بعد تراكم ثروات المستعمرات والعالم الثالث في خزائنها !
وانقسمت الحركات الدينية في العالم الإسلامي إلى أجنحة متضادة فبعضها اغتنى ووصل إلى الثروة، والبعض الآخر ظل مُهمشاً متدني الدخل، فراح يطرح خطابات قتالية لمزيد من الاتباع والثروات . وهكذا فإن ظهور تيارات منتفعة في الأحزاب هو أمر حتمي، وتقود هذه التيارات إلى القبول بمستوى التطور السياسي المتدني، وتتشوش الرؤية على التيارات الأخرى المدافعة عن الفقراء، خاصة إذا تم سد أفواهها بمكاسب ذاتية أو بتجهيل، بحيث تعجز تنظيمياً عن رفع صوتها وتشكيل تيارات مستقلة . والقوى الغنية والانتهازية عادة لا تريد طرح وجهها الاجتماعي بوضوح، ولا تقوم بتحويل استثماراتها عادة التي تشكلت وسط الأحزاب الثورية، مؤكدةً استمرار خطها النضالي، في حين أنها تفقد صلاتها بهذا الخط السياسي المعارض الذي تمثله، وهنا تقوده لأضرار فادحة بدلاً من أن تنسحب وتشكل خطها الخاص .

الهام حرمة أموال الناس

لا يهم بأي شكل تفكر فالمهم ما هو مضمون فكرك. إذا كنت مذهبياً أو علمانياً أو رجلاً أم امرأة، عقائدياً أم متحللاً من العقائد، فالمهم هو أن تكون مع إرادة الناس لكي تكون أموالهم لهم. لايهم إذا كانت المرأة محجبة أم غير محجبة، قارئة أم راقصة، فالمهم أن تناضل من أجل الدفاع عن حقوق الناس وتناضل لتطور الأمانة ورد الحقوق لأصحابها!
لايهمنا المعمم إذا كان قد فتح عينيه الكبيرتين تجاه قضايا الطلاق والإرث وأغمضهما عن سرقة القطاع العام، وابتلاع الأراضي ودفن المصائد والتهام أموال اليتامى!
لايتساءل العرب والمسلمون والصائبة واليهود والمسيحيون والمجوس وعبدة النار عن العقائد بل عن الأموال كيف سُرقت والجواري كيف سُلبت والخزائن كيف نـُهبت والمزارع كيف جُففت وحولت إلى قصور والحقول كيف شـُفطت فأزهرت أولاداً وبنات من عصي وجرائم وسرقات في المدن!
لا يتساءل الناس كيف تصلي ولمن تولي وجهك بل كيف يقبل ضميرك أن تصمت على نهب حقوق الناس، وكيف لا ترد الأموال التي سرقتها، ولا تناضل ضد الضرائب الباهظة التي أثقلت كواهل الناس وأكتاف العاملين وحولتهم إلى جذوع نخيل خاوية من الأمانة والصدق فباعوا أنفسهم لمن يدفع..
في كل الأديان والعقائد والملل هناك محاكمة للضمير، لكن الضمائر نامت على وسائد الحرير والبقشيش والعملات والعمولات، فلم يعد المؤمنون يخافون من اليوم الآخر، ولم يعد المناضلون يهابون نقد الخلايا الماركسية النائمة، فابتكر العصر المحاكم وحقوق الإنسان والديمقراطية لكي يجر اللصوص من كل الطبقات والأديان والمذاهب إلى قفص الاتهام، فلم يعد مهماً من تكون بل ماذا تفعل!
لم يعد أحدٌ في العالم السياسي يهتم بأسئلة ما هو دينك ومذهبك وحزبك واتجاهك الفكري، بل بما هو موقفك من المال العام، وكيف يناضل الدينيون من أجل استرجاع المال العام، وكيف يراقب العلمانيون مصادر رزق الناس المنهوبة من قوى اللصوص وقطاع الطرق. لقد كرست المبادئ الشريفة من كل المذاهب والأديان والأفكار المعاصرة التنافس لصالح إعطاء الفقراء والمحرومين أنصبتهم من الدواء، فماذا نفعل بكل مبادئ الحزب التقدمي العظيمة وهو لا يناضل في الحياة العملية من أجل دواء رخيص وتغيير لوضع المستشفيات التجارية الماصة لدم الجرحى والمتألمين، ولوضع المستشفيات الحكومية البيروقراطية التي هي قصور في الهواء بعيدة عن توصيل الإبرة العلاجية للمحتاج من ألم السرطان والقرحة؟
ماذا نفعل بكل مبادئ الدينيين وهي لا تفكر في عذابات المعذبين، ولا تعرف الأزقة الفقيرة إلا في مواعيد الانتخابات وتغيير إدارات الجماعات المتنفذة ؟
والمهم لديها هو مراضاة الأغنياء والمتنفذين والاستفادة منهم، لهذا قل الزهاد فيهم وكثرت الكروش السياسية المنتفخة وصار النضال لتعدد النساء الزوجات هو النضال الأكثر حمية لديهم؟ ومن هنا كثرت خلافات السياسيين وتعددت تياراتهم وجماعاتهم لأنهم لايفكرون سوى في أنفسهم وامتيازاتهم وكيف يهبرون من لحم الشعب مثل المتسلطين والاستغلاليين!
قال السلف الصالح قديماً: في العمل من أجل الحق والدفاع عن مال الأمة فليتنافس المتنافسون، لكن الواقع كان يقود السياسيين دوماً إلى التنافس على غنائم الحكم والعظام الملقاة من السلطان!

قانون الإنتاج المطلق

لا يكون الإنتاج الروحي إلا من أجل الناس، وبؤرتهم وقلبهم أصحاب العمل والإنتاج، قوى المعاناة والعطاء.
الفئات المنتجة للثقافة هي فئات وسيطة، لديها بعض الغنى المادي وبعض الغنى الثقافي، وتنمو حسب توجهها للناس، وتضحيتها بغناها الشخصي، لأجل أن تزدهر السعادة والغنى عند الأكثرية المنتجة.
وحتى حين كان المثقف ساحراً في العصور البدائية قبل التاريخ كان يشتغلُ من أجل الصيادين، فيرقص ويغني ويقص من أجل أن يزداد الصيد ويتكاثر الإنتاج ويعم الفرح.
وحين دبت الخلافاتُ بين الناس، وصار العبيدُ والأحرار، والفقراء والأغنياء، ظل قانون الإنتاج الثقافي هو نفسه. هل ينتمي المنتج الثقافي للمنتجين، والمعذبَّين، وللأغلبية المنتجة؟
لكن كان أغلبية المنتجين الثقافيين عبيداً في الروح، يوجهون إنتاجهم لمصلحة الأقلية، وبقي الإنتاج الذي انتمى للناس، وذاب إنتاج النفاق والاستعراض. لقد ظل مكتوباً كذكرى مؤسفة على هدر بعض الناس طاقاتهم من أجل النقود، لا من أجل سموهم الروحي.
أنظرْ يا من غيبت نفسك في طوفان الأشياء كيف أن كلمات التوراة والأنجيل جسدت معاناة أنبياء هربوا من الإستغلال وعسف الدول إلى الصحارى كي ينشئوا دولاً حرة، فتسامت كلماتهم وتواريخهم وتوحدوا مع السعادة العميقة والصلبان والزنزانات.
ولعلك لم تقرأ جيداً القرآن وهو كلماتٌ عن نبي رفض أن يخدم الملأ الاستغلالي وفضلَّ أن يكون مع العبيد والفقراء وغيّرَ التاريخ.
لعلكَ يا منْ غيبتَ نفسك وراء الأشياء تظن إن حمايتك من قبل أصحاب النفوذ سوف تعلي كلماتك الباهتة، أو لأنك مررت بتجربة سجن عاصفة وألم كبيرة سوف يحميك هذا الجبل الطيب من طوفان زحفك نحو المعدن الأصفر، فالناس تعرف استمرار مقاومتك لا تاريخك ذلك وتخليك عن أصلك الطيب.
ومهما جئتَ بأصولٍ حاكمةٍ أو أسرةٍ كريمة أو إنتماء لحزبٍ مناضل قدم الشهداءَ الكثيرين، ومهما كان أقرباؤك وأئمتك من جهابذة في الدين والتاريخ، فإن مقياسك هو شخصك ومدى إنتاجك المضيء ونقدك للأشياء السيئة والظاهرات المخربة للإنتاج وحقوق الأغلبية من العاملين.
لا تقل أسرتي وحزبي وأئمتي وقادتي، بل قل ما هو عملي وموقفي الناقد ودفاعي عن شعبي وكفاحي ضد الأخطاء.
والأديب ليست كلماته بمعزل عن قانون الإنتاج المطلق هذا، الذي يتساوى فيه الأنبياء العظام والشعراء الصعاليك، وهو ميزان الحق، فيظن أنه له فترة يجاهد ويتعذب لكي ينير ثم تأتي له فترة خاصة يتكاسل ويبحث عن المناصب ويغدو رئيس جريدة النفاق.
ميزانك هو كلمتك، مدى تحول قصصك وأشعارك ومسرحياتك ونقدك إلى كشافات تفضح مستنقعات الفساد، لا تقلْ إنني أديب ناشىء أبحث عن سبل التعبير والعيارة، ليشتد عودك وتنضم إلى الحرامية، بل أغمسْ مدادك في معاناة البشر ولا تستجدي الشهرة والمال.
لكن الكثيرين اتخذوا الكلمات مطايا، وهدايا، وضحايا، وقادة الفكر وعباقرة الكلمة غدوا مثالاً سيئاً للنشء، وهذا يحدث كثيراً في التاريخ، عندما تقبضُ الطبقة المسيطرة على الكثير من المال فتستطيع أن ترشو بكثرة، لكن ذلك مؤقت، لأن وفرة المال على هذا النحو لا تدوم، بل تدوم حين تستمع هذه الطبقة للنقاد، وترهفُ جميعُ آذانِها للضربات الكلامية والأدبية والعلمية التي توجه لتبذيرها وفسادها وحينئذ تطور سيطرتها وإنتاجها المشرف على الأفلاس بفضل جوقات النفاق والبذخ.
المال اليوم عندك وغداً عند غيرك ، فتذهب للاستلاف، فلماذا تبيع ماء وجهك وكنت عزيزاً، ولا تحفظ كرامتك وهي من كرامة الأمة والناس؟
لا تقل أصلي وفصلي وحزبي وجماعتي، بل قل هي كلمة الحق أوجهها ضد كل مخطئ ومستغل ومبذر، أرفع بها من يسمو إلى المعالي، وأعصف من خلالها بكل من أهدر ثروة الأمة ونشر الأرهاب وغزا الأخوة والجيران ووسع الاستبداد.
كلمتي هي مع الحق والحقيقة، لا مع الخزائن.
ليست كلمتي مرهونة بمديح النقاد وأن يرضى عني رئيس الجامعة والكلية، فأدبج «الدراسات والأبحاث» كما يشتهي رئيسُ القسم المريض، فأعلي من يرضى عنهم، وأخسفُ الأرضَ بمن يكرههم لكي أحصل على الوظائف والمال، فأي علم هذا الذي يكون ذاتياً وجائراً وغير منصف؟
وكيف تنشأ الحقيقة بين جماعات القول الواحد والصوت الواحد، وجماعات نحن مع الزعيم أينما توجه وكيفما قال؟ وهل تـُدار الأوطان والأحزاب بقول الفرد؟
يتباين الإنتاج الثقافي في كل هذه الأنواع في أشكاله وتعابيره، ويتحد في مضامنيه، وفي عصوره السحيقة والمعاصرة، على بعد المسافات والأشكال والأزمان، فكلمة الحقيقة تشق طرقها بوسائل مختلفة، وهي تنمو من خلال الألم الشعبي، تنور صهر الأشكال ووحدتها وتطورها، وفي الفرح والاسترخاء والغنى ظاهرات مقاربة حين تتصل بذلك الهم الإنساني العميق.

الرهان على القلم

لم تفد الكتاب المراهنة على الحكومات والدينيين، فالكلُ يتاجر بالأوطان والأديان لمصلحة موقوتة، والكل يبيع والبعض مستفيد، والأغلبية خاسرة!
الكل يدعي ولا أثر على الأرض!
ليس للكتاب سوى أقلامهم تنمو قصة ورواية وشعراً ونقداً وثروة للوطن بلا مقابل أو بمقابل ضئيل وغير شفاف!
أعطوا الوطن لكل من يدعي ويبيع، وكل من يزحف على بطنه، ويقبل الأحذية، ويأكل التراب ويلعن الإنسان.
ليس لكم سوى هذا القلم مهما توهمتم التحليق في سماء مجردة، ومهما تباعدتم، وأختلفتم، ليس لكم سوى قطرات من حبر أو من دم.
راهنوا على القلم فهو وحده الباقي
تتحولون إلى عظام وذكريات متعددة التفاسير ولا يبقى سوى قلمكم يقول ما آمنتم به وما ناضلتم لكي يتكرس في الأرض.
ليس لكم سوى أوراق فلا يخلدكم ولدٌ ولا تلد، هذه الحروف التي عانيتم في إنتاجها وتعذبتم في إصدارها هي التي تشرفكم أمام الأجيال المقبلة التي لا تحد ولا تحصى.
فثقوا بالحروف وبالإنسانية المناضلة نحو زمن جديد هو زمنكم، الذي تصيرون فيه ملوكاً متوجين، وحكاماً غير مطلقين، ومربين كباراً للأجيال.
ماذا تفعلون الآن وكيف تمتشقون سلاح الكلمة وتوجهونه للحرامية والمفسدين وتعرون شركات الأستغلال وبنوك النهب العام، ترتفعون في سماء الوطن، وتخلدون في سجلات الأبرار.
القلم ليس له شريك سوى الحقيقة، وليس لطريقه واسطة أو سلطة محابية أو كهنة مطلقين، هو الحربة الموجهة للشر لا تعرف الحلول الوسط أو الشيكات الثمينة.
سلطة القلم سلطة عالمية، تتوحدون مع القلم الأسود والأبيض والأصفر، وكل ألوان الإنسانية المتوحدة في معركة واحدة ضد الحكومات المطلقة وبيع الإنسان كما لو أنه حذاء وضد هذا العداء بين الأمم والأديان والأعراق.
أنتم رموز الإنسانية فلا تنحدروا ولا تساوموا واكتبوا بسلطة الحقيقة وليس بسلطة المال.
توحدوا في هذه المعركة الكونية، وتضامنوا مع اشقائكم المظلومين والمضطهدين في كل قارات الأرض، وضد هذه القوى التي تدهس القصة والقصيدة ولا تحب سوى الإعلان، وأخبار القتل واليأس، ولا تبجل سوى البشاعة.

جسد فهم المجتمعات للمادة، وهي الأشياء والعالم الخارجي الموضوعي، خارج العقل البشري، مدى قدرة البشر على السيطرة على الطبيعة والمجتمع، ومدى قدرتهم على التصنيع وخلق تراكم للعلوم الطبيعية والاجتماعية.

جمعية التجديد الثقافية

عبـــــــدالله خلــــــــيفة الســــــيـرة الذاتـيــــــــة

كتب : عبـــــــدالله خلــــــــيفة

منذ أن ظهرت جماعة التجديد من أقبية السجن المكلل بالمعاناة وهي محط اشتباه عند الغالبية العظمى من الجماعات السياسية الشيعية، بسبب النشأة الغامضة للجماعة في أتون السجن ودعوتها لأشياء جديدة لا تتوافق مع الجو السياسي العاطفي الساخن لدى هذه الأغلبية. ظل أصل النشأة غامضاً، لكون الجماعة لم تصدر شيئا تاريخيا بهذا الصدد، فظهرت شائعات كثيرة أغلبها يربطُ الجماعةَ بمؤامرة بهدف زعزعة الصف الشيعي المتماسك الموحد. واعتبرت هذه الشائعات أن تكوينَ جماعةٍ سياسية تزعمُ الاتصالَ بالمهدي وأنها طليعة لقدومه العظيم، هو خطة مدبرة دقيقة، ولكن ما قـُدم من قبل الرافضين لهذا التشكل لا يعدو أشياء عجائبية لا يصدقها العقل، مثل أن زعيم الجماعة كان يُظهر معجزات بالاتفاق مع إدارة السجن، لكي يرتفع في نظر اتباعه القلة وقتذاك، الذين تضاعف عددهم بعد الخروج من السجن.
وإذا كان ذلك صحيحاً على هذا الافتراض فإنه من الصعب التصديق بأن هذه الجماعة هي مؤامرة بهذه الطريقة، فقد توجهت لإنتاج الفكر وإصدار الكتب وعقد الندوات وتوفير أجواء من البحث، من دون أن تكون كل هذه الثمار المتنوعة بمثابة (مؤامرة). ولا يمكن لمشعوذ مهما كانت قدراته أن يخلق تيارا فكريا. وإذا قال معارضو جماعة التجديد: إنها مؤامرة موجهة لتفتيت الصف الشيعي فإننا لم نجد شيئاً مسيئاً للشيعة أو لغيرهم من المسلمين في هذه الأدبيات.
أما إذا قيل: إنها جماعة موالية للسلطة فلماذا لا يُسمح بظهور جماعات سياسية موالية للسلطة؟ ولماذا لا تظهر جماعاتٌ أخرى محافظة معارضة؟ لكن لا توجد كذلك أدلة على موقف سياسي محدد لجماعة التجديد، فهي أقرب لجماعة فكرية تتسم بمرونة سياسية وببعد نظر ثقافي ولا تحشرُ نفسَها في زاوية، صحيح أن أطروحاتها الاجتماعية ضد الفقر والبطالة والاستغلال غير مرئية، لكن ذلك أيضاً هو موقف اجتماعي هي حرة في انتهاجه. والمهم هنا أنها تدعو إلى أفكار بالكلمة وهذا هو المميز، أما المواقف الفكرية فلها حساب مختلف.
إنها تطرح الاختلاف وتجتهد في البحث وهذا لا يضر أحداً لأن القضاء على الفكرة يتم بالفكرة لا بالقبضات القوية والعصي. وتبدو الجماعات الكبيرة المعادية لجماعة التجديد في وضعها الفكري المحافظ غير راغبة في اثارة أي جدل فكري، وهي تغلق الأبواب في بحث تاريخ الأديان والأفكار، وهذا ليس من حقها، بل من واجبها إطلاق حرية البحث حتى فيما يتعلق بالمذهب الشيعي نفسه، فهو ملكٌ للمسلمين وليس فقط حكراً عليها.
لكن جماعة التجديد في كتبها وأوراق بحوثها الكثيرة ومقالات أعضائها تتجنب الصراعات وتمتنع عن الإثارة كما هو الحاصل في بقية التيارات، ربما لإدراكها صعوبة مثل هذه الإثارة في وسط ديني محافظ، كما أن خطوات التجديد في الوعي الديني بحاجة إلى الحصافة وبعُد النظر والهدوء، فهذه مقدسات الناس وليست تجارة بضائع، وهو ما التزمت به الجماعة.
وهي لها حق الاجتهاد والتأويل في الموروث الديني من دون أن تلزم غيرها به كذلك. ونريد من يتهم هذه الجماعة بذلك أن يضع بين أيدينا دليلاً على إساءة الجماعة لرمز من الرموز الدينية، أو تحقيرها لعبادة وسوى ذلك من الأدلة، أما الاتهامات الجزافية فهو أمر خطر.
ان التركيز في لفظ (السفارة) وان الجماعة تزعم الاتصال بالمهدي عليه السلام وانها تمهد لعودته وغير هذا من الافتراضات، فلا يوجد دليل ملموس حول ذلك. لكن إذا خرجت الجماعات من أفق هذا التفكير النصوصي، ورأت ان رمزية المهدي أوسع من هذه المحدودية، وأنها رمزية خلقت ثورات فكرية وخصباً جدلياً وثقافياً كبيرين، فكم من ثائر قال ذلك، وكم من حركات في التاريخ الإسلامي الطويل نشأت على هذا التداخل بين الغيبي والواقعي، بل ان التاريخ الثقافي الشيعي نفسه مليء بمثل هذه الحركات.
وفي الثقافة السنية اندلعت ثورات كبرى وتشكلت مقاومة وطنية باسم المهدي، وكل هذا بسبب هذه الرمزية المتعددة الآفاق والاحتمالات، فيجب ألا تـُؤخذ بحرفية نصوصية وبانعدام للخيال الخصب والتأويل. ومن المؤكد أن رمزية الاتصال تعني تشكيل موقف سياسي ويجد القائمون على احتكار المعنى الرمزي أنه يجب ألا ينازعهم منازعٌ في هذا الاحتكار، ثم تم تحويل الصراع مع جماعة التجديد إلى هذه الجزئية الصغيرة وتم شحن العواطف حولها، ونسيان الجوانب الثقافية الأخرى، مما يؤدي إلى تحريض البسطاء الذين لا يعرفون أن المسألة ثقافية واجتماعية كبيرة، ذات أبعاد معقدة ومركبة، فيتم التركيز في تفصيل هدم المقدس والاعتداء على حرمة الدين. وحتى لو أن جماعة التجديد توجهت لهذا الهدم المزعوم فهل تستطيع أن تفعل شيئاً؟ هل تستطيع أن تزيل حجراً واحداً من هذا الإيمان؟ بطبيعة الحال هذا غير ممكن، ولهذا ما الداعي للخوف والتناحر؟

مشروع جمعية التجديد

حين أصدرت جمعية التجديد الثقافي مشروعها في عدة كتب تحت اسم «عندما نطق السراة»، أبهرتني الجمعية بهذا النتاج الثقافي، فلأول مرة يقوم مثقفون بحرينيون بإنتاج عمل فكري ثقافي واسع، خلافاً لكل الجمعيات السياسية التي دأبت على إنتاج الشعارات وتعطيل العقل المنتج الناقد، فلم يظهر لها إنتاج فكري متميز خلال العقود السابقة، وهو أمر كان يدل على سيطرة العفوية والتلقائية السياسيتين، في حين أن جمعية التجديد التي اختارت الظل قامت بما عجز عنه أولو القوة والبأس في هذا المضمار الفكري.
فهي قد مضت إلى أكثر جوانب الفكر صعوبة وهو مناقشة الأسس الفكرية التي قامت عليها هذه المنطقة، خاصة أديانها، سواء كانت القديمة المتمثلة في الأساطير والديانات ما قبل التوحيدية، أو مناقشة الأديان السماوية، وقمتها العربية: الإسلام.
وقد ظهر ذلك فيى شكل ملتبس، أي عبر كتب بلا أسماء كُتاب، وقد خيل إلي أن جماعة التجديد تعيد إنتاج عمل إخوان الصفا، الذين قاموا في العصر العباسي بكتابة بحوثهم من خلال اسم جماعي، حذراً من السلطات السياسية والمذهبية المتعددة الجامدة الواقفة ضد كل تجديد.
ولكن هذا الحذر لا معنى له في العصر الراهن، بل من شأنه إخفاء جهود الباحثين، وتطورهم الفكري داخل جماعتهم، وإسهام كل منهم، ومعرفة المتقدم البارز من المشارك البسيط الخ.. وبالتالي تحديد خطوط التطور الفكري العميقة والإسهامات في بلورتها.
قرأت بعضاً من هذه الكتب، فوجدتُ نظرات مثيرة ومحاولة جريئة لتجاوز تناقضات المراحل الفكرية، فتلك الهوة بين ما قبل الأديان، وعالم الأديان، ما بين أسطورة مثل جلجامش أو تموز، وبين رموز الأديان التي لم يقبل الفكر الديني مناقشتها، بل إنه اعتبر العالمَ الفكري القديم عالماً وثنياً جديراً فقط باطمس والإلغاء، إن هذه النظرة الدينية التقليدية تم نسفها في مطبوعات جمعية التجديد .
كذلك فإن الخلاف الطويل بين الدينيين عامة سواء كانوا يهوداً أم مسلمين الذين يرجعون أصل الأنسان إلى السماء، وبين العلميين الذين يرجعون التطور إلى ظروف البيئة البحتة من دون تدخل غيبي، قامت الجمعية كذلك بإيجاد مخرج له هو الآخر.
وسلسلة التخريجات لبؤر التضاد الحاد بين الوعي الديني والوعي العلمي، تمتد إلى إلغاء التضاد بين الدين والعلم، وبين الشريعة والحداثة الخ..
ومهما كانت طبيعة هذه التخريجات فهي تغدو بادئ ذي بدء مبعث تقدير بأن أناساً مجهولين (لم يشيروا إلى أسمائهم تواضعاً) قاموا بهذه المأثرة، وهي الدخول في قضايا المنطقة التراثية بكل الغامها وقاموا بالبحث الطويل الموسع فيها.
وهي مأثرة بالنسبة إلينا نحن البحرينيين أن يقوم مواطنون لنا بمثل هذا الجهد الفكري الطويل والعميق وبنكران ذات وبتوجيه الوعي نحو التحديث والتطور مع وجود كل دوائر التعصب والإلغاء.
والدهشة تتشكل بسبب أن المثقفين في جمعية التجديد لم تظهر لهم أبحاث مستقلة سابقة، أو لم يُعرف لديهم باحثون نشروا كتباً في هذه الجوانب العويصة حسب علمنا، التي تحتاج إلى سنوات طويلة من القراءة والبحث، ثم فجأة تصدر كتبٌ موسوعية تحلل الخليقة في مراحلها القديمة كافة معتمدة على التراث الديني، فذلك أمر يدعو إلى العجب بأوسع معانيه.
لأن التجديد يحتاج إلى تراكم ثقافي وتجريب وشخوص كتابية محددة، وإسهامات أولية وتعديلات وأخطاء وخبرة الخ.. أما أن يظهر مشروع هكذا ناجز خاصة في طوره الديني القديم المتعلق بالأديان وتاريخ المنطقة، فهو أمر يحتاج إلى حيثيات وتأريخ وأدلة.
والمؤكد أن بعضاً من جماعة التجديد عاشت في السجن؛ فقرأت كثيراً وتأملت، فالسجن مدرسة كبرى، وهذا المنحى التجديدي المعارض للسيطرة الدينية التقليدية، لا يتشكل إلا في مثل هذه المناخات، وأنا لا أنكر حتى عمليات الهرطقة التي تحدث كثيراً في المجموعات الدينية، حين تزعم الاتصال بالغيب الألهي؛ بهذا الشكل أو ذاك، فهذه ثورات وطفرات معبرة عن صراعات في الوعي الديني، يبحث من خلالها عن استقلاله الفكري، ويكوّن فيها جماعته المميزة ثم ينخرطُ في السيرورة القانونية للفكر الديني نفسه مع معارضته التي حصل عليها بتضحياته.
إن جماعة التجديد إذن دخلت منطقة مليئة بانواع الألغام كافة، فحين اختارت الانفصال عن التفكير المذهبي السائد في جماعتها، اختارت الصراع والاختلاف، وبالتالي شكلت انشقاقاً، ومهما كانت خلفية وجذور هذا الانشقاق، فلا بد أن تكون له رؤيته، فهل هو انشقاق لتحطيم الجماعة أم هو لتطويرها؟ هل هو عمل نضالي لتغيير حياة الجمهور من تخلف واستغلال وعبودية ثقافية أم هو لتكريس هذه الجوانب؟
وبطبيعة الحال فإن الانشقاقات والصراعات الدينية الفكرية غالباً ما تقوم على أرضية الفكر الديني الواحد، فهي لا تنفصل عنه، بل تشكل رؤيةٍ جديدة داخله، وياخذها التيارُ السائد باعتبارها جريمةٍ وتمزيقاً للجماعة، في حين يعتبرها التيار الآخرعملاً تغييراً ونهضويأً واتساعاً لأفق الجماعة بطرح بدائل أخرى.
والجماعةُ التقليدية هنا لا تواجه انشقاقاً على مستوى الفصائل السياسية، التى هي متعددة، بل تواجه انشقاقاً في الرؤية المذهبية ذاتها، في كيفية رؤية العقيدة، فتراه الجماعةُ المنشقةُ باعتباره إصلاحاً على طريقة مارتن لوثر البروتستانتى في مواجهة كنيسة البابا، في حين تراه الجماعة التقليدية انحرافاً وخطراً على الإيمان والعقيدة وتحول مارتن من مصلح إلى كافر ومنبوذ!
ونحن علينا أن ندرس، لا أن نحابي أحد الطرفين، فالدرس الموضوعي يقيد الجانبين.
ولهذا فإن الجانب القديم، جانب القوى الدينية السائدة، يرى عمل المنشقين، ذا طابع سياسي تفكيكي للجماعة، هدفه زعزعة الطائفة، في موقفها السياسي المتحد. فيغدو لديها تاريخ الجماعة المنشقة، وهي هنا جماعة التجديد، جماعة (مندسة مغرضة)، فتدخل عمليات التصوير البوليسية لتاريخ الجماعة المنشقة، وأنها مجرد زرع، لا أصول ولا جذور لها في تاريخ الطائفة. وأنها هي الجماعة الأصيلة النابتة في الشرعية (وهناك مسلسل قصصي في هذا).
وعمليات التصوير البوليسية هذه، لا تستطيع أن تبرر مهما تشكلت بدلة حقيقية أو موهومة، نمو جماعةٍ فكرية ما، فكلُ الجماعات المنشقة وكلُ الأحزاب التي صارت ظاهرات كبرى فيما بعد، كانت جماعات منشقة، وكل الملل والنحل، كانت في بدئها انحرافاً، ومهما كان الزرع اصطناعياً فإنه إذا وجد تربةٍ موضوعية للنمو سوف ينمو، فالمشكلة تعود الى التربة نفسها، وتقبلها للأفكار المنشقة واحتضانها لها!
ونحن لا ندافع عن عمليات الزرع في أجسامنا السياسية التي هي متعددة وكثيرة، بل نقول إنها لا تبرر نمو الفكرة وتوسعها.
وبطبيعة الحال فإن خيارات الجماعة الجديدة لا يمكن أن تفلت من الصراع السياسي الذي ظهرت فيه، فإن التجديد إذا اختارت الاقتراب من الليبرالية السياسية، ومن طرح سياسة وطنية لا طائفية، فهذا أمر يظل يُدرس فى إطار هذه الليبرالية الدينية، وإذا اختارت الطرح العقلاني فهذا يظل مدروساً في ظل هذه الدائرة، فتظل الخيارات السياسية في نهاية المطاف هي التي تحدد مدى عمق هذه الليبرالية، هل هي تصطدم بالقوى المتنفذة في الثروة العامة؟ هل تدافع عن الطبقات المحرومة؟ وفي أي عمق واتجاه تشكل ليبرالتها الدينية هذه هل هي بالانفصال عن الدوائر البيروقراطية الاستغلالية أم معها؟ هل تفضح الفساد أم تدافع عنه حتى بالسكوت؟
إننا لا يمكن أن نضع جماعةٍ ما في دائرة مغلقة، فنحكم عليها بالخيانة الأزلية، أو النظافة المطلقة، فالجماعات الفكرية السياسية خاضعة لحراك لا يتوقف، فقد تبدأ جماعةٌ بالوطنية وتنتهي بالطائفية أو العكس، وقد تبدأ جماعةٌ بالدفاع عن المستضعفين وتنتهي كجلادين لهؤلاء المستضعفين أنفسهم! ويتحدد موقفنا من أي جماعة عبر شريط ممارستها الطويل، وكيف تصوب برامجها تعبيراً عن القوى الشعبية ومطالبها، فهل تغوص نحو المضمون النضالي للجمهور أم سوف ترتدي عباءات اللغة والمذهب لتدافع عن اللصوص؟
ومن هنا إذا أردنا معرفة مضمون أي جماعة فعلينا أن نقوم بقراءة وثائقها، وهذه جماعة أصدرت كتباً فعلينا بقراءتها قبل أن ندمغها، بل علينا أن ننتظر تطور مفاهيمها ونرى ممارستها على الأرض.
علينا أن ندخل إلى صلب رؤية جمعية التجديد في بعض القضايا الكبرى التى طرحتها في كتبها، والتي عنونتها بعنوان رئيسي وهو (عندما نطق السراة)، ففي أحد كتبها وهو بعنوان (التوحيد: عقيدة الأمة منذ آدم)، ترفض الجمعيةُ الفكرةَ الموضوعية المنتشرة في أغلبية كتب البحوث بأن الإنسان تدرج طويلاً حتى وصل إلى عبادة الآلهة ثم الإله الواحد، وتصر في هذا الكتاب على أن الإنسان كان توحيديا حتى وهو في أول ظهوره وتخلفه، وهى تفند دراسات الباحثين التحديثيين العرب والأجانب بهذا الصدد كإسماعيل مظهر أو عباس محمود العقاد أو محمد شحرور. يقول العقاد حسب استشهاد الجمعية: (يعرف علماءُ المقابلة بين الأديان ثلاثةَ أطوارٍ عامة مرت بها الأممُ البدائية في اعتقادها بالآلهة والأرباب، وهي دور التعدد، ودور التمييز والترجيح، ودور الوحدانية)، (ص 14 – 15)، ويضيف العقاد حسب استشهاد الجمعية رابطاً الأديان بظروف الحياة الاجتماعية: (ترقي الإنسانُ في العقائد كما ترقى في العلوم والصناعات. فكانت عقائدهُ الأولى مساويةٍ لحياته الأولى، وكذلك كانت علومه وصناعاته، فليست أوائل العلم والصناعة بأرقى من أوائل الديانات والعبادات)، ص 14.
ثم تفند الجمعيةُ أقوالَ العقاد فتقول: (فالعقيدة في نظر العقاد إنتاج بشري وليست وحياً سماوياً، تطورت الوحدانية بمرور الأزمان كما تطورت العلوم!)، ص 16 .
وهي هنا لم تفهم الوحي والتطور كما عرضهما العقاد والمثاليون الموسوعيون عموماً، فالوحي لا يتشكل في الهواء، بل هو يتمظهرُ ويتجسدُ في البشر واللغة المحددة وفي الظروف والصراعات البشرية؛ وهو جدل اجتماعي بين الغيب والإنسان، بين النبوة والجماعة، بين الإله والواقع الخ..
لكن الجمعية تضع الأفكار الدينية في المطلق، بلا جذور اجتماعية وبلا تاريخ. وتركز على قراءة التاريخ الغيبي في النصوص الدينية المفصولة عن زمانها ومكانها. ثم تحاول أن تجد كذلك جوانبَ إيجابية وتقدمية داخل هذه النصوص المقطوعة الصلة بالبناء الاجتماعي.
فالتوحيد لديها كان موجوداً حتى عند الإنسان البدائي، وهو نظرٌ لا يصمد لأي تاريخ ثقافي، وهي ترى التوحيدَ وكأنه هو التاريخ الديني العربي وحده، لكنها كالباحثين القوميين الخياليين تعتبر أغلب سكان المنطقة عرباً وأن حضاراتها عربية، وهو أمر لا يصمد للتحليل الموضوعي كذلك؛ وهو فهمٌ روج له العروبيون المتطرفون ويعتبر أحمد داود الكاتب السوري المتعدد المواهب نموذجاً له، والجمعية تستشهد به كثيراً.
نقول الجمعيةُ (هكذا بدأت حياة الإنسان على هذه الأرض بالتوحيد لله الواحد الأحد)، واستمرت عقيدة التوحيد في هذه الأمة (حين تحولت من حياة الكهوف والتقاط الثمر، إلى استئناس الحيوانات و تدجينها بالرعي)، ص 26.
فأي أمة هذه؟! فلم توجد أي أمة عربية أو غير عربية حينئذٍ، بل جماعات بدائية متوحشة، وقبائل صغيرة، تعبدُ الأرواحَ والحيوانات الخ.. وبعد آلاف السنين بدأت رحلة الحضارة وتشكلت الأديان بتعددية آلهتها.
إن هذا ما تطرحه البحوث وقد أصبحت بديهية لا يجادل فيها أحد. ثم تدخل الجمعيةُ آيات القرآن في هذا المسار الخيالي الذي تشكله بصورة غير موضوعية. وهي تظن أن آيات القرآن هذه تنقض ما أجمعت عليه التواريخ والعلوم. في حين أن آيات القرآن المتعلقة بالتوحيد تتحدث عن تاريخ العرب في المنطقة وفي الجزيرة العربية فقط، حيث بدأ التوحيد في قمة الحضارة المصرية والذي تأثر به اليهود وشكلوا منه ديانة توحيدية، انعطفت إلى الجزيرة العربية وبدأ التوحيد حينئذٍ.
لكن حتى هذا المسار المعروف تحاول أن تنقضه جمعية التجديد في كتابها هذا، فالمصريون كانوا موحدين في تصورها منذ البداية وهي تستنكر ما هو بديهى بسخرية فكأن الباحثين زعموا على حد قولها: (إن الحضارات العربية القديمة في مصر أو بابل تعجُ بالآلهة والأوثان كالإغريق والرومان!). لكن هذه بديهية لا يبادل فيها طالب.
ولديها على العكس إن الفراعنة والبابليين كانوا موحدين، فلم الحاجة إذاً إلى الأديان السماوية وهي التتويج للسابقين؟! إنها تستند الى جمل صغيرة مقطوعة السياق من باحث أو اثنين لتعضيد ذلك الكلام غير الدقيق.
يتراوح خطاب جمعية التجديد الفكري بين تكريس النصوصية الغيبية وبين الآراء العلمية والنقدية الوامضة.
فهي تقول في مقاربة مع المنهجية الموضوعية:
( لقد نص «فرانسيس بيكون» على فكرة أن الإنسان لن يستطيع السيطرة على الطبيعة إلا عن طريق اكتشافها بالعلم، ولكن لكي يفعل ذلك ينبغي أن يخضع لها! بمعنى آخر: لكي نفهم القوانين التي تتحكم بالطبيعة ينبغي أن ندع الطبيعة تتكلم لا أن نتكلم عنها)، مفاتح القرآن والعقل، ص 8 -86.
وتكمل الجمعية في تلخيص مهم (القرآن والطبيعة والأنفس، أمرٌ واحدٌ، آيات ينبغي الخضوع لاكتشافها).
إن هذه الفقرة الجيدة وغيرها المماثلة هي اقتراب من مدرسة تقنين الطبيعة المخلوقة للذات الإلهية، بخلاف مدرسة الخلق الإلهي المستمر للطبيعة. وكلاهما مدرستان مثاليتان، لكن الأولى تؤمن بوجود قوانين موضوعية للطبيعة والوعي والوجود (مثالية موضوعية)، ومن أعلامها ابن رشد في حين أن الأخرى ترفض ذلك، وترفض وجود قوانين موضوعية ومن أعلامها الغزالي (مثالية ذاتية).
وفكر الجمعية حائرٌ بين المدرستين، فهو فكرُ يحاول أن يبحث عن موضوعية الوجود، ثم يضيف عليها الكثير من الغيبيات والإسقاطات المعاصرة من العلوم الحديثة مما يلغي تلك الموضوعية.
فهي تؤمن بوجود تطور موضوعي للوعي الديني وكذلك لا تؤمن بوجود مثل التطور.
فبرفضها وجود سببيات موضوعية للتطور الديني يصبح تاريخ الأديان بلا قيمة، كما لا تصبح هناك قوانين موضوعية لتطور الإسلام، فالمندائيون (الصابئة) والحنفاء هم شكل آخر للإسلام، وليس أن الإسلام تتويج لهذه الحركات التوحيدية المحدودة الجزئية، لأنه غدا ثورة شعبية. وبالتالي كذلك لا توجد تباينات في البناء بين حكم الخلفاء الراشدين والحكومات الشمولية التالية، وبالتالي لا يُفهم تباينات خطاب الإمام علي الثوري الشعبي الجلي عن خطابات الأئمة والفقهاء المحاصرين بين أشداق الاستبداد في المراحل التالية والذين غاصوا في الغيبيات الشديدة بسبب ذلك.
فنتيجة لقيام الجمعية بفصل الأديان والمذاهب عن جذورها وأبنيتها وكون الخطابات الدينية والفكرية هي جزء من حركة صراع اجتماعي، لا تستطيع جمعية التجديد الانتقال العميق الكلي من المثالية الذاتية إلي المثالية الموضوعية.
هنا يمكن الاستفادة من فكر هيجل، الفيلسوف المثالي المؤمن ولكن الدارس بشكل موضوعي للأديان وتطوراتها.
فلتطور الإنسان ككائن بيولوجي قوانين، ولتطور الأديان قوانين، ولتطور المذاهب والمجتمعات قوانين، ومن دون الدرس الموضوعي المستقل عن الكتب الدينية وعن المأثور الشعبي عامة، لا يمكن الانتقال إلى العلوم الحديثة التي لها شروط مختلفة عن الوعي الثقافي للعصور السابقة. وبعد التجذر في هذه العلوم يمكن مراجعة المأثور والنظر له بشكل موضوعي.
هذه الحيرة الانتقالية بين المثالية الذاتية والمثالية الموضوعية تعبر كذلك عن جانب مختلف عن الحركات المذهبية التقليدية السائدة التي تتجمد عند المثالية الذاتية، فلا تبحث عن سببيات موضوعية للتطور الديني، فتعبر بهذا عن كتل سياسية شمولية، ترفض البحث والديمقراطية، وتعيد إنتاج النص الديني كما كان في المرحلة التقليدية التي سيطر فيها الإقطاع بشكل كلي، ومن هنا نجد الحركات التقليدية تناوئ أي حركة تغيير وزعزعة للقوى التقليدية المسيطرة على الجماعة، فأي تحرك سياسي لدى هذه القوى التقليدية يتم ولكن تحت هيمنتها، فهي تستفيد من الأدوات الديمقراطية لنشر سيطرتها الاستبدادية، بخلاف جمعية التجديد التي تقوم بالتساؤل حول تاريخ الوعي الديني هذا وتقوم بالبحث فيه، رافضة جزءا وقابلة بجزء، حسب منهجها الذي بعد لم يتصلب فلسفياً، ولكنها في مراحلها الأولي فعلينا أن ننتظر ونتيح لها الوقت.