حراكُ الأديانِ

حراكُ الأديانِ

خريطةٌ عامة
    بدتْ الساحةُ الدوليةُ في القرن العشرين متجهةً للصراع بين الليبرالية المسيحية والإشتراكية الماركسية، وكان صراعاً ضارياً، يؤكدُ فيه الطرفُ الليبراليُّ الغربي على نشرِ العلاقاتِ الرأسمالية والتحالفات العسكرية المسيِّجة لجسدِ المعسكر الإشتراكي المُحَّاصر، النازفِ في بقعٍ كبيرةٍ تُضربُ بالطائرات وتُمنع عنها البضائعُ المتطورةُ والإختراعات، وتقطعُ خطوطَ إمداداتِها عن الشعوب المستعمَّرة المتطلعةِ للحرية.
كان العالمُ الغربي يستنزفُ العالمَ الفقير المقطع، وتتضخمُ ثرواته، وتنأى طبقاتهُ الوسطى عن الإحتجاجِ وعن إنتاج ثقافة الحفر الاجتماعي ضد الإستغلال القاري والإستغلال العالمي، وتتوزعُ ثقافتهُ بين ليبرالية رأسمالية علمانية ذات تشجيع للأديان، التي هي أداةُ تخديرٍ كما ترى للجمهور العامل الذي لم تتوصلْ قطاعاتهُ التحتية للماركسية، التي غدتْ هي الخطرُ العالمي، المؤججُ لنضالاتِ شعوبِ المستعمرات، وفي ذاتِ الوقت كانت ثقافةُ هذه الطبقاتِ الوسطى المتعددة التراكيب تنتجُ نزعاتٍ جديدةً من النقدِ للرأسمالية، ولهذا النظامِ المالي المهيمنِ المُستَّلِب، لكن عبر مدارس مناسبة لهذه الجماعات المالكة – العاملة. ولكن غدا الألحادُ ومفارقةُ الأديانِ سمةً ظاهرةً واسعةً في الثقافة الغربية العليا، غير الثقافة السوداء، ثقافة الجنس وأفلام الرعب وثقافة المخدرات وغناء الحشيش والإبر، أو ثقافة الكنائس الواسعة الإنتشار خاصةً في الطبقاتِ الفقيرةِ والمناطقِ والقارات التي لم تنهضْ بعدُ بشكلٍ صناعيٍّ واسعٍ كأمريكا اللاتينية.
وكانت الأديانُ عامة لدى الشعوب خارج العالم الغربي هاجعةً، مولودةً في العالم الحديث الاستعماري بطفوليةِ النصوص القديمة الشعائرية، فالتعليمُ محدودٌ فيها، وأغلبهُ نصوصي تحفيظي، والتجارةُ ضئيلةٌ، والصناعةُ معدومةٌ، وكانت الليبراليةُ بحاجةٍ لطبقاتٍ وسطى تحملُها، فهي لا تمشي على الأرضِ بدون الدكاكين الواسعة والوكالات العامرة بالبضائعِ المستوردة، وبدون الورشِ والمصانع الخاصة، وبدون الصناعيين والتجار والمسارح والسينما، ومن هنا فنفخُ الغربِ الاستعماري وقتذاك لليبراليةِ كان يجري في رمادٍ بارد.
كان المطلوب في العالم الشرقي وغير الغربي عامة، أدوات فكرية سياسية تعبئُ الجمهورَ الواسع، وتدفعهُ للنضال، وتكسير سيطرة الغرب، وتجرُ الملايينَ للصناعة، وتنشرُ الخطوطَ العريضة للعلوم، وتحطمُ نومَ الأرياف فلم يكن أفضلَ من الإيديولوجية الماركسية، فالعمالُ موجودون وإن لم يكونوا عمال صناعة، والفقراء يملأون الآفاق الريفية خاصة وحارات المدن.
إندفعتْ هذه الشعاراتُ تكتسحُ القاراتَ الفقيرةَ، أعطتها مفاتيح سهلةً للتصدي للغرب، منعتْ أفكارَها الليبراليةَ والدينيةَ من التوغلِ في الشعوب، أدعتْ تجاوزَ الغرب وحضارته العريقة، رغم إنها إحدى نتاجاتهِ، وفي كلِ مرحلةٍ كانت الأفكارُ الغربيةُ المُجدِّدة عموماً هي أدواتُ إشعال المصانع الشرقية الخربة، لكن الماركسيةَ المستوردة تمت شرقنتها، وغدتْ إستبداديةً غيرَ ديمقراطية، ومسطحةً، فعاملتْ الأديانَ بطريقةٍ فظة، وتوافقَ نشر أفكارها مع منعِ التعددياتِ والقراءاتِ المختلفةِ وبفرضِ الملكية العامة البيروقراطية وصعود القيادات المُبَّسطةِ للأفكار، وغير العميقة، والمتقلقلة فلسفياً.
هذا الواقعُ الشرقي وغير الغربي عموماً تغير في بضعةِ عقود، نشأتْ كتلٌ سياسيةٌ ضخمةٌ متحررة؛ عدةُ ملياراتٍ من البشر إنتزعتْ أثمنَّ ما لدى الغرب من مستعمرات، كان نضالاً أسطوريا وضعَ تاريخاً جديداً للبشريةً.
المدنُ في الشرقِ إتسعتْ وتضخمتْ بالسكان، إنتشرتْ المدارسُ والمتاجر والمصانع، الفئات الوسطى شبه المعدومة إتسعتْ بشكلٍ هائل، لم تعد الدول ذات الملكيات العامة الشاملة مقبولة، قدراتها على تطوير قوى الإنتاج تحجمت، لم تستطع تطوير المصالح الخاصة في الإنتاج، عجزتْ عن خلقِ المبادراتِ الذاتية، بدأتْ الإشتراكيةُ الحكوميةُ التي حولتْ نفسَها لإلهٍ قادرٍ على كلِ شيء تتأزم، والرأمسالية القومية المستبدة هي الأخرى لم تغدُ ناجحة كلياً، والفئاتُ الوسطى الظاهرة في كلِ مكان من العالم الشرقي توجهتْ نحو تعزيزِ مصالحها والاهتمام بالحريات الخاصة، ونحتْ لتصعيدِ تقاليدها الخاصة وتاريخها الماضي، إنبعثتْ عملياتُ واسعةٌ لتجديد الإرث بشكلٍ لم يسبق له مثيل.
إن الأجيالَ المبكرةَ الأولى التي ذهبتْ للغرب من أجل الدراسة والتي صار منها الوزراء والمسئولون في عهود الإستعمار وأوائل الإستقلال، توقفتْ عن ذلك الرحيل الواسع، فنشأتْ جامعاتٌ وطنيةٌ في كل مكان، وذلك التبتل للغربِ والصلاة في محرابهِ بشكلٍ رومانسي توقف، أصبحتْ الرحلاتُ تتصاعد للواقع المحلي، أُضيتْ الشموع للرموز الوطنية والدينية.
كان عالماً مختلفاً عن ذلك العالم الذي تشكل في بداية القرن العشرين، الأمم الشرقية تكونت بشكل جديد، ذلك الفقر السحيق وأمية الملايين تغيرت، فلم يعدْ التسطيحُ مقبولاً، ولم يعدْ الإستيرادُ مُهيمناً كما في السنواتِ البكرِ للعقولِ الخاليةِ، التي كانت فيها الأديانُ الشرقيةُ مغيبةً أو أشكالاً مسطحةً من العبادات، دخلتْ الملايينُ الجديدةُ وهي تحلقُ بتراثِها الخاص، والقوى المالكةُ الخاصةُ الواسعة الإنتشار رأت في الماركسية عدواً لدوداً بدلاً من الصديق الحميم السابق.
بدأ عهدٌ دينيٌّ واسعٌ مختلف.
غدت الأممُ الشرقيةُ والعالمُ غيرُ الغربي المتطورِ عموماً أمام واقع جديد، واقع تطورتْ فيه الرأسمالياتُ الخاصةُ التي راحتْ تزيحُ الرأسمالياتِ الحكوميةَ كليةَ السيطرة، والفئاتُ الوسطى إنتجتْ أجيالاً شابةً في ثقافةٍ دينيةٍ موروثة، والاشتراكيةُ لم تعدْ نموذجاً، إن الاشتراكيةَ ذات النمط الشرقي البيروقراطي غدتْ متخلفةً، والماركسيةُ تنمطتْ وتجمدت عبر قراءاتِها المدرسية وبمستوياتِ العمال اليدويين، وعملياتُ بعثِ ماضي الشعوب والأمم القديمة ذات الحضارات المزدهرة السابقة توسعتْ كثيراً، وتفككَ النموذجُ الإشتراكي إلى قومياتهِ الأولى، وإن دولاً مجهولة بلا خرائط ظهرتْ في أفريقيا وقارات أخرى، وحدث إزدهارٌ لم يسبقْ له مثيل للصناعاتِ والتجارة والتقنيات، اليابان قادتْ إلى تشكيلِ رأسمالياتٍ مزدهرةٍ في شرق وجنوب آسيا، والنموذجُ الرأسمالي المتطورُ إندمجَ مع رأسمالياتٍ حكومية خففتْ من مركزيتِها ومن هيمنتِها، فتضخمتْ التجاربُ الرأسماليةُ الحرةُ بشكلٍ واسع في الشرق الأقصى، وراحتْ تقارب الرأسمالية الغربية العريقة بسرعة غير معروفة في التاريخ، فبدأت التجاربُ الإقتصاديةُ الشرقية تتخطى المعدلات العالمية في النمو.
نموذجا الصين والهند صعدا بشكلٍ خرافي وأحاطا نفسيهما بدوائر من الجزرِ القاريةِ المتسارعةِ النمو كماليزيا وكوريا الجنوبية وتايوان وسنغافورة وغيرها.
العالمُ الإسلامي الشرق أوسطي الأفريقي ظلَّ في ركودهِ التاريخي، من خلالِ حكوماتٍ مركزيةٍ مهيمنة على الاقتصاد والثقافة والأنفاس، وفي الدول الغنية منها توجيهٌ للثروات نحو الخارج، والفقيرة نحو الفساد والتحنط السياسي.
إختلفتْ لوحاتُ الأديانِ عن العقودِ السابقة عبر هذا الحراك الاجتماعي الهائل، فإذا كانت الماركسية تراجعت بشكل كبير وضعفت مواقع الطبقات العاملة، فإن المذاهبَ المحافظةَ صعدتْ بقوة بسبب صعود هذه الفئات الوسطى الريفية والتي جاءت من القرى أو تنامت ثرواتها في المدن، وقادها تعليمها الديني إلى تطويعِ المذاهب للسياسة، خاصة وأن الطبقات المسيطرة كانت تستند إلى الأفكار الغربية أو الشرقية (الإشتراكية)، فمضت نحو حراك الشعوب الديني المتصاعد، تستثمره في نمو سيطرتها وملئها الأجهزة الحكومية والمؤسسات السياسية المختلفة.
تحرك العالم عن صراع الماركسية والليبرالية الغربية وهو نموذج الحرب الباردة، إلى صراع الأديان المحافظة والليبرالية والماركسية، وهو ثالوث هائل متداخل معقد ومركب.
في الغرب المتطور (أوربا الغربية وأمريكا الشمالية) لم يعد للأديان من تأثير كبير، فإن النخبَ السياسية والفكرية تعتمد الأفكار العلمانية المختلفة، وحصلت الأفكارُ اليسارية على بعض التقدم بسببِ زوال الحرب الباردة، وظلت الأفكارُ الديمقراطية الليبرالية المعبرة عن الطبقات الحاكمة مهيمنة كالقرون السابقة.
في بقية العالم الشرقي وغير الغربي كان حراكُ الثالوث الفكري هو المنتشر، وكان إنبعاث الأديان الأكبر يعبرُ عن ظاهراتٍ معقدة، تبدو شديدة التناقض مع طبيعة العصر العلمية المتصاعدة، لكنها غير غريبة في الواقع فملايين من الجماهير الريفية زحفت إلى المدن، وتوسعت هذه المدن وازداد عدد سكانها بشكل هائل، وكانت إزاحة النفوذ الغربي يعني لهذه الجماهير العودة لتقاليدها الدينية، كما أن تآكلَ التجارب الاشتراكية فاقم هذه الظاهرات، وغدت الأديان والأفكار القومية هي أدواتُ الحراك الاجتماعي لجماهير العالم الشرقي، وأحياناً تندمج هذه الأفكار والأديان وأحياناً تنفصل، ففي حالاتِ ضعفِ الأفكار القومية فإن المذاهبَ الدينية هي التي تلعب الدور الأساسي والعكس صحيح.
غدا أصحاب المؤسسات الاقتصادية الخاصة والعامة هم الذين يهيمنون على المسرح السياسي، وهؤلاء أقرب للأفكار الدينية والقومية.
إن هيمنة الأديان المحافظة يعني هيمنة للإقطاعين الديني والسياسي، وبروز الليبرالية بأشكالها المتعددة يعني تصاعد نفوذ الفئات الوسطى التجارية والصناعية، والتداخلات بين الدين والليبرالية يعني تداخل الإقطاع والبرجوازية بأشكالٍ ونسبٍ معبرةٍ عن أحجامِها المتباينة في الاقتصادِ والحكم وعن تعاونهما أو صراعهما، والأنتصار الساحق للعلمانية والليبرالية يعني هيمنة نفوذ البرجوازية السياسي وإنتشار العلاقات الرأسمالية بشكلٍ كبيرٍ في الحياة الاجتماعية، ونفوذ الماركسية كجنوب الهند والصين أو جنوب أفريقيا يعني تصاعد دور الطبقات الشعبية والأفكار الاشتراكية. لكن الألحادَ الواسع نجده فقط في الغرب بينما ينتشر الإيمانُ المتعددُ الأشكال بالأديان السماوية والأرواحية وعبادات الأسلاف وبالرموز المقدسة والكائنات المجسدة في العالم الشرقي. ويتقارب الصينيون والهندوس والمسلمون في أعدادهم المليارية ويختلفون في توجهاتِهم الدينية كثيراً.
هذه الخطوطُ العريضةُ العامة جداً لها تلويناتٌ في القارات والبلدان بأشكالٍ ملموسةٍ متلونة، فلكلِ بلدٍ خريطته الخاصة وتجربته، وثمة مجموعةُ بلدانٍ تمثل أمة لها خطوطٌ متقاربة، وثمة قارة تشتركُ في خصائص دينيةٍ وفكرية وثمة بلدان تنفردُ بتجاربِها المميزةِ تماماً عن البلدان الأخرى.
فالأديانُ ليست حراكاً إجتماعياً محضاً بل هي قراراتٌ فردية روحية وأنشطةٌ سياسيةٌ معينة وعملياتُ ترويجٍ ودعاية، وهي هيمناتٌ حكوميةٌ شديدةٌ أو مرتخية، أو هي تجري في حريات كبيرة، وهي تعبيرٌ عن آلاف السنين من التفكير والحياة الاجتماعية.

خفوت الكونفوشيوسية
إن قرونَ التشكيلةِ الرأسمالية التي بدأتْ من القرن السابع عشر والثامن عشر الأوربيين عديدة، وإذ تعتمدُ على الإنتاجِ والسوق، فهي غربياً عالمياً مزدهرةٌ مهيمنةٌ في القرنين التاليين حتى رغم تفكك الأسواق الوطنية الأوربية لكن السوقَ تغدو عالميةً بفضلِ المستعمرات، وهذه كلها جعلتْ الأسلوبَ الرأسمالي كونياً، ووجدتْ الأممُ الشرقيةُ نفسَها تترسملُ بتوسعٍ، حسبَ قوةِ كلِ أمة، والقوةُ هنا تعني قدرة أفكارها على تحويلِ موادِها الخام وقواها البشرية الإنتاجية إلى صناعةٍ، وتأتي في القمةِ من ذلك الأفكارُ السياسيةُ والأفكارُ الدينية.
الأممُ الموحَّدةُ التي هي أسواقٌ كبرى، وتصعدُ بسرعةٍ أكبر من الأممِ الممزقةِ سياسياً ودينياً، وسنجدُ الدياناتِ تمثيلاً مُبكراً للأسواق. فالدياناتُ الكبرى هي تشكيلُ سوقٍ عالمية، في ظلِ العبوديةِ والإقطاع، أي في ظلِ مستويات إجتماعية محدودة تمنعُ من تعميمِ السلع سواءً في المادة أم في قوة العضلات البشرية.
إن الديانةَ الصينيةَ الكبرى وهي: الكونفوشيوسية تشكلُ دولةً هائلةً خلال عشرين قرناً، خلقتْ المقدمةَ الاجتماعيةَ للرأسماليةِ الحديثة الصينية، فلم تحتج (الشيوعية) أي الرأسمالية الحكومية الصينية بمرحلتيها الماوية والبرجوازية الشمولية الراهنة سوى أن تشكلَ علمانيةً هادئة ثم تُطلقُ طاقاتِ الأمةِ الموحَّدة.
كذلك فإن هذه الأمةَ المنعزلةَ المستقلة تجمعُ وتحفظُ قواهَا المنتجةَ البشريةَ ولا تبعثرُها بالحروبِ والغزوات، فتقمعُ الحراكَ البدويَّ الاستلابي للشعوب، فيها وخارجها، وتحضرُ سكانَها، وتمنعُ الغزوات الخارجية، فالحروبُ البدويةُ ما هي إلا سرقة البضائع من الغير.
إن سور الصين العظيم وتقليل الزوجات ونشر الزراعة والمبادئ الكونفوشسية هي التحضيراتُ الطويلةُ الكبرى للرأسمالية الهائلة الراهنة. إنها تكريسُ إنتاجِ البضائعِ الذي كان شغلُ أمةٍ مسالمة صبورة عاملة.
مثلها مثل الهندوسية وهي غابةٌ من الأفكارِ والعباداتِ ومع ذلك شكلتْ أمةً موحَّدة وغاندي العميق الفكر دمجَ بين الهندوسيةِ والرأسماليةِ الديمقراطية فتفجرتْ الهندُ سوقاً وصناعات وتقدماً بدون خسائر بشرية مريرةً.
أكثر من مليار عدد كل من الصينيين والهندوس والمسلمين والمسيحيين الغربيين وكلٌ منها قاعدة لتشكلِ أسواقٍ كبرى. لكن الوحدةَ القومية أو السوق المشتركة، هي الفيصلُ في ذلك. فإذا كان أصحابُ الديانةِ مفتتين ولا يشكلون سوقاً موحَّدة فإن المليارَ مثل المليون.
إن السوقَ القوميةَ الكبرى تعني إن سلبيات التخلف الاجتماعي من ضعفِ التقنيات لدى العمال أو إستمرار العمل النسائي البيتي المتخلف أو ضعف التعليم، لا تمنعُ النهضةَ الصناعيةَ الواسعة، لكونها سوف تتغلبُ عليها بشكلٍ تدريجي وفي ظلِ نموٍّ إقتصادي متصاعد.
إذا نظرنا لكونفوشيوس سنجدُ منهجيتَهُ ترتكزُ على خلقِ النظام السلمي الصارم المنتج وفي ظلِ قياداتٍ حكومية قوية، وفي ذلك الزمنِ من التداخلِ بين تشكيلتين متخلفتين راكدتين هما العبودية والإقطاع، لم يكن ثمة أفق سوى هيمنة هؤلاء السادة الأمراء والملوك مع إبراز الفضائل الممكنة التي تجعلُ النظامَ يستمرُ بقوةٍ وبإزدهار، ولم يكن بإمكانِ الفيلسوف الصيني أن يربطَ هذه الفضائل – الرذائل بأسلوبِ الإنتاج، الذي كان يقودهُ السادةُ إلى الهدرِ وبالتالي كان يقوضُ الاستقرارَ على المدى الطويل وهو قد تصور أن الفضائل الأخلاقية المجردة تصنع المعجزات، لكن بدون إزالة للبنية الاجتماعية المتخلفة فإن الفضائلَ المجردة لا تصنع شيئاً كبيراً ومستمراً. لكنه حاول أن يوجه هذه الطبقة المسيطرة إلى التفتح وبُعد النظر والإيثار وإلى توسعِ أفقِ معرفتِها بالاهتمام بالعلوم والموسيقى والأدب. وهي توجيهاتٌ هُزمتْ في زمنه، فكان شخصيةً مُهَّمشة، لكن ما طرحهُ صمدَ في زمنية غباء هذه الطبقات المرفهة الفاسدة ثم وُجدت في هذه الأخلاقية والثقافة صمامَ أمانٍ لنظامِها الاجتماعي، وتمثل تراكماً إجتماعياً ثقافياً يوجه موارد إقتصادية للبناء.
في خضم التاريخ الصيني تحققتْ إختراعاتٌ هامةٌ للبشرية عامة مثل صناعة الورق وصناعة البارود، وصناعة الحرير وصناعات حرفية أخرى عديدة.
لقد أرسى كونفوشيوس دعائم للحضارة الصينية، التي تهيمنُ عليها طبقةٌ عليا، ذاتُ بصيرةٍ وطنيةٍ غريزية، تتجسدُ أخلاقياً وثقافياً عبر مجموعةٍ من الفضائل التي تعني السلام ونبذ الفتوحات والاهتمام بالعمل البسيط المنتج، وهي قُدمت كخميرة للمتنورين والنهضويين الصينيين في بداية الحداثة.
في كتاب صموئيل هنتنغتون (صدام الحضارات وإعادة بناء النظام العالمي)، يقول بأن النموَّ الصناعيَّ الصيني لم يتوقفْ خلال القرون الأخيرة منذ القرن السابع عشر، وأظنهُ يعني الحِرفَ وليس الصناعات الحديثة.
إن هؤلاء المتنورين الذين قُدمت لهم الصين موحَّدة ذات جذور نبذوا الكونفوشيوسية بداية القرن العشرين وأعلنوا الجمهورية والعلمانية والأفكار التقدمية، بسبب أن هذه الفلسفة التي حُولت إلى ديانةٍ محافظةٍ متصلبة تبرر بناء تقليدياً، فلم تعد مجدية، ورأوا إنه لا بد من مقوماتٍ فكرية وإجتماعية أخرى وجديدة، لكن بحثهم ظل يجري تحت المظلة ، تحت مظلة الكونفوشيوسية مظلة الصراع والنضال الأخلاقيين، وكان تنويرُهم تنويراً فكرياً محضاً لم يتغلغل في أساسيات الإنتاج، وأدتْ مؤسساتُهم السياسيةُ إلى إستمرارِ النظام القديم بدون تغيير جذري في وقتٍ هجمتْ فيه الرأسماليةُ العالمية على كلِ إنحاء الأرض.
إن الأشكالَ العامةَ العبادية المظهريةَ للصين القديمة تزدادُ إهتراءً، الكلماتُ المثالية لكونفوشيوس لا تقدر أن تجمل النظام الإقطاعي البشع، وكانت الكثيرُ من مشكلات النظام تقعُ فوق رؤوسِ أحد الشباب الثوري وهو ماوتسي تونغ الذي تقدمَ لتغييرِ كل تلك القرون!
تذكر سيرتهُ الحزبيةُ الرسميةُ ما يلي:
(وقد لجأ النظامُ الإقطاعي المتوحش السائد آنذاك إلى الايديولوجيا الأكثر تسلطاً المبنية على تعاليم كونفوشيوس لإيجادِ شرعيته. هذه الايديولوجيا التي تهدفُ قبل كل شيء إلى قمعِ ظهورِ أية فكرة جديدة ودفع الشعب إلى القبول بوضعه، إذ تعتبر أن العائلةَ وكل العلاقات الاجتماعية ينبغي أن تتلاءم مع تراتبٍ دقيق. لكن ماو تسي تونغ كان قد حسم مبكراً مع التقاليد وتمردَ عليها، وهكذا عارضَ الممارسة الكونفوشيوسية التي تتيحُ للآباءِ أن يختاروا الأزواجَ لبناتهم، لتتحولن مذ ذاك إلى إماءٍ لأزواجهن وآبائهم. ومنذ أن كان ماو لم يتجاوز بعد سن الثالثة عشرة، رتب له والدهُ زواجاً بفتاةٍ عمرها تسع عشرة سنة لتعملَ كخادمةٍ له، حتى يصبح هذا الزواج تاماً، لكن ماو رفض نهائياً قرارَ والده.).
هذا الرفض في الواقع لعلاقاتِ الزواج التقليدية كان يعبرُ عن إصطدامٍ عميق مع تلك الأفكار المحافظة التي تجمدت لكونفوشيوس وإيذاناً بدخولِ علاقاتٍ ديمقراطية في الخلية الأولى للمجتمعوهي الأسرة، ثم يجري توسيعها لترفض كل أشكال السلطة الفوقية ثم تتبنى الماركسية لكن من خلال آرائه الخاصة.
نستطيع أن نقولَ إن ثمةَ قشرةً ماركسيةً هنا وتحتها اللب وهو القومية الصينية العريقة، وراح ماو عبر العقود التاليةِ يكيفُ هذه الماركسية المستوردة مع الطموحات القومية للفلاحين الصينيين، وعلى ضوءِ قراراتهِ الحادةِ التسريعية كان يشكلُ التاريخَ المستقلَ الجديدَ للصين. كان هو مركز القرار والدكتاتور القادم، غير القابلِ بوجودِ سلطةٍ أخرى، وعبر القوة الفلاحية العسكرية التي حصلت على الأرض غير الخاصة كان يهدمُ القوى الأخرى بذكاءٍ عسكري كبير.
إن تشكيلَ دولةٍ قومية بدون طبقةٍ برجوازية أمرٌ عسير، وتشكيلها من خلال طبقة فلاحين متخلفة أمر أكثر عسراً، وعبر حرب عصابات ضارية تتويجٌ عنيفٌ لكلِ تلك المغامرات المركبة! لكنها كانت إختزالاً للتاريخ على طريقة روسيا ومن خلال خصوصية قومية.
خلافاً لكونفوشيوس الواسع الأفق المثالي الحالم المتسامح ظهرَ ثوري هائجٌ باسم الشعبِ وكرسَ نظاماً ذا ملكياتٍ عامةٍ وصناعاتٍ شعبيةٍ صغيرة واسعة ذات فقر تقني رهيب، وهو صاحبُ فقرٍ نظري كذلك لأن ما يعمله وفي تصوره هو إزالة للطبقةِ الغنية وإنه يهدمُ البرجوازيةَ(غيرَ الموجودة) بشكلٍ مطلق، في حين كان هو المؤسسُ للبرجوازيةِ الحكوميةِ الشمولية القادمةِ بتوسعٍ هائل.
يقود النظامُ الجديدُ إلى خلقِ أسرةٍ حديثةٍ بالقوة، وتُنشر ثقافة حديثة، ويتم إبعاد كلي لصيغة الدين الماضوية عبر صياغة دين جديد، معلب؛ المساواة بين الأجناس والقوميات، إلغاء الذكورة المستبدة، إلغاء هيمنة ملاك الأرض، إطلاق قوى الشعب العاملة الخ هذه كلها شكلت صين جديدة.
هنا نرى إن الهدمَ (الشيوعي) للدين، وهو إجراءاتٌ كاسحة بيروقراطية بمنعِ الدين، على غرارِ إجراءاتِ لينين وستالين، تزيلُ نفسَها بعد عقود، لأن البيروقراطية ليست عقلانية فكرية تحليلية تتغلغل شعبياً، كما أن الديانة الماضوية البعيدة كانت قد إختنقت إجتماعياً في الواقع، ومع تغيير العلاقات الاجتماعية الاستبدادية فإن تلك الصيغ المحافظة الدينية تتبدل.
إن الألحادَ الماوي مثل الإيمان التقليدي هما وجهان لعملةِ الإستبداد، فنظراً لنقصِ الثقافةِ العلمية الديمقراطية لدى الجانبين وعدم حصول تغيير ديمقراطي شعبي طويل تظهرُ نسخٌ عسكرية وطنية وعبر ماو يتم التعجيل الرهيب بمسيرةِ النهضة، وتُقدسُ الشخصيات: كونفوشيوس، بوذا، ماو، أعضاء المكتب السياسي، تاريخ الثورة، الحزب وأدبياته، تُحنطُ ولا تنقد بشكل علمي.
إنها تخلقُ رأسماليةً ذاتَ مستويين؛ رأسمالية حكومية مسيطرة، ورأسمالية خاصة طالعة من أمها الفاسدة السابقة، لأن الاشتراكيةَ فوق بيئةٍ متخلفةٍ لا تُُنتجُ سوى رأسمالية حكومية بيروقراطية متناقضة، ونظراً لضخامةِ السوق البشريةِ الصينية وخلق آليات تعاون دقيقة متطورة بين الرأسماليتين العامة والخاصة، فإن التجربةَ تحققُ تقدماً كبيراً وهي تتجاوزُ ماو وتبسيطاتهِ الاقتصادية والفكرية.
تستردُ الكونفوشيوسية بعضَ جذورِها المتيبسة القديمة، والقيادات الجديدة ما بعد ماو لا تطلقُ حريات الأديان، لكونها يمكن أن تقودَ إلى حراكٍ سياسي فوضوي في بلدٍ هائل ذي قوميات وأديانٍ متعددة، رغم حماية قومية الهان الكبرى للهيكلِ البشري الرهيب. كما أنها تجلبُ بعضَ العاداتِ الغربيةِ الحضارية رغبةً في التحديث، لكنها لا تقدرُ على الإنتقالِ للديمقراطية الغربية، فيحدث حراكٌ ديني غامضٌ عبر إستعادات النزعات الروحانية القديمة في أمةٍ لا تستطيع أن تنتقلَ للرأسماليةِ الغربيةِ الديمقراطية ببساطةٍ بسببِ أن الطبقتين البرجوازية والعمالية متداخلتين بشكلٍ مركبٍ صعب الانفكاك بدون كوارثٍ إجتماعية، ولهذا فإن ظهورَ الكونفوشيوسية ربما يخففُ من هذا الإحتدام الطبقي الصراعي الداخلي، ومن التفاوتِ الهائلِ والمتصاعدِ بين الأغنياء والفقراء، خاصةً إنها تدعو للتضحيةِ والفضائل لكن الأساسَ الاجتماعي الذي ظهرتْ عليه مجدداً هو أساسٌ صراعي متضادٌ كذلك، وهو مفيدٌ بعض الشيء لعدمِ وصولِ الأطرافِ الاجتماعية إلى نزاعاتٍ دموية تخلقُ فوضى وطنية – عالمية، مع ضرورة رجوع الثقافة السياسية لأساسياتِ الحضارة المتقدمة الحديثة.


اليهودية كدكتاتورية شرقية
لم تتشكل تجربة حضارية ديمقراطية كبرى راسخة عميقة متوارثة لدى قبائل اليهود المشتتة عبر خرائط الأرض. ثمة قدراتٌ فذةٌ تراكمتْ في مجال العلاقات التجارية والنقدية، فنجد القبائل اليهودية وهي تخرجُ من أحضانِ التجمعاتِ القرابية المتماسكة المنغلقة لا تندمجُ بالمجتمعاتِ الحضارية شبهِ الرأسمالية وشبهِ الديمقراطية في المدن والدول التي تنزحُ إليها.
وسواءً كان ذلك بنزوحِ القبائل من فلسطين إلى مصر أو إلى بابل، فإن التجمعَ التحديثي شبه الرأسمالي أو المُـقاربِ للحداثةِ في ذلك الزمن، يبقى منعزلاً عن الإندماج. إن القبليةَ الدموية السلالية تبقى مهيمنةً على العلاقاتِ الماليةِ البضائعية، وتعيدُ فوائضَها إلى أحضانِ الجماعة القبلية – الدينية المتماسكة.
هناك جوانبٌ عقيدية تتأس من البذور الأسرية والقبلية، برفضِ الإندماجِ مع (الأغيار). فهناك اليهودُ وهناك الأغيار. ولا مجالَ للخلطِ والأختلاط والتداخل والنمو المشترك. ومن هنا تغدو العقيدة مشبعة بالتفاصيل الخاصة المميزة؛ في رسم الوجود، في ذكر السلالة والأنبياء والحكايات الحقيقية والخيالية والمحرمات والطقوس، لكي تبقى القبيلة – الشعب، في وصاية الكهنة.
لعل بعض الاختراقات المحدودة أو الواسعة تمت لهذه العرقية الزرقاء، المتعالية فوق الشعوب، ولا يعقل أطلاقاً أن يحتفظ أي عرقٍ بنقائهِ الأبدي.
ونلاحظُ هذه العقيدةَ بعدمِ الإندماجِ مع الأغيارِ حتى في الرمزياتِ القصصيةِ المقدسة للأديان، فالقائدُ اليهودي يتاجر ويجمعُ ثروةً ويصلُ لمنصبٍ كبيرٍ في الدولة، لكنه لا يختلطُ بالخاصةِ أو العامة الأهلية في البلد الذي إرتفعَ فيه من الحضيض لذروة عالية، والعلاقة الأسرية تقومُ على إستدعاءِ أهله، وجلبهم للبلد الغريب، ويرفضُ العلاقةَ الجنسيةَ الانصهاريةَ مع هؤلاء الذين إحتضنوه!
إن تجميعَ المال بصورةٍ مقترة متراكمة، والعيش في القواقعِ الاجتماعية أو الزرائبِ السياسية، والتمدد المستمر نحو عروقِ الذهب والفضة، نحو الأمكنة التي تتفجر فيها الثروات هي خصائص البقاء والصعود الاجتماعيين.
وكذلك الحفاظ على القرائبية لكونها تحتفظُ بتراكمِ رأس المال، والأختلاطُ مع الأغيارِ يزيلُ ليس الدم النقي بل عروق الذهب التي تشتهي أن تصيرَ جبالاً!
في التبعثر الشرقي لليهود يُلاحظ هذا السكن القريب من الأسواق، والتواجد في المدن، لكن أبداً لا يحدث ذوبان، ولا تقومُ المدنُ بإعادةِ تفكيكِ القبيلة، ولا تتحول إلى فئات وسطى ضمن طبقة برجوازية حداثية، تقومُ بتغييرِ بلدٍ ما.
إن الفئات اليهودية المالية تنسحبُ من عملياتِ التوحدِ الديمقراطي سواءً كانت الوطنية التحررية أو الرأسمالية الديمقراطية الصاهرة لكلِ دينٍ وطائفةٍ في كل إجتماعي موحد.
وهناك عناصرٌ ديمقراطيةٌ وإنسانيةٌ يهوديةٌ عديدةٌ وهامةٌ وملفتة للنظر بتاريخِها النضالي أو العلمي أو الثقافي، لكنها تبقى مجردَ عناصرَ فرديةٍ غيرِ قادرةٍ على تحويلِ مجموع القبيلة – الدينية – المالية، فلا هي منتجةٌ لوعيٍّ يهودي ديمقراطي إنساني كلي، ولا هي قادرة على الصمود بفرديتِها المميزةِ داخل عالم القبيلة المالية المتقوقعة. فتُهزمُ أو تتبنى ديناً آخر أو فكرةً مغايرة، أو تعيشُ منعزلة.
بطبيعة الحال لعبَ الموقعُ الذي إنبثقَ منه اليهودُ وهو فلسطين في خلقِ ذاكرةِ التجمعِ الخيالية الأسطورية والواقعية عبر تاريخ الشتات، كرمزيةٍ للبقاء الموحد.
لقد كان الترحالُ الأوليُّ في التاريخِ المبكرِ للقبائل الشديدة المحافظة بحثاً عن موقعٍ خصبٍ بعيد عن سنابك الإمبراطوريات الداهسة لها، وكان حلمُ النهرِ الخصب والأرض الخضراء هو الجنة الأرضية التي تريدها.
لكنها في ذلك الموقع، في أرضِ فلسطين نفسها، الجنة الموعودة، حلم الأجداد والآباء، رأتْ الكوارثَ الساحقة لها!
مرة أخرى حافظتْ على مصارعةِ الأغيار، ورفضِ الإندماج بالشعوب، ورفض تقاليدها وميراثها، وفي العمقِ كان هناك توظيفٌ لذلك التراث وإستلالهِ من نسيجهِ المغاير، والتزواج الخفي والإختلاط غير المكتوب في سيرة القبيلة – الشعب الذهبية النقية.
هذا التاريخُ الإنفصالي الصراعي مع الشعوب ربما تضَخمَّ وتوسع كثيراً في مملكةِ الخزر، الواقعة قرب بحر قزوين، هذه التجربة اليهودية التي حاولتْ الإندماجَ في شعوب الشرق وتنامت في التاريخ بشكلٍ كبيرٍ ومتحضر، لكن الخلايا السرطانية كانت موجودة كذلك.
في هذه التجربةِ التاريخيةِ الكبيرة نجدُ إن القياداتِ اليهوديةَ لم تستطعْ أن تستثمرَ هذا الموقعَ ومواردَهُ الكبيرةَ والشعوبَ الخام التي كانت تقدم قوى عملٍ ضخمة، بسببِ عدم قدرتها على خلقِ نسيجٍ توحيدي عقائدي أو ثقافي منفتح، وفي حين حقق المسلمون ذلك بإنفتاحهم على الشعوب الوثنية ودمجها في حضارتهم، تهاوتْ تجربةُ مملكةِ الخزر، يقول باحثٌ عربي ملخصاً هذه التجربة الفريدة:
(ومن المؤكد أن الخزر لم يكونوا عِرقاً واحداً أو ينتمون إلى قبيلة معينة، ولكنهم تجمع سياسي وعسكري من الشعوب والقبائل، وكانت اليهودية التي تجمع دينياً بين قادتهم ونخبهم الحاكمة والمؤثرة، فكان اليهود الخزر ينتمون إلى أعراق وشعوب وقبائل متعددة، فقد كانوا هم أيضاً تجمعاً نخبوياً يشملُ قيادات ونخب الخزر أنفسهم)،(تاريخ يهود الخزر، عرض إبراهيم غرابية).
إن النخبَ اليهوديةَ لم تكن قادرةً على صهرِ الشعوب التي تحكمها، لغيابِ الفكرة المنفتحة الإنسانية، غير العَرقِية، وتقوم الشعوب الأخرى بصهرها فيها.
وهنا يظهرُ العصابُ الأسطوري، تتفجرُ صور فلسطين، الجنةُ الأرضية الصاهرة لما هو مشتت، وتظهرُ مشروعاتُ العودةِ التي تبقي القبيلة الذهبية الغيبية موحَّدةً تحكمُ نفسَها وتطردُ الأغيارَ من بينها!
لم يستطع اليهودُ بعد إنهيارِ مملكة الخزر أن يشكلوا دولةً أخرى، وقاد إنهيارُ المملكةِ إلى شمِّ روائحِ النقودِ الزكيةِ المنبعثة من خرافِ أوربا المُعَّدةِ للذبحِ الرأسمالي، فكانت الدولةُ العثمانية وغزوها وكان الإستيلاءُ الذي قامت به على أجزاءٍ من شرقِ أوربا، والقبائلُ اليهودية تسيحُ مع حملاتِ العثمانيين المحتاجين دوماً للصرافةِ اليهودية، وكان التغلغلُ والدخولُ في شرايينِ القارةِ – المستقبل، حيث ستصيرُ اليهوديةُ ديناً مالياً لكلِ الشعوب.
هذه القارةُ كان من مصيرِها أن تجعلَ من الرأسماليةِ ديانةً مقدسة، وأن تحولَ اليهودي إلى المواطنِ الأوحدِ النموذجي، وقد صبرَ اليهود في إستغلالِ عروقِ القارةِ الإقطاعية الأوربية المريضةِ مثل إستغلالهم إمبراطورية الرجل المريض العثمانية المفلسة تدريجياً، فكان الذهبُ ينتقلُ من الشرقِ للغرب، فتغلغلوا في عروقِ أوربا وأمتص رأسُ المال الربوي اليهودي عروقَ الناس والفلاحين المعدمين وحولها إلى مانيفاكتورات ومشاغلَ ومصانعَ وبنوك!
إن الدور التأسيسي للرأسمال الربوي اليهودي في تاريخ أوربا التحديثي كان مهماً بغضِ النظرِ عن الأساطير والوقائعِ الدموية الحقيقية، وسواءً كان ذلك في تاجر البندقية أم في كتاب كفاحي لهتلر، ولكن التجارَ اليهود وهم يشاركون في نهضة أوربا الرأسمالية الحديثة، رفضوا أن يندمجوا فيها، فما زالتْ القبيلةُ الربويةُ الموحَّدةُ ترفضُ أن تذوبَ في الأغيار، وما زالتْ الفوائضُ تعلي من شأنِ القبيلة، الذي صار(غيتو) الآن وهو الحي اليهودي المنعزل عن المدينة القروسطية الأوربية الرأسمالية المتحولة للحداثة والتي تقودُ العالمَ!
وإذا تفككت الأحياء الدينية والقبلية الأخرى فإن الغيتو لم يتفكك، وإذا تفكك إحتفظ سكانه بتقاربهم الديني. إن رؤوساء القبائل والعائلات يخلون المكان أكثر وأكثر للكهنة والسياسيين المؤدلجين للعقيدة.
وقد رفض بإصرار هذا الحي أن يذوبَ في الكل الأوربي الديمقراطي، لقد أعطتهُ الرأسماليةُ الغربيةُ كلَ إمكانيات أن يتفتحَ إستغلالياً وأن تزدهرَ ينابيعُ الفضةِ والذهب من حوله، رغم قيام الرأسمالية المسيحية بإدراكِ الفضائلِ اليهودية الإستغلالية فيما بعد، وأعترافها مؤخراً بأنها قامتْ على هذا الربا اليهودي العريق! لكنه من جانبه رفضَ أن يلغيَّ ذاتَهُ، أن يلغيَّ القبيلةَ – الماليةَ- الرأسمالية الكونيةَ الآن!
هذا التوحدُ تشكلَّ رمزياً تقديسياً منذ العصر الوسيط نفسه، بين المسيحية واليهودية. المسيحيةُ التي حاولتْ أن تجاملَ اليهودية وأن تقولَ أنها جزءٌ من العهدِ القديم(التوراة)، وأنها إمتدادٌ لتاريخِ اليهودِ النضالي المقدس، لم يعترفْ بها اليهود. ويَصعبُ لفئةٍ مجهولةٍ أن تصعدَ إلى مسرحِ الديانةِ المبجلِ بدون أن تكون لها سمعة مشرفة معروفة متجذرة. فالتصقتْ المسيحيةُ باليهودية، وتشكلَّ الكتابُ المقدسُ من جزأين، يهودي ومسيحي، التوارة والأنجيل، السِفر القديم والسِفر الجديد، وكأن القَدرَ المالي قد جمعَ الديانتين في رحلةٍ إستغلالية مشتركةٍ لشعوبِ الأرض، والمسيحيون إذ يشدون أنفسَهم للروابطِ القديمة، وللأساطير التي تم تشكيلها في المشرق العربي، فهم مرابون جددٌ يتحولون لرأسماليين يستغلون العمال والفقراء في أوربا وأمريكا ثم في العالم بأسره، وتشكلتْ مع اليهودية المالية روابطُ المصانع والبنوك، وهي الأساسُ الحديثُ لوحدةِ الكتاب المقدس بجزأيه القديم والجديد.
وفي حين كانت المسيحية تنتقل للعلمانية والدول الموحّدة وتذوبُ الأعراقَ والمذاهبَ في كلٍ موحدٍ وتبعدُ الأديانَ عن أن تكون سياسةً حكوميةً مهيمنةً وتغدو أهلية مهمة كذلك، فتحتفظ بوحدة الطبقة الحاكمة، ولا تبعد الأديانَ عن دورها الإيديولوجي لتخدير عامة الشعب حسب بفهمها، وسواءً كان ذلك على مستوى كل بلد أو على مستوى قارات الغرب الثلاث، لكن كانت اليهوديةُ السياسيةُ متشبثةً بذاتِها العليا ثم تظهرُ بأسم الصهيونية، رافضةً هذا الذوبان.
في التوحدِ الغيبي على مستوى النصوص الدينية ثمة إبقاء للجمهور العامل المسيحي أو اليهودي في ظلماتِ الماضي الجميلة، إبقاءً لما لا تستطيع الرأسماليةُ الحديثةُ أن تحققهُ من أحلامٍ عظيمةٍ في العيش السعيد، فتقدمُ له أساطيرَ عن بناءِ الكون وعن الآباء المؤسسين والأنبياء العظام الذين صنعوا هذه الحضارة المشتركة اليهودية – المسيحية، وتخلق ثقافة مشتركة، ذات ترميز لأهمية القوى العليا الإستغلالية ودورها الوحيد في التاريخ، والتي تغدو مؤسساتها موضع هيمنة وسؤدد وبخور عابق بروائح القداسة، والمرتبطة بالقوى الماروائية الأبدية.
وفيما تدورُ في الواقعِ الأرضي معاركٌ ماليةٌ نجسة، فإن اليهوديةَ لم تعترفْ بكلِ هذه الثقافةِ الأوربيةِ المسيحية، وبمحاولاتِ إلتصاق الأخيرة الملوث بها، خائفةً بشكلٍ متزايدٍ من إبتلاعِها من قبل الديمقراطية المسيحية، وتذويب اليهود في بخور المواطنة المجرد. وفيما كان المسيحيون يقولون إن اليهودَ قتلة المسيح كانوا في ذات الوقت يتمسحون بأذيالهم.
أخذت اليهوديةُ السياسيةُ تستغلُ كلَ أخطاء الديمقراطية الأوربية، خاصة المذابح التي كانت تجري هنا وهناك ضد اليهود. فتطورُ الرأسماليةِ الأوربية في الدول الإقطاعية – خاصة في شرق أوربا – كان يجري على عظامِ المرابين وكنوزِهم المخبأة، مثلما كان خلفاءُ الدولةِ العباسية يجددون الميزانيات المنهوبة من قبلهم، عبر المداهمات لليهود والتجار عموماً.
إن عدمَ إندماجِ اليهوديةِ في المسيحية السياسية المنتصرة لا يعني عدم تأثرها بالحداثة، فثمة مسحةٌ حداثيةٌ جرتْ لها، والكثيرُ من اليهود كانوا عمالاً ودخلوا الأحزاب الاشتراكية والنقابات، وشاركَ الرأسماليون اليهود في صنعِ الحضارة الغربية الرأسمالية في مرحلتها البنكية التوسعية، لكن قوى كبيرة ظلت في الجيتو، ظلت في عالمِ الطقوسِ الدينية وفي التماسكِ الاجتماعي اليهودي الصلد كسورٍ كبيرٍ لمنعِ هجمات القوى الأخرى.
وكانت هجماتُ القوى الأخرى مستمرةً بشراسةٍ ضد اليهود، لأتخاذِهم مبرراً لتفاقم الإستغلال، ولزيادةِ مشكلاتِ الاقتصاد والفقر، فكان البوليسُ القيصري الروسي يقومُ بمذابح لهم، وحولَّ هتلر ذلك العملَ البوليسي الدموي إلى فلسفةٍ مروعة له!
تنصلتْ اليهوديةُ الغربية – الأوربية – الأمريكية من ثمنِ الحداثة الذي لا بد من دفعه داخل صفوفها. فلا هي تستسيغُ بطبيعةِ الحال الأفكارَ الإشتراكية المتصاعدة بحكمِ إهتمامها الكبير بتنامي النقود، وترفضُ بقوةٍ كذلك سحبَ قواعدها العمالية والاجتماعية من وحدانية الشعب الديني المقدس.
وإذا كانت الرأسمالياتُ الغربيةُ مقبولةً بعض الشيء إلا أنها تقوم بتذويب اليهود في هذه العلمانية الاجتماعية المتصاعدة التي تطفئُ الأديانَ والمذاهبَ المتحجرةَ إجتماعياً تدريجياً في ثقافةٍ بشريةٍ ديمقراطيةٍ موضوعية موحدة.
كما أن المجازرَ الرهيبةَ التي حدثتْ في العصر الحديث الأوربي لليهود، خاصةً حمامات الدم في ألمانيا، أعطتها مبرراً لذلك البقاء الموحَّد، وفلسطينُ الأسطورةِ تظهرُ بقوةٍ في زمنِ المجازر وسياساتِ الفشلِ والعجز عن التوحد السياسي في كيان، وهي المتوحدة مع العهدِ القديم الرافض للتاريخ الحديث.
كما أن الصهيونيةَ كحركةٍ سياسية اعتمدت بقوةٍ سياسةَ رفضِ الأغيارِ الدينيةِ العتيقة الأسطورية، كإنقطاعٍ كلي عن البشرية، وعن تدفقِ الديمقراطيةِ الحضارية الكونية التي أخذتْ توحدُ العالم.
وبهذا فإن الهجرةَ إلى فلسطين باتتْ هي الخيارُ من مجملِ التناقضات التي يحياها اليهودُ كقوى منغلقةٍ، عجزتْ في عصرِ الديمقراطيةِ عن الديمقراطية، وحلقتْ بطائرةِ القبيلة الذهبية في أرضِ ما قبل الرأسمالية التحديثية، ما قبل العلمانية، وحطتْ على أجسادِ الفلسطينيين التي إحترقتْ وتفتتْ وتشردتْ من هذا الهبوطِ الأسطوري التحديثي الدموي.
إن روؤساءَ العشائر تراجعوا في خضمِ تحولاتِ اليهود، وتصاعدَ بشكلٍ واسعٍ جداً دورُ رجالِ الدين والسياسيين(الوطنيين)، ثم ظهر على الأرض المقدسة، أرض السلام، الدور الأبرز للجنرالات المهيمنين سفاكي الدماء.
إن العقيدةَ الوطنيةَ الإسرائيلية يكمنُ في قلبِها هذا الإنغلاقُ الجنسي، ذلك الغيتو الذي حَملَ من أزقةِ أوربا إلى المشرق العربي، (الاشتراكيةَ) و(الرأسماليةَ) اللتين هما يهوديتان، فهنا لهما معنيان مغايران، فهنا هما ترضعان كلتاهما من حليب رفض الأغيار والعنصرية، بشكلين متفاوتين كماً.
في التأسيس الأولي الذي أُقيم على إستلهامِ ثقافةِ العدو الهتلري، ظهرتْ المستعمراتُ لتُصَّعد قوةَ العمل عند اليهودي الربوي، فتحولتْ أرضُ المعيادِ لنهضةِ الرأسمالية، والشركات الخاصة.
وصعدتْ إسرائيلُ بقوةٍ خلال عقود ضد حركات التحرر العربية و(الإشتراكية) العالمية لتغدو عملاقاً رأسمالياً صغيراً خارج الغرب، ولتؤدي دور المرابي المناطقي اليهودي البخيل الدموي التابع للرأسمال المسيحي الذي صار أمبرياليةً، وهي تقفُ على علاقاتٍ دكتاتوريةٍ متأرحجةٍ بين رفضِ الأغيارِ وطردِهم وسحقِهم وعزلهم ثم نفيهم، وبين علاقات تعاون بشرية مترددة متقلبة.
إن الشعب – القبيلة المالية التي أوجدتْ لها مكاناً مشتركاً تخافُ باستمرار من التمزقِ، من الذوبانِ في الأغيار، ويصبحُ الفلسطينيون حتى بوجودهم الجسماني المتكاثر مشكلةً كبيرة. إن تجربةَ مملكةِ الخزر تم تجاوزها عبر هذا المشروع، لكن ما زال الأغيارُ يحيطون بالمملكة، ويتغلغلون فيها.
لم تتغلغلْ العلاقاتُ الديمقراطيةُ الإنسانية في الوجودِ الاجتماعي اليهودي العميق ويمثل تحالفُ الحاخامات والجنرالات والشركات البُنى الإستغلالية التي تراكمتْ رساميلُها الماديةُ والثقافية وعلاقاتُها الدولية هيمنةً على العمال اليهود والشعب الفلسطيني، وخوفاً من تفكك هذه السيطرة وتفكك اليهودية الجوهرية المنغلقة في قوقعتها الأبدية.
يقول إسرائيل شاحاك العالمُ الإسرائيلي المناضلُ الديمقراطي في كتابهِ التاريخ اليهودي:(في سنة 1985، اعتمد الكنيست بأغلبية ساحقة، قانوناً دستورياً، يعذرُ المشاركةَ في الانتخابات البرلمانية على كلِ حزبٍ يعارضُ صراحةً في برنامجهِ مبدأ “يهودية الدولة”، أو يقترحُ تعديله بطرقٍ ديمقراطية. فإسرائيل لليهود؛ ولهم فقط، حيثما وجدوا).
مضت قرونٌ طويلة وهذه القبائل مُنغلقة ومضطَّهدة ومكروهة وهي تعتمدُ الإستغلالَ الأقصى في حياتها الاجتماعية، تحملُ في عروقها بذور الرأسمالية بدون إنفتاحها وعلمانيتها، تجثمُ دائماً على ضفاف الحضارات، وتزدهر في الأمبريالية بدون أن تتخلى عن قوقعتها، وتريد في أقصى يمينها أن تطرد بقايا الفلسطنيين من أرضهم فهم يلوثون نقاءَ الدم اليهودي، لكنها في الواقع تؤجل المعركة الاجتماعية بينها وبين العمال اليهود أنفسهم، بينها وبين الوعي الديمقراطي العلماني الإنساني، حيث يُسحب تداول الأديان من السياسة، وحيث البشر متساوون أمام القانون العالمي.
أعطت مجموعاتٌ من المنظمات الفلسطينية والعربية لمشروع الغيتو اليهودي بعضَ دفقِ الحياة والمساعدة وهي تقول أنها تناضل ضده، لكن عبر توحيد (العنصرية) اليهودية، فلم يفرقوا بين مكوناتها الاجتماعية ويشتغلوا على أنسنتها، وجعلوها تلتحم، لكونهم هم أيضاً غير ديمقراطيين وعنصريين كذلك، لكن تبقى العنصريةُ اليهودية متفوقةً بسببِ التقنيات والرأسمال الكبير المتجذر في الأرض الذي شكلَّ شعباً صغيراً متقدماً، ومن أسرٍ صغيرةٍ غيرِ باذخةٍ، ومن قدراتٍ علمية وصناعية كبيرة.

اليهودُ من التراث إلى الواقع
ظهر اليهودُ والعربُ وبعضُ الأقوام الأخرى في منطقة المشرق كقبائل نازحة بدوية باحثةٍ عن المناطق النهرية الخصبة، لكن ذلك لم يحدثْ في أول النزوح بل بعد مئات السنين.
في حراكِ اليهودِ المتوجهِ نحو البلدان الخصبةِ كانوا في البدءِ قبائل بلا هوية محددة، بل كانوا يشكلون هويتهم، عبر الاحتكاك بالحضارات والأقوام الراسخة في المنطقة، ولهذا كان عبورُهُم المستمرُ الذي أعطاهم فيما بعد اسم العبرانيين، مثلما أعطى العربَ تعبيرهم، يَتسمُ بالبحثِ عن المنافع والخصبِ لكنهم كانوا بداةً غلاظاً.
رؤوساءُ العشائر الكبار اتخذوا لهم أسماء تاريخية وهم: إبرام، وإسحاق ويعقوب.
عبّرَ حراكُ العشائرِ اليهوديةِ عن البحث عن المناطق الفارغةِ من السكان والشعوب الكبيرة مثلهم مثل شعوب كثيرة مترحلة وَجدت في منطقة الأنهار هذه قبلة إقتصادية، ولكنهم دائماً كانوا يجدون الأمكنةَ مليئةً، وأقل الأماكن من الشعوب الكبيرة كانت الصحارى فكانت شمالُ الجزيرة العربية هي الامتدادُ التاريخي لهم. وهي تمضي من جنوب العراق حتى سيناء والصحراء المصرية الشرقية. بل وحتى هذا المكان الكبير الوسع الشظف كان فيه العرب أقرانهم والمتداخلين المتصارعين معهم، والذين انحدورا للجنوب، وهناك العماليق كذلك، أما مناطق الخصب في العراق وفلسطين وسوريا ومصر فكان الدخول فيها عسيراً، وقد تم إقتحامها والصراع مع الكنعانيين في حران وأريحا لكن السيادة والعيش الرغد لم يأتيا.
القلة العددية لمؤسسي العبرانيين فيما بعد، والبداوة، والترحال، وهجمات الأقوام الأخرى، جعلتهم على هامش الحضارات التي قاربوها.
والجثومُ على الحدودِ المصريةِ من قبل هذه القبائل كانت البدايةُ الفعليةُ للتاريخِ اليهودي كما سيُعرفُ لاحقاً. لهذا كان التاريخُ السابقُ المليءُ بشذراتِ القصص هو مجردُ بدايةٍ غامضة، وإفتتاحية شبه مجهولة، وكان تاريخاً غائب الملامح رغم أن التأصيلَ اللاحقَ سوف يضخمه.
لهذا كان ظهورُ النبي موسى واقعياً في المسار التاريخي الحقيقي هنا، فهذه الأقوامُ من الرعاةِ والخدم وأصحاب المهن الدنيا الجاثمة على هامش الدولة المصرية، من الصعب أن يظهرَ فيها مثقفٌ بارزٌ بمستوى موسى، ولهذا كان موسى مصرياً بكلِ شخصه، كما يدلُ عليه اسمهُ وثقافته، أما التهويدُ الطفوليُّ له فقد جاءَ لاحقاً. فهو في اللغةِ المصريةِ القديمة بمعنى(وليد).
وثمة فترةٌ مهمةٌ بين ظهورهِ التاريخي وبين ظهوره الواقعي، حيث كان قد تزوج صفوره ابنة الكاهن في أرض الميدانيين وهي في المنطقة القريبة من التجمع السكاني الكبير للعبريين، وانجب منها ولدين وكَبُرا وتداخلت حياتهما بالحدث التاريخي، مما يُعطي مساحة زمنية للتداخل العميق مع هذه الحشود المهمشة.
وهذا السردُ الذاتي تداخلَ مع التحولاتِ التاريخية على الجانبين المصري والعبري. حيث أن الحضارةَ المصريةَ كانت في حالةِ مخاضٍ متنقلة من الوثنيةِ التعددية الكثيفة إلى التوحيد، وكانت تلك هي لحظة إخناتون التوحيدية الفاشلة، وتوجه موسى للتوحيد ومفارقته أرض مصر وحمل هذه الأقوام لرسالة التوحيد. انهما جانبان وحدا الذاتي والموضوعي، لكن حشود المرويات وألغاز التاريخ والنظريات، كلها تشوشُ هذه اللحظة المركبة المعقدة.
لكن توحيد موسى ورسالته وتحميلها لشعب وثني من قبائل صغيرة فقيرة في خضم إمبراطوريات المشرق، يظل لغزاً كبيراً. لكن الجانبين المتضادين، موسى والعبريين، ظلا يتصارعان، فأن نقل الثقافة المصرية التوحيدية البازغة لقبائل بربرية كانت عملية غير ممكنة عملياً، لكنها غدت مهمة قرون، وقد بدت المرويات الموسوية الموجهة لتثقيف وتديين هذه القبائل غير محبوكة على الجسد القبلي المفتت البدائي الذي ظلتْ الأرضُ الموعودةُ التي تفيضُ لبناً وعسلاً هي الوجهة التي تشده دون سواها.
إن التاريخَ اليهودي يبدأ هنا بإستخدام اسم الإله (يهوه)، إن النبي موسى هو الذي صاغهُ على جسم هذه القبائل ورَكّبَ موادَهُ الشعائرية والعبادية وأنتج بعضَ مواده الفكرية الدينية، لكي تصهرَ الكيان المفَّتتَ في كلٍ موّحد، وجاء اسمُ الإلهِ مفارقاً لإرث القبائل، ولكن الاسم القديم التجسيدي الطالع من ثقافةِ الخصوبة الزراعية الوثنية لم يعد ملائماً، فجاء اسمُ الإلهِ الجديدِ المُجرد، غيرِ المرتبطِ بالموروثِ الزراعي الخصوبي وعاداته، ويحملُ طابعَ القوة والتحدي ويجلجلُ بتراثِ منطقة البراكين لشمال الجزيرة العربية، مما يُعطي شجاعةً لهذه القبائل المُداسة على الشارع العام للأمم، ويدفعها للأرض الموعودة. ومن المؤكد إن إعادة تكوين ديانة أمر يحتاج لوقت طويل. كما أن الأرض الموعودة مليئة بالسكان المدافعين عنها، ولهذا قيل أن ثمة تيهاً قد حدث لأربعين سنة، وهو ليس تهياً بل هو تكون للدين الجديد العام دون إنفصال كلي عن القديم، كما أن ذلك كان عجزاً عن الدخول إلى فلسطين وتراكماً للمواليد وإستعداداً صعباً للغزو!أدت ظروفُ النشأةِ اليهودية وصغرِ حجمِ السكان وسيطرة رجال دين غرباء على العبرانيين، إلى حكمٍ سياسي مفكك، فاللاويون وهم رجالُ الدين المجلوبين من مصر شكلوا طبقةً مسيطرة شبه أجنبية، إستغلتْ السكانَ العاملين حتى إنتفضوا عليها وإستبدلوها بعصرِ الملوك الذي لم يكن أفضل.
مثّل طابعُ الدينِ اليهودي أولَ حكم ديني عميق الاستبداد، يمركزُ قوة سكانية صغيرة محدودة المعرفة والجذور في المنطقة في مواجهة شعوب واسعة وثنية، فكان لا بد أن يتوقع بقوة، وفي زمن إنكسار الدولة عبر الغزو العراقي، أتيح لرجال الدين الجدد في بابل أن يعيدوا صياغةَ اليهودية بحيث تتجذر في تراثِ المنطقة الخصوبية بدون أوثانها، فكانت إعادةُ نظرٍ شاملة مؤدلجة مسيسة إستلهمت التراث المناطقي الواسع الضارب في الجذور عبر مسحة تهويدية قُدمت فيما بعد للعالم المسيحي.
لكن بعد هذا كان زمنُ الشتات، الذي ترسختْ فيه القوقعةُ الدينيةُ لدرجة العصاب اليومي، وكل هذا العصاب يجري من أجل العودة لفلسطين الأرض التي تفيض لبناً وعسلاً، أرض الأجداد والتاريخ(العظيم) الذي زُخرف وبُولغ في عظمته وبطولاته.
التقوقعُ خلقَ رغبةً عارمة في تشكيل وطن قومي ديني، مفارق للبشرية، أتاحته القدرة اليهودية في تكوين رأس المال، لكن حين ظهر الوطن ظهر كقوقعة محصنة معادية للمحيط، وبقاؤه ك(جيتو) كان لا بد أن يهيمن عليه رجالُ الدين المتعصبين المنتجين لهذا المجتمع عبر عدة آلاف سنة، فكان لا يمكن أن يكون علمانياً، وأن يغدو ديمقراطياً يقبل بتنوع المواطنين الديني.
ونظراً لنشأته العسكرية فإنه إعادَ إنتاجَ نفس موديل الزمن القديم، حيث الهيمنة العسكرية- الدينية المتداخلة، وهذا هو ذات التركيب للمجتمعات المتعصبة والفاشية، حيث العرق أو المذهب هو المحدِّدُ لتكوين الدولة الإلهية أو الطائفة المنصورة.
لكن الإنشاء من قبل الرأسمال الكبير المتكون في ذروة الغرب كرّسَ من الخارج شكلاً حداثياً متطوراً، وهو بناءٌ إقتصادي متطورٌ لكن عبر شكلٍ سياسي إيديولوجي يعودُ لقرون غابرة ويفرضُ نفسَهُ بهذا التسلط التراثي المرعب، فالمضمونُ لم يغير الشكل والشكلُ يخربُ المضمون. وكأن الرأسمالَ الأمريكي عادَ لبيتِ أيل ويغتسلُ تحت مطر إلهِ البراكين.
الطابعُ العسكري الديني المحافظ العنيفُ المكرّسُ في الماضي والحاضر، وسببُ خرابِ الحكم القديم هو نفسه يزعزعُ إسرائيل المعاصرة، حيث قاد ويقود لتكاليف رهيبةٍ على كل جبهات النزاع فلم يؤدِ التطور الاقتصادي لرفاهية السكان المنتظرة، ولم تغدُ أرضُ الحلم التي تفيضُ عسلاً ولبناً، بل هي أرضُ الحروب والخصومات المستمرة، وإرتفاع تكاليف المعيشة بحيث أن ثمن شقة في يافا يصل إلى مائة وخمسين ألفاً من الدولارت.
التقوقع الداخلي الذي لم تهزمه الحداثة والديمقراطية، ما زال مصراً على الأنا المطلقة المتحدثة مع الإلهِ وحيدةً دون الأغيار، لكن الصراعات الاجتماعية ومطالب الأغلبية العاملة تكسرُ جزءً من هذا الإنكفاء التاريخي، وها هي تثور مثل العرب سكان العالم الثالث، تطالبُ بأقل بكثير من تلك الأرض الحلم، تطالب بالإسكان وتخفيض الأسعار.
ويتضح النهجُ اليميني المتطرف أكثر في عدم القبول بالعيش المشترك مع الفلسطينيين في دولةٍ علمانية واحدة أو في بلدين منفصلين، وتحميل الفلسطينيين تكاليف الأزمة الاجتماعية الناشئة من سلسلة طويلة من الحروب بتوسيع المستعمرات وحصار غزة.
ولم يستطع التكون الحداثي أن يفرض تحولاً في هذه الثقافة الدينية الرجعية المتكلسة بل هي التي تخترقُ التيارات الحداثية الظاهرية وتحيلها لأشكال أخرى من المقاربة الدينية.
فكلما كانت التربية المحافظة مسيطرة منذ الطفولة في أشكال حادة عصابية فإنها تحيلُ المواطنَ الحداثي إلى كائنٍ يعودُ يومياً لعصور الهامشية على حدود مصر ويمضي (التيه) في سيناء ويعيشُ الكراهيةَ الدائمة للأمم الأجنبية. ولهذا فإن اليسار الحكومي يشترك مع اليمين الديني المتطرف في حكومة واحدة تغتصبُ الأرضَ وتحيل الاقتصاد إلى إقتصاد عسكري يقع عبئهُ على السكان الذين لا يجدون قوة سياسية كبيرة ترفض إقتصاد الحرب ودولة الدين العسكرية.

بعثُ المسيحيةِ في روسيا
هناك حراكان أساسيان في الشرق: حراكُ الأديانِ وحراك الأمم، وهناك الحراك المتواري الخادم لهما وهو حراكُ الطبقات.
حين يتعارض وحين يتوافق الحراكان تتشكلُ النهضات والأزمات والتطورات المختلفة في سديمٍ غامضٍ متناقض يعتمدُ حسمه على مستوى تطور الطلائع السياسية والفكرية وفهمها الديمقراطي أو قولبتها الشمولية لقوانين البُنى الاجتماعية.
في روسيا مثالٌ دقيقٌ على ذلك، إن الإنبعاثَ القومي الروسي كان متوارياً متداخلاً مع المسيحية، وكان إختيارُ الأرثوذكسية عبر مئات السنين بدءً من النهضة الإقطاعية والتوسع الملكي الروسي خاصة، وتعانقها مع القيصرية، ليس حدثاً عفوياً.
لقد قام المذهبُ بإستجلاء القومية بشكلٍ باطني حدسي، ثم صعدتْ القيصريةُ، وجعلتَ المذهبَ القائد التابع تحت سلطتها. وهذا يعبر عن ضخامة الملكيات بين الجانبين وهيمنة السياسة على الدين، فحراكُ السياسةِ أخطر وأكثر أنانية.
نزلت قبائلٌ من منطقة شمال أوربا واتحدت بالعناصر السلافية وشكلتْ القوميةَ الروسيةَ التي غدت الكنيسةُ الأرثوذكسية مظلتَها العبادية، وغدت القيصريةُ مطورتَها السياسية، وكان طردُ المغول بدايةً كبرى لهذا التوحد، ثم تنامتْ السيطرةُ على شعوبِ آسيا المسلمة، فوجدتْ القيصريةُ نفسَها مهيمنةً على دينين كبيرين عظيمين هما المسيحية والإسلام.
إن المذهبَ الأرثوذكسي بحدِ ذاتهِ يمثلُ حراكاً خاصاً في المسيحيات، فهناك مسيحيتان أخريان البروستانتية والكاثوليكية، تهيمنانِ على أوربا وأمريكا الشمالية والجنوبية وأصقاعٍ أخرى عديدةٍ في الشرق، وهما تمثلان درجتين من التطور الرأسمالي المتقدمِ أو المتخلفِ أكثر من التطور في الأرثوذكسية، التي هي الأكثر محافظةً، نتيجةً لارتباطِها بالدولِ الأكثر إستبدادية في العالم وتعبيرها عن الإقطاع الشرقي المسيحي الحكومي المطلق.
ولهذا فإن التطورَ القومي الروسي كان أسرع من التطور الديني الروسي.
لقد كان تصاعدُ الأدواتِ السياسية ميزةً فريدةً لروسيا كما أنه مثلَّ مشكلاتٍ لها كذلك، فقد قامتْ بتحرير روسيا من الغزاة وخلقتْ أمبراطوريةً كبرى وجذبتْ شعوباً مسلمة ومسيحية إلى سيطرتها ولكن كل ذلك عبر القوة، ثم شعرتْ بضعفِ تطورِها، وبتخلفِها عن أوربا، فتركتْ الشرقَ وجاورتْ متعلمةً من أوربا، وشجعتْ الأفكارَ التحديثية وقزمتْ بعضَ الشيء من الكنيسة، لكن هذا اللحاق لم يصلْ بها إلى نهضةٍ صناعية مماثلة للغرب.
وكانت السياسةُ قد صعدتْ الليبرالية والماركسية، وغدتا هما الأداتان المنتظرتان للحداثةِ المنتظرة، لكن كم التخلف الإقطاعي وضخامة المشكلات الاجتماعية، ورغبة بعضِ النخب في الركض الحضاري، جعلت من الماركسيةِ هي العاصفة لاجتياحِ عالمٍ متكلسٍ من الإقطاع القيصري ومن الإقطاع الكنائسي معاً.
هذا الاجتياحُ السريعُ أدى إلى نقلِ روسيا ومعها الشعوب المُلحقة إلى رأسمالية حكومية متقدمة، قامتْ بمهماتٍ تحويلية ضخمة، كان من أهمها تشكيل الصناعات الكبرى وتغيير وضع الشعوب الثقافي وتحرير النساء من الهيمنة الذكورية المطلقة والمساهمة الأبرز في هدم نظام الاستعمار العالمي.
إن روسيا جرّتْ معها عالماً شرقياً إسلامياً متخلفاً نقلتهُ بدرجاتٍ كبيرة إلى الحداثة، فثمة دينان كبيران يجريان مع تجربةِ الاتحاد السوفيتي تم السيطرة عليهما من أجل التسريع التحديثي المؤلم القاسي العظيم في ذات الوقت!
كانت المسيحيةُ هي الاكثرُ حضوراً وهي المؤسسةُ لروسيا العالمية هذه، فيما كان الإسلامُ هو الملحقُ بهذه التجربة، ويمثل شعوباً بسيطة شعرتْ بالسعادة للأخ الروسي البلشفي الكبير وهو يتوحد معها وينقلها لعالم متقدم.
تحولت الدكتاتوريةُ في المجال السياسي إلى دكتاتوريةٍ إيديولوجية باطشةٍ بالأديان خاصة الأرثوذكسية العمود الفكري للنظام القيصري الذي لم يحتجْ هدمهُ إلا إلى ذبحِ العائلة المالكة الصغيرة، فيما المذهب المسيحي له ذو جذور عريقة وهو مؤسسُ روسيا الفكري فبقي ضارباً في الجذور التحتية للشعب. وبسببِ التخطيطيةِ المجردة والقوالبِ المفروضةِ من فوق وعبر الدهس البيروقراطي تحولتْ الماركسية إلى الدين التحديثي المفروض، وإلى قوالب حديدية فكريةٍ منزلة، وبالتالي فإن (الدين) الحكومي الشمولي كان إنعكاساً لسحقٍ سياسي للمُلكيات وإختزالاً متعسفاً للتطورِ وللتنوع، بدلاً من التدرجِ الصبورِ وخلق جدلية بين المُلكيات العامة والخاصة، وإستثمار الديمقراطية على نحوٍ متقدمٍ تاريخي طويل متدرج بدلاً من التعسف السريع، وكانتْ هذه الملامحُ موجودةً كبذورٍ لدى لينين في العشرينيات من القرن العشرين خاصةً في برنامجهِ المُسمى(السياسة الاقتصادية الجديدة: النيب) لكن الدكتاتوريةَ المتصاعدة إختزلتْ كلَ شيء.
ولهذا نجد إن النزعات الديمقراطية والليبرالية داخل المجتمع الروسي ضعيفة في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، وكانت ضخامةُ الدولةِ الهائلةِ تعبيراً عن عجزِ القوى الشعبية عن خلقِ تطورٍ ديمقراطي جماهيري، فظهرتْ قيصريةٌ(إشتراكية) قامتْ بمهماتِ التغيير الحداثي بالرعبِ الدموي، عبر سحقِ عالم الإقطاع بصورةٍ ضارية دموية وكذا سحق عالم البرجوازية المحدودة مما أنعكس على القمع البيروقراطي للأديان دون قدرة أبدية على فعل ذلك، وبالتالي فإنها لم تُصعد الشعب العادي لقيادة المسرح ولا أن تنشرَ الفكرَ الديمقراطي.
كان إنهيارُ الاتحادِ السوفيتي يعبرُ عن الصيغةِ غيرِ المنسجمةِ بين النهضةِ الحديثةِ والدكتاتورية، بين إزالةِ الأديان وإعلاء شأن الجماهير، بين الإشتراكية كذروةٍ للتطورِ الإنساني والبيروقراطية المتصاعدة الجاثمة عليه، بين الأخاء الأممي وتقدير الديانات البشرية وبين التعسف، بين الماركسية كإحدى قمم المعرفة الحديثة وبين الحكم البوليسي المدمر المقولب لها.
لقد تنطع الشرقُ المتخلفُ للمهماتِ البشريةِ الكبرى فجمعَ بين الإنجازاتِ العظيمة والمشكلات المؤلمة.
المواقف تجاه الأديان كانت إحدى المحكات الكبرى لذلك، وبينما وجدت الصين دينين محايدين خافتين بعيدين عن النزاعات السياسية الضارية، جابهتْ روسيا الارذكوسية المتشبثة بالسلطة وبرعاياها الكثيرين. لكن السلطة الجديدة لا تعرف التدرج والديمقراطية فتقوم بتصفيتها بشكلٍ إداري ساحق:
(أممّت جميع الأراضي التي تملكها الكنيسة إلى جانب جميع المدارس المذهبية. وبعد ذلك بقليل صدر مشروع القرار في الفصل بين الكنيسة والدولة. واستناداً إلى هذا المشروع، قامت السلطات المحلية بأعمالِ نهبٍ وعنف).
ليس ثمة حدودٌ هنا بين قانون فصلِ الدينِ عن الدولةِ وبين عملياتِ القمعِ ضد الكنائس والمساجد، ففي حين يمثل الجانب الأول تقدماً في مسار الدولة، يمثل الآخر تقهقهراً وإعتداءً، وتصاعدت الموجةُ مع تنامي الدكتاتورية التي لم تُردْ أن تتعايشَ مع القوى الاجتماعية الأخرى والمتجسدةِ عبرَ الأحزاب والأديان، فغدتْ هي المحتكرُ الأولُ والأخير للثروتين المادية والروحية.
فازدهرت معسكرات الإعتقال ومن سنة 1924 حتى سنة 1934 وهي فترةُ صعود الستالينية الهوجاء دُمرت ألوفُ الكنائس وأُحرقتْ الكتبُ الدينية ولم تبقْ أي مدرسةٍ دينية منذ 1925.
رغم الانجازات المادية الكبيرة للثورة فإن غياب التنوع، وهمينة البيروقراطية كان له مفعول ثقافي سيء وهو إنتشار الخواء الفكري وحدوث الاغتراب وبقاء المسيحية في الظل المتواري لدى الجمهور الشعبي وإنتشار المسكرات وعدم تصاعد الفاعليات الاجتماعية بعد عهد الثورة التضحوية حيث قام الملايين بالإنشاءات الكبرى بأجورٍ زهيدة، وتحولت الإدارات إلى قوى البرجوازية الطفيلية الكامنة، ومن هنا سوف تظهرُ البرجوازيات العلنيةُ المنتفخةُ بأموالِ الفساد في كلِ جمهورياتِ الاتحاد السوفيتي المتفتتة.
هذا أمرٌ طبيعي في كلِ ثورة تفتقدُ إنشاء القنوات الديمقراطية، ولا تقوم بالعلمانية، جاعلةً للأديانِ مسارات حرة، وللسياسات مساراتها المستقلة، وعبر هذا المسار الصدامي بين الماركسية الحكومية والمسيحية تشكلتْ أجيالٌ خاويةٌ من الجانبين، فالصيغ الماركسية البيروقراطية تلك ليست قادرةً على التحليلات المركبة وفهم تحجر قوى الإنتاج البشرية والمادية، لكونها غير ديمقراطية على المستويين، في حين أن المسيحيةَ بقيتْ شكلانيةً شعائرية، ومع هزيمة الأولى صعدت مرة أخرى بذات شعائريتها الصعبة من حيث اللغة والعادات. وهذا أمرٌ أتاحَ للمسيحيات الأخرى غزو روسيا مع تصاعد رأس المال الأجنبي.
بالنسبة للمسلمين كانت العمليات لا تختلف في العالم الآسيوي الأكثر جموداً في فهم الظواهر الدينية، وكان القهرُ هو نفسه، لكن ردود الفعل هنا أكثر حدة لدى الشعوب الأقل تطوراً كالشيشان، ولكون المظلة التقدمية المشتركة للأديان والقوميات سقطت، وإنقسم الناسُ بشكلين كبيرين إلى مسيحيين ومسلمين، لكن بقيتْ القومية هي المشكلةُ للنزاعاتِ بدرجةٍ كبيرة، وحدثتْ كوارثٌ رهيبةٌ بعودة الصراعات الدينية والقومية.
ورثت الطبقاتُ البرجوازية الحكوميةُ جسمَ الاتحادِ السوفيتي المُفككِ، وحركتْ عجلات التطور الاقتصادية بشكلٍ هائلٍ وتغيرتْ الخدمات لكن أغلب التطورات جرتْ لمصلحة القوى الثرية الجديدة، وتفاقمتْ المشكلاتُ الاجتماعيةُ والاقتصادية على الطبقاتِ العاملة، وإنطلقتْ المعاهد الدينية والكنائس والمساجد بحرية، وأعيدت موادٌ دينية للتعليم بشكلٍ متنوع حسب عقائد وآراء الطلبة.
كان هذا الحراكُ على المستويين الاجتماعي والروحي يستهدفان تكريس سيطرة الطبقات الجديدة، وهيمنة أحزابها، لكن نجد أن الثقافة الدينية لم تعد قادرةً على فعلِ أشياءٍ كبيرة في الساحاتِ الاجتماعية والسياسية والفكرية خاصة في روسيا والجمهوريات الأوربية السوفيتية السابقة، وإنبعثت بالشكل الإيماني التقليدي، وأستخدمت من أجل تصعيد الأحزاب القومية، وعرقلة عودة اليسار السابق، الذي لم يتطور قسمٌ كبيرٌ منه ولم ينتقل للاشتراكية الديمقراطية. أي أن إعادة النظر الديمقراطي في ذلك التاريخ السابق الهائل المهيمن يحتاج إلى ثقافة جديدة ونضالات معاصرة.
يُنتظر أن يحدثَ هذا الجمعُ الجدلي في التاريخ القادم بين الحفاظ على مصالح الأغلبية الشعبية والتطور الإنتاجي المتقدم وإحترام عقائد الشعوب.
وهكذا فإن بعثَ المسيحية في روسيا لم تكن له آثار سياسية كبيرة، وإذا كانت السلطاتُ قد إستغلتهُ لتأسيسِ سلطةٍ جديدة فهو لم يحجبْ المشكلات العميقة لفترتي الدكتاتورية بشكلِها السوفيتي، وبشكلها الرأسمالي الحكومي الراهن، وما تزال الثقافةُ الروحيةُ بكافةِ صورِها غريبة عن الناس، شكلانية في أغلبها، وفُقدت مؤسساتٌ ثقافية كبيرة عبر هذا الدهس التجاري الراهن.
ذبولُ المسيحيةِ في الغرب
الأديانُ حصيلةُ حضاراتِ الشعوب والأمم، إنها قوى ومداركٌ وعاداتٌ ونضالاتٌ إرتبطتْ بأزمنةٍ موغلة في القدم، وحددتْ أشكالَ السلطات والعلاقات الاجتماعية والخيال البشري وحدوده، وشكلتْ روابطَ ضروريةً لكيفيةِ التغييرِ والثبات الاجتماعيين من الفرد المحض مروراً بالأسرة حتى الكيان السياسي العام.
كانت راياتُ الشعوب للوحدة والحرية والإستقلال والتقدم، وكانت أدواتٌ لقوى الإقلياتِ الحاكمةِ تستغلُها في تثبيتِ أمتيازاتها وتفسرُها بطرائقِها التي لا تنفد.
في الغرب الذي صعدتْ فيه إراداتُ الشعوبِ لمستوى الذروةِ وقد ساهمت الكنائسُ في هذا الصعود، مثلما إندغمتْ مع قوى الإقلية كذلك بشكلٍ مطولٍ جداً في العصور الوسطى الغربية، هذا الغرب تطورَ في بناه الاقتصاديةِ والثقافية لدرجةٍ أخذ ينفصلُ عن بنيةِ الأديانِ العتيقة، إن بقاءَ الأقلياتِ الحاكمة في تثبيتِ الدين وبقاء أقسام من الطبقاتِ العاملة في ظل هذا الوعي، يمثلان التكريسَ السياسيَّ القديم، والبقاءَ ضمن البناء الثقافي المحدود. إن مسارَ إستخدامِ الدين كأداةٍ للتخديرِ الاجتماعي لم يعدْ مفيداً للطبقةِ العليا رغم بقاء طرقها القديمة في إعتبار الدين مانعة الصواعق الاجتماعية، كما أن قوى البسطاءِ غير الملتحمين بمنجزاتِ الثقافة المتطورة يتواصلون على ما في الدين من مضامين إنسانية بسيطة ومن رحمة ومساعدة ومن تصدٍ لمخاوف مستمرة من المجهول ومن الكوارث المحيطة بهذه الطبقات الشعبية المطحونة.
أما بالنسبة للمثقفين والفئاتِ المميزة الميسورة فهي فئاتٌ إنفصلتْ عن الشقاءِ المادي الذي كان علامة الارتكاز الأولى للأديان، وعن المحدوديةِ الروحيةِ كذلك، كما أن مستوياتِ معرفتِها تناقضتْ بشدةٍ مع معارفِ الأديان ومع مادتها الفكرية القائمة على الغيبياتِ والصورِ المفارقة وعلى الأشكالِ التي غدتْ لامعقولةً لها، فهي تكرسُ العلومَ وثوراتها الجديدة وتكتشفُ آفاقاً هائلةً من المعارف في كلِ مجالاتِ المعرفة، ولهذا فإنها لا تتفقُ مع تلك المادةِ الهائلةِ البشرية الفكرية – الاجتماعية الدينية التي تجمعتْ خلال ألوف السنين، لكنها لا تفارقُها من حيث التشريح ومن حيث إكتشاف سببياتِ نشوئِها بتلك الأشكالِ وأدوارها وتداخلها مع الأشكالِ الأخرى من الوعي والوجود الاجتماعيين البشريين ومن حيث إعتبارها تراثاً مؤسساً قيماً في عصوره. فهي لا تستهينُ بها، ولا تحتقرها، وتجعل للبشر مستويات متعددة مستقلة من الآراءِ والإراداتِ والتنوعِ الذي يحترمُ بعضهُ بعضاً رغم الاختلاف ويناضلُ مع بعضهِ البعض لأجلِ قضايا الناس الذين لا زالوا مهددين بالاستغلال والقهر والحروب.
في سنة 1957 أصدر الفيلسوفُ البريطاني برتراند رسل كتابَهُ؛ (لماذا لستُ مسيحياً؟) محدداً أسبابَ إلحاده؛ (في الكتاب المذكور عالج راسّل المحاورَ التي جعلتْ المنظومةَ اللاّهوتيةَ في الدّين المسيحي، ولواحقها المؤسّسية السّلطوية، غير قابلة للتعايش مع العقلانية والدّيمقراطية، اللّتين تطبعان الفكر والمجتمعات الحديثة)، (نقلاً عن عزالدين عناية، موقع أنفاس من دراسته الكنيسة ومكاره الحداثة).
إن الإنفصامَ بين بُنية الأديانِ القائمةِ على وعيٍّ أسطوري للعالم، وبين بُنيةِ المدارسِ الفكرية الحديثة، إنفصامٌ غيرُ قابلٍ للالتحام، ومتضاد بقوة، وإذا كانت ظروفُ التخلفِ والفقرِ ومحدودية الثقافة العلمية في الشرق تجعلُ من الأديانِ ظاهراتٍ قديمةً متماشيةً مع مستويات المجتمعات، فإن ذلك غير موجود في الغرب، فيتسعُ التناقضُ بينهما بشكلٍ حاد، ولكن آليات الثقافة والديمقراطية والتنوع تمنع الأصدام الجاهلي.
(ففي مطلع العام الماضي نشرتْ مجلّةُ “عالمَ الأديان” الفرنسيّة ملفّاً خاصاً عن الكاثوليكية في فرنسا، التي درجَ نعتُها بمقولةِ الكاردينال لانجينيو سنة 1896 “فرنسا، البنتُ الكبرى للكنيسة”، بينتْ فيه أن تلك الرّيادة في الغرب، دبّ فيها تراجعٌ مذهلٌ، منذ الثّورة الفرنسية ومنذ إعلان قانون فصل الدّولة عن الكنيسة سنة 1905، وذلك لعدّة أسبابٍ: منها النزوح عن الأرياف وثورة العوائد وتصاعد الفردانية، ويتواصل ذلك الانحدار بدون توقّف حتى الرّاهن.
مازالت ممارسة الشّعائر بشكلٍ منتظمٍ المقياس الأكثر رواجاً في قياسِ التديّن، وفي الحالةِ الفرنسية تشهدُ انخفاضاً لافتاً، فهي لم تعن سوى 10% من الفرنسيين خلال 2006. والاعتقاد في الله الذي بقي تقريباً مستقرّاً حتى منتهى السّتينيات، حوالي 75%، تنازل إلى 52% مع 2006. كما أن 7% فقط يرون أنّ الكاثوليكية هي الدّين الصّحيح فحسب، وارتفع عدد الذين يقولون أنهم “بدون دين”، حيث بلغوا 31%. ويزدادُ تباعدُ النّاسِ من المؤسّسةِ الدّينية، خصوصاً حين يتعلّق الأمر بمسائلَ ذاتِ صلةٍ بالأخلاقِ والانضباط، إذ نجد 81% مع زواج رجال الدّين، و79% كذلك مع ترقية النّساء للمناصب الدّينية. خسر إكليروس الكنيسة تقريباً كافة سلطته الأدبية على المؤمنين في فرنسا.) السابق.
نستطيع أن نقول بأن السلطةَ الكنسية خاصةً في الكاثوليكية تمازجتْ بقوةٍ مع الإقطاع القروسطي، وغدا تفككها من هيمنته محدوداً، وكان صدور القوانين العلمانية وإنفكاك السلطتين السياسية والدينية سنة 1905 تعبيراً عن التفارق بين البنية الحديثة والبنية التقليدية وإنه وصلَ سياسياً رسمياً إلى الذروة، لكونِ السلطةِ الرسمية وجدتْ نفسَها مسئولةً عن إدارةِ مجتمعٍ حديث ولكونِ أفرادهِ مواطنين لا دينيين، فهي غيرُ معنيةٍ بإيمانهم، بل بمواطنتِهم، فيغدو الإيمانُ أو اللاإيمان من قراراتِهم الشخصية، في حين أن الكنيسة غير معنية بالمواطنين بل بالمؤمنين، وهي تقوم بالحفاظ على البنية الاجتماعية القديمة الموروثة من آلاف السنين، سواءً من حيث العلاقات الاجتماعية التقليدية أو من حيث الأفكار، فهي كيانٌ غيرُ ديمقراطي في مجتمعٍ ديمقراطي، ومن هنا كان عدمُ صراعِها مع الفاشيات الأروبيات، ومسالمتها لها، لكن علاقاتها لا تنقطع مع الدول الحديثة فهناك محطاتٌ إلتقاء كبيرة لوجود أسس مشتركة بينهما.
تعبر المذاهبُ المسيحية الكبرى عن تباينات الأمم الغربية – الشرقية المعتنقة لهذه الديانة، وتعبر ما تُسمى بالأديان السماوية الثلاثة عن منهجيةٍ مغايرةٍ لبقيةِ الأديان في العالم، في تشكيلاتٍ فكريةٍ – تعبيريةٍ – إجتماعيةٍ تاريخية تمثلُ منطقةَ المشرقِ(العربي)، وهي تتويجٌ للحضاراتِ القديمة في ذاتِ المنطقة، فحملتْ العلاقةَ الوطيدةَ بالسلطاتِ وبالهيمنةِ على الشعوبِ وبالمركزيةِ ورفض التعددية، وبالتغلغلِ في حياتِها، إيجاباً وسلباً، وحملتْ هذه المضامينَ الغائرةَ فيها إلى مختلفِ بقاعِ الأرض التي رُحلتْ إليها عبرَ حراكِ الشعوب، وكلٌ من خلالِ مساراته المركبة.
لقد نشأتْ ضدَ الفرعنةِ وإصطبغتْ بها عبر الأنظمة، وغدت تكويناتٍ شموليةً، أخذ بعضُها يتفككُ في الغرب، بسببِ تحوله الديمقراطي، عبر الليبرالية والبروتستناتية، التي رحلتْ للمواقعِ الأكثر رأسماليةً، وفي المناطقِ الأقل تطوراً سادتْ الكاثوليكية، خاصةً في جنوب أوربا وفي أمريكا اللاتينية، رغم أن بلدين كفرنسا وإيطاليا متطورين رأسمالياً ظلا أساسيين مهمين للكاثوليكية.
إن هذين المذهبين أقرب للديانتين المنفصلتين، رغم المظلة المشتركة، ومنهما نشأتْ مذاهبٌ كثيرةٌ حسب الإيقاعات المعقدة لهذه الدول وحراكها.
إذا كانت البروتستانتية قد فككتْ علاقات الدين بالسلطة فإنها كذلك راحتْ تفككُ هيمنةَ الكنيسةِ على الناس، لكن من دون الخروج عن الثقافة الدينية المسيحية نفسها. فهم(لا يؤمنون إلا بالكتابِ المقدس فقط، ولا يقبلون كلَ القوانين الكنسية، ولا المجامع المقدسة وقراراتها، ولا يلتزمون بتعاليم الآباء. وبالتالى لا يقبلون كلَ ما قدمهُ التقليدُ من نُظمٍ كنسيةٍ.)،(عن موقعٍ كنائسي قبطي).
إن الاختلافات الاجتماعية وعمليات التغيير الفكرية التي جرت فككتْ العلاقات السلطوية للمسيحية، وجعلتها مستقلةً خاضعةً لحريةِ الفرد، أي قامتْ ببرجزتها، في حين بقيتْ المذاهبُ الأخرى خاضعةً للكنائس كسلطة إجتماعية شمولية.
إن طائفةَ (المحتجين) هذه وهي البروتستانتية تحركتْ بشكلٍ أكبر في الأوساط التحديثية، رغم أن بعضَ شيعِها تتعصبُ بشدةٍ في مسائل معينة حسب إيقاعات التطور التاريخي التي جرتْ لها، فهي مذهبياتٌ معقدةٌ لا يمكن دمغها بصورةٍ كلية. لكن المناخَ العامَ هو إستمرار الحريات وتوسعها فيها، فراحت البروتستانتيةُ تتقبلُ الكهانةَ النسوية مثلاً، وتتغاضى عن مسائل أخلاقية شائكة، وتخضع للسوق وتطوراته.
لكون البروتستانتية إرتبطت بالدول الأكثر ديمقراطية فقد أصابتها عدوى هذه الديمقراطية دون أن تتخلى بطبيعةِ الحال عن الانتماء للغرب وللرأسمالية وعن دعم اليمين، لكن في الدول الكاثوليكية كان إنتماء الكنيسة لليمين المحافظ أقوى، ودعمت قوى اليمين الرجعي، وفي أمريكا اللاتينية إرتبطت بالدول الإقطاعية ودعمت الأنظمة الشمولية، وظهرتْ نزعاتٌ قليلةٌ إنتمتْ للفلاحين فيما عُرف بلاهوت التحرير.
(استشعرَ الرّاهب لويجي جيوساني (1922-2005) مؤسّسُ حركة “تناول وتحرير” في إيطاليا تواري المعنى اللاّهوتي والوجودي في المسيحيّةِ المعاصرة، برغمِ نفاذِ هيمنتِها في المجال السّياسي، كما الشأن في إيطاليا عبر “الديمقراطية المسيحية”)،(عن الكنيسة ومكاره الحداثة، السابق). والمقصودُ بالديمقراطيةِ المسيحية هنا هو أحزابُ اليمين التي هي علمانية ولكن جذورَها الشعبية دينية.
وفي أمريكا الجنوبية يتزايد إنتشار البروتستانتية والأفكار الديمقراطية واليسارية عموماً وتتراجعُ الكاثوليكية، بسببِ عملياتِ التغييرِ الواسعةِ التي تجري بعد زوال الأنظمة الشمولية فيها.
في فرنسا التقدمية العلمانية عموماً لا تستطيعُ الديانةُ هنا أن تؤثرَ بشكلٍ كبير، بخلافِ إيطاليا مقر البابوية، تقول(عالمة الاجتماع الدّيني الفرنسية دانيالي هرفيي ليجي، المهتمة بمصائرِ المسيحية في المجتمعاتِ الغربية، في كتابِها: “نحو مسيحية جديدة” ترى أنّ أزمةَ الكاثوليكية التي صارتْ أثراً جليّاً، تتلخّصُ في عدمِ قدرتِها على طرحِ خطابٍ مقنع للنّاس، وما عادت طرفاً في المشهد الثّقافي الفرنسي، فهي متّهمةٌ بقدامتِها في وعي الجسد، والأخلاق، والعادات، وليس لها الأدوات الثقافيّة في مستوى الزّمن الحالي.)،(السابق).
إن تباينَ مستوياتِ التطورِ الاجتماعي بين القارات والمناطق قادتْ إلى تشكيلاتٍ ثلاثٍ كبرى في المسيحية تعكسُ هذا التطور المتباين، وحدوث ذلك في المسيحية بشكلٍ كبيرٍ وواضح هو لكونها تواجدتْ في أكثر البلدان حداثةً، وذلك لا ينفصلُ أيضاً عن الجذور القومية لكلِ مجموعة، ولا عن مصالحها التاريخية، ويغدو ذلك كله فضاءً وسوقاً.
أما التوحدُ العالمي الأوسعُ فهو كذلك مرتبطٌ بتضاؤلِ الرأسمالية القومية وبنشؤ الرأسماليات الكبرى المندمجة وذوبان الأمم في بعضها، ونمو الحريات والأفكار التحديثية وذلك من شأنه أن يلقي بظلاله كذلك على المذاهب الكبرى المسيحية.
ثمة حراكٌ عالمي هائل في المسيحية مثل إنفصال الكنائس في العالم النامي وبحثها عن مصالح شعوبها، وحدوث تمردات وبحوث في ما هو ممنوع ومسكوت عنه، وتجري عودة لدراسة المسيحية الأولى ذات التاريخ المشاعي الخ.
عموماً إنهما شكلان من الرؤى الكبرى البشرية؛ الديانات والحداثة، كلٌ منها ينتمي لعصورٍ مختلفة، ويتواجد الشكلان بالضرورةِ الحتمية بتداخلِ المراحلِ والتشكيلاتِ التاريخية، ويتفارقان ويتصارعان. لكن ليس ثمة ذوبان بين الشكلين اللذين إكتسبا سمات جوهرية منفصلة لكلٍ منهما.

الأديانُ أكبرُ من الأنظمة
تقوم الأنظمة دائماً بتمثيل عنيف ومستبد للأديان، تقول بأنها الوحيدة الممثلة للديانة، وما عداها هرطقات أو انحرفات.
هي محاولاتٌ عنيفة عاطفية، وفكرية، ومتشنجة أو عقلانية مدعية، أوتعصبية قاتلة، أو إلحادية مضادة ساحقة، وغير هذا من المحاولات لتمثل الأديان أو نفيها.
لكن الأديان أكبر من الأنظمة.
والمسألة تعود لسر بسيط هو أن مؤسسي الأديان كانوا أصحاب تضحية، ودمجوا تضحياتهم في الرموز الدينية.
ومن الجهة المعاكسة كان مشيدو الأنظمة قوى إستغلال وقهر للأغلبية من السكان.
فكان مشيدو الأنظمة يسحبون الأديان لتلائم أسرة أنظمتهم، فإذا زادت الأديانُ قطعوا أطرافها وإذا تقصلت سحبوها بأدوات الجر الثقيلة من مثقفين وجلادين.
والغريب هو أن الأديان تغلبت في حضورها على الأنظمة الفكرية الحديثة المنتجة في الغرب.
وقد قامت تلك الأديان الناشئة في الأزمان القديمة على أبطال فرديين كبار، رهنوا أنفسهم لتضحية جسيمة، وطرحوا نموذجاً للعلاقات الاجتماعية يتجاوز عصرهم، وفيه بذرة مهمة للتعاون الإنساني الكبير مثل قول الأنجيل والقرآن معاً بأن الأرضَ يورثها الله للفقراء والعبيد، وهو قول يتفق مع البيان الشيوعي ياعمال العالم اتحدوا!
الأنبياء والأئمة والمجاهدين والمضحين على مر العصور قاوموا في أزمنتهم قوى الاستغلال، فكان هذا هو الخالد الباقي في الأفكار والأديان، وهي أقوالٌ عامة تصلح لكل زمان ومكان، ومع هذا فهي مجردة، غير محددة بخطط تناسب كل العصور، رغم أن الرسالات الدينية في زمنها حددتْ الموقفَ السياسيَّ الدقيق في عصورها.
ومهما تضاربت الأقوالُ في المسيح ومهما كثرت الروايات والمذاهب وتعددت الاجتهادات، فإن القصة تقومُ على رجلٍ مضح، قال بعضهم أنه صُلب لأنه ابن الإله، وقال آخرون بأنه إنسان وصُلب، وقال آخرون بأنه لم يُصلبْ لأن الله نجاه، وقال آخرون وآخرون كثيراً من الروايات.
لكنهم اتفقوا جميعاً بأنه إنسانٌ مضح، لم يقل أحد بأنه مزور أو كاذب، أو إستغلالي، وانشأ شركة ليلتهم أموال المودعين، أو انشأ دولة جعل أموالها في جيبه.
أخذت الناس على مر العصور تضحيته الرمزية، لكن التابعين له والمؤسسين الدول باسمه، لم يصلوا إلى نموذج تضحيته، والصليبُ دليلُ المعاناة، فالشوك والجراح والوقوف المقيد على الخشب الصلد، ليس سوى أمثولة للمعاناة في اقصى حالاتها، ليس سوى رمز للتضحية، فدع عنك المماحكاة في حقيقتها، فما هي سوى صورة للإنسان المعذب في كل العصور، والضحية والرمز القائد للذوبان والامتثال لقوى البطش.
فهذه الصورة للصليب الكنائسي المعاصر ثبت علمياً إنها غير دقيقة، ولا تتطابق مع نماذج الصلبان الذين يتم الإعدام عليها في ذلك العصر وبمقاييس الخشب ونسبه وبأجسام المصلوبين عليه!
ولكن ليس المهم الحيثيات الصغيرة الملموسة، ولا الخيالات الشعبية، المصاحبة لظاهرات خطيرة مثل هذه لا تتكرر سوى في قرون.
وهي قرونٌ فاصلة بين عهود وعهود، فيها نهضة وتحولات لم تكن من قبل.
بل المهم هو المضمون العميق المجسد في كائن بشري يرفض خيارات المتع والسعادة الشخصية والجهل والسير وراء قطعان الذل ليطرح شيئاً آخر فيه ثورة خطيرة في العلاقات الاجتماعية، وفيه إزالة للإمبراطورية الرومانية وأنظمتها المتعسفة التي تقهر عشرات الملايين من الناس.
وكلما زادت الأنظمة إستغلالاً وبشاعة في تمثلها للرموز الدينية زادت تلك الرموز من توهجهها وتحديها لمن يتمثلها!
الأنظمة والجماعات الدينية السائدة تطرح الرموز الدينية المضحية وهي غير قادرة على التضحية بل على جمع الأموال من الناس وتراكمها للمتع!
وهذا يُحدث شروخاً عميقة مثلما أن المعلم يعلم الفضيلة ثم يعتدي على تلامذته!
من يتصدى لتعليم نماذج التضحية يُرى للجمهور وهو يحول بيته أو قصره إلى مخزن هائل للسلع، وهو يضع الحراس لحمايتها والكلاب لتتشم أي متسلل إليها،، ويحول الميزانية لصالحه ولصالح جماعته، ثم يمضي لمراكز العبادة ليحرق البخور ويعلن اللصوص والملحدين بالعقيدة والمفسرين الخطرين لها، والناسخين لفحواها!
وقد وجدت الأنظمة الغربية أن إبعاد الكنيسة عن السياسة هو أمر جيد، لكن تم ذلك للسيطرة على أراضي الكنيسة التي كانت أكبر الأملاك الزراعية، ومن أجل أن تكون مجالاً لاستثمار الحكام الجدد وأصحاب رؤوس الأموال، لكن الدين يجب أن يظل في صيغه العبادية، المحددة من قبل الكنائس لكي تنتشر الفضيلة!
لم يستطع الحكام الغربيون وطبقاتهم المالكة أن يكونوا في مستوى رموز الديانة التضحوية، والغيبية، والأمثولة المطلوبة لتواريخ البشر الراهنة والمستقبلية، وهم يعمقون الاستثمار الرأسمالي الواسع النطاق في بلدانهم وفي الكرة الأرضية قاطبة.
الاستغلال الرأسمالي هو تطور وكوارث ومشكلات، وهو تقدمٌ مصحوب بالألم وبالنجاح وبقوى التصحيح المتابعة للأخطاء، وهو يماثل على نحو ما رمز المصلوب، المرتفع والنموذج، لكن الرأسمالية تعجز عن المطابقة مع رمز المصلوب المضحي بكل شيء، ولهذا فإيديولوجيات الرأسمالية الحديثة تزول وتستمر الديانة.
كذلك فإن الديانة ذات حضور شعبي، وفي عمقها رمز إشتراكي يقول بضرورة زوال الاستغلال والملكية الخاصة لوسائل إنتاج الحياة والبقاء، وأن البشر يجب أن يتساووا ويعيشوا سعداء، ولكن ذلك يتطلب تطور قوى الإستغلال حيناً وقوى النضال ضد الإستغلال حيناً آخر وأبداً.

الأديان السماوية والتطور
تربت أغلبية البشرية على ما أُنتج في المنطقة العربية من مثل وأفكار، وقد تطورت تلك المناطق تطوراً كبيراً وظلت المنطقة العربية في تخلفها المريع!
الحضارات الأولى، عشرات الآلاف من السنين، وتجارب هائلة وعمت الإنسانية ثورات هائلة من ما أُنتج في هذه المنطقة، وظلت المنطقة العربية في ماضيها.
اليهودية والمسيحية والإسلام، الأديان الشقيقة، التي تكملُ بعضها بعضاً، ميراث الإنتاج الروحي الطويل، هي نفسها تعيش في عداء مستحكم!
لماذا؟ لماذا؟
لماذا الأشقاء تعادوا، ونبات السماء صار خناجر وسيوفاً؟
هل كان هذا من أفكار الأديان أم أن السلطات وقوى الإستغلال فرقت بين الأخوة؟!
يقولون إن مصادر الأديان هي نبع زلازل وخير، فلماذا تكدرت؟ هل لأنها خالطت الأرض العكرة وتطورات الشعوب في دولها وصراعاتها السياسية ومناحي حياتها في التجارة والسلطان والغزو؟
اليهودية أول الأديان السماوية وأقلها حضوراً من حيث الكم، وأقواها حضوراً من حيث الكيف!؟
اليهودية بدأت رعاةً وصارت فلاحين قليلين وتجاراً كثيرين وصيارفة وأصحاب بنوك مناطقية فعالمية!
نظراً لإنحباسها الشعوبي لم تصبحْ كماً هائلاً، كانت تهتمُ بالكيف المتطور، استعلتْ على الشعوب الوثنية البدائية لغايةٍ كبيرة هي أن تكون فوق الشعوب.
الكثيرُ من طقوسِها الدينيةِ هي بغرضِ أن تكونَ أقلية متطورة وسط حشود متخلفة لكي تستثمرَها ولكي تتطور هي فوقها!
علمتها تجاربُ الألمِ والمعاناةِ والأسر أن تركز على عناصر التفوق وهي التجارة المتطورة والثقافة.
ورغم مئات السنين من الاضطهاد لم تتخل عن بنائها الاجتماعي القائم على الأسرة الصغيرة والعمل بالمال ودراسة كتبها وتنقيحها باستمرار، والإضافة إليها.
ومن هنا توسعتْ خارج المنطقة العربية البدوية ذات الأسرة الكبيرة تبحث عن شرايين التجارة العالمية واتجاهاتها، فتلاقت مع المسيحية بشكل كبير، رغم قيام المسيحية باضطهادها.
والمسيحية التي نشأت متجاورة مع اليهودية تركزت على الفلاحين، أصحاب الأرض، ذوي التقاليد القديمة، الذين كانت أقدامهم في الزراعة أكثر من الاقتصاد المالي والفائدة، وتقاربوا مع اليهودية في الأسرة الصغيرة، وابتعدوا عن عالم القبيلة، وكان الثالوث الإلهي هو جزء من عالم الفلاحين التعددي، الذين كانوا طوال قرون الشرق مختلفين عن البدو ذوي الإله الواحد الصارم.
ثم كان الإسلام هو الملائم لجمهور الشرق البدوي الواسع، الممتد من الصين حتى أفريقيا، حيث الصحارى الكبرى، وحيث العائلة الواسعة، والرجل المسيطر متعدد الزوجات، والمعارض للفائدة المالية التي تمزق العائلة الواحدة.
كلُ دينٍ مثلَّ مجموعات بشرية معينة، وتقاليد وظروف، الاقتصاد الرعوي الواسع في هذه المنطقة الصحراوية الهائلة أهلَّ الإسلام ليكون دين المنطقة التي وعى تقاليد أهلها ومثل حياتهم وطور عناصرها التجارية والثقافية العقلانية لكن دون أن تتمكن المنطقة من خلق القفزة الحضارية الحديثة، والمسيحية تركزت في المناطق الزراعية والمدنية ثم رحلت بأكبر قواها البشرية والثقافية إلى أوربا، واليهودية تنامت في عالم المدن التجارية حتى وجدت من الغرب السوق التي ازدهرت فيها كل خصالها المالية.
وبعد الغزوات والحروب المشتركة بين هذه الأديان الشقيقة، وهي فترة من العداء والكراهية والخسائر المشتركة، والتلاقح الثقافي كذلك، حلت فترة مختلفة، تكشف أسباب الأطماع والإستغلال وبدأ التفكير في السلام والتآخي!
الحضارة المسيحية – اليهودية غدت هي الحضارة الرأسمالية المسيطرة، والتي صار نموذجها هو المحتذى في كل الدنيا، العناصر المتضافرة من الملكية الفردية والإنتاج الحديث والأسرة والثقافة الإنسانية والديمقراطية هي تتويج تاريخ المشرق، وقد تشكل خارجه.
ولكن المكان الذي نتجت فيه وتطورت منه جاءتْ لتسيطر عليه ودخلت في حروب ضارية معه!
وهو بفقره وتخلفه عاجز عن اللحاق بها.
وفيما يتكاثر المسلمون وتضيق بهم المدن يهاجر مسيحيون ويضيق بهم التعصب الديني، فيما ينحصر اليهودية في دولة مسلحة متوسعة!
كل الزمن السابق، تاريخ قرون العداء اللامجدي، يتجسد بأشكال سياسية مضرة، ولهذا فإن التعايش السلمي وإغلاق صفحات الحروب والعداوة صار ضرورة، خاصة للأغلبية الشعبية من مسلمين ومسيحيين ويهود التي هي ضحايا تجار المعارك والإستغلال والعداوات الدينية والقومية!

الخيال والواقع في الأديان
تعتمدُ الأديانُ على الخيالِ غالباً، لأنها تشكلت منذ أكثر من أربعين ألف سنة على فكرتي الأرواح الخيرة والأرواح الشريرة، فهذا السديمُ من الصورِ والمعاني يشتبكُ غالباً بالواقعِ ومشكلاتهِ من حروبٍ وأمراضٍ وصيدٍ وزواج الخ.
بداياتُ الأديان هي بداياتُ الانتقالِ للحضارة، وهي لا تعدو أن تكون 1% من التاريخ البشري، وقبلها ملايينٌ من التاريخِ المجهول للإنسان، حسب ما يقول فراس السواح.
ولهذا فإن فرزَ الجمادِ من الروح كانت ثورةً فكرية كبرى! حيث انفصل عن الإنسان عن الحجر والنهر والغابة ولكن ليس بشكل كلي، فإلى مدى طويل ستظل الأشياءُ ذات قوى روحية أو أرواحية، وسيظلُ الإنسانُ هذا الكائنَ الهشَ المعلقَ في خشبةِ الوجودِ السائرة في الأنهار.
وتتوجه الإراداتُ البشرية لطلب المساعدة من هذه الأرواح، مرة بالخير ومرة بالشر، وتصيرُ الآلهةُ نمطين مثلهما، آلهة تحكمُ بالخير وللخير، وأخرى للشر وبالشر.
وهذه المعاني العامة سنجدُها لدى البوذيين أو الهنود الحمر. وكلما تطورتْ الحضارةُ تخضعُ الأفكارَ الدينيةَ للتقاليد والمواصفات الإجتماعية وللمؤسسات السياسية.
ونظراً لكونِ الأفكار الدينيةِ متصلةً بعالمِ الأرواح فهي تبقى غامضةً، متعددةَ الرؤى، مختلفةَ التفاسير، ويتيحُ لها ذلك النموَّ التاريخيَّ، العقلاني مرة، وغير العقلاني مرة أخرى. وأن تقع في قبضاتٍ مختلفة، وإرادات متناقضة، وتصيرُ مرة للبناء ومرة للهدم.
ليس في عالم الأرواح تجريب وبرهان، ويقول صانعو الأديان إنهم يسمعون أصواتاً، وأن نداءات تأتيهم، وإن رسائلَ بُعثتْ لهم، وآخرون يقولون إنهم شاهدوا أحلاماً، وكل هذا يجري في السديم الغامض، في عالم الأرواح، حتى تبدأ الكتابة الملموسة للدين من خلال الكلمات، والقوانين، سواءً كانت في ورقٍ أو حجر، ويتحولُ الغموضُ الخارجيُّ الفوقي السماوي أو الأرضي، إلى جماعةٍ أو إلى نصوصٍ أو عبادات أو أوامر ونواهٍ إجتماعية.
عالمُ الأرواح الذي يتم التراسلُ معهُ أرضياً وبشرياً والمتسم بالغموضِ واللاتحدد من المتسحيل أن يعطي رسالةً واحدةً، وكما أن الأرضَ ذاتَ خرائطٍ وأصواتٍ مختلفة، فكذلك فإن الرسائلَ تتباين، وتتعددُ الأديان.
يعزلُ عالمَ الأرواح مع تصاعد المؤسسات الدينية والسياسية، إن عالم الأرواح الغامض لا بد من السيطرة عليه إجتماعياً، وأن يكون الدين مؤسسةً ثم مؤسسات، حسب تنازع القوى والمؤمنين أو تآلفهم، إن الأرواحَ الخيرةَ هي التي تتجسدُ في المؤسسة الدينية، لأن الدينَ في غاياتهِ الأولى كان بهدف خير، فقد كانت الرسائل الدينية تظهر لدى قادة روحيين مضحين، يشقون طرقاً لتطور البشر. فالرسالةُ في حدِ ذاتها تضحية، وبطولة، ولكنها تصيرُ مؤسسةً، وتنحازُ لهذا الطرف الاجتماعي أو ذاك، فينقسم الدينُ ويصير مذاهب وحركات سياسية وإختلافات.
الركائز الأولى للدين من ألوهية وإنقسام للأرض والسماء والدنيا والآخرة وغيرها من ركائز تصورية كبرى، هي ركائزٌ عرفتها البشريةُ كلها، حتى دون أن تتشكلَ علاقاتٌ مباشرةٌ بين بعضِها البعض، وهي تقومُ على أساسِ التضاداتِ الكبرى في الحياةِ البشريةِ غيرِ الممكنِ ردمها أو إزالتها. التناقضُ بين الحياة والموت، وهو أكثر التناقضاتِ رهبةً وبقاءً للجنس البشري والحيواني عامة. التناقضُ بين الوجودِ والعدمِ هو من أكثرِ المناطقِ خصوبةً لإنتاجِ الوعي الديني، والأفكار عامة، وهو الذي بدأَ تحريكَ الوعي باتجاه أن يكون الكائنُ النسبي مطلقاً، والعابرُ أبدياً.
وكذلك هناك التناقضُ بين الأرضِ والسماءِ، وهو شكلٌ آخر للتناقضِ بين الإنسانِ والوجود، ثم التناقضُ بين الحاكم والمحكوم وهو التناقضُ المولدُ للحركةِ الاجتماعية، ويتداخلُ مع التناقضين السابقين في توليدِ التصوراتِ وفي نسجِها بين الخالد والعابر، بين الفقير والغني، بين اللاموجود والموجود.
تنقشع ضبابيةُ الأرواح لدى المؤسسات، التي تحيلُ الدينَ لنصوصية قانونية وراءها العقوبات والسجون، والتقاليد، والحلال والحرام، وعلى مدى وجود العناصر العقلانية القارئة للآلام البشرية وحاجات العاملين أو عدم وجودها، تتحدد تطورات الأديان، بين ازدياد للعقلانية أو هجوم للجنون، فالحياة الاجتماعية تولد سلاسلَ من التطورات الدينية واللادينية، من الفرق المتبصرة أو (من الهلوسات)، ومن التخصصات الدينية المدققة العاكفة على التطور التدريجي، ومن النصوصية الجامدة المريضة، ومن هجوم الفرق السياسية على الدين وإختطافه من حياته العبادية العادية، إلى حماية الدين بإبعاده عن التجارة والحروب السياسية.

الأديانُ والتحولاتُ
تختلف العناصرُ الفكريةُ الاجتماعية في الأديان حسب ظهورها التاريخي والمهمات التي أدتها في تأسيسها، ثم تحول أو بقاء هذه العناصر في المراحل التالية لتطور هذه الأديان.
هذا يعتمدُ على البُنى الاجتماعية التي تدخلُ فيها، وتتأثرُ بأجوائِها، فرغم تباين تلك العناصر بين الدينيين المسيحي والإسلامي فإنها تعرضتْ لتأثيراتِ البُنى المختلفة والعصور.
فقد كان عنصرُ العنف مرفوضاً ومنتفياً في نشأةِ وظهور المسيحية، لأن الإمبراطوريةَ الرومانية كانت قائمةً على العنف الوحشي ضد الشعوب ولهذا عبرتْ المسيحيةُ عن التسامحِ والمحبة والإخاء بين الشعوب المتعددة، وهي القيم التي وضعت حداً لتلك الإمبراطورية في خاتمة المطاف ولكن بأساليب عنيفة!
إلغاءُ التسامحِ المطلق وإعادةُ العنف للمسيحية جرى بسببِ حاجاتِ الأنظمة والقوى السياسية للعنف كأداةٍ للسيطرة والحروب.
كان الأمرُ مغايراً بالنسبة للإسلام الذي إعتمد الحرب ضد الوثنيين ثم أساساً للفتوحات. وإستُثمرت هذه النشأةَ الأنظمةُ الاستغلالية والحركاتُ المتعصبة فيما بعد لتؤسسَّ منها رؤيةً مطلقة تبررُ ما تقوم به أعمال سياسية ذات مصالح ذاتية.
ومن هنا تباينت أوضاعُ مذاهب المسيحية حيال النهضةِ والتحولاتِ الديمقراطية في زمنِ الافتراق عن العصور الوسطى، ففي الوقت الذي كانت فيه البروتستانتية تقفُ مع الإصلاح وضد هيمنة البابا الحاكم المطلق على رأس الإقطاع الدنيوي البغيض ولكن الثمين، فإنها في ألمانيا إختلفت عن غيرها من الدول التي سارعت للتوحد القومي والنمو الرأسمالي، فقد تلكأتْ قدرتُها على التوحيد القومي، ونقد الكنيسة، فيما أن الكاثوليكية وهي المذهب المحافظ تبدلتْ أوضاعها في فرنسا مركز الحركة الثورية الأوربية، التي كانت ذات تطور إقتصادي أكبر من ألمانيا وفجرت التحول في قلب أوربا والعالم، ثم صار لها نفوذٌ إستعماري كبير.
هكذا فإن العناصرَ الفكريةَ الاجتماعية داخل الأديان ثم داخل المذاهب التي تنمو من خلال الإختلافات الدينية المعبرة عن صراعات إجتماعية عميقة في المجتمعات، تخضع للبُنى الاجتماعية في البلدان الكبيرة المؤثرة على التطور السياسي.
ولكن السياقَ الاستعماري لكلا البلدين فرنسا وألمانيا، أخضع البلدين لسيرورته.
ففيما فرنسا كانت متمتعة بالمستعمرات وتمارس عنفها داخلها، وتصمتْ الكاثوليكية فيها عن المجازر، كانت البروتستانتية في ألمانيا لا تستجيب لطموحات رجال الأعمال الشرسين الذين فقدوا حتى مستعمرات دولتهم بعد الحرب العالمية الأولى، وتولد تعصبٌ قومي تجسدَ في هتلرية الصليب المعقوف بدلاً من الصليب العادي. وقد دخلتْ العناصرِ القومية الشمولية من هذه الثقافة الألمانية في بعض الحركات القومية والدينية العربية والإسلامية.
في المذاهب الإسلامية الراهنة وعلاقاتها بالثورات والصراعات يغدو التوجه للنضالات السلمية مميزاً، فظهور هذه النضالات وتدفق الملايين عبرها أتاح التوحيد للشعوب، وأظهر الدينيون من الإسلاميين والمسيحيين تعاونهم المشترك لبناء بلدان مختلفة، رغم أن خطابات إسلامية عديدة لا تزال في القراءات العنيفة.
وقد تبدل حراكُ المذاهب خلال العقود الأخيرة، خاصة داخل المذهبين الإسلاميين الكبيرين، ففيما عُرف أحدهما بالمحافظة والوقوف مع بعض السلطات، أتجه الثاني للثورات، وتأييد التحولات، لكن هذا الأمر تغير الآن ففيما الأول تحول عن المحافظة وشارك في الثورات، تحول الآخر إلى المحافظة ويشارك بعضُ جماعاته في قمع ثورة عربية كبيرة.
لعل الإطلاق هنا غير دقيق فقد ظهرت تياراتٌ سياسية متعددة من المذهبين، والأمر هنا يعتمد على مواقف التيارات داخل الأنظمة السياسية، ودورها في تنمية عناصر ديمقراطية فكرية وإجتماعية أم لا.
فنجد إن تيارات مذهب واحد تتباين في مواقفها، وأن القسمين الليبرالي والمحافظ موجدان ولكن مشاركتهما في التغييرات العاصفة متباينة، فيما أن المذهب الآخر حين سيطرت على حركاته دولةٌ واحدة فقدت تياراته زخمها التحولي.
تعددية المذاهب ومقاربتها للحراك الاجتماعي ممكنة مع تبدل (البابوية)، وسيطرةُ المركز الواحد، تقل لكنها لا تزول لأن الدول تنشىءُ مراكزَ جديدة لتوجيه المذاهب والتيارات السياسية المنبثقة عنها.
وعلى مدى تطور التحولات الاجتماعية والسياسية القادمة وإنبثاق دول ديمقراطية مدنية، ستجد المذاهبُ والمرجعياتُ إستقلالَها وعودتها للبحوث وقراءة التاريخ والفقه، وسوف تخلق التأثير العميق، وتتطور بشكل أكبر من زمنية خضوعها للدول الشمولية التي وجهتها وجهات واحدة ضيقة.

الفنون في الأديان
أضطر العرب المسلمون في نقلتهم الحضارية بين الجزيرة البدوية الصعبة ذات التاريخ المرير وإحتلالهم للشمال الزراعي الغني أن يختزلوا الكثير من المظاهر الحضرية ويشكلوا سمات حضرية خاصة بهم دون أن تكون هذه السمات متناسقة تمام التناسق.
من الجوانب البارزة في هذا الموقف الرسمي من الفنون، والموقف الرسمي هو الموقف المسجل في الوثائق الدينية المعتمدة للأنظمة السياسية التي تتالت بعد هذا.
كانت الشعوب القديمة الوثنية بطبيعة دياناتها تقدس الفنون، فهي مدار حياتها، فالإنتاج كالبذر والحصاد والصيد وبالتالي الأعراس والولادات والختان كلها تجري من خلال فنون الشعر والغناء والرسم والنحت، ولكن هذه الفنون تجري بتقديس الآلهة لهذه الشعوب، فهي جزءٌ من حياتها وإحتفالاتها.
وقد وجد العربُ المسلمون أنفسَهم مع قدومِهم لمسرح التاريخ في المنطقة بشكلٍ متأخر، أنهم يحاربون الوثنيات بقوة، وهي التي تمثل تعدديات الدول وتنوعها وسلطات المدن والقبائل والشعوب المتختلفة. ولم يكن مستواهم الثقافي في ذلك الوقت يتيح التمييز الدقيق والفصل بين ما هو وثني وما هو فني إنساني.
فلم يفصلوا بين محاربتهم للوثنية ومحاربتهم للفنون، التي كانت هي مندمجة فيها، بحكم التطور الطويل السابق، فظلت الأحكامُ الفقهية في الأجيال التالية دون معرفة العلل فيها، ثم تغيرت الظروفُ الوثنية المرتبطة بتلك الفنون، لكن الأحكامَ الفقيهة بقيتْ على حالها!
كان الساحرُ قديماً هو الفنان النحات والشاعر والراقص والصياد، ثم تخصصت صفاته في فنانين متنوعين، فالشاعر المغني أنفصل عن الساحر، ثم أن الشاعر كذلك أنفصل عن المغني وعن رجل الدين، لكنه انفصال غير تام وحاسم، فالثلاثة في علاقة متداخلة، كأشكال متقاربة من الثقافة، نظراً لأن الموسيقى والقداسة تجمعها.
فهذه هي كلها في عرف القدماء نتاج السماء أو وادي عبقر أو الروح أو الألهام، فرجل الدين يصنع الشعر ويغنيه ويؤثر من خلاله على الجمهور.
ومن هنا بقيت في الكنيسة المسيحية علاقة رجل الدين بالغناء، فهو إن لم يتحول إلى مغنٍ تماماً فهو ينشد، أو يقرأ بموسيقية ما، ويضعُ آلة موسيقية في الكنيسة، ويدعو المؤمنين للترتيل معه، أو الإنشاد أو الغناء.
المسيحيون كسكان مناطق زراعية متحضرة قديمة، لم ينشئوا دولة بسرعة العرب المسلمين، ولهذا احتفظوا بتقاليد فيها وثنية وتعددية إلهية وتراث موسيقي قديم، وأنتقلت تدريجياً إلى أوربا وبعد قرون ومع البعث النهضوي والترجمات الإغريقية تحولت إلى نهضة جديدة عالمية.
أما العرب فعلى العكس أرادوا أزالة المظاهر الوثنية بقوةٍ وسرعةٍ حتى لا تتفكك دولتهم الطرية، فعارضوا أي تذكير بالماضي حتى لو كان فنياً وإحتفالياً فرحاً، وكان يمكن لهذه الاحتفاليات والمظاهر الوثنية أن ترتبط كذلك بمعارضاتِ الشعوبِ ومؤامرات الأمبراطوريات الكبيرة المهزومة في ساحات القتال.
وفيما بعد حين زالت تلك المظاهر التاريخية السلبية المؤقتة، لم يكن بإمكان الفقه الحكومي المتصلب أن يقرأ ذلك على ضوء التحولات، وبقي في الموقف الرسمي وخاصة في الاتجاهات السنية، وكلما زاد في بدويته وشكلانيته قل تعليله للتاريخ الاجتماعي الديني.
لكن الشعوب الإسلامية لم تكن تعبأ بالموقف الرسمي الديني، فقد كانت شعوباً أدبية وفنية بحكم تقاليدها الطويلة وتجاربها الإنسانية، فانتشرت الفنون والآداب على نحو هائل فيها، فكانت أكثر الشعوب إنتاجاً وقتذاك في التراث الإنساني.
وقد حافظت كذلك على الوحدانية، لكن العلاقة بين رجل الدين والفنون ظلت متضادة، فحافظ رجلُ الدينِ المسلم على طبيعةِ الراهب المتشددة فيما يتعلق بالفنون في زمن الفتوح الإسلامية، أي ذلك الراهب المجافي للغناء والفنون عامة، خاصة الحركية منها والمرتبطة بالرقص فهذه أشد اقتراباً من الماضي الملغوم، الماضي المرتبط بالفنون المذمومة، والشهوات، وفقدان الوعي، من أجل أن لا ينزلق إليها المؤمن ولا يهوى في الوثنية، رغم أنها جميعاً غدت لا علاقة لها بذلك الماضي البعيد، وأن المسلمين انتصروا منذ زمن بعيد وأن تلك الروح الحربية لم تعد ابنة زمانها. لكن روح الأحكام العرفية مستمرة خاصة مع حكم المناطق العربية المحررة من هيمنة الدول السابقة، والتي كانت تزدهر بالفنون الوثنية لكن بعد إستقرار الفتح العربي تلاشت، وبحثت الفنونُ العربية الإسلامية عن الجمع بين التوحيد والفرح والرقص والتشكيل والمسرح والموسيقى.
لكن موقف الرجل الدين التقليدي أستمر وظلت معاداته للفنون قائمة حتى بعد زوال أسبابها. فهو يعارض كافة أنواع الفنون حتى لو كانت التجريدية منها وغير المرتبطة بالحراك الجسمي المبتذل، والمصعدة للنفس والروح في حالات إنسانية راقية. فيبدو له إن الفنون تخفي ورآها أوثاناً.
وهذا يعود لاستمرار الأحكام التقليدية الفقهية طوال قرون سيطرات الأسر الخاصة.
لكن ذلك يغدو مستحيلاً خاصة في العصر الحديث فالموسيقى تملأ الحياة والسياسة والعالم، والموسيقى لا بد أن تدخل في كل مكان، ومن هنا تنازل رجل الدين التقليدي للموسيقى الحربية أن تدخل عالمه، فهي تماثل روحه القتالية المستمرة، فاستعان بها للأناشيد والجنائز.
ولا شك أن قضية إدخال الموسيقى في الفرح والاحتفال ستظل هاجساً، وقضية خطيرة، بسبب انتشار الثقافة الغربية وأعتماد الموسيقى والفنون كمناخ إحتفالي اجتماعي جذاب، لكن هذه الثقافة تختلط فيها الجوانب العظيمة والجوانب المبتذلة، كما تغدو وسيلة إجتماعية لنشر المخدرات والجريمة في بعض الملتقيات. ومن هنا ضرورة الفصل بين هذه الأنواع وعدم التعميم.
                           

أضف تعليق