الأرشيف الشهري: أفريل 2023

في إنتاجِ دكتاتوريته الفردية يصعدُ لينين صراعَهُ ضد التعددية في الحزب، فيقسمهُ، ويصعدُ صراعَه ضد التنوع الديمقراطي في الغرب فيغدو الغرب برجوازياً لا بد له من شيوعية نافية له بكليته.

فلسفة الحداثة

لم يكن لدى الفلسفات الغربية وهي تخرج من العصر الوسيط الديني المسيحي سوى الاعتماد على فلسفة أرسطو مادةً ومنهجا وكانت التطورات الصناعية والتحولات المختلفة تدفع العلوم نحو استيعاب مختلف للحركة، وقد قام ديكارت ونيوتن بطرح مفهوم جديد للحركة هو الفلسفة الميكانيكية، وقد استعانت الفلسفة العربية الإسلامية السابقة بذات منهج أرسطو ورؤيته لفهم الحركة فكان أقصى جهد لها هو فهم حركة الأجسام في المكان. ولكن الأدوات والمعلومات التي توافرت في العصر الأوروبي الجديد، التي قام بها غاليلو وكوبرنيكس وغيرهما من العلماء أتاحت فهم حركة الكواكب والشمس بطريقة مختلفة عن السائد في العصر القديم، مما جعل ميكانيكا فهم الأجسام الكبيرة تسيطرُ على الوعي العام بالحركة. وقد تمظهرت هذه لدى نيوتن بقوانين الجاذبية. وحددت هذه الفلسفة ميكانيكا الأجسام عموماً حيث الحركة في المكان – الزمان تقوم على قوانين مادية محضة، أي على قوانين من داخل المادة، ولكن الداخل هنا بمعنى حركة الأشياء، فظل التناقض المادي الجسمي الخارجي الآلي هو المسيطر على فهم هذه الحركة الأبدية العامة، لكن كان لابد من وجود مصدر لظهور هذه الحركة فكان الإله.
وهنا تتآلف الفلسفة الميكانيكية مع الدين بإعطائه إشارة إيجاد الساعة الكونية، وتوقيتها، وربما إنهائها، لكنها كذلك تفصل الحركة عن عمليات خلق الكون الغيبية، وأدى طرحها بأن الشمس مركز المجموعة الشمسية وتكون المجموعة من سديم، إلى توجه العلوم نحو إعادة النظر في المعطيات الفكرية الأرسطية بشأن مصدر الحركة وبشأن الطبقات السفلى من تاريخ الكون والمادة، وبالتالي يفتح الآفاق لقراءة الظاهرات المادية الأصغر والمواد والكائنات المختلفة. وهكذا فإن الفلسفة الميكانيكية وهي تنشئُ العلومَ الحديثة كانت تتعرضُ هي نفسها للزوال.
فهذه الفلسفة الميكانيكية بتطبيقها على مجالات الحركة في أجسام أصغر، وعلى ظاهرات ذات تحولات مركبة كعمر طبقات الأرض وكيفية احتراق المواد وكيفية ظهور أنواع الأحياء لم تستطع أن تصنع إجابات علمية بحسب مستوى منهجها. كان تطبيقها على هذه الظاهرات يقوم على إرجاع عنصر التحول إلى عوامل خارجيةٍ وإلى غازات غير محددة، لكن تطورَ الصناعة الكبير كان يخضع هذه المواد المجهولة إلى الكشف، فغدت عواملُ تحول المادة الفيزيائية والكيميائية تقوم على الذرات والجزئيات الداخلية، وبدأ يظهر ان المادةَ تتحولُ إلى طاقة والطاقة تتحول إلى مادة، وان قانون بقاء المادة قانون علمي أساسي.
أظهرت الجيولوجيا أن طبقات الأرض لها تحولات طويلة وأنها لا تتوقف عن الحركة. إن المواد كعناصر محددة تكشفت وظهر لتكوينها ولتمازجها قوانين محددة. تم اكتشاف تطور الخلية الحية، وأن أنواع الأحياء نتاج تطور تاريخي طويل.
إن كل أنواع الحركة هذه مغاير للحركة الميكانيكية وقوانينها، وكان ذلك يستدعي قيام فلسفة جديدة، تكشفُ الطبيعةَ المعقدة المركبة للحركة وأنواعها في كل أقسام العلوم الطبيعية والاجتماعية كذلك، والأخيرة قد دخلها زلزال التحول أيضا، وكان ظهور فلسفة جديدة يستدعي تفكيك الارتباط بين الفلسفة الميكانيكية والدين، ولكن أخذت المعضلة هذه تتعقد مع ارتباطها بالصراعات الفكرية والسياسية، حيث يلعب الدين التقليدي دوراً محورياً.
إن كشف أنواع الحركة في الأجسام الطبيعية من داخلها، وهو أمر يتناقض مع الفكر الديني التقليدي حيث الحركات قادمة من الغيب، وقد ترافق هذا مع تفكيك السلطات الدكتاتورية الدينية والسياسية، فأخذ (الشعب) ينتزع السلطات وراح المنورون يجدون في البناء الاجتماعي قوانين تطوره الداخلية بمعزل عن المؤثرات الخارجية الغيبية. إن تركيز السلطة في البرلمان هو أشبه باكتشاف قوانين الحركة في المادة، والمادة هذه الكينونة المحتقرة من قبل الفلسفة الأرسطية والدينية السابقة غدت هي بؤرة الوجود. لكن رؤية أسباب التحولات داخل المادة الطبيعية والاجتماعية والبشرية، كان يعني صراعاً طبقياً بين المنتصرين على الإقطاع السياسي – الديني الحاكم، فقد ظهر جناحان للمنتصرين؛ الجناح البرجوازي الذي آلت السلطة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية إليه، والجمهور العمالي الذي كان عليه أن يعمل بشكل شاق وفي ظروف متدنية من أجل أن تنتصر وتحكم البرجوازية.
لهذا فإن هذا الانقسام الطبقي انعكس على فهم الحركة وفهم الفلسفة، وأخذت القوى البرجوازية تتحالف مع الأقسام الثقافية الدينية والمثقفين التقنيين من أجل إعادة صياغة الفلسفة بحيث تتوارى لغتها الثورية السابقة، ويتم كشف الحركة في المادة، من أجل أن تستمر العلوم الطبيعية والمصانع، من دون أن يكون لهذا الكشف دلالات على الصراع الطبقي الدائر.
بدأت هذه الحركة الارتدادية التقنية الفلسفية في البلد الذي انتصرت فيه البرجوازية أولاً وهو إنجلترا، فظهر جان لوك وديفيد هيوم وجون ستيوارت ميل وصاغ الأولان فلسفةً تعتمد على إنكار وجود قوانين موضوعية في المادة، المستقلة عن الوعي، بل قالوا انه لا يوجد سوى الحس البشري وهو الذي يُدرك، والعملية العلمية تدور في مجال هذا الحس فقط، وما هو خارجه ليس في بؤرة الوعي. وعضدت ألمانيا هذه الفلسفة لأسباب تاريخية، فالبرجوازية كانت متخلفة عن قريناتها في البلدان الأوروبية الأخرى، وقد ساندت الإقطاع البروسي العسكري، فتأسست فيها فلسفاتٌ متضادة كثيرا، منها الكانتية ومؤسسها عمانويل كانت وهو نفسه العالم الذي اكتشف السديم في المجرة وطرح تصوراً لكيفية نمو المجموعة الشمسية، حيث ركز هو الآخر في كون المعرفة حسية بدرجة أولى، ولكنه أكد موضوعية المعرفة وطرق الوصول إليها، من دون الوصول الكلي للحقيقة لأنه ستبقى أجزاء من الظاهرات خارج الكشف. أما الفلسفات المادية والجدلية فقد تنامت هي الأخرى في ألمانيا، فظهر الجدل لدى هيجل، ولكن جدل هيجل مبنيٌ على كون الفكرة المطلقة أو الروح هي التي تقومُ بالحركة، فهي فكرة مطلقة غيبية لكنها في حركة تالية تتحد بالطبيعة وفي حركة ثالثة تتحد بالعقل، وهذه التحولات الثلاثة تشير إلى حركة الفئات الوسطى الألمانية عبر منظور هيجل المتواري، حيث تنفصل عن الفكر الديني والسلطة المطلقة وتتحد بالمادة الطبيعية والفكرية، ثم تتوجُ في العقل الذي هو أيضاً الدولة البروسية!
إن الفئات الوسطى بالمنظور الهيجلي استطاعت أن تنفصل عن الدولة – الدين ولكن ليس بشكل كلي، فتتمظهر في حركة (الروح). وهذا أسلوب فلسفي يوناني وشرقي قديم . ولكن ما يهم هنا هو طريقة الروح في التحول عبر موقف أول الذي يتم تجاوزه في حركة نفي مضادة، لأن الروح تعيش حالة صراع وتناقض، فتحل حالةُ تركيبٍ وتجاوز للنقيضين في موقف جديد، ولكن الموقف الجديد يستتبع وجود تناقض آخر يؤدي إلى حركة جديدة وهكذا.
هذا المنهج الجدلي كان اختراعاً ألمانيا، أي ظهر في حالة ألمانيا الإقطاعية المتخلفة عن برجوازيات التحول الكبرى، وفي وجود الفئات الوسطى التي لم تتشكلْ كطبقةٍ قيادية، ومن هنا فالجدل يظهرُ في شكلٍ ديني مثالي موضوعي، فهناك الفكرةُ المطلقة أو الروح وهي المعبرة عن الطبقات العليا المسيطرة، لكنها تلتحم بالطبيعة والمادة المعبرة عن الطبقات الشعبية، وفي هذا السديم الفكري الاجتماعي، المعبر عن حالة ألمانيا القلقة، تدور فلسفةُ هيجل، منهجها الجدلي ثوري، وغلافها الفكري محافظ، وبين الثلاثينيات والأربعينيات من تاريخ ألمانيا وأوروبا في القرن التاسع عشر، تنفجرُ ألمانيا وتنفجر فلسفة هيجل معاً !
لم تحصل ألمانيا على فرصة تاريخية مطولة كي تشكل تحولها الديمقراطي، والبرجوازية تمشي في حضانة عسكرية من قبل الدولة، وجاء هيجل بجدله التحولي ليطرح منهجاً مهماً في فهم وتفعيل الحركة على مختلف الأصعدة، فانتقلت قيادة الحركة الاجتماعية إلى الفئات البرجوازية الصغيرة، ومنها ظهر فورباخ بماديته النافية لمثالية هيجل، وظهر اليسار الهيجلي، وهي قوى حاولت دفع البرجوازية لكي تنقض على الإقطاع من دون فائدة.
وهذا هو ميلاد الماركسية. تشكلت في لحظتها الأولية تلك كنقيض للطبقتين الإقطاعية والبرجوازية معاً. أي اندفعت نحو العمال كملاذ أخير من الجمود السياسي الاجتماعي . وهنا كانت أشبه بصرخة سياسية أكثر منها علماً . ومن هذه الصرخات سوف يرى لينين الماركسية . وهذه القضية ستبقى مشكلة كونية للبلدان المتخلفة عن البلدان المتقدمة ولرغبتها القومية الحادة في اللحاق بالمتقدمين .
كانت عقلية (البيان الشيوعي) المكتوب من قبل ماركس وإنجلز تطرح تصوراً كونياً لقرون قادمة وليس لحل إشكاليات الصراع الطبقي الراهن في ألمانيا نفسها، فكانت ألمانيا بحاجة إلى تشكيل تحالف برجوازي -عمالي يبعد القوى الإقطاعية العسكرية المتطرفة عن السلطة وليس لإزاحة البرجوازية التي لم تكن تحكم!
إن لغة المثقفين المنتمين للبرجوازية الصغيرة يسقطون هنا وعيهم السياسي التحويلي على الواقع الموضوعي فيطرحون مهمات غير ممكنةٍ سياسيا، في إطار ايديولوجي مُسقط، وبطبيعة الحال يطرحون ذلك كصوتٍ للطبقة العاملة، وهذا على المدى التاريخي صحيح، لكنه في الواقع الراهن غير واقعي، وتداخل المدى التاريخي واللحظات السياسية الراهنة، بمهماتها العملية الكبيرة، لا يتطابق ويتداخل بصورة جدلية، فهيمنة الطبقة العاملة تتم بعد قرون من التراكم السياسي والاقتصادي والثقافي لكنها كمهمةٍ مرحلية غير ممكنة .
وترتبت على لغةِ أقصى اليسار بمظاهرها الاجتماعية وثورتها هذه توجه البرجوازية الألمانية نحو أقصى اليمين، كذلك فإن ذهاب ماركس – أنجلز للعيش في إنجلترا أضفى على لغتهما الثورية العاطفية الألمانية بعداً أكثر موضوعية، وبدأت عمليات الاكتشاف العلمي العميقة للرأسمالية والعلوم، التي كانت حصيلتها كتب موسوعية مثل (رأس المال) و(جدل الطبيعة) وغيرهما، لكن الاستنتاجات ظلت في الإطار التاريخي العام وليس داخل صراعات البنى الرأسمالية الوطنية بمختلف مستوياتها وليس البحث كذلك في كيفية التغلب على الدوائر المتطرفة سياسياً وفكرياً .
إن انتصارَ البرجوازيات الكبيرة في الأقطار الرأسمالية الرئيسية تحقق بفضل انتصار أسلوب الإنتاج الرأسمالي وتوسعه العالمي وتدفق فيوضه على الفئات المالكة والوسطى، وأعطت ألمانيا نموذجَ الجمع بين الفكر الإقطاعي السابق والفكر البرجوازي التابع فكان الجمع بين أشكال الفكر الدينية والصوفية واللاعقلانية وبين أشكال من العقل والليبرالية المحدودة والمهيمن عليها وهي الثقافة البرجوازية – الإقطاعية الهجينة التي ترتبت على قيام البروسية البسمركية في السيطرة على البرجوازية الخاضعة.
ومن هنا رأينا ألمانيا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وهي تتخلى عن الجدل الهيجلي وتروجُ فيها الكانتية والكانتية الجديدة والوضعية المنطقية والتجريبية.
يقول جورج لوكاش:
(إن جدل هيجل حين يحاول السيطرة على هذه المسائل في منظور تاريخي، هو ذروة الفلسفة البرجوازية . إنه يمثل أقوى مشروع حاولته للتغلب على هذه المعضلات الجديدة : محاولة صهر طريقة قادرة على ضمان الفكر الإنساني كاقتراب لا محدود وانعكاس للواقع بالواقع نفسه).
إن مشروع هيجل يظل مشروع فئات برجوازية لم تتشكل كطبقة قائدة لعملية التحول، ولهذا فهو مفككٌ بين منهجٍ جديد وبناء تقليدي، وتخلي هذه الفئات عنه واتجاهها للعلموية الوضعية، لكشف المادة الجزئية المحدودة المنقطعة عن قوانين بنية المادة الطبيعية والاجتماعية، فهي هنا تمثلُ البرجوازية التي تدير المصانع المحتاجة إلى التقنية، في حين أن اتجاهها للاعقلانية والصوفية وفلسفات الحياة هي للسيطرة على الوعي العام وإدارة الدولة والمجتمع، وهذا الانقسام بين وضعية علموية تجريبية وكانتية وبين فلسفة الحياة المتجهة للفاشية، جانبان يتكاملان يعبران عن هذا التزاوج الإقطاعي – البرجوازي وقد تحول إلى طبقة سائدة ذات أصول بروسية عسكرية وبرجوازية نهمة للاستيلاء على المستعمرات .
وكذلك فإن هذا الملمحَ تحول إلى كل البرجوازيات المسيطرة على الدول الرأسمالية الكبرى بأشكالٍ مختلفة تعكس تطورات الصراع الاجتماعي الفكري، حيث التجريبية والكانتية والوضعية المنطقية تنتجها البرجوازية الصغيرة أو الفئات المتوسطة عموماً في الجامعات كما أنها هي نفسها تنتجُ الفكرَ الديني المحافظ للهيمنة على الجمهور خارج الميدان الثقافي التخصصي التقني، مثلما هي تنتج الأدب والفن (الأسودين) للتجارة وإنتاج اللاعقلانية.
لقد تشكلت هذه العملية خلال تسليم الإقطاع القديم مفاتيح السلطة للبرجوازية وخلال نمو الاستعمار، وبالتالي تمت عمليات إبقاء الأديان التقليدية ومستوياتها المحافظة اللاعقلانية داخل وخارج الدول الغربية، وهكذا فإن الوعي الجدلي المتجه للقراءة العميقة للبنى الطبيعية والاجتماعية والفكرية، تم إبعاده عن الثقافة السائدة تلك بكل تراكيبها وطبقاتها المتعددة المتضادة كذلك.
إن عمليات الوعي الكلية لرؤية الظاهرات وكشف قوانينها تم التخلي عنها، وراح الوعي السائدُ يفككُ ويجزئ أي ظاهرة، ويحشرها داخل الحس، أو يحيلها إلى جزء حيوي من الذات، التي لا تكشفُ سببيات عميقة، كما يفعل المنهجُ الظاهري (الفينومينولوجي) أو كما تفعل الوجوديةُ في إحالةِ الوجودِ العام إلى ذاتٍ فردية يسيلُ وعيها في عمليات منقطعة عن سبر البنية التي تعيش فيها.

كلُ شيءٍ يتغير إن التناقضَ هو أساسُ حياة البشر، وبدون تناقض يزول البشر.

التسجيل المغلوط (الاستعمار البرتغالي)

حين تريد أن تكتشف مقاومة الشعوب في منطقة الخليج والجزيرة العربية للاستعمار البرتغالي فلا تعثر على  مواد مهمة، بل هي نتفٌ صغيرة ضائعة متناثرة.

في حين إن البرتغاليين سجلوا الكثير جداً من الواقع لكن من خلال رؤيتهم الخاصة، باعتبار أن ما يقومون به هو إبادة لجنسٍ متخلف (بربري) هو جنس المسلمين، ولهذا فإنهم في كتبهم يسجلون المذابح التي تجري ضد هذا الجنس الذي يستحق الإبادة!

وحين تقرأ السجل الضخم لــ(أفونسو دلبوكيرك) باجزائه الأربعة والصادر عن المجمع الثقافي بأبوظبي بدولة الإمارات العربية المتحدة، وعبر ترجمة عظيمة للمترجم الدكتور عبدالرحمن عبدالله الشيخ، فتذهل كيف يقومون بتسجيل كل شيء في هذه الرحلات الدموية، لكن لأعمالهم ولدورهم الحضاري، دون أي مواد للشعوب المهاجَّمة، فلا تعرف أية مدن وقرى جرى إزالتها من على الخريطة!

ومع ذلك فهي موادٌ من الممكن استفادة الباحثين منها لتاريخ المنطقة المجدبة بدرس تطورها العمراني البشري العام.

وتوضح هذه الموسوعة التاريخية المكرسة لهذا القبطان الجزار، التناقضات السياسية التي حدثت في تلك الأزمنة ومواقف الدول الكبيرة: فارس والدولة العثمانية الزاحفة لالتهام المشرق ونضالات شعوب الخليج في ذلك الحين، وهي نضالات بطولية غير مسجلة لا تاريخياً ولا أدبياً.

ونظراً للقوة الهائلة للبرتغاليين قياساً بدول المنطقة المفككة والمتخلفة والدمار الهائل حسب المذكرات المسجلة عن القبطان سيء الذكر والذي سببوه في المدن، فإن مملكة فارس في ذلك الوقت لم تجد سوى التقارب مع البرتغاليين على ما فيه من فداحة دينية وتاريخية.

فقد كان الأتراك يزحفون من جهة ثانية على العراق وفارس نفسها، مسببين مجازر أخرى، ففي مدينة إيرانية قتل خمسون ألف إنسان.

وهذا قد فجر الصراع الطائفي بين الإيرانيين والأتراك على أوسع أبوابه، بدلاً من اختيار التعاون والتصدي المشترك لعدو واحد!

ومع هذا الزحف الهائل العثماني من تركيا إلى كل البلدان العربية، فإن مقاومتهم للبرتغاليين كانت محدودة جداً، وقد جرت بالنيابة عبر المماليك في مصر أو من خلال تأييد العرب في الخليج، لكن هذه الأمبراطورية العثمانية الشاسعة لم تشكل صراعاً جدياً مع الاستعمار الاستيطاني البرتغالي المتخلف.

هذه هي الظروف للتعاون الفارسي البرتغالي في ذلك الحين، ولترك دولة إيران حينذاك للبرتغاليين إمكانية التوسع في الخليج واحتلال القطيف والبحرين، وقاومت الشعوب الصغيرة بضراوة هذا التمدد المسلح، رغم إن مملكة هرمز وقتذاك وهي المطلة على بوابة الخليج قامت بقيادة ثورة عارمة ضد البرتغاليين.

وقد قام ممثلو السكان وبمختلف طوائفهم بالتوجه لقادة الدولة العثمانية لمساعدتهم ضد هذا الزحف، والتقوا بهم في بغداد خاصة، لكن المساعدات كانت ضئيلة، ولكن هذا كان تعبيراً عن وحدات وطنية فذة ضد أول استعمار، وترى كيف توجه ممثلو البحرين والقطيف بوفودهم للدولة العثمانية من أجل مساعدتهم في التصدي لذلك الاقتحام الشرس.

لكن الدولة التركية بقيت مستولية على البر ولم تطور نفسها للتصدي لموجات الاستعمار المتزايدة والمتطورة أكثر فأكثر.

في هذه الحقبة التاريخية تم اعتماد تسمية البحرين لجزر أوال، وغدت مناطق شرق الجزيرة كالقطيف والأحساء ذات أسماء خاصة، وهو أمر يشير إلى التوسع السكاني لهذه المناطق وتفكك وحدتها السابقة.

عموماً فإن تزوير التاريخ صار عادياً وكثيراً ما يبقى في حين لا تقدم القوى النضالية العقلانية رؤيتها في الأحداث تاركة الأمر لقوى التدخل الأجنبي وللمزورين من كل لون.

للعقل العربي الحديث قصةُ تكونٍ، ونسميه عقلاً، بهذا التجريد، لأنه أراد أن يكون بهذه الصفة، وصفة العقل تعني بأنه يستخدم السببية في قراءة الظواهر، فالعقل هنا منهج في فحص الأشياء واكتشاف قوانينها.

السودان بحاجة إلى الديمقراطية والسلام

أن الحكومات العسكرية المتتالية والحركات الدينية الطائفية والمحافظة رفضت الخيارات البرلمانية وصعدتْ على ظهور الشاحنات العسكرية إلى السلطة.
منذ إبراهيم عبود والعسكريون يحاولون ما لا يقدرون عليه، إخضاع هذا الشعب الطيب والبسيط والصبور والمكافح، وكل مرة يأتي عسكري كبيرٌ ينقلُ البلدَ لأزمة كبيرة ويصعدهُ تلة أخرى مليئة بالنار والدم.
نتذكر إبراهيم عبود وقمعه الشرس، ثم الثورة الشعبية التي أطاحت به وشعارها: اذهبوا أيها العسكر لثكناتكم. لكن العسكريين لم يتعلموا.
إنهم لا يذهبون، فيزداد الاهتراء والتمزق في الخريطة الوطنية. وهذا القفز إلى خشبة المسرح السياسي العالية كانت توفرها الأفكارُ الشمولية القادمة من الدول العربية وتتغلغل بين صغار الضباط الذين يقفزون على مستوياتهم الفكرية البسيطة والفقيرة ودرجاتهم الصغيرة، ليتحولوا إلى حكام لبلد كبير.
إن القفزة العسكرية الانقلابية تمثل أفكار المقامرة بمصائر الناس، وليس هي مثل حزب عريق يراكم التجارب والنضالات ويجعل الشعب يتطور ويغير نفسه، فهي تصعد مغامرين محدودي التبصر بالسياسة لا يعرفون سبل التطور ويقررون قرارات خطرة تلحق أضراراً جسيمة، وربما تكون السلطات السابقة قد سمحت لهم بالصعود وربما سمنتهم بعض الوقت فأكلوها.
والأفكار الانقلابية المشبعة بالبهارات القومية الزائفة كان يُلاحظ لدى التيارات الوطنية السودانية عمليات تغلغلها في الساحة السياسية، ونشرها بالأموال، وقد عبرتْ تلك التيارات منذ الستينيات عن خشيتها من هذين التسلل والفرض لهذه الأفكار، التي كانت إحدى الشخصيات التي تجسدت بها كالدكتاتور السابق جعفر النميري، الذي قام بإنجازات دموية كبيرة، والذي قفز هو الآخر على حزب الأمة وعلى الانتخابات والدستور، ثم أراد أن يعجن التيارات السودانية كلها في عجينة واحدة، ملغياً الاختلافات الفكرية والسياسية، وأنشأ ما سُمي الاتحاد الاشتراكي، وقد فرضه بالقوة، وساعده تصاعد دور الحكومات الشمولية في مصر وليبيا خاصة.
كانت نتائج الأفكار الشمولية (القومية) انها بدأت تمزيق خريطة السودان. كان السودانيون شعباً ذا عفوية سياسية وطنية متوحدة، لكن الأطروحات القومية والدينية المتعصبة، جعلت الجنوبيين المسيحيين يشعرون بالخوف من نزعات الشمال الجديدة، خاصة أنهم عاشوا الاضطهاد أكثر من غيرهم على مدى التاريخ.
وكلما ازدادت قبضة الشمال العسكرية تفكك السودان، وهو أمرٌ على النقيض من الشعارات التوحيدية التي تتفجر مع كل بلاغ عسكري من الخرطوم، وكان الشعب ليس بحاجة إلى البلاغات بل إلى السكك الحديدية والأعمال والتجارة والمساواة بين أقاليمه وقومياته وأديانه.
وزادت الحركاتُ المتاجرة في الإسلام الثقافةَ الشمولية العسكرية غنىً دمويا، وتفكيكا لخريطة البلاد التي كان يوحدها الرعاة والفلاحون ورجال الدين الشعبيون والقبائل والعساكر البسطاء، ولم تكن بحاجةٍ إلى الدبابات من أجل ذلك، كما أن هذه الحركات المتاجرة في الدين زادت أهل الجنوب والمناطق المختلفة، خوفاً فحملوا السلاح، ثم انتشرت النار في بقية الأقاليم.
كلما جاء فصيل عسكري وعد الشعب بالكثير من الانجازات والتغييرات، وقد جاء العسكر في الفترة الأخيرة فكانوا تتويجاً لذلك التاريخ المكفهر.
تصارع العسكريون الدينيون الحاكمون فيما بينهم وراح كلُ قسم يزايد على الآخر فيما يقدمه من مكاسب للشعب، وتصارعوا مع قوى الأقاليم المنفرطة من السيطرة الحكومية، وراحوا يجمعون خيرات النفط من دون إصلاحات معيشية بسيطة للجمهور.
الحل هو أن يتركَ العسكرُ الحكمَ، ويعود الحكم المدني، ويُزال استغلال الإسلام للتجارة السياسية، وتجرى انتخابات ديمقراطية على ما كان يجري من انتخابات في السودان في عصره الديمقراطي الشفاف البسيط قبل عهود العسكر، مع إجراء التطورات الضرورية بعد كل هذه التحولات والكوارث.
بطبيعة الحال لن يحدث ذلك ولن يخرج العسكر وهم الضباط الكبار في الواقع وليس الجنود المساكين الذين يسوقونهم لمعارك لا دخل لهم فيها.
كانت «إنجازات» حكومات العسكر كثيرة على أهل السودان؛ فقد صار الإقليم الغني سلة العرب الغذائية محلاً للمجاعات، وتشرد كثيرٌ من سكانه، وافتقروا أشد الفقر، وتصارعوا أحزاباً وأدياناً ومناطق، وسمحوا بالتدخلات الأجنبية من كل حدب وصوب، وبكل لون وطريقة.
ستكون هي النتيجة الأخيرة من هذا الفصل حين يعترف العسكريون بعجزهم وينسحبون تاركين لأهل السياسة الوطنية تدبر أمر السودان من أجل إصلاحه وإعادته إلى طريق الديمقراطية والسلام

#السودان

إعدام مؤلف

مسرحية فكاهية من فصل واحد

المشهد الأول

تتقدم المذيعة إلى مقدمة الخشبة وهي تحمل الميكروفون وتقول :
ـــ المذيعة : يسرني أيها السيدات والسادة تقديم المؤلف البارز الأستاذ حمدون الأعرج ، وهو مبدعٌ غنيٌ عن التعريف ، فقد ملأ الآفاق بصوته ، وجلجل في الفضاءات باسمه وبشخصياته وبرواياته ، حتى إستحق العديدَ من الجوائز وصال وجال في الأقطار !
هل يمكن يا أستاذ حمدون أن تلخص لنا مشوارك الأدبي ولو بكلمات موجزة ونحن واثقون بأن هذا التلخيص لن يستطيع بأي حال من الأحوال أن يطفئ ظمأ المشاهدين ، أو أن يحيطَ بكل إبداعاتك الخصبة ؟
ـــ حمدون : في الواقع لقد كانت انطلاقتي الأولى من خلال حرب العصابات ، أو بالأحرى من خلال الدعوة لحرب العصابات ، وكنتُ متحمساً بشدة في ذلك الوقت لإزالة عوالم الظلم بقوة السلاح ، فأنا لم أؤمن مطلقاً بأن السادة الجالسين على خزائن الفضة واللؤلؤ والزيت يمكن أن يتنازلوا للفقراء بهذه الجبال من الأطعمة والقصور والمعادن ، وانطلقنا بقوة . .
ـــ المذيعة: أين انطلقتم يا أستاذ حمدون في جبال الجمهورية أم إلى أمكنة اللهو والشراب ؟
ـــ حمدون: بل انطلقنا في الكتابة يا أختي ، إن المسألة لم تصل إلى مستوى الرصاص الفعلي . دَعونا ، ونَشرنا المؤلفات ، وتخاصمنا ، وتضاربنا في البارات، والحارات ، والنقابات ، لكن لحسن الحظ لم نطلقْ رصاصةً واحدة ، وكل الذي حدث أنه في التدريب أطلق علي أحد الرفاق – لا بارك الله فيه – رصاصةً على ساقي فأصبت بعرجٍ ولهذا سُميت بذلك ، وكان اسمي مختلفاً . . فقد كان اسمي حمدون النبيه ، وذلك يعود لا للنباهة بل لأني من مواليد جزيرة النبيه صالح !
ـــ المذيعة: وبعد ذلك هل واصلت التدريب الأعرج ، أقصد التدريب على عرجٍ ؟
ـــ حمدون: لحسن الحظ قام رئيس الجمهورية السابق ، حفظه الله ، بل أسكنه فسيح جنانه ، بحركةِ هجومٍ سريعةٍ علينا ، وتم إلقاء القبض على كل تلك المجموعة التي لم تقاتل إلا باللسان . وتم تنقيعنا في المحابس المختلفة ، فبعضنا سكن قممَ الجبال المغطاة بالثلوج ، في عز الشتاء ، وآخرون تم إلقائهم في صحراءِ جهنم ، المعروفة في جنوب بلادنا ، العامرة بكل ألوان الطيف العقابي.
ـــ المذيعة: وهل كانت المعاملة حسنة وحصلتم على هدايا عيد الميلاد والحج؟
ـــ حمدون: كانت المعاملة في منتهى الشكل الحضاري ، فقد كنا نأكل ونكتب ونقرأ الكتبَ وننام مع حبيباتنا ونشربُ العصائر المختلفة ونذهب ليلةً واحدة إلى أفضل فنادق خمس نجوم في البلد و(.. هامساً : كل ذلك في الحلم !) . . و . . نكتب رسائل مفتوحة إلى أهلنا ، ونتعشى في الساعة الرابعة عصراً ، ونصادقُ العدسَ مصادقةً أبدية.
ـــ المذيعة: وبعد هذه المعاملة الحضارية هل واصلتم دعوتكم المتطرفة إلى حمل السلاح ، أم قلتم وداعاً للسلاح؟
ـــ حمدون: في الواقع أن رئيس الجمهورية كان في منتهى الذكاء والطيبة والمرونة والحنكة السياسية ، فاستدعانا جميعاً وراح يحدثنا بلغةِ أهل الفكر والعلم ، فسألنا : هل قرأتم كتاب (رأس المال) لكارل ماركس؟ فأجبنا جميعاً : أننا لم نقرأ كتاب رأس المال ، وقال بعضنا همساً لم يصل إلى أذن الرئيس المعطوبة : كيف نقرأ كتاباً يحضُ على جمع المال ونحن ضد المال؟ فقال الرئيس: كيف تريدون أن تحطموا دولة رأسمالية دون أن تقرأوا رأس المال؟ لهذا فأنا أعطيكم مهلةً تاريخية لتعودوا إلى بيوتكم وتقرأوا هذا الكتاب وتصارعوننا بعلم ودراية لا بجهل وقلة رباية ، على شرط أن توقعوا تعهداً بالتخلي عن درب السلاح الذي لم يضر سوى زميلكم الأعرج وحده!
فقلتُ لرئيس الجمهورية بشموخ: بما أنني الوحيد المتضرر من هذه الحرب الأهلية فإنني سوف أوقع على هذا التعهد وأمتنع كلياً عن استخدام السلاح ضد دولتي الحبيبة ووطني الغالي!
وعانقني رئيسُ الجمهورية بقوةٍ وحب أبوي وفتح لي أبواب العمل والمجد! ومنذ ذلك الوقت كتبنا الروايات والمقالات وتركنا حرب العصابات!

المشهد الثاني

(المؤلف يفتحُ بابَ شقته الواسعة وحين يشعل الضوء يفاجئ بهجوم واسع النطاق تقوم به مجموعة من الشخصيات الغريبة الأشكال ، ويجد زوجته مربوطةً على كرسي وفمها مغلق بقطعة من الستارة الممزقة).
المؤلف: ما هذا يا سادة ؟ كيف دخلتم إلى شقتي؟ ليس معي (cash many) هنا ولكنني مستعدٌ لكتابة شيك على مصرفي ، بل شيك على بياض كذلك ، ولكن أرجو أن تزيحوا قبضاتكم الثقيلة عن جسمي!
الرجل – الضفدع: (وهو يجره إلى وسط القاعة) لا يا سيد نحن لسنا من اللصوص ولا القتلة ، بل نحن شخصيات مهمة في هذا المجتمع ، ولنا وضعنا الأخلاقي والقانوني الكبير ، لولا بعض التصرفات غير اللائقة التي قام بها أحدُ الأفراد المحسوبين على النخبة المثقفة !
المؤلف : تصرفاتٌ لائقة أو غير لائقة ما ذنبي أنا أن تمسكني من عنقي وتمنع الهواء عن رئتي . .
المرأة – الحية: (وهي تتقدمُ زاحفةً على الأرض) كيف . . وأنت ذلك الشخص المقصود ؟ ! أنت من أجرمت بحقنا !
المؤلف : يا سيدتي الزاحفة أنتم ربما أخطأتم في المنزل أو المنطقة أو القارة ربما فأنا لم أشتغل أبداً في برنامج الأسلحة الكيمائية أو الجرثومية ، ولم أساهم أبداً في تصنيع القنبلة النووية العربية.
الرجل – الضفدع: هل هي إهانة جديدة توجهها إلينا أيها السيد المؤلف ، هل تتصور إننا بقايا حرب جرثومية ما ، أو نتاج قبلة مجنونة من إرهابي ، لا! أيها السيد المؤلف نحن ضحاياك!
المرأة – الحية: نحن نتاجُ قبحِكَ الروحي!
الرجل – التابوت: (وهو يمد رأسه بوهن) نحن ثمرة خيانتك!
المؤلف: ما هذا ، ما هذا؟ تقتحمون بيتي وتسدون فم زوجتي الذي لم يُسد أبداً رغم كل محاولاتي في عدة سنوات ولو لمرة واحدة ، فهل أنتم مندوبو مسرح حديقة الحيوان التي سحبتُ نصي منها حيث لا يمكن أن أقبل بأقل من خمسين ألف دولار أمريكي ، ولهذا أرسلتكم كمسوخٍ وبقايا الحيوانات النافقة والمتضورة جوعاً والتي أعلنتْ الإضرابَ عن الطعام أكثر من عشر مرات احتجاجاً على الوساخة وعدم دفع الأجور وتشغيل حيوانات من بلاد أخرى ، لأجل اختطافي وتوقيع العقد بالقوة وتحت تهديد إغلاق الأفواه؟!
الرجل – الضفدع: أنظرْ! أنظر! (وهو يقربه من وجه المرأة – الحية) تمعنْ في هذه المرأة جيداً ، ألم ترها من قبل؟
المؤلف: آه . . نعم . . نعم . . رأيتها مرةً واحدة في كابوسي الأول عندما كنتُ في السجن ، نعم أنها أم الخضر والليف وعشيقة الأخطبوط.
الرجل – الضفدع (وهو يضغطُ عليه بشدة) تمعنْ فيها ، أنظرْ إلى جمالِها الذي كان هنا ولم يُعدْ موجوداً ، أليستْ هذه هي حصة بنت بلال ، التي كانت جميلة القد ، هيفاء ، ذات طلة بهية ، ونظرة أقحوانية ، وخلفية عربية ، وكانت راحلة بعيداً فغازلها الشابُ الوسيم ابن البلد الشعبي ، الذي أغتسلَ في زيتِ تشحيم السيارات ، وتطهرَ بطمي الحارات ، وأنشد أجمل البيانات ، فهجرتْ أوربا الخضراء وجاءت إليه تسعى ، واستراحت في صدره ، أليست هي؟!
المؤلف: يا سيد أنا لا أتذكر . . أيُّ مسخٍ هذه ، أنا صنعتُ آلاف الشخصيات ، مدينةً كبرى ، فمن أتذكرُ ومن؟ ثم كيف يُعقلُ هذا كله؟
الرجل – الضفدع: تطلعْ إليها ، هذه التي كانت غضةً بريئة ، نجمةً وردية في السماء ، ثم حولتَ زوجَها الرائع الذي لم يستطع أن ينضم إلى هجمتنا هذه ، بسبب انتحاره بغاز الأعصاب ، إلى مدمنِ هيروين بلا أي منطقٍ وبلا أي تبرير فني أو موضوعي ، وتحولت الخليةُ الشعبية التي كان من الممكن أن تتحولَ إلى الأساسِ الصالح للمجتمع إلى نزيفٍ يومي ، وعراكٍ بالنعال وعلب الطماطم وبزجاجات الكحول الفارغة لحسن الحظ ، وبدلاً من تلاقي الخضرة الأوربية والأرض اليابسة العربية ، صارا جرادتين متعاركتين على قشور الفول السوداني بعد كلِ سهرة تصلُ إلى الفجر ، فكان يغرزُ فيها أظافره وكلماته حتى صارت بهذا التشوه ، أإلى هذه الدرجة قمتَ بتشويهها وهي . . التي كانت . . والتي حصلت على ترشيح لمسابقة جمال الكون!
(تحاولُ زوجةُ المؤلف أن تتملص من قيودها وتصدر أصوات : ما . . ما . . ، لكن المؤلف الذي يتطلع إليها ، يبعد نظره عنها ، ويتكلم).
المؤلف: الآن بدأتُ أتذكر . . ثم غدت مثل الليمونة التي تــُركت في الشمس عشر سنوات ، فتغضن وجهُهُا وصارت مثل الساحرةَ التي تركبُ المقشةَ ، ولكن الأهم ما فيها هو حبها الهائل للنقود والجوائز والبيوت ، وللرجال الذين يهربون منها كما يهربون من الجدري والسرطان! أتذكرها الآن . . يا رجل قلْ أنها أم أحمد . . ملكة الموت في قصتي (الشريدة) ، لماذا هذا اللف والدوران؟
المرأة – الحية: (صارخة) أهكذا يصورون النساءَ يا حقير؟ أليس لديك أية رحمة؟ أهكذا تفعلُ بي وتتركني وتقطعُ التسلسلَ المنطقي العقلاني في القصة ولا تترك الرجلَ الذي هامَ بي يقبلني ويضمني في آخر لقطة؟ كنتُ أتحرق شوقاً لتلك القبلة واللمة يا ظالم!
الرجل – الضفدع: أنظرْ . . ومن تلك المأساةِ الرهيبة نتجت هذه المرأةُ ، هذا المسخ . . كان أفضل لمكانتك الأدبية أن تــُطبقَ على عنقها وتخمد أنفاسها!
المؤلف: الحق معك في هذه الجملة.
الرجل – الضفدع: وأنا . . ألم تنتبه إلى شخصي . . أنظرْ ماذا فعلتَ بي؟
المؤلف: ماذا بك أنتَ أيضاً؟ أرى رجلاً ذا عنقٍ طويل وفمٍ واسع وله عينان جاحظتان مكتنزتان بالمعنى والعمق.
الرجل – الضفدع: ألم تبصرني جيداً ؟ أنا كنتُ رفيقك في حربِ العصابات المأسوف على شبابها ، نزحفُ معاً ، ونقبلُ البنادقَ كحبِ أمٍ لأطفالها ، وكنا نهاجمُ معاً الصالونات الأدبية بالطماطم الخائسة والجملِ الملتهبة ، ونقدمُ الحارات الجائعةَ على أطباقٍ من لهب ، ونسحبُ شخوصَ العتالين وباعةَ الخضار المتنقلين والحمارين إلى قصورِ السادة وأفران المطابع ، ومخادع الملكات المتوجات بالعملة الصعبة ، فتجرجرنا الشرطةُ الثقافية وترمينا في الزنزانات والبلاعات الفائضة بالجثث المقتولة من أهل الحارة ، ويضعون في آذاننا الرصاصَ السائل فيطلع عصافيرَ وورداً ومنشورات.
ألا تتذكرني؟ أنا رفيقك في المطبعة ، وفي زقاقِ الهتاف ، رفيقك في الجوع الدائم ، حيث السنارات الممتدة في بحرٍ بخيل ، وحيث السرطانات تأكلُ أصابعَنا ، والأشباحُ تحرقُ أوراقَنا ، ألا تذكرني أنا الذي حميتُ ظهرك في البرد وفي الظلام.
المؤلف: وماذا بعد دوختني يا أخي؟!
الرجل – الضفدع: بعد كل هذه الرفقة النضالية العظيمة تحولني إلى آلةٍ حيوانية ، إلى حصالةٍ نقودية ، إلى نقنقةٍ ورقية، ليس لدي سوى أن أمضغَ الورقَ وأخرجه ، أمضغُ الورقَ وأحوله إلى ورق ، فأنا جالسٌ في بركةِ وحل واسعة ، وأنق ، أمد يدي وآخذُ النقود ، شحاذ مائيٌ ضفدعي ، الورقُ يطلعُ بلا توقف ولكلِ حرفٍ ثمن ، ولكلِ كلمةٍ شيك ، ولكلِ عبارةٍ سهم ، ولكل كتاب صك ، وأنا لا أشبع من الورق الذي لا يُشبّع ولا يُؤكّل ، جائعٌ دائماً ، معذبٌ للغذاء الطبيعي ، كلُ لوزة تتحول إلى ورقة ، وكلُ موزةٍ تغدو قرضةً ، وكلُ تمرةٍ تصيرُ غصة ، وكلُ قبلةٍ تصيرُ قرصةً، وآه من القرصات، فكلُ فقيرٍ يمر يقرصني ، وكل شاعر حقير يرفسني ، وكلُ كلبٍ ينبحُ يبولُ في البركة ويُظمئُني ، وأنا لا أتوقف عن النق، والدق والرتق للورق ، أحسبُ كلَ صفحةٍ سوف تصفحُ عني فإذا بها تصفعني ، وأرى كلَ بياضٍ كالسماءِ فإذا هو برصٌ يلبسُني.
فآه يا خالقي وصديقي وقاتلي كيف حولتني إلى ضفدع وأنا مشروع بلبل؟!
(يبكي فتظهر دموعٌ ورقية كثيرة) .
المؤلف: أنا . . أنا . . صدقني لا أعرف ، هذا هو سر الإبداع ، يأتيك من حيث لا تدري ، ويُشعلُكَ وأنت في عز الحر ، ويوقظك في عمق الليل ، ويطيحُ بعقلك ، ويفجرُ براكينك الخامدة . .
الرجل – الضفدع: لكن أنا . . أنا كنتُ فكرةً نارية ، أركبُ رصاصةً منطلقة إلى النجوم ثم أصيرُ دودةً في تفاحة عفنة ، كيف ؟ !
المؤلف: (يخاطبهُ هامساً وبحذر) لقد أعطيتكَ حريةً ، قلتُ لك تعلمْ ، تحركْ ، أخلقْ، أمشِ على الأرض الحقيقية بهضابها وحفرها ، أنا لم أُرد أن تكون آلةً بيدي ، بل شخصيةً من لحم ودم ، فرحتَ أنت تزحف على بطنك وتتلقى الركلات والعملات ، لا يهمك سوى إرضاء زوجتك التي لا تشبع من الفساتين والعشاق والرحلات وصرتَ حتى لا تشتهي أن تراها، عجّزت وقبحت وغدت ثرثارة مجنونة ، فاتسعت عيونك من البحلقة في التقارير والوجوه والأزقة ، واتسعت آذناك للصمت المرهف ، ونسيتَ حفيف الأشجار وموسيقى العصافير . . !
الرجل – الضفدع: أنا . . ألم تكن أنت الذي تسكتُ عن أخطائي ؟ ألم تكن أنت الذي أبتكر فكرةَ الحيلة ، وقلتَ أن الأدب حيلة، والفكر حيلة ، والشعر حيلة ، والزواج حيلة ، والحياة كلها حيلة ! وأنك من الممكن أن تعيش في مغارة اللصوص وقلبك مع علي بابا ، أن تأكلَ العيش الأصفر في قصر يزيد وروحك مع الحسين ؟ !
المؤلف : نعم قلتُ ذلك ، ولكن الحيلة التي لا تحولك إلى وحل ، وأن يجثم المقاوم الخفي داخلك ، وأن تظل أسلحتك فاتكةً رغم تراكم الغبار عليها ، وأن تعرف متى ترقصُ ومتى تقرص . .
الرجل – الضفدع: (مقاطعاً) ومتى تهرب ومتى تسكت والمذابح وسيول الدماء تنهمرُ حولك ومتى تختفي كفقاعة وتظهرُ كبالونٍ ملون في السماء ، ينفجر من قرصةِ ظفرِ طفلٍ ، حتى ظن الناسُ إنك شبح وكاتبٌ أجنبي مترجَّم . .
المؤلف: (منزعجاً) . . ! ؟
الرجل – الضفدع: تعلمتُ هذا منك بجدارة ، اختفيتُ ، تواريتُ ، توحلتُ ، متُ ، توحدتُ بالورق ، أنا كنتُ أيضاً أحتال، راكمتُ ورقَ البنكونت ، تحايلتُ ، مدحتُ الفئران والسعالي والكلاب وكلَ من يضع في جيبي ورقة ، ولم تكن تشتمني ، أو تريني شيئاً آخر ، تحتضنني ، تفتح ذراعيك لي ، تدعني أراقبُ الناسَ ، أكتب الورق عنهم ، حتى اتسعت عيناي وصارتا حفرتين من الرماد !
المؤلف : هذا اختيارك أنت ، ليس لي دخل بقراراتك وانهيارك ، كانت فيك خصالُ الضعف منذ البداية . .
الرجل – الضفدع: وأنت استغللتَ هذه الخصال ، استثمرتها ببشاعة ، تحايلتَ على روحي ، تعكزتَ على ضعفي ، فرحتَ بخلقي ، وتشوهاتي ، وتطوراتي ، التي حصرتها في جاذبيتك ، حاربتُ عنكَ حروباً لم تخضها ، وكل لحظةٍ أحاول فيها الخروج من ثيابك تعيدني إلى حصارك . . لم تجعلني مرةً واحدة أثور ، أخرج من البيت ومن سيطرة زوجتي وأهاجر ، لم تجعلني مرة واحدة أحتفي ببطل حقيقي . . (ملتفتاً إلى الشخصيات الأخرى) أنظرْ . . كل هذه الشخوص الآلية ، والمعطلة ، والمنسحقة ، والمنسحبة ، والمنفلشة ، كل هؤلاء المجانين ، وضاربي الودع والإبر، وأعضاء جمعيات الكيف . أنظر ْ . . هذا شخص يرتعش طوال الحياة ، يهتز بلا توقف ، به مسٌ كهربائي فلا هو يضيء ولا هو يحترق . . كلُ هؤلاء نتاج عقليتك العظيمة ، مملكةٌ كلها معطلةٌ من الفعل والخلق ، مجرد آلات تتحرك قليلاً ثم تتوقف، جذوع نخلٍ تمدُ سعفاتها اليابسات في الطرق وتتسول الرطب . .
وأنظرْ خاصةً إلى ذاك ، تعال يا سالم غانم !
الرجل – التابوت: إن مأساتي كبيرة يا صاحبي ، فقد بدأتُ حالماً كبيراً ، وكانت بي طاقة هائلة على الصدق والفعل ، لم توجد مظاهرة لم أشترك فيها ، غيرت الكثيرين من أهل حارتي ، الذين غدوا شجعاناً ، لكن هذا الرجل المؤلف بذر في نفسي بذرة سيئة ، لا أعرف كيف تسللت وانغرست ونمت حتى أكلتني فصرتُ من خشبٍ . إنها بذرةُ الكذب . يقول أكذب ، فعملنا يتطلب الكذب ، أعترف للشرطة فلا يهم ذلك ، والمهم أن تخرج مناضلاً نظيفاً ، المهم أن تصْدقَ مع رفاقك فقط ، قلْ للشرطة ما يحدث فلا يهمنا ذلك ، فرحتُ أكذب وأناضل وأعترف وتكدست الاعترافات ، وأناضل ، وأكذب ، أقبع في الزنازين وأخرج كأني لم أفعل خطأً ، أعود إلى أهل حارتي وأنا البطل المنتفخ ، وتنتشرُ القصائد والأغاني عني ، يصنعون لي تماثيل ، يجري الأطفالُ من طريقي إذا دخلت الزقاق ويقف الرجال ، وأنا محشو في داخلي بالتبن ، عملاق أسمر يسير في الشوارع كمارد ، ومرة واثنتين وعشر ، حتى اعتادت الزنازين على لحمي ، وتغذت طيورُ السجن من عظامي ، مات أهلي ، تشرد ربعي وهو يقول لي أكذب ! أدخلُ وأخرج والمنشار يحفر عقلي ، ويذيبُ لغتي وضميري وكلماتي ، هرب الناسُ مني ، ولم يعد لي أصدقاء ، وهو يقولُ لي أكذب ، اختفت المواعينُ والأسماك والطيورُ والقطط من بيتي ، وقبضاتُ الشرطة تدقُ الباب ، ورحتُ ارتعب ، أزحفُ تحت السرير ، وأرى الأحذيةَ القوية ، ويصدمُ رأسي بالجدار ، وأختفي في الدولاب ، اتغطى بالملابس ، أكتمُ أنفاسي وأنا أسمعهم يتقدمون لاعتقالي ، أكادُ أختنق من الحر والغازات ، وهم يتقدمون ، ويدقون على دولاب الثياب ويهمسون : أين القطة الحلوة؟ أين العفريت الصغير ؟مشيتُ ، تعريتُ ، تظاهرتُ بالجنون ، وهم لا يتركونني ، نزلتُ البحرَ عارياً وهم لا يتركونني ، وهو يقول لي أكذب ، حملتُ دولابَ الملابس فوق ظهري ، كلما سمعتُ صفارةً وضعته واختفيت فيه ، حتى حولته إلى تابوت!
الزوجة: ( لا تزال تمأ مىء وتضطرب ) . . آ . . آ . .م م م م . .!
الرجل – الضفدع: أزيحوا الستارة عن أسنانها قليلاً !
الزوجة: (وهي تنفجر) وأنا . . أنا لا تعطونني فرصة لأشرح خيبتي مع هذا الرجل، تزوجني وأنا وردة ، طفلةً تحبو على رمل الشعر ، كتب فيني أجمل الكلمات ثم حبسني في البيت ، ملأ المنزل بالعيال ، صرتُ آلة ، في كل سبعة شهور أنجب ولداً ، وهو يغيب كل ليلةٍ في الحانات ، وكل شهر في سفر ، ولقاءات دائمة مع المعجبين والمعجبات ، وتوقيع الكتب والقبل ، والجلسات مع أصدقاء الفكر والمزة والمعسل ، ثم صار عنيناً! . . .
الرجل – الضفدع: أغلقوا فمها ، فلا نريد فضائح عائلية .

المشهد الثالث

(تنطفئ الأنوارُ كليةً ، يحدثُ ظلامٌ دامس ، تظهر عينان مضيئتان ، تبصبصان في كل الاتجاهات ، يتحركُ الجسمُ الكثيف السواد في المكان ، تــُضاء الأنوارُ فجأة وتضبطُ الرجلَ – الفأر وهو يمسك مخطوطةً !
المرأة – الحية: من هذا ، أي حيوان غريب . . ؟
الرجل – الفأر: (وهو يرتعشُ) أنا حيوان . . يا بنت آوى . .
الرجل – الضفدع: ماذا تفعل يا كريم الآن ؟ أهذا عملٌ جديد لك ؟ !
الرجل – الفأر: (وهو مذعور) كلا ، كلا !
الرجل – الضفدع: ولكنني أرى عملاً جديداً لك ، لماذا تخاف ؟ أنت مبدعٌ كبير وصاحب إنجازات . . (يلتفتُ إلى المؤلف) هذا ضحية أخرى من ضحاياك ، كتلةٌ من الأعصاب المهتزة التي تعيش في الغيران ، هناك الضوء الشحيح لها ، هناك تخطُ كلماتها برعبٍ ، وهي تلتفتُ في كل لحظة ، مثل عصفور يحطُ من فوق جدار على سطحٍ مليءٍ بالأولادِ الأشقياء ، وهو شديد الجوع ولا توجد سوى كسرة خبز .. لكن العصفورَ يحطُ ويتلقى الحصى والبصاقَ ، ويخطفُ الكسرةَ ، ويعود العصفورُ فأراً في غاره ، جسدهُ دامٍ ، ويروحُ يخطُ ويتلفتُ ، يغرسُ كلمةً ، ويتلفتُ . .
(يتقدم نحوه) حدثنا عن تجربتك يا كريم ، قلْ قصتك مع المؤلف . .
الرجل – الفأر: أنا أتحدث ؟ أقول قصتي . . ؟ ما هذا الهراء ! أنا ليست لي أي قصة ، أنا مواطن مسالم ، لا أتعدى إشارات المرور ، أذهب إلى عملي بانتظام ، كل رؤسائي يشكرونني ، لا أكتب أي شيء ، أنام منذ الساعة التاسعة ، ولا أحلم ، لا أشارك في العرائض . .
الرجل – الضفدع: لا أحد غريب هنا يا كريم ، فأنظرْ إلى هذا الرجل ، ألا تعرفه ؟ ألا تشعرُ بشيءٍ تجاهه ؟
الرجل – الفأر: (يحدقُ بخوفٍ وكره نحو المؤلف ويدمدم !) .
الرجل – الضفدع: هيا دعْ روحك تنطلق . خففوا الأضواء يا سادة ، ركزوا عليه وكأنه يعيش في غاره وحيداً ، وليطلق شحناته الكهربائية!
الرجل – الفأر: كنا صديقين حميمين ، كان يشعر تجاهي دون مخلوقاته الأخرى بودٍ عميق ، كان يحضرُ إليّ في قلبِ حارتنا المليئة بالصغار الشياطين ، لنناقش فوق السطح كيفيةَ الاستيلاء على المدينة ، وكيف نحررُ خزائنَ البنوك من الأنانية والوحدة ، كان يعطيني بعضَ المنشورات لأوزعها في الحارة ، وهو يعرفُ إنني أموتُ من الخوف ، وبعد أن أُلقي بضعَ أوراق في مزبلةٍ أو فوق جدارٍ وأهرب هرباً سريعاً ، أتجمدُ على سريري وأتقلب ، كلُ دقةٍ أحسبها قدوماً للشرطة ، وكل نفخة هواء أظنها هجوماً عسكرياً ، ومرةً كنت أمشي في ممر مظلمٍ وأردتُ أن أسربَ منشوراً من شقِ نافذةٍ خشبية قديمة ، فإذا بها تــُفتح وأرى رجلاً ذا وجه ضخم وشوارب بحجم مكنسة هائلة ، تجمدتُ برعب وحركت المنشور قليلاً قليلاً حتى أدخلته في فمه المفتوح ، وبعدئذ تبخرتُ . .
المؤلف : هذه واقعة لم أعرفها من قبل . . كيف تخفي عني الوقائع هكذا؟
الرجل – الفأر: كنتُ أرتعش في حضوره ، أكاد أنطقُ بالكلمات وأصيحُ : يا سيدي أنا رجلٌ جبان ، لكن حين أراه وأسمع كلماته أقطع شريطي الداخلي . يقولُ : لا تخفْ أبداً ، الشجاعة لم تــُصنع معنا منذ طفولتنا ، بل نصنعها نحن بمواقفنا الصغيرة المتراكمة ، تنمو معنا ، مع ازديادِ غضبنا وتساؤلاتنا وتحدياتنا ، تتشكلُ بين الجدران وفي الظلام وفي التعذيب وفي الحب وفي الإيمان ، شجاعتنا تزدهرُ مع لغتنا ، مع الضوءِ الذي نتوجه إليه ، مع المستقبلِ الذي نخرجهُ من الأفق كشمسٍ كبيرة عظيمة . مع الأطفال الذين ندافع عن حليبهم غير الملوث. كنتُ أحبُ هذه الكلمات، كنتُ أتطلعُ إليه مبهوراً .
وذاتَ يومٍ قال لي: لك موعد تجريبي مع الشجاعة . اليوم ستولدُ . ووضعَ في يدي كيساً . أرتجفتُ . لكنني تماسكتُ . قال: هذه قنبلة ، أضربْ مركزاً للأعداء! ارتعبتُ ، كدتُ أموت ُ ، صعقتُ . . نمت . . صحوتُ . . شرقتُ بالماء . . تنبهتُ إلى موعد إلقاء القنبلة . . تنملَّ جسمي ، مددتُ يدي إلى الكيس ، لم أجده ، فرحتُ ، لكنني وجدتُ أكياساً عدة تحت سريري ، تحسستها ، أخذتُ واحداً وأنا أهتز ، وضعتُ قدمي في نعلِ أمي ، سرتُ ، أتذكر كلماته وهي تدفعني : الشجاعة تعلمٌ وموقفٌ وتراكم نفسي ، أضيعُ بين الأزقة ، أجدُ الخبازَ أمامي لا مركز الشرطة ، يسألني الخباز : ماذا تريد يا كريم ؟ ألم تأخذ أمك الخبز قبل قليل ؟ ! فأقول : بل أريدُ زجاجةً من هذه العجائن الفارسية البحرية الشهية ، فيناولني زجاجة تضاف إلى زجاجتي، فأتخيلُ نفسي أسبحُ في بحرٍ واسع عميق وأنا مرفوع بعدة زجاجات فارغة، والموجُ يتلاطمُ حولي ..
وأخيراً وجدتُ مركز الشرطة أمامي ، والظلام يلفهُ ، ولا توجد سوى هسهسة الجنادب ، ووأوأة العصافير النائمة ، وصحتُ في نفسي: لتكن الشجاعة اليوم وليس غداً! وألقيتُ الزجاجةَ التي انفجرت وأصدرت روائح رهيبة ، وتراكض الناس ورائي وهم يسدون أنوفهم ، حتى ألقوا القبض علي . .
تخشبتُ في الزنزانة ، جثمتُ أياماً لا أتحرك ، لا أشرب ، لا أتبول ، لا أعرف ، اعترفتُ ، كتبتُ كلاماً كثيراً يملأ غرفةً، منذ أن ولدتني أمي ، كيف سرقتُ أول فلس ، كيف نظرتُ لبنتِ الجيران ، كيف ضربني المعلم ، كيف كنتُ أتبول في فراشي وضربات أمي ، وعجزي عن ملامسة أي امرأة ، وحبي للظلام ، ولكني لم أتكلم عنه ، عن معلمي الكبير ، أخفيته في ظلمات خوفي ، أحسستُ إنني أقوم هنا بفعلٍ عظيم ، رغم إنني وُضعتُ في قبرٍ لمدىً طويل ، وفي كلِ تلك اللحظات الطويلة المرهقة لم يسأل عني أبداً . .
المؤلف: كيف أسألُ عنك ، أين ضوابط العمل السري؟!
الرجل – الفأر: خرجتُ متهدماً ، كلُ ظلٍ أعتبره شرطياً ، كلُ نأمةٍ أحسبها كبسة ، أكتبُ ، أكتبُ كثيراً ، ولا أعرف ماذا أقول أخفي أفكاري عن أفكاري ، وألاحظ عيني وهي تراقبُ رأسي ، رِجْلٌ تمشي في اليمين ورجل تمشي في اليسار ، عدة أشخاص يتصادمون في جسمي ، أنا ثائرٌ على الثوريين ، صاخبٌ على النائمين ، في هذه اللحظة وأنا حطام ، أجثم في غرفة فيها بعض الضوء ، جاءني وقال : دعنا من الماضي ، إن الثوريين لا ييأسون ، بعد فشل الثورة العاشرة يفكرون بالثورة العشرين ، فصرختُ فيه : أنا بعد سنين من السجن لم يبق لي شيء ، لا أعرف عملاً ، ولا مدخرات لي، وبيت الأهل القديم بعته وسددتُ ديوني ، وليس لي سوى هذه اليد تكتب ، هذه العروق الأخيرة تتحدى الجوعَ والظلام والحزن! فقال: لندعها تكتب ، لندعها تستغل إمكانياتها ، أكتب وأعطني وأنا أنشر . . أجبته: لكنني لا أكتب . . قال: أحضرْ خربشاتك وأنا أعدلها . لا تخفْ! صحتُ : ليس ليّ خربشات! أعطيته وورقي ، وصار يظهرُ باسمه ، وانتظر نقودي بلا فائدة ، اتصل به فيقول ليس لديك حتى الآن حساب في البنك ، ويضيف : أين القصة التي وعدتني بها؟ يحضر رجلٌ من الوطاويط ، يدقُ على باب غرفتي ، يقول : ماذا تفعل يا كريم ، أتكتب ، ماذا تكتب؟ أجيب: أقسم بالله العلي العظيم إنني لا أكتب . تتسللُ يداه إلى ثيابي ، فيظهرُ ورقٌ ، تتسللُ إلى جلدي فتقفز قصةٌ ، أختبئ تحت السرير فأرى وطواطاً مسترخياً يبصُ في عيني ، أحفرُ في الجدار ، أصنعُ سرداباً ، أحفرُ الكلمات: فيأتيني صوتُ المؤلف الذي لا يؤلف: ماذا تفعل عندك يا كريم؟!
الرجل – الضفدع: والآن نقدمُ لكم الضحية الأخيرة المعاكسة ، المرأة – البالون!
المرأة – البالون: (حين تتقدم تنفجرُ بالوناتٌ عدة) أيها الحضور الكريم يطيبُ لي أن أتقدم مدافعةً عن هذا الكاتب المغبون، الرجل الذي وقف مع النساء دائماً ، فأنا على سبيل المثال لا الحصر ، كنتٌ كاتبةٌ غضة ، مبتدئة ، لا اعرف شيئاً من فنون الكتابة ، فأخذ بيدي على سلمِ المجد ، قدمني إلى الصحافة والتلفزيون ، كتبَ نقداً بناءً عن أشعاري ، عرضوني في الندوات، طبعوا لي طبعات فاخرة ، نلتُ جوائز كبيرة ، عملتُ مقابلةً مع أمرئ القيس ، ومقابلةً مع أبي نواس رغم أنه لم يكن مهتماً بي كثيراً دون أن أعرف الأسباب ، حين أذهب إلى المهرجانات الجميع يلتفُ حولي ، صار الكثير من النقاد يكتبُ عني ، وأنا أقول إنني لا أستحق كل هذا المديح ، فأنا امرأة موضوعية عصرية ، صحيح إن جمالي وأنوثتي البارزة تلعبان دوراً كبيراً في ذلك ، لكنني أوجهُ النقادَ إلى الاهتمام بالجانب الفني الحقيقي ، وأنه من الضروري أن يبتعدوا عن المؤثرات الشخصية ، حتى جاء أحدُ المسعورين الحاقدين وزعم إن ما أكتبه ليس سوى هراء نثري ، ورفع قضية على المجلس الثقافي لدينا لكثرة إرسالي ضمن الوفود الثقافية ، وترشيحي لأكبر جائزة أدبية دولية ، ولطباعة كتبي العديدة ، وجعلي سفيرة دائمة للثقافة ومندوبة الدولة الفكرية في الأمم المتحدة ، لكن كل هذه الحملة المسعورة من الناقد المذكور ، (والسبب إن زوجته شمطاء ، وعبرَّ لي مراراً عن وده ، لكنني لم أعطه وجهاً) ، لم تستطع النيل مني ، بفضل هذا المؤلف العظيم الماثل أمامكم ظلماً ، فهو الذي تقدم للدفاع عني ، بعد أن راح يصنع المقدمات الجميلة لدواويني ويفاتحني بنقد مسبق حولها ، فصرتُ أتقدم بشكل مهول ، وأخرسُ كلَ الألسنة الحاقدة!
المؤلف: (يصفقُ بحماس . . لوحده) .

المشهد الرابع

(الصالة المنزلية تتحول إلى قاعة محكمة يرأسها أحدُ الأشخاص الجدد ، والمؤلف في القفص ، وثمة حضور من الكائنات المزدوجة: الرجل – الضفدع ، المرأة – الحية ، وأشكال أخرى متعددة من هذه المركبات البشرية – الحيوانية، وثمة لغط وانتظار وتحفز.) .
القاضي: لقد أعطي المؤلف فرصة للدفاع عن نفسه فحضر أحد أهم الكتاب الباحثين للقيام بهذه المهمة .
الناقد – الثعلب: لقد كانت كلُ الوقائع الاتهامية المقدمة عاجزةً عن التفريق بين الإبداع والحقيقة ، فالإبداع لا علاقة له بالحقائق والوقائع الدقيقة في الحياة ، بل هو خيالٌ والمؤلف يصور ما يجري ، وليس هو مسئول عن كون الشخصيات في الحياة كلها ساقطة ومبتذلة ومائعة أخلاقياً ، لقد انهار الناسُ وتدمروا ، والمؤلف الصادق مع نفسه يلتقطُ ما يجري فيهم ويصوره ، هل يخلقُ بشراً من الفراغ؟!
ولأكن صادقاً معكم فأنا نفسي كنتُ مخلوقاً من مخلوقاته الاجتماعية والفنية ، كنتُ أعيش في حارة مكتظةً بالناس ، نهاجمُ ساحلَ البحر ونأكلُ السمكَ الصغير والقواقعَ والمحار وأسماك القرش ، وكنا كلنا في ذاك الوقت مناضلين ، أشداء، وكان المؤلف يزورنا في بيتنا المتداعي ، ويلمحُ فيني بذور النقد ، فأنا لا أبقي نقداً عند أحد ، فكنتُ أهاجمُ الخبازين وأسرقُ نقودَهم الصغيرةَ ، وأخدعُ الشحاذين القلائلَ الذين يمرون في الحارةِ فأقودهم إلى بيوت خالية وأهجم عليهم ، وكان الرفاق يقيمون ليّ محاكمة على الساحل الواسع في ذلك الحين ، فكنتُ أدافعُ عن نفسي بخطب جعلت المؤلفَ يعجبُ من سحر بياني.
ومن ذلك الوقت أخذ يوظفني في تقريض أعماله ، فحين كانت تظهر له قصصه الأولى في الصحافة ، كنتُ أسارعُ بنقدها، فأشرشحها شرشحة مرة ، وبطبيعة الحال من خلال اسم غير اسمي ، ويكون لهذه المقالات صدى مدوٍ ، لأنها كـُتبت بطريقة النقد الذاتي الضعيف المهلهل ، ثم أقوم بعد عدة أيام بالرد على نفسي ، ومن خلال اسمي هذه المرة ، وعبر النقد الرزين فاكشفُ الأخطاءَ الكبيرة التي تعمدتُ بناءها ، ليصمت ذلك الناقد إلى الأبد ، ويختفي كفقاعة.
وبعدئذٍ يكون للمؤلف صيته الواسع! كما تكون لي دعوة على سهرة عامرة وأشياء أخرى.
بطبيعة الحال لم تعجبني دعوة المؤلف لحرب العصابات ، خاصة أنها واكبت ظروفاً غير مؤاتية ، فكنتُ موظفاً متطلعاً إلى منصب مهم في الوزارة ، كما أن جبالنا كلها أشبه بتلالٍ تافهة ، لا توجدُ فيها مغارات ، ولهذا فقد قطعتُ الخيوطَ مع كتاباته وسيرته ، في الظاهر ، أما في الباطن فكنتُ أعلن حبي له خاصة لأصدقائه المقربين جداً . وأقول لعله يكون له شأن في يوم من الأيام، فلماذا أعاديه؟ خاصةً إن حبي له لا يمنع كتابة أطروحة الدكتوراه عن شعراء المجون في العصر العباسي.
وبعد أن خرج ، وأحتل موقعه في الوزارة ، تغير نقدي من الاهتمام بالشعر إلى الاهتمام بالنثر ، ومن قضايا المجون إلى قضايا الثورة ، وهو لم يبخل علي بإهداء مجموعاته وكتابة إهداءات شعرية حميمة ، وحينئذٍ في الواقع رأيتُ موهبة فذةً صقلتها معاناة التجربة المؤلمة ، وأنضجتها نوافذُ الانفتاح والإطلاع.
سيدي القاضي هنا كان عليه أن يعري الحياة التي رآها ، وتلك الشخصيات المحبطة المهزومة التافهة ، هي نتاج خياراتها ، نتاج بذور الضعف مثلي أنا ، الذي أعترف بأنني كنتُ ضعيفاً ، ونفس المؤلف صورني وعراني فغسلني .
بطبيعة الحال لديه عادة خاطئة كبيرة ولا تغتفر لكنه بشر . وأضربُ مثالاً واحداً وهو إنه يقرأ النقد أولاً وقبل النشر ، ويصحح فيه ، وعدة مرات كتبه بنفسه ، وأحياناً يلكمني بقسوة نظراً لبعض الهفوات . لكن كان كريماً ففي كل ندوة وفي كل سفرة كنتُ أحد المدعوين.
القاضي: في الواقع إن كل مزاعم الشخصيات بجناية المؤلف تعتبر باطلة حسب قوانين النقد والإبداع ، ولهذا أنا لا أجد أمامي متهماً ولا قضية!
الرجل – الضفدع: ما هذا الحكم ، هذه مؤامرة! إن في الحياة نماذج فذة ، مثلي أنا الذي تم تشويهي بشكل صارخ ، ولم يقم النقاد المأجورون بفضح ذلك ، بل كانت تقام حفلات ودعوات سفر فيكتبون تقريضاً عظيماً لقبحنا وتفاهتنا ، وربما يكون حتى هذا القاضي مؤامرة مدبرة من وزارة الإعدام!
القاضي: يجب أن تتحلوا بالصبر والشجاعة لتعترفوا بأنكم كنتم شخصيات متعفنة بشكل موضوعي ، خائسة منذ طفولتها، ولم يفعل المؤلف شيئاً سوى أن ترك لها مجال التبرعم والأزهار الشرير.
المرأة – الحية: أتعرفون من هو هذا القاضي أنه بطل قصته (الحصان) الذي حكم المدينة وأخرس أصواتها ، وراح يسربُ النملَ والضفادعَ إلى الأسواق والمنابر!
القاضي: أسكتِ أيتها الشريرة ، سوف أطلق عليكم النار جميعاً!
الشخصيات كلها تندفع بذيولها وخزاناتها ووطاويطها وصرخاتها نحو المؤلف لتخنقه وتتحول إلى زهر وعصافير ونوارس تنطلق في كل اتجاهات المسرح.

وعي محمود إسماعيل

كتب : عبـــــــدالله خلــــــــيفة

الباحث الدكتور محمود إسماعيل هو من القلائل في مصر الذين اعتنوا طويلاً بالبحث في التاريخ والفلسفة العربيين – الإسلاميين ، وكان له منحى مختلف عن الوعي المحافظ الذي ساد الفكر المصري بدءً من عباس محمود العقاد حتى النشار وغيره من الذين أعادوا الوعي الفلسفي لما قبل الشيخ محمد عبده.
من كتبه التي صدرت في حقبة السبعينيات وكان لها تأثير على التأريخ كتابه( الحركات السرية في الإسلام)، الذي طبع في دار روز اليوسف ثم أعيدت طباعته في دور أخرى، ولأول مرة يتجاوز باحثٌ التنميطات الذي ظلت سائدة منذ طه حسين والذي كان كتابه الفتنه الكبرى بجزأيه بداية التحليل الاجتماعي للتاريخ الإسلامي.
وكان هناك نهجان في قراءة الإسلام في مصر، الأول اعتمد على رؤية يمينية تقديسية تبجيلية للتاريخ والفكر الإسلاميين بحيث جعلتهما جوهرين خارج الظروف والصراع، وبالتالي افتقدت الديناميكية ورؤية المسار الموضوعي للمسلمين، وهي قد غذت المجموعات السياسيةَ التي رفضتْ الانتماء الاجتماعي المحدد وجعلت موقفها غامضاً مائعاً بين المجموعات الاجتماعية المتضادة بغرض كسبها والمناورات داخلها. ويمكن ملاحظة ذلك في كتابات العقاد وسيد قطب ومصطفى محمود وغيرهم.
أما الخط الآخر فهو الخط الذي يرفض الإسلام، ويعتبر دخوله إلى مصر ، أو انتماء مصر لهذا التاريخ بمثابة كارثة حضارية، وقد يحدث ذلك بشكل غير مباشر برفض الكتابة عن هذا التاريخ الإسلام جملةً وتفصيلاً، كما فعل لويس عوض، أو الكتابة عنه، ورؤيته كتدهورٍ وتقومُ هذه الكتابات بالعودة إلى التصور الخلدوني السلبي للعرب، أي بأنهم أمة تخلف مطلق، كما يكتب ذلك بمناورات متعددة سيد القمني.
أما الخط الموضوعي التحليلي النقدي فهو الذي أسسه طه حسين، ولكن طه حسين لم يقترب من المادية التاريخية برؤية التاريخ كفعل للقوى الاجتماعية وهذا ما جعل رؤيته للتاريخ مثالية أخلاقية، ولم يستطع من الكتاب المصريين تطوير هذا الخط وتقديم صورة أكثر تطوراً، إلا حين بدأت كتابات محمود إسماعيل بالظهور، لكن محمود إسماعيل كان شبه مجهول في بلده، بسبب أقامته الطويلة في البلدان العربية المختلفة بغرضِ التدريس في جامعاتها وهذا ما أكسبه، من جهةٍ أخرى، احتكاكاً بتطورات الفكر العربي وتلاقحه مع المفاهيم التقدمية.
كما أكسبته هذه الرحلات قراءات عميقة في تواريخ البلدان العربية الوسيطة، ولهذا نرى له عناوين مختلفة عن تاريخ الإسلام في شمال أفريقيا، ومعرفة دقيقة بتحولات البربر والتيارات المذهبية السياسية فيها. كما أن له معرفة دقيقة بالفرق الإسلامية وتحولاتها في المشرق العربي الإسلامي، فكتب عن فرق الشيعة المتعددة.
وفي كتاب ( الحركات السرية في الإسلام )أختار الحركات المعارضة والهادفة للتغيير الاجتماعي، ومن هنا كان طابعها سرياً، وقد افتتح فيه تحليل التاريخ الإسلامي من وجهة نظر كشف تطور الصراع الاجتماعي، ثم ظهر كتابه الأساسي وهو (سيوسيولوجيا الفكر الإسلامي )وهو من أربعة أجزاء يتناول فيها تطور الوعي في التاريخ العربي الإسلامي وكيفية نشأة الفرق والاتجاهات الفكرية والفلسفية المختلفة، مستخدماً أسلوباً سهلاً في العرض، معززاً إياه بمئات المراجع والنصوص، مما يُعتبر مرجعاً لأي دارس لهذه الظواهر.
وإذا كان أسلوبه يمتاز بسلاسة العرض وبساطته نظراً لاستمراره في العملية التدريسية ولثورية أفكاره، إلا أن التبسيطية في النظرة إلى التاريخ الفكري تنتشر لديه في الخطوط العريضة لرؤية هذا التاريخ.
ونستطيع أن نعتبر أهم ما في هذا الكتاب حسب اجتهادي هو قراءته الدقيقة للإقطاع، فإذا كان يعمم كثيراً في رؤية (البرجوازية) ويجعل بعض الأنظمة القديمة كنظمٍ رأسماليةٍ أو أن الرأسمالية انتشرت فيها إلى حدٍ كبير، إلا أنه في رؤية ظاهرات الإقطاع والتخلف، فهو فذ فيقوم بتقديم إحصائيات دقيقة في هذا المجال بحيث لا يمكنك إلا أن تقر له بذلك.

نستطيع أن نقول بأن وعي محمود إسماعيل مثل لحظة فكرية هامة في التاريخ الفكري المصري الحديث، فهو من التقدميين القلائل الذين اهتموا بالسيرورة الاجتماعية للفكر الإسلامي، حيث خلا الفكر المصري الحديث من الاستعانة بالعلوم الحديثة في القراءة الإسلامية، وتوجه الفكر التقدمي المصري إلى الفكر المعاصر أو الثقافة كصنيع محمود أمين العالم أو غالي شكري، كما أن محمود إسماعيل لم يهتم هو الآخر بالفكر المعاصر وبتطور مصر الفكري الحديث، فلم يحدث تلاقحٌ على مستوى النظر بين الجذور والمعاصرة، بين بُنى مصر الوسيطة، وبنى مصر الحديثة.
هذه كانت مظاهر لضعف التيار التقدمي حيث لم تظهر شخصية موسوعية نقدية تستوعب هذه الظاهرات المركبة، فتقرأ قوانين التطور الاجتماعي والفكري على مستوى الماضي والحاضر، وهو ما مكن التيارات اليمينية الشمولية في الوعي الديني، وسواء الإسلامي أم المسيحي، من الهيمنة على قطاعات المثقفين، وتكريس توجهات سياسية غير ديمقراطية، خاصةً إذا ذكرنا بأن معاقل هذا الفكر في الجامعات والمدارس تضخ بشكل مستمر هذا الفكر المحافظ المتخلف في الفضاء الاجتماعي والسياسي، بحيث تراجع التطور في مصر عن بلدان عربية أخرى كانت سابقاً أكثر تخلفاً منها.
وهذا يمكن أن نلاحظه حتى في موسوعة محمود إسماعيل التي توقفت عن فهم مسألة التشكيلات التاريخية، وخاصة مسألتي (الإقطاع والرأسمالية) الحاسمتين في فهم التطور العربي السياسي الراهن، فهو يقسم الفاعلية في التاريخ الاجتماعي الإسلامي بين قوتين متصارعتين هما البرجوازية والإقطاع ، والتطور والحداثة والعلم تأتي من الأولى ، أما القوة الثانية فهي قوة تخلف وارتداد ، وهو حكم صحيح في عموميته الواسعة ، ولكن إلى أي مدى كانت هذه (البرجوازية) برجوازية حقاً ؟ فمعاييره لتحديد البرجوازية غير دقيقة، فهل تكفي فترة من الازدهار التجاري والحرفي لكي نعمم بأنها طبقة برجوازية في حين أنها مجرد فئات وسطى، كما أن تناقضها وتداخلها وتبعيتها للإقطاع كانت مسائل معقدة في التاريخ وتحتاج إلى تحليل لكل فترة وبنية بدون القفز إلى أحكام كبرى.
فإذا كان هذا التحديد للفئات البرجوازية غامضاً، وبالتالي لا يوجد هناك فهم دقيق لأسلوبي الإنتاج، فإن المسائل الفكرية المترتبة على مثل هذه القواعد التحليلية، تغدو محفوفة بالمخاطر النظرية.
في الجزء الثالث ، على سبيل المثال ، وهو المختص بدارسة أفكار الفلاسفة والفرق الفلسفية، يتعرض لمدرسة (أخوان الصفا)، وهي المدرسة الفكرية السرية التي ذاعت أفكارها في العالم الإسلامي عبر التاريخ.
وحول الاختلافات في تاريخ ظهور هذه المدرسة وعن صحته يقول الباحث :[ وعندنا أن ظهور المعلومات الأولى هذه عام 360 هـ لا يخلو من دلالة على ارتباط هذا الظهور بعصر الصحوة البورجوازية الثانية – من حول منتصف القرن الرابع إلى منتصف القرن الخامس الهجري – وهو عصر المد الليبرالي الذي شهد ظهور كيانات سياسية كبرى تمثل في الدولة البويهية والدولة الفاطمية والخلافة الأموية بالأندلس، وهي كيانات ذات طابع بورجوازي حققت الكثير من طموحات إخوان الصفا)، ص179 ، ط 1 ، سينا للنشر.
إن هذه الكلمات العامة عن الصحوة البرجوازية والمد الليبرالي، يجب أخذها بحيطة موضوعية وتدقيق بالغ، فهل يمكن اعتبار عصر الدولة البويهية عصر (صحوة) ، وما معنى الصحوة في سياقات البحث الاجتماعي، وهل الدولة البويهية دولة بورجوازية؟ إن كلمة (صحوة) تقابل النوم، فكأن العلم الاجتماعي يتحول هنا إلى استخدام التعبيرات الفضفاضة المتعلقة بنوم واستيقاظ الفرد، وليس بقراءة تشكل الفئات والطبقات الاجتماعية. فمن المعروف إن الدولة البويهية كونها أمراء فرس زيديون تلاعبوا بالخلفاء العباسيين وحولوهم إلى دمى، وقد عاثوا بميزانية الخلافة على بذخهم ولهوهم، وانحصرت الخلافة حول بغداد ثم بضع دويلات فارسية، وعموماً تحول الأمراء البويهيون إلى إقطاع متحكم في الثروة.
لكن البويهيين سمحوا بظهور وزراء مثقفين كبار لعبوا دوراً كبيراً في تشجيع الفكر والثقافة، لكن النظام الاجتماعي لم يتغير، يقول عبدالعزيز الدوري( فمن آثار سياسة معز الدولة تجاه الأراضي أن ” فسدت المشارب ، وبطلت المصالح، وأتت الجوائح على التناء {الفلاحون} ورقت أحوالهم ) في حين أرتفع دخل أفراد الجيش البويهي المسيطر، (والخلاصة، فإن عصر العصر البويهي كان خالياً من الخدمات الاجتماعية باستثناء الفترة بين369 – 372 ) ، (وكان الفقراء يأكلون الجراد أيضاً، وخاصة في السنين العجاف) ، ( وكانت معيشة البدو صعبة)،(ورأى بعض الوزراء في المصادرة مورداً أساسياً للخزينة وتصرفوا بموجب ذلك) ، راجع الدوري ، تاريخ العراق الاقتصادي في القرن الرابع الهجري.
هكذا غدا هؤلاء الأمراء البويهيون الغزاة إقطاعاً عسكرياً، ينتزع الفوائض عبر الجيش، وهو لا يعرف كيفية توسيع الإنتاج وتحديثه، ولكن ما هي علاقة أخوان الصفا الذين ظهروا في هذه الفترة بالبويهيين وهل كانوا من تأثيراتهم؟
إن اخوان الصفا تجمع ثقافي سري ليس له صلة بالحكام، وهو يتشكل من شرائح الفئات الوسطى المعارضة للاستغلال الإقطاعي، وقد أمكن لهذه الجماعة أن تكتب وتدس كتبها في غيبة من أعين السلطات، واستفادت من صراعاتها الفوقية وغياب ملاحقاتها، فهي إجابة على الأسئلة التي طرحها الإسلام عبر حركاته المختلفة، خاصة حركة الاعتزال، وحركة أخوان الصفا مرتبطة بالتقاليد الكفاحية الفكرية للمناطق العراقية الجنوبية القديمة وهي محاولة لتجاوز عقلانية الاعتزال بصورة مختلفة. وهي تعبر عن شرائح من الفئات الوسطى اعتمدت الثقافة كوسيلة للتغيير الاجتماعي، ورفعت من مكانة الزهد والتصوف كسبيل مسلكي للتغيير السياسي، وحاولت تجميع أغلب المذاهب والأديان في إطار تصوفي مشترك، وكانت لها نظرات مهمة في فهم التاريخ، لكنها لم تستطع أن (برجوازية حرة) فكان هذا يحتاج لتبدل الرأسمال الحرفي على رأسمال صناعي وذلك لم يكن ممكناً حينذاك، وصار ممكناً الآن!
لكن الدكتور محمود إسماعيل بعد هذه الملاحظات العامة يسوق الكثير من الأفكار المتغلغلة في تحليل فكر أخوان الصفا ، بصورة دقيقة متتبعاً تجليات وعيهم في مختلف الظاهرات السياسية والعلمية والفلسفية، بحيث جاءت هذه الملاحظات بغنى مختلف عن التعميمات التي لم ترتبط بها.

محمود أمين العالم والتغيير

كتب : عبـــــــدالله خلــــــــيفة

لا يمكن لأعمدة صحفية أن تحرث في أرض واسعة هائلة كالأرض الفكرية للراحل محمود أمين العالم، لكنها إشارات لبعض الحقول في هذه الأرض، خاصة حقل فهم الاشتراكية الملتبس.
فالرجلُ جمعَ الفكرَ والأدب والسياسة في ثالوث حفري مستمر عبر أكثر من نصف قرن، حيث يبدأ بالدرس الفلسفي في أول الأربعينيات من القرن العشرين، جامعاً معه الأدبين القصصي والمسرحي بصور متعددة متصاعدة، رغم إن كتابته للشعر تبقى خارج الوجود المتجذر في الأرض الإبداعية، ثم يتغلغل في مجمل الظاهرات الفكرية والإبداعية المصرية نضالاً صبوراً وتضحيات جساماً.
حين نظرنَا إلى مشهدِ الصحافة المصرية في الستينيات رأينا النماذجَ الكبيرةَ الهائلة وهي مأسورة أو محطمة. غزارة في الكتابة ولكن ثمة تناقضات رهيبة في الوعي كنا غير قادرين على فهمها، لأننا كنا جزءًا من تناقضاتها.
محمود أمين العالم يمثل هذا الرعيل ذا الأبنية الفكرية الضخمة المتناقضة، وحينذاك لا يمكن أن تفهم سببية هذه التناقضات، لا وعيك يسمح لك بذلك ولا الحركة (التقدمية) قادرة على فهم وفرز التناقضات.
إن التبجيلية للمشروع(الاشتراكي) الناصري الذي كان يقدمها العالم ترافقها مواد مكتوبة عن الاعتقالات والقتلى، وعن تاريخ الحزب الشيوعي المُطارد ثم المُهجن داخل الحكم البيروقراطي المسيطر، ويبرز محمود العالم كمنظرٍ لهذا القبول بـ (الاشتراكية) في الصحافة المصرية حيث يكتب في مجلة المصور بشكلٍ مستمر وفي الهلال، وتظهر حينذاك موسوعة الجيب الاشتراكية، التي ندأبُ على التهامها، ونهتم بفقراتِ محمود العالم فيها، ففي النظر التقدمي السائد وقتذاك أنه الأقرب (للحقيقة).
أحدثت قراراتُ التأميمات في الستينيات صدمة للمعتقلين الشيوعيين المصريين وهم في سجن النظام نفسه، ودفعتهم إلى دراستها وبعث العالمُ برسالة إلى جمال عبدالناصر يؤيده عليها، حس الشاعر الرومانسي قوي لدى العالِم، والعدة النظرية لا تكفيه لتحليل هذه(الاشتراكية). وبعد السجن حين التقى خالد بكداش قال له الأخيرُ اشتراكية عبدالناصر (رأسمالية دولة)، من دون أن يربط بكداش ذلك باشتراكية روسيا. الحماس الشعري لدى العالِم قادهُ لاقتراح بتحويل الأحزاب اليسارية إلى قوى ذائبة داخل التنظيمات الأخرى كما حدث في مصر.
هنا نصطدمُ بالتبريرية الايديولوجية لنظام الاشتراكية الوطنية المصرية، فكلمةُ الاشتراكية التي يرددها العالمُ تصطدم في عرفنا السائد بمصطلح الاشتراكية (العلمي)، حيث إن اشتراكية مصر ليست هي اشتراكية، بل هي دولة هجينة، لم تستطعْ أن تتشكل من خلال إرادة الطبقة العاملة وهي الطبقة الوحيدة القادرة على صنع الاشتراكية.
ولهذا فإن فكرَ العالم يقعُ لدينا وقتذاك بين قوسين، خاصةً أن اشتراكية النظام المصري التي هي دولةٌ تسيطرُ عليها برجوازيةٌ صغيرة من العساكر منذ انقلاب يوليو 1952، تحولتْ إلى فئات وسطى كبيرة بعد امتلاكها القطاع العام، وأدى انقطاع علاقاتها بالجماهير عبر الحكم الشمولي إلى أن تكون هذه الاشتراكية اشتراكية زائفة، بل هي رأسمالية.
لكننا لم نعرف طبيعة هذه الرأسمالية، وكانت مجلة الطليعة التي رأسها لطفي الخولي غنية بموادها الباحثة في هذه الظاهرات والصراعات من دون أن تؤسسَ وعياً علمياً.
كان الوعي العلمي يشترطُ في مثلِ هذه اللحظة الانقطاع عن الايديولوجية المضللة بوعي الاشتراكية، التي هي تتحدث باسم الاشتراكية نفسها، وكان محمود العالم أحد الصائغين لهذا الالتباس الفكري، في مجال الوعي بالتشكيلات التاريخية بدرجةٍ خاصة.
كان الاشتراكيون لا يعرفون الاشتراكية، وصار الكثيرون اشتراكيين، فهناك اشتراكية عربية، واشتراكية إسلامية، واشتراكية ديمقراطية وغيرها.
حين نتساءل الآن بعد عقود من هذه الحقبة نرجعُ التباس محمود العالم بوعيه للاشتراكية إلى ماركسيته اللينينية، فقد كانت هي المرجعية، وهي تتكون بشكل إنشائي:
(ماركس لم يقدم برنامجاً عملياً للتحول الاشتراكي وانما قدم خطوطا عامة. ولقد استطاع لينين ان يقود عملية الثورة وان يحققها باقتدار عبقري في مواجهة الضرورات العملية والفكرية والتنظيمية التي فرضتها الاوضاع الخاصة والدولية، وكانت هناك ابداعات فكرية وعملية عديدة مثل نظرية قيام الاشتراكية في بلد واحد، ومثل نظرية أضعف الحلقات، ومثل الربط بين السلطة والكهرباء، أي التصنيع، ومثل الثورة الثقافية، ومثل نظرية حق تقرير المصير ومثل الدعوة للسلام العالمي، ومواجهة الحرب الاهلية والتدخل الامبريالي، ولكن لعل من ابرز الابداعات العملية في تقديري هو مشروع الـ peN الذي سعى به لينين إلى ان يردم الهوة بين الطبيعة الثورية للسلطة الجديدة وبين الواقع الاجتماعي البالغ التخلف، ربما اقتراباً من رؤية ماركس الخاصة بقيام الاشتراكية في البلاد الرأسمالية المتقدمة، باعتبار ان الاشتراكية هي تتويج لاكتمال المرحلة الرأسمالية)، (العالم، الماركسية وسرير بروكست، 2-3)، من الحوار المتمدن.
هذه عبارة تلخص طريقة محمود العالم وجملة كبيرة من المناضلين التقدميين كذلك عن الاشتراكية، وكيف يتم التعبير عنها بشكلٍ إنشائي بلاغي لا علاقة له بالعلم.
تغدو الاشتراكية من الفقرة المستشهد بها في الحلقة السابقة هي قيام فرد اسمه لينين عبقري بتأميم مشروعات رأسمالية، ثم تنفيذ مشروع الكهرباء وتطوير الثقافة ثم إيجاد خطة النيب.
هنا يحدث قطع مع تاريخ البشرية المعاصر، مع فهم التشكيلات التاريخية باعتبارها ليست نتاج فرد أو نخبة أو بضعة بلدان، بل هي نتاجُ أجيال من الشعوب والقارات، نتاج المئات من السنين، وفي الفهم الإرادوي (الماركسي) فإن إنشاء الاشتراكية ممكن بانقلاب، وفي ذلك الحين كانت ومازالت التشكيلة الرأسمالية في طور النمو، بدأت بعدة قرون تسمى عصر النهضة الأولية التحضيرية، ثم زمن الاكتشافات الجغرافية فزمن الثورة الصناعية، فعصر الاستعمار، فانتشار الرأسمالية كتشكيلة كونية، ذات قطبين قائد مهيمن وتابع متخلف فنام ومازالا يتصارعان ويتداخلان لتكوين قادم مشترك لا نعرف حتى الآن ملامحه.
قراءة المظاهر السطحية للثورة الروسية تجعله يبتعد عن الدخول للسببيات العميقة، فالكهربة وتوزيع الاراضي على الفلاحين والدفاع عن الوطن ضد الاستعماريين الغزاة ونشر التعليم هي كلها اجراءات من مرحلة الثورة الديمقراطية، التي تشكلت على المستوى الاقتصادي الاجتماعي، لكن تأميم المصانع هي قفزة أخرى، خلطت بين مرحلتين، هي عملياً القضاء على الطبقة البرجوازية، لكن البيروقراطية الحكومية هي التي تتسلم فائض القيمة، غدا رأس المال من سيطرة الدولة.
هذا السياق لا يحلله العالم، بل هو يعتبره ثورة اشتراكية، وحين يفعل عبدالناصر ذلك يغدو مؤسِّساً لاشتراكية، الإجراءات في روسيا ومصر على بُعد الزمن والمراحل، تمثل دكتاتورية اجهاضية للتحول الطبيعي للانتقال للرأسمالية وأشكالها الديمقراطية.
تتفكك لدى العَالِم رؤية التاريخ، بعزل مصر أو روسيا عن تاريخ التشكيلات، وعن جذور العالم الشرقي ودور الدولة المتأصل المعيق للتطور الديمقراطي، والمُسرع للتنمية، فلا يحظى مصطلح (رأسمالية الدولة) على أي بحث لديه، وهو جوهر المرحلة، وهذا ما يشكل الأحكام السياسية العفوية الخاطئة في أغلبها.

لينين في محكمةِ التاريخ

كتب : عبـــــــدالله خلــــــــيفة

إنتقلتُ في علاقتي بلينين من المحبة إلى العداء، ثم إلى القراءة الموضوعية دون محبة أو عداء، أي إلى قراءة تحليلية أتجنب أن تكون ذاتية.
ظللَّ هذا الرجلُ مرحلةَ شبابنا، وكان معبوداً، وتدمر في تواريخ لاحقة حتى غدا مرفوضاً ملعوناً، لكنه صعد بشكل آخر حين تنامت القراءة الأعمق للتاريخ.
لينين دكتاتور، وكرسَّ نفسه لكي يكون ديكتاتوراً، وهذا لم يخفهِ، لكنه دمجَ دكتاتوريتَهُ الشخصيةَ الحزبية بالطبقة العاملة، بإدخال دكتاتوريته الشخصية الحزبية فيها.
العمالُ غير قادرين على المشاركة في السياسة فكيف أن يكونوا قادة دولة كبرى؟!
العمال لكي يكونوا قادة دولة يحتاجون لعشرات السنين وربما لمئات السنين، فكيف يحدث ذلك؟ المثقف التقدمي يتكلمُ نيابةً عن العمال، إنه يختزلهم في شخصه المنتفخ سياسياً بشكل متصاعد تاريخي، أي مع تطور حركته السياسية التي تُصعدُ دكتاتوريتها ودياكتاتوريته بين العمال والجمهور وكلما تغلغلت زادت البرامج شمولية وضخامة في التغيير.
هذه إزاحةٌ من برجوازي صغير لذاتهِ الطبقية الغامضة، المترددة بين الاشتراكية الديمقراطية والاستبداد الشرقي، والعمال يكونون مادة خاماً غير معبرة ولا مهيمنة.
البرجوازية الصغيرة بإحدى فئاتها وهي البلاشفة تتكلم عنها وتتداخل معها، وتصعدُ نفراً منها، كأدواتٍ لها. فالعمالُ لا يعبرون عن أنفسهم بل يُعبرُ عنهم.
هنا حدسٌ تاريخي وتحليل موضوعي من لينين، ومقاربة للعالم الشرقي الذي ينتمي إليه، وهو عالم إستبدادي لم يعرف التغيير عبر الورود.
إن التغيير في الشرق يتم عبر القوة ومن ليس لديه قوة لا يستطيع أن يغير، لينين يعيش وضع الشرق الاستبدادي ويتكلم من خلاله، فهو قد عبر منذ البداية عن هدفه الدكتاتوري وطريقه الديكتاتوري، ولم يقل عن الانتخابات الحرة والديمقراطية الغربية، بل قال أنا السلطة وأنا النظام.
الشرقيون في تحولاتهم عبر الماضي إعتمدوا على العنف، ومن لم تحمهِ قبيلةٌ وينهض على أكتاف مقاتليها أو من لم يجد قوة تنضم إليه لا مستقبلَ له في السلطان والتغيير على مدى قرون!
المسيح وغاندي لم يعتمدا على العنف بل على الأفكار والمحبة وفي المضمون حركا الجماهير الشعبية عبر نضالات سلمية عازلة للطبقات الحاكمة بحيث تمكنا من هزيمتها. وقد كان تولستوي الروائي الروسي الكبير هو معلمُ غاندي، لكن لينين في كتابته عن تولستوي لم يأبه بمسألة اللاعنف، وتغاضى عنها، وركزَ على الصراعات الاجتماعية وأن تولستوي المسالم لم يدخلْ الثورةَ في رواياته ولم يحول الفلاحين إلى ثوريين وإنه ركز على مسائل الضمير والأخلاق والتغيير الروحي وكان هذا نقص في رؤيته حسب قراءة لينين. وقد كان تولستوي يهدف بشكل أساسي إلى عدم إدخال العنف في نضالات شخوصه وعوالمه، بل ركز على النضالات السلمية، والمحبة، وعلى(البعث الروحي) وهذه إعتبرها لينين ثغرات في وعي تولستوي وليست ثغرات في وعيه هو!
وبين مسارِ هند غاندي المتحولة من نموذجهِ وبين مسار روسيا العنيف مفارقاتٌ هائلة، فقد وصلتْ الهندُ لنفس مسار روسيا بدون كل تلك المذابح اللينينية والستالينية وبدم مائة مليون قتيل، بل من خلال مغزل وعنزة!
لكن روسيا كانت قائدةً للتحول الشرقي عامة، فبدون روسيا السوفيتية يصعبُ وجود وإنتصار الهند الغاندية.
روسيا قامت بدور القيادة التحررية لعالم الشرق، فإذا كانت اليابان عملت لذاتها الخاصة الأنانية وبكم هائل من الدماء، فروسيا عملت لنفسِها وللشرق والعالم المستعبد، وهي تقدمُ نموذجاً دكتاتورياً مليئاً بالتجاوزات والجرائم!
لم يستطع لينين أن يكون إشتراكياً ديمقراطياً، فالاشتراكية الديمقراطية صالحةٌ للغرب، لدولٍ راحتْ تتطورُ في رأسمالية حديثة خلال خمسة قرون وأكثر، لدولٍ فيها صناديق الاقتراع والحريات الفكرية والسياسية والحب في الشوارع، فيما عاشتْ روسيا في إستبدادٍ مطلق، فلم يعرف الروسُ صناديقَ الانتخاب، ولم يعرفوا النقابات والأحزاب العلنية، فكيف يؤيدون الاشتراكيةَ الديمقراطية؟
في روسيا مائة مليون فلاح أمي فقير حينذاك، فكيف يظهر التنويرُ وتصعدُ الديمقراطيةُ فيها؟!
هنا تنجح الدكتاتورية مثلما نجحت في بلدان أخرى لها نفس السمات كما سوف يتفجر ويتألم القرن العشرون الشرقي!
عمل لينين على تجذير الاشتراكية الدكتاتورية، وهزيمة الاشتراكية الديمقراطية، وعلى تصعيد رأسمالية الدولة وعلى الدولة القومية الروسية.
منذ البداية في(ما العمل) أكدَ ضرورة وجود حزب دكتاتوري، يعمل على إسقاط النظام وإحلال الاشتراكية فيه. وإنقسم الاشتراكيون تبعاً لذلك، بين إشتراكيي التعددية والتغيير التدريجي الديمقراطي وبين الفصيل البلشفي الدكتاتوري الذي يقوم بالتحولات النهضوية بشكلِ دولةٍ جبارة تقع كل الخيوط في يديها.
الشرقيون إلى زمنٍ طويل أقربُ للبلشفية منهم للديمقراطية، لأنهم دكتاتوريون محافظون، وذكوريون إستبداديون، ويريدون التحولات بسرعة ومن خلال (القداسة) التي تحقق التحولات السريعة القافزة المتلاحمة لهم، دون أن يقوموا بتحولات في شخوصهم وعائلاتهم ويغلغلوا الديمقراطية في أوضاعهم ونفوسهم وحياتهم الشخصية.
وقد تمكن لينين بعبقرية من فهم المجتمع ومن وضع برنامجه موضع التطبيق وغيرَّ روسيا والعالم وفي بلد هائل وعالم شرقي نائم، وأمام وفي مواجهة قوى إستعمارية هائلة ذات قدرات عسكرية عالمية مخيفة تدخلت وحاولت الوصول إليه ولكنه هزمها!
سبب إنقلاب لينين على الحكومة الديمقراطية وقتذاك الكثير من المآسي للشعب ولكنه حقق نهضة هائلة.
كان تصعيده للصراع ضد حكومة أتاحت الأحزاب والانتخابات لكونِ برنامجه من البداية ينادي بإبعاد البرجوازية عن السلطة، وحين جاءتْ سنةُ التحولِ في 1917 سّرع من الدعوة لتحقيق مطالب شعبية ملتهبة، وعزلَ البرجوازيةَ عبر التحالف مع الفلاحين، وكان قبلاً لا يؤيد إعطاء الأرض للفلاحين لكنه في خضم الصراع ومن أجل تفكيك الخصوم وضرب بؤرتهم جذب الحزبَ الثوري الشعبي ذا الأغلبية وتبنى برنامجه وأضافه في لعبته السياسية، فحقق البلاشفة الأغلبية لأنفسهم وجاءت الملايين لتأييده، فهذا الإجراء حقق قاعدة هائلة في بلد يحكمهُ على الأرض الفلاحون.
لكن البرنامج البلشفي ليس هو هذا، وهو برنامجٌ عامٌ مجرد في بداياته، ويتوجه نحو ضرب العلاقات الرأسمالية الخاصة بشكل أساسي، بتأميم المصانع، وبهذا فإن البلاشفة أسسوا جيشاً كبيراً ومخابرات قوية، وراحوا يصفون الخصوم الخطرين، ثم ينقلبون على الحلفاء، فالحزبُ الشعبي حاول أن يعري هذه الدكتاتورية التي هي ليست دكتاتورية العمال، بل دكتاتورية البلاشفة، فكانت ضربة الحزب العنيفة حين أعلن بعضٌ بحارتهِ وعماله التمرد وتحول لغبار بشري!
تكوين سلطة بلا جذور، وعبر إجراءات إجتماعية وتشكيل أجهزة عسكرية وإستخباراتية عملاقة، أتاح صد المعارضين والقوى المتدخلة الأجنبية على التراب السوفيتي، وكان المتصور إنها بإمكانياتها العالمية قادرة على سحق هذا النظام الغض المحاصر، لكن تلك الأجهزة وإجراءتها التحولية لمصلحة الغالبية الشعبية، وعمل إنضباط هائل ومصادرة أية حبة قمح زائدة عن إستهلاك الفلاحين، أدت لتماسك النظام وإنتصاره وحدوث قمع رهيب وضحايا ومجاعة.
لكن هذا الرجل صاحب المشروع الدكتاتوري النهضوي مرهف لشعيرات التحول، فحين رأى تجاوز المرحلة السابقة وكم الدمار والتخلف والضحايا، تبدل عن هدفه في إزالة الطبقات، وتحول بنفسه لرئيس نظام رأسمالية الدولة.
ومنذ البداية كان مدركاً لطبيعة النظام الذي يؤسسه، قال في سنة 1918 في اللجنة المركزية: إننا نبني اليوم رأسماليةَ الدولة فعلينا أن نطبق وسائل المراقبة التي تسعملها الطبقاتُ الرأسمالية). وبعد ذلك في 1921 تحول هذا إلى نظام وعادت بعض الطبقات القديمة المالكة، ومضى المجتمع في تطور إقتصادي مع بقاء الأجهزة العسكرية والأمنية المتصاعدة النفوذ، وذابت قوى المعارضة أو أُذيبت، وإنتشرت معسكرات العمل الأجباري والمنافي وتحضرت البلاد لدكتاتورية أسوأ من دكتاتورية لينين.
إن مشروع الاشتراكية في إجراءات لينين قبل موته لم يزل قائماً، ولم تُعرف تصوراته للمستقبل، وماذا كان ينوي لو كان حياً، فهذه القطاعات الاقتصادية العامة والخاصة، وبقاء الملكيات الصغيرة الفلاحية الهائلة، كان لا بد من تغييرها ونشؤ الملكيات العامة والتعاونية في كل الاقتصاد حسب التصور المفترض، وكان المكتب السياسي به قيادات مثقفة كبيرة، وكانت قادرة على متابعة فكره وتطبيقه بمرونة.
لكن الدكتاتورية المؤسَّسة بأجهزتها وبزخمها العامي وجدت في ستالين رمزها، وهو رجل داهية إستطاع الوصول لهذه الأجهزة، وقد حذر لينين المؤتمرَ العام للحزب من خطورة هذا الرجل، وبضرروة تقليص صلاحياته.
هذا الجانب ينقلنا لطبيعة الدكتاتورية التي أسسها، فهي دكتاتورية عنيفة لها أخطاء وتجاوزات كبيرة، لكن تستند على تطور المشروع بشكل ذكي، وقد نوّهَ بقياداتٍ أخرى غير ستالين، ولكن الهيمنة البوليسية صعدت داخل الحزب، وكرست الدكتاتور الأكبر.
وهذا جزء من طبيعة النظام وتاريخه وإمتداداته في العامة، وتصعيد الانتهازيين وطلاب المكاسب، وتحنيط اللغة الجدلية التاريخية تدريجياً وتحولها لقوالب، وشمولية كلية، وهذا يؤدي لغياب الغنى والتنوع وتمركز السلطة أكثر فأكثر.
المشروعُ في النهاية ظهر عبر مضمون المجتمع ومرحليتهِ التاريخية، فرأسمالية الدولة تتوسع على حساب الطبقات المنتجة، فتم عّصر الفلاحين والعمال وإنتزاع رأس المال منهم، وتحويله للصناعات والعلوم وتغدو الدولةُ أكثر فأكثر ذاتَ مضمون رأسمالي داخلي، بشكلٍ إشتراكي زائف، حتى يصل المضمون لتجليه الكامل عبر إعادة البناء، ويقوم بالتخلص من النفقات المكلفة ومن المعسكر الاشتراكي والحركة الشيوعية(الأممية الثالثة)التي تبخرت ومن مساعدات حركات التحرر ويصدرُ السلاحَ السلعة الوحيدة التي تمكن منها ويبحث بكل قوة عن النقد.
كان لينين دكتاتوراً ولكن ليس من خلال رؤية ذاتية، بل من أجل نظام آمن بتشكله عبر إجراءاته، لكن ستالين كان ذاتياً، أسقط شكوكه وكراهيته وتخلفه الفكري على إدارته، فأضاف الكثيرَ من القمع بلا مبرر.
قال أحدُ الرأسماليين المثقفين الروس في أثناء تلك التحولات العاصفة: إن لينين يقوم بإنشاء رأسمالية متطورة وبوسائل دكتاتورية وهو أمرٌ نعجزُ عنه نحن.

عبدالرحمن بدوي

كتب : عبـــــــدالله خلــــــــيفة

في كتابه ( الإنسانية والوجودية في الفكر العربي ) يقوم الباحثُ ومحقق النصوص الكبير والمترجم عبدالرحمن بدوي ، بتشكيلِ مطلقاتٍ عامةٍ للوعي ، فالإنسانية لديه عامة والحضارة عامة ، لها سماتٌ مجردةٌ وتخترقُ العصورَ والبــُنى الاجتماعية ، ( 1 ) .
يقول :
( وهذا العَودُ المحوري إلى الوجود الذاتي الأصيل هو ما يسمى في التاريخ العام باسم ( النزعة الإنسانية ) . ولا بد لكلِ حضارةٍ ظفرتْ بتمامِ دورتها أن تقومَ روحُها بهذا الفعل الشعوري الحاسم . ولهذا كان علينا أن نتفقده بين الحضارات التامة النمو على تعددها ، وما الاختلاف إلا في الألوان المحلية والمعادلات الشخصية الضئيلة ، أما الخصائص الإجمالية فواحدةٌ بين الحضارات ) ، ( 2 ) .
هناك تعبيراتٌ مجردةٌ هي قاموسُ الباحث عبدالرحمن بدوي فنرى منها هنا : التاريخَ العام ، والنزعةَ الإنسانية ، والروح العامة ، والفعل الشعوري ، والألوان المحلية ، والخصائص الإجمالية .
إن كلَّ هذه التعبيرات تتمازجُ وتشكل رؤيةً عامة ، فالبشريةُ لها تاريخٌ عام مشترك ، وهذا صحيح ، ولكن هذه العمومية تشكلتْ داخل بُنى تاريخية طويلة وغائرة في كلِ حضارة ، ولا يمكن القفز بسهولة على هذه البنى والمراحل التاريخية الكبرى ، ف ( العود المحوري إلى الوجود الذاتي الأصيل ) ، هو قراءةٌ للنزعات الفردية دون رؤية الأسس الموضوعية لتكوِّنِ هذه النزعاتِ الشخصية والحرة والمبدعة .
إن الباحثَ حين يجعلُ مثل هذه النزعات ( وجوداً ذاتياً أصيلاً ) يقومُ بجوهرةِ هذه النزعات ، فتغدو وكأنها تستطيع أن تكون في كل التاريخ ، وكأن ليس ثمة شروطاً موضوعية لتشكل ونمو وانحسار مثل هذه النزعات .
ولهذا فهو يقولُ ؛ ( الخصائص الإجمالية العامة فواحدة بين جميع الحضارات ) وهو يشيرُ إلى وجودِ ظروفٍ لتشكلِ النزعاتِ الفردية الخلاقة بتساوٍ بين الحضارات ، وهو أمرٌ غير موضوعي ، فبعضُ الحضارات لا يخلق ظروفاً مؤاتية مهمة لهذه النزعات وبعضها يشكل لها منسوباً أوسع وبعضها يدمرها كلياً .
ومن هنا فإن تعبير ( النزعة الإنسانية ) هو الآخر يحتاجُ إلى فحصٍ ، فما هي هذه النزعةُ الإنسانيةُ العابرةُ للتاريخِ وما هي ملامحُها لتكون نزعةً إنسانية ؟
يقول عبدالرحمن بدوي :
( . . إن الوجود الحق أو الوحيد هو الوجود الإنساني ، حتى صارت شارته هي : من الإنسان وإلى الإنسان بالإنسان ؛ أو كل شيء للإنسان ولا شيء ضد الإنسان ، ولا شيء خارج الإنسان ) ، ( 3 ) .
وهذه تعبيراتٌ عصريةٌ مجردة غير معروفةٍ في العصور القديمة والوسطى ، فلم يكن الإنسان يفكرُ في نفسه كفردٍ منقطعٍ عن الجماعةِ بهذا الشكل التجريدي ، فهو كائنٌ مُلحق بجماعةٍ ، وسواء كانت قبيلةً أو جماعةً دينية ، أما كفردٍ مستقل فهو تفكير عصري ، ولهذا فإن الباحث عبدالرحمن بدوي سوف يقوم بمهمة شاقة وهو يحاول أن يثبت لنا وجود هذا الاستقلال وتلك الكينونة الفردية العالية في العصور التي سحقت الإنسان الفرد !
( النزعة الإنسانية لا يمكن أن تصدر إلا عن الروح الأصلية للحضارة التي ستنشأ فيها ) ص 8 ، وهنا تقودنا التعبيراتُ المجردةُ إلى تعبيراتٍ أخرى مجردة ، فعلينا أن نبحثَ عن النزعاتِ الفردية الخلاقة في ( الروح الأصلية للحضارة ) فلا بد هنا أن نعرفَ ما هي الروح وما هي الروح الأصلية ، ولهذا سوف نبحثُ إذن عنها من خلالِ الوعي وهو مقطوعُ الصلةِ بالبُنى الاجتماعية التي يتشكلُ فيها ، أي أن نبحثَ عنها وهي تخترقُ المراحلَ والبُنى والعصورَ ، متشكلةً في أفكارٍ وأخلاق وإنتاجٍ فردي مقصوصٍ من كيانه الذي تشكلَ فيه .
وهكذا ستتحولُ التكويناتُ الموضوعيةُ بين الحضارات والبنى إلى عناصرَ مجردةٍ ، وإلى أن ( لكل حضارة عواملها الخاصة بتوليد النزعة الإنسانية ) ص 8 .
ويضربُ الباحثُ لنا مثلاً بالنزعة السوفسطائية الإغريقية كنزعةٍ إنسانية ( أنها تؤكد إن معيار التقويم هو الإنسان . فالسوفسطائية اليونانية قالت على لسان بروتاغورس : ( الإنسان مقياس كل شيء : ما هو كائن بما هو كائن ، وما هو غير كائن بما هو غير كائن ) ، فيحلل ذلك قائلاً ؛ ( أن يُردَ التقويمُ إليه ، لا إلى أشياءٍ خارجية فزيائية مادية ، ولا إلى كائنات خارجةٍ مفروضة على الوجود على سبيل الأحوال النهائية ، لا الواقعية الحقيقية ) ، ( 4 ) .
ويعتبر الباحث مثل هذه الأفكار نزعةً إنسانية ، دون أن يقرأها في ضوء عصرها ، ولا أن يحللها ، فمقياس الإنسان هو الإنسان ، يظل كلاما مجرداً غامضاً ، فلا يمكن معرفة الإنسان من خلال قطع جذوره الطبيعية والأبنية الفكرية التي ينتجها ، فليست الأديان خارج معرفة الإنسان لنفسه .
إن في الحضارة الإغريقية أشياء كثيرة وكبيرة إنسانية وفيها ما هو مضاد للإنسانية ، وسبق لنا أن حللنا بعضاً من هذه الجوانب في الجزء الأول والثاني ( 5 ) لكن الباحث عبر منهجه يقومُ بقطع أشياء معينة ويفصلها عن مسارها التاريخي ، مثلما يحدث هنا عبر اختيار السفسطائية مدرسة للذاتية غير الموضوعية .
ولأن البناء الموضوعي ليس مهماً في تبيان جذور الفردية ، يقفز بدوي من العصر الإغريقي إلى العصر الحديث فيستشهد بباحث أوربي (بترركه ) الذي يقول :
( كل ما هو خارج عن ذاتك ليس منك ولا إليك ، وكل ما هو لك حقاً عندك ومعك .. ) ، ص 10 ، فيغدو الفردُ في مثل هذا الوعي مقطوع الجذور بالخارج ، وسواء كان الخارجُ سيرورةً تاريخيةً أم وعياً غائراً ، أم تكويناً اجتماعياً .
ويسايرُ بدوي مثل هذا الوعي فتغدو الفردية أي إعلان بالذاتية ، عبر تباين العصور والفلسفات والمواقف ، ومن هنا تغدو في وضعٍ مشتت ضائع الملامح .
وإلى جانب هذه السمة يضع سمة أخرى كتحديد للنزعة الإنسانية وهي ( الإشادة بالعقل ورد المعرفة إليه ) ، ولكن فيما كان العقل السفسطائي يقطع الفرد عن كيانه الموضوعي ، يتوجه ( العقلُ ) الأوربي المتشكل مع نمو الفئات الوسطى إلى ربط الوعي بالواقعِ التاريخي ومهمات التحول الاجتماعية .
والجانب الثالث للنزعة الإنسانية هو ( تمجيد الطبيعة وأداء نوع من العبادة لها ) ص 12 :
( فقول السوفسطائية بالقوانين الطبيعية وبالطبيعة بوصفها معايير التقويم ، هو قولٌ في الآن نفسه بأن الإنسان هو مقياس الأشياء ، لأن الطبيعة لم تعد بعد طبيعة طاليس وأنكسمانس ، بل هي تموضع الذات في تحقيقها لإمكانياتها الذاتية خارج نفسها في العالم ) ( 6 ) .
لكن هذه الطبيعة ملغاة لدى السوفسطائيين ، خاصة باعتبارها الركيزة الأولى الموضوعية للوجود الإنساني ، مع تمحور الفرد على ذاته المطلقة ، مثلما أن درسَ العالم كبناءٍ مادي كما قال طاليس ، هو المقدمة لقراءةِ الفرد داخل الطبيعة وداخل المجتمع ، لكن حين يغدو الفردُ غير قادرٍ على قراءة جذوره في الطبيعة والواقع ، تغدو فرديته مقاطعَ من وعيٍّ مشتتٍ مبتورِ الصلة بالوجود . ولهذا فإن ( تحقيق إمكانياتها ) لا يتشكلُ إلا بوعي هذا العالم ورؤية القوى التي تعضدُ هذه الفردية الخلاقة ، وحين تنقطع الفرديةُ عن هذه القوى تذبلُ ولا تترك أثراً عميقاً في الخارج سواء كان مجتمعاً أم تاريخاً .
هنا يقوم الوعي الوجودي لدى عبدالرحمن بدوي بإسقاط منطلقاته على التاريخ الفكري ، فلا ترى هذه المنطلقاتُ الجذورَ الاجتماعية والفكرية للفرديةٍ التي جعلت الفردية ممكنةً في زمن الإغريق ولا فشلها ، ولا ظهورها مجدداً مع صعود الفئات الوسطى الأوربية الحديثة ، فيغدو تعبير ( بترركه ) مطابقاً لوعي بدوي ، أو قلْ بأن الوعي الوجودي للذاتِ وهي مقطوعةُ الصلات ، يحاولُ أن يفسرَ نشأتــَهُ وتطورَهُ من خارج سياقاته الاجتماعية – الإيديولوجية ، لأنه كوعي فردي مُغلق غير قادرٍ على رؤيةِ ذاتهِ كنتاجٍ فاعلٍ للوجودِ الخارجي .
وهذا ما سوف يفسرهُ في كتابٍ آخر لكن دون أن يؤيد أقوال باحث أوربي آخر وهو ( كارل هينريش بكر ) ، فلدى هذا الباحث لم يستطع ( الإسلام ) تشكيل ( مدينة تعادل المدينة اليونانية أو تشابهها ) ، ( لأن فكرة المواطن الحر لم توجد في المدينتين الأخيرتين ” بغداد والقاهرة ” ) ، ( 7 ) .
لا يتفق ولا يعارض بدوي ( بكر ) في هذه النقطة تحديداً ، فهو يتفق في كون ( الروح ) أو الوعي هو الذي يشكلُ سمات الحضارة منقطعةً عن بناها الاقتصادية – الاجتماعية ، لكنه يعارضهُ من منطلقٍ آخر هو في كونِ الحضارات مستقلة عن بعضها البعض ولها سمات مميزة .
هو هنا يرتكزُ على المؤرخ اشبنجلر الذي ( يرى أن الحضارات مستقلة بنفسها تمام الاستقلال الواحدة عن الأخرى ، وأن ما يخيل إلينا من وجود تشابه بين حضارةٍ وأخرى إنما هو تشابه ظاهري لا يكاد يتجاوز اللفظ ) ، ويحدث التميز بين الحضارات ويتشكل الفصلُ بالتالي حين تختار كلُ حضارةٍ ( ما يتلاءم وإياها ، أي ما يتفق وروحها ، وحتى هذا الذي تأخذه لا تلبث أن تحيلَهُ وتبدلَ فيه حتى يتكيف وروحها تكيفاً تاماً ) ( 8 ) .
هكذا تغدو ( الروحُ ) مصطلحاً مجرداً ، يضمرُ داخله سمات الأمم والطبقات والأجيال والأفراد ، وهو هنا كذلك يمثلُ ( الثقافة ) المتضادة بين القوى الاجتماعية المختلفة ، وقد أُزيلت منه عبر هذا التعميم خصائصُهُ الملموسة وسماته المحددة . ومن هنا فلا بد من متابعةِ عبدالرحمن بدوي لرؤيةِ هذه التضادات وقد صارت روحاً .

* الصوفية والوجودية
يقوم عبدالرحمن بدوي بدمج الصوفية بالوجودية .
وهكذا فإن الوعي المثالي التحديثي العربي سوف يربط بين الصوفيةِ والعديدِ من الاتجاهاتِ الحديثة ، وبروز الصوفية هنا كنموذجٍ ماضوي يعبرُ عن عجزِ بعض الاتجاهات المثالية الحديثة عن إنتاجِ فكرٍ تنويري ، وهي إشارةٌ ما تعبرُ عن صعود البناء التقليدي العتيق .
يقول بدوي :
( إن النزعةَ الصوفية نزعة تقومُ على مذهب الذاتية ، بمعنى أنها لا تعترفُ بوجودِ حقيقي إلا للذات ، الذات المفردة . ولهذا لم يكن للوجود الخارجي عندها إلا مرتبة ثانوية ، أعني أنه لا يوجد إلا بوجود الذات العارفة . ) ، ( 14 ) .
ولكن الصوفيةَ هي ذروةٌ لتصدعِ الوعي الديني الإسلامي ، فالصوفي القطبُ الذي يقوم بإنتاج الوعي الصوفي المميز في سيرورة هذا النوع من الوعي ، لا ينطلق من أناه الفردية كأنا معزولةٍ عن الشبكةِ الفكرية العامة التي ينتمي لها ، أي عن الإيديولوجية الصوفية الشمولية التي لا تعترف بالفرد بشكل الوعي الحديث .
وكما أوضحنا في الجزء الثالث من هذا المشروع في فصل ( تطور الصوفية ) فإن القطبَ المتضخمَ الفردية لا تتشكلُ فرديتــُهُ إلا داخلَ المنظومة الدينية الإقطاعية ، فهنا لا يقومُ القطبُ بالحفر في تصعيد الوعي الفردي ، بل في إطفائه عبر ذوبانه في ( المطلق ) ، أي في صورةِ الإلهِ التي يشكلها ، وبالتالي يقومُ بتكريسِ ثقافةِ القطيع ، التي تصل في النهاية إلى الدروشة .
فهي لا تعترف بأي وجودٍ حقيقي للذات الفردية إلا من خلالِ هيمنة صورة الذات الإلهية التي تشكلُها على خلافِ ما يقول بدوي . أي أن صورة هذه الذات الإلهية التي تشكلها مضادةٌ لتطور الفردية ولتطور المسلمين عموماً ، لأن هذه الصورة مغيبة وبلا شروط قانونية موضوعية عامة ، فتقومُ بتفتيت المجتمع .
يضيف بدوي :
( ولهذا كانت مراتب السالكين في طريق الصوفية تسيرُ جنباً إلى جنب مع مراتب الوجود ، وسيرها هذا إنما يقصد به إحلال الوجود الذاتي شيئاً فشيئاً مكان الوجود الفيزيائي أو الخارجي . ) ، ( وهذا هو المقصود من فكرة الإنسان الكامل ” وهو الجامع لجميع العوالم : الإلهية والكونية ، والكلية والجزئية ” . . فاستحالته إلى أن يكون هو الله معناها أن الوجود الأكمل هو الوجود الإنساني ، وأن الوجود الإنساني هو الوجود الحقيقي ، لأننا ما دمنا في هذا نقول بوحدة الوجود ، فإنه برد الوجود إلى الله وبرد الله إلى الإنسان الكامل ، ننتهي إلى رد الوجود كله إلى الإنسان الكامل ، وتلك أعلى درجة للذاتية . ) ، ( 14 ) .
وفي الواقع فإنه لا توجد سوى صور الإله التي يشكلها كلُ صوفي والتي غدت هي الوجود وحين يذوب ُ الصوفي فيها معطياً ذاته مساحةً كبرى ، يزيحُ الذاتية ، أي يزيحُ الوجودَ الفردي العقلاني والحقيقي ، ويتحولُ إلى فردٍ متضخم ، يقومُ هو بدوره كما يفعل الحكامُ بتذويب الأفراد تحت عباءاتهم ، وهنا لا يتمظهر الوجود الإنساني ، بل يتلاشى ، والذاتيةُ تتحققُ على العكس حين ينفصل عن صورة الإله المطلقة على كل الوجود التي صنعها خلافاً للدين ، فيكتشفُ قوانينَ الوجود ويسيطرُ عليها .
إنه لا يذوبُ في الذاتِ الإلهية بل هو يذوبُ في مفهومهِ الذي شكله عن تلك الذات ، فتلك الذاتُ الإلهيةُ المقدسة التي يؤمنُ بها الآخرون تظلُ نائيةً عن وجودهِ وعن طيرانه وذوبانه فيها ، لأن لها وجودٌ موضوعي مفارق اجتماعياً ، ولا يحدث التغيير في هذا الوجود إلا بشكلِ نشاطٍ تحويلي اجتماعي عميق ، أي أن المفهومَ لا يتحول بفعل أفراد معزولين عن سيرورة التطور الاجتماعي ، بل داخل هذه السيرورة .
ولهذا حين دخل الصوفيون في هذه السيرورة الاجتماعية فعلاً كانوا طائفة عبادية ذات طقوسٍ شكلانية غير قادرةٍ على تغييرِ مفهومِ الإله العام لأنها عاجزة عن التغيير الاجتماعي .
وإذ يقطعُ عبدالرحمن بدوي هذه الذاتيةَ الصوفية عن إبعادها المتوارية بكونها شكلاً من أشكال الشمولية الدينية والاغتراب وإنها عاجزة عن إنتاج ذاتية حقيقية ، يماثلها بالوجودية في العصر الحديث ، قاطعاً كل هذه المسافة التاريخية والجغرافية ، لأن ( الروحَ ) الإنسانيةَ عنده واحدة ، فيصيرُ الصوفي مثل الفيلسوف الوجودي :
( وفكرة الإنسان الكامل هذه تناظر في الوجودية فكرة الأوحد خصوصاً عند كيركجورد . والصفات التي يخلعها هذا على الأوحد نجدها كلها تحتل مركز الصدارة في بيان مناقب الصوفي الكامل في التصوف الإسلامي . ) ويضيف : ( وكما قال كيركجورد ” أمام الله لن تكون إلا أمام نفسك . . وحيداً مع ذاتك أمام الله ) ، ( 16 ) .
كما يأخذُ أيَّ عنصرٍ فكري وتعبيري لدى الوجودية ويجده مماثلاً لنفس العنصر لدى الصوفية كعنصرِ القلقِ مثلاً :
( ولنعد إلى فكرة العدم في المذهب الوجودي عند هيدجر فنقول : إن الذي يكشفُ عن العدم في مذهبهِ هو الحالةُ المعروفة بالقلق ، إذ في هذه الحالة نشعرُ إننا معلقون ، يحملنا القلقُ ، مشعراً إيانا بفرار الموجود بأسره وانزلاقه ، الموجود الذي نحن من بينه ، ولا وجود في هذا الانزلاق الشامل إلا للذات المحققة لحضورها في القلق . . . ) ، (17 ) .
وهنا كذلك فالقلق الصوفي جزءٌ من حالة المؤمن لغياب الحضور الإلهي ، في حين إنه لدى هيدجر هو حالةٌ شعوريةٌ للذاتِ المنفصلة عن الإله ، والتي تعاني دهساً من تروس النظام المعاصر .
وبطبيعةِ الحال هناك عناصر مشتركة للمثقفين بين العصرين ، العصر الإقطاعي القديم ، الذي لم يكن فيه أفق للتحول ، ويعتبر الذوبان في فكرة الإله المطلق هو علامة عليها ، فيغدو القلقُ وكافةُ المشاعر الأخرى أدواتٍ لهذا الذوبان ، وبالتالي يتمُ جعل المشاعر البشرية تابعة للغيب ، في حين أن أغلب اتجاهات الوجودية المعاصرة تقوم على جعل هذه المشاعر في خدمة التحرر الإنساني ، وإن كان بشكل فردي . أي هو أفق الفئات الوسطى في الانسلاخ من آلات الصهر الجماعية سواء كانت في الرأسمالية أو في رأسمالية الدولة ( الشيوعية ) . وكلتاهما تطحنان هذه الفئات بأشكالٍ مختلفة .
ويقدمُ لنا عبدالرحمن بدوي مواداً لرؤية ذلك ، فقد كانت ( مسألة المسائل عند كيركجورد ) هي قضيةُ الذاتِ الفردية ( أن أجد حقيقة ، حقيقة ولكن بالنسبة إلى نفسي أنا ؛ أن أجد الفكرة التي من اجلها أريدُ أن أحيا وأموت ) ، ويعلقُ عبدالرحمن قائلاً : ( فهذه الفكرة هي حياته نفسها ؛ ولذا يجب أن تكون نضالاً بين الذات وبين المطلق ، بين الله وبين العالم . . ) ، ( 18 ) .
هنا يغدو الصراعُ بين الذاتِ وبين المطلق بلا سيرورة تاريخية واجتماعية كمنهجِ عبدالرحمن بدوي دائماً ، فهو يغدو تجريدياً لديه رغم وجوديته ، فذات كيركجورد – كما نرى – هي صراعُ ذاتٍ فردية حساسة مقموعة بشتى أشكال القهر الخارجي الديني والعائلي ، ويتحولُ لديها هذا الصراع إلى صراع بين مفاهيم ، مفهومها للذات ، كفردٍ مميز ، وبين المفهوم الديني البروتستانتي في هذه الحالةِ الذي بعدُ لم يحررْ الفردَ تماماً من الخضوع للمطلق ، رغم أنه لعب دوراً كبيراً في سبيل هذا الانسلاخ ، و( المطلق ) هنا هو هيمنةٌ الجماعة الشمولية على حرية الفرد ، وقد تمظهرت بسيرورة فكرية مذهبية واجتماعية ، لكن هذا الانسلاخَ هو كذلك تشكيلُ قيمٍ إنسانية ليست بالضرورة مجلوبةً من المخزن الديني ، وهذا ما يجد صداه في تطورات الوجودية خاصة في فرعها اللاديني ؛ الاختيار ، والمسئولية ، والحرية بالضرورة الخ . . وتواجهها قسوةُ الوجود وهو تعبير عن قسوة الأنظمة وآلاتها السياسية الاقتصادية ، وهو أمر يفتح نوافذ للوجوديين بالتعاون مع الحركات الاجتماعية المعارضة . ويواجهها كذلك الوجود بشكل الطبيعي القاسي حيث الفرد ذاتاً عابرةً ، تجد الوجوديةُ المؤمنة الملاذ في الدين ، في حين تتوجه الوجودية الملحدة إلى الارتباط بقضايا إنسانية بهذه الدرجة أو تلك من الوضوح والعمق .
ومن هنا فعبدالرحمن بدوي وجد انتماءه في بحث التراث ورصده بشكل موسوعي والبحث عن النقاط التحررية الفردية فيه دون ربط ذلك بالحركات الاجتماعية .
فالوجودية لا تعطي زخماً نضالياً واسعاً بسبب ارتباطها بفردية محصورة في قوقعتها ، مهما قالت بأنها اجتماعية ، لأنها ترى الذات الفردية باعتبارها ليست نتاجاً اجتماعياً وتاريخياً مثلما هي فاعلية كذلك ، ولهذا فإن نقاط الضوء التي يرصدها بدوي تبقى فردية غير مرتبطة بقوانين ، فلا تستطيع أن تعمم أفكاراً فلسفية كبرى .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصادر :
( 1 ) : ( حول إنجازات عبدالرحمن بدوي في الثقافة العربية يقول الباحث أحمد عبدالحليم عطية : { إن ما قدمه بدوي يمثل مشروعاً فلسفياً متميزاً طموحاً ، وهو مشروع ذو نزعة إنسانية في الأساس ، قدمه على امتداد حياته العلمية وإن كان لم يعلن عن ذلك . . ويسعى هذا المشروع إلى الكشف عن ” روح الحضارة العربية ” بدايةً من التنقيب في التراث الفلسفي اليوناني والعربي ، انطلاقاً من المخطوطات الفلسفية الإسلامية التي تقدمُ لنا صورةً واضحةً تكاد تكون كاملة لأعمال الفلاسفة والمتكلمين والصوفية العرب ، وما عرفوه عن أسلافهم . . . ) ، ( الخطاب الفلسفي في مصر ، دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع ، 2001 ، ص 306 – 307 ) .
( 2 ) : ( الإنسانية والوجودية في الفكر العربي ، مكتبة النهضة المصرية ، ص 3 – 4 ، 1947 ) .
( 3 ) : ( المصدر السابق ، ص 6 ) .
( 4 ) : ( المصدر السابق ، ص 9 ) .
( 5 ) : ( راجع الجزأين الأول والثاني من هذا المشروع وبشكل خاص فصل ( دخول العرب إلى التاريخ العالمي ) من الجزء الأول ، فقرة : الإغريق ازدهار الرأسمالية ، ص 247 ، وكذلك الجزء الثاني فصل ( من علم الكلام إلى الفلسفة العربية ، فقرة من بغداد إلى أثينا ، ص 533) .
( 6 ) : ( الإنسانية ولاوجودية ، ص 13 ) .
( 7 ) : ( عبدالرحمن بدوي ، من تاريخ الإلحاد في الإسلام ، سينا للنشر ط2 ، 1993 ، ص 19 ، ثم ص 23 ) .
( 8 ) : ( المصدر السابق ، ص
(9 ) ، ( 10 ) : ( المصدر السابق ، ص 25 ) .
( 11 ) : ( المصدر السابق ، ص27 ) .
( 12 ) : ( المصدر السابق ، ص 28 ) .
( 13 ) : ( يمكن مراجعة الجزء الأول من هذا المشروع ) .
( 14 ) : ( الوجودية والإنسانية ، مصدر سابق ، ص 68 ) .
( 15 ) : ( المصدر السابق ، ص 69 ) .
( 16 ) : ( المصدر السابق ، ص 69 ، 70 ، على التوالي . ) .
( 17 ) : ( المصدر السابق ، ص 82 ) .
( 18 ) : ( دراسات في الفلسفة الوجودية ، الدكتور عبدالرحمن بدوي ، المؤسسة العربي للدراسات والنشر ، ط1 ، 1980 ، ص 8 ) .

(علمية) فيورباخ وتوابعهُ

كتب : عبـــــــدالله خلــــــــيفة

فيورباخ فيلسوفٌ ألماني ظهرَ في القرن التاسع عشر إفتتحَ مدرسةَ الإلحاد الغربية الحديثة، أو أنسنة الأفكار الدينية ورؤيتها كإنتاجٍ بشري، فمع سقوط الإقطاع وظهور عصر الأنوار بدا إن النظام الديني متجه إلى زوال سريع.
وتصور الاشتراكيون وهم في أوج الحماس في هذا العصر إن الرأسمالية آيلة هي الأخرى إلى زوال كذلك، فما دامت الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج سوف تسقط مع إندفاع العمال الأوربيين الغربيين في أحداث الأربعينيات من القرن التاسع عشر في هبات كبرى فكذلك سوف يسقط الإستغلال والدين أيضاً.
وتحول ذلك في الشرق إلى دول وحركات كبرى.
تداخل عصرُ الأنوار الغربي السريع مع عصر القومية التحديثية في الشرق.
لكن الرأسمالية ظهرت إنها أكثر تعقيداً من أن تسقط في بضع عقود، كذلك بقيت المسيحية بقوة في أوربا وأمريكا.
يقول فورباخ:

  • كل صفات الطبيعة الإلهية هي بالتالي صفات الطبيعة الإنسانية.
  • الإله كائن موجود وحقيقي (مثلما أن الإنسان كائن موجود وحقيقي)، لأن كيفيات الإله ليست إلا الكيفيات الأساسية للإنسان.
    ليس في عقول البشر الإله بذاته بل صورٌ عنه، أما الإله المجرد كما يتصوره فورباخ فمن غير ممكن تصوره بدون هذه الصور، لهذا فإن إلغائه للإله لا يتحقق.
    ومن هنا تتعدد مرئيات البشر للوجود الإلهي، وقد كان لدى المسيحيين الأوربيين صور سائدة محددة عن الإله، صور تشكلت في عالم المشرق العربي ولها سيرورات تاريخية طويلة وإنتقلت إلى أوربا، وكل صور سائدة كبرى لها ظروف تاريخية كبيرة، وتتحول هذه الصور في مجرى صراعات الشعوب وإنشاء الأنظمة والفرق الدينية، ووجود البشر كبشر.
    في تصور فورباخ التجريدي بإن الإله هو الإنسان، جاوزته الأفكار الاشتراكية بأن رأت تطورات الأديان وأشكال ظهورها السياسية والاجتماعية، ومع إعتبارها الرأسمالية آيلة للسقوط السريع فإن الأديان آيلة معها.
    تعاملت الحركات الاشتراكية بتحليلات محدودة عن الجانبين، ولهذا إتخذت من الألحاد سياسات لأنظمة، ما دامت هي سائرة لهدم الإستغلال والشقاء البشري وكل ما أسس ثقافة الإنسان القديمة.
    وفيما عزل الغربُ الرأسمالي المتطور الأديانَ عن السياسة سمح لها بالحرية الواسعة في المجتمعات، فقد لُوحظ بأن الحداثة وكل تجليات الثورات المعرفية والاقتصادية لا تلغي الدين، فالدين ليس رد فعل على الشقاء، بل هو أشكال من الوعي إرتبطت بالأغلبيات الشعبية في كل الأمم، هي أشكال وجودها الفكرية والثقافية، هي طرقها للعيش والتفكير والحلم والبقاء في الوجود المادي المحض المخيف.
    وإذا كانت هي خيمة الوجود الفكرية التصويرية، فهي كذلك أدوات الصراع السياسي، الوسيلة التي يوظفها السياسيون لكي يحكموا ويربطوا بين أنظمتهم وتنظيماتهم والدين الذي يؤمن به الناس، ولهذا هم لا يأبهون بأديان لا يؤمن بها مواطنيهم.
    وكما أن الدين أداة تثبيت للحكم فهو كذلك أداة تغيير لها. حين تحول الحكومات الدين لوسيلة سيطرة يقوم المعارضون بتحويله لأداة معارضة، ولهذا فإن الحركات الإنسانية المعادية للكيروس والكنائس والحركات الاشتراكية خسرت مفعول الدين في عملها السياسي، وتركته لليمين، ومن خلال الدين تمكنت الحكومات اليمينية بالبقاء بينما تعذر على الإشتراكيين البقاء المطول في السلطة.
    ما لم يره فورباخ والعديد من الاشتراكيين أن الدين مثله مثل أي فكرة ونظام وكينونة هو تناقض، ليس هو سكون، وفكرة واحدة بل أفكار متضادة، لليسار واليمين، على مدى آلاف السنين، فليس هناك الإنسان المجرد في الصور المقدسة، بل الإنسان الشعبي، أي الملايين من الفقراء والعاملين الذين تجسمت معاناتهم وعذاباتهم في الصور الدينية.
    ورغم هذا التجسيم فإن القوى الحاكمة على مر التاريخ تستطيع تجرد هذه الصور من شعبيتها، ومن آلام البشر فيها، وتجعلها مجردةً، وأن تمتصَ الشعيرات التي تمتد منها للأكواخ والمصانع، وتجعلُها مغيبةً مجردةً لا تمدُ يداً لها، ولا تظهر قطرةُ دمٍ فيها، وورغم ذلك فهذه القوى تحتفي بالدين إميا إحتفاء وهي تقللُ الأجورَ وتزيدُ الأرباح وتكثر الأكواخ.
    والتجسيمُ هذا يظهرُ ويتفجرُ خاصةً في المسيحية التي هي ديانةٌ تجسيميةٌ ملموسة، على شكلِ الإلهِ – الإنسان المصلوب، فإذا زادت الأشكال التجسمية، وحضور الإله في الإنسان، زادت كميات الإستغلال للبشر في الدول الكاثولكية والأرذوكسية، وبأشكال أدنى من الأشكال البروتستانتية، التي يمتص رأس المال الواسع الإنتشار الأرباح، لكن فيها كلها يواصل العامل حياته المعلقة على صليب الإستغلال والغربة عن بضائعه التي يصنعها.

جورج لوكاش … تحطيم العقل !

كتب : عبـــــــدالله خلـــــــيفة

هو من كبارِ المفكرين والنقاد الماركسيين خلال القرن العشرين (١٨٨٥-١٩٧٣)، وُلدَ في المجر وتنقلَ بين دول أوروبا، حاصل على شهادة الدكتوراه في الفلسفة واشتغل بالتدريس، وغدا عضواً بالحزب الشيوعي المجري منذ عشرينيات القرن العشرين، وألف الكثيرَ من الكتب التي غدت مراجعَ في الفلسفة والأدب والنقد في العالم.

أهم كتبه هي عن ألمانيا، نظراً لعيشه الطويل فيها فكتب عن غوته وهيجل، وقد عبرَ كتابهُ (تحطيم العقل) بثلاثة أجزاء عن دراسةٍ عميقة مطولة لكل شخصية فكرية في ألمانيا خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، منطلقاً في الكتاب من رؤية عميقة حللت أسباب ظهور اللاعقلانية في الثقافة الألمانية وتجليات ذلك لدى الفلاسفة إلى أن ظهرت بشكل دموي لدى هتلر، يمكن رؤية بعض المشابهة بين التطور الألماني والعربي الإسلامي.

برغم هذه الثقافة فإن جورج لوكاش يحلل التحولات السياسية في روسيا والانقلاب الاجتماعي السياسي سنة ١٩١٧ بأشكال معينة لم تصمد لغربلة التاريخ، وفي كتابه السابق(تحطيم العقل) يحضرُ قادةُ البلشفية خلال أسطر سريعة جداً، وهو كتابٌ صدر سنة ١٩٥٢، وهي مسافة زمنية كبيرة عن الحدث الروسي، لكي يراجع لكن المراجعة وقتذاك لم تحدث، وتحدث بشكل عاصف لاحقاً.

ساهم في كتابة تأبينية بشكل مقالة كتبها بعد وفاة لينين قائد التحول السياسي الروسي.

(يقولون إن لينين كان رجلا سياسياً روسيا كبيرا، ولكنه كان يفتقر، حتى يكون زعيم البروليتاريا العالمية، إلى حسِّ التمييزِ الذي كان سيتيحُ له أن يدركَ الفارقَ بين روسيا والبلدان الرأسمالية المتقدمة)، كتاب لينين، دار الحقيقة، تقديم جورج طرابيشي.

ويرد لوكاش بأن هذا النقد ينطبق على ماركس نفسه، الذي استخلص من تحليل المصانع في إنجلترا رؤية رأس المال التي عممها على العالم كله.

يعرض لوكاش هنا جانبين مختلفين فدراسةُ ماركس لرأس المال كانت بحثية طويلة لاستخلاص قوانين بنية رأس المال، في أكثر البلدان الرأسمالية تقدماً، وليس تطبيقاً لتجربة سياسية، في حين كان عمل لينين قيادة انقلاب لإنشاء نظام اشتراكي.

الأول اكتشف بمساعدة أبحاث علماء اقتصاديين سبقوه قوانينَ بُنية اقتصادية، ولكن لينين لم يكتشف قوانين بنية اقتصاد اشتراكي يريد تطبيقها، بل لجأ للتجريب عبر سنوات.

بين بحث الأول في الرأسمالية وتطورها، وبين نقض الثاني للرأسمالية التي لم تتطور في روسيا هوةٌ كبيرة.

ولو كانت قوانين البناء الاشتراكي موجودة واضحة لكان ماركس طبقها بنفسه، ولهذا فإن الاشتراكيين الغربيين بدءًا من الألمان كتبوا وتصارعوا فكرياً وسياسياً لمعرفة كيف يتم نفي الرأسمالية وتجاوزها من دون الاتفاق بينهم.

بعد وفاة ماركس ظل أنجلز يحدد كيفية تجاوز الرأسمالية من خلال النضال الديمقراطي الإصلاحي الطويل، بتغيير حياة العمال والحصول على مكاسب وتطور الحياة الثقافية والاجتماعية لمجموع الشعب، وهو الخيار الذي تكرس بعد ذلك في حزب الاشتراكية الديمقراطية الألماني المتواصل النمو، والذي حدثت له أزمةٌ في الحرب العالمية الأولى بسبب خسائر الحرب الكارثية وخيانة قادة من الحزب ووقوفهم مع الدولة والحرب.

وقد تعددت رؤى الماركسيين الألمان للاشتراكية ففي (البيان الشيوعي)دعوة لإسقاط الرأسمالية كلية، وفي برنامج الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني في السبعينيات من القرن التاسع عشر دعوة لبعض التأميمات والإصلاحات من خلال سيطرة الطبقة العاملة على الحكم، وهو البرنامج الذي ظل حتى رفضتهُ جماعةُ (سبارتاكوس) مطالبةً بالعودة للبيان الشيوعي وإسقاط الرأسمالية كلياً في ألمانيا بقيادة روزا لكسمبورغ سنة ١٩١٤، وبعد سنوات قامت الثورة في ألمانيا وهُزمت وقتلتْ روزا وكارل ليبنخت زعيما الثورة.

إن رؤية الاشتراكية لدى الماركسيين غير واضحة ومحددة، لأن الاشتراكية غير واضحة، وثمة فرق كبير بين تغيير نظام عبر الثورة أو الانقلاب والقيام بالتأميمات، وبين إزالة التشكيلة الرأسمالية وهو الأمر الذي لم يدرسوه. فتغيير نظام واحد أو عدة أنظمة بتلك الإجراءات لا يبني اشتراكية التي هي تشكيلةٌ بشرية، كإزالة العبودية وهي تشكيلةٌ عالمية لم تزل إلا عبر مئات السنين من خلال حراك الشعوب الطويل المتقطع المتواصل.

في معظم كتابات لوكاش يتوجه للغة ماركس الهيجلية، ويعتبر هيجل مصدراً أساسياً لماركس وللماركسية، كما في كتابه (التاريخ والوعي الطبقي)، وكذلك معظم كتاباته بما فيها مقالته عن لينين التي خلطت بين دراسة بنية وصناعة نظام عبر مفردات شعرية:

(استشفَ عالم الرأسمالية الأكبر من خلال العالم الأصغر وهو المصنع الإنجليزي ومسلماته وشروطه الاجتماعية وكذلك من خلال الميول التاريخية التي أفضت إلى ولادته وتلك التي تجعل وجوده أمراً غير مؤكد على الدوام).

هذه اللغة الاستشفافية وعبر قراءة الميول هي لغة رومانسية سوف يدمجها لوكاش مع وعي نظري هيجلي ماركسي مختلط، يصل فيه للذرى حيناً ويغمض فيه أحياناً عدة.
قرأ جورج لوكاش تجربةَ ألمانيا الاجتماعية السياسية بعمق خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، دارسا خيط الأفكار الدينية والقومية الشمولية والصوفية التي وَجهتْ النخبَ والكثير من أفراد الشعب نحو القبول بهتلر قائدا منتخبا، فكيف تدهور وعي الشعب كي ينتخب هتلر الذي قادهُ لمذابح الحروب العالمية وحطم البلاد؟

إن مسارات تحول النهضة في ألمانيا تختلف عن تحول النهضة في بريطانيا وهولندا، الرائدتين في الحداثة، فحسب طرح لوكاش ان حروب الإصلاح الديني التي وُجهت لهزيمةِ البابوية الرجعية ممثلة الإقطاع المركزي أدتْ إلى جانبين مختلفين؛ فقد تطور واتحد كلٌّ من بريطانيا وهولندا، وانفصلتا عن الإقطاع الديني وشكلتا التجربة الرأسمالية الجديدة، فيما تفتت ألمانيا لدويلاتٍ صغيرة ومقاطعات لا يربطها هيكلٌ اقتصادي.

استمرت ألمانيا مفككة وإقطاعية عامة ويجري فيها تصنيعٌ رأسمالي محدود حتى انفجار الثورة الفرنسية، وهجمة نابليون عليها وتغييره لها لكن عبر غزو وفرض إرادة أجنبية مكروهة.

وقد تعقدت مهمةُ القوى الديمقراطية الألمانية المحدودة ومواقف الكتاب الكبار تجاه التطوير الفرنسي الاحتلالي وتجاه النضال القومي التحريري، خاصة مع قيام القوى الإقطاعية القديمة بقيادة معركة التحرير والهجوم ضد الاشعاع الفرنسي الديمقراطي.

وتصاعد بعد ذلك دورُ النبلاء والضباط الكبار الألمان عبر بسمارك والعائلة الملكية في توحيد ألمانيا وتقدمها، ونشر ثقافة رجعية كذلك في صفوف الشعب.

وقد ظلت ألمانيا في القرن التاسع عشر حتى أوائل القرن العشرين متضادة التركيب، فهي تتقدم بصور سريعة في الصناعة حتى غدت هي الدولة الصناعية الأوروبية الأولى في بداية القرن العشرين متخطية الدول الصناعية الكبيرة متقاربة مع الولايات المتحدة.

في حين أنها في مسائل التطور الاجتماعي كانت متخلفة، فجسمُ الإداريين العسكريين الكبار كان لايزال مهيمنا على الحياة السياسية الاجتماعية، والمُلكيات الزراعية الكبيرة سائدة في الأرياف، وكان لاتزال ثمة أقاليم مفككة، وثقافةُ المسكنةِ وضيق الأفق وغياب المنظورات التنويرية والديمقراطية سائدة بين الجمهور.

أدى هذا إلى ضخامة القوى المالكة المحافظة وتغلبها على الطبقات البرجوازية والعاملة الليبرالية والمتنورة، وبهذا فإن المفكرين والكتاب والأدباء تأثروا بهذا المنحى المتناقض، وعبرَ الفلاسفة عن تدهور العقلانية كما لدى شيلنغ، ومحدودية العقلانية وفرديتها لدى الفيلسوف كانط، وتضخمتْ الفرديةُ لدى فيخته، ورغم الجدلية العظيمة لهيجل ففلسفته ذات بناء اسطوري، وكيريغارد أسس الوجودية الصوفية حيث الفرد محور الوجود ولكن عبر نقد الدين كهيمنة خارجية على الإنسان، وكان لاسال زعيم العمال (الاشتراكي) يعتبر الإمبراطور هو القائد النقابي للعمال.

ورغم هذا التخلف الثقافي فقد تعملقتْ ألمانيا صناعيا وبحثتْ بشهوةٍ عارمة عن الأسواق، وأصبح صناعيوها يفضلون الغزو ودعم الاستعمار ويفضلون الدكتاتور بدلا من تعزيز الديمقراطية.

ولم تكن الحركة الاشتراكية الديمقراطية حسب رأيي وليست حسب رأي لوكاش جدلية تركيبية في تصوراتها فكان ينبغي أن تطور الرأسمالية وتنقدها معا، وتركز في إزالة بقايا الإقطاع وتكون جبهة عريضة ضد التخلف ولثقافة قومية ديمقراطية. وقد أدى تطرف روزا لكسمبروغ بعكس ما يقول لوكاش في كتابه(التاريخ والوعي الطبقي) وتوجهها لأقصى اليسار إلى بتر التحالف الاشتراكي الديمقراطي وصعود الثقافة النازية وخداعها للجمهور عبر جمعها بين الاشتراكية الزائفة والهوس الوطني الديني، وبهذا فإن أقصى اليسار في روسيا وألمانيا صعّدا النازية من حيث لا يدريان.

ظل لوكاش عقودا في الاتحاد السوفيتي، ولم أقرأ له تحليلا نقديا عنه، وقد صار ضمن وزراء ثورة المجر ضد السيطرة الروسية عام ١٩٥٦ وهو تحول مضاد وعظيم، خاصة لشخصية جورج لوكاش وبعد ذلك عاش في الغرب يثري الدراسات الفكرية والأدبية من خلال وجهة نظره.

هذه لمحاتٌ محدودة من عوالم جورج لوكاش الواسعة.