لينين في محكمةِ التاريخ
إنتقلتُ في علاقتي بلينين من المحبة إلى العداء، ثم إلى القراءة الموضوعية دون محبة أو عداء، أي إلى قراءة تحليلية أتجنب أن تكون ذاتية.
ظللَّ هذا الرجلُ مرحلةَ شبابنا، وكان معبوداً، وتدمر في تواريخ لاحقة حتى غدا مرفوضاً ملعوناً، لكنه صعد بشكل آخر حين تنامت القراءة الأعمق للتاريخ.
لينين دكتاتور، وكرسَّ نفسه لكي يكون ديكتاتوراً، وهذا لم يخفهِ، لكنه دمجَ دكتاتوريتَهُ الشخصيةَ الحزبية بالطبقة العاملة، بإدخال دكتاتوريته الشخصية الحزبية فيها.
العمالُ غير قادرين على المشاركة في السياسة فكيف أن يكونوا قادة دولة كبرى؟!
العمال لكي يكونوا قادة دولة يحتاجون لعشرات السنين وربما لمئات السنين، فكيف يحدث ذلك؟ المثقف التقدمي يتكلمُ نيابةً عن العمال، إنه يختزلهم في شخصه المنتفخ سياسياً بشكل متصاعد تاريخي، أي مع تطور حركته السياسية التي تُصعدُ دكتاتوريتها ودياكتاتوريته بين العمال والجمهور وكلما تغلغلت زادت البرامج شمولية وضخامة في التغيير.
هذه إزاحةٌ من برجوازي صغير لذاتهِ الطبقية الغامضة، المترددة بين الاشتراكية الديمقراطية والاستبداد الشرقي، والعمال يكونون مادة خاماً غير معبرة ولا مهيمنة.
البرجوازية الصغيرة بإحدى فئاتها وهي البلاشفة تتكلم عنها وتتداخل معها، وتصعدُ نفراً منها، كأدواتٍ لها. فالعمالُ لا يعبرون عن أنفسهم بل يُعبرُ عنهم.
هنا حدسٌ تاريخي وتحليل موضوعي من لينين، ومقاربة للعالم الشرقي الذي ينتمي إليه، وهو عالم إستبدادي لم يعرف التغيير عبر الورود.
إن التغيير في الشرق يتم عبر القوة ومن ليس لديه قوة لا يستطيع أن يغير، لينين يعيش وضع الشرق الاستبدادي ويتكلم من خلاله، فهو قد عبر منذ البداية عن هدفه الدكتاتوري وطريقه الديكتاتوري، ولم يقل عن الانتخابات الحرة والديمقراطية الغربية، بل قال أنا السلطة وأنا النظام.
الشرقيون في تحولاتهم عبر الماضي إعتمدوا على العنف، ومن لم تحمهِ قبيلةٌ وينهض على أكتاف مقاتليها أو من لم يجد قوة تنضم إليه لا مستقبلَ له في السلطان والتغيير على مدى قرون!
المسيح وغاندي لم يعتمدا على العنف بل على الأفكار والمحبة وفي المضمون حركا الجماهير الشعبية عبر نضالات سلمية عازلة للطبقات الحاكمة بحيث تمكنا من هزيمتها. وقد كان تولستوي الروائي الروسي الكبير هو معلمُ غاندي، لكن لينين في كتابته عن تولستوي لم يأبه بمسألة اللاعنف، وتغاضى عنها، وركزَ على الصراعات الاجتماعية وأن تولستوي المسالم لم يدخلْ الثورةَ في رواياته ولم يحول الفلاحين إلى ثوريين وإنه ركز على مسائل الضمير والأخلاق والتغيير الروحي وكان هذا نقص في رؤيته حسب قراءة لينين. وقد كان تولستوي يهدف بشكل أساسي إلى عدم إدخال العنف في نضالات شخوصه وعوالمه، بل ركز على النضالات السلمية، والمحبة، وعلى(البعث الروحي) وهذه إعتبرها لينين ثغرات في وعي تولستوي وليست ثغرات في وعيه هو!
وبين مسارِ هند غاندي المتحولة من نموذجهِ وبين مسار روسيا العنيف مفارقاتٌ هائلة، فقد وصلتْ الهندُ لنفس مسار روسيا بدون كل تلك المذابح اللينينية والستالينية وبدم مائة مليون قتيل، بل من خلال مغزل وعنزة!
لكن روسيا كانت قائدةً للتحول الشرقي عامة، فبدون روسيا السوفيتية يصعبُ وجود وإنتصار الهند الغاندية.
روسيا قامت بدور القيادة التحررية لعالم الشرق، فإذا كانت اليابان عملت لذاتها الخاصة الأنانية وبكم هائل من الدماء، فروسيا عملت لنفسِها وللشرق والعالم المستعبد، وهي تقدمُ نموذجاً دكتاتورياً مليئاً بالتجاوزات والجرائم!
لم يستطع لينين أن يكون إشتراكياً ديمقراطياً، فالاشتراكية الديمقراطية صالحةٌ للغرب، لدولٍ راحتْ تتطورُ في رأسمالية حديثة خلال خمسة قرون وأكثر، لدولٍ فيها صناديق الاقتراع والحريات الفكرية والسياسية والحب في الشوارع، فيما عاشتْ روسيا في إستبدادٍ مطلق، فلم يعرف الروسُ صناديقَ الانتخاب، ولم يعرفوا النقابات والأحزاب العلنية، فكيف يؤيدون الاشتراكيةَ الديمقراطية؟
في روسيا مائة مليون فلاح أمي فقير حينذاك، فكيف يظهر التنويرُ وتصعدُ الديمقراطيةُ فيها؟!
هنا تنجح الدكتاتورية مثلما نجحت في بلدان أخرى لها نفس السمات كما سوف يتفجر ويتألم القرن العشرون الشرقي!
عمل لينين على تجذير الاشتراكية الدكتاتورية، وهزيمة الاشتراكية الديمقراطية، وعلى تصعيد رأسمالية الدولة وعلى الدولة القومية الروسية.
منذ البداية في (ما العمل) أكدَ ضرورة وجود حزب دكتاتوري، يعمل على إسقاط النظام وإحلال الاشتراكية فيه. وإنقسم الاشتراكيون تبعاً لذلك، بين إشتراكيي التعددية والتغيير التدريجي الديمقراطي وبين الفصيل البلشفي الدكتاتوري الذي يقوم بالتحولات النهضوية بشكلِ دولةٍ جبارة تقع كل الخيوط في يديها.
الشرقيون إلى زمنٍ طويل أقربُ للبلشفية منهم للديمقراطية، لأنهم دكتاتوريون محافظون، وذكوريون إستبداديون، ويريدون التحولات بسرعة ومن خلال (القداسة) التي تحقق التحولات السريعة القافزة المتلاحمة لهم، دون أن يقوموا بتحولات في شخوصهم وعائلاتهم ويغلغلوا الديمقراطية في أوضاعهم ونفوسهم وحياتهم الشخصية.
وقد تمكن لينين بعبقرية من فهم المجتمع ومن وضع برنامجه موضع التطبيق وغيرَّ روسيا والعالم وفي بلد هائل وعالم شرقي نائم، وأمام وفي مواجهة قوى إستعمارية هائلة ذات قدرات عسكرية عالمية مخيفة تدخلت وحاولت الوصول إليه ولكنه هزمها!
سبب إنقلاب لينين على الحكومة الديمقراطية وقتذاك الكثير من المآسي للشعب ولكنه حقق نهضة هائلة.
كان تصعيده للصراع ضد حكومة أتاحت الأحزاب والانتخابات لكونِ برنامجه من البداية ينادي بإبعاد البرجوازية عن السلطة، وحين جاءتْ سنةُ التحولِ في 1917 سّرع من الدعوة لتحقيق مطالب شعبية ملتهبة، وعزلَ البرجوازيةَ عبر التحالف مع الفلاحين، وكان قبلاً لا يؤيد إعطاء الأرض للفلاحين لكنه في خضم الصراع ومن أجل تفكيك الخصوم وضرب بؤرتهم جذب الحزبَ الثوري الشعبي ذا الأغلبية وتبنى برنامجه وأضافه في لعبته السياسية، فحقق البلاشفة الأغلبية لأنفسهم وجاءت الملايين لتأييده، فهذا الإجراء حقق قاعدة هائلة في بلد يحكمهُ على الأرض الفلاحون.
لكن البرنامج البلشفي ليس هو هذا، وهو برنامجٌ عامٌ مجرد في بداياته، ويتوجه نحو ضرب العلاقات الرأسمالية الخاصة بشكل أساسي، بتأميم المصانع، وبهذا فإن البلاشفة أسسوا جيشاً كبيراً ومخابرات قوية، وراحوا يصفون الخصوم الخطرين، ثم ينقلبون على الحلفاء، فالحزبُ الشعبي حاول أن يعري هذه الدكتاتورية التي هي ليست دكتاتورية العمال، بل دكتاتورية البلاشفة، فكانت ضربة الحزب العنيفة حين أعلن بعضٌ بحارتهِ وعماله التمرد وتحول لغبار بشري!
تكوين سلطة بلا جذور، وعبر إجراءات إجتماعية وتشكيل أجهزة عسكرية وإستخباراتية عملاقة، أتاح صد المعارضين والقوى المتدخلة الأجنبية على التراب السوفيتي، وكان المتصور إنها بإمكانياتها العالمية قادرة على سحق هذا النظام الغض المحاصر، لكن تلك الأجهزة وإجراءتها التحولية لمصلحة الغالبية الشعبية، وعمل إنضباط هائل ومصادرة أية حبة قمح زائدة عن إستهلاك الفلاحين، أدت لتماسك النظام وإنتصاره وحدوث قمع رهيب وضحايا ومجاعة.
لكن هذا الرجل صاحب المشروع الدكتاتوري النهضوي مرهف لشعيرات التحول، فحين رأى تجاوز المرحلة السابقة وكم الدمار والتخلف والضحايا، تبدل عن هدفه في إزالة الطبقات، وتحول بنفسه لرئيس نظام رأسمالية الدولة.
ومنذ البداية كان مدركاً لطبيعة النظام الذي يؤسسه، قال في سنة 1918 في اللجنة المركزية: إننا نبني اليوم رأسماليةَ الدولة فعلينا أن نطبق وسائل المراقبة التي تسعملها الطبقاتُ الرأسمالية). وبعد ذلك في 1921 تحول هذا إلى نظام وعادت بعض الطبقات القديمة المالكة، ومضى المجتمع في تطور إقتصادي مع بقاء الأجهزة العسكرية والأمنية المتصاعدة النفوذ، وذابت قوى المعارضة أو أُذيبت، وإنتشرت معسكرات العمل الأجباري والمنافي وتحضرت البلاد لدكتاتورية أسوأ من دكتاتورية لينين.
إن مشروع الاشتراكية في إجراءات لينين قبل موته لم يزل قائماً، ولم تُعرف تصوراته للمستقبل، وماذا كان ينوي لو كان حياً، فهذه القطاعات الاقتصادية العامة والخاصة، وبقاء الملكيات الصغيرة الفلاحية الهائلة، كان لا بد من تغييرها ونشؤ الملكيات العامة والتعاونية في كل الاقتصاد حسب التصور المفترض، وكان المكتب السياسي به قيادات مثقفة كبيرة، وكانت قادرة على متابعة فكره وتطبيقه بمرونة.
لكن الدكتاتورية المؤسَّسة بأجهزتها وبزخمها العامي وجدت في ستالين رمزها، وهو رجل داهية إستطاع الوصول لهذه الأجهزة، وقد حذر لينين المؤتمرَ العام للحزب من خطورة هذا الرجل، وبضرروة تقليص صلاحياته.
هذا الجانب ينقلنا لطبيعة الدكتاتورية التي أسسها، فهي دكتاتورية عنيفة لها أخطاء وتجاوزات كبيرة، لكن تستند على تطور المشروع بشكل ذكي، وقد نوّهَ بقياداتٍ أخرى غير ستالين، ولكن الهيمنة البوليسية صعدت داخل الحزب، وكرست الدكتاتور الأكبر.
وهذا جزء من طبيعة النظام وتاريخه وإمتداداته في العامة، وتصعيد الانتهازيين وطلاب المكاسب، وتحنيط اللغة الجدلية التاريخية تدريجياً وتحولها لقوالب، وشمولية كلية، وهذا يؤدي لغياب الغنى والتنوع وتمركز السلطة أكثر فأكثر.
المشروعُ في النهاية ظهر عبر مضمون المجتمع ومرحليتهِ التاريخية، فرأسمالية الدولة تتوسع على حساب الطبقات المنتجة، فتم عّصر الفلاحين والعمال وإنتزاع رأس المال منهم، وتحويله للصناعات والعلوم وتغدو الدولةُ أكثر فأكثر ذاتَ مضمون رأسمالي داخلي، بشكلٍ إشتراكي زائف، حتى يصل المضمون لتجليه الكامل عبر إعادة البناء، ويقوم بالتخلص من النفقات المكلفة ومن المعسكر الاشتراكي والحركة الشيوعية(الأممية الثالثة)التي تبخرت ومن مساعدات حركات التحرر ويصدرُ السلاحَ السلعة الوحيدة التي تمكن منها ويبحث بكل قوة عن النقد.
كان لينين دكتاتوراً ولكن ليس من خلال رؤية ذاتية، بل من أجل نظام آمن بتشكله عبر إجراءاته، لكن ستالين كان ذاتياً، أسقط شكوكه وكراهيته وتخلفه الفكري على إدارته، فأضاف الكثيرَ من القمع بلا مبرر.
قال أحدُ الرأسماليين المثقفين الروس في أثناء تلك التحولات العاصفة: إن لينين يقوم بإنشاء رأسمالية متطورة وبوسائل دكتاتورية وهو أمرٌ نعجزُ عنه نحن.
تراجعُ الخيالِ الاشتراكي
بعد سنواتٍ حارقة من تطبيق ما سُمي بمرحلة الاقتصاد الشيوعي (1917-1920) الذي كان هيمنةً حكومية واسعة على الفائض الاقتصادي في الريف والمدينة، والذي أدى لعسكرةِ الدولة وبدءِ رأسماليتها الحكومية الشاملة، أخذ لينين يتراجعُ عن هذا الاقتصاد العسكري الضاري متوجهاً نحو جوانب اقتصادية رأسمالية، لا تنفي رأسماليةَ الدولة ولكن تجعلها عمليةً في جوانب اقتصادية واجتماعية ضرورية بدلاً من هلاكِها بسببِ انتفاضةِ الجمهور الطليعي العمالي ضدها والخسائر البشرية الرهيبة التي سببتها.
(قال لينين في خطابه الموجه للمؤتمر العاشر للحزب الشيوعي الروسي في آذار عام 1921، حول ضرورة التعاون مع العوامل الرأسمالية الداخلية والخارجية، «إننا الآن في مرحلة تحول، وثورتنا محاطة من قبل بلدان رأسمالية. وطالما نحن في هذه المرحلة، فإننا مجبرون على البحث عن أشكال عالية التعقيد من العلاقات». وتكون هذه «الأشكال عالية التعقيد من العلاقات، طبعاً، كان إنشاء أساليب السوق للتوزيع أولاً في القطاع الزراعي وفيما بعد القطاعات الأخرى من الاقتصاد». وفي ملاحظات أخرى للمؤتمر، أكد لينين للمندوبين أن المشكلة الأهم والأخطر في المرحلة الحالية لم تكن سياسة التنازلات للرأسمالية كما يحذر البعض وخاصة أولئك الذين على اليسار. وعلى الأصح كان المستوى المتدني جداً للقوى المنتجة الذي يهدد بقاء ثورة أكتوبر: «يجب أن لا نخاف من نمو البورجوازية الصغيرة ورأس المال الصغير. وما يجب أن نخافه هو المجاعة، الحاجة ونقص الغذاء، لأمد طويل، وهو ما يخلق الخطر المحتمل في أن(الثورة) البروليتارية تنهار فاسحة الطريق لتردد ويأس البورجوازية الصغيرة».
وقد أظهرتْ كتاباتُ لينين الكثيرة منذ مطلع العشرينيات أنه توصل شيئاً فشيئاً إلى الاستنتاج بأنه في بلدٍ خاضعٍ للهيمنةِ الفلاحية ولمستوياتٍ متدنية من حيث القوى المنتجة والتعليم والثقافة، يمكن أن لا تكون هناك قفزة لخطوط الإنتاج أو التوزيع الاشتراكية أو الشيوعية)، الحوار المتمدن، مقالة: مسألة التحول، وسياسة لينين الاقتصادية الجديدة، بقلم سي. جي، أتكنز).
السياسة التجريبية التي يقومُ بها لينين التي تشكلت من تجزيئيتهِ النظريةِ والقفز على قوانين المادية التاريخية، والتي اندفعتْ نحو أقصى اليسار في سنواتٍ سابقة تقومُ الآن في سنوات العشرينيات من القرن العشرين في روسيا بالعودة لقوانين الاقتصاد الرأسمالي!
هنا الإحساسُ بالتقارب مع اليمين، فظهورُ دولةٍ عسكرية شمولية هو أمرٌ يتناقض مع الاشتراكية لأن الاشتراكيةَ هي مرحلةُ خفوت الدولة وزوالها التدريجي، حيث تبدأ الطبقاتُ المتضادةُ بالاختفاء، لكن هنا الدولة على العكس غدتْ هي الكائنُ الاقتصادي السياسي العسكري الهائل، وإن الدولةَ لم تكتفِ بالهيمنة الواسعة على المجتمع بل تدخلتْ في كل علاقاته الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، جاعلةً نفسَها المالك الأكبر، ينافسها الاقتصادُ الفلاحي الصغير، حيث لا يمكنها أن تزيله لأن تلك الأراضي الزراعية الصغيرة غير مجدٍ تأميمها، ومن هنا التصور الخيالي الآخر بالقيام بالمزارع الجماعية حيث تُصادر المُلكياتُ الفلاحية الصغيرة، وهذه سوف يستكملها ستالين، بتوسع الاستبداد الدموي، فدكتاتوريةُ البرجوازيةِ الصغيرة التي تبدأُ من لينين تتوسعُ لدى ستالين مقيمةً رأسمالية دولة كلية، فكلٌ منهما يكملُ الآخر.
إذن هي ليست سياسة عالية التعقيد بل عالية التضليل، فالرجوعُ لقوانين اقتصاد السوق الرأسمالية يستلزمُ النقدَ الموضوعي لتجربةِ التأميمات المستعجلة والمصادرات ومنع الأحزاب والقضاء على الحريات الاقتصادية والسياسية، ويلزمُ الاعترافَ بأن روسيا دولة متخلفة لابد أن تعيدَ النظر في بنائها الاقتصادي، عبر إعادة المؤسسات الاقتصادية الخاصة وتكوين القطاع العام القائد، وتشكيل تجربة ديمقراطية متنوعة، لكن مثل هذه السياسة تعني انهيار الأفكار الاشتراكية الحكومية الشمولية وزوال هيمنة رأسمالية الدولة التي غدتْ لها مصالح كبيرة وبيروقراطية هائلة صاعدة تتحكم في دولةٍ ضخمة والتي يقبضُ على خيوطها الدكتاتور الجماعي المتمثلُ في المكتب السياسي للحزب والذي يعبرُ عن التناقضاتِ غيرِ المرئيةِ في الوعي الاشتراكي الزائف هذا.
إن التحولات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية النهضوية في روسيا وقتذاك بحاجةٍ لرأسِ المال، وبسياسةِ التقشف والمصادرة يتوارى رأسُ المال، فيجب أن يعودَ للساحة بعد أن تم طرده شر طردة!
هنا غدت السياسةُ الاقتصاديةُ الجديدة بعثاً للرأسمالية فبدأ لينين في رؤية (أن التأميمات السريعة والآمال العالية للتخطيط الواسع في الاقتصاد التي ميزت السنوات الأولى قد ذهبت «بعيداً جداً» و«سريعاً جداً») السابق.
فهنا لابد من الحصول على الرساميل وإيجاد سياسة للأجور، ذات مراتبية، ولابد من العودة للسلعة وقانون قيمتها، وإنشاء السوق، وإجراء التبادل بين الهياكل الاقتصادية الاجتماعية، لكن لاتزال الدولةُ هي الرأسمالي الأكبر الذي يشتري ويبيع خلافاً للحلم الاشتراكي بزوال الدولة.
عبرت السياسةُ الاقتصاديةُ الجديدة في روسيا في سنواتِ العشرينيات من القرن العشرين عن تحول الدولة الثورية ذات الحلم الاشتراكي بزوالِ الطبقاتِ وإزالة البرجوازية إلى أن تكون هي الرأسمالي الأوحد.
هي إمكانيةٌ كبيرة لدولة شرقية أن تتملكَ ثروات وتقوم بمشروعات صناعية وعلمية واسعة وبشكل شمولي فهي مهمة سهلة في بلدان الفراغ الاقتصادي الشرقي الحديث، لكن لابد للمشروعات من رساميل، فكيف تضربُ الرأسماليةَ ثم تستعينُ بها؟!
حينها كان لابد من تصعيد رأس المال من القطاع العام المؤمم والقطاع الخاص الفلاحي الصغير الذي يمتلكُ ثروةً كبيرة ويكونُ الريفُ هو المُصدرُ المخترع الزائفُ لظهور الرأسمالية مجدداً، وبهذا سوف يجري لاحقاً مصادرتها ونزعها بالقوة بأشكالٍ تعيدُ طرقَ التراكم البدائي الذي جرى في الاقتصاديات الغربية المنتقلة من الإقطاع للرأسمالية للظهور ثانيةً بقسوة لا تقللا دموية.
إن العبارات المتخوفة من الفلاحين الصغار والبرجوازية الصغيرة المنشأُ الموهومُ لعودةِ الرأسمالية- التي يذكرها لينين في خطابه السابق الذكر- لا تجدُ أن المصدرَ الحقيقيَّ لعودةِ الرأسمالية الخاصة هو عبر رأسمالية الدولة ذاتها، وبقيادة البرجوازيين الصغار الحكام، لكنهم كمناضلين تماهوا في زمن الثورة في شظف حياة العمال لن يروا هذه الإمكانية بسبب الخيال الاشتراكي.
استطاعت التجربةُ الروسية أن تقومَ بتطوراتٍ صناعية واجتماعية كبيرة، واعتمدت على التقشف الشديد من قبل القيادات السياسية وعبر سحق الفساد، وبتضحيات الجمهور الشعبي، ودفاعه البطولي عن الوطن، ولكن تشكيل الصناعات الثقيلة وتطوير الحياة المتخلفة كان كله تأسيس للدولة الرأسمالية القومية، حتى تصل لمستوى معين ثم تعجز القوى المنتجة عن التطور في هذا المستوى.
اعتمدت الدولةُ القوميةُ (السوفيتية) الروسية على تضحيات العمال الذين عاشوا بأجورٍ متدنية، واستبسال في عمليات البناء الكبرى، ثم راحت الدولةُ القومية تنشقُ اجتماعياً، وتتفككُ صفوفُ الطبقات الموحدة قسراً في شكل سياسي شمولي، إلى قومياتها المتعددة عبر دولٍ مختلفة، وإلى عودةِ الاختلافات الطبقية الروسية واستقطابها في استمرار رأسمالية الدولة الشمولية حتى الآن غير القادرة على الدخول في الرأسمالية الحرة بشكلٍ كلي، وبقاء التناقض الرأسمالي في أقلية هائلة الثراء وأغلبية شعبية فقيرة.
إن رأسمالية الدولة التي كانت رافعة التطور تنقلبُ لعقبة أمام التطور التقني وتنامي قوى الانتاج الحديثة، وكموديل لحركات التحرر الوطني العاصفة بالعالم الاستعماري، وتصيرُ بعدئذٍ نموذجاً متخلفاً وأداة لمساعدة القوى الرأسمالية الحكومية المحافظة في دول أخرى.
عبرت العملية التحولية نحو السوق والضرائب وتراكم النقد لدى الدولة وتطوير المؤسسات الصناعية النوعية عن رأسمالية ناقصة، وعن إصلاح اقتصادي دون إصلاحات سياسية وفكرية في بُنية الحزب، لكن على العكس من ذلك تغدو أفكار لينين مدرسةً، وهي ستنمو عبر تجارب العالم الثالث المتخلف، وتجدُ في بعض المثقفين والفئات الصغيرة أدوات لتوسيع حضورها وإعادة تكرار النموذج على مدى عقود، حتى يصل النموذج إلى عدم القدرة على الحياة.
إن التراجعات نحو اقتصاد السوق لم تُستكمل عبر الديمقراطية، فقد أصبح البلاشفة قوة دكتاتورية لا تقبل بالتراجع عن سلطتها، ولهذا كانت المناقشاتُ تجري في المكتب السياسي، بعد قتل لينين من قبل ضحاياه، حول تصعيد التجربة (الاشتراكية) في بلد واحد أم توسيع حضورها وتصديرها للثورات في البلدان الأخرى لأن الاشتراكية في بلد واحد غير ممكنة!
كانت تناقضاتُ قادةِ المكتب السياسي تعبرُ لا عن تناقضات بناء الاشتراكية في بلد واحد بل عن وهمِ بناء الاشتراكية من خلال الدكتاتورية والتخلف.
ولهذا فإن هذا الموديل التاريخي من الوعي بالاشتراكية لا يلغي تاريخَ الاشتراكية مستقبلاً ولكنه يعبرُ عن تصورات تجريبية حارقة، وسوف تنزلقُ حتى شعوب قصية شديدة التخلف، عبر مثل هذه الجمل التي استخدمها لينين كما رأينا في القفز على مصائر الشعوب من خلالها ولكن سوف تستخدمها بأشكال أكثر جهلاً واضطرابا.
نقدُ المغامرةِ التاريخية
يعومُ لينين مصطلحات السياسةِ بشكلٍ غير تاريخي، ويلغي طابعَها الطبقي، وفي كتابه (مرض الطفولة اليساري) يقوم بتقييمِ تجربةِ حزب البلاشفة باعتبارها نموذجاً عالمياً صالحاً حتى لأوروبا وأمريكا، هذا التقييم نجده عبر لغة تضخيم من التجربة بأدوات اللغة الأيديولوجية المُعّممة.
كلمة ثورة اشتراكية، وسيطرة المجالس العمالية على السلطة، هي مصطلحات لا تدرس كون الشخصيات البرجوازية الصغيرة القائدة كلينين وتروتسكي وبوخارين وستالين هي التي تقود العمال، والذين تصور لهم بأن السلطة القائمة حديثاً هي سلطتهم.
وبطبيعة الحال فإن تجربة مصادرة المؤسسات الخاصة والقيام بالتأميم يعني ضرب طبقة رأسمالية، ولكنها لا تستطيع ان تضرب الرأسمالية ولكنها تغدو لدى لينين أنها هي الاشتراكية.
إن الاشتراكيين الديمقراطيين الأوروبيين ينظرون لها بشكل آخر كشكل من أشكال دكتاتورية فئات صغيرة.
هي في الواقع ثورة قومية روسية ضد التخلف ومحاولة للقيام بقفزة تاريخية، وفي هذا الغموض الاجتماعي بين تشكيلتين: التشكيلة الإقطاعية والتشكيلة الرأسمالية يتم التصور الواهم بأن ثمة قفزة للاشتراكية، لتشكيلة مستقبلية على أساس تأميم الشركات.
هذا الكتاب يشترك مع الكتب السياسية الأخرى للينين في عرض تجربة البلاشفة، لكن هنا وهو في حالة السيطرة على السلطة وتصوير ثورة التحول هذه باعتبارها ثورة اشتراكية ساحقة للطبقات.
المغامرة السياسية العسكرية لسنة 1917 تُعرضُ على أساس أنها ثورة اشتراكية تجاوزت الغرب، فهذا البلد المتخلف الذي لم يقض على التشكيلة الإقطاعية بعد يتم تصويره بأنه يقفز إلى الاشتراكية.
لهذا فإن تحليلَ حزب البلاشفة طبقياً، وقراءة طبيعة السلطة المسماة السوفيتات كشكلٍ للسلطة الديمقراطية انبثق من خلال التعددية الحزبية ثم تمّ تحويله لدكتاتورية حزبية بلشفياً وتقطعتْ علاقاته بالتعددية الحزبية والصحافة الحرة والديمقراطية عموماً، هذه كلها يجردُها لينين من طابعها الاجتماعي التاريخي ويؤدلجها حسب سلطته المطلقة سياسياً ونظرياً.
(ديكتاتورية البروليتاريا هي عبارة عن حرب ضروس تخوضها بمنتهى التفاني الطبقة الجديدة ضد عدو يفوقها بأساً، ضد البرجوازية التي تضاعفت مقاومتها عشرة أضعاف لسبب إسقاطها (وان في بلد واحد فقط)، والتي لا يكمن بأسها في قوة الرأسمال العالمي، وفي قوة ومتانة الروابط العالمية للبرجوازية وحسب، بل في قوة العادة أيضاً، وفي قوة الإنتاج الصغير. وذلك لأن الإنتاج الصغير لايزال موجوداً، مع الأسف، بمقدار كبير وكبير جداً في العالم، والحال أن الإنتاج الصغير يلدلا الرأسماليةَ والبرجوازية باستمرار.)، مرض الطفولة.من هي الطبقة الجديدة؟ إنها فئة من البرجوازية الصغيرة من المثقفين صعدوا على الجسم النشط للعمال، وهي لا تعرفُ الأفقَ التاريخي الذي تشكله، فالثورةُ الديمقراطية القومية هنا متداخلةٌ مع مهمات التحولات الاشتراكية التي لم يحلُ أوانها، ولهذا فإن مهمات الثورة الديمقراطية كالإصلاح الزراعي وتوسيع رقعة الفلاحين الصغار تعطي السلطةَ المغامرةَ شعبيةً جماهيرية لكنها تقوم بتوسيع طبقة الفلاحين المالكة الخصم، أي البرجوازية الصغيرة المذمومة، وكأن لينين يتمنى زوال هذه الطبقة لتتحقق نفس مستويات أوروبا الغربية وأمريكا من حيث انتشار الصناعة في المدن والأرياف.
هنا إحدى فئات البرجوازية الصغيرة الروسية التي استولت على الحكم عبر انقلاب عسكري تتوهمُ ذاتَها باعتبارها جزءًا من البروليتاريا، ومتجهة لمحو الطبقات، لكنها في موقفٍ متناقض، فهي إذ تصفي أملاكَ أصحاب المصانع وتحيلها لإدارتها، تصعّد من جهةٍ أخرى البرجوازية الصغيرة طبقتها الواسعة الانتشار.
عملية الثورة الديمقراطية تأخذ بعداً تحويلياً قومياً، فالبرجوازية العالمية كما يقول تقف بالمرصاد، لكون هذا التحول يأخذُ طابعاً عسكرياً شمولياً عنيفاً، وهو يعكس طابع هذه البرجوازية الصغيرة الروسية القومي المتصلب، الذي يأتي بشكل الدين الماركسي، حيث يغيبُ التحليلُ الطبقي التاريخي، والتجسيد الديمقراطي وتتصدر الكلماتُ المنتفخة المؤدلجة: دكتاتورية البروليتاريا، الثورة الاشتراكية، حكم السوفيتات.
إن البرجوازية الغربية المسيطرة عالمياً تنظر لخروج روسيا من السوق العالمية كخطر اجتماعي سياسي، لكن النموذج الروسي لا يحصل على أرضية تطبيقية في الغرب، ودون أن ينظر لينين لذلك عبر الخطأ المستمر في منهجه، وعدم اعترافه بالتشكيلات التاريخية المتباينة وتطورها المديد المختلف.
وهو يعيدُ ذلك إلى قضايا وحالات شخصية فردية لزعماء الاشتراكية الديمقراطية:
(فإن سبب هذه الانتهازية يعود أولاً إلى تشويه آراء ماركس في الدولة بل إلى كتمانها المتعمد).
إن السبب يعود لتطور تاريخي كبير مختلف بين روسيا والغرب، ففي الأولى ثمة هلامية اجتماعية واسعة، وملايين من الفقراء والفلاحين الشديدي الفقر، وبالتالي فإن البرامج الديمقراطية العامة كالإصلاح الزراعي تجد قبولاً واسعاً لديهم، فيما تجاوزت الدولُ المتطورةُ في الغرب هذا المستوى.
إن عدم توجه العمال الغربيين للثورة الاشتراكية يعود لمستويات المعيشة المختلفة كثيراً عن روسيا، كما أن الثورة الاشتراكية المتخيّلة من قبل لينين غير ممكنة في الغرب لأن العمال هناك لا يتحمسون لمثل هذه المغامرة الغامضة وهم يناضلون ضد الرأسمالية كذلك ويصعّدون ممثلين لهم في البرلمانات والحياة السياسية والاقتصادية ويطورون حياتهم الاجتماعية.
تصوير لينين الثورةَ الديمقراطيةَ القومية الروسية بأنها ثورةٌ اشتراكية هي جزءٌ من المتخيّل الحزبي، بسببِ الخلط بين بعض المهمات الديمقراطية الضرورية لتطور روسيا في سياق صلتها بالتحديث وبعض الإجراءات الاقتصادية المضادة لتلك المهمات.
المتخيٌّل هو بسبب غياب قراءة القوانين الموضوعية للتشكيلات، فتأميمُ مصانع لا يعني إزالة علاقات الانتاج الرأسمالية، كما أوضحنا سابقاً، ولهذا فإن علاقات الانتاج الرأسمالية ستظهرُ عبر المؤسسات الاقتصادية الجديدة الواسعة الانتشار، وعبر وجود إدارة وعمال. ولكن لن يحدث للجانبين الإدارةِ والعمال، القيادةِ والقاعدة، الملاكِ الجدد السياسيين والأجراء، نفس التطور لقرنائهم في الغرب.
إن شكلَ رأسمالية الدولة يغدو شكلاً انتقالياً، فقد عبرَ التشكيلةَ الاقطاعية لكنه لم يدخلْ بعد التشكيلةَ الرأسمالية. ويظل يتذبذب لعقود حتى يدخل فيها وهو عالقٌ ببقاياها المؤثرة جداً على تطور المجتمع.إن سياقَ المهمات الديمقراطية يُؤخذ روسياً في حضنِ الدكتاتورية، فتوزيعُ الأراضي على الفلاحين هو إجراءٌ ديمقراطي اجتماعي، وهو يقوي الأحزابَ المعبرة عن الجمهور الريفي خاصة، ويوسع التنوعَ ويعزز سلطة البرجوازية الصغيرة الشمولية التي تخافُ من إنتشار هذا التنوع فتلجأ لإجراءات القمع الواسعة، ولهذا تجري جوانب مضادة للديمقراطية كخنق السوفيتات، وحل الأحزاب الأخرى، ومنع الصحافة الحرة الخ.
هذه التجربة يعتبرها لينين نموذجاً للغرب ولكن الشرق هو الذي يستفيد منها، بسبب تشابه التشكيلة الإقطاعية التي يعيشُ فيها، وجذوره الدكتاتورية القومية والمحافظة.
ومن هنا تأخذ الثورةُ الديمقراطية الروسية طابعاً تأثيرياً تحررياً في العالم الثالث، بمواجهةِ الاستعمار العدو المشترك، والخانق للتجارب الرأسمالية الوطنية، وكذلك تتضافر بعض المهمات الديمقراطية والاجتماعية، ويتنامى المتخيّلُ السياسي كثيراً وتزداد المغامراتُ الرعناء أيضاً.
مثلما يتبددُ ضبابُ التداخلِ بين ما هو ديمقراطي قومي وما هو إشتراكي، أو ديني، والذي يتشكلُ في بدايةِ الأفق الاجتماعي الصباحي التحولي لشعوب الشرق، والذي يبالغُ في تصويرِ قفزاته المتخيّلة، ثم يقاربُ المهمات الحقيقية، برؤيةِ التناقضات الطبقية العصية على الحلول السريعة وأهمية تطور مستويات التطور للأغلبيات الشعبية في ظل مثل هذه الأنظمة الديمقراطية.
أدواتُ لينين التحليلية التي تكونت في ظلِ رؤيةٍ شمولية مستعينة بالتعميمات المجردة، مكونةً مغامرةً تاريخية، تتوجه كذلك لرفض التكتيكات السياسية المغامرة أيضاً!
فهو إذ يعتبر ما قام به البلاشفة فعلاً تطورياً متصاعداً ناضجاً يرفض بعض الإجراءات السياسية والدعوات الفكرية الرافضة للمشاركة في البرلمانات والنقابات(الرجعية)، معتبراً إياها عملاً مغامراً.
هذه الازدواجية تعبر عن كون النضالات التكتيكية هي مقدمة وأدوات للاستيلاء على السلطة، وإقامة السلطة الاشتراكية في البلد المتخلف روسيا، التي تغدو هي المغامرة الكبرى والخطيرة المكلفة لحياة الملايين من الناس، بدلاً من أن تكون وسائل ديمقراطية محولةً للمجتمع وللحزب نفسه.
إن الوعي المغامر يبدأ من البداية من نشر الشمولية في الحزب والتصور الواحد وقيادة المجموعة لتلك المخاطر التاريخية، بدلاً من الاعتماد على التعددية والنمو الديمقراطي التدريجي وتفكيك الصلات السياسية الشمولية بين القومية الروسية المسيطرة والقوميات المسيطر عليها، وإيجاد تجربة نهضوية متدرجة تزيل الألغام الاقتصادية والاجتماعية التي لاتزال روسيا حتى الآن بعد تلك المغامرة تعيشُ عقابيلها وآثارها.
حيث لاتزال القوميات ومجموعات الأديان المختلفة تهز روسيا الاتحادية التي لم تقارب العالمَ الحديث الديمقراطي بعد، ولديها ترسانة عسكرية ونووية كبرى، ولاتزال تعيش ذلك الضباب الصباحي السياسي ومفترق الطرق السياسية، وتساهم في قمع بعض الشعوب بشراسة.
ولو كانت تلك المغامرة لم تحدث وسارت روسيا في الطريق الديمقراطي لكانت قد فككتْ الكثيرَ من الألغام التي تمشي عليها الآن.
الدولةُ والدكتاتوريةُ الروسية
يضعُ لينين تعريفَ المفكر فريديريك أنجلز بدايةً لكتابهِ (الدولة والثورة)، الذي يُعرفُ الدولةَ في كتابهِ (الملكية الخاصة والعائلة والدولة) بأنها تنشأ: (لكيلا تقوم هذه المتضادات، هذه الطبقات ذات المصالح الاقتصادية المتنافرة، بالتهام بعضها بعضاً وكذلك المجتمعات في نضال عقيم، لهذا اقتضى الأمر قوة تقف في الظاهر فوق المجتمع، قوة تلطفُ الاصطدامَ وتبقيه ضمن حدود «النظام». (الدولة والثورة ص2).
لكن لينين يقولُ شيئاً آخر:
(إن الدولة تنشأ حيث ومتى وبقدرِ ما لا يمكن، موضوعياً، التوفيق بين التناقضات الطبقية. وبالعكس، يبرهن وجود الدولة أن التناقضات الطبقية لا يمكن التوفيق بينها).
وجهتا نظرٍ تبدوان متقاربتين لكن ثمة تشويشاً أيديولوجياً في تعبير لينين.
فحين تتصاعد التبايناتُ الاجتماعيةُ في القَبليةِ على سبيل النشأة التاريخية فإن جهازَ الدولةِ يظهرُ من رؤساء العشائر والمتنفذين ليجعل التناقضات الاجتماعية غير مفجرةٍ للقبيلة، وأن يستمر وجودها الاجتماعي الموحّد، وحين تغدو القبيلةُ متحكمةً في مدينة وتقوم القوى العليا بالحكم فيها وتتفاقم الصراعاتُ الاجتماعيةُ فتظل الدولةُ قامعةً للخارجين عن سيطرتها ولخلق وحدةٍ اجتماعية سياسية.
إن التناقضات الطبقيةَ يمكن المواءمة بينها حسب طبيعة أسلوب الإنتاج ومدى تطوره أو تفسخه، وليس بشكلٍ تجريدي عام كما يصورُهُ لينين.
فإذا كان أسلوبُ الإنتاجِ مستمراً متطوراً فإن الدولةَ المعّبرةَ عنه تبقى مستمرةً وتبدأ الدولةُ في التخلخل والانهيار التدريجي حين يغدو أسلوبُ الإنتاج متناقضاً، وتصطدمُ قوى الإنتاجِ بعلاقاتِ الإنتاج المتخلفة، وعلى قدرةِ الدولةِ والقوى السياسيةِ بفهم هذا التناقضَ الجوهري وإيجاد الحلول له، فإن الدولة تبقى وربما تتطور، وربما تدخلُ في تناقضاتٍ مستعصية على الحل كالحالة الروسية.
لا يقومُ لينين بدرسِ أسلوبِ الإنتاج ليضعَ بعد ذلك الجوانبَ الداخليةَ فيه كالدولة والصراع الطبقي ضمن مساره، فيقرأها على ضوء الكل، على ضوءِ التشكيلةِ التاريخية.
(الأيديولوجيون البرجوازيون ولاسيما الأيديولوجيون البرجوازيون الصغار، – المضطرون تحت ضغط الوقائع التاريخية القاطعة، إلى الاعتراف بأن الدولة لا توجد إلاّ حيث توجد التناقضات الطبقية، ويوجد النضال الطبقي، -«يصوّبون» ماركس بشكل يبدو منه أن الدولة هي هيئة للتوفيق بين الطبقات. برأي ماركس، لا يمكن للدولة أن تنشأ وأن تبقى إذا كان التوفيق بين الطبقات أمراً ممكناً. وبرأي الأساتذة والكتاب السياسيين من صغار البرجوازيين والتافهين الضيقي الأفق ؟ الذين لا يتركون سانحة دون أن يستندوا إلى ماركس باستلطاف! ؟ الدولة توفق بالضبط بين الطبقات. برأي ماركس، الدولة هي هيئة للسيادة الطبقية، هيئة لظلم طبقة من قبل طبقة أخرى، هي تكوين «نظام» يمسح هذا الظلم بمسحة القانون ويوطده، ملطفاً اصطدام الطبقات. وبرأي الساسة صغار البرجوازيين، النظام هو بالضبط التوفيق بين الطبقات، لا ظلم طبقة لطبقة أخرى؛ وتلطيف الاصطدام يعني التوفيق، لا حرمان الطبقات المظلومة من وسائل وطرق معينة للنضال من أجل إسقاط الظالمين.)، المصدر نفسه.
يتم الصراع الأيديولوجي هنا بين وجهتي نظر محصورتين في جوانب جزئيةٍ ضيقة، فالدولةُ لدى لينين أداةُ ظلمٍ من طبقة لأخرى، وكلمة ظلم مثالية أخلاقية، ويمكن قراءتها بأن الدولةَ أداةٌ في يد طبقةٍ لاستغلال طبقات أخرى حسب تاريخ التشكيلة، فيمكن لدولةٍ أن تقوم بالصراع مع الطبقة التي تمثلها، وتطرح إجراءات تحويلية، في الاستثناء التاريخي، ويمكن أن تظل أداتها المعتادة في الحكم في الأحوال العادية.
ما يحددُ التغييرَ والعاديةَ في مسلك الدولة، وما يحددُ الثورةَ هو مدى تطور التناقض في أسلوب الإنتاج. فأسلوبُ إنتاجٍ في بدايتهِ ربما تلجأُ فيه الدولةُ لإجراءاتٍ إيجابية مفيدةٍ للكل الاجتماعي كما يحدث في ظروف الإصلاحات الاقتصادية السياسية. وما يحددُ الانفجارَ هو عجزُ الطبقةِ عن تغيير التناقض المتفاقم في أسلوبِ الإنتاج.
ومن هنا فإن التعبيرات المُستخدمة في هذه الفقرة السابقة أعلاه هي مواقف جزئيةٌ لا تدلُ على أن الثورة لازمة حتمية أو أن الإصلاحات غير ممكنة أو أنها ضرورية، فالأمور هنا خاضعة للمجتمع ودرجات تطوره وتناقضاته وكيفية حلها، من قبل القوى الاجتماعية السياسية المختلفة.
فتعبيرُ لينين بكونِ الدولةِ أداةُ ظلمٍ، أو تعبير الاشتراكيين الديمقراطيين والجماعات الأخرى بأن الدولةَ أداةٌ للتوفيق بين الطبقات، لا يرتكز على قراءة تاريخ التشكيلة وأسلوب الإنتاج.
فالمجتمعُ الروسي القيصري هو مجتمعٌ إقطاعي فيه علاقاتٌ رأسماليةٌ متنامية، لكنه لم يحسم تطوره التحديثي بعد، فعلاقاتُ الإنتاجِ السائدة إقطاعية، وقوى الإنتاج البشرية السائدة وهم الفلاحون، والمادية وهي أدوات الانتاج في الزراعة خاصة تصطدم مع علاقات الإنتاج الإقطاعية المتخلفة.
ولهذا فإن الدولة الروسية هي دولة إقطاعية وينبغي أن تتحول لدولة رأسمالية حديثة وهو الخيار التاريخي، وحين يتوجه من يسميهم لينين البرجوازيين الصغار لتصعيد المجتمع الرأسمالي الحديث الديمقراطي وتغيير طابع الدولة يكونون في المسار التاريخي الصحيح، أما ما يقوله بالقفز على ذلك فهي مغامرة تاريخية كبيرة لها نتائج وخيمة.
في محاولتهِ لإقامةِ دكتاتوريته يتلاعبُ لينين بالنصوصِ الماركسية والحيثيات التاريخية، فالدولةُ كقوةٍ تمثل الطبقة السائدة هذا معنى معروف وشائع، ولكن القوى السياسية المعارضة لا تشكل فصائل مسلحة لهدم النظام بدعاوى مختلقة، بل عبر اعتمادها على التطور الديمقراطي والمؤسسات المنتخبة المنبثقة عنه، لكنه يقولُ ذلك ويفعلهِ ليبررَ مغامرته العسكرية الذاتية، أي العائدة لفصيل سياسي مغامر يمثل الرأسمالية الحكومية ويقول إنه ممثل العمال وإنه يقيمُ الاشتراكيةُ لهم!
بالاعتماد على نصوصِ الماركسية القائلة إن الدولةَ جهازٌ يمثلُ الطبقة الحاكمة بشكل عام، لكن يمثله حسب تطور أسلوب الانتاج، لا في التجريد السياسي الاجتماعي، وعندما يقومُ بهذا التمويه وينتقي جملاً ويحشدها في برنامجه المغامر.
فهناك التعكز على كومونة باريس وإنشائها لقوةٍ عسكرية، ولكن هذه القوة تمت لغياب الجيش الفرنسي وللاحتلال الألماني لفرنسا، ولهروب الحكومة الفرنسية إلى فرساي، كما أن هذا الحدث الاستثنائي لا يُلغي في التاريخ الفرنسي العودة للمؤسسات الديمقراطية وإلى حكم الطبقة السائدة البرجوازية والصراع معها والدفاع عن مصالح الأغلبية الشعبية كذلك. لكن لا تستطيع الكومونة أن تقيم نظاماً اشتراكياً فرنسياً متواصلاً.
كذلك يستند لينين إلى دعاوى الفساد وأن الحكومات الغربية الرأسمالية ممتلئة برشا الشركات.
(وفي الوقت الحاضر«رقت»الإمبريالية وسيطرة البنوك إلى حد فن خارق هاتين الوسيلتين من وسائل الدفاع عن سلطان الثروة وممارسة هذا السلطان في أي جمهورية ديموقراطية كانت).
إن تلوثَ الدول الغربية وتعبيرها عن الاستعمار والاستغلال هي أمورٌ لا شك فيها، ولكن هناك كذلك مؤسساتٌ تقاومُ وتفضح، عبر وجود برلمانات وصحافة مختلفة الاتجاهات وطبقات شعبية وحق الإضراب والتظاهر وغير ذلك، لكن في مشروع لينين الدكتاتوري فإن كل وسائل الفضح هذه سوف تختفي، والرأسماليةُ الحكوميةُ المزعومة اشتراكيةً ستغدو دكتاتوريةً شموليةً تمنعُ الصحافةَ المتعددة وحقَ الإضراب والانتخابات الديمقراطية وتُصعّد الفاسدين البيروقراطيين كحكامٍ ورأسماليين على مدى عقود حتى ينفجر الاتحاد السوفيتي بتناقضاته المزروعة من عهده!
إن التحالف والتعاون الذي تطرحهُ فصائل سياسيةٌ اجتماعية متعددة من أجل إنشاءِ وتطور جمهورية روسيا الديمقراطية يهزأ به لينين ويرفضه، ويقول إنه صارت في روسيا خلال الأشهر القليلة من سنة 1917 حيث انتصرت الثورة الديمقراطية على الإقطاع ظاهرة فساد وهي دليل على فساد الحكومات الناشئة عن هذه الحيثيات السياسية وبالتالي يجب إسقاطها.
إن مقاومةَ الفساد هو شأنٌ نضالي جماهيري عبر تطور البرلمانات والأحزاب والصحافة والرأي العام والنقابات المستقلة، وغيابها هو بقاءٌ للفساد وتجذره في النظام حيث سيعششُ فيه ويخنقهُ مع غياب تلك الأدوات الديمقراطية كما حدث في نظام رأسمالية الدولة الشمولية الذي أقامه لينين.
(ويمكن القول في شهر العسل لقران «الاشتراكيين»، الاشتراكيين-الثوريين والمناشفة، بالبورجوازية ضمن الحكومة الائتلافية- قد عرقل جميع التدابير الموجهة لكبح جماح الرأسماليين وسلبهم ونهبهم للخزينة العامة بالطلبات العسكرية.)
إن الاختلافات بين القوى السياسية الديمقراطية يجب أن تتجذر وتتطور لتشكيل نظام ديمقراطي وأن تُقاوم ظاهرات الفساد وفقر الناس وان تطور الإصلاحات في الريف وغير هذا من المسائل الملحة لتحقيق الثورة الديمقراطية الوطنية.
لكن لينين كدكتاتور يستغل هذه الوقائع ويفصلها عن مسار أسلوب الإنتاج والتشكيلة، عبر لصقها مع مقتطفات من أنجلز، وقد قرأنا لأنجلز في كراسه(حول المسألة الدستورية في ألمانيا، راجع مقالتنا من رأسمالية الدولة إلى الرأسمالية الحرة) نظرةً مختلفةً عما يقولهُ لينين بالتعكز على أنجلز وكتابه (العائلة والمُلكية الخاصة والدولة)، وهو كتابٌ يعالجُ مسائلَ نظرية تاريخية بعيدة، في حين يوضحُ كراسُ المسألةِ الدستوريةِ أوضاعاً أوروبية معاصرة، حيث يؤكد أنجلز في مقالته أهمية دعم البرجوازية وتصعيدها لتشكيل نظام ديمقراطي حديث، من دون غياب الصراع معها.
نظرةُ أنجلز نظرةُ ثوري عالمٍ ونظرة لينين نظرة مغامر سياسي، لا يقوم بالتحليل العميق الواسع للظاهرة، بل يرتكزُ على مقتطفات غالباً ما تكون مطولةً من الكتب الأخرى، ليبررَ موقفه السياسي المفصول عن قراءة التشكيلة التاريخية عبر بضع عبارات وجمل.
فهل يمكن لنظام رأسمالي وليد في روسيا لم تمض عليه سوى بضعة شهور ليتم القفز عليه؟ نظامٌ رأسمالي في قمته فقط بينما علاقات الانتاج والحياة الاجتماعية إقطاعية؟
أسلوب الإنتاج الإقطاعي لم يتم تغييره، وثمة أسلوب لم يتعمق هو الأسلوب الرأسمالي، ثم يقال إن هناك تشكيلة تاريخية أخرى هي التشكيلة الاشتراكية يجب أن تُفرض من أدوات السلطة!
ومن هنا فإن القوى السياسية الديمقراطية الروسية في تصعيدها للنظام الرأسمالي التدريجي كان ذلك ضرورياً، ثم جاءت المغامرةُ السياسيةُ البلشفية ومن ثم حدثتْ الحربُ الأهلية والتدخلات الأجنبية وسقط ضحايا بمئات الألوف.
إن غياب الرؤية الكلية لتباين مواقع الرأسماليات الغربية عن الدول الشرقية، وعدم قراءة أساليب الإنتاج في كلٍ موقع بين الغرب والشرق، واعتماد الانتقائية في القراءة وإخضاعها لأدلجةٍ مسبقة لمشروع سياسي شمولي، وقلب الحقائق والمواقف الطبقية للفصائل المختلفة، وتصعيد المغامرات السياسية العسكرية، هذه هي نظرة لينين للعملية السياسية الاجتماعية، التي ستغدو مادةً وراثية لقوى سياسية كثيرة ستدخل في صلب أعمالها ومناهج عملها فتقودُ النضالَ الديمقراطي لشعوب الشرق إلى سكك خاطئة تفشل لتصعد القوى الطائفية والرجعية والرأسمالية الحكومية الطفيلية في نهاية المطاف.
الاشتراكية من حلم إلى كابوس
تبرزُ دكتاتوريةُ لينين بشكل أكثر وضوحا في الطرح السياسي، حيث تكمنُ البؤرةُ الرئيسية لعمله الفكري عامة، فرغم انه ينطلق في السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين من ظروف روسيا المتخلفة في الاقتصاد والحياة السياسية، فانه يقارن نفسه بدول رأسمالية أكثر تطورا كألمانيا وفرنسا، من دون أن يعي مستوى التشكيلة الإقطاعية الروسية المتآكلة والتشكيلة الألمانية والغربية عامة الرأسمالية الصاعدة.
ومسألة تمييز التشكيلات في الماركسية أساسية وهي تشكيلاتٌ مرتْ بها البشريةُ عبر التاريخ؛ المشاعية، والعبودية، والإقطاع، والرأسمالية.
وتتعلق فترتنا المشتركة في دول العالم الثالث بهذه الحلقة الانتقالية بين الإقطاع والرأسمالية، وفيما تشاركنا روسيا في مرحلة الانتقال هذه، فإن ألمانيا المخصص لتجربتِها النقد في هذا الكتيب المُسمى (ما العمل؟)، بدأتْ تدخلُ الرأسماليةَ باتساعٍ في ذلك الزمن من أوائل القرن العشرين.
وحين يلغي لينين الفروقَ بين البلدين، ويبدو كما لو أن البلدين يقعان في ذات السياق التاريخي، يبدأ أولُ انحرافٍ كبير له، وهو الإطاحةُ بقوانين التشكيلات، والدخول في المغامرة السياسية.
سنقرأ كتابَه لهذه الفترة المحورية وهو (ما العمل؟)، المتعلق بالمهمات الكبيرة التنظيمية والفكرية والسياسية للحزب المنقسم وهو الحزب الاشتراكي الديمقراطي الروسي.
في ذلك الوقت استطاعت الحركةُ الاشتراكيةُ الديمقراطية الألمانية أن تحققَ تقدما كبيرا في الانتشار والحصول على تأييد العمال، وبدأت التأثير في الحكم والمشاركة فيه.
فيما كانت الحركةُ الاشتراكية الديمقراطية الروسية في حضيضِ الحياةِ السياسية الاجتماعية في روسيا في بلدٍ متخلفٍ أغلب سكانه من الفلاحين الأميين الفقراء، فكانت حركةً سريةً تعاني الرقابة والاضطهاد.
يوجه لينين الأنظارَ في كتيبهِ السابق الذكر إلى مسائل خلافٍ كبيرة بدأت تطفو في الحياة الفكرية السياسية داخل الحزب، وهو ما يسميه ظهور خطين للحزب ومستمدين من الصراع في الحركة الاشتراكية الديمقراطية العالمية عامة، يقول:
(وقد أعلن برنشتين وأظهر ميليران بما يكفي من الوضوح فحوى الاتجاه «الجديد» الذي يأخذُ من الماركسية «القديمة» الجامدة موقفا نقديا. ينبغي للاشتراكية الديمقراطية أن تتحول من حزب للثورة الاجتماعية إلى حزبٍ ديمقراطي للإصلاحات الاجتماعية. هذا المطلب السياسي أحاطهُ برنشتين بمجموعةٍ كبيرة من البراهين والاعتبارات الجديدة؛ فقد أنكرَ إمكانية دعم الاشتراكية علميا وإمكان البرهان على ضرورتها وحتميتها من وجهة نظر المفهوم المادي للتاريخ، أنكرَ واقع تزايد البؤس والتحول إلى البروليتاريا وتفاقم التناقضات الرأسمالية، أعلن أن مفهوم (الهدف النهائي) ذاته باطل ورفضَ فكرةَ دكتاتورية البروليتاريا رفضا قاطعا، أنكرَ التضاد بين الليبرالية والاشتراكية، أنكرَ نظريةَ الصراع الطبقي وزعم انها لا تنطبق على مجتمع ديمقراطي صرف يُدار وفق مشيئة الأكثرية)، كراس: ما العمل؟ فصل الجمود العقدي وحرية النقد.
إن برنشتين، زعيمَ الحركةِ الاشتراكية الديمقراطية الألمانية التي توجتْ تطورا سريا مقموعا طويلا في ألمانيا فتحولتْ لحركةٍ شعبية مؤثرة، يتطلعُ إلى المزيد من التطور لها وللحكم وتنفيذ إصلاحات عميقة في ألمانيا التي كانت قيصرية، ولهذا فإن الحركة وقد غدت بهذا التأثير يعمل لتقدمها ويطرح نقاطا حيوية مهمة للتطور السياسي الاجتماعي، وبعضها نظري محدود الرؤية حتى خاطئ، ولكن المهم المفيد التقدمي أن برنشتين لا يريدُ الإطاحةَ بالبرجوازية التي تشارك في الحكم بل يريد توسيع الاصلاحات المخصصة للعمال والشعب عامة، وتعميق المسار التحديثي الديمقراطي، فلماذا يغضب لينين؟
لينين ينطلق من خطةٍ مضادة هي الإطاحة بالنظام القيصري، كهدف رئيسي في الثورة الديمقراطية البرجوازية، ثم يقوم بالإطاحة بالبرجوازية التي شاركته في الثورة على القيصرية، من أجل ثورة اشتراكية، لأن البرجوازية لا تصلح أن تقود وتؤسس نظاما، فهي طبقة وصلت إلى الموت الاجتماعي.
لقد انساقَ لينين انسياقا كبيرا مع إرادته الذاتية، وعوضا أن يدرس بعمق تجربة الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني وكيف ناضل خلال عقود عديدة في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين ليتحول إلى هذا التأثير الكبير ثم ليطرح مطالب عملية مهمة، بدلا من ذلك انساق لرؤية سياسية اجتماعية مغامرة والدعوة إلى قفزاتٍ كبرى في بلد إقطاعي شبه رأسمالي متخلف، وذلك لكي تصعدَ الإرادةُ الدكتاتوريةُ الشخصية والحزبية.
ولم تكن هاتان الرؤيتان في الحزب الاشتراكي الديمقراطي الروسي تُدرسان في لقاءاتٍ واسعة وفي جدل خصب اجتماعي، بل كانتا تُبحثان بشكل مقالات وكتابات مختلفة متصارعة تغيب عنها الأطر الديمقراطية والدرس الواسع الشعبي العميق، وتتحول إلى وجهات نظر حادة ومبتورة وتكوّن أتباعا متحمسين منفعلين وخاصة في الجانب البلشفي ليكونوا بعد ذلك أداة الانقلاب السياسي في .1917<.
إن لينين عبر طرحه لخطه في الحزب الاشتراكي الديمقراطي الروسي كان يريد القضاء على البرجوازية والرأسمالية عبر التحالفات الاجتماعية والسياسية في حدود سنوات قصيرة، مما يمثل قفزةً في الفراغ.
رفضه لقوانين التشكيلات وضرورة ترسخ الرأسمالية في بلد ونشوء الطبقتين المنتجتين للتطور الحديث البرجوازية والعمال قاده للمغامرات السياسية والعسكرية.
وقد رأى برنشتين زعيم الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني السابق الذكر الذي استشهد به لينين وأعرض عن درس أفكاره بعمق، أن تحقيق الاشتراكية لم يعد هدفاً للحزب بل هدفه هو تطور وضع الطبقات الشعبية وتحقق إصلاحات عميقة لها.
يقول برنشتين ذلك وهو في دولةٍ متطورةٍ قياساً للينين، وقد دخلت البُنيةُ الرأسمالية بقوة واتساع، لكن لماذا لم يتجه برنشتين إلى تحقيق الاشتراكية وهو في مثل هذا الوضع؟
إن إعراض برنشتين عن وضع الاشتراكية كهدف نهائي هو أمر موضوعي، فهل تعني سيطرة الطبقة العاملة على الحكم إزالة الرأسمالية؟
هنا يرفض لينين جملةَ برنشتين (إن مفهوم «الهدف النهائي» ذاته باطل ورفضَ فكرةَ دكتاتورية البروليتاريا).
يعتبر لينين ذلك انتهازية يمينية (حقيرة) وما إلى ذلك من تهم حامية رنانة، ويغيبُ عنه مرةً أخرى مفهومُ التشكيلة التاريخية، وهي المرحلة التي تسود فيها علاقاتُ إنتاجٍ لقرون.
إنه يريدُ الإطاحةَ بالبرجوازية كطبقةٍ لكن الرأسمالية ليست فقط طبقة، الرأسماليةُ علاقاتُ إنتاجٍ، سواء كان رأس المال للأفراد أو للجماعات أو للدولة، والقضاء على الرأسماليين الأفراد لا يعني القضاء على الرأسمالية!
لأنهم سوف يظهرون مجدداً في مؤسساتِ الدولة وخارجها، وتتحول الدولةُ إلى أكبر رأسمالي، ويتحدد نموها عبر البنية الاجتماعية التي تظهرُ فيها، بمستوى قوى الإنتاج، ومستوى علاقات الإنتاج، وعمليات التبادل وطبيعة الأسواق الخ.
حين تصبحُ الدولةُ هي الرأسمالي الأكبر الأوحد لا تستطيع الإفلات من قوانين الرأسمالية والقيمة، وفائض القيمة وتوزيعه، وضرورة الأسواق لتصريف السلع، التي لابد أن تكون منوّعة متنافسة لكي تتطور وتلبي حاجات المستهلكين. أما أن تَصنعَ سلعةً واحدة مفروضةً سياسياً فهو أمر يؤدي إلى تآكل وتوقف قوى الإنتاج عن التطور وتدخلُ في صراعٍ مع علاقاتِ الإنتاج الرأسمالية الحكومية.
فتحدث ثورةٌ لكنها ثورة مضادة، ثورةٌ للعودةِ إلى الرأسمالية الحرة!
هذا المسارُ العائدُ للخلف يمكن ملاحظته في إصلاحات خروتشوف وليبرمان القاصرة لإعادة السوق التنافسية، لكن رأسمالية الدولة ظلت مهيمنة كلياً مكلسة لتطور السلع والحياة الاجتماعية السياسية.
هكذا فإن رأس المال العام يتعرضُ للتآكل والتدهور، ويُعوض ذلك بالتوجه لصناعة السلاح التي تقع تحت يد الدولة كلياً، وقوى الإنتاج تتدهور ويصبح العمال مجمدين ومتخلفين وكسالى ومدمنين.
فما رأس المال سوى نتاج لقوى العمل المتراكمة، التي تأخذ أشكالاً متعددة، وتتطور عبر توسع قوى الإنتاج والأسواق، حتى يعم هذا الأسلوب البشرية وتصبح الطرق أمامه مسدودة في مسائل تصريف السلع ووجودها القيمي نفسه، وهذه مسائل القادمين.
لكن أن يتحول بلد متقدم أو متخلف إلى الاشتراكية فهو مسار صعب بعيد وقائد مثل برنشتين الألماني الديمقراطي يعيش في حالات جدال مع الدولة والعمال والبرجوازية ويواجه مسائل تطور عملية متصاعدة، فهو غيرُ قائدٍ سياسي مغامر مثل لينين، يعيشُ في مخبئه، ويحاورُ بضعةَ أشخاص، ويصدرُ الأوامرَ ويكوّن تنظيماً شمولياً متجها إلى التحريض المستمر والصراع المتصاعد، ولهذا يغدو التحولُ من موقعه الإرادي الذاتي المنتفخ وعبر فهمه المسطح للاشتراكية منفذاً على مدى سنوات قصيرة، فلا داعي لانتشار العلاقات الرأسمالية بعمق في البنية الاجتماعية، ولا داعي لتطور كل هذه الملايين نحو الديمقراطية والتعددية وانتشار الثقافة الحرة لا المقولبة كما سيحدث فيمكن اختزالُ الظروف كلها بانقلاب.
توجه روسيا للديمقراطية وتناميها فيها وتحول روسيا التدريجي للرأسمالية والحداثة كان من الممكن أن يجنبها الكثير من المشكلات الخطيرة والكوارث وملايين الضحايا الذين سقطوا في هذه المغامرات، كما أن تحولها الديمقراطي كان سوف يعمم الديمقراطية في البلدان المجاورة ويرسخها فيها.
أما تحولها إلى رأسماليةِ دولةٍ دكتاتورية فقد تركَ بصماته الكبرى على ألمانيا على سبيل المثال، استطراداً من بؤرة المسألة المطروحة، فقد انتقلت تجربةُ السوفيتيات وما سُمي بـ(الثورة الحمراء) إلى ألمانيا ذاتها، التي لم تكن الظروفُ مهيأةً فيها للاحتجاجات فقمعها الجيشُ بقسوة، وانحازت البرجوازية الألمانية للدكتاتورية وصعّدتْ هتلر كأداةٍ لسحق تنامي دعوات الاشتراكية الحمراء!
ووجد هتلر في افتراس الاتحاد السوفيتي أكبرَ مهمةٍ له، فيما كان ستالين قد ذبحَ الكثيرين كذلك، ورقد عن هذا الخطر، حتى اقتحم هتلر بلاده، لكن الشعوب في الاتحاد السوفيتي دافعتْ عن وطنها بشجاعة منقطعة النظير.
حين انقلبت الأمور وحكم السوفيت جزءًا من ألمانيا صدروا نظامَهم، حتى ثار الناسُ عليه، وراحوا يحطمون تماثيل ماركس!
كوارث تاريخيةٌ كبرى وتحولات تبدأ من كلمات. ألم يكن برنشتين وأفكاره أكثر تبصراً بالتاريخ.
الماديةُ والعلوم
في إنتاجِ دكتاتوريته الفردية يصعدُ لينين صراعَهُ ضد التعددية في الحزب، فيقسمهُ، ويصعدُ صراعَه ضد التنوع الديمقراطي في الغرب فيغدو الغرب برجوازياً لابد له من شيوعية نافية له بكليته.
لكنه أيضاً يتوغلُ في مجال العلوم ويواجه تعددَ المدارس والتيارات الفلسفية المثالية العقلانية والمادية التجريبية من أجل اكتساح المادية الجدلية للمسرح الفكري. لكن أي مادية جدلية لديه؟
ظهرت في أواخرالقرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين مدارس وحركات علمية عديدة لا تنطلق من المادية الجدلية بل من وعي علمي مختبري ومن غوص تجريبي في العقل ومن استخدام اللغة في تحليل منتجات العلوم الطبيعية.
كانت مدرسة (التجريبية المنطقية) تتوجه نحو دراسة الظاهرات الطبيعية بأشكالٍ جزئية تجريبية، حيث تفصلُ الظاهرةَ العامة عن كلية الطبيعة، وتدرس عناصر التجربة، لاستخلاص نتائج موثقة.
تعارضُ هذه المدرسةُ أفكاراً ومسلمات إطلاقية من أجل أن تموضع الدراسة، وتحللَ الشيءَ أو الظاهرة، ولهذا رفضت مفاهيم مثل(المادة) و(الجوهر) معتبرة إياهما آراءً قديمة غير نقدية.
(إن اللون هو موضوعٌ فيزيائي إذا أخذنا بعين الاعتبار تبعيته لمصدر النور الذي ينيره للألوان الأخرى والحرارة والمكان الخ، ولكن إذا أخذنا بعين الاعتبار تبعيته لشبكية العين فأمامنا موضوع نفساني إحساس).
إن التجريبية المنطقية تقوم بدرس هذين الجانبين المواد والأشياء عبر صلاتها بالأحساس والجهاز العقلي البشري:
(إن الصلة بين الحرارة والنار تخص الفيزياء في حين أن الصلة بين (العناصر) وبين الأعصاب تخصلا الفيزيولوجيا، ولكن لا هذه الصلة ولا تلك توجد بمفردها بل توجد كلتاهما معاً).
هذا ما يقوله الفيلسوف الإلماني ماخ في القرن التاسع عشر الذي ينقله لينين في كتابه (المادية والنقد التجريبي) ص 53، دار التقدم، موسكو.
فيقسم النقدُ التجريبي عمليةَ المعرفةِ المتأتية من العلوم إلى عناصر شيئية، وعناصر تفكيرية.
ويقول مفكر روسي موجزاً هذا (الإحساس مُعطى لنا أصدق من الجوهرية). بمعنى أن المطلقات هي خارج عملية البحث والتحليل للأشياء.
يعبرُ لينين عن اختلافه بطرق هجومية حادة ويقول محدداً وجهة نظره:
(يجب القول إن كثيرين من المثاليين وجميع اللاادريين.. يلقبون الماديين بالميتافيزئيين لإنه يخيل إن الاعتراف بوجود عالم خارجي مستقل عن إدراك الإنسان يعني تخطي حدود التجربة. وسوف نتكلم في حينه عن هذه التعابير وعن خطئها التام من وجهة نظر الماركسية)، ص .64
لا يحلل لينين بدقة مسألة وصف الماديين بالميتافيزيقية هنا، ويخلطُ بين(إن الأشياء مستقلة عن وعي الإنسان بالمطلق)، وبين أن الأشياءَ ليست مستقلةً عن وعي الإنسان النسبي.
إن انفصالَ الأشياء والطبيعةِ عن الإنسان هو أمرٌ موضوعي، لا جدال فيه، ولكنها ليست مستقلة عن وعي الإنسان التاريخي حين يتعامل معها ويحللها ويحاول اكتشافها.
وهكذا كان العلماء القدماء لا يفصلون أفكارهم وعقائدهم عن تحليل المواد، في حين وصلت العلوم بين القرنين 19و20 إلى عمليات متقدمة لفصل الوعي الذاتي للباحث عن المادةِ المدروسة.
ومن الممكن بهذا أن يقعَ الماديون في عالم الغيب الاجتماعي السياسي كما سيحدثُ للينين نفسه.
ومن هنا تتعاظمُ أهميةُ هذه القراءة للاحساس، ولتحول الانطباعات إلى معرفة، والتركيز على التجربة، التي لها أدوات ومستويات وتطورات في أجهزتها والتي تغدو ملغيةً لمعلوماتٍ وآراء سابقة نظراً لهذه الصلة بين المُعطى والتجربة.
لهذا تغدو العلومُ الطبيعيةُ منفصلةً عن الفلسفات والأديان والآراء المسبقة، وتغدو الفلسفات مستفيدة من خلاصات هذه العلوم ومستثمرة لها في وجهات نظرها.
من الممكن أن يكون هؤلاء الباحثون مثاليين ودينيين وماديين من مختلف التيارات، بسبب أن نشوء العلوم في الغرب جاء من وعي مسيحيين ويهود ومؤمنين عامة، وهؤلاء حاولوا الارتقاء بالعلوم وعدم الاصطدام مع أديانهم وحجموا دلالات ونتائج العلوم وربطها بالصراعات الاجتماعية. لكن لينين ينطلق من رؤية حادة لإزالة الأديان والاستغلال من دون وعي علمي حقيقي، فيؤدي إلى تجربة مغايرة لما يريد.
خذ مثلاً ما يقوله لينين نفسه عن الأثير وعلاقته بالوعي:
(وهذا يعني إنه توجد خارج عنا، بصورة مستقلة عنا وعن إدراكنا، حركة للمادة، مثلاً، موجات الأثير ذات الطول المعين والسرعة المعينة، التي يولد في الانسان، بتأثيرها في شبكة العين، الإحساسُ بهذا اللون أو ذاك)، ص .54
إن حركة المادة العامة المجردة هذه صحيحة التأثير غير أن (موجات الأثير) هذه غير موجودة في الطبيعة نفسها، أي أن هذا المصطلح من مفردات مدرسة علمية قديمة تم تجاوزها فلم يعد هناك شيءٌ اسمه موجات الأثير! لقد جرت تجارب علمية في أواخر القرن التاسع عشر أثبتت غياب هذا المُسمى، وبدأت نظرياتٌ علمية جديدة، ولكن مع غياب متابعة لينين:
(لقياس سرعة الموجات الكهرومغناطسية، قام ميكلسون ومورلي بإجراء تجربتهما الشهيرة سنة 1881وقد كانت هذه التجربة من أشهر التجارب في القرن التاسع عشر، التي أدت إلى ثورة علمية لأن نتائجها كانت تعاكس تماما أفكار الباحثين المؤيدين لفكرة الأثير).
بطبيعة الحال إن العديد من باحثي النقدية التجريبية مثاليون ومحافظون وبينهم باحثون مناضلون في نقد وتحليل العالم الطبيعي والاجتماعي كذلك، لكن التعددية واستثمار العلوم ونتائجها وتطويرها بالنقد يوجد شبكات تحليل واسعة للحياة في مختلف جوانب المعرفة.
يولي لينين أهميةً كبيرة لرجل الدين باركلي باعتباره مشابهاً بشكل كلي للعلماء الفيزيائيين والمنظرين النقديين التجريبيين، أصحاب هذه الفلسفة الجديدة التي قام لينين بمواجهتها في سنة 1908 في كتابه(المادية والنقد التجريبي).
(إن بريكلي يقول بكل جلاء إن المادة (جوهر لا وجود له)، ص .21
يعتبر لينين ذلك بمثابة (الهجوم المقدس على المادة)!
إن رجل الدين المثالي هذا في تصوره يماثل أرنست ماخ الباحث من القرن التاسع عشر الفيزيائي المعروف.
لكن ثمة فرق هائل بين القس بيركلي والعالم ماخ.
فمن هو بريكلي هذا؟
جورج بيركلي (12مارس 1685 – 14 يناير 1753) كان فيلسوفًا بريطانيًا – إيرلنديًا وأسقفا أنجليكانياً يعتبر من أهم مساندي الرؤية الجوهرية في القرن الثامن العشر الميلادي، ادعى بيركلي انه لا يوجد شيء اسمه مادة على الإطلاق وما يراه البشر ويعتبرونه عالمهم المادي لا يعدو أن يكون مجرد فكرة في عقل الله. وهكذا فإن العقل البشري لا يعدو أن يكون بيانا للروح. قلة من فلاسفة اليوم يمتلكون هذه الرؤية المتطرفة، لكن فكرة أن العقل الإنساني، هو جوهر، وهو أكثر علواً ورقياً من مجرد وظائف دماغية، لاتزال مقبولة بشكل واسع. آراء بيركلي هُوجمت، وفي نظر الكثيرين نُسفت)، موسوعة ويكيبيديا.
إذن بيركلي صاحب رؤية دينية متطرفة ألغى من خلالها العالمَ الموضوعي، واعتبرهُ مجردَ فكرةٍ إلهية، وهو امتدادٌ للعصور الوسطى والوعي الكَنسي التقليدي، ولهذا فهو يختلفُ إختلافاً كبيراً عن إرنست ماخ الذي عاش في القرن التاسع عشر باحثاً:
(ماخ، إرنست (1838 – 1916م) فيزيائي وعالم نفسي نمساوي درس حركة الأجسام بسرعتها القصوى خلال الغازات، وطوَّر طريقة دقيقة لقياس سرعتها معبرًا عنها بسرعة الصوت. وتعتبر هذه الطريقة مهمة وخاصة في مشاكل الطيران الأسرع من الصوت. ظل عمل ماخ مبهماً إلى أن بدأت سرعة المركبة الفضائية تقترب من سرعة الصوت. وبعد ذلك استُخدم مصطلح رقم ماخ مقياساً للسرعة)، المصدر نفسه.
وهو (يـُذكرُ باسهاماته في الفيزياء مثل رقم ماخ ودراسة موجات الصدم. كفيلسوفٍ للعلوم، فقد كان له تأثير كبير على الإيجابية المنطقية ومن خلال انتقادهِ لنيوتن، الذي مهّد لنسبية أينشتاين).
تتعدد وجهات نظر لينين تجاه ماخ ورؤيته، فيقول (التصور العام للماخيين ضد المادة) ص16، (الأسقف بركلي يساوي الماخيين)، ص35، وأتباعه يحاولون (تمرير المادية خلسة!)، (حاول أن يميل صوب المادية).
إن علماء الطبيعة يقومون بتنحية المُسبقات المختلفة، ومنها الأفكار، والتصورات القديمة عن المكان والزمان والمادة، وقد يقعون في أخطاء فكرية في هذا الهدف، ولكنهم يلجأون لذلك من أجل البحث العلمي، وعملية التنحية تبدو للينين بمثابة خيانة، ومن هنا يقوم ماخ بالبحث الجزئي المتغلغل في الظاهرة المدروسة للوصول إلى معرفتها والسيطرة عليها تقنياً، ثم يقوم باختراعاته الكبيرة لكن فهمه النظري المادي الجدلي محدود.
(إن افيناريوس ينعتُ بالبحث المطلق ما يعتبرهُ ماخ صلة (العناصر) خارج جسمنا، وينعت بالنسبي ما يعتبره ماخ صلة العناصر التابعة لجسمنا)، المادية ص.61
إن افيناريوس هو عالمٌ مماثلٌ لماخ اقتربَ من رؤيته، وهو يعتبر الطبيعة التي هي العناصر خارج الجسم وبالتالي هي مطلقة، ولن تكون هنا في مجال البحث، لكن العناصرَ التي تدخلُ البحثَ هي متأثرة بوعينا ومستوى إدراكنا فهي نسبية.
كانت ثمة ثورةٌ علميةٌ تجري في أوروبا من أجل الإطاحة بمفاهيم الفيزياء التقليدية، ومن أجل تصور جديد للمادة والكون، وهو تصورٌ متراوح متذبذب جزئي محدود لدى كل من ماخ وافيناريوس لكنه يظهرُ بصورته الكبيرة المادية الجدلية لدى انشتاين.
إن التجريبية النقدية المرفوضة عند لينين كانت تغيرُ العلومَ، لكنه كان لا يزالُ مع فكرة موجات الأثير، التي قامتْ تجربةُ العالِمين ميكلسون ومورلي بدحضها، سنة 1881 كما ذكرنا آنفاً في حين كتبَ لينين كتابَه سنة 1908، وطبعَهُ مرة أخرى بعد الثورة الروسية دون تغيير في فهمهِ لموجات الأثير، فتلك التجريبية أكدت أهمية دور العلماء الشخصي وتغييرهم لآراء سائدة مُسبقة، قَبلية.
في مقابل واحدية الحزب المطلقة وهيمنة الدولة المطلقة يجري كذلك جعل المادية الجدلية مهيمنةً كلية، لكن الدكتاتورية هنا مُصدعة للعلوم الطبيعية والاجتماعية على نحو خاص.
تتكشف في المساواة بين بريكلي والماخيين والتجريبيين المنطقيين عدم فهم لينين للتطور الاجتماعي الفكري العلمي ومراحله التاريخية ومسائل الديمقراطية وتعددية الاجتهادات الفكرية والفلسفية، ففيما يعكس بيركلي رؤية دينية صوفية رجعية يقوم علماءٌ من الفئات المتوسطة بتطوير العلوم مجتنبين الدينَ والمادية الجدلية الجامدة وقتذاك.
الاستعمارُ والديمقراطية
لابد من فهمِ أعمق للأفكارِ الاشتراكية في مرحلتيها السابقة الشمولية والراهنة الديمقراطية الجنينية المتصاعدة، فنشوء الرأسمالية له مراحل، وقد حددَ لينين في كتابه (الاستعمار أعلى مراحل الرأسمالية) بعضَ هذه السمات الجوهرية وعبرها حدّد تطورَ البشرية، مثل تبدل الرأسمالية الغربية من مرحلةِ المنافسة إلى مرحلة الاحتكار، ومن مرحلة الديمقراطية إلى مرحلة الدكتاتورية العالمية، واقتسام العالم بين الدول الاستعمارية الغربية، واقتسام العالم بين اتحادات الرأسماليين المختلفة المتصارعة، وأن الاستعمار هو طفيلية الرأسمالية وتعفنها، والاستعمار هو تتويجٌ للتطور الغربي بين القرون الثامن عشر والتاسع عشر والعشرين وحتى القرن الراهن.
ولينين يعيد ذلك إلى دور وأهمية الجوانب التقنية أيضاً، كتبدل وسائل المواصلات وتصاعد أهمية القطارات وبالتالي علينا أن ندخل كل شبكة المواصلات والاتصالات الشبكية الواسعة التي حدثت حتى وقتنا الراهن.
ولينين يستنتج من الجوانب الاقتصادية والتقنية المعزولة عن اللوحة العامة استنتاجات كبيرةً:
(وهذا الحاصل يُظهرُ أن الحروبَ الإمبريالية هي أمرٌ محتوم إطلاقاً على هذا الأساس الاقتصادي طالما بقيت وسائل الإنتاج ملكاً خاصاً(طالما بقيت علاقات الإنتاج الرأسمالية، علاقات المُلكية الخاصة الرأسمالية مسيطرة).
كما أنه يوسعُ هذه الاستنتاجات على نحوٍ أخطر:
(لقد غدت البورجوازية في العصر الإمبريالي رجعية على طول الخط في ظل جميع النظم ملكيةً كانت أم جمهورية، «ديمقراطية» كانتْ أم فاشية).
يضعُ لينين العالمَ بين خندقين، الأول هو العالمُ الرأسمالي المهيمن عبر الدول الغربية الذي هو معاد للديمقراطية، والعالم الجديد الوليد، العالم الاشتراكي، أساس الديمقراطية الحقيقية في تصوره.
ولهذا فهو يرى أن المجتمعات الغربية بين فترتين فترة رأسمالية تنافسية ظهرت فيها أشكالٌ تنويرية ديمقراطية، ثم جاءت الفترةُ الاستعماريةُ فسُحقت الديمقراطية، ولهذا لا تميّزَ بين التيارات، ولا يمكن قيام تحالفات بين القوى اليسارية والبرجوازية اليمينية، ومن هنا تغدو أهمية الأحزاب الشيوعية، التي هي حصيلة هذا الفهم حسب تصوره، والتي يقومُ دورها على هزيمة الرأسمالية في الغرب فيما الشرقُ يتجه للاشتراكية.
تقيم هذه الرؤيةُ استقطابيةً كبرى بين الرأسمالية والشيوعية، بين الشر والخير، بين الماضي والمستقبل، فهي تعسكرُ البشريةَ عسكرةً ثنائيةً استقطابية.
نلاحظُ هذا التعميمَ وهو يَخرقُ الموضوعيةَ في فهم العالم الرأسمالي، فمن خلال سمات تنامي الاحتكارات وهيمنة رأس المال المالي على بعض القمم الاقتصادية السياسية، وتصدير رأس المال بدلاً من تصدير البضائع، يصل إلى استنتاجاته السياسية النظرية الجازمة الكلية.
إن هذه السمات موجودةٌ حقاً، ولكن هناك قطاعاتٌ كبيرةٌ لا تهيمن عليها الاحتكارات، وجزرُ السيطرة في قلب المدن الكبرى موجودة وممتدة في شبكات البناء الفوقي، لكن توجد كذلك معارضة متعددة من أقسام برجوازيات أصغر وبرجوازيات دنيا، ناهيك بطبيعة الحال عن العمال، الذين هم أيضاً يناضلون ضد الرأسمالية ويتحول بعضُهم إليها كذلك!
كذلك فإنه لا يمكن الحديث عن كون العالم الشرقي المستغلّ من قبل الاستعمار هو احتياطي جاهز للاشتراكية، حيث حددَ لينين المصيرَ الكامنَ المجهول في وصفةٍ طبية مُسبّقة، من دون أن ينتهي مصيرَ العالم الغربي الرأسمالي في تطور استعماري وحيد لا غير فيه ولا احتمالات متعددة له. فالعالمُ الغربي مليءٌ بالاحتمالات مثله مثل العالم الشرقي التابع.
لكن الوصول إلى هذا التعميمات الكُليةِ بين غربٍ فاسد إستعماري وشرقٍ ناهضٍ نحو الاشتراكية، يكونُ رؤيةً غيرَ جدلية، ورؤيةً غيرَ ماديةٍ تاريخية، فهي رؤية أحادية ميكانيكية، تقوم على نقائض مُعمَّمة مجردةٍ في جهتين متقابلتين. وهي ثنائيةُ الإلهِ والشيطان الدينية الغائرة.
وفي العمل السياسي ينتجُ عن ذلك جملةً من المعالم والمشكلات الهائلة، فالتدرجات والألوانُ الديمقراطية الممكنةُ لدى الأقسام البرجوازية الكبيرة والأقل منها، تُزالُ من أجل لونٍ واحد.
فتغدو الشيوعيةُ هي اللونُ الأبيضُ الذي يجب أن يسود اللوحة في الغرب والشرق، فتظهر الأحزاب المطلقة القادرة على محو الرأسمالية في عقر دارها أو في العالم المتخلف الناهض اشتراكيا حتمياً.
تغدو في الغرب نضالاً فكرياً سياسياً يلغي مشروعية الرأسمالية ووجودها المتنوع، ويصير في الشرق دولةً اشتراكية أو معسكراً اشتراكيا، أو أحزاباً تحملُ المشروع وتحققه.
صارت البشرية بكل تضاريسها المعقدة المركبة ومراحل نموها المختلفة، وتباينها بين رأسمالية وخاصة سائدة ومشروع رأسمالية حكومية شرقية طالعة، في خطين أسود أو أبيض، رأسمالي أو شيوعي وليس ثمة طريق آخر.
يقدم لنا عنوانُ كتابِ (الاستعمار أعلى مراحل الرأسمالية) نهايةً تامةً راهنة للرأسمالية، فالاستعمارُ يمثلُ تفسخ الرأسمالية على المستويين الغربي والشرقي، في الأول تنهار من الداخل، وفي المستوى الثاني تتفجرُ كفاحاتُ الشعوب باتجاه الاشتراكية، فيكتملُ التطورُ البشري والإطباق على العدو الغربي، لهذا يتخذ لينين إجراءات سريعة راهنة لتنفيذ هذه الرؤية.
إن رؤية لينين صحيحة على المستوى الإطلاقي، على مستوى القرون، لكن حتى على هذا المستوى البعيد فإن الرأسمالية لا تنهار من خلال انقلابات، بل عبر التطور التدريجي لقوى الانتاج البشرية والمادية، عبر نموها الطويل وتشكل نقائضها داخل هذا التطور.
إن الوعي الانقلابي للاشتراكية، يتم بتتحقق الاشتراكية بمعزل عن العوامل الموضوعية الحاسمة في تصور المادية التاريخية، والوعيُ الخاصُ بالنخب لا يمكن أن يصنع ثورة، فالثورة ذات عوامل موضوعية، لكن في رؤيته خلط لينين بين الثورة الديمقراطية والانقلاب لتشكيلِ رأسماليةِ دولةٍ شرقية.
إن سمات الرأسمالية الغربية المتطورة عن بقية البشرية في لحظة سابقة، التي تطورت من المنافسة إلى الاحتكارات وكل تلك السمات التي لاحظها لينين واستقاها من مصادر علميةٍ غربية في وقته، هي صحيحة، لكنه ركب هذه السمات الموضوعية فوق رؤية مسطحة ذاتية، وهذه المميزاتُ لم تنتقل للعالم المتخلف حينذاك، ولم تتحول بُنى الدول الشرقية إلى بنى رأسمالية، فهي لاتزال في العصر الإقطاعي ومخلفات العصور السابقة في نهاية القرن التاسع عشر، وهذا ينطبق على روسيا كذلك.
ورغم هذه المميزات المعبرة عن تطور اقتصادي اجتماعي غربي، وكذلك عن سمات استغلالية غدت كونيةً، ونهبتْ العالمَ الثالث، لكن هذا الاستعمار من جهة أخرى جرّ هذا العالمَ لحركته التاريخية وبعض أشكال تطوراته، وعبر هذا نشأت حركاتُ التحرر الوطني، ذات الأهداف والميول الديمقراطية بحكم التداخل والصراع مع الغرب. وكل تجربةٍ تنامت عبر الليبرالية والديمقراطية والصراع والتعاون بين المالكين والمنتجين غدت تجاربَ مهمة، فيما الأخرى تكدست فيها تناقضاتٌ هائلةٌ فانفجرت أو في سبيلها للانفجار.
وحين قدمت روسيا مشروعَ التسريع الشمولي المعادي للغرب عبرت عن ازدواجية الانتماء للغرب ورفضه معاً. توجهت لجذبِ بناه التقنية لا مشروعه الاجتماعي الثقافي الديمقراطي. إن الاتحاد السوفيتي والمعسكر الاشتراكي ليسا نقيضي الغرب الرأسمالي، ولكنهما مماثلان له ومتخلفان عنه.
إنهما أخذا قواعده الاقتصادية التقنية وطرق شبكاته المالية وبعض علومه، ورفضا بنيته الديمقراطية الاجتماعية. ركبا الرأسمالية فوق بناء شرقي استبدادي عتيق. وهذا ما سوف تفعله حركات (شيوعية) ودينية وقومية وغيرها كلٌ حسبَ بناه الاجتماعية ومواقفه.
وبتلك التعابير المطلقة عن هيمنة الاحتكارات والتفسخ الرأسمالي والطفيلية قفز لينين لاستنتاجاتٍ شمولية، وأقام بناءً رأسمالياً غير ديمقراطي.
فيما عاركت حركاتُ التحرر الوطني الاستعمارَ من منطلقات متعددة، وتوجه بعضها للديمقراطية وتوجه بعضها للاستبداد.
في القرن العشرين ظهر نموذجا رأسمالية الدولة الاحتكارية في الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة. وكلٌ منهما على أساس مختلف، لقد ضربتْ السلطةُ الروسية أشكالَ الملكية الخاصة المتعددة، وغدت هي الرأسمال الأوحد، ولهذا فإن الديمقراطية اختفت، وغدا المجتمع تابعاً لهيمنة عليا ساحقة، ومن خلالها انبثقت الرأسمالية الخاصة ثانية ملوثةً بكل ذلك التاريخ السابق.
وهذا انعكس على المنظومة دولاً وأحزاباً حيث غدت مجموعات بذات التنميط الشمولي الفقير معرفة. إن عسكرة الريف والتجميعات في روسيا تُعطي في النهاية هذا المجتمع الشمولي حيث الدولة المتغطرسة والثقافة المغيَّبة عن الأنسنة، فحين تغيبُ التعدديةُ الاجتماعية تصيرُ الدولةُ إمبراطوريةً ساحقة.
هذا ما قامت به حكوماتُ الولايات المتحدة فنشوء رأسمالية الدولة الاحتكارية أدت إلى الهيمنة الشمولية الساحقة للمجتمع الأمريكي وجفاف التعددية والتنوع، عبر سيطرة رأس المال العملاق والقوة العسكرية، وتحول هذا لنموذجٍ عالمي يهيمن على دول العالم الثالث، ويفرزُ جنرالات الشمولية ويؤيد رأسماليات الدول التابعة.
ثم وصل النموذجان للانهيار الظاهر والخفي، الأول عبر السقوط المباشر ثم الجثوم في القوقعة الروسية كآخر حصن قومي له، وتساقطت رأسمالياتُ الدول الشمولية في مختلف أنحاء العالم الثالث بأشكالٍ متعددة منفكةٍ من السيطرة الأمريكية والسيطرة الروسية أو في طريقها لذلك.
وفيما تواصل روسيا تأييد الأنظمة الشمولية العسكرية تؤيد أمريكا الخروج منها من أجل ظهور الأسواق الحرة والتغلغل فيها دون أن تعطي الشعوبَ ومنها الشعب الأمريكي حرياته الديمقراطية الحقيقية.
إن النموذجين الاستقطابيين حسب رؤية لينين لم يتحققا، بل تحقق نموذجا استقطاب رأسمالية الدولة الاحتكارية في كل من الدولتين الكبريين، وقد أدى النموذج الأولُ الروسي إلى عدم استغلال التنوع والقوى الرأسمالية والديمقراطية المختلفة في الغرب والشرق، وتعزيز حضورها، مثلما أدى ذلك في الدول والأحزاب التابعة للنموذج الروسي الشمولي إلى تغييب إمكانيات التطور الليبرالي والديمقراطي في بلدان العالم الثالث، ولهذا كانت الهتلرية تتويجاً لهذا التغييب في الغرب، فيما كانت الدولُ والحركاتُ الدينية والقومية الشوفينية والليبراليةُ الفوضوية هي الوريثة للسياسة (الشيوعية) في العالم النامي، ولم يؤدِ الانتصارُ على الهتلرية لإزالة طابع رأسمالية الدولة الاحتكارية، وتعميم النموذج الديمقراطي، فاستمر الصراع بين النموذجين من الحرب الباردة إلى الحروب الأهلية.
لينين لم يكن اشتراكياً
إن تخلى لينين عن الاشتراكية الديمقراطية كان تعبيراً عن تسرعه وحرقه للمراحل الاجتماعية، وكان هذا قد جاء بعد نمو الحزب البلشفي كجماعةٍ شمولية قوية، وقيام البرجوازيات الغربية بحرب ضارية هي الحرب العالمية الأولى التي كانت مجزرة كما وصفها هو، ثم لم تستطعْ الجماعاتُ الاشتراكية الديمقراطية المسماة بالأمميةِ الثانية والمستمرة حتى الآن، أن تقاومَ هذه الحرب الكارثية.
وكان مقاومة لينين لكل ذلك عظيمة، لكن تخلي لينين عن البرنامج الرأسمالي الديمقراطي المتدرج لإصلاح روسيا وتغييرها نحو الحداثة والديمقراطية، وطرح برنامج دكتاتورية البروليتاريا، كان قفزة نحو رأسمالية حكومية، لأنه لم تكن في روسيا أية قواعد لرأسمالية حديثة متطورة.
كانت طريقة الرأسمالية الحكومية هي قيام قطاع عام قوي وكبير، وله منجزاته الكبيرة، لكن كان عليه أن يحرق المراحل، يصفي القوى الرأسمالية المختلفة الإنتاجية، يلغي التعددية السياسية والفكرية، وكل ذلك كان يحول القطاع العام إلى الرأسمال الأكبر.
إن الرأسمالية الحكومية لها منجزات وتقوم بتطوير قوى الإنتاج التي كانت أغلبها إقطاعية، لكنها لا تستطيع أن تحدث ثورة تقنية فيما بعد، كذلك فهي تحيل الإدارات البيروقراطية المدنية والعسكرية إلى جنين الرأسمالية السوداء، رأسمالية المافيا، التي تستولي على السلطة بعد الإبعاد التدريجي للقوى الشعبية من الإدارة.
فالرأسمالية الحكومية يكون ضررها على العمال أكبر من ظهور رأسمالية حرة، لأن الأخيرة تقوي منظمات العمال في الرقابة والمشاركة، وتطور الإنتاج على مدى طويل وعبر القوانين الموضوعية للاقتصاد وليس عبر الهيمنة الحكومية، التي تفرضُ قوانينَ ذاتية على القيمة وعلى الأجور الخ..
وقد أدرك لينين هو نفسه بعد سنوات قصيرة من تطبيق اقتصاد شيوعية الحرب أن سياسة رأسمالية جديدة ضرورية فيما أسماه سياسة (النيب) التي طـُبقت بين سنوات 1921 – 1924، والتي أُجهضت من قبل ستالين الدكتاتور الصاعد الذي كرس في يديه الكثير من السلطات من خلال لينين ذاته، وقد تصاعدت بعد تصفية كوادر الحزب المخلصة للنمو الديمقراطي الاشتراكي.
لكن هذه الكوادر نفسها لم تكن تعي القضايا المعقدة للتطور، وسارت في توجه دكتاتوري، عبر القبول بنظرات لينين الحارقة للمراحل، فأضعفت القوى الديمقراطية التي كان من الممكن أن تشكل تجربة ديمقراطية رأسمالية تحديثية.
كان حرق المراحل في مسائل فرض عادات اجتماعية وتكريس ثقافة الألحاد العدمية تجاه الأديان، وعدم مقاومة الاستغلال بشكل شعبي ديمقراطي طويل الأمد، عبر ديمقراطية المنظمات الجماهيرية وانتخاب السلطات المختلفة، فكل هذا خلق تحديثاً حكومياً كبيراً ولكن عبر رأسمالية بيروقراطية، فكان لها آثارها في المستقبل تجاه عدم فهم قضية الاشتراكية عالمياً، عبر طرح هذا النموذج السوفيتي البيروقراطي، وعبر انهيار الدولة التي كان من الممكن أن تشكل علاقة أممية تعاونية حقيقية.
كان هذا هو مستوى قد جرى في بداية القرن السابق، وشكل تحولات رأسمالية حكومية عاصفة في بلدان العالم الثالث وشرق أوربا وحركات تحرر، لكن مسألة الاشتراكية مسألة أخرى لا تعود إلا لمدى تطور اقتصادي كبير للدول المتقدمة وليس للدول المتخلفة، التي ترفع راية الاشتراكية من أجل التسريع الاقتصادي كما تفعل الصين الشعبية وكوبا وفيتنام وغيرها بهذا المستوى من النجاح أو ذاك في هذا المضمار نفسه، لكنها تعمل في إطار رأسماليات حكومية بيروقراطية فيها الكثير من الفساد، والأفضل في هذه العملية المصداقية وترك الناس ينتخبون ويقررون كيفية إدارة اقتصادهم وكيف يفكرون ويؤمنون ويشكلون تاريخهم بدون فرض من أجهزة التسلط الحكومية وإذا نشأت قطاعات عامة قائدة أن تكون عبر البرلمانات المنتخبة!
لينين كزعيم رأسمالي
ليس بالضرورة أن تكون الآراء عن النفس صحيحة ومطابقة للواقع الموضوعي، فالواقع كما قال لينين أكثر تعقيداً وتركيباً، وهذا ما ينطبق على كان قائد كبير، وعلى كل مسيرة سياسية كبيرة، فغالباً ما ينخدع الناس بالظاهر والمرئي، في حين يكون للتاريخ كلمته الفصل.
لكن كيف تحول لينين من قائد للثورة الاشتراكية العظمى التي وعدت بإزالة الطبقات وإذابة الدولة بأن يصير في خاتمة المطاف مؤسساً لنظام انبثقت عنه رأسمالية المافيا البشعة؟!
علينا أن نقرأ بشكل موضوعى مسارات التاريخ المركبة والمعقدة التي قبِل لينين بها نظرياً ورفضها عملياً.
لقد انضم لينين مبكراً إلى الحركة الاشتراكية – الديمقراطية ورفض طريقة الشعبيين الفوضويين في العمل السياسي الإرهابى، وهم الذين اعتبروا الاغتيالات وسيلة أساسية لعملهم السياسي، وراهنوا على طبقة الفلاحين كطبقة قائدة للتحول السياسى الديمقراطى في روسيا، حدث إن هذه الطبقة كانت هي الغالبية من السكان المنتجين، وهم قد انبثقوا منها، وهي طبقةٌ مفتتة إنتاجياً، تخضع لأسلوى إنتاجي عتق ومتخلف، وتتراكب فوقها ظلماتُ القرون الوسطى من أمية وخرافة وفقر الخ ..
فلم يكن لهذه الطبقة عبر التاريخ من نضال منظم، إلا عبر الثورات الفجائية، لكن العمل السياسى في القرن التاسع عشر الأوروبي بدأ يخرج إلى تنظيمات جديدة.
وقد أحست معظمُ الإمبراطوريات الشرقية الأقطاعية الأمبراطورية العثمانية والروسية والصينية بضرورة الإصلاح، وهي كلمةٌ تعني الحفاظ على أسس النظام القديم وتطعيمه بعناصر جديدة لا تلغي السابق، ولهذا قامت الإمبراطورية الروسية بمجموعة إصلاحات منذ الستينيات من القرن التاسع لتجاوز ظاهرات العبودية والتخفيف على الفلاحين الأقنان، وإتاحة الفرص للنبلاء لكي يتحولوا إلى رأسماليين أو نبلاء حديثين كما فعلت ألمانيا، وكانت التجربة الألمانية رهن التداول في الإمبراطوريتين التركية والروسية، إلا أن مستوى تطور الرأسمالية في كلا الإمبراطوريتين لم يكن يسمحُ بهذه النقلة التحديثية وهذا بعود للتركيبةِ السكانية الشعبية المتخلفة، فكان الريف بنمطه العائلي واعتماده الكلى على الزراعة المتخلفة لا يسمح بمثل هذه القفزة .
وهكذا كانت روسيا أمام مهمات التطور الديمقراطى كأفق راهن مهم، وقد أكد الحزب الاشتراكى – الديمقراطى الروسى هذا المسار، لكن مسألة (الاشتراكية) هذه خضعت للتطور السياسي في أوربا الغربية، باعتبارها قارة القيادة في الصناعة والعلوم والتجربة السياسية.
لقد اعتبرت الأحزاب الاشتراكية – الديمقراطية الغربية مسألة الاشتراكية مسألة تطور تاريخي طويل، باعتبار أن أسلوب الإنتاج الرأسمالي لا يمكن تجاوزه في أوروبا بمستوى التطور الاقتصادي الراهن وقتذاك، وأن الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية المتراكمة هي التي سوف توصل ممثلي الطبقات العاملة إلى الحكم من خلال الأدوات البرلمانية، حدث سيقومون بإصلاحات ديمقراطية ويخضعون لأصوات الناخبين .
لم يكن قادة الأحزاب الاشتراكية – الديمقراطية سوى مثقفين غالباً، أى لم يكونوا عمالاً، وكانوا من الفئات الوسطى التي تتأثر باتجاهات الطبقات السفلى والعليا، ورسوخ رؤاها من أجل تطور الطبقات العاملة ومصالحها التاريخية مسألة تتعلقُ بمستوى هذه القيادات وأفكارها والتزامها بتلك المصالح ومدى ثقافة القوى الشعبية التي تُصعّد تلك القيادات .
فالقوى العمالية ذاتها تتأثر بمختلف تيارات الفكر والسياسة، ويمكن أن تتغلغل بينها الانتهازية لمصالح قوى أخرى، وهذا ممكنٌ بسبب دور الاستعمار في جلب ثروات الأمم المستعمرة ورشوة هذه القوى المختلفة، كما أظهر لينين في تشريحه لهذه الظواهر .
لقد كان لينين يعملُ فى خضمِ الحركة الاشتراكية – الديمقراطية الروسية والأوروبية عامة، وقد استقرت هذه الحركة عموماً على فهم معنى الاشتراكية باعتبارها في العصر الراهن هي إصلاحات مختلفة في ظل النظام الرأسمالي الغربي لمصلحة تطور الطبقات العاملة، حتى تغدو لها المشاركة السياسية الواسعة في النظام لتقوم بإصلاحات جذرية فيه. لكن الأمر لا يصل إلى الثورة والاستيلاء على الحكم بالقوة والتأميم الشامل وضرب الملكية الخاصة الخ..
وقد استعرت الحالةُ السياسية في الأحزاب الاشتراكية — الديمقراطية الأوروبية، وبما فيها الحزب الاشتراكي الديمقراطي الروسي، على هذا الفهم العام للتغيير، والكلمة الشعارية المكونة من الاصطلاحين (الاشتراكي والديمقراطى) معاً، كانت تشير إلى أن الاشتراكية ديمقراطية وهي تُخلق من خلال أدوات البرلمان والانتخابات، أي هي سياسة اشتراكية ضمن النظام الرأسمالي السائد.
إن هذا المصطلح المركب كان يثير البلبلة، والحوارات النظرية العميقة كذلك، فالرأسمالية الفردية ذاتها كاذت تنتقلُ من مرحلة إلى مرحلة، وعمليات إفقار الجمهور وفي العالم الثالث خاصة وإثارة الحروب العالمية وهدر الإنتاج، كانت تجتاح العالم وتستدعي النظر في هذا الشعار، فظهر جناحان أساسيان، جناحٌ يميني يؤكدُ على البقاء ضمن الشعار والاكتفاء بالإصلاحات، وكان حين يصل للحكم يتمادى في خدمة رجال المال أكثر من خدمة الناس.
أما الجناح اليساري فكان لا يستطيع في ذلك الوقت الوصول للحكم، فيطرح شعاراته ويجندُ الناس ويقود المظاهرات الخ ..
كان العالم في العشر السنوات الأولى من القرن العشرين يمر بأزمة عامة، فالرأسماليات الكبرى لم تتوصل إلى طريقة في اقتسام غنائم الإمبراطورية العثمانية وبقية المستعمرات وتريد ألمانيا توزيعاً جديداً لهذه المستعمرات، يراعي التطورات الاقتصادية في البلدان الرأسمالية الكبرى، وهذا ما جعل الأحزاب الاشتراكية – الديمقراطية متأثرة بشكل كبير بصراع الدول .
وعلى درجات هذه الدول الرأسمالية الكبرى ومدى نجاحها الداخلي في استقطاب الطبقات العاملة ونقابييها، كان يجري استقرار النظام السياسي، ومن هنا كانت إنجلترا فى حالة مختلفة عن ألمانيا المضطربة المتحولة تواً إلى الرأسمالية، فى حين كانت روسيا تعاني أزمة كبرى في عملية الانتقال إلى الرأسمالية.
كان لينين يعترف وليس مثل زعماء الحركة الشيوعية فيما بعد، بالتشكيلات الخمس لتطور البشرية وهى : المشاعية البدائية، والعبودية، والإقطاع، والرأسمالية، وأخيراًً الاشتراكية. ولهذا كان يحلل روسيا كمجتمع إقطاعي في طور الانتقال إلى الرأسمالية، وإن هذا الانتقال يحتاج إلى ثورة اجتماعية ديمقراطية تقوم بتغيير الأساس السياسي والاقتصادي للمجتمع.
لكن هذه الآراء للتحول خضعت لنمو الدكتاتورية السياسية داخل الحركة الاشتراكية – الديمقراطية. كان لينين يصر على وجود حزب (حديدي)، مركزي، تخضع فيه الأقلية للأكثرية، والقواعد للقيادات، ويحطم التكتلات الفكرية السياسية داخله.
كان هذا النمط من الحزب الديكتاتوري ليس فقط مقنعاً للنخبة في مواجهة نظام تعسفي، بل كان كذلك يتحولُ هو نفسه إلى بناءٍ دكتاتوري مماثل لقمعية النظام.
لكن الأكثر تأثيرا هو قيام الحزب الدكتاتوري بضم القوى والجماعات المُجيشة والمنضبطة بشكل عسكري والتي سترفدُ ببشر عاميين مؤدلجين وخاضعين للزعماء.
وفي مثل هذا الحزب ستكون البذرة الأولى للدكتاتورية القادمة، التي سيظهر منها ستالين، وسيؤكد ستالين دائماً على رفد الحزب الذي دخل فيه مثقفون لامعون ومفكرون كبار، بالعامة (البروليتارية) أي بأنصاف المتعلمين والمتحمسين لكي يتم القضاء على الفكر النير في الحزب.
وهكذا فإن لينين قام بمواجهة الكتل التي سُميت (انشقاقية) و(انتهازية) ورفض أطروحات التحول الديمقراطي البعيد المدى، عبر أحزاب ذات تعددية داخلية وفكر حر، فحدث الانشقاق في الحركة بين من يسمون بــ(البلاشفة) والمناشفة).
مع نمو الدكتاتورية داخل الحركة الاشتراكية – الديمقراطية الروسية أخذ هذا الشعار المزدوج بالانشراخ، بين الشموليين الاشتراكيين والديمقراطيين الاشتراكيين، وقد قوت مواقفُ الأحزاب الاشتراكية – الديمقراطية اليمينية وتفريطهم بحقوق العمال والشعوب، من مواقف الاتجاهات الشمولية، وقد قوى ذلك من توجه لينين لخرق موضوعة التشكيلات الخمس للبشرية، فقد كانت أزمة الحرب العالمية الأولى، وأزمة التحول في روسيا، ونمو الحزب البلشفي الذي يقوده، تحول الأزمة في روسيا إلى مناخ ثوري مفتوح.
أن خرق لينين لهذه الموضوعة وخروجه عن الماركسية تم تحت غطاء الماركسية، ولهذه مواد سياسية وفكرية كثيرة، ملخصها إنه خلط بين مرحلة الانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية، وبين عملية الانتقال من الإقطاع إلى الرأسمالية، فلم تكن روسيا مجتمعاً رأسمالياً لكي يجري الانتقال فيه إلى الاشتراكية، بل كان مجتمعاً اقطاعياً يحتاج إلى تطور رأسمالي كبير، كأمرٍ موضوعي بغض النظر عن رغبات السياسيين، ولكن لينين وجد أن الماركسية (الموضوعية) أصبحت تعرقل مشروعاته السياسية التحولية السريعة.
وهكذا أخذَ يفسرُ تفسيرات مختلفة النصوص المعروفة، فبعد خرق موضوعة التشكيلات الخمس، وطرح إمكانية الانتقال من الإقطاع مباشرة إلى الاشتراكية، سيّح عبارات لماركس عن كومونة باريس التي تقول بضرورة وجود (دكتاتورية للبروليتاريا) أي بضرورة تنفيذ قوانين المجتمع بالقوة ضد المتمردين عليه، ولكن ماركس يقصد هذه الإجراءات (الاستثنائية) التي تقومُ في مجتمعٍ رأسمالي متطور عبر مؤسساته الشرعية والتي أصبحت الطبقات العاملة اغلبية فيها، في حين كان لينين يضعها في خانة القفز من المجتمع الإقطاعي المتخلف إلى الاشتراكية وبدون تطور رأسمالي وبدون مؤسسات شرعية منبثقة من إرادة الملايين!
وثمة فرقٌ كبير بين إجراءات استثنائية مؤقتة تُتخذ في ظلِ برلمانات منتخبة وبين إقامة دولة ذات مؤسسات استبدادية تتحكمُ في الطبقات المختلفة، وبطبيعة الحال لن تكون هذه دكتاتورية العمال في دولة ديمقراطية بل دكتاتورية الأجهزة البيروقراطية العسكرية التي ستقع السلطة في قبضتها!
وهذه الفئات البيروقراطية – السياسية – العسكرية هي جنين الطبقات البرجوازية الحكومية التي ستنقض على السلطة السوفيتية بعد أن وصلت هذه السلطة إلى العجز عن أن تكون مع العمال او مع البرجوازية. ولكن الفرق بينها وبين الطبقات البرجوازية الحاكمة في الغرب بأن الأخيرة شكلت نظامها عبر الديمقراطية، فأمكن للعاملين أن يتقدموا فكرياً ونقابياً، في حين رأسمالية الدولة الروسية حولت العاملين إلى جمهور مدمن ومنهار نفسياً ومُدمر اقتصادياً وكاره للسياسة ولرموز الثورة (الاشتراكية)، إن لم نقل أنه تابع للمافيا!
لقد أصبحت البنيةُ الروسيةُ الاستبدادية تجرُ لينين إلى هياكلها، وقد حدث ذلك عبر بنية الحزب الشمولية، وبنية الوعي الشمولي، وبالتالي فإن الأفكار الاشتراكية – الديمقراطية أخذت تُجيّر لتحولات دكتاتورية عبر مؤسسات الدولة الفوقية وعبر نقض قوانين التطور الاقتصادي الموضوعية ومن خلال الإرادة السياسية النخبوية، التي أعطاها زخمُ الجماهير الشعبية المتحمسة إمكانيةَ التحليق الخيالي بأنها تستطيع أن تقوم بالقفز فوق التشكيلات التاريخية.
ولهذا يمكن رؤية الجماهير الغفيرة التي كانت تشارك في إحداث التحولات في العشرينيات ثم تنسحب تدريجياً حتى صارت في النهاية هي التي تنقض على مؤسسات الدولة السابقة.
علينا هنا أن نرى أن ثمة تغيرات إيجابية كبرى فيما سُمي بــ(ثورة أكتوبر الاشتراكية العظمى)، ونستطيع أن نسميها ثورة روسيا البرجوازية الحكومية التى جمعت العمال والبرجوازية تحت قبضتها الإدارية.
إن تلك التغيرات كانت تحول روسيا فعلاً إلى دولة رأسمالية حديثة، كالإصلاح الزراعي الواسع، وهو الإصلاح الذي رفضه البلاشفة حين كانوا في المعارضة، وتبنوا برنامج حزب الفلاحين الشعبيين، وهو إصلاح ديمقراطي اجتماعي، ضخم، جعل حزب البلاشفة ذا جماهيرية كبيرة، فالتف الناس حول النظام الاجتماعي الذي قدم لهم الأراضي؛ وواجهوا جيوش التدخل الأجنبية والقوى الاجتماعية التي أيدتهم.
وهنا لم يتواجد حزب روسي مؤيد للتحولات الاجتماعية الديمقراطية هذه، وكذلك بأن يعمل لمواجهة ديكتاتورية البلاشفة السياسية كذلك .
كذلك فإن إجراءات التصنيع والكهربة ومشروعات التقدم الاجتماعي والثقافي الواسعة كلها تحسب للنظام، لكن كلها تمت عبر أدوات العنف والشمولية الإدارية، فأخذت أجهزة الدولة القيصرية تتبدل بشكل بلشفي، وراحت الأجهزة العسكرية والبوليسية تتسع، وتقلصات الديمقراطية داخل الحزب البلشفي نفسه، فحيث كان يقرر الأمور اللجنة المركزية اقتصر الأمر بعد ذلك على المكتب السياسي، ثم على الزعيم الأوحد، الذي ظهر بشكل لينين ثم ستالين . ثم تعرض (الماركسيون) داخل الحزب للقمع والقتل .
لقد تحولت الدولة إلى المالك الأكبر لوسائل الإنتاج، وهكذا فقد فهم لينين أن تملك الدولة لوسائل الإنتاج هو النظام الاشتراكي، فعبر المصادرة ينشأ النظام الحكومى للملكية فتطهر الاشتراكية !
لكن الرأسمالية ليست هي الأموال فهي بناء اجتماعي واقتصادي وثقافي عميق، فنشوء المصانع والتقنية ليس هو مسألة مالية وإدارية، بل مسألة بناء اجتماعي قائم على التطور الموضوعي الداخلي عبر قوانين موجودة في كتاب (رأس المال). الذي قرأه لينين ولخصه ولكن لم يفهم مقولات الرأسمال كمقولات تاريخية وليس كمقولات تقنية أو سياسية.
وهكذا فمع عدم وجود رأسمالية في روسيا كان ينبغي بناؤها من أجل بناء الاشتراكية فيما بعد!
أي ترتب على أفكار لينين أن يقوم هو ببناء الرأسمالية، فصار من قائد للثورة الاشتراكية إلى قائد لبناء الرأسمالية الحكومية الشمولية.
فبعد الكوارث التي ظهرت في روسيا بعد الحرب العالمية الأولى كان عليها أن تدخل حرب التدخل الأجنبية ثم الحرب الأهلية التي راح ضحيتها الملايين. ولكن ليس لتقيم الاشتراكية وتزيل الطبقات وتطفئ مؤسسة الدولة غير الضرورية بل لتتعلم كيف تطور رأس المال وتخرجه من جحوره التي اختبأ فيها، وتحدث تراكماً؛ رأسمالياً، فبدأ لينين ما سُمي بالسياسة الاقتصادية الجديدة (النيب) منذ ١٩٢٠، لكن هذه العودة للرأسمالية لم تكن عودةً ديمقراطية، أي أن لينين لم ير أن مشروعه (الاشتراكى) فاشل، وأن عليه أن يعود للرأسمالية الديمقراطية فيسمح للأحزاب ولحرية الصحافة ويشكل دولةً ديمقراطية تقرر فيها الطبقات المختلفة تطوير البلد بالشكل المناسب، بل واصل استخدام أدوات السلطة السياسية والعسكرية في الحكم، لكنه أعطى للملكيات الصغيرة والمتوسطة في الزراعة والصناعة والحرف الحق أن تنمو، بشكل لا تتحول إلى ملكيات كبرى وتتعاون مع قوى سياسية لتغيير النظام، بل سمح لها بالتطور الاقتصادي الحر المفصول عن التطور السياسي.
راح الحزب البلشفي يعمل لإيجاد الرأسمالية تحت غطاء الاشتراكية الحكومية، ولا بد للرأسمالية من تراكم أولي، يسمى التراكم البدائي، حيث توفر الدولة رؤوس الأموال المنتزعة من الفلاحين من أجل الإنتاج الرأسمالي الموسع، من هنا عمل خليفة لينين ستالين على تجريد الفلاحين الأغنياء والمتوسطين من مدخراتهم وتشكيل التعاونيات بالقوة، وسحب فيوض المال للصناعة، وتمت إجراءات وحشية هائلة هنا، لا تقل سوءاً عن إجراءات التراكم البدائي في أوربا الغربية.
كان نمو ملكية الدولة الضخمة يتم بالأشكال الإدارية، فتتحول كافة المؤسسات الحزبية والسياسية والنقابية إلى ذيول للدولة، وكان الفكر الرأسمالي الحكومي يصير نظرية اسمها (الماركسية — اللينينية ) حيث يمكن القفز على المرحلة الرأسمالية بمساعدة الدولة الاشتراكية الأم.
ويحدث وهمٌ هنا في الدول الاستبدادية الشرقية بأن بإمكانية الدولة أن تتلاعب في التاريخ وتقفر على المراحل وتحقق المعجزات الاقتصادية، بسبب أن التخلف يتيح لماكينة الدولة الضخمة أن تقوم بمعدلات تنمية كبيرة، لكن هذا بشكل مؤقت، لكن هذا لا يحقق اشتراكية بل رأسمالية حكومية، ولكي تتحول إلى رأسمالية حرة تحتاج إلى ثورة لوضع حد لهيمنة الهياكل الإدارية – البوليسية.
وهنا على الطبقات العاملة مهمات جديدة مركبة باستثمار المرحلة السابقة ونقدها والتعاون مع البرجوازية الصناعية لتغيير مشترك .
والآن لم تكتمل الثورة الديمقراطية في روسيا بعد وتحتاج للتخلص من الجوانب الشمولية من فكر لينين وتبقي إنجازات فكره الديمقراطي والعلمي.
لينين بين رؤيتين
لم يكن مصير الإمبراطورية الروسية لآل رومانوف مرتبطاً بالسيرة الشخصية المحضة لفلاديمير إليتش أوليانوف المعروف في تاريخ العالم الثوري باسم (لينين)، بل بالبنى التقليدية الإقطاعية المهيمنة والمتحدة بأكبر آلة سياسية قمعية ومحافظة في العالم، والتي كانت مع هذا تقترب أكثر من غيرها من شعوب الشرق من الرأسمالية والحداثة، وخطوات الاقتراب هذه بدأت منذ أن غزا نابليون موسكو وطاردته فيما بعد جيوشها مسببة الهزيمة لأكبر قوة ثورية حينذاك في أوربا، ومعلنة تحول روسيا إلى قوة اوربية مؤثرة، ومنذ أن قام قيصرها بطرس المتنور بتغيير العاصمة البعيدة موسكو إلى بطرس برج، وأخذ برنامج الإصلاح الاجتماعي يدب في جسد الإمبراطورية المتخلفة والمتعددة القوميات.
لكن لم يستطع برنامج الدولة المحافظ المدافع عن مصالح كبار الملاك الزراعيين أن يزحزح العلاقات الاجتماعية والاقتصادية التقليدية والضاربة الجذور في تخلف روسيا الاقتصادي والثقافي، التي كانت بحيرة من الأمية والفقر والأكواخ، كما أن الرأسمالية نشأت متخلفة ضعيفة، وانتجت ليبرالية محدودة وخائفة من القيصرية المهيمنة على كل شيء.
في هذه الأثناء كان في روسيا برنامجان سياسيان يعكسان هذا التطور المعقد ومصالح الكتل الكبرى في المجتمع الروسي، والأول هو برنامج الليبرالية الخافت، حيث يجري تداول مصطلحات الحداثة والديمقراطية الغربية ومحاولة تجذيرها في المجتمع الاستبدادي العريق، والثاني هو برنامج الكتل الشعبوية الرافضة لمسار روسيا التحديثي والرأسمالي والديمقراطي، وكانت هذه الكتلة الأخيرة هي أقوى التيارات وقد أنتجت سلسلة من الأفكار والكتاب الكبار والجماعات المتطرفة.
إن كاتباً مثل تولستوي الكاتب العالمي كان يردد مثل الشعارات العامة لهذه الأفكار، ويحبذ الطريق الخاص لروسيا، بعيداً كان عالم الحداثة الغربي، ويفضل الحفاظ على المشاعة الروسية (الخالدة) وتجاوز درب الآلام الناتج من الخوض في طريق الرأسمالية الدامي، وسيكون هذا الوعي هو نموذج لقوى تقليدية كثيرة في الشرق تريد الحفاظ على تركة القرون الوسطى بأشكال دينية شتى.
وتولستوي مثل غيره من المنضوين تحت عالم القرى الواسع كان يرفض الاستغلال الإقطاعي ويبغي توزيع الأرض على الفلاحين، عبر اشتراكية دينية، وهذا ما كان يؤيده الشعبويون الروس، أكبر الكتل السياسية بين القرنين التاسع عشرة والعشرين. والذين أنتجوا بعض الجماعات الإرهابية التي تمارس الاغتيال والعنف من أجل التغيير.
وقد راح أخ لينين نفسه ضحية لهذه الأساليب الإجرامية والفوضوية، مما جعل لينين الشاب يكرس نفسه لرفض هذه الأساليب بل والرؤية الاجتماعية القائمة عليها.
استندت أعمال لينين الفكرية في هذه الحقبة على تفنيد خرافة الاشتراكية الخيالية الروسية الخاصة وفكرة المجتمع الريفي المنعزل عن التغيرات الرأسمالية الكبرى، وأثبت في كتابه (تطور الرأسمالية في روسيا) بالأرقام والتحليلات أن الرأسمالية تنمو في روسيا بتوسع.
إن رفض البنية الإقطاعية بتشكيلتها وبمستوياتها السياسية والفكرية والاجتماعية قد قاده إلى تأييد نشوء البنية الرأسمالية في روسيا وانتصارها التاريخي المنتظر، وبالتالي فإن القوى السياسية الروسية بحاجة إلى أساليب النضال الديمقراطية المعروفة، وبضرورة تجنب الإرهاب الفردي..
كان التحاق لينين بالجماعات الاشتراكية الديمقراطية حينئذ هو ثمرة لهذه الأفكار والمواقف. وكان تعبير (الاشتراكية الديمقراطية) هو تعبير مستورد من الحركات الاشتراكية الأوربية التي اعتمدت طريق الانتخابات السياسية العامة كشكل أساسى لنضالها لتغيير الأنظمة الرأسمالية الأكثر تطوراً في أوربا الغربية، وهذا الاستيراد الروسي من قبل النخب المثقفة، يعبر عن محاولة اللحاق بأوربا أكثر من أن يكون تعبيراً سياسياً ناضجاً عن المهمات الروسية الديمقراطية الخاصة.
إذن كان التحاق لينين بالحركة الاشتراكية الديمقراطية الروسية يعبر عن جانيين متضادين في وعيه، فهو إن يرفض التوجهات الفوضوية والشعبوية الروسية، التي كانت تعمل لتشكل الرأسمالية بشكل خاص، يتوجه إلى الاشتراكية الديمقراطية التي هي تعني كذلك رفض المسار الرأسمالي، رغم قبولها العام بقنواته السياسية.
فهنا تقوم كتل المثقفين الليبراليين الاشتراكيين بالقفز على الواقع الروسي ومماثلة التطور الأوربي الأكثر رقياً، فتحيل المهمات لمناطق متطورة إلى مناطق أقل تطوراً.
فالاشتراكية الديمقراطية هنا، وتعبيرات حزب العمال الاشتراكى الروسى وما شابه ذلك، هى التقاطات واستيرادات نخبوية، حيث كانت هذه تعبر في أوربا العربية عن مضامين حقيقية، حيث توجد بوفرة صناديق الانتخابات وكتل العمال الواسعة التي تنتخب، وغير ذلك من صور الديمقراطية، وهي كلها تعبر عن قرن من التصنيع و المنافسة الاجتماعية بين طبقات متيلورة.
أما فى روسيا فإن الأمر ليس كذلك، كانت جماهير الفلاحين الأميين هي السائدة، ولم تكن لجماهير العمال هذه الثقافة والحضور التي تفترضها الشعارات الاشتراكية الديمقراطية، فكان هذا التيار بحد ذاته يشكل نخبوية دكتاتورية مضمرة، تستدعي نموذجاً سياسياً لم تتوفر ظروفه بعد .
ومن جهة أخرى فإن التيارات الاشتراكية الديمقراطية الأوربية لم تكن تأخذ مسألة (الاشتراكية) كمسألة تشكيلة اقتصادية اجتماعية رهن التطبيق المباشر، فهي تدرك قدرات الرأسمالية الغربية المتطورة، وإنجازاتها الاجتماعية، ولهذا كانت تعني باشتراكيتها مسائل الأصلاح الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، أي تغيير ظروف الأنظمة الرأسمالية لمزيد من التغييرات لمصلحة الطبقات العاملة. ويعني هذا البرنامج كذلك إمكانية وصول هذه الأحزاب للسلطة دون أن يعني ذلك الخروج من التشكيلة الاقتصادية الاجتماعية الرأسمالية، بل استخدام الظروف في هذه التشكيلة لمصالح الجماهير العاملة.
وهذا ما كان يفهمه قسمٌ من جماعات الاشتراكية الديمقراطية الروسية، أي كان تقليده للجماعات الاشتراكية الديمقراطية الغربية محاولته لمماثلة الخطوات الروسية بالغربية، لكانت هذه المماثلة غير ممكنة، لكون المسار الروسي مختلفا عن المسار الغربي، فقد كانت روسيا في تشكيلة اقتصادية اجتماعية مغايرة، هي التشكيلة الإقطاعية، ولهذا فإن نقل آليات العمل السياسي من منطقة متطورة إلى منطقة متخلفة، سوف يضع هذه الآليات في خدمة منظورات وقوى مختلفة.
كانت الاشتراكية الديمقراطية الروسية تعبيرا عن وعي النخب العائدة للفئات الوسطى الروسية، لكنها كانت تعتبر هذه الرؤى تعبيراً عن العمال. كانت تنيب نفسها للتعبير عن قوى العمال، عبر الدفاع بطبيعة الحال عن ظروفهم الاقتصادية والاجتماعية السيئة والصعبة.
وهذا ما كان يمكن أن يجعل هذه الأفكار الاشتراكية الديمقراطية ذات تغلغل جماهيري، ولكن هذا التغلغل لا يمكن أن يشير من جهة أخرى إلى أن هذه الأفكار تعبير عن الطبقة العاملة، لأن الطبقة العاملة لم تكن تعبر عن نفسها، بل كان مثقفو الفئات الوسطى هم الذين يعبرون عنها.
لكن الأفكار الاشتراكية الديمقراطية كانت تتطلب مستوى متقدماً من العمال، أي عمالاً مثقفين، وانتخابات نقابية وسياسية، أي تتطلب طبقة عاملة واعية وديمقراطية، يمكن أن تنتخب ممثليها السياسيين حسب مصالحها وإرادتها الحرة، وهذا ما كان غير ممكن فى روسيا الدولة المتخلفة الاستبدادية.
إذن كيف يمكن أن تغدو الاشتراكية الديمقراطية قوة شعبية بدون الانتخابات والمجالس النقابية والبرلمانية ؟
لا يمكن أن تكون كذلك إلا عبر الأضرابات والثورات، أي عبر القوة السياسية المنظمة والدكتاتورية.
وهنا نرى ان عملية نقل الاشتراكية الديمقراطية الغربية المتطورة إلى روسيا الاستبدادية كانت عملية زرع صناعية، فبنية الأقطاع الروسي هي التي اعادت تشكيل هذه ا لاشتراكية وأخضعتها لظروفها، ولمسارها الصراعي الخاص.
إن المسار الروسى الخاص، أي وجود تشكيلة مغايرة للتشكيلة الرأسمالية، أعاد تشكل الاشتراكية الديمقراطية، فبدأ الصراع في هذا التيار الأخير وانقسم إلى (بلاشفة) و (مناشفة)، ولعب لينين دوره المعروف في صعود التيار الأول.
أي أن البلشفية لعبت دوراً في القطع بين الاشتراكية والديمقراطية، بالتركيز على الأولى وإهمال الثانية، والتركيز على الأولى كان يعني التوجه إلى الجمهور والتغلغل فيه وتصعيد دوره السياسي والاقتصادي والنضالي عامة، وهو توجه يقود إلى نشر الديمقراطية الاجتماعية والسياسية في المجتمع عبر تفكيك النظام الإقطاعي المتخلف، وتصعيد دور الجمهور الشعبى.
لكن هذا يتطلب حزباً مناضلاً في ظروف روسيا القيصرية، الاستبدادية، المغايرة لظروف أوربا الغربية الديمقراطية، حزباً منضبطاً حديدياً، فتشكل الحزب البلشفي بإدارة قوية متوارية، أخذت الديمقراطية الداخلية فيه تضعف لحساب المركزية وهيمنة اللجنة المركزية والقيادة الصغيرة عامة، التي تركزت مفاتيحها النظرية والسياسية والعملية بيد لينين.
لقد تغلغل تراث روسيا الاستبدادي داخل الحزب البلشفي بأكثر من صعود الواقع الديمقراطى، وهكذا راحت المهمات الاجتماعية لتحويل روسيا تفرض نفسها أكثر من الأشكال والوسائل الديمقراطية.
كذلك لعبت القوى الاشتراكية الديمقراطية الليبرالية والبرجوازية الروسية الخائفة والمعادية لأي نشاط قوي ديمقراطي، والدولة القيصرية المستبدة، أدوارها في إضعاف القنوات الديمقراطية وتقوية الشبكات الدكتاتورية المختلفة.
كان عجز القوى الليبرالية المختلفة عن طرح نموذج ديمقراطي يتجذر فى الأرض، يتجسد في عدم رؤيتها للاختلاف بين روسيا والغرب، حيث يتطلب الأمر في روسيا أحداث تحولات ديمقراطية في الزراعة ووضع المرأة والحياة السياسية، وتشكيل جبهة ديمقراطية واسعة لإنجاز ذلك، ولكن الليبراليين لم يدركوا عمق الآزمة التي تواجه روسيا، كما هو الأمر تماماً في العالم العربي الإسلامي الآن.
ولهذا فإن الأزمات الكبرى السياسية والاجتماعية لروسيا وأوربا في ذلك الوقت كانت تصعد التيارات الدكتاتورية باشكال مختلفة، البلشفية في روسيا، والفاشية في أوربا الغربية، وكل من هذه التيارات يعبر عن أزمة المستوى الرأسمالي. الخاص به، فروسيا تمثل البلشفية فيها دكتاتورية فئات وسطي لتسريع عملية التطور الاجتماعي ( الرأسمالي ) في حين تعبر الفاشية عن رؤية فئات وسطى تابعة للرأسمالية العليا القوية.
كان هذا المخاض المعبر عن أزمات مناطق كبرى أوربية – آسيوية يتشكل روسياً فى عذاب خاص، به فشل للثورة الجماهيرية وبهزيمة لليابان في الحرب ثم دخول الحرب العالمية الأولى، التي لا ناقة لروسيا فيها ولا جمل، والتي كانت مجزرة عالمية، في حين كانت ألمانيا تبحث عن المستعمرات وتغيير خريطتها. لكن كلا المسارين، الألماني والروسي، اتفقا على تسريع المسار القومي الخاص بكل منهما، وكان هذا التغيير يمثل تحولات كبرى للعالم، لأنه سوف يصطدم بقوى أخرى متنقذة.
ولهذا فإن لينين في مقالته (بصدد الكرامة القومية) رفض اعتبار الاشتراكيين الديمقراطيين خالين من الشعور القومي، والكرامة القومية، ولكن كان لا ينبغى للتيارات الاشتراكية الديمقراطية وقتذاك أثناء مجزرة الحرب العالمية الأولى، أن تنتمي لما أسماه (برجوازياتها) المتقاتلة، وأن الاشتراكيين الديمقراطيين الروس هم أيضا يحبون وطنهم وشعبهم ونضاله وإرثه المستنير ولكن لا يمكن أن تتطابق سياستهم مع سياسة التبعية للدول الحاكمة المتقاتلة.
كان المناخ السياسي قد جعل البرلمانات والكتل الديمقراطية مجرد ملاحق بالقوى السياسية المسيطرة، وكانت إعلانات الحرب من هذه البرلمانات نفسها. لقد فقدت الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية الأوربية صوابها السياسي، وتذيلت لوزارات الدفاع، وكان هذا تعبيراً عن مقدار الفساد داخل قيادات هذه الأحزاب؛ وتطابقها مع رؤى قومية للقوى المستغلة.
ولكن مع هذا فإن الاشتراكيين الديمقراطيين الروس لم يكونوا في البرلمانات ولا فى السلطة أو قريباً منها، في حين كان الغربيون على صلة وثيقة بهذه المستويات، ولهذا كان يمكن تصحيح هذه الافكار وتغيير هذه القيادات عبر الآلية الديمقراطية داخل الأحزاب، وفي المجتع. لكن لينين قام هنا بالحكم الشامل على هذه الأحزاب وإمكانياتها التاريخية.
فى حين ان أي خطأ كان لا يمكن تصحيحه إذا اتحد الحزب بالسلطة اتحاداً أبدياً، ولكن هذه العملية لم تكن قد تشكلت بعد، فلا يزال الحزب البلشفي خارج السلطة وهو يشن الحرب الآن ضد الحرب، وهو ما أعلنه لينين فى كراسه (الاشتراكية والحرب).
وإن يمثل هذا موقفاً أممياً مشرفاً للحزب البلشفي، فإنه يعبر كذلك عن بداية الانفصال الفكري عن منظومة الاشتراكية الديمقراطية.
قلنا إن التماثل بين الحزب البلشفى والأحزاب الفاشية الأوربية الصاعدة في ذلك الوقت من الثلث الأول للقرن العشرين، هو نتاج المناطق الأوربية/ الآسيوية المأزومة، ويعبر عن تصاعد الموجات الدكتاتورية فى الوعى الأوربي ومن هيمنة غربية قاسية على المستعمرات، وهذا كله كان يضع الوعى الديمقراطى والأنسنة بين قوسين كبيرين من الشك.
وإذا كان الحزب الاشتراكى الوطنى الألمانى (حزب هتلر) استند على المطالب الشعبية ومن أجل خوض الحروب وتشكيل إرادة الأمة القومية القوية للحصول على المستعمرات، فإن الحزب البلشفى يتوجه لتشكيل تجربة قومية روسية تحديثية، تتحاوزآليات الرأسمالية الحديثة في التطور الديمقراطى المتدرج وغير العنيف، ومن أجل الحفاظ على المستعمرات الروسية في البرين الآسيوي والأوربي، تحت مسميات جديدة.
ولكن تحاوز قوانين الرأسمالية التحديثية لم يعن تجاوز الرأسمالية، وهذا ما كانت تعبر عنه عمليات إعادة النظر في الماركسية، ليس كما تشكلت تحت تقاليد أوربا الديمقراطمة بل تشكيلها تحت الفضاء الروسى الشمولى الآن.
هنا لم تكتمل عملية تغيير الماركسية وتوجيهها نحو الشمولية، بل سوف تجرى هنا المقدمات لذلك فقط، وقد رأينا سابقاً عمليات التراكم السياسية والفكرية المؤدية إلى هذا.
لكن ظروف الحرب العالمية الأولى وتفسخ الأممية الثانية التى كانت تجمع منظومة الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية العالمية تحت سقف فكري وسياسي واحد، سرعّت من عملية انفصال البلشفية عن التقاليد الديمقراطية الأوربية، وأظهر كتاب لينين (الاستعمار أعلى مراحل الرأسمالية) أفكاراً جديدة بدأت تخرج عن السياق الماركسي، فإذا كان الاستعمار يمثل مرحلة جديدة من تطور الرأسمالية الغربية، تتجسد بتصدير رأس المال وازدياد صعود رأسى المال المالي، والإعادة المستمرة لتوزيع حصص المستعمرات بين القوى الاستعمارية الكبرى، إلا أن الاستنتاجات السياسية التى توصل إليها لينين من هذه المقدمات الموضوعية غير متسقة، فتعبيرات مثل وجود (حلقة رأسمالية ضعيفة) بين الدول الرأسمالية يمكن عن طريقها تشكيل تجربة اشتراكية، لا تمثل تفكيراً ماركساً، فالاشتراكية لا تتشكل من حلقات ضعيفة بل من المستوى المتطور لقوى الإنتاج، بل والفائق التطور لهذه القوى، كما أوضح ماركس في كتيبه (نقد برنامج غوتا). كما ان الاشتراكية ترتبط بالمسار الصناعى والعلمي والسياسي المتطور للإنسانية وليس لبلد أو حتى لقارة.
وبهذه الجمل غير العلمية دخلت الأرادوية الثورية الانقلامية حيز إعادة النظر فى القوانين الموضوعية للتشكيلات، أى أن وعى لينين هنا خلط بين مسألة التطور التسريعي التحديثي لروسيا وبين مسألة الاشتراكية.
هنا نلاحظ القانون الخاص للبنية الاجتماعية وجذورها حدث تقوم بفرض قوتها المتوارية على الوعي، فتستعيد البلشفية هنا الهياكل الدكتاتورية للنظام التقليدى القديم، فتجري عمليات تسريع كبرى للتطور الرأسمالي تحت يافطة الاشتراكية، وتلعب الدولة دورها المركزي كما كانت تلعبه في القرون السابقة، أى كما فعلت الدولة القيصرية بالتمدد أوربياً وآسيوياً على أجسام الشعوب والدويلات والقوميات.
ولكن الإنجازات للثورة الرأسمالية الروسية والأممية التي جرت تحت مسمى الاشتراكية لا تنكر، مثلما إن الثمن كان فادحاً .
وقد أدرك لينين بعد الحرب الأهلية في سنوات العشرينيات من القرن العشرين المهمات الحقيقية التي كان على روسيا تحقيقها، فأعلن سياسة النيب، وهي اختصار للسياسة الاقتصادية الجديدة، وتعني العودة للرأسمالية، فمن الدعوة لإزالة الرأسمالية إلى تشجيع ظهورها ونموها في الاتحاد السوفيتي، لكن بعث الهياكل الرأسمالية لم يصل إلى تغيير الهياكل السياسية الدكتاتورية التى برزت في تلك الآونة وهى : الجيش، والمخابرات، وأجهزة الدولة الضخمة الواسعة، والحزب الواحد، وهي التى سوف تكرس سياسة الحكم تحت تسمية ( اللينينية) التي ستغدو شكلاً لمسار فكري وسياسي خاص في الوعي التقدمي في العالم وفي تجارب التحول الاجتماعي.