الأرشيف الشهري: مارس 2023

كلمات الاغلفة        

الدين بين الشكل والمضمون

كتب : عبـــــــدالله خلــــــــيفة

الدين مثل غيره من الظواهر الاجتماعية له شكل ومضمون، وقد احتار الناس عبر التاريخ بين الأديان كمظاهر خارجية، وكمضامين اجتماعية وأخلاقية روحية. وكافة الأديان كانت ثورات في البداية، استهدفت تغيير حياة الناس، وتجاوز ظلم فئة واستغلال طبقة الخ..
لكن الأديان مثلها مثل الثورات لا يمكن أن تخضع لتأثير فئة ما كل التاريخ، وكثير من اللصوص والمستغلين الذين حاولت أن تجرفهم هذه الثورات الاجتماعية التي لبست لباس الوعي الديني، استطاعوا أن يتغلغلوا في أجهزة هذه الثورة، وفي شرابين هذا الدين أو ذاك.
وهكذا فإن القوى المستغلة عبر التاريخ تقوم بإعادة تفسير الدين، أو أنها تخفي مضامينة الحقيقية، أو تجرد أهدافه الاجتماعية الملموسة من طابعها السياسي والطبقي، وتركز على المظاهر الخارجية، والجوانب التي لا توجه الأسئلة إلى سيطرتها واستغلالها.
وقد احتارت الحركات الاجتماعية الإسلامية والمفكرون الإسلاميون في جذور الطابع الاجتماعي للإسلام، ولم يصلوا إلى أنه ثورة اجتماعية نهضوية تمت بأدوات عصرها، فقد قام بعضهم برفض العبادات وشكل بعضهم تنظيمات من حلقات وهياكل سياسية معقدة، يدخل فيها المريد من الخلية الدنيا ويصعد درجات حتى يصل إلى قمة التنظيم السياسي الديني، وحينذاك تتكشف له (الحقائق) التي لا تُقال له وهو في سن صغيرة وفي مكانة فكرية دنيا.
في حين شكل الصوفيون المسلمون درجات من المعرفة الصوفية يتدرج في سلالمها المريد، وتتفتح أمامه (الحقائق) بقدر ما ينزع عنه من ثياب الدنيا والعرض الزائل، ويتقدم في الحضرة القدسية.
المناضلون الإسلاميون الأوائل كانوا يحاولون البحث عن جوهر للدين خارج النضال الاجتماعي والصراع السياسي ضد المستغلين؛ فيجدونه في العزلة المطلقة والتجويع الذاتي للنفس والبعد المطلق عن الشهوات كرد فعل على الغرق في الشهوات والماديات التي تقوم له الطبقات الحاكمة.
وحتى الحركات الدينية التي وصفها المؤرخون بالحركات الاجتماعية، لم تصل إلى جوهر الدين، كحركة سياسية نهضوية تتطلب شروطاً خاصة، وحولوا الدين إلى مغامرات حربية وحملات للسلب والنهب، في حين غرقت الأكثرية المؤمنة في الاعتقال السياسي للحكام الجائرين، غائصة في أوحال العمل ومستنقعات الزراعة وكهوف الحرف، بينما كانت ثمار جهودها تضيع في الليل الطويل.
يتحول هذا الصراع بين الشكل والمضمون في الأديان إلى جنون أحياناً حينما يقوم بعض المغامرين برفض الدين جملة وتفصيلا، أو يبتكرون مذاهب من رؤاهم الذاتية ويصنعون جناناً موهومة.
أو تتحول إلى كوابيس اجتماعية حين يقوم الباباوات والملالي باحتكار الأقوال المقدسة وتفسيرها وتحديد من يدخل الجنان ومن يخرج منها.
أما التفسير الديمقراطي العصري للصراع بين الشكل والمضمون فى الدين فقد قام على ترك المؤمنين في عالمهم الديني الخاص، وأخرج المنطقة السياسية العامة منه، وجعلها ميداناً للتنافس السياسي والصراع الانتخابي.
فنهضة الأمم وتقدمها وتغيير حياتها صارت رهناً ببرامجها السياسية، ولم يعد أحدٌ يُسمح له باحتكار الحقيقة الدينية، أو أن يستخدمها في عمله السياسي، إلا لأن الدين صار ملكية عامة وتراثاً، غير مسموح بزجه في الصراعات السياسية.
إن هذه العملية العصرية أخرجت الدين لأول مرة من التداول السياسي التجاري؛ وأصبح المؤمن يذهب للكنيسة ويصوت للحزب اليساري أو اليميني حسب ما يراه من دور لهذا الحزب أو ذاك في قضاياه الاقتصادية والاجتماعية.
ولأول مرة في التاريخ يعطى للدين مكانته المقدسة واحترامه، ولا يؤجر لخدمة الاستغلال السياسي والاجتماعي.

جسد فهم المجتمعات للمادة، وهي الأشياء والعالم الخارجي الموضوعي، خارج العقل البشري، مدى قدرة البشر على السيطرة على الطبيعة والمجتمع، ومدى قدرتهم على التصنيع وخلق تراكم للعلوم الطبيعية والاجتماعية.

الوعي والمادة

كتب : عبـــــــدالله خلــــــــيفة

جسد فهم المجتمعات للمادة، وهي الأشياء والعالم الخارجي الموضوعي، خارج العقل البشري، مدى قدرة البشر على السيطرة على الطبيعة والمجتمع، ومدى قدرتهم على التصنيع وخلق تراكم للعلوم الطبيعية والاجتماعية.
وقد بدأ العرب يقاربون الحضارة الحديثة منذ أن تفتحت عيون المثقفين في النهضة الحديثة، ومن ثم راحوا يراكمون وعياً جديداً مختلفاً عن (المادة) منذ الأنظمة الملكية الليبرالية فالأنظمة العسكرية الوطنية والثقافة التنويرية العلمانية وراح يتصاعد بتقطع وضعف دون أن قطع بجذورهم الإسلامية والقديمة والإنسانية.
وهذا التصاعد والتقطع والاستمرارية تعبر كلها عن حصيلة الصناعة والعلوم والحرية وعن جذور ضعيفة في حفر الأرض المادية.
لقد كان الحصول على معنى المادة ومعنى العلم وكشف سببيات الوجود لتلك القبائل التي خرجت من الجزيرة العربية أمراً صعباً محفوفاً بالمخاطر ولجماعاتٍ أميةٍ محدودة الأرث العلمي، والتي إنتجت منها فئات وسطى حرفية وثقافية في ظل الإمبراطورية وراحت تتساءلُ عن معنى الوجود وكيفية فهمه وكيف السيطرة عليه؟
إن الشعوبَ لا تفهم الطبيعةَ والمجتمعَ بشكلٍ مجرد سحري غيبي تلقائي عجائبي بشكلٍ أساسي، وإن كانت هذه هي المراحلُ الدنيا لتشكلِ العقول، لكنها تتجاوزها، لأنها ذات مستويات دنيا، ولاعتمادها على الحدس وهو أدنى أشكالِ الفكر وعلى التجارب البسيطة غير المعللة وغير المجربة تجريباً حديثاً.
لكن هذه الأشكال الدنيا ملاصقة كثيراً للعرب والمسلمين لأنهم في المستويات الدنيا من الإنتاجين الصناعي والعلمي، ومن هنا فالأشكال الأخرى من السحر والدين غير العقلاني تبقى مترافقةً مع هذا التطور ذي المستوى المنخفض.
ومن هنا كانت الجهود الجبارة للعلماء العرب والمسلمين في إنتزاع أسرار الطبيعة والمجتمع، وهم في بدايات الحضارة، وهو أمر مهدهُ علماءُ اللغةِ والكلامِ ثم الفلاسفة، الذين وضعوا جميعاً القواعدَ الأولى لبناءِ العقلية العربية الموضوعية النقدية، التي تراكمُ لبناتِ المعرفةِ الموثَّقة، والتي تكشفُ خلايا المادةِ وعملياتِ التغلغلِ فيها بشتى أشكالِ تمظهراتها، سواءً كانت جسم إنسان أو حيوان أو أشياء مادية بمختلف حالاتها، أو كانت كوكباً أم نجماً.
ولا تنفصلُ العلومُ الإنسانيةُ هنا عن العلوم الطبيعية، بل كانت هي مقدمتها، فتطورُ علومِ النحو والصرف والبيان ودراسة جذور اللغة وحياة العرب الاجتماعية، قادَ إلى وضعِ لغةٍ كبيرة ذات إمكانيات تعبيرية وإشتقاقية حيوية تحت تصرف علماء الطبيعة والرياضيات والطب والفلك والكيمياء وغيرهم.
فتغيرت الرياضيات بداية من تغيير الأرقام إلى جعل الصفر فيها وجعلها بالتالي سهلة ولا نهائية الحساب، لأن المادة لانهائية، وعبر الجبر تم إظهار الكم المجهول من الكم المعلوم، فغدت الرياضيات أداةً أخرى، وتطورت الهندسة الأقليدية، خاصة عبر التلاقح مع الثقافة اليونانية، ثم بدأت الكيمياء والفيزياء بالتطور مع تطور الحرف والصناعات.
لكن هل تنفصل العلوم هنا عن الشعوذة خاصة مع هذه النشأة الأولى الضعيفة؟
(أخذ جابرٌ«بن حيان» مادة الكيمياء – كما هو معلومٌ – من مدرسةِ الإسكندرية التي كانت تقولُ بإمكانيةِ انقلابِ العناصر وتحولها بعضها إلى بعض، وأخذ مع هذه الكيمياء فيضاً من الفلسفة الهيلينية والآدابَ السحريةَ والتصوف والروحية الإيرانية)، (الجامع في تاريخ العلوم عند العرب، الدكتور محمد عبدالرحمن مرحبا، منشورات عويدات ط2، 1988، ص 315).
إن إمكانياتِ الوصولِ إلى الأبعادِ المتعددة للمادةِ مسألةٌ مرهونةٌ بقوى الإنتاجِ السائدة في المجتمع وتجلياتها في البحثِ العلمي خاصةً مدى تقدم الحرف ومن ثم وجود معامل الإختبار، وظهور وتعمق تخصصات العلماء، وتنوع أدوات السبر والصهر والتحليل المختلفة.
ولهذا فإن حدوثَ جدلٍ عميقٍ بين الصناعة والعلوم لم يحدث:
(مزجَ العلماء العرب والمسلمون الذهبَ بالفضة، وإستخدموا القصديرَ لمنع التأكسد والصدأ في الأواني النحاسية، وإستخدموا خبرتَهم الكيمائية في صناعةِ العطور ومواد التجميل وصناعة الأقمشة والشموع..) الخ، الموسوعة العربية العالمية، ص 460.
لنلاحظ هنا كيف أن منهجيات البحث العقلي كانت محدودة وكذلك فإن توجه الطبقات الحاكمة للاستئثارِ بجانبٍ كبيرٍ من الفيضِ الإقتصادي، وجهَ الصناعات نحو الصناعات الاستهلاكية التابعة للقصور وكبارالتجار، مثلما أن الحركة الفلسفية لم تقمْ بتحليلات عميقة للمواد الطبيعية والاجتماعية.
إن المادة هنا باعتبارها مواداً وكواكب ونجوماً، أي مادةً كونيةً، لم تتغلغلْ الأبحاثُ فيها، فجثمت أشكالُ الوعي العربي العلمية على سطوح المواد والعمليات، وهي الموادُ المقاربةُ للاستهلاكِ أو للصحةِ الجسدية البسيطة، أو للتنجيم، وهو الثقبُ الأسودُ الذي إنهالتْ فيهِ موادُ الخرافةِ الواسعة وبلعتْ العقولَ والحضارة العربية.
وحتى شبكة العلوم الطبيعية كانت خاضعةً لأهدافِ الطبقاتِ العليا، فالطبُ والتنجيمُ والصيدلةُ يتمُ الصرفُ عليها، في حين لا تحظى علومٌ أخرى بمثل ذلك.
إن أشكال الوعي من دين وفلسفة وعلوم لم تستطع أن تصل إلى المادة إلا بمستويات محدودة وعجزتْ عن كشفِ تنوعاتِها والوصولِ إلى مكوناتِها الأصغر، وفي مختلفِ تجليات المادة الحية والجامدة على السواء، كما لم تصلْ – تلك الأشكال- إلى فهم عمليات المادة الأكثر تطوراً وهي الحياة الاجتماعية البشرية ونتاجها الأعمق وهو الظاهرات الفكرية.
ومن هنا فقدتْ مفاتيحَ إستمرار النهضة والتقدم وتوقفت وتخلفت.
إن أحجامَ إكتشاف المادة في الحضارتين الكبريين الإغريقية والعربية والحضارات الأخرى كذلك مثل الصينية والهندية، لم تصل إلا لكشف سطوح المادة، لكن في الحضارة الغربية التي تصاعدت منذ القرن الخامس عشر بدأت ظروف جديدة تتشكل، فقد أزيلت الدولة الكلية الإستبدادية وأُبعدت أحجارُ سيطرتِها وهي الأديان الكاتمة على حريات العقول وإنفتح المجال للتجريب العلمي الحر.
لكن ذلك إستغرق زمناً طويلاً وبتفاعل البُنى الاقتصادية والفكرية لكل المجموع النهضوي الغربي، بحيث تمَ تجاوزُ الحرفةَ، بظهورِ الصناعتين اليدوية فالآلية، والأخيرة هي الذروة ولأول مرة في التاريخ، وبهذا فإن المادة بمختلف تجلياتها الكونية والأرضية وُضعت تحت أصابع وعيون البشر لتفحصها، بشكلٍ تاريخي متدرجٍ يعكسُ تطورَ الصاعاتِ والملاحةِ وسيطرتهم على الأشياء والمنتجات والخريطة الأرضية.
إن الأجسامَ الفضائية كالكواكب والنجوم أُعيد النظر إليها، ورئُيتْ حركةُ الأجسام الكوكبية بشكلٍ صحيح، فبدأت المناظير تتجه إلى المواد الأصغر فالأصغر، دون أن يتوقف تحليل المواد الكبرى.
وهذه المراحلُ الأولى من الإكتشافاتِ الجغرافية والصناعة أعطتْ إقتراباً من الأجسامِ الفلكية الكبرى وساهمَ ذلك في إستعادةِ وحدةِ الكرة الأرضية، وبتواضعِ الأرض في المجموعة الشمسية لكنها صارت أقوى، ودخلتْ في تشكيلةٍ تاريخية جديدة هي الرأسمالية جعلتْ المادةَ البضائعية هي محور الاقتصاد والمعامل.
أعطت هذه المرحلة تغلغلات كبيرة في المواد الصناعية، فتمكن تشارلس داروين من فهم سببيات تطور الأحياء، وكشف كارل ماركس مادة البضاعة وتناقضاتها الاجتماعية، وهو مستوى لا يعود للبيولوجيا بل للعلوم الإنسانية، وتغلغل فرويد في فهم مادة العقل وطبقاته في الوعي واللاوعي إضافة لعلماء آخرين كشفوا جوانب أخرى من هذه المادة المُـفَّكرة، وهذه كانت ذروة العلوم في القرن التاسع عشر والثلث الأول من القرن العشرين.
في القرن العشرين تعرت المادة تعرية واسعة جداً، إتسع الكون إتساعاً عظيماً، ورُئي كمجراتٍ تشكلتْ في الانفجار العظيم، وهو الكون المرئي التاريخي لنا، أي كوننا، لأنه من الممكن أن تكون هناك أكوان أخرى، وكذلك فإن مادة هذا الكون دُرست وحُللت.
(المادة في الفيزياء الكلاسيكية هي كل ما له كتلة وحجم ويشغل حيزاً من الفراغ)، الموسوعة. لكن هذا هو الشكل الكلاسيكي للمادة فقد تداخلت المادة والطاقة، صارتا نوعاً واحد بوجهين.
وكما أن المادة لانهائية في الكبر فهي لا نهائية في الصغر، والحديث عن وجود حدود لها هو مجرد ظن:
(تتكون المادة من جسيماتٍ بالغة الصغر تسمى الجزيئات، وهي عبارة عن تجمعات لجسيمات أصغر هي الذرات. وتلك بدورها تتكون من جسيمات أصغر. ويُعتقد حالياً أن المادة تتكون من أجسام صغيرة جداً لا تتجزأ، حيث أنها لا تتكون من جسيمات أصغر بل هي أصغر شيء. وتـُسمى هذه الجسيمات بـ”الجسيمات الأولية”، ومع هذا فليس من المُثبت بعد أنها فعلاً أصغر الأجسام المكوّنة للمادة.)، موسوعة
كشفتْ المادةُ عن كونِها حركةً صراعية، فأجزاء الذرة الداخلية متضادة، دائبة الحركة، والمادة الطبيعية الكونية في صراع دائم بين مكوناتها وفي العلاقات بينها، وهي في حالة سيولة دائمة من الحركة.
المادة هي جزء من كوننا، ولا يُمكن إطلاق هذا المطلح على ما وراءه. ويُعتقد حالياً أن المادة تـُشكل 27% من كلتة الكون، 4% فقط هي المادة الطبيعية، والتي تنقسم إلى نوعين رئيسيّين: مادة مضيئة وغير مضيئة، وتــُشكل الأولى 0.4% من كتلة الكون، في حين أن الثانية تـُشكل 3.6% من كتله. أما الـ23% الأخرى فهي المادة المظلمة، والـ73% الباقية هي الطاقة المعتمة.
ليست قدرات العلوم الغربية وإمكانيات الثورة التقنية التي عصفت بالقرن العشرين هي مجرد إهرامات من الأفكار المجردة بل هي تحولات كبيرة في العلاقات الدولية قادت إلى إنقلاب أوضاع الدول وتأكيد الغرب لقيادته للمسيرة العالمية تبعاً لمصالحه ومن خلال موقعه المتميز، وبالعصف بنظم ماقبل الراسمالية والرأسماليات الحكومية الشرقية.
لقد برز صراع العلوم والثورة المعلوماتية والتقنيات الغربية في مواجهة وأمية العالم الثالث وتخلفه الثقافي ومحدوديته العلمية وتبلور في كونهِ صراعَ أساليب إنتاج وثروات تنتقل من جهة الشرق لجهة الغرب، فقد بلغ نسبة إنتاج العالم النامي 7% من الإنتاج الصناعي العالم، وبلغ حجم ديونه 2 تريليون دولار، رغم ضم هذا العالم النامي 70% من سكان العالم.
إن مجموع الارباح التى حولتها الاستثمارات الغربية لبلادها قد بلغ 139,7 بليون دولار خلال عقد 1970 – 1980.
فليست الثورة العلمية والتقنية هي مجرد أفكار مجردة، وليست هيمنة العلوم على المواد، هي أشكال ثقافية، بل سيطرة على المواد الخام، والاستثمارات والثروة المعرفية الجديدة.
إن عجز العالم النامي، ومنه العالم العربي، هو في أبنيته الاجتماعية – الثقافية المتخلفة، فعقلنة العالم وقراءاته السببية والقانونية، تترافق مع تغيير العلاقات بين الثقافة والتربية والتعليم وبين الإنتاج، مع تغيير الهياكل الاجتماعية الذكورية، مع تغيير الهياكل الحكومية البيروقراطية، مع الإنتقال للديمقراطية.
إن الثورة العلمية والتقنية الغربية تتغلغل كذلك في تغيير المواد التي ينتجها العالم النامي كذلك، فهي تطيح باقتصاده التقليدي كذلك:
(ومن الأمثلة على الصناعات التى قامت على الهندسة الوراثية (التكنولوجية الحيوية) والتى تم بها ايجاد منتجات تحل محل الانتاج الزراعي في العالم المتخلف التوصل الى انتاج النيلة(منتج صناعي يُستخدم في الصباغة) التى تنتجها الهند، وانتاج خيوط مخلقة لتحل محل السيزاك والمطاط، وانتاج حبوب الفانيليا بدلا من الطبيعية التى تنتجها مدغشقر وإنتاج حوالى ثلاثين بديلاً للصمغ العربي الذي ينتجه السودان)،(تاج السر.
إذا قرأنا هذه التحولات العاصفة الغربية وإنعكاساتها على المستوى الفكري، وربطنا بين إنهيار العقلانية العربية بعد ابن رشد، وعجز القوى الفكرية المختلفة عن العودة حتى إلى هذه العقلانية الفلسفية الدينية المثالية، فسوف نرى إنهيار المجتمعات العربية وعجزها عن الارتفاع لتحديات العلوم الغربية وثورتها المشار إليها، فغياب العقلانية الفلسفية يشير إلى عجوزات مختلفة؛ عدم القدرة على نشر التصنيع وخلق قوى عاملة متقدمة ماهرة تقنياً، وضعف وعي النساء وحضورهن التقني والعلمي، وهيمنة الثقافة السحرية على الوعي العام الخ.
أي أن الحضور العربي الراهن هو بسبب إنتاج المواد الخام الثمينة وأهمها البترول، الذي يجعل العديد من الدول العربية لا تعلن أفلاسها وإنهيارها الاقتصادي، ولما سببه البترول من حراك إقتصادي شمل دولاً عربية عديدة كذلك.
وقيام الاقتصاديات والأبنية الاجتماعية العربية على إقتصاد نفطي يؤكد غياب العرب عن ثقافة العالم المعاصر العلمية، وتشكل هذا العالم على الوعي غير العلمي.
فليس الوعي بالمادة كرؤية فلسفية مسألة تجريدية، بل تتعلق بصميم التطور البشري، فحين يرفض أبوحامد الغزالي السببية في زمن الثقافة العباسية، ولا تدخل هذه كرؤية شاملة في مختلف تجليات الظاهرات الطبيعية والاجتماعية، وأن لا تزال هذه الرؤية سائدة في الثقافة العامة، فهذا يظهر الفرق بين ثقافة غربية أحتوت عالم المواد وصنعتها كذلك وبين ثقافة لا تزال تعيش على الحرف وإنتاج المواد الخام.
لقد غدت هذه الثقافة الغربية التقنية تدخل إلى نسيج المواد وتغير تركيبها الطبيعي، وقد أمكنها صناعة الخلية الحية والقيام بالاستنساخ.

أهمية الديالكتيك!

لم تستطع الحضارة العربية الإسلامية أن تجذر كلمة مثل (الديالكتيك)، وهي التي تعني رؤية التناقضات في الأشياء باعتبار هذه التناقضات هي المحركة للظواهر السياسية والاجتماعية.

 فهناك دائماً نظرة إلى جهة وحيدة، وإلى زاوية صغيرة بدلاً من رؤية التضادات والجوانب المتصارعة والجوانب السلبية في الأشياء الإيجابية، والجوانب الايجابية في الأشياء السلبية.

 فحتى في الاستعمار هناك جوانب إيجابية، فالاستعمار يقوم على ضرورة، وعلى مستويات من التطور الموضوعي المختلفة بين الشعوب، فهو يشكل قواعد اقتصادية وثقافية مختلفة عن الماضي، وفي حالة الشعوب المتخلفة الضعيفة تحتاج إلى سنوات كي تستوعب هذه القواعد وتتجاوزها، تهضمها من أجل أن تنفي الاستعمار، أن تستوعب منجزاته الحضارية: السكك الحديد، والعلوم والحرية، الخ.. لكي تكون أفضل منه.

 أما الفكر الشمولى المنغلق غير الديالكتيكي فيوجه الناس إلى الجانب المضاد إلى كراهية الاستعمار والعودة للتخلف، أي الانحصار في الحياة لما قبل الحداثة، وعدم رؤية التنوع والانحباس في النظرة غير الموضوعية، والعودة لتراث غير علمي، لا يرى خصوبة التناقضات والقراءة الموضوعية للواقع، ويجعل العرب معلقين في فراغ خيالي وعاطفي.

 كل شيء سيئ فيه جانب إيجابي، والظواهر الدينية المنغلقة فيها جانب إيجابي كذلك، وهو العودة للجذور وقراءة الماضي وهو سبب التخلف وسبب التقدم أيضاً.

 لقد حاول العرب تغيير أنفسهم بالاستيراد دون أن يغيروا البدلات القديمة التي لبسوها طوال قرون. وعودتهم المرضية إلى التراث هي بسبب سيادة النظرات الوحيدة الجانب، بسبب عدم القدرة على الجمع بين الحداثة والجذور، ولهذا يندفعون إلى جهة وحيدة، إلى زقاق مسدود، ثم يندفعون إلى زقاق مسدود آخر، وتدخل في ذلك عمليات سياسية واجتماعية مركبة، لكن النظرة الوحيدة، المنغلقة، هي أنهم لا يرون الماضي كلوحة مليئة بالتناقضات، فهي ليست فردوساً.

 كل شيء فيه تناقض، وكل شيء سيئ فيه بذرة خير، وصراعات العرب في القديم موجودة وهم ليسوا خارج التناقضات، والتطور الإسلامي مليء بالتناقضات التي لم يستطع أن يحلها كلها، كما أن التطور الغربي المعاصر مليء بالتناقضات، والأمم تنمو عبر التناقض، تجمع جوانب إيجابية صغيرة وتراكمها، حسب قدراتها الاقتصادية والثقافية.

 كان العديد من المثقفين العرب في الماضي يبحثون عن عالم بلا تناقضات، فيرون السماء والكواكب كمكان يخلو من الصراع، فيحاولون التخلص من أجسامهم، التي يعتبرونها أقفاصاً لأرواحهم، لكي تطير هذه الأرواح نحو الحديقة السماوية التي لا صراع فيها!

 ولم يختلف الوعي السائد العربي حالياً عن ذلك، حيث يغدو له الماضي كالجنة التي تخلو من التناقض، كالواحة التي تهفو إليها روحه المعذبة من أسر المادة الحديثة، مثل الكهل الذي يحن لطفولته، ولهذا يريد الوعي السائد آراءً لا تناقض فيها، ولا تنمو، وتتعدل، يريد ماركسيةً تخلو من الأخطاء، وأن تكون نقية، مقدسة، ويريد إسلاماً يخلو من التحول والتغيير ونقد الذات، يريد قومية صافية كالنبع يتوحد الفقراء والأغنياء فيها كأسرة رومانسية سعيدة، يريد مجتمعاً لا يعرف التناقضات والصراع، دون أن يدرك أن الكون كله صراع، ولكن الصراع الاجتماعي والثقافي والديني لا بد أن يجري بشكل حضاري تراكمي، تنمو فيه الإنجازات!

تحدياتُ الحداثة في الوعي الديني

تواجه الأمة العربية وهي تعود لإرثها وبناها الاجتماعية مرة إشكالية الحداثة من خلال الوعي الديني المسيس، فهل يتخلى هذا الوعي عن الشمولية التي مشت بها كل التيارات السابقة وقادتنا لكوارث وموقف متجمد أم تكون له نقلته ويقبل بالحداثة الديمقراطية؟
قمة الصراع السياسي في العالم هو الصراع بين الليبرالية والاشتراكية الديمقراطية وهو الصراع الجدلي الخلاق، أم غيره فهو إرتدادٌ للوراء.
فليس ممكناً التطور دون المصانع، وأي مصنع يلزمه ملاكٌ وعمال، وقد أضر بنا ذلك التداخل بين الدولِ المالكة والمصانع، وضاعت الأرباحُ والأملاكُ العامة.
الصراع بين ملاك المصانع والعمال هو الصراع التعاوني الذي أنتج الفكرتين السياسيتين الكبيرتين، فيما كان أختفاؤهما سبب للشموليات المختلفة وللكوارث التي تتالى في الأمة العربية منذ تحرك تونس وتتويج ذلك في سوريا حين صار البعث هو مالك المصانع والثروة فيما العمال يعيشون تحت خط الفقر، وغياب الحريات الديمقراطية والصراع الجدلي بين أرباب العمل والعمال، وكان الصراع بين الليبرالية والاشتراكية الديمقراطية هو كان الضامن لتطور الانجازات الديمقراطية والثروة الوطنية.
فصار البعثُ يصارعُ الشعبَ كله فخسرَ الناسُ أرواحَهم وثروتهم معاً.
ولهذا فإن نموذج البعث الديني وصراعه ضد الحداثة والعلمانية وغياب صيغة الصراع بين الليبرالية والاشتراكية الديمقراطية يغدو تكراراً رهيباً آخر.
أمامنا النموذجان الهندي والصيني في كيفية التعامل مع الحداثة والديمقراطية، ففيما قبلت الصين النموذج الشمولي ومنعت التنوع والصراع الجدلي بين الليبرالية والاشتراكية الديمقراطية، فتعيش الآن ضمن ألغام كبرى سياسية غير قادرة على نزعها، قامت التجربة الهندية على التعاون الصراعي بين الجانبين الفكرين السياسيين للعصر، وأكدت ثورتها الصناعية والعلمية من خلال هذا التنافس، وتباينت الحكوماتُ الإقليمية والمركزية في أشكالِ وجودِها بين حكوماتٍ ليبرالية وحكوماتٍ إشتراكية تعمل في إطار وطني متعدد ومتطور، ولا توجد الملكية العامة المنخورة سياسياً وغير المراقبة كما هو حال الصين.
لكن الصين أمام ضخامة مشكلات الفقر والعمالة العاطلة وإنجاراته الكبيرة كذلك في النمو الاقتصادي كانت تتخلص بصعوبات جمة من الفهم الإيديولوجي الضيق لماركسية غير ديمقراطية غدت متحجرة فيها، وتتوجه لإعطاء هونغ كونغ حرية إختيار نظامها الخاص، فيما الرأسمالية البيروقراطية تشل الأجهزة الحكومية فيها عن التطور الديمقراطي في الصين الأكبر.
تسمح الأشكال الحديثة لمختلف القوى الاجتماعية بالتعبير عن نفسها وتطور مختلف أشكال الاقتصاد، وتسمح لمختلف أنواع الأديان والمذاهب بالتعايش معاً، وأثراء أبحاثها وتقاليدها بحرية كاملة.
فتعدد أشكال الملكية ووجود سلطات منتخبة متوجهة للقضايا الاقتصادية التحولية هو المهمة الرئيسية للحكومات العربية، فيما القضايا الفكرية والدينية من إختصاص القوى المدنية.
إثارة الصراعات المذهبية والفكرية في شعوب صغيرة ذات أسواق متواضعة تعيشُ أزماتِ التحولِ المختلفة، تؤدي لمزيد من تسول هذه الأنظمة للمساعدات، فيما تمثل الهند والصين عملاقة كبيرة من حيث السكان وضخامة الأسواق ومع هذا تبحث عن مصالحها وطرق تطورها الاقتصادية بدرجة أساسية خاصة الصين التي تحاول الخروج من مأزق الشمولية ولا تدري كيف وهو مأزق قد يفجرُ أزمةً شعبية في الصين أخطر بكثير من أزمة سوريا تحت حكم البعث، فهناك أكثر من 600 مليون عاطل وقضايا خطيرة كالفقر وصراع القوميات والأديان والمناطق.
وقد عانت روسيا ولا تزال تعاني حتى الآن من رفض نموذج الليبرالية والاشتراكية الديمقراطية التعاوني الصراعي، فأوجدت إشتراكية متصلبة ثم تخلت عنها نحو نظام غامض لا هو إشتراكي ولا هو ليبرالي حر. وهي ذاتها تعيش المأزق السوري نفسه، في دولة هائلة والانفجار خرابٌ كبير فيها.
فيفترض في الأنظمة العربية الجديدة والقديمة كذلك الانتقال لهذا النموذج بدلاً تحويل النموذج الديني لشمولية كما فعلت روسيا والصين وسوريا، لكن لا يوجد ما يبرهن بأن هذه التجربة يمكن أن تزدهر عربياً في السنوات القادمة …

الكلمة من أجل الإنسان

الكلمة من أجل الإنسان الجزء الاول

(كلمة من أجل الكاتب)
تميّز عبدالله خليفة ‏‏‏‏‏‏بالجمع في شخصيته بين المفكر التقدمي والأديب والروائي والمناضل الذي لم يتراجع في كل الظروف عن أفكاره وعن مواقفه. وقاده إلتزامه بأفكاره التي دافع عنها بشجاعة الى السجن اكثر من مرة. لكن من اهم ما عرف عنه وهو في السجن، الذي أدخل إليه في عام 1975. من موقعه في قيادة جبهة تحرير البحرين، أنه لم يترك القلم لحظة واحدة. وصار معروفاً أنه ألّف عدداً من كتبه ومن رواياته على وجه الخصوص داخل السجن على ورق السيجارة. وكانت تهرّب إليه الأقلام و أوراق السجائر ليمارس عمله الأدبي والفكري. وكانت تهرّب أعماله الأدبية من السجن وتطبع ويتم نشرها. وهو بتلك الصفة التي ندر شركاؤه فيها تحوّل الى أيقونة بالمعنى الحقيقي المناضل اليساري الحقيقي و لصاحب الفكر النيّر.
تعرّفت الى عبدالله خليفة ‏‏‏‏‏‏عندما زرت البحرين في عام 2000. أنني و أنا أستحضر اسم عبدالله خليفة ‏‏‏‏‏‏كمفكر وأديب وروائي مناضل لا استطيع الا ان اعلن لنفسي وللقارئ كم كنت معجباً بهذا الانسان. فهو الى جانب ما أشرت إليه من صفات فكرية وأدبية وسياسية كان إنساناً رائعاً بالمعنى الذي تشير اليه وتعبر عنه سمات الانسان الرائع بدماثته وبأخلاقه وبحسه الانساني الرفيع. قرأت مقالاته وقرأت جزءاً من موسوعته التي تحمل عنوان «الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الإسلامية». وهو كتاب من أربعة أجزاء يحتل مكانه في مكتبتي.
المفكر اللبناني كريم مروة

المفكر اللبناني كريم مروة


‹ ……….♦❖♦ ……… ›

ثمة شخوص، تحفر عميقاً في الذاكرة والروح والوجدان، وتبقى ماثلة شاخصة، بأبعادها الذاتية والإنسانية وعطائها اللامحدود، تعرفت على الكاتب والروائي والمفكر عبدالله خليفة‏‏‏‏‏‏ لأول مرة في منتصف الستينيات وهو في بدايات تجاربه القصصية الأولى.
عبدالله خليفة ‏‏‏‏‏‏كما عرفته قامة إنسانية، بقدر ما هو قامة كتابية وفكرية شامخة، وكما عرفت عبدالله في كتاباته القصصية والروائية والفكرية، عرفته أيضاً في جانبه الإنساني العميق.. البالغ العمق.. عبدالله غيري لا يكترث لذاته.. لا يكترث بالأنا بقدر اكتراثه بالآخر.. كان لعبدالله أن يكون من أصحاب الثراء والوفرة والنفوذ، حيث كانت الأبواب مفتوحة باتساعها لو أراد، لكن عبدالله أبى إلا أن يكون عبدالله، وآثر أن يكون إنساناً يقبض على الجمر بيد ويواصل رسالته الإنسانية باليد الأخرى. كم كنت أتمنى، لو أن عبدالله قد قيض له أن يكتب تجربته الإبداعية بما حف بها وداخلها من وقائع وأحداث، وما تمخض عنها من حراك ثقافي وأدبي وفكري واجتماعي وسياسي، لكن عبدالله آثر «تواضعاً» أن يكتب هذه التجربة بأبعادها ومعطياتها بعيدا عن أناه المباشرة. كما نجده في رواياته العديدة، التي تعتبر منجزاً وطنياً إبداعياً، ولعله الوحيد الذي يحسب له كتابة تاريخ البحرين الحديث «روائياً» في ثلاثيته «ينابيع البحرين» التي ستظل مرجعاً تأصيلياً مهماً لتاريخ البحرين والرواية السردية على السواء.
لقد رفد عبدالله خليفة ‏‏‏‏‏‏المكتبة الروائية في البحرين والخليج والمحيط العربي بنهر ثري من العطاء الروائي والدراسات الأدبية والنقدية، وتوج ذلك العطاء بكتابه الموسوعي القيم «الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الإسلامية» وهو دراسة فكرية موضوعية رصينة في العقل العربي الإسلامي بدء بالزمن الأسطوري حتى العقل واللاعقل الدينيين.
رحم الله عبدالله خليفة ‏‏‏‏‏‏الكاتب والإنسان الذي لا يقل عطاؤه الوطني والإبداعي عن عطائه الإنساني، وقد كان غيابه المبكر وهو لم يزل بعد في ريعان العطاء الإبداعي فاجعة مني بها الإبداع التخيلي وخسارة كبرى للساحة الأدبية في البحرين والخليج والمحيط العربي.
الشاعر البحريني الكبير يوسف حسن

الشاعر البحريني الكبير يوسف حسن


‹ …….♦❖♦ …… ›

قوة الكلمة


لا تأتي قوة الكلمة من شقشقة اللغة، والتلاعب بالألفاظ، وترفيع المؤدلجين الكذابين، وتغييب الكتاب الحقيقيين، بل من التعبير عن المعاناة العامة، وقضايا الوطن المتخثرة في الدهاليز والفساد وثقافة الكذب.
كلما امتلكت الكلمة سحر التعبير الشعبي، وصور البطولة اليومية ارتفعت في سماوات الأدب البشري الخالد.
الكلمة ليست حروفاً مجردة بل قوة تعبير سحرية عن مضمون شعبي مقاوم يتصدى للصدأ والغبار التاريخي ونشر الجهل، هي صور للبسطاء وهم يُدهسون في شوارع الحياة، وتصوير لأصابعهم وهي تتحرك ضد الحشرات.
ليس الكاتب الخائب، والصحفي المنعزل، ومروج الأكاذيب اليومية المليئة بالصواريخ الفضائية، بل الكاتب المدافع عن شعبه، المعبر عن تاريخه، عن قضاياه المضيعة في ثرثرات المثقفين، وورق الدجل اليومي.
هو من يصور في قصصه وقصائده ومقالاته ما يدور في الواقع، وليس من يصنع صوراً زائفة، ويتباهى باتصالات الوزارات، والمؤتمرات الفاشلة المقامة لسرقة الشعوب، يتباهى بالرسائل المصنوعة من الدوائر العامة الفاشلة، وإقامة علاقة رفيعة عليا مع الحرامية، بل هو الذي يعيش في زاوية العتمة وقلبه على الوطن، يُجلد ويُحبس ويتعطل ويُغيّب ولا تزال القضايا العامة تنبضُ في حروفه.
سجل كلماته أرشيف كاشف للبلد، للحارات، للمحرومين، لم يقل أنا طوال حياته ويعرض سفراته المدفوعة الأجر مسبقاً من فاشلين إدارياً، لو أُعطي تذكرة كشف أرقامها وكيفية صناعة الخداع فيها.
الصحف الفاشلة تموت، وسجل التمويه لو أستمر قروناً لا يصمد للزمن، والبلدان المقطوعة اللسان تتفجر وتتساقط حممها على الرؤوس، ويهرب كذابو الكلمات خارجاً حاملين الغنائم، وسجل الثورات الهائل يعري التحولات المذهلة حيث لم يبق طاووس مهما طال به الزمن، ولا يتعذب شعبٌ إلى الأبد.
الكلمة تتصحر بين أيدي المنافقين لا يجدون أنهم قادرون على الكلام، وببغاء واحدة أفضل صدقاً من مليون كاتب مزيف، لا يَسمع سوى السخرية من كلماته لأنه أصم وبلا معرفة تاريخية منفصم عن الواقع، يعيش في قصر من المرايا التي تعكس ذاته العظمى، ومن يملك ذرة من الصدق ينزوي ويحترم نفسه.
الكلمة نار الحقيقة إلى الأبد، ومن الكلمة نشأت الحضارات والرسالات، وظهرت الرموز والدساتير تشع للبشرية الخير والجمال، والمنافقون لديهم كافة مجلدات اللغة، وموسوعات العطاء المدفوعة، لكنهم غير قادرين على صنع كلمة واحدة مؤثرة تنزل في التربة الوطنية الشعبية التاريخية وتزهر.

‹ ……….♦❖♦ ……… ›

لم يؤسسوا تنويراً


حديثُ الأنوارِ الذي ظل يبهروننا به، تصورنا إنه سوف تنبثقُ منهُ كتبٌ ومرجعياتٌ وموسوعات.
حين كتب الفيلسوف الفرنسي ديدرو موسوعته ورواياته أثرى الثقافة الإنسانية. لكن كيف كان سيفعل ذلك إذا لم ينعزل ويداوم على القراءة والبحث؟
كيف كان لجان جاك روسو أن يكتبَ إعترافاته ويُظهر جسدُهُ الروحي الحقيقي عارياً أمام البشر لو أنه إحتفظ بذرةٍ من غرور؟
كيف للفلاسفة والمفكرون والكتاب أن يمهدوا لتطور الإنسانية إذا بقوا في المستنقعاتِ ولم يصعدوا للجبال المعرفية الشوامخ؟
في الوعي العربي نشأتْ نماذجٌ من ذلك، كالعلامة العراقي (جواد علي) الذي حفر كثبان الجزيرة العربية الورقية اليابسة وكشف أخاديدها ووديانها التاريخية القديمة، بحيث تمكن الباحثون القادمون اللاحقون من السير نحو فهم العربية والإسلام والفلسفة؟
ولهذا فإن الخليج الثقافي يعيش ما قبل التنوير، ومع تأجج معاركه السياسية تبدو التربة الغضة لفكرهِ وثقافته، فالعربُ غيرُ عربٍ، والتحضرُ لم يتحول إلى تحضرٍ إلا في العمارة والأشياء، والمثقفون ليسوا مثقفين، والتنويورن ظلاميين، والغنمُ الاجتماعي أسرع لـ(المريس) النفطي يأكلهُ بسرعةٍ وشهوةٍ وحشيةٍ لا يريدُ حتى أن يبقي للأجيالِ القادمة إلا المباني النخرة والمؤسسات المحلوبة.
أول ما يمنع ظهور التنوير هو الإنتفاخات الشخصية، فالمسرحُ المليءُ بالشخوصِ المتضخمةِ يمنعُ رؤية أين يقع الظلام وكيف ينبثق النور.
حين تظهر المؤسساتُ ذاتُ المصروفاتِ الهائلة من أجل أن تشير لعظمة دولة لا تبقى دولة.
ثمة نفط وثمة غاز ولكن الغاز حين ينفخ البالونات ويطيرها في الهواء لكي يرى العالم كم يمتلك الخليج من بالونات ملونة رائعة، تنفجر من أي ضربة ريح.
كان يُفترض لأي تنوير أن يقف أمام المشكلات المحورية المفجرة للصراعات الدائمة ويكشفُ البقعَ المظلمةَ فيها.
لذلك أن الكتابَ والمبدعين يشكلون طلائع التحسس للأرض الشعبية وما فيها من حكايات وقصص وأمثال تكمن وراءها مشكلات البشر ومعاناتهم فتحدثُ هنا قراءات للإنسان الملموس الحقيقي، وليس الإنسان الموهوم المؤدلج، ومن هنا إمتلأت الموسوعات بمعرفة الشعوب.
لهذا فإن الفاعلين في الثقافة السياسية ظهروا كنبتٍ صحراوي، يغيبُ التحليلُ عن أعمالهم، وحين تحدث الأزماتُ الصاخبة وتُظهر الحصادَ الهزيل المريع، تتفجر لغةُ الشتائمِ والسخرياتِ والاحتقار والإلغاء وهم قبل قليل كانوا يتحدثون كلهم عن لغةِ الديمقراطية وإحترام الآخر وضرورة أن نصعد مثل بقية الدول حتى العربية منها إلى عالم الحداثة والديمقراطية.
لماذا حدث التغييب الكلي في زمن صعود أي طرف؟ لماذا تعني البلاغة الألغاء والدوس؟
بسبب إن التنوير وتعلم الديمقراطية وثقافة التعددية والتبادلية لم تصل إلى الداخل.
الدكتاتور في الداخل صعد وحصل على فرصة، وهنا سوف يلغي مظهر التنويري والموسوعي الزائف ويصيرُ (شوارعياً) بذيئاً، يعودُ إلى مستوى العامي الأمي البسيط المحترم في زمنهِ ولا يرددُ حكمَهُ بل شتائمه في حالةِ ضيقه ويأسه وتتحول أمثاله المُنتزعة من خبرته ومعاناته إلى زجاجات مكسورة في جسمه وروحه.
البلد الذي تضخم بالمباني والعلوم والمؤسسات يعودُ مثل (الفريج) العتيق المنقسم إلى ناحيتين وكلٌ منهما (تردح) ضد الأخرى.
الوعي لم ينحدرْ لأنه لم يتأسس، ولكن ثقافةَ (الردح) والاستعانة بـ(قبضايات) من الخارج، أظهرتْ أن ما تم النضال من أجله خلال عقود كأنه لم يكن، في ظل ثقافة التسييس الفاقع، وإنفلات الأعصاب، حيث عادت مناظرُ الشجارات في المقاهي ودور السينما الرثة، لكن بصورة مناطقية عالمية، وحدث الانكسارُ للمزهريات الصغيرة التي تجمعت فيها بعضُ الورود، وغاصتْ الشظايا في الأرجل الحافية.

‹ ……….♦❖♦ ……… ›

الرهان على القلم


لم تفد الكتاب المراهنة على الحكومات والدينيين، فالكلُ يتاجر بالأوطان والأديان لمصلحة موقوتة، والكل يبيع والبعض مستفيد، والأغلبية خاسرة!
الكل يدعي ولا أثر على الأرض!
ليس للكتاب سوى أقلامهم تنمو قصة ورواية وشعراً ونقداً وثروة للوطن بلا مقابل أو بمقابل ضئيل وغير شفاف!
أعطوا الوطن لكل من يدعي ويبيع، وكل من يزحف على بطنه، ويقبل الأحذية، ويأكل التراب ويلعن الإنسان.
ليس لكم سوى هذا القلم مهما توهمتم التحليق في سماء مجردة، ومهما تباعدتم، وأختلفتم، ليس لكم سوى قطرات من حبر أو من دم.
راهنوا على القلم فهو وحده الباقي
تتحولون إلى عظام وذكريات متعددة التفاسير ولا يبقى سوى قلمكم يقول ما آمنتم به وما ناضلتم لكي يتكرس في الأرض.
ليس لكم سوى أوراق فلا يخلدكم ولدٌ ولا تلد، هذه الحروف التي عانيتم في إنتاجها وتعذبتم في إصدارها هي التي تشرفكم أمام الأجيال المقبلة التي لا تحد ولا تحصى.
فثقوا بالحروف وبالإنسانية المناضلة نحو زمن جديد هو زمنكم، الذي تصيرون فيه ملوكاً متوجين، وحكاماً غير مطلقين، ومربين كباراً للأجيال.
ماذا تفعلون الآن وكيف تمتشقون سلاح الكلمة وتوجهونه للحرامية والمفسدين وتعرون شركات الأستغلال وبنوك النهب العام، ترتفعون في سماء الوطن، وتخلدون في سجلات الأبرار.
القلم ليس له شريك سوى الحقيقة، وليس لطريقه واسطة أو سلطة محابية أو كهنة مطلقين، هو الحربة الموجهة للشر لا تعرف الحلول الوسط أو الشيكات الثمينة.
سلطة القلم سلطة عالمية، تتوحدون مع القلم الأسود والأبيض والأصفر، وكل ألوان الإنسانية المتوحدة في معركة واحدة ضد الحكومات المطلقة وبيع الإنسان كما لو أنه حذاء وضد هذا العداء بين الأمم والأديان والأعراق.
أنتم رموز الإنسانية فلا تنحدروا ولا تساوموا واكتبوا بسلطة الحقيقة وليس بسلطة المال.
توحدوا في هذه المعركة الكونية، وتضامنوا مع اشقائكم المظلومين والمضطهدين في كل قارات الأرض، وضد هذه القوى التي تدهس القصة والقصيدة ولا تحب سوى الإعلان، وأخبار القتل واليأس، ولا تبجل سوى البشاعة.


‹ ……….♦❖♦ ……… ›

طفوليةُ الكلمةِ الحارقة

مواضيع وابحاث سياسية

الرفيق عبدالله خليفة: عن طفوليةُ الكلمةِ الحارقة

حين يهاجم مثقفٌ متنورٌ معتقدات الناس القديمة المتوارثة المتواصلة وهم في غياهب الظلمات غارقون في البؤس، ويضربُ مقدساتهم بسياط كلماته، لا يجني سوى الشقاء.
وهذه بطبيعة الحال ستكون شرارة. أما احترقتْ أجسادُ المتنورين في نهاية العصور الوسطى بنيران الكهنة؟ لكن حيواتهم الثمينة احترقتْ مع جلودهم وأدمغتهم والعطاء المأمول منهم.
أحمد القبانجي أو تركي الحمد بنقدهما لمقدسات الناس يتم اصطيادهما في السجن وتُهدد حياتهما.
الهجماتُ ضد المقدس التي تطال الرموز البشرية والاعتقادية جزئيةٌ، انفعالية، غيرُ مبنيةٍ على درس عميق وتحليل مديد.
هي التنويريةُ الطفولية، وحرقةُ مثقفِ التيارات الاجتماعيةِ الثقافية القلقة المعبرة عن الفئات الصغيرة ولعدمِ وجودِ الطبقات المنتجة الجماهيرية بثقافتِها المتأصلةِ الواسعة الانتشار، وهذه التنويريةُ الساطعةُ في لحظةٍ حادة كأنها انفجارُ نجمٍ، فهي تريدُ دهسَ الظلام دفعةً واحدة، كأن الظلامَ هو شخصٌ ماضوي، أو فهمٌ أعوج لحادثةٍ، مركزيةٍ في الذهن الشعبي السحري، وهذه التنويريةُ الفردية الشجاعة والطفولية كذلك تَحدث في العالم العربي الإسلامي بشكل مستمر وهو يعيدُ إنتاجَ الشموليات والتخلف على مدى قرون.
ولكنه كذلك يشكلُ تجديداً ويراكم طبقات صغيرة من التحولات.
لهذا نجد التنويري مثل لحظة طه حسين أو أحمد القبانجي أو تركي الحمد، ذا صلة هشة بالطبقة الوسطى مشروع النهضة الاجتماعي، حيث نجدُ هذه الطبقة في اللحظة التاريخية المعينة أجساماً صغيرة مُفتتةً، تركزُ على دكاكينها ووكالات تجارتها، وإيجاد مقاولات وأعمال لدى ملاك الزراعة الكبار والحكومات.
فلا تجد هذه الفئات أي صلة بين نقد الشعر الجاهلي ومشروع النهضة والتحرر من الاستعمار وقيام الدولة الوطنية.
وكان انفجارُ طه حسين جاء في جُملٍ صغيرة تسخرُ من تاريخ ديني، في حين أن الكتاب ليس ذا صلة وثيقة بهذه الجُمل التي حُذفت في الطبعات التالية ولكن الكتاب حرك سلسلةً طويلة من البحوث في تاريخ العرب.
الناس الذين ينتقد المتنور تصوراتهم الدينية السحرية ُ يعيشون في عالم ذي أسس موضوعية تكرس العلاقات غير السببية، فالفلاحون يحرثون الأرض بمحاريث تقودها الثيران، والتجار مشدودون لمخازنهم يكدسون البضائع يريدون بيعها بأعلى سعر ويستغلون المشترين ما أمكن ويتهربون من الآلات والمصانع إلى بناء العمارات السهلة الربح.
وإذا جاء القليلُ النادر منهم للمتنور في جامعته أو كتابه أو برنامجه الفضائي سيغضبون من جمله الناقدة لتراثهم الديني المقدس.
إن كل ما كتبه وحرق عمره من أجله لم يصل لهؤلاء الناس، فراح يسلطُ عليهم نيرانَ عباراتهِ من أجل أن يحركهم ويستثيرهم ولكنه جرحهم وبلبلهم.
وما يكتبهُ من آراء تنويرية مثالية لا تصل لتحليل العلاقات الموضوعية التي يعيشون فيها، ولو كان كذلك ما صفعهم بجُملهِ، فهو يسخر من رموز يقدسونها، لا يجدون بينها وبين مشكلاتهم علاقة. وهو يتصور أنه بقلقلةِ وجود هذه الرموز يتمكن من تغييرهم وهدايتهم للتقدم المنشود.
إن هذه الفئات الوسطى الصغيرة غير قادرة على تجميع رؤوس أموالها الصغيرة لبناء المصانع الحديثة، التي تُخرج الناس من المزارع الصغيرة ومن الحِرف ومن الجثوم في المقاهي، وعبر هذه التحولات تظهر ظروفٌ جديدة لهم، للثقافة، ولمحو الأمية، والارتباط بالأجهزة التقنية المتطورة، وإنتاج أجيال من المتعلمين المختلفين، حيث يحدث هنا تراكمٌ للمعرفة الجماهيرية العلمية، وحيث يبدأ الناس بفهم الحياة والمجتمع بأشكال موضوعية.
لهذا نجدُ أن لحظةَ طه حسين تم تجاوزها مصرياً حيث حدثت تطوراتٌ كبيرة ولكنها لم تكتمل بعد، في حين أن أحمد القبانجي العراقي لاتزال بلاده غير قادرة على خلق مثل تلك التطورات المركبة ولم يتواجد الحضن الجماهيري الديمقراطي الحديث الواسع. في مصر تُطرح مسألة فصل السياسة عن المذاهب بقوة الآن من أجل التركيز على برامج التحول الاقتصادي الشعبي، وهو البرنامج الذي يرسخُ أكثر بنيةَ المصانع وبنية الحداثة والمعرفة العلمية، فيما تغدو تصورات الإنسان الدينية من حريته ومن حقه.
ولكن إضاءةَ المتنور المغامرة تُستخدم من قبل القوى المتطرفة دينياً في تكريس التخلف والقمع، فهي تقتنص الخطأَ الإجرائي في عرض المعرفة التي لم تأتِ في سياقها الديمقراطي الجماهيري الحديث فتجعلها جريمة.
هكذا كان أصحابُ المغامراتِ اللادينية في العصور الوسطى يهاجمون المعتادَ الشعبي من الدين دون قدرة على تغيير وعي الناس، لأن هذا الوعي مرتبط بظروفِ إنتاجهم ومعاشهم وتقاليدهم وحياتهم الشخصية، فيذهب المتنور ضحية الفخاخ التي يصنعها المحافظون وضحية مستوى المعرفة المحدود في الناس.

في نقد اللينينية

لينين في محكمةِ التاريخ

إنتقلتُ في علاقتي بلينين من المحبة إلى العداء، ثم إلى القراءة الموضوعية دون محبة أو عداء، أي إلى قراءة تحليلية أتجنب أن تكون ذاتية.
ظللَّ هذا الرجلُ مرحلةَ شبابنا، وكان معبوداً، وتدمر في تواريخ لاحقة حتى غدا مرفوضاً ملعوناً، لكنه صعد بشكل آخر حين تنامت القراءة الأعمق للتاريخ.
لينين دكتاتور، وكرسَّ نفسه لكي يكون ديكتاتوراً، وهذا لم يخفهِ، لكنه دمجَ دكتاتوريتَهُ الشخصيةَ الحزبية بالطبقة العاملة، بإدخال دكتاتوريته الشخصية الحزبية فيها.
العمالُ غير قادرين على المشاركة في السياسة فكيف أن يكونوا قادة دولة كبرى؟!
العمال لكي يكونوا قادة دولة يحتاجون لعشرات السنين وربما لمئات السنين، فكيف يحدث ذلك؟ المثقف التقدمي يتكلمُ نيابةً عن العمال، إنه يختزلهم في شخصه المنتفخ سياسياً بشكل متصاعد تاريخي، أي مع تطور حركته السياسية التي تُصعدُ دكتاتوريتها ودياكتاتوريته بين العمال والجمهور وكلما تغلغلت زادت البرامج شمولية وضخامة في التغيير.
هذه إزاحةٌ من برجوازي صغير لذاتهِ الطبقية الغامضة، المترددة بين الاشتراكية الديمقراطية والاستبداد الشرقي، والعمال يكونون مادة خاماً غير معبرة ولا مهيمنة.
البرجوازية الصغيرة بإحدى فئاتها وهي البلاشفة تتكلم عنها وتتداخل معها، وتصعدُ نفراً منها، كأدواتٍ لها. فالعمالُ لا يعبرون عن أنفسهم بل يُعبرُ عنهم.
هنا حدسٌ تاريخي وتحليل موضوعي من لينين، ومقاربة للعالم الشرقي الذي ينتمي إليه، وهو عالم إستبدادي لم يعرف التغيير عبر الورود.
إن التغيير في الشرق يتم عبر القوة ومن ليس لديه قوة لا يستطيع أن يغير، لينين يعيش وضع الشرق الاستبدادي ويتكلم من خلاله، فهو قد عبر منذ البداية عن هدفه الدكتاتوري وطريقه الديكتاتوري، ولم يقل عن الانتخابات الحرة والديمقراطية الغربية، بل قال أنا السلطة وأنا النظام.
الشرقيون في تحولاتهم عبر الماضي إعتمدوا على العنف، ومن لم تحمهِ قبيلةٌ وينهض على أكتاف مقاتليها أو من لم يجد قوة تنضم إليه لا مستقبلَ له في السلطان والتغيير على مدى قرون!
المسيح وغاندي لم يعتمدا على العنف بل على الأفكار والمحبة وفي المضمون حركا الجماهير الشعبية عبر نضالات سلمية عازلة للطبقات الحاكمة بحيث تمكنا من هزيمتها. وقد كان تولستوي الروائي الروسي الكبير هو معلمُ غاندي، لكن لينين في كتابته عن تولستوي لم يأبه بمسألة اللاعنف، وتغاضى عنها، وركزَ على الصراعات الاجتماعية وأن تولستوي المسالم لم يدخلْ الثورةَ في رواياته ولم يحول الفلاحين إلى ثوريين وإنه ركز على مسائل الضمير والأخلاق والتغيير الروحي وكان هذا نقص في رؤيته حسب قراءة لينين. وقد كان تولستوي يهدف بشكل أساسي إلى عدم إدخال العنف في نضالات شخوصه وعوالمه، بل ركز على النضالات السلمية، والمحبة، وعلى(البعث الروحي) وهذه إعتبرها لينين ثغرات في وعي تولستوي وليست ثغرات في وعيه هو!
وبين مسارِ هند غاندي المتحولة من نموذجهِ وبين مسار روسيا العنيف مفارقاتٌ هائلة، فقد وصلتْ الهندُ لنفس مسار روسيا بدون كل تلك المذابح اللينينية والستالينية وبدم مائة مليون قتيل، بل من خلال مغزل وعنزة!
لكن روسيا كانت قائدةً للتحول الشرقي عامة، فبدون روسيا السوفيتية يصعبُ وجود وإنتصار الهند الغاندية.
روسيا قامت بدور القيادة التحررية لعالم الشرق، فإذا كانت اليابان عملت لذاتها الخاصة الأنانية وبكم هائل من الدماء، فروسيا عملت لنفسِها وللشرق والعالم المستعبد، وهي تقدمُ نموذجاً دكتاتورياً مليئاً بالتجاوزات والجرائم!
لم يستطع لينين أن يكون إشتراكياً ديمقراطياً، فالاشتراكية الديمقراطية صالحةٌ للغرب، لدولٍ راحتْ تتطورُ في رأسمالية حديثة خلال خمسة قرون وأكثر، لدولٍ فيها صناديق الاقتراع والحريات الفكرية والسياسية والحب في الشوارع، فيما عاشتْ روسيا في إستبدادٍ مطلق، فلم يعرف الروسُ صناديقَ الانتخاب، ولم يعرفوا النقابات والأحزاب العلنية، فكيف يؤيدون الاشتراكيةَ الديمقراطية؟
في روسيا مائة مليون فلاح أمي فقير حينذاك، فكيف يظهر التنويرُ وتصعدُ الديمقراطيةُ فيها؟!
هنا تنجح الدكتاتورية مثلما نجحت في بلدان أخرى لها نفس السمات كما سوف يتفجر ويتألم القرن العشرون الشرقي!
عمل لينين على تجذير الاشتراكية الدكتاتورية، وهزيمة الاشتراكية الديمقراطية، وعلى تصعيد رأسمالية الدولة وعلى الدولة القومية الروسية.
منذ البداية في (ما العمل) أكدَ ضرورة وجود حزب دكتاتوري، يعمل على إسقاط النظام وإحلال الاشتراكية فيه. وإنقسم الاشتراكيون تبعاً لذلك، بين إشتراكيي التعددية والتغيير التدريجي الديمقراطي وبين الفصيل البلشفي الدكتاتوري الذي يقوم بالتحولات النهضوية بشكلِ دولةٍ جبارة تقع كل الخيوط في يديها.
الشرقيون إلى زمنٍ طويل أقربُ للبلشفية منهم للديمقراطية، لأنهم دكتاتوريون محافظون، وذكوريون إستبداديون، ويريدون التحولات بسرعة ومن خلال (القداسة) التي تحقق التحولات السريعة القافزة المتلاحمة لهم، دون أن يقوموا بتحولات في شخوصهم وعائلاتهم ويغلغلوا الديمقراطية في أوضاعهم ونفوسهم وحياتهم الشخصية.
وقد تمكن لينين بعبقرية من فهم المجتمع ومن وضع برنامجه موضع التطبيق وغيرَّ روسيا والعالم وفي بلد هائل وعالم شرقي نائم، وأمام وفي مواجهة قوى إستعمارية هائلة ذات قدرات عسكرية عالمية مخيفة تدخلت وحاولت الوصول إليه ولكنه هزمها!
سبب إنقلاب لينين على الحكومة الديمقراطية وقتذاك الكثير من المآسي للشعب ولكنه حقق نهضة هائلة.
كان تصعيده للصراع ضد حكومة أتاحت الأحزاب والانتخابات لكونِ برنامجه من البداية ينادي بإبعاد البرجوازية عن السلطة، وحين جاءتْ سنةُ التحولِ في 1917 سّرع من الدعوة لتحقيق مطالب شعبية ملتهبة، وعزلَ البرجوازيةَ عبر التحالف مع الفلاحين، وكان قبلاً لا يؤيد إعطاء الأرض للفلاحين لكنه في خضم الصراع ومن أجل تفكيك الخصوم وضرب بؤرتهم جذب الحزبَ الثوري الشعبي ذا الأغلبية وتبنى برنامجه وأضافه في لعبته السياسية، فحقق البلاشفة الأغلبية لأنفسهم وجاءت الملايين لتأييده، فهذا الإجراء حقق قاعدة هائلة في بلد يحكمهُ على الأرض الفلاحون.
لكن البرنامج البلشفي ليس هو هذا، وهو برنامجٌ عامٌ مجرد في بداياته، ويتوجه نحو ضرب العلاقات الرأسمالية الخاصة بشكل أساسي، بتأميم المصانع، وبهذا فإن البلاشفة أسسوا جيشاً كبيراً ومخابرات قوية، وراحوا يصفون الخصوم الخطرين، ثم ينقلبون على الحلفاء، فالحزبُ الشعبي حاول أن يعري هذه الدكتاتورية التي هي ليست دكتاتورية العمال، بل دكتاتورية البلاشفة، فكانت ضربة الحزب العنيفة حين أعلن بعضٌ بحارتهِ وعماله التمرد وتحول لغبار بشري!
تكوين سلطة بلا جذور، وعبر إجراءات إجتماعية وتشكيل أجهزة عسكرية وإستخباراتية عملاقة، أتاح صد المعارضين والقوى المتدخلة الأجنبية على التراب السوفيتي، وكان المتصور إنها بإمكانياتها العالمية قادرة على سحق هذا النظام الغض المحاصر، لكن تلك الأجهزة وإجراءتها التحولية لمصلحة الغالبية الشعبية، وعمل إنضباط هائل ومصادرة أية حبة قمح زائدة عن إستهلاك الفلاحين، أدت لتماسك النظام وإنتصاره وحدوث قمع رهيب وضحايا ومجاعة.
لكن هذا الرجل صاحب المشروع الدكتاتوري النهضوي مرهف لشعيرات التحول، فحين رأى تجاوز المرحلة السابقة وكم الدمار والتخلف والضحايا، تبدل عن هدفه في إزالة الطبقات، وتحول بنفسه لرئيس نظام رأسمالية الدولة.
ومنذ البداية كان مدركاً لطبيعة النظام الذي يؤسسه، قال في سنة 1918 في اللجنة المركزية: إننا نبني اليوم رأسماليةَ الدولة فعلينا أن نطبق وسائل المراقبة التي تسعملها الطبقاتُ الرأسمالية). وبعد ذلك في 1921 تحول هذا إلى نظام وعادت بعض الطبقات القديمة المالكة، ومضى المجتمع في تطور إقتصادي مع بقاء الأجهزة العسكرية والأمنية المتصاعدة النفوذ، وذابت قوى المعارضة أو أُذيبت، وإنتشرت معسكرات العمل الأجباري والمنافي وتحضرت البلاد لدكتاتورية أسوأ من دكتاتورية لينين.
إن مشروع الاشتراكية في إجراءات لينين قبل موته لم يزل قائماً، ولم تُعرف تصوراته للمستقبل، وماذا كان ينوي لو كان حياً، فهذه القطاعات الاقتصادية العامة والخاصة، وبقاء الملكيات الصغيرة الفلاحية الهائلة، كان لا بد من تغييرها ونشؤ الملكيات العامة والتعاونية في كل الاقتصاد حسب التصور المفترض، وكان المكتب السياسي به قيادات مثقفة كبيرة، وكانت قادرة على متابعة فكره وتطبيقه بمرونة.
لكن الدكتاتورية المؤسَّسة بأجهزتها وبزخمها العامي وجدت في ستالين رمزها، وهو رجل داهية إستطاع الوصول لهذه الأجهزة، وقد حذر لينين المؤتمرَ العام للحزب من خطورة هذا الرجل، وبضرروة تقليص صلاحياته.
هذا الجانب ينقلنا لطبيعة الدكتاتورية التي أسسها، فهي دكتاتورية عنيفة لها أخطاء وتجاوزات كبيرة، لكن تستند على تطور المشروع بشكل ذكي، وقد نوّهَ بقياداتٍ أخرى غير ستالين، ولكن الهيمنة البوليسية صعدت داخل الحزب، وكرست الدكتاتور الأكبر.
وهذا جزء من طبيعة النظام وتاريخه وإمتداداته في العامة، وتصعيد الانتهازيين وطلاب المكاسب، وتحنيط اللغة الجدلية التاريخية تدريجياً وتحولها لقوالب، وشمولية كلية، وهذا يؤدي لغياب الغنى والتنوع وتمركز السلطة أكثر فأكثر.
المشروعُ في النهاية ظهر عبر مضمون المجتمع ومرحليتهِ التاريخية، فرأسمالية الدولة تتوسع على حساب الطبقات المنتجة، فتم عّصر الفلاحين والعمال وإنتزاع رأس المال منهم، وتحويله للصناعات والعلوم وتغدو الدولةُ أكثر فأكثر ذاتَ مضمون رأسمالي داخلي، بشكلٍ إشتراكي زائف، حتى يصل المضمون لتجليه الكامل عبر إعادة البناء، ويقوم بالتخلص من النفقات المكلفة ومن المعسكر الاشتراكي والحركة الشيوعية(الأممية الثالثة)التي تبخرت ومن مساعدات حركات التحرر ويصدرُ السلاحَ السلعة الوحيدة التي تمكن منها ويبحث بكل قوة عن النقد.
كان لينين دكتاتوراً ولكن ليس من خلال رؤية ذاتية، بل من أجل نظام آمن بتشكله عبر إجراءاته، لكن ستالين كان ذاتياً، أسقط شكوكه وكراهيته وتخلفه الفكري على إدارته، فأضاف الكثيرَ من القمع بلا مبرر.
قال أحدُ الرأسماليين المثقفين الروس في أثناء تلك التحولات العاصفة: إن لينين يقوم بإنشاء رأسمالية متطورة وبوسائل دكتاتورية وهو أمرٌ نعجزُ عنه نحن.

تراجعُ الخيالِ الاشتراكي

بعد سنواتٍ حارقة من تطبيق ما سُمي بمرحلة الاقتصاد الشيوعي (1917-1920) الذي كان هيمنةً حكومية واسعة على الفائض الاقتصادي في الريف والمدينة، والذي أدى لعسكرةِ الدولة وبدءِ رأسماليتها الحكومية الشاملة، أخذ لينين يتراجعُ عن هذا الاقتصاد العسكري الضاري متوجهاً نحو جوانب اقتصادية رأسمالية، لا تنفي رأسماليةَ الدولة ولكن تجعلها عمليةً في جوانب اقتصادية واجتماعية ضرورية بدلاً من هلاكِها بسببِ انتفاضةِ الجمهور الطليعي العمالي ضدها والخسائر البشرية الرهيبة التي سببتها.
(قال لينين في خطابه الموجه للمؤتمر العاشر للحزب الشيوعي الروسي في آذار عام 1921، حول ضرورة التعاون مع العوامل الرأسمالية الداخلية والخارجية، «إننا الآن في مرحلة تحول، وثورتنا محاطة من قبل بلدان رأسمالية. وطالما نحن في هذه المرحلة، فإننا مجبرون على البحث عن أشكال عالية التعقيد من العلاقات». وتكون هذه «الأشكال عالية التعقيد من العلاقات، طبعاً، كان إنشاء أساليب السوق للتوزيع أولاً في القطاع الزراعي وفيما بعد القطاعات الأخرى من الاقتصاد». وفي ملاحظات أخرى للمؤتمر، أكد لينين للمندوبين أن المشكلة الأهم والأخطر في المرحلة الحالية لم تكن سياسة التنازلات للرأسمالية كما يحذر البعض وخاصة أولئك الذين على اليسار. وعلى الأصح كان المستوى المتدني جداً للقوى المنتجة الذي يهدد بقاء ثورة أكتوبر: «يجب أن لا نخاف من نمو البورجوازية الصغيرة ورأس المال الصغير. وما يجب أن نخافه هو المجاعة، الحاجة ونقص الغذاء، لأمد طويل، وهو ما يخلق الخطر المحتمل في أن(الثورة) البروليتارية تنهار فاسحة الطريق لتردد ويأس البورجوازية الصغيرة».
وقد أظهرتْ كتاباتُ لينين الكثيرة منذ مطلع العشرينيات أنه توصل شيئاً فشيئاً إلى الاستنتاج بأنه في بلدٍ خاضعٍ للهيمنةِ الفلاحية ولمستوياتٍ متدنية من حيث القوى المنتجة والتعليم والثقافة، يمكن أن لا تكون هناك قفزة لخطوط الإنتاج أو التوزيع الاشتراكية أو الشيوعية)، الحوار المتمدن، مقالة: مسألة التحول، وسياسة لينين الاقتصادية الجديدة، بقلم سي. جي، أتكنز).
السياسة التجريبية التي يقومُ بها لينين التي تشكلت من تجزيئيتهِ النظريةِ والقفز على قوانين المادية التاريخية، والتي اندفعتْ نحو أقصى اليسار في سنواتٍ سابقة تقومُ الآن في سنوات العشرينيات من القرن العشرين في روسيا بالعودة لقوانين الاقتصاد الرأسمالي!
هنا الإحساسُ بالتقارب مع اليمين، فظهورُ دولةٍ عسكرية شمولية هو أمرٌ يتناقض مع الاشتراكية لأن الاشتراكيةَ هي مرحلةُ خفوت الدولة وزوالها التدريجي، حيث تبدأ الطبقاتُ المتضادةُ بالاختفاء، لكن هنا الدولة على العكس غدتْ هي الكائنُ الاقتصادي السياسي العسكري الهائل، وإن الدولةَ لم تكتفِ بالهيمنة الواسعة على المجتمع بل تدخلتْ في كل علاقاته الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، جاعلةً نفسَها المالك الأكبر، ينافسها الاقتصادُ الفلاحي الصغير، حيث لا يمكنها أن تزيله لأن تلك الأراضي الزراعية الصغيرة غير مجدٍ تأميمها، ومن هنا التصور الخيالي الآخر بالقيام بالمزارع الجماعية حيث تُصادر المُلكياتُ الفلاحية الصغيرة، وهذه سوف يستكملها ستالين، بتوسع الاستبداد الدموي، فدكتاتوريةُ البرجوازيةِ الصغيرة التي تبدأُ من لينين تتوسعُ لدى ستالين مقيمةً رأسمالية دولة كلية، فكلٌ منهما يكملُ الآخر.
إذن هي ليست سياسة عالية التعقيد بل عالية التضليل، فالرجوعُ لقوانين اقتصاد السوق الرأسمالية يستلزمُ النقدَ الموضوعي لتجربةِ التأميمات المستعجلة والمصادرات ومنع الأحزاب والقضاء على الحريات الاقتصادية والسياسية، ويلزمُ الاعترافَ بأن روسيا دولة متخلفة لابد أن تعيدَ النظر في بنائها الاقتصادي، عبر إعادة المؤسسات الاقتصادية الخاصة وتكوين القطاع العام القائد، وتشكيل تجربة ديمقراطية متنوعة، لكن مثل هذه السياسة تعني انهيار الأفكار الاشتراكية الحكومية الشمولية وزوال هيمنة رأسمالية الدولة التي غدتْ لها مصالح كبيرة وبيروقراطية هائلة صاعدة تتحكم في دولةٍ ضخمة والتي يقبضُ على خيوطها الدكتاتور الجماعي المتمثلُ في المكتب السياسي للحزب والذي يعبرُ عن التناقضاتِ غيرِ المرئيةِ في الوعي الاشتراكي الزائف هذا.
إن التحولات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية النهضوية في روسيا وقتذاك بحاجةٍ لرأسِ المال، وبسياسةِ التقشف والمصادرة يتوارى رأسُ المال، فيجب أن يعودَ للساحة بعد أن تم طرده شر طردة!
هنا غدت السياسةُ الاقتصاديةُ الجديدة بعثاً للرأسمالية فبدأ لينين في رؤية (أن التأميمات السريعة والآمال العالية للتخطيط الواسع في الاقتصاد التي ميزت السنوات الأولى قد ذهبت «بعيداً جداً» و«سريعاً جداً») السابق.
فهنا لابد من الحصول على الرساميل وإيجاد سياسة للأجور، ذات مراتبية، ولابد من العودة للسلعة وقانون قيمتها، وإنشاء السوق، وإجراء التبادل بين الهياكل الاقتصادية الاجتماعية، لكن لاتزال الدولةُ هي الرأسمالي الأكبر الذي يشتري ويبيع خلافاً للحلم الاشتراكي بزوال الدولة.
عبرت السياسةُ الاقتصاديةُ الجديدة في روسيا في سنواتِ العشرينيات من القرن العشرين عن تحول الدولة الثورية ذات الحلم الاشتراكي بزوالِ الطبقاتِ وإزالة البرجوازية إلى أن تكون هي الرأسمالي الأوحد.
هي إمكانيةٌ كبيرة لدولة شرقية أن تتملكَ ثروات وتقوم بمشروعات صناعية وعلمية واسعة وبشكل شمولي فهي مهمة سهلة في بلدان الفراغ الاقتصادي الشرقي الحديث، لكن لابد للمشروعات من رساميل، فكيف تضربُ الرأسماليةَ ثم تستعينُ بها؟!
حينها كان لابد من تصعيد رأس المال من القطاع العام المؤمم والقطاع الخاص الفلاحي الصغير الذي يمتلكُ ثروةً كبيرة ويكونُ الريفُ هو المُصدرُ المخترع الزائفُ لظهور الرأسمالية مجدداً، وبهذا سوف يجري لاحقاً مصادرتها ونزعها بالقوة بأشكالٍ تعيدُ طرقَ التراكم البدائي الذي جرى في الاقتصاديات الغربية المنتقلة من الإقطاع للرأسمالية للظهور ثانيةً بقسوة لا تقللا دموية.
إن العبارات المتخوفة من الفلاحين الصغار والبرجوازية الصغيرة المنشأُ الموهومُ لعودةِ الرأسمالية- التي يذكرها لينين في خطابه السابق الذكر- لا تجدُ أن المصدرَ الحقيقيَّ لعودةِ الرأسمالية الخاصة هو عبر رأسمالية الدولة ذاتها، وبقيادة البرجوازيين الصغار الحكام، لكنهم كمناضلين تماهوا في زمن الثورة في شظف حياة العمال لن يروا هذه الإمكانية بسبب الخيال الاشتراكي.
استطاعت التجربةُ الروسية أن تقومَ بتطوراتٍ صناعية واجتماعية كبيرة، واعتمدت على التقشف الشديد من قبل القيادات السياسية وعبر سحق الفساد، وبتضحيات الجمهور الشعبي، ودفاعه البطولي عن الوطن، ولكن تشكيل الصناعات الثقيلة وتطوير الحياة المتخلفة كان كله تأسيس للدولة الرأسمالية القومية، حتى تصل لمستوى معين ثم تعجز القوى المنتجة عن التطور في هذا المستوى.
اعتمدت الدولةُ القوميةُ (السوفيتية) الروسية على تضحيات العمال الذين عاشوا بأجورٍ متدنية، واستبسال في عمليات البناء الكبرى، ثم راحت الدولةُ القومية تنشقُ اجتماعياً، وتتفككُ صفوفُ الطبقات الموحدة قسراً في شكل سياسي شمولي، إلى قومياتها المتعددة عبر دولٍ مختلفة، وإلى عودةِ الاختلافات الطبقية الروسية واستقطابها في استمرار رأسمالية الدولة الشمولية حتى الآن غير القادرة على الدخول في الرأسمالية الحرة بشكلٍ كلي، وبقاء التناقض الرأسمالي في أقلية هائلة الثراء وأغلبية شعبية فقيرة.
إن رأسمالية الدولة التي كانت رافعة التطور تنقلبُ لعقبة أمام التطور التقني وتنامي قوى الانتاج الحديثة، وكموديل لحركات التحرر الوطني العاصفة بالعالم الاستعماري، وتصيرُ بعدئذٍ نموذجاً متخلفاً وأداة لمساعدة القوى الرأسمالية الحكومية المحافظة في دول أخرى.
عبرت العملية التحولية نحو السوق والضرائب وتراكم النقد لدى الدولة وتطوير المؤسسات الصناعية النوعية عن رأسمالية ناقصة، وعن إصلاح اقتصادي دون إصلاحات سياسية وفكرية في بُنية الحزب، لكن على العكس من ذلك تغدو أفكار لينين مدرسةً، وهي ستنمو عبر تجارب العالم الثالث المتخلف، وتجدُ في بعض المثقفين والفئات الصغيرة أدوات لتوسيع حضورها وإعادة تكرار النموذج على مدى عقود، حتى يصل النموذج إلى عدم القدرة على الحياة.
إن التراجعات نحو اقتصاد السوق لم تُستكمل عبر الديمقراطية، فقد أصبح البلاشفة قوة دكتاتورية لا تقبل بالتراجع عن سلطتها، ولهذا كانت المناقشاتُ تجري في المكتب السياسي، بعد قتل لينين من قبل ضحاياه، حول تصعيد التجربة (الاشتراكية) في بلد واحد أم توسيع حضورها وتصديرها للثورات في البلدان الأخرى لأن الاشتراكية في بلد واحد غير ممكنة!
كانت تناقضاتُ قادةِ المكتب السياسي تعبرُ لا عن تناقضات بناء الاشتراكية في بلد واحد بل عن وهمِ بناء الاشتراكية من خلال الدكتاتورية والتخلف.
ولهذا فإن هذا الموديل التاريخي من الوعي بالاشتراكية لا يلغي تاريخَ الاشتراكية مستقبلاً ولكنه يعبرُ عن تصورات تجريبية حارقة، وسوف تنزلقُ حتى شعوب قصية شديدة التخلف، عبر مثل هذه الجمل التي استخدمها لينين كما رأينا في القفز على مصائر الشعوب من خلالها ولكن سوف تستخدمها بأشكال أكثر جهلاً واضطرابا.

نقدُ المغامرةِ التاريخية

يعومُ لينين مصطلحات السياسةِ بشكلٍ غير تاريخي، ويلغي طابعَها الطبقي، وفي كتابه (مرض الطفولة اليساري) يقوم بتقييمِ تجربةِ حزب البلاشفة باعتبارها نموذجاً عالمياً صالحاً حتى لأوروبا وأمريكا، هذا التقييم نجده عبر لغة تضخيم من التجربة بأدوات اللغة الأيديولوجية المُعّممة.
كلمة ثورة اشتراكية، وسيطرة المجالس العمالية على السلطة، هي مصطلحات لا تدرس كون الشخصيات البرجوازية الصغيرة القائدة كلينين وتروتسكي وبوخارين وستالين هي التي تقود العمال، والذين تصور لهم بأن السلطة القائمة حديثاً هي سلطتهم.
وبطبيعة الحال فإن تجربة مصادرة المؤسسات الخاصة والقيام بالتأميم يعني ضرب طبقة رأسمالية، ولكنها لا تستطيع ان تضرب الرأسمالية ولكنها تغدو لدى لينين أنها هي الاشتراكية.
إن الاشتراكيين الديمقراطيين الأوروبيين ينظرون لها بشكل آخر كشكل من أشكال دكتاتورية فئات صغيرة.
هي في الواقع ثورة قومية روسية ضد التخلف ومحاولة للقيام بقفزة تاريخية، وفي هذا الغموض الاجتماعي بين تشكيلتين: التشكيلة الإقطاعية والتشكيلة الرأسمالية يتم التصور الواهم بأن ثمة قفزة للاشتراكية، لتشكيلة مستقبلية على أساس تأميم الشركات.
هذا الكتاب يشترك مع الكتب السياسية الأخرى للينين في عرض تجربة البلاشفة، لكن هنا وهو في حالة السيطرة على السلطة وتصوير ثورة التحول هذه باعتبارها ثورة اشتراكية ساحقة للطبقات.
المغامرة السياسية العسكرية لسنة 1917 تُعرضُ على أساس أنها ثورة اشتراكية تجاوزت الغرب، فهذا البلد المتخلف الذي لم يقض على التشكيلة الإقطاعية بعد يتم تصويره بأنه يقفز إلى الاشتراكية.
لهذا فإن تحليلَ حزب البلاشفة طبقياً، وقراءة طبيعة السلطة المسماة السوفيتات كشكلٍ للسلطة الديمقراطية انبثق من خلال التعددية الحزبية ثم تمّ تحويله لدكتاتورية حزبية بلشفياً وتقطعتْ علاقاته بالتعددية الحزبية والصحافة الحرة والديمقراطية عموماً، هذه كلها يجردُها لينين من طابعها الاجتماعي التاريخي ويؤدلجها حسب سلطته المطلقة سياسياً ونظرياً.
(ديكتاتورية البروليتاريا هي عبارة عن حرب ضروس تخوضها بمنتهى التفاني الطبقة الجديدة ضد عدو يفوقها بأساً، ضد البرجوازية التي تضاعفت مقاومتها عشرة أضعاف لسبب إسقاطها (وان في بلد واحد فقط)، والتي لا يكمن بأسها في قوة الرأسمال العالمي، وفي قوة ومتانة الروابط العالمية للبرجوازية وحسب، بل في قوة العادة أيضاً، وفي قوة الإنتاج الصغير. وذلك لأن الإنتاج الصغير لايزال موجوداً، مع الأسف، بمقدار كبير وكبير جداً في العالم، والحال أن الإنتاج الصغير يلدلا الرأسماليةَ والبرجوازية باستمرار.)، مرض الطفولة.من هي الطبقة الجديدة؟ إنها فئة من البرجوازية الصغيرة من المثقفين صعدوا على الجسم النشط للعمال، وهي لا تعرفُ الأفقَ التاريخي الذي تشكله، فالثورةُ الديمقراطية القومية هنا متداخلةٌ مع مهمات التحولات الاشتراكية التي لم يحلُ أوانها، ولهذا فإن مهمات الثورة الديمقراطية كالإصلاح الزراعي وتوسيع رقعة الفلاحين الصغار تعطي السلطةَ المغامرةَ شعبيةً جماهيرية لكنها تقوم بتوسيع طبقة الفلاحين المالكة الخصم، أي البرجوازية الصغيرة المذمومة، وكأن لينين يتمنى زوال هذه الطبقة لتتحقق نفس مستويات أوروبا الغربية وأمريكا من حيث انتشار الصناعة في المدن والأرياف.
هنا إحدى فئات البرجوازية الصغيرة الروسية التي استولت على الحكم عبر انقلاب عسكري تتوهمُ ذاتَها باعتبارها جزءًا من البروليتاريا، ومتجهة لمحو الطبقات، لكنها في موقفٍ متناقض، فهي إذ تصفي أملاكَ أصحاب المصانع وتحيلها لإدارتها، تصعّد من جهةٍ أخرى البرجوازية الصغيرة طبقتها الواسعة الانتشار.
عملية الثورة الديمقراطية تأخذ بعداً تحويلياً قومياً، فالبرجوازية العالمية كما يقول تقف بالمرصاد، لكون هذا التحول يأخذُ طابعاً عسكرياً شمولياً عنيفاً، وهو يعكس طابع هذه البرجوازية الصغيرة الروسية القومي المتصلب، الذي يأتي بشكل الدين الماركسي، حيث يغيبُ التحليلُ الطبقي التاريخي، والتجسيد الديمقراطي وتتصدر الكلماتُ المنتفخة المؤدلجة: دكتاتورية البروليتاريا، الثورة الاشتراكية، حكم السوفيتات.
إن البرجوازية الغربية المسيطرة عالمياً تنظر لخروج روسيا من السوق العالمية كخطر اجتماعي سياسي، لكن النموذج الروسي لا يحصل على أرضية تطبيقية في الغرب، ودون أن ينظر لينين لذلك عبر الخطأ المستمر في منهجه، وعدم اعترافه بالتشكيلات التاريخية المتباينة وتطورها المديد المختلف.
وهو يعيدُ ذلك إلى قضايا وحالات شخصية فردية لزعماء الاشتراكية الديمقراطية:
(فإن سبب هذه الانتهازية يعود أولاً إلى تشويه آراء ماركس في الدولة بل إلى كتمانها المتعمد).
إن السبب يعود لتطور تاريخي كبير مختلف بين روسيا والغرب، ففي الأولى ثمة هلامية اجتماعية واسعة، وملايين من الفقراء والفلاحين الشديدي الفقر، وبالتالي فإن البرامج الديمقراطية العامة كالإصلاح الزراعي تجد قبولاً واسعاً لديهم، فيما تجاوزت الدولُ المتطورةُ في الغرب هذا المستوى.
إن عدم توجه العمال الغربيين للثورة الاشتراكية يعود لمستويات المعيشة المختلفة كثيراً عن روسيا، كما أن الثورة الاشتراكية المتخيّلة من قبل لينين غير ممكنة في الغرب لأن العمال هناك لا يتحمسون لمثل هذه المغامرة الغامضة وهم يناضلون ضد الرأسمالية كذلك ويصعّدون ممثلين لهم في البرلمانات والحياة السياسية والاقتصادية ويطورون حياتهم الاجتماعية.
تصوير لينين الثورةَ الديمقراطيةَ القومية الروسية بأنها ثورةٌ اشتراكية هي جزءٌ من المتخيّل الحزبي، بسببِ الخلط بين بعض المهمات الديمقراطية الضرورية لتطور روسيا في سياق صلتها بالتحديث وبعض الإجراءات الاقتصادية المضادة لتلك المهمات.
المتخيٌّل هو بسبب غياب قراءة القوانين الموضوعية للتشكيلات، فتأميمُ مصانع لا يعني إزالة علاقات الانتاج الرأسمالية، كما أوضحنا سابقاً، ولهذا فإن علاقات الانتاج الرأسمالية ستظهرُ عبر المؤسسات الاقتصادية الجديدة الواسعة الانتشار، وعبر وجود إدارة وعمال. ولكن لن يحدث للجانبين الإدارةِ والعمال، القيادةِ والقاعدة، الملاكِ الجدد السياسيين والأجراء، نفس التطور لقرنائهم في الغرب.
إن شكلَ رأسمالية الدولة يغدو شكلاً انتقالياً، فقد عبرَ التشكيلةَ الاقطاعية لكنه لم يدخلْ بعد التشكيلةَ الرأسمالية. ويظل يتذبذب لعقود حتى يدخل فيها وهو عالقٌ ببقاياها المؤثرة جداً على تطور المجتمع.إن سياقَ المهمات الديمقراطية يُؤخذ روسياً في حضنِ الدكتاتورية، فتوزيعُ الأراضي على الفلاحين هو إجراءٌ ديمقراطي اجتماعي، وهو يقوي الأحزابَ المعبرة عن الجمهور الريفي خاصة، ويوسع التنوعَ ويعزز سلطة البرجوازية الصغيرة الشمولية التي تخافُ من إنتشار هذا التنوع فتلجأ لإجراءات القمع الواسعة، ولهذا تجري جوانب مضادة للديمقراطية كخنق السوفيتات، وحل الأحزاب الأخرى، ومنع الصحافة الحرة الخ.
هذه التجربة يعتبرها لينين نموذجاً للغرب ولكن الشرق هو الذي يستفيد منها، بسبب تشابه التشكيلة الإقطاعية التي يعيشُ فيها، وجذوره الدكتاتورية القومية والمحافظة.
ومن هنا تأخذ الثورةُ الديمقراطية الروسية طابعاً تأثيرياً تحررياً في العالم الثالث، بمواجهةِ الاستعمار العدو المشترك، والخانق للتجارب الرأسمالية الوطنية، وكذلك تتضافر بعض المهمات الديمقراطية والاجتماعية، ويتنامى المتخيّلُ السياسي كثيراً وتزداد المغامراتُ الرعناء أيضاً.
مثلما يتبددُ ضبابُ التداخلِ بين ما هو ديمقراطي قومي وما هو إشتراكي، أو ديني، والذي يتشكلُ في بدايةِ الأفق الاجتماعي الصباحي التحولي لشعوب الشرق، والذي يبالغُ في تصويرِ قفزاته المتخيّلة، ثم يقاربُ المهمات الحقيقية، برؤيةِ التناقضات الطبقية العصية على الحلول السريعة وأهمية تطور مستويات التطور للأغلبيات الشعبية في ظل مثل هذه الأنظمة الديمقراطية.
أدواتُ لينين التحليلية التي تكونت في ظلِ رؤيةٍ شمولية مستعينة بالتعميمات المجردة، مكونةً مغامرةً تاريخية، تتوجه كذلك لرفض التكتيكات السياسية المغامرة أيضاً!
فهو إذ يعتبر ما قام به البلاشفة فعلاً تطورياً متصاعداً ناضجاً يرفض بعض الإجراءات السياسية والدعوات الفكرية الرافضة للمشاركة في البرلمانات والنقابات(الرجعية)، معتبراً إياها عملاً مغامراً.
هذه الازدواجية تعبر عن كون النضالات التكتيكية هي مقدمة وأدوات للاستيلاء على السلطة، وإقامة السلطة الاشتراكية في البلد المتخلف روسيا، التي تغدو هي المغامرة الكبرى والخطيرة المكلفة لحياة الملايين من الناس، بدلاً من أن تكون وسائل ديمقراطية محولةً للمجتمع وللحزب نفسه.
إن الوعي المغامر يبدأ من البداية من نشر الشمولية في الحزب والتصور الواحد وقيادة المجموعة لتلك المخاطر التاريخية، بدلاً من الاعتماد على التعددية والنمو الديمقراطي التدريجي وتفكيك الصلات السياسية الشمولية بين القومية الروسية المسيطرة والقوميات المسيطر عليها، وإيجاد تجربة نهضوية متدرجة تزيل الألغام الاقتصادية والاجتماعية التي لاتزال روسيا حتى الآن بعد تلك المغامرة تعيشُ عقابيلها وآثارها.
حيث لاتزال القوميات ومجموعات الأديان المختلفة تهز روسيا الاتحادية التي لم تقارب العالمَ الحديث الديمقراطي بعد، ولديها ترسانة عسكرية ونووية كبرى، ولاتزال تعيش ذلك الضباب الصباحي السياسي ومفترق الطرق السياسية، وتساهم في قمع بعض الشعوب بشراسة.
ولو كانت تلك المغامرة لم تحدث وسارت روسيا في الطريق الديمقراطي لكانت قد فككتْ الكثيرَ من الألغام التي تمشي عليها الآن.

الدولةُ والدكتاتوريةُ الروسية

يضعُ لينين تعريفَ المفكر فريديريك أنجلز بدايةً لكتابهِ (الدولة والثورة)، الذي يُعرفُ الدولةَ في كتابهِ (الملكية الخاصة والعائلة والدولة) بأنها تنشأ: (لكيلا تقوم هذه المتضادات، هذه الطبقات ذات المصالح الاقتصادية المتنافرة، بالتهام بعضها بعضاً وكذلك المجتمعات في نضال عقيم، لهذا اقتضى الأمر قوة تقف في الظاهر فوق المجتمع، قوة تلطفُ الاصطدامَ وتبقيه ضمن حدود «النظام». (الدولة والثورة ص2).
لكن لينين يقولُ شيئاً آخر:
(إن الدولة تنشأ حيث ومتى وبقدرِ ما لا يمكن، موضوعياً، التوفيق بين التناقضات الطبقية. وبالعكس، يبرهن وجود الدولة أن التناقضات الطبقية لا يمكن التوفيق بينها).
وجهتا نظرٍ تبدوان متقاربتين لكن ثمة تشويشاً أيديولوجياً في تعبير لينين.
فحين تتصاعد التبايناتُ الاجتماعيةُ في القَبليةِ على سبيل النشأة التاريخية فإن جهازَ الدولةِ يظهرُ من رؤساء العشائر والمتنفذين ليجعل التناقضات الاجتماعية غير مفجرةٍ للقبيلة، وأن يستمر وجودها الاجتماعي الموحّد، وحين تغدو القبيلةُ متحكمةً في مدينة وتقوم القوى العليا بالحكم فيها وتتفاقم الصراعاتُ الاجتماعيةُ فتظل الدولةُ قامعةً للخارجين عن سيطرتها ولخلق وحدةٍ اجتماعية سياسية.
إن التناقضات الطبقيةَ يمكن المواءمة بينها حسب طبيعة أسلوب الإنتاج ومدى تطوره أو تفسخه، وليس بشكلٍ تجريدي عام كما يصورُهُ لينين.
فإذا كان أسلوبُ الإنتاجِ مستمراً متطوراً فإن الدولةَ المعّبرةَ عنه تبقى مستمرةً وتبدأ الدولةُ في التخلخل والانهيار التدريجي حين يغدو أسلوبُ الإنتاج متناقضاً، وتصطدمُ قوى الإنتاجِ بعلاقاتِ الإنتاج المتخلفة، وعلى قدرةِ الدولةِ والقوى السياسيةِ بفهم هذا التناقضَ الجوهري وإيجاد الحلول له، فإن الدولة تبقى وربما تتطور، وربما تدخلُ في تناقضاتٍ مستعصية على الحل كالحالة الروسية.
لا يقومُ لينين بدرسِ أسلوبِ الإنتاج ليضعَ بعد ذلك الجوانبَ الداخليةَ فيه كالدولة والصراع الطبقي ضمن مساره، فيقرأها على ضوء الكل، على ضوءِ التشكيلةِ التاريخية.
(الأيديولوجيون البرجوازيون ولاسيما الأيديولوجيون البرجوازيون الصغار، – المضطرون تحت ضغط الوقائع التاريخية القاطعة، إلى الاعتراف بأن الدولة لا توجد إلاّ حيث توجد التناقضات الطبقية، ويوجد النضال الطبقي، -«يصوّبون» ماركس بشكل يبدو منه أن الدولة هي هيئة للتوفيق بين الطبقات. برأي ماركس، لا يمكن للدولة أن تنشأ وأن تبقى إذا كان التوفيق بين الطبقات أمراً ممكناً. وبرأي الأساتذة والكتاب السياسيين من صغار البرجوازيين والتافهين الضيقي الأفق ؟ الذين لا يتركون سانحة دون أن يستندوا إلى ماركس باستلطاف! ؟ الدولة توفق بالضبط بين الطبقات. برأي ماركس، الدولة هي هيئة للسيادة الطبقية، هيئة لظلم طبقة من قبل طبقة أخرى، هي تكوين «نظام» يمسح هذا الظلم بمسحة القانون ويوطده، ملطفاً اصطدام الطبقات. وبرأي الساسة صغار البرجوازيين، النظام هو بالضبط التوفيق بين الطبقات، لا ظلم طبقة لطبقة أخرى؛ وتلطيف الاصطدام يعني التوفيق، لا حرمان الطبقات المظلومة من وسائل وطرق معينة للنضال من أجل إسقاط الظالمين.)، المصدر نفسه.
يتم الصراع الأيديولوجي هنا بين وجهتي نظر محصورتين في جوانب جزئيةٍ ضيقة، فالدولةُ لدى لينين أداةُ ظلمٍ من طبقة لأخرى، وكلمة ظلم مثالية أخلاقية، ويمكن قراءتها بأن الدولةَ أداةٌ في يد طبقةٍ لاستغلال طبقات أخرى حسب تاريخ التشكيلة، فيمكن لدولةٍ أن تقوم بالصراع مع الطبقة التي تمثلها، وتطرح إجراءات تحويلية، في الاستثناء التاريخي، ويمكن أن تظل أداتها المعتادة في الحكم في الأحوال العادية.
ما يحددُ التغييرَ والعاديةَ في مسلك الدولة، وما يحددُ الثورةَ هو مدى تطور التناقض في أسلوب الإنتاج. فأسلوبُ إنتاجٍ في بدايتهِ ربما تلجأُ فيه الدولةُ لإجراءاتٍ إيجابية مفيدةٍ للكل الاجتماعي كما يحدث في ظروف الإصلاحات الاقتصادية السياسية. وما يحددُ الانفجارَ هو عجزُ الطبقةِ عن تغيير التناقض المتفاقم في أسلوبِ الإنتاج.
ومن هنا فإن التعبيرات المُستخدمة في هذه الفقرة السابقة أعلاه هي مواقف جزئيةٌ لا تدلُ على أن الثورة لازمة حتمية أو أن الإصلاحات غير ممكنة أو أنها ضرورية، فالأمور هنا خاضعة للمجتمع ودرجات تطوره وتناقضاته وكيفية حلها، من قبل القوى الاجتماعية السياسية المختلفة.
فتعبيرُ لينين بكونِ الدولةِ أداةُ ظلمٍ، أو تعبير الاشتراكيين الديمقراطيين والجماعات الأخرى بأن الدولةَ أداةٌ للتوفيق بين الطبقات، لا يرتكز على قراءة تاريخ التشكيلة وأسلوب الإنتاج.
فالمجتمعُ الروسي القيصري هو مجتمعٌ إقطاعي فيه علاقاتٌ رأسماليةٌ متنامية، لكنه لم يحسم تطوره التحديثي بعد، فعلاقاتُ الإنتاجِ السائدة إقطاعية، وقوى الإنتاج البشرية السائدة وهم الفلاحون، والمادية وهي أدوات الانتاج في الزراعة خاصة تصطدم مع علاقات الإنتاج الإقطاعية المتخلفة.
ولهذا فإن الدولة الروسية هي دولة إقطاعية وينبغي أن تتحول لدولة رأسمالية حديثة وهو الخيار التاريخي، وحين يتوجه من يسميهم لينين البرجوازيين الصغار لتصعيد المجتمع الرأسمالي الحديث الديمقراطي وتغيير طابع الدولة يكونون في المسار التاريخي الصحيح، أما ما يقوله بالقفز على ذلك فهي مغامرة تاريخية كبيرة لها نتائج وخيمة.
في محاولتهِ لإقامةِ دكتاتوريته يتلاعبُ لينين بالنصوصِ الماركسية والحيثيات التاريخية، فالدولةُ كقوةٍ تمثل الطبقة السائدة هذا معنى معروف وشائع، ولكن القوى السياسية المعارضة لا تشكل فصائل مسلحة لهدم النظام بدعاوى مختلقة، بل عبر اعتمادها على التطور الديمقراطي والمؤسسات المنتخبة المنبثقة عنه، لكنه يقولُ ذلك ويفعلهِ ليبررَ مغامرته العسكرية الذاتية، أي العائدة لفصيل سياسي مغامر يمثل الرأسمالية الحكومية ويقول إنه ممثل العمال وإنه يقيمُ الاشتراكيةُ لهم!
بالاعتماد على نصوصِ الماركسية القائلة إن الدولةَ جهازٌ يمثلُ الطبقة الحاكمة بشكل عام، لكن يمثله حسب تطور أسلوب الانتاج، لا في التجريد السياسي الاجتماعي، وعندما يقومُ بهذا التمويه وينتقي جملاً ويحشدها في برنامجه المغامر.
فهناك التعكز على كومونة باريس وإنشائها لقوةٍ عسكرية، ولكن هذه القوة تمت لغياب الجيش الفرنسي وللاحتلال الألماني لفرنسا، ولهروب الحكومة الفرنسية إلى فرساي، كما أن هذا الحدث الاستثنائي لا يُلغي في التاريخ الفرنسي العودة للمؤسسات الديمقراطية وإلى حكم الطبقة السائدة البرجوازية والصراع معها والدفاع عن مصالح الأغلبية الشعبية كذلك. لكن لا تستطيع الكومونة أن تقيم نظاماً اشتراكياً فرنسياً متواصلاً.
كذلك يستند لينين إلى دعاوى الفساد وأن الحكومات الغربية الرأسمالية ممتلئة برشا الشركات.
(وفي الوقت الحاضر«رقت»الإمبريالية وسيطرة البنوك إلى حد فن خارق هاتين الوسيلتين من وسائل الدفاع عن سلطان الثروة وممارسة هذا السلطان في أي جمهورية ديموقراطية كانت).
إن تلوثَ الدول الغربية وتعبيرها عن الاستعمار والاستغلال هي أمورٌ لا شك فيها، ولكن هناك كذلك مؤسساتٌ تقاومُ وتفضح، عبر وجود برلمانات وصحافة مختلفة الاتجاهات وطبقات شعبية وحق الإضراب والتظاهر وغير ذلك، لكن في مشروع لينين الدكتاتوري فإن كل وسائل الفضح هذه سوف تختفي، والرأسماليةُ الحكوميةُ المزعومة اشتراكيةً ستغدو دكتاتوريةً شموليةً تمنعُ الصحافةَ المتعددة وحقَ الإضراب والانتخابات الديمقراطية وتُصعّد الفاسدين البيروقراطيين كحكامٍ ورأسماليين على مدى عقود حتى ينفجر الاتحاد السوفيتي بتناقضاته المزروعة من عهده!
إن التحالف والتعاون الذي تطرحهُ فصائل سياسيةٌ اجتماعية متعددة من أجل إنشاءِ وتطور جمهورية روسيا الديمقراطية يهزأ به لينين ويرفضه، ويقول إنه صارت في روسيا خلال الأشهر القليلة من سنة 1917 حيث انتصرت الثورة الديمقراطية على الإقطاع ظاهرة فساد وهي دليل على فساد الحكومات الناشئة عن هذه الحيثيات السياسية وبالتالي يجب إسقاطها.
إن مقاومةَ الفساد هو شأنٌ نضالي جماهيري عبر تطور البرلمانات والأحزاب والصحافة والرأي العام والنقابات المستقلة، وغيابها هو بقاءٌ للفساد وتجذره في النظام حيث سيعششُ فيه ويخنقهُ مع غياب تلك الأدوات الديمقراطية كما حدث في نظام رأسمالية الدولة الشمولية الذي أقامه لينين.
(ويمكن القول في شهر العسل لقران «الاشتراكيين»، الاشتراكيين-الثوريين والمناشفة، بالبورجوازية ضمن الحكومة الائتلافية- قد عرقل جميع التدابير الموجهة لكبح جماح الرأسماليين وسلبهم ونهبهم للخزينة العامة بالطلبات العسكرية.)
إن الاختلافات بين القوى السياسية الديمقراطية يجب أن تتجذر وتتطور لتشكيل نظام ديمقراطي وأن تُقاوم ظاهرات الفساد وفقر الناس وان تطور الإصلاحات في الريف وغير هذا من المسائل الملحة لتحقيق الثورة الديمقراطية الوطنية.
لكن لينين كدكتاتور يستغل هذه الوقائع ويفصلها عن مسار أسلوب الإنتاج والتشكيلة، عبر لصقها مع مقتطفات من أنجلز، وقد قرأنا لأنجلز في كراسه(حول المسألة الدستورية في ألمانيا، راجع مقالتنا من رأسمالية الدولة إلى الرأسمالية الحرة) نظرةً مختلفةً عما يقولهُ لينين بالتعكز على أنجلز وكتابه (العائلة والمُلكية الخاصة والدولة)، وهو كتابٌ يعالجُ مسائلَ نظرية تاريخية بعيدة، في حين يوضحُ كراسُ المسألةِ الدستوريةِ أوضاعاً أوروبية معاصرة، حيث يؤكد أنجلز في مقالته أهمية دعم البرجوازية وتصعيدها لتشكيل نظام ديمقراطي حديث، من دون غياب الصراع معها.
نظرةُ أنجلز نظرةُ ثوري عالمٍ ونظرة لينين نظرة مغامر سياسي، لا يقوم بالتحليل العميق الواسع للظاهرة، بل يرتكزُ على مقتطفات غالباً ما تكون مطولةً من الكتب الأخرى، ليبررَ موقفه السياسي المفصول عن قراءة التشكيلة التاريخية عبر بضع عبارات وجمل.
فهل يمكن لنظام رأسمالي وليد في روسيا لم تمض عليه سوى بضعة شهور ليتم القفز عليه؟ نظامٌ رأسمالي في قمته فقط بينما علاقات الانتاج والحياة الاجتماعية إقطاعية؟
أسلوب الإنتاج الإقطاعي لم يتم تغييره، وثمة أسلوب لم يتعمق هو الأسلوب الرأسمالي، ثم يقال إن هناك تشكيلة تاريخية أخرى هي التشكيلة الاشتراكية يجب أن تُفرض من أدوات السلطة!
ومن هنا فإن القوى السياسية الديمقراطية الروسية في تصعيدها للنظام الرأسمالي التدريجي كان ذلك ضرورياً، ثم جاءت المغامرةُ السياسيةُ البلشفية ومن ثم حدثتْ الحربُ الأهلية والتدخلات الأجنبية وسقط ضحايا بمئات الألوف.
إن غياب الرؤية الكلية لتباين مواقع الرأسماليات الغربية عن الدول الشرقية، وعدم قراءة أساليب الإنتاج في كلٍ موقع بين الغرب والشرق، واعتماد الانتقائية في القراءة وإخضاعها لأدلجةٍ مسبقة لمشروع سياسي شمولي، وقلب الحقائق والمواقف الطبقية للفصائل المختلفة، وتصعيد المغامرات السياسية العسكرية، هذه هي نظرة لينين للعملية السياسية الاجتماعية، التي ستغدو مادةً وراثية لقوى سياسية كثيرة ستدخل في صلب أعمالها ومناهج عملها فتقودُ النضالَ الديمقراطي لشعوب الشرق إلى سكك خاطئة تفشل لتصعد القوى الطائفية والرجعية والرأسمالية الحكومية الطفيلية في نهاية المطاف.

الاشتراكية من حلم إلى كابوس

تبرزُ دكتاتوريةُ لينين بشكل أكثر وضوحا في الطرح السياسي، حيث تكمنُ البؤرةُ الرئيسية لعمله الفكري عامة، فرغم انه ينطلق في السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين من ظروف روسيا المتخلفة في الاقتصاد والحياة السياسية، فانه يقارن نفسه بدول رأسمالية أكثر تطورا كألمانيا وفرنسا، من دون أن يعي مستوى التشكيلة الإقطاعية الروسية المتآكلة والتشكيلة الألمانية والغربية عامة الرأسمالية الصاعدة.
ومسألة تمييز التشكيلات في الماركسية أساسية وهي تشكيلاتٌ مرتْ بها البشريةُ عبر التاريخ؛ المشاعية، والعبودية، والإقطاع، والرأسمالية.
وتتعلق فترتنا المشتركة في دول العالم الثالث بهذه الحلقة الانتقالية بين الإقطاع والرأسمالية، وفيما تشاركنا روسيا في مرحلة الانتقال هذه، فإن ألمانيا المخصص لتجربتِها النقد في هذا الكتيب المُسمى (ما العمل؟)، بدأتْ تدخلُ الرأسماليةَ باتساعٍ في ذلك الزمن من أوائل القرن العشرين.
وحين يلغي لينين الفروقَ بين البلدين، ويبدو كما لو أن البلدين يقعان في ذات السياق التاريخي، يبدأ أولُ انحرافٍ كبير له، وهو الإطاحةُ بقوانين التشكيلات، والدخول في المغامرة السياسية.
سنقرأ كتابَه لهذه الفترة المحورية وهو (ما العمل؟)، المتعلق بالمهمات الكبيرة التنظيمية والفكرية والسياسية للحزب المنقسم وهو الحزب الاشتراكي الديمقراطي الروسي.
في ذلك الوقت استطاعت الحركةُ الاشتراكيةُ الديمقراطية الألمانية أن تحققَ تقدما كبيرا في الانتشار والحصول على تأييد العمال، وبدأت التأثير في الحكم والمشاركة فيه.
فيما كانت الحركةُ الاشتراكية الديمقراطية الروسية في حضيضِ الحياةِ السياسية الاجتماعية في روسيا في بلدٍ متخلفٍ أغلب سكانه من الفلاحين الأميين الفقراء، فكانت حركةً سريةً تعاني الرقابة والاضطهاد.
يوجه لينين الأنظارَ في كتيبهِ السابق الذكر إلى مسائل خلافٍ كبيرة بدأت تطفو في الحياة الفكرية السياسية داخل الحزب، وهو ما يسميه ظهور خطين للحزب ومستمدين من الصراع في الحركة الاشتراكية الديمقراطية العالمية عامة، يقول:
(وقد أعلن برنشتين وأظهر ميليران بما يكفي من الوضوح فحوى الاتجاه «الجديد» الذي يأخذُ من الماركسية «القديمة» الجامدة موقفا نقديا. ينبغي للاشتراكية الديمقراطية أن تتحول من حزب للثورة الاجتماعية إلى حزبٍ ديمقراطي للإصلاحات الاجتماعية. هذا المطلب السياسي أحاطهُ برنشتين بمجموعةٍ كبيرة من البراهين والاعتبارات الجديدة؛ فقد أنكرَ إمكانية دعم الاشتراكية علميا وإمكان البرهان على ضرورتها وحتميتها من وجهة نظر المفهوم المادي للتاريخ، أنكرَ واقع تزايد البؤس والتحول إلى البروليتاريا وتفاقم التناقضات الرأسمالية، أعلن أن مفهوم (الهدف النهائي) ذاته باطل ورفضَ فكرةَ دكتاتورية البروليتاريا رفضا قاطعا، أنكرَ التضاد بين الليبرالية والاشتراكية، أنكرَ نظريةَ الصراع الطبقي وزعم انها لا تنطبق على مجتمع ديمقراطي صرف يُدار وفق مشيئة الأكثرية)، كراس: ما العمل؟ فصل الجمود العقدي وحرية النقد.
إن برنشتين، زعيمَ الحركةِ الاشتراكية الديمقراطية الألمانية التي توجتْ تطورا سريا مقموعا طويلا في ألمانيا فتحولتْ لحركةٍ شعبية مؤثرة، يتطلعُ إلى المزيد من التطور لها وللحكم وتنفيذ إصلاحات عميقة في ألمانيا التي كانت قيصرية، ولهذا فإن الحركة وقد غدت بهذا التأثير يعمل لتقدمها ويطرح نقاطا حيوية مهمة للتطور السياسي الاجتماعي، وبعضها نظري محدود الرؤية حتى خاطئ، ولكن المهم المفيد التقدمي أن برنشتين لا يريدُ الإطاحةَ بالبرجوازية التي تشارك في الحكم بل يريد توسيع الاصلاحات المخصصة للعمال والشعب عامة، وتعميق المسار التحديثي الديمقراطي، فلماذا يغضب لينين؟
لينين ينطلق من خطةٍ مضادة هي الإطاحة بالنظام القيصري، كهدف رئيسي في الثورة الديمقراطية البرجوازية، ثم يقوم بالإطاحة بالبرجوازية التي شاركته في الثورة على القيصرية، من أجل ثورة اشتراكية، لأن البرجوازية لا تصلح أن تقود وتؤسس نظاما، فهي طبقة وصلت إلى الموت الاجتماعي.
لقد انساقَ لينين انسياقا كبيرا مع إرادته الذاتية، وعوضا أن يدرس بعمق تجربة الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني وكيف ناضل خلال عقود عديدة في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين ليتحول إلى هذا التأثير الكبير ثم ليطرح مطالب عملية مهمة، بدلا من ذلك انساق لرؤية سياسية اجتماعية مغامرة والدعوة إلى قفزاتٍ كبرى في بلد إقطاعي شبه رأسمالي متخلف، وذلك لكي تصعدَ الإرادةُ الدكتاتوريةُ الشخصية والحزبية.
ولم تكن هاتان الرؤيتان في الحزب الاشتراكي الديمقراطي الروسي تُدرسان في لقاءاتٍ واسعة وفي جدل خصب اجتماعي، بل كانتا تُبحثان بشكل مقالات وكتابات مختلفة متصارعة تغيب عنها الأطر الديمقراطية والدرس الواسع الشعبي العميق، وتتحول إلى وجهات نظر حادة ومبتورة وتكوّن أتباعا متحمسين منفعلين وخاصة في الجانب البلشفي ليكونوا بعد ذلك أداة الانقلاب السياسي في .1917<.
إن لينين عبر طرحه لخطه في الحزب الاشتراكي الديمقراطي الروسي كان يريد القضاء على البرجوازية والرأسمالية عبر التحالفات الاجتماعية والسياسية في حدود سنوات قصيرة، مما يمثل قفزةً في الفراغ.
رفضه لقوانين التشكيلات وضرورة ترسخ الرأسمالية في بلد ونشوء الطبقتين المنتجتين للتطور الحديث البرجوازية والعمال قاده للمغامرات السياسية والعسكرية.
وقد رأى برنشتين زعيم الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني السابق الذكر الذي استشهد به لينين وأعرض عن درس أفكاره بعمق، أن تحقيق الاشتراكية لم يعد هدفاً للحزب بل هدفه هو تطور وضع الطبقات الشعبية وتحقق إصلاحات عميقة لها.
يقول برنشتين ذلك وهو في دولةٍ متطورةٍ قياساً للينين، وقد دخلت البُنيةُ الرأسمالية بقوة واتساع، لكن لماذا لم يتجه برنشتين إلى تحقيق الاشتراكية وهو في مثل هذا الوضع؟
إن إعراض برنشتين عن وضع الاشتراكية كهدف نهائي هو أمر موضوعي، فهل تعني سيطرة الطبقة العاملة على الحكم إزالة الرأسمالية؟
هنا يرفض لينين جملةَ برنشتين (إن مفهوم «الهدف النهائي» ذاته باطل ورفضَ فكرةَ دكتاتورية البروليتاريا).
يعتبر لينين ذلك انتهازية يمينية (حقيرة) وما إلى ذلك من تهم حامية رنانة، ويغيبُ عنه مرةً أخرى مفهومُ التشكيلة التاريخية، وهي المرحلة التي تسود فيها علاقاتُ إنتاجٍ لقرون.
إنه يريدُ الإطاحةَ بالبرجوازية كطبقةٍ لكن الرأسمالية ليست فقط طبقة، الرأسماليةُ علاقاتُ إنتاجٍ، سواء كان رأس المال للأفراد أو للجماعات أو للدولة، والقضاء على الرأسماليين الأفراد لا يعني القضاء على الرأسمالية!
لأنهم سوف يظهرون مجدداً في مؤسساتِ الدولة وخارجها، وتتحول الدولةُ إلى أكبر رأسمالي، ويتحدد نموها عبر البنية الاجتماعية التي تظهرُ فيها، بمستوى قوى الإنتاج، ومستوى علاقات الإنتاج، وعمليات التبادل وطبيعة الأسواق الخ.
حين تصبحُ الدولةُ هي الرأسمالي الأكبر الأوحد لا تستطيع الإفلات من قوانين الرأسمالية والقيمة، وفائض القيمة وتوزيعه، وضرورة الأسواق لتصريف السلع، التي لابد أن تكون منوّعة متنافسة لكي تتطور وتلبي حاجات المستهلكين. أما أن تَصنعَ سلعةً واحدة مفروضةً سياسياً فهو أمر يؤدي إلى تآكل وتوقف قوى الإنتاج عن التطور وتدخلُ في صراعٍ مع علاقاتِ الإنتاج الرأسمالية الحكومية.
فتحدث ثورةٌ لكنها ثورة مضادة، ثورةٌ للعودةِ إلى الرأسمالية الحرة!
هذا المسارُ العائدُ للخلف يمكن ملاحظته في إصلاحات خروتشوف وليبرمان القاصرة لإعادة السوق التنافسية، لكن رأسمالية الدولة ظلت مهيمنة كلياً مكلسة لتطور السلع والحياة الاجتماعية السياسية.
هكذا فإن رأس المال العام يتعرضُ للتآكل والتدهور، ويُعوض ذلك بالتوجه لصناعة السلاح التي تقع تحت يد الدولة كلياً، وقوى الإنتاج تتدهور ويصبح العمال مجمدين ومتخلفين وكسالى ومدمنين.
فما رأس المال سوى نتاج لقوى العمل المتراكمة، التي تأخذ أشكالاً متعددة، وتتطور عبر توسع قوى الإنتاج والأسواق، حتى يعم هذا الأسلوب البشرية وتصبح الطرق أمامه مسدودة في مسائل تصريف السلع ووجودها القيمي نفسه، وهذه مسائل القادمين.
لكن أن يتحول بلد متقدم أو متخلف إلى الاشتراكية فهو مسار صعب بعيد وقائد مثل برنشتين الألماني الديمقراطي يعيش في حالات جدال مع الدولة والعمال والبرجوازية ويواجه مسائل تطور عملية متصاعدة، فهو غيرُ قائدٍ سياسي مغامر مثل لينين، يعيشُ في مخبئه، ويحاورُ بضعةَ أشخاص، ويصدرُ الأوامرَ ويكوّن تنظيماً شمولياً متجها إلى التحريض المستمر والصراع المتصاعد، ولهذا يغدو التحولُ من موقعه الإرادي الذاتي المنتفخ وعبر فهمه المسطح للاشتراكية منفذاً على مدى سنوات قصيرة، فلا داعي لانتشار العلاقات الرأسمالية بعمق في البنية الاجتماعية، ولا داعي لتطور كل هذه الملايين نحو الديمقراطية والتعددية وانتشار الثقافة الحرة لا المقولبة كما سيحدث فيمكن اختزالُ الظروف كلها بانقلاب.
توجه روسيا للديمقراطية وتناميها فيها وتحول روسيا التدريجي للرأسمالية والحداثة كان من الممكن أن يجنبها الكثير من المشكلات الخطيرة والكوارث وملايين الضحايا الذين سقطوا في هذه المغامرات، كما أن تحولها الديمقراطي كان سوف يعمم الديمقراطية في البلدان المجاورة ويرسخها فيها.
أما تحولها إلى رأسماليةِ دولةٍ دكتاتورية فقد تركَ بصماته الكبرى على ألمانيا على سبيل المثال، استطراداً من بؤرة المسألة المطروحة، فقد انتقلت تجربةُ السوفيتيات وما سُمي بـ(الثورة الحمراء) إلى ألمانيا ذاتها، التي لم تكن الظروفُ مهيأةً فيها للاحتجاجات فقمعها الجيشُ بقسوة، وانحازت البرجوازية الألمانية للدكتاتورية وصعّدتْ هتلر كأداةٍ لسحق تنامي دعوات الاشتراكية الحمراء!
ووجد هتلر في افتراس الاتحاد السوفيتي أكبرَ مهمةٍ له، فيما كان ستالين قد ذبحَ الكثيرين كذلك، ورقد عن هذا الخطر، حتى اقتحم هتلر بلاده، لكن الشعوب في الاتحاد السوفيتي دافعتْ عن وطنها بشجاعة منقطعة النظير.
حين انقلبت الأمور وحكم السوفيت جزءًا من ألمانيا صدروا نظامَهم، حتى ثار الناسُ عليه، وراحوا يحطمون تماثيل ماركس!
كوارث تاريخيةٌ كبرى وتحولات تبدأ من كلمات. ألم يكن برنشتين وأفكاره أكثر تبصراً بالتاريخ.

الماديةُ والعلوم

في إنتاجِ دكتاتوريته الفردية يصعدُ لينين صراعَهُ ضد التعددية في الحزب، فيقسمهُ، ويصعدُ صراعَه ضد التنوع الديمقراطي في الغرب فيغدو الغرب برجوازياً لابد له من شيوعية نافية له بكليته.
لكنه أيضاً يتوغلُ في مجال العلوم ويواجه تعددَ المدارس والتيارات الفلسفية المثالية العقلانية والمادية التجريبية من أجل اكتساح المادية الجدلية للمسرح الفكري. لكن أي مادية جدلية لديه؟
ظهرت في أواخرالقرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين مدارس وحركات علمية عديدة لا تنطلق من المادية الجدلية بل من وعي علمي مختبري ومن غوص تجريبي في العقل ومن استخدام اللغة في تحليل منتجات العلوم الطبيعية.
كانت مدرسة (التجريبية المنطقية) تتوجه نحو دراسة الظاهرات الطبيعية بأشكالٍ جزئية تجريبية، حيث تفصلُ الظاهرةَ العامة عن كلية الطبيعة، وتدرس عناصر التجربة، لاستخلاص نتائج موثقة.
تعارضُ هذه المدرسةُ أفكاراً ومسلمات إطلاقية من أجل أن تموضع الدراسة، وتحللَ الشيءَ أو الظاهرة، ولهذا رفضت مفاهيم مثل(المادة) و(الجوهر) معتبرة إياهما آراءً قديمة غير نقدية.
(إن اللون هو موضوعٌ فيزيائي إذا أخذنا بعين الاعتبار تبعيته لمصدر النور الذي ينيره للألوان الأخرى والحرارة والمكان الخ، ولكن إذا أخذنا بعين الاعتبار تبعيته لشبكية العين فأمامنا موضوع نفساني إحساس).
إن التجريبية المنطقية تقوم بدرس هذين الجانبين المواد والأشياء عبر صلاتها بالأحساس والجهاز العقلي البشري:
(إن الصلة بين الحرارة والنار تخص الفيزياء في حين أن الصلة بين (العناصر) وبين الأعصاب تخصلا الفيزيولوجيا، ولكن لا هذه الصلة ولا تلك توجد بمفردها بل توجد كلتاهما معاً).
هذا ما يقوله الفيلسوف الإلماني ماخ في القرن التاسع عشر الذي ينقله لينين في كتابه (المادية والنقد التجريبي) ص 53، دار التقدم، موسكو.
فيقسم النقدُ التجريبي عمليةَ المعرفةِ المتأتية من العلوم إلى عناصر شيئية، وعناصر تفكيرية.
ويقول مفكر روسي موجزاً هذا (الإحساس مُعطى لنا أصدق من الجوهرية). بمعنى أن المطلقات هي خارج عملية البحث والتحليل للأشياء.
يعبرُ لينين عن اختلافه بطرق هجومية حادة ويقول محدداً وجهة نظره:
(يجب القول إن كثيرين من المثاليين وجميع اللاادريين.. يلقبون الماديين بالميتافيزئيين لإنه يخيل إن الاعتراف بوجود عالم خارجي مستقل عن إدراك الإنسان يعني تخطي حدود التجربة. وسوف نتكلم في حينه عن هذه التعابير وعن خطئها التام من وجهة نظر الماركسية)، ص .64
لا يحلل لينين بدقة مسألة وصف الماديين بالميتافيزيقية هنا، ويخلطُ بين(إن الأشياء مستقلة عن وعي الإنسان بالمطلق)، وبين أن الأشياءَ ليست مستقلةً عن وعي الإنسان النسبي.
إن انفصالَ الأشياء والطبيعةِ عن الإنسان هو أمرٌ موضوعي، لا جدال فيه، ولكنها ليست مستقلة عن وعي الإنسان التاريخي حين يتعامل معها ويحللها ويحاول اكتشافها.
وهكذا كان العلماء القدماء لا يفصلون أفكارهم وعقائدهم عن تحليل المواد، في حين وصلت العلوم بين القرنين 19و20 إلى عمليات متقدمة لفصل الوعي الذاتي للباحث عن المادةِ المدروسة.
ومن الممكن بهذا أن يقعَ الماديون في عالم الغيب الاجتماعي السياسي كما سيحدثُ للينين نفسه.
ومن هنا تتعاظمُ أهميةُ هذه القراءة للاحساس، ولتحول الانطباعات إلى معرفة، والتركيز على التجربة، التي لها أدوات ومستويات وتطورات في أجهزتها والتي تغدو ملغيةً لمعلوماتٍ وآراء سابقة نظراً لهذه الصلة بين المُعطى والتجربة.
لهذا تغدو العلومُ الطبيعيةُ منفصلةً عن الفلسفات والأديان والآراء المسبقة، وتغدو الفلسفات مستفيدة من خلاصات هذه العلوم ومستثمرة لها في وجهات نظرها.
من الممكن أن يكون هؤلاء الباحثون مثاليين ودينيين وماديين من مختلف التيارات، بسبب أن نشوء العلوم في الغرب جاء من وعي مسيحيين ويهود ومؤمنين عامة، وهؤلاء حاولوا الارتقاء بالعلوم وعدم الاصطدام مع أديانهم وحجموا دلالات ونتائج العلوم وربطها بالصراعات الاجتماعية. لكن لينين ينطلق من رؤية حادة لإزالة الأديان والاستغلال من دون وعي علمي حقيقي، فيؤدي إلى تجربة مغايرة لما يريد.
خذ مثلاً ما يقوله لينين نفسه عن الأثير وعلاقته بالوعي:
(وهذا يعني إنه توجد خارج عنا، بصورة مستقلة عنا وعن إدراكنا، حركة للمادة، مثلاً، موجات الأثير ذات الطول المعين والسرعة المعينة، التي يولد في الانسان، بتأثيرها في شبكة العين، الإحساسُ بهذا اللون أو ذاك)، ص .54
إن حركة المادة العامة المجردة هذه صحيحة التأثير غير أن (موجات الأثير) هذه غير موجودة في الطبيعة نفسها، أي أن هذا المصطلح من مفردات مدرسة علمية قديمة تم تجاوزها فلم يعد هناك شيءٌ اسمه موجات الأثير! لقد جرت تجارب علمية في أواخر القرن التاسع عشر أثبتت غياب هذا المُسمى، وبدأت نظرياتٌ علمية جديدة، ولكن مع غياب متابعة لينين:
(لقياس سرعة الموجات الكهرومغناطسية، قام ميكلسون ومورلي بإجراء تجربتهما الشهيرة سنة 1881وقد كانت هذه التجربة من أشهر التجارب في القرن التاسع عشر، التي أدت إلى ثورة علمية لأن نتائجها كانت تعاكس تماما أفكار الباحثين المؤيدين لفكرة الأثير).
بطبيعة الحال إن العديد من باحثي النقدية التجريبية مثاليون ومحافظون وبينهم باحثون مناضلون في نقد وتحليل العالم الطبيعي والاجتماعي كذلك، لكن التعددية واستثمار العلوم ونتائجها وتطويرها بالنقد يوجد شبكات تحليل واسعة للحياة في مختلف جوانب المعرفة.
يولي لينين أهميةً كبيرة لرجل الدين باركلي باعتباره مشابهاً بشكل كلي للعلماء الفيزيائيين والمنظرين النقديين التجريبيين، أصحاب هذه الفلسفة الجديدة التي قام لينين بمواجهتها في سنة 1908 في كتابه(المادية والنقد التجريبي).
(إن بريكلي يقول بكل جلاء إن المادة (جوهر لا وجود له)، ص .21
يعتبر لينين ذلك بمثابة (الهجوم المقدس على المادة)!
إن رجل الدين المثالي هذا في تصوره يماثل أرنست ماخ الباحث من القرن التاسع عشر الفيزيائي المعروف.
لكن ثمة فرق هائل بين القس بيركلي والعالم ماخ.
فمن هو بريكلي هذا؟
جورج بيركلي (12مارس 1685 – 14 يناير 1753) كان فيلسوفًا بريطانيًا – إيرلنديًا وأسقفا أنجليكانياً يعتبر من أهم مساندي الرؤية الجوهرية في القرن الثامن العشر الميلادي، ادعى بيركلي انه لا يوجد شيء اسمه مادة على الإطلاق وما يراه البشر ويعتبرونه عالمهم المادي لا يعدو أن يكون مجرد فكرة في عقل الله. وهكذا فإن العقل البشري لا يعدو أن يكون بيانا للروح. قلة من فلاسفة اليوم يمتلكون هذه الرؤية المتطرفة، لكن فكرة أن العقل الإنساني، هو جوهر، وهو أكثر علواً ورقياً من مجرد وظائف دماغية، لاتزال مقبولة بشكل واسع. آراء بيركلي هُوجمت، وفي نظر الكثيرين نُسفت)، موسوعة ويكيبيديا.
إذن بيركلي صاحب رؤية دينية متطرفة ألغى من خلالها العالمَ الموضوعي، واعتبرهُ مجردَ فكرةٍ إلهية، وهو امتدادٌ للعصور الوسطى والوعي الكَنسي التقليدي، ولهذا فهو يختلفُ إختلافاً كبيراً عن إرنست ماخ الذي عاش في القرن التاسع عشر باحثاً:
(ماخ، إرنست (1838 – 1916م) فيزيائي وعالم نفسي نمساوي درس حركة الأجسام بسرعتها القصوى خلال الغازات، وطوَّر طريقة دقيقة لقياس سرعتها معبرًا عنها بسرعة الصوت. وتعتبر هذه الطريقة مهمة وخاصة في مشاكل الطيران الأسرع من الصوت. ظل عمل ماخ مبهماً إلى أن بدأت سرعة المركبة الفضائية تقترب من سرعة الصوت. وبعد ذلك استُخدم مصطلح رقم ماخ مقياساً للسرعة)، المصدر نفسه.
وهو (يـُذكرُ باسهاماته في الفيزياء مثل رقم ماخ ودراسة موجات الصدم. كفيلسوفٍ للعلوم، فقد كان له تأثير كبير على الإيجابية المنطقية ومن خلال انتقادهِ لنيوتن، الذي مهّد لنسبية أينشتاين).
تتعدد وجهات نظر لينين تجاه ماخ ورؤيته، فيقول (التصور العام للماخيين ضد المادة) ص16، (الأسقف بركلي يساوي الماخيين)، ص35، وأتباعه يحاولون (تمرير المادية خلسة!)، (حاول أن يميل صوب المادية).
إن علماء الطبيعة يقومون بتنحية المُسبقات المختلفة، ومنها الأفكار، والتصورات القديمة عن المكان والزمان والمادة، وقد يقعون في أخطاء فكرية في هذا الهدف، ولكنهم يلجأون لذلك من أجل البحث العلمي، وعملية التنحية تبدو للينين بمثابة خيانة، ومن هنا يقوم ماخ بالبحث الجزئي المتغلغل في الظاهرة المدروسة للوصول إلى معرفتها والسيطرة عليها تقنياً، ثم يقوم باختراعاته الكبيرة لكن فهمه النظري المادي الجدلي محدود.
(إن افيناريوس ينعتُ بالبحث المطلق ما يعتبرهُ ماخ صلة (العناصر) خارج جسمنا، وينعت بالنسبي ما يعتبره ماخ صلة العناصر التابعة لجسمنا)، المادية ص.61
إن افيناريوس هو عالمٌ مماثلٌ لماخ اقتربَ من رؤيته، وهو يعتبر الطبيعة التي هي العناصر خارج الجسم وبالتالي هي مطلقة، ولن تكون هنا في مجال البحث، لكن العناصرَ التي تدخلُ البحثَ هي متأثرة بوعينا ومستوى إدراكنا فهي نسبية.
كانت ثمة ثورةٌ علميةٌ تجري في أوروبا من أجل الإطاحة بمفاهيم الفيزياء التقليدية، ومن أجل تصور جديد للمادة والكون، وهو تصورٌ متراوح متذبذب جزئي محدود لدى كل من ماخ وافيناريوس لكنه يظهرُ بصورته الكبيرة المادية الجدلية لدى انشتاين.
إن التجريبية النقدية المرفوضة عند لينين كانت تغيرُ العلومَ، لكنه كان لا يزالُ مع فكرة موجات الأثير، التي قامتْ تجربةُ العالِمين ميكلسون ومورلي بدحضها، سنة 1881 كما ذكرنا آنفاً في حين كتبَ لينين كتابَه سنة 1908، وطبعَهُ مرة أخرى بعد الثورة الروسية دون تغيير في فهمهِ لموجات الأثير، فتلك التجريبية أكدت أهمية دور العلماء الشخصي وتغييرهم لآراء سائدة مُسبقة، قَبلية.
في مقابل واحدية الحزب المطلقة وهيمنة الدولة المطلقة يجري كذلك جعل المادية الجدلية مهيمنةً كلية، لكن الدكتاتورية هنا مُصدعة للعلوم الطبيعية والاجتماعية على نحو خاص.
تتكشف في المساواة بين بريكلي والماخيين والتجريبيين المنطقيين عدم فهم لينين للتطور الاجتماعي الفكري العلمي ومراحله التاريخية ومسائل الديمقراطية وتعددية الاجتهادات الفكرية والفلسفية، ففيما يعكس بيركلي رؤية دينية صوفية رجعية يقوم علماءٌ من الفئات المتوسطة بتطوير العلوم مجتنبين الدينَ والمادية الجدلية الجامدة وقتذاك.

الاستعمارُ والديمقراطية

لابد من فهمِ أعمق للأفكارِ الاشتراكية في مرحلتيها السابقة الشمولية والراهنة الديمقراطية الجنينية المتصاعدة، فنشوء الرأسمالية له مراحل، وقد حددَ لينين في كتابه (الاستعمار أعلى مراحل الرأسمالية) بعضَ هذه السمات الجوهرية وعبرها حدّد تطورَ البشرية، مثل تبدل الرأسمالية الغربية من مرحلةِ المنافسة إلى مرحلة الاحتكار، ومن مرحلة الديمقراطية إلى مرحلة الدكتاتورية العالمية، واقتسام العالم بين الدول الاستعمارية الغربية، واقتسام العالم بين اتحادات الرأسماليين المختلفة المتصارعة، وأن الاستعمار هو طفيلية الرأسمالية وتعفنها، والاستعمار هو تتويجٌ للتطور الغربي بين القرون الثامن عشر والتاسع عشر والعشرين وحتى القرن الراهن.
ولينين يعيد ذلك إلى دور وأهمية الجوانب التقنية أيضاً، كتبدل وسائل المواصلات وتصاعد أهمية القطارات وبالتالي علينا أن ندخل كل شبكة المواصلات والاتصالات الشبكية الواسعة التي حدثت حتى وقتنا الراهن.
ولينين يستنتج من الجوانب الاقتصادية والتقنية المعزولة عن اللوحة العامة استنتاجات كبيرةً:
(وهذا الحاصل يُظهرُ أن الحروبَ الإمبريالية هي أمرٌ محتوم إطلاقاً على هذا الأساس الاقتصادي طالما بقيت وسائل الإنتاج ملكاً خاصاً(طالما بقيت علاقات الإنتاج الرأسمالية، علاقات المُلكية الخاصة الرأسمالية مسيطرة).
كما أنه يوسعُ هذه الاستنتاجات على نحوٍ أخطر:
(لقد غدت البورجوازية في العصر الإمبريالي رجعية على طول الخط في ظل جميع النظم ملكيةً كانت أم جمهورية، «ديمقراطية» كانتْ أم فاشية).
يضعُ لينين العالمَ بين خندقين، الأول هو العالمُ الرأسمالي المهيمن عبر الدول الغربية الذي هو معاد للديمقراطية، والعالم الجديد الوليد، العالم الاشتراكي، أساس الديمقراطية الحقيقية في تصوره.
ولهذا فهو يرى أن المجتمعات الغربية بين فترتين فترة رأسمالية تنافسية ظهرت فيها أشكالٌ تنويرية ديمقراطية، ثم جاءت الفترةُ الاستعماريةُ فسُحقت الديمقراطية، ولهذا لا تميّزَ بين التيارات، ولا يمكن قيام تحالفات بين القوى اليسارية والبرجوازية اليمينية، ومن هنا تغدو أهمية الأحزاب الشيوعية، التي هي حصيلة هذا الفهم حسب تصوره، والتي يقومُ دورها على هزيمة الرأسمالية في الغرب فيما الشرقُ يتجه للاشتراكية.
تقيم هذه الرؤيةُ استقطابيةً كبرى بين الرأسمالية والشيوعية، بين الشر والخير، بين الماضي والمستقبل، فهي تعسكرُ البشريةَ عسكرةً ثنائيةً استقطابية.
نلاحظُ هذا التعميمَ وهو يَخرقُ الموضوعيةَ في فهم العالم الرأسمالي، فمن خلال سمات تنامي الاحتكارات وهيمنة رأس المال المالي على بعض القمم الاقتصادية السياسية، وتصدير رأس المال بدلاً من تصدير البضائع، يصل إلى استنتاجاته السياسية النظرية الجازمة الكلية.
إن هذه السمات موجودةٌ حقاً، ولكن هناك قطاعاتٌ كبيرةٌ لا تهيمن عليها الاحتكارات، وجزرُ السيطرة في قلب المدن الكبرى موجودة وممتدة في شبكات البناء الفوقي، لكن توجد كذلك معارضة متعددة من أقسام برجوازيات أصغر وبرجوازيات دنيا، ناهيك بطبيعة الحال عن العمال، الذين هم أيضاً يناضلون ضد الرأسمالية ويتحول بعضُهم إليها كذلك!
كذلك فإنه لا يمكن الحديث عن كون العالم الشرقي المستغلّ من قبل الاستعمار هو احتياطي جاهز للاشتراكية، حيث حددَ لينين المصيرَ الكامنَ المجهول في وصفةٍ طبية مُسبّقة، من دون أن ينتهي مصيرَ العالم الغربي الرأسمالي في تطور استعماري وحيد لا غير فيه ولا احتمالات متعددة له. فالعالمُ الغربي مليءٌ بالاحتمالات مثله مثل العالم الشرقي التابع.
لكن الوصول إلى هذا التعميمات الكُليةِ بين غربٍ فاسد إستعماري وشرقٍ ناهضٍ نحو الاشتراكية، يكونُ رؤيةً غيرَ جدلية، ورؤيةً غيرَ ماديةٍ تاريخية، فهي رؤية أحادية ميكانيكية، تقوم على نقائض مُعمَّمة مجردةٍ في جهتين متقابلتين. وهي ثنائيةُ الإلهِ والشيطان الدينية الغائرة.
وفي العمل السياسي ينتجُ عن ذلك جملةً من المعالم والمشكلات الهائلة، فالتدرجات والألوانُ الديمقراطية الممكنةُ لدى الأقسام البرجوازية الكبيرة والأقل منها، تُزالُ من أجل لونٍ واحد.
فتغدو الشيوعيةُ هي اللونُ الأبيضُ الذي يجب أن يسود اللوحة في الغرب والشرق، فتظهر الأحزاب المطلقة القادرة على محو الرأسمالية في عقر دارها أو في العالم المتخلف الناهض اشتراكيا حتمياً.
تغدو في الغرب نضالاً فكرياً سياسياً يلغي مشروعية الرأسمالية ووجودها المتنوع، ويصير في الشرق دولةً اشتراكية أو معسكراً اشتراكيا، أو أحزاباً تحملُ المشروع وتحققه.
صارت البشرية بكل تضاريسها المعقدة المركبة ومراحل نموها المختلفة، وتباينها بين رأسمالية وخاصة سائدة ومشروع رأسمالية حكومية شرقية طالعة، في خطين أسود أو أبيض، رأسمالي أو شيوعي وليس ثمة طريق آخر.
يقدم لنا عنوانُ كتابِ (الاستعمار أعلى مراحل الرأسمالية) نهايةً تامةً راهنة للرأسمالية، فالاستعمارُ يمثلُ تفسخ الرأسمالية على المستويين الغربي والشرقي، في الأول تنهار من الداخل، وفي المستوى الثاني تتفجرُ كفاحاتُ الشعوب باتجاه الاشتراكية، فيكتملُ التطورُ البشري والإطباق على العدو الغربي، لهذا يتخذ لينين إجراءات سريعة راهنة لتنفيذ هذه الرؤية.
إن رؤية لينين صحيحة على المستوى الإطلاقي، على مستوى القرون، لكن حتى على هذا المستوى البعيد فإن الرأسمالية لا تنهار من خلال انقلابات، بل عبر التطور التدريجي لقوى الانتاج البشرية والمادية، عبر نموها الطويل وتشكل نقائضها داخل هذا التطور.
إن الوعي الانقلابي للاشتراكية، يتم بتتحقق الاشتراكية بمعزل عن العوامل الموضوعية الحاسمة في تصور المادية التاريخية، والوعيُ الخاصُ بالنخب لا يمكن أن يصنع ثورة، فالثورة ذات عوامل موضوعية، لكن في رؤيته خلط لينين بين الثورة الديمقراطية والانقلاب لتشكيلِ رأسماليةِ دولةٍ شرقية.
إن سمات الرأسمالية الغربية المتطورة عن بقية البشرية في لحظة سابقة، التي تطورت من المنافسة إلى الاحتكارات وكل تلك السمات التي لاحظها لينين واستقاها من مصادر علميةٍ غربية في وقته، هي صحيحة، لكنه ركب هذه السمات الموضوعية فوق رؤية مسطحة ذاتية، وهذه المميزاتُ لم تنتقل للعالم المتخلف حينذاك، ولم تتحول بُنى الدول الشرقية إلى بنى رأسمالية، فهي لاتزال في العصر الإقطاعي ومخلفات العصور السابقة في نهاية القرن التاسع عشر، وهذا ينطبق على روسيا كذلك.
ورغم هذه المميزات المعبرة عن تطور اقتصادي اجتماعي غربي، وكذلك عن سمات استغلالية غدت كونيةً، ونهبتْ العالمَ الثالث، لكن هذا الاستعمار من جهة أخرى جرّ هذا العالمَ لحركته التاريخية وبعض أشكال تطوراته، وعبر هذا نشأت حركاتُ التحرر الوطني، ذات الأهداف والميول الديمقراطية بحكم التداخل والصراع مع الغرب. وكل تجربةٍ تنامت عبر الليبرالية والديمقراطية والصراع والتعاون بين المالكين والمنتجين غدت تجاربَ مهمة، فيما الأخرى تكدست فيها تناقضاتٌ هائلةٌ فانفجرت أو في سبيلها للانفجار.
وحين قدمت روسيا مشروعَ التسريع الشمولي المعادي للغرب عبرت عن ازدواجية الانتماء للغرب ورفضه معاً. توجهت لجذبِ بناه التقنية لا مشروعه الاجتماعي الثقافي الديمقراطي. إن الاتحاد السوفيتي والمعسكر الاشتراكي ليسا نقيضي الغرب الرأسمالي، ولكنهما مماثلان له ومتخلفان عنه.
إنهما أخذا قواعده الاقتصادية التقنية وطرق شبكاته المالية وبعض علومه، ورفضا بنيته الديمقراطية الاجتماعية. ركبا الرأسمالية فوق بناء شرقي استبدادي عتيق. وهذا ما سوف تفعله حركات (شيوعية) ودينية وقومية وغيرها كلٌ حسبَ بناه الاجتماعية ومواقفه.
وبتلك التعابير المطلقة عن هيمنة الاحتكارات والتفسخ الرأسمالي والطفيلية قفز لينين لاستنتاجاتٍ شمولية، وأقام بناءً رأسمالياً غير ديمقراطي.
فيما عاركت حركاتُ التحرر الوطني الاستعمارَ من منطلقات متعددة، وتوجه بعضها للديمقراطية وتوجه بعضها للاستبداد.
في القرن العشرين ظهر نموذجا رأسمالية الدولة الاحتكارية في الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة. وكلٌ منهما على أساس مختلف، لقد ضربتْ السلطةُ الروسية أشكالَ الملكية الخاصة المتعددة، وغدت هي الرأسمال الأوحد، ولهذا فإن الديمقراطية اختفت، وغدا المجتمع تابعاً لهيمنة عليا ساحقة، ومن خلالها انبثقت الرأسمالية الخاصة ثانية ملوثةً بكل ذلك التاريخ السابق.
وهذا انعكس على المنظومة دولاً وأحزاباً حيث غدت مجموعات بذات التنميط الشمولي الفقير معرفة. إن عسكرة الريف والتجميعات في روسيا تُعطي في النهاية هذا المجتمع الشمولي حيث الدولة المتغطرسة والثقافة المغيَّبة عن الأنسنة، فحين تغيبُ التعدديةُ الاجتماعية تصيرُ الدولةُ إمبراطوريةً ساحقة.
هذا ما قامت به حكوماتُ الولايات المتحدة فنشوء رأسمالية الدولة الاحتكارية أدت إلى الهيمنة الشمولية الساحقة للمجتمع الأمريكي وجفاف التعددية والتنوع، عبر سيطرة رأس المال العملاق والقوة العسكرية، وتحول هذا لنموذجٍ عالمي يهيمن على دول العالم الثالث، ويفرزُ جنرالات الشمولية ويؤيد رأسماليات الدول التابعة.
ثم وصل النموذجان للانهيار الظاهر والخفي، الأول عبر السقوط المباشر ثم الجثوم في القوقعة الروسية كآخر حصن قومي له، وتساقطت رأسمالياتُ الدول الشمولية في مختلف أنحاء العالم الثالث بأشكالٍ متعددة منفكةٍ من السيطرة الأمريكية والسيطرة الروسية أو في طريقها لذلك.
وفيما تواصل روسيا تأييد الأنظمة الشمولية العسكرية تؤيد أمريكا الخروج منها من أجل ظهور الأسواق الحرة والتغلغل فيها دون أن تعطي الشعوبَ ومنها الشعب الأمريكي حرياته الديمقراطية الحقيقية.
إن النموذجين الاستقطابيين حسب رؤية لينين لم يتحققا، بل تحقق نموذجا استقطاب رأسمالية الدولة الاحتكارية في كل من الدولتين الكبريين، وقد أدى النموذج الأولُ الروسي إلى عدم استغلال التنوع والقوى الرأسمالية والديمقراطية المختلفة في الغرب والشرق، وتعزيز حضورها، مثلما أدى ذلك في الدول والأحزاب التابعة للنموذج الروسي الشمولي إلى تغييب إمكانيات التطور الليبرالي والديمقراطي في بلدان العالم الثالث، ولهذا كانت الهتلرية تتويجاً لهذا التغييب في الغرب، فيما كانت الدولُ والحركاتُ الدينية والقومية الشوفينية والليبراليةُ الفوضوية هي الوريثة للسياسة (الشيوعية) في العالم النامي، ولم يؤدِ الانتصارُ على الهتلرية لإزالة طابع رأسمالية الدولة الاحتكارية، وتعميم النموذج الديمقراطي، فاستمر الصراع بين النموذجين من الحرب الباردة إلى الحروب الأهلية.

لينين لم يكن اشتراكياً

إن تخلى لينين عن الاشتراكية الديمقراطية كان تعبيراً عن تسرعه وحرقه للمراحل الاجتماعية، وكان هذا قد جاء بعد نمو الحزب البلشفي كجماعةٍ شمولية قوية، وقيام البرجوازيات الغربية بحرب ضارية هي الحرب العالمية الأولى التي كانت مجزرة كما وصفها هو، ثم لم تستطعْ الجماعاتُ الاشتراكية الديمقراطية المسماة بالأمميةِ الثانية والمستمرة حتى الآن، أن تقاومَ هذه الحرب الكارثية.
وكان مقاومة لينين لكل ذلك عظيمة، لكن تخلي لينين عن البرنامج الرأسمالي الديمقراطي المتدرج لإصلاح روسيا وتغييرها نحو الحداثة والديمقراطية، وطرح برنامج دكتاتورية البروليتاريا، كان قفزة نحو رأسمالية حكومية، لأنه لم تكن في روسيا أية قواعد لرأسمالية حديثة متطورة.
كانت طريقة الرأسمالية الحكومية هي قيام قطاع عام قوي وكبير، وله منجزاته الكبيرة، لكن كان عليه أن يحرق المراحل، يصفي القوى الرأسمالية المختلفة الإنتاجية، يلغي التعددية السياسية والفكرية، وكل ذلك كان يحول القطاع العام إلى الرأسمال الأكبر.
إن الرأسمالية الحكومية لها منجزات وتقوم بتطوير قوى الإنتاج التي كانت أغلبها إقطاعية، لكنها لا تستطيع أن تحدث ثورة تقنية فيما بعد، كذلك فهي تحيل الإدارات البيروقراطية المدنية والعسكرية إلى جنين الرأسمالية السوداء، رأسمالية المافيا، التي تستولي على السلطة بعد الإبعاد التدريجي للقوى الشعبية من الإدارة.
فالرأسمالية الحكومية يكون ضررها على العمال أكبر من ظهور رأسمالية حرة، لأن الأخيرة تقوي منظمات العمال في الرقابة والمشاركة، وتطور الإنتاج على مدى طويل وعبر القوانين الموضوعية للاقتصاد وليس عبر الهيمنة الحكومية، التي تفرضُ قوانينَ ذاتية على القيمة وعلى الأجور الخ..
وقد أدرك لينين هو نفسه بعد سنوات قصيرة من تطبيق اقتصاد شيوعية الحرب أن سياسة رأسمالية جديدة ضرورية فيما أسماه سياسة (النيب) التي طـُبقت بين سنوات 1921 – 1924، والتي أُجهضت من قبل ستالين الدكتاتور الصاعد الذي كرس في يديه الكثير من السلطات من خلال لينين ذاته، وقد تصاعدت بعد تصفية كوادر الحزب المخلصة للنمو الديمقراطي الاشتراكي.
لكن هذه الكوادر نفسها لم تكن تعي القضايا المعقدة للتطور، وسارت في توجه دكتاتوري، عبر القبول بنظرات لينين الحارقة للمراحل، فأضعفت القوى الديمقراطية التي كان من الممكن أن تشكل تجربة ديمقراطية رأسمالية تحديثية.
كان حرق المراحل في مسائل فرض عادات اجتماعية وتكريس ثقافة الألحاد العدمية تجاه الأديان، وعدم مقاومة الاستغلال بشكل شعبي ديمقراطي طويل الأمد، عبر ديمقراطية المنظمات الجماهيرية وانتخاب السلطات المختلفة، فكل هذا خلق تحديثاً حكومياً كبيراً ولكن عبر رأسمالية بيروقراطية، فكان لها آثارها في المستقبل تجاه عدم فهم قضية الاشتراكية عالمياً، عبر طرح هذا النموذج السوفيتي البيروقراطي، وعبر انهيار الدولة التي كان من الممكن أن تشكل علاقة أممية تعاونية حقيقية.
كان هذا هو مستوى قد جرى في بداية القرن السابق، وشكل تحولات رأسمالية حكومية عاصفة في بلدان العالم الثالث وشرق أوربا وحركات تحرر، لكن مسألة الاشتراكية مسألة أخرى لا تعود إلا لمدى تطور اقتصادي كبير للدول المتقدمة وليس للدول المتخلفة، التي ترفع راية الاشتراكية من أجل التسريع الاقتصادي كما تفعل الصين الشعبية وكوبا وفيتنام وغيرها بهذا المستوى من النجاح أو ذاك في هذا المضمار نفسه، لكنها تعمل في إطار رأسماليات حكومية بيروقراطية فيها الكثير من الفساد، والأفضل في هذه العملية المصداقية وترك الناس ينتخبون ويقررون كيفية إدارة اقتصادهم وكيف يفكرون ويؤمنون ويشكلون تاريخهم بدون فرض من أجهزة التسلط الحكومية وإذا نشأت قطاعات عامة قائدة أن تكون عبر البرلمانات المنتخبة!

لينين كزعيم رأسمالي

ليس بالضرورة أن تكون الآراء عن النفس صحيحة ومطابقة للواقع الموضوعي، فالواقع كما قال لينين أكثر تعقيداً وتركيباً، وهذا ما ينطبق على كان قائد كبير، وعلى كل مسيرة سياسية كبيرة، فغالباً ما ينخدع الناس بالظاهر والمرئي، في حين يكون للتاريخ كلمته الفصل.
لكن كيف تحول لينين من قائد للثورة الاشتراكية العظمى التي وعدت بإزالة الطبقات وإذابة الدولة بأن يصير في خاتمة المطاف مؤسساً لنظام انبثقت عنه رأسمالية المافيا البشعة؟!
علينا أن نقرأ بشكل موضوعى مسارات التاريخ المركبة والمعقدة التي قبِل لينين بها نظرياً ورفضها عملياً.
لقد انضم لينين مبكراً إلى الحركة الاشتراكية – الديمقراطية ورفض طريقة الشعبيين الفوضويين في العمل السياسي الإرهابى، وهم الذين اعتبروا الاغتيالات وسيلة أساسية لعملهم السياسي، وراهنوا على طبقة الفلاحين كطبقة قائدة للتحول السياسى الديمقراطى في روسيا، حدث إن هذه الطبقة كانت هي الغالبية من السكان المنتجين، وهم قد انبثقوا منها، وهي طبقةٌ مفتتة إنتاجياً، تخضع لأسلوى إنتاجي عتق ومتخلف، وتتراكب فوقها ظلماتُ القرون الوسطى من أمية وخرافة وفقر الخ ..
فلم يكن لهذه الطبقة عبر التاريخ من نضال منظم، إلا عبر الثورات الفجائية، لكن العمل السياسى في القرن التاسع عشر الأوروبي بدأ يخرج إلى تنظيمات جديدة.
وقد أحست معظمُ الإمبراطوريات الشرقية الأقطاعية الأمبراطورية العثمانية والروسية والصينية بضرورة الإصلاح، وهي كلمةٌ تعني الحفاظ على أسس النظام القديم وتطعيمه بعناصر جديدة لا تلغي السابق، ولهذا قامت الإمبراطورية الروسية بمجموعة إصلاحات منذ الستينيات من القرن التاسع لتجاوز ظاهرات العبودية والتخفيف على الفلاحين الأقنان، وإتاحة الفرص للنبلاء لكي يتحولوا إلى رأسماليين أو نبلاء حديثين كما فعلت ألمانيا، وكانت التجربة الألمانية رهن التداول في الإمبراطوريتين التركية والروسية، إلا أن مستوى تطور الرأسمالية في كلا الإمبراطوريتين لم يكن يسمحُ بهذه النقلة التحديثية وهذا بعود للتركيبةِ السكانية الشعبية المتخلفة، فكان الريف بنمطه العائلي واعتماده الكلى على الزراعة المتخلفة لا يسمح بمثل هذه القفزة .
وهكذا كانت روسيا أمام مهمات التطور الديمقراطى كأفق راهن مهم، وقد أكد الحزب الاشتراكى – الديمقراطى الروسى هذا المسار، لكن مسألة (الاشتراكية) هذه خضعت للتطور السياسي في أوربا الغربية، باعتبارها قارة القيادة في الصناعة والعلوم والتجربة السياسية.
لقد اعتبرت الأحزاب الاشتراكية – الديمقراطية الغربية مسألة الاشتراكية مسألة تطور تاريخي طويل، باعتبار أن أسلوب الإنتاج الرأسمالي لا يمكن تجاوزه في أوروبا بمستوى التطور الاقتصادي الراهن وقتذاك، وأن الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية المتراكمة هي التي سوف توصل ممثلي الطبقات العاملة إلى الحكم من خلال الأدوات البرلمانية، حدث سيقومون بإصلاحات ديمقراطية ويخضعون لأصوات الناخبين .
لم يكن قادة الأحزاب الاشتراكية – الديمقراطية سوى مثقفين غالباً، أى لم يكونوا عمالاً، وكانوا من الفئات الوسطى التي تتأثر باتجاهات الطبقات السفلى والعليا، ورسوخ رؤاها من أجل تطور الطبقات العاملة ومصالحها التاريخية مسألة تتعلقُ بمستوى هذه القيادات وأفكارها والتزامها بتلك المصالح ومدى ثقافة القوى الشعبية التي تُصعّد تلك القيادات .
فالقوى العمالية ذاتها تتأثر بمختلف تيارات الفكر والسياسة، ويمكن أن تتغلغل بينها الانتهازية لمصالح قوى أخرى، وهذا ممكنٌ بسبب دور الاستعمار في جلب ثروات الأمم المستعمرة ورشوة هذه القوى المختلفة، كما أظهر لينين في تشريحه لهذه الظواهر .
لقد كان لينين يعملُ فى خضمِ الحركة الاشتراكية – الديمقراطية الروسية والأوروبية عامة، وقد استقرت هذه الحركة عموماً على فهم معنى الاشتراكية باعتبارها في العصر الراهن هي إصلاحات مختلفة في ظل النظام الرأسمالي الغربي لمصلحة تطور الطبقات العاملة، حتى تغدو لها المشاركة السياسية الواسعة في النظام لتقوم بإصلاحات جذرية فيه. لكن الأمر لا يصل إلى الثورة والاستيلاء على الحكم بالقوة والتأميم الشامل وضرب الملكية الخاصة الخ..
وقد استعرت الحالةُ السياسية في الأحزاب الاشتراكية — الديمقراطية الأوروبية، وبما فيها الحزب الاشتراكي الديمقراطي الروسي، على هذا الفهم العام للتغيير، والكلمة الشعارية المكونة من الاصطلاحين (الاشتراكي والديمقراطى) معاً، كانت تشير إلى أن الاشتراكية ديمقراطية وهي تُخلق من خلال أدوات البرلمان والانتخابات، أي هي سياسة اشتراكية ضمن النظام الرأسمالي السائد.
إن هذا المصطلح المركب كان يثير البلبلة، والحوارات النظرية العميقة كذلك، فالرأسمالية الفردية ذاتها كاذت تنتقلُ من مرحلة إلى مرحلة، وعمليات إفقار الجمهور وفي العالم الثالث خاصة وإثارة الحروب العالمية وهدر الإنتاج، كانت تجتاح العالم وتستدعي النظر في هذا الشعار، فظهر جناحان أساسيان، جناحٌ يميني يؤكدُ على البقاء ضمن الشعار والاكتفاء بالإصلاحات، وكان حين يصل للحكم يتمادى في خدمة رجال المال أكثر من خدمة الناس.
أما الجناح اليساري فكان لا يستطيع في ذلك الوقت الوصول للحكم، فيطرح شعاراته ويجندُ الناس ويقود المظاهرات الخ ..
كان العالم في العشر السنوات الأولى من القرن العشرين يمر بأزمة عامة، فالرأسماليات الكبرى لم تتوصل إلى طريقة في اقتسام غنائم الإمبراطورية العثمانية وبقية المستعمرات وتريد ألمانيا توزيعاً جديداً لهذه المستعمرات، يراعي التطورات الاقتصادية في البلدان الرأسمالية الكبرى، وهذا ما جعل الأحزاب الاشتراكية – الديمقراطية متأثرة بشكل كبير بصراع الدول .
وعلى درجات هذه الدول الرأسمالية الكبرى ومدى نجاحها الداخلي في استقطاب الطبقات العاملة ونقابييها، كان يجري استقرار النظام السياسي، ومن هنا كانت إنجلترا فى حالة مختلفة عن ألمانيا المضطربة المتحولة تواً إلى الرأسمالية، فى حين كانت روسيا تعاني أزمة كبرى في عملية الانتقال إلى الرأسمالية.
كان لينين يعترف وليس مثل زعماء الحركة الشيوعية فيما بعد، بالتشكيلات الخمس لتطور البشرية وهى : المشاعية البدائية، والعبودية، والإقطاع، والرأسمالية، وأخيراًً الاشتراكية. ولهذا كان يحلل روسيا كمجتمع إقطاعي في طور الانتقال إلى الرأسمالية، وإن هذا الانتقال يحتاج إلى ثورة اجتماعية ديمقراطية تقوم بتغيير الأساس السياسي والاقتصادي للمجتمع.
لكن هذه الآراء للتحول خضعت لنمو الدكتاتورية السياسية داخل الحركة الاشتراكية – الديمقراطية. كان لينين يصر على وجود حزب (حديدي)، مركزي، تخضع فيه الأقلية للأكثرية، والقواعد للقيادات، ويحطم التكتلات الفكرية السياسية داخله.
كان هذا النمط من الحزب الديكتاتوري ليس فقط مقنعاً للنخبة في مواجهة نظام تعسفي، بل كان كذلك يتحولُ هو نفسه إلى بناءٍ دكتاتوري مماثل لقمعية النظام.
لكن الأكثر تأثيرا هو قيام الحزب الدكتاتوري بضم القوى والجماعات المُجيشة والمنضبطة بشكل عسكري والتي سترفدُ ببشر عاميين مؤدلجين وخاضعين للزعماء.
وفي مثل هذا الحزب ستكون البذرة الأولى للدكتاتورية القادمة، التي سيظهر منها ستالين، وسيؤكد ستالين دائماً على رفد الحزب الذي دخل فيه مثقفون لامعون ومفكرون كبار، بالعامة (البروليتارية) أي بأنصاف المتعلمين والمتحمسين لكي يتم القضاء على الفكر النير في الحزب.
وهكذا فإن لينين قام بمواجهة الكتل التي سُميت (انشقاقية) و(انتهازية) ورفض أطروحات التحول الديمقراطي البعيد المدى، عبر أحزاب ذات تعددية داخلية وفكر حر، فحدث الانشقاق في الحركة بين من يسمون بــ(البلاشفة) والمناشفة).
مع نمو الدكتاتورية داخل الحركة الاشتراكية – الديمقراطية الروسية أخذ هذا الشعار المزدوج بالانشراخ، بين الشموليين الاشتراكيين والديمقراطيين الاشتراكيين، وقد قوت مواقفُ الأحزاب الاشتراكية – الديمقراطية اليمينية وتفريطهم بحقوق العمال والشعوب، من مواقف الاتجاهات الشمولية، وقد قوى ذلك من توجه لينين لخرق موضوعة التشكيلات الخمس للبشرية، فقد كانت أزمة الحرب العالمية الأولى، وأزمة التحول في روسيا، ونمو الحزب البلشفي الذي يقوده، تحول الأزمة في روسيا إلى مناخ ثوري مفتوح.
أن خرق لينين لهذه الموضوعة وخروجه عن الماركسية تم تحت غطاء الماركسية، ولهذه مواد سياسية وفكرية كثيرة، ملخصها إنه خلط بين مرحلة الانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية، وبين عملية الانتقال من الإقطاع إلى الرأسمالية، فلم تكن روسيا مجتمعاً رأسمالياً لكي يجري الانتقال فيه إلى الاشتراكية، بل كان مجتمعاً اقطاعياً يحتاج إلى تطور رأسمالي كبير، كأمرٍ موضوعي بغض النظر عن رغبات السياسيين، ولكن لينين وجد أن الماركسية (الموضوعية) أصبحت تعرقل مشروعاته السياسية التحولية السريعة.
وهكذا أخذَ يفسرُ تفسيرات مختلفة النصوص المعروفة، فبعد خرق موضوعة التشكيلات الخمس، وطرح إمكانية الانتقال من الإقطاع مباشرة إلى الاشتراكية، سيّح عبارات لماركس عن كومونة باريس التي تقول بضرورة وجود (دكتاتورية للبروليتاريا) أي بضرورة تنفيذ قوانين المجتمع بالقوة ضد المتمردين عليه، ولكن ماركس يقصد هذه الإجراءات (الاستثنائية) التي تقومُ في مجتمعٍ رأسمالي متطور عبر مؤسساته الشرعية والتي أصبحت الطبقات العاملة اغلبية فيها، في حين كان لينين يضعها في خانة القفز من المجتمع الإقطاعي المتخلف إلى الاشتراكية وبدون تطور رأسمالي وبدون مؤسسات شرعية منبثقة من إرادة الملايين!
وثمة فرقٌ كبير بين إجراءات استثنائية مؤقتة تُتخذ في ظلِ برلمانات منتخبة وبين إقامة دولة ذات مؤسسات استبدادية تتحكمُ في الطبقات المختلفة، وبطبيعة الحال لن تكون هذه دكتاتورية العمال في دولة ديمقراطية بل دكتاتورية الأجهزة البيروقراطية العسكرية التي ستقع السلطة في قبضتها!
وهذه الفئات البيروقراطية – السياسية – العسكرية هي جنين الطبقات البرجوازية الحكومية التي ستنقض على السلطة السوفيتية بعد أن وصلت هذه السلطة إلى العجز عن أن تكون مع العمال او مع البرجوازية. ولكن الفرق بينها وبين الطبقات البرجوازية الحاكمة في الغرب بأن الأخيرة شكلت نظامها عبر الديمقراطية، فأمكن للعاملين أن يتقدموا فكرياً ونقابياً، في حين رأسمالية الدولة الروسية حولت العاملين إلى جمهور مدمن ومنهار نفسياً ومُدمر اقتصادياً وكاره للسياسة ولرموز الثورة (الاشتراكية)، إن لم نقل أنه تابع للمافيا!
لقد أصبحت البنيةُ الروسيةُ الاستبدادية تجرُ لينين إلى هياكلها، وقد حدث ذلك عبر بنية الحزب الشمولية، وبنية الوعي الشمولي، وبالتالي فإن الأفكار الاشتراكية – الديمقراطية أخذت تُجيّر لتحولات دكتاتورية عبر مؤسسات الدولة الفوقية وعبر نقض قوانين التطور الاقتصادي الموضوعية ومن خلال الإرادة السياسية النخبوية، التي أعطاها زخمُ الجماهير الشعبية المتحمسة إمكانيةَ التحليق الخيالي بأنها تستطيع أن تقوم بالقفز فوق التشكيلات التاريخية.
ولهذا يمكن رؤية الجماهير الغفيرة التي كانت تشارك في إحداث التحولات في العشرينيات ثم تنسحب تدريجياً حتى صارت في النهاية هي التي تنقض على مؤسسات الدولة السابقة.
علينا هنا أن نرى أن ثمة تغيرات إيجابية كبرى فيما سُمي بــ(ثورة أكتوبر الاشتراكية العظمى)، ونستطيع أن نسميها ثورة روسيا البرجوازية الحكومية التى جمعت العمال والبرجوازية تحت قبضتها الإدارية.
إن تلك التغيرات كانت تحول روسيا فعلاً إلى دولة رأسمالية حديثة، كالإصلاح الزراعي الواسع، وهو الإصلاح الذي رفضه البلاشفة حين كانوا في المعارضة، وتبنوا برنامج حزب الفلاحين الشعبيين، وهو إصلاح ديمقراطي اجتماعي، ضخم، جعل حزب البلاشفة ذا جماهيرية كبيرة، فالتف الناس حول النظام الاجتماعي الذي قدم لهم الأراضي؛ وواجهوا جيوش التدخل الأجنبية والقوى الاجتماعية التي أيدتهم.
وهنا لم يتواجد حزب روسي مؤيد للتحولات الاجتماعية الديمقراطية هذه، وكذلك بأن يعمل لمواجهة ديكتاتورية البلاشفة السياسية كذلك .
كذلك فإن إجراءات التصنيع والكهربة ومشروعات التقدم الاجتماعي والثقافي الواسعة كلها تحسب للنظام، لكن كلها تمت عبر أدوات العنف والشمولية الإدارية، فأخذت أجهزة الدولة القيصرية تتبدل بشكل بلشفي، وراحت الأجهزة العسكرية والبوليسية تتسع، وتقلصات الديمقراطية داخل الحزب البلشفي نفسه، فحيث كان يقرر الأمور اللجنة المركزية اقتصر الأمر بعد ذلك على المكتب السياسي، ثم على الزعيم الأوحد، الذي ظهر بشكل لينين ثم ستالين . ثم تعرض (الماركسيون) داخل الحزب للقمع والقتل .
لقد تحولت الدولة إلى المالك الأكبر لوسائل الإنتاج، وهكذا فقد فهم لينين أن تملك الدولة لوسائل الإنتاج هو النظام الاشتراكي، فعبر المصادرة ينشأ النظام الحكومى للملكية فتطهر الاشتراكية !
لكن الرأسمالية ليست هي الأموال فهي بناء اجتماعي واقتصادي وثقافي عميق، فنشوء المصانع والتقنية ليس هو مسألة مالية وإدارية، بل مسألة بناء اجتماعي قائم على التطور الموضوعي الداخلي عبر قوانين موجودة في كتاب (رأس المال). الذي قرأه لينين ولخصه ولكن لم يفهم مقولات الرأسمال كمقولات تاريخية وليس كمقولات تقنية أو سياسية.
وهكذا فمع عدم وجود رأسمالية في روسيا كان ينبغي بناؤها من أجل بناء الاشتراكية فيما بعد!
أي ترتب على أفكار لينين أن يقوم هو ببناء الرأسمالية، فصار من قائد للثورة الاشتراكية إلى قائد لبناء الرأسمالية الحكومية الشمولية.
فبعد الكوارث التي ظهرت في روسيا بعد الحرب العالمية الأولى كان عليها أن تدخل حرب التدخل الأجنبية ثم الحرب الأهلية التي راح ضحيتها الملايين. ولكن ليس لتقيم الاشتراكية وتزيل الطبقات وتطفئ مؤسسة الدولة غير الضرورية بل لتتعلم كيف تطور رأس المال وتخرجه من جحوره التي اختبأ فيها، وتحدث تراكماً؛ رأسمالياً، فبدأ لينين ما سُمي بالسياسة الاقتصادية الجديدة (النيب) منذ ١٩٢٠، لكن هذه العودة للرأسمالية لم تكن عودةً ديمقراطية، أي أن لينين لم ير أن مشروعه (الاشتراكى) فاشل، وأن عليه أن يعود للرأسمالية الديمقراطية فيسمح للأحزاب ولحرية الصحافة ويشكل دولةً ديمقراطية تقرر فيها الطبقات المختلفة تطوير البلد بالشكل المناسب، بل واصل استخدام أدوات السلطة السياسية والعسكرية في الحكم، لكنه أعطى للملكيات الصغيرة والمتوسطة في الزراعة والصناعة والحرف الحق أن تنمو، بشكل لا تتحول إلى ملكيات كبرى وتتعاون مع قوى سياسية لتغيير النظام، بل سمح لها بالتطور الاقتصادي الحر المفصول عن التطور السياسي.
راح الحزب البلشفي يعمل لإيجاد الرأسمالية تحت غطاء الاشتراكية الحكومية، ولا بد للرأسمالية من تراكم أولي، يسمى التراكم البدائي، حيث توفر الدولة رؤوس الأموال المنتزعة من الفلاحين من أجل الإنتاج الرأسمالي الموسع، من هنا عمل خليفة لينين ستالين على تجريد الفلاحين الأغنياء والمتوسطين من مدخراتهم وتشكيل التعاونيات بالقوة، وسحب فيوض المال للصناعة، وتمت إجراءات وحشية هائلة هنا، لا تقل سوءاً عن إجراءات التراكم البدائي في أوربا الغربية.
كان نمو ملكية الدولة الضخمة يتم بالأشكال الإدارية، فتتحول كافة المؤسسات الحزبية والسياسية والنقابية إلى ذيول للدولة، وكان الفكر الرأسمالي الحكومي يصير نظرية اسمها (الماركسية — اللينينية ) حيث يمكن القفز على المرحلة الرأسمالية بمساعدة الدولة الاشتراكية الأم.
ويحدث وهمٌ هنا في الدول الاستبدادية الشرقية بأن بإمكانية الدولة أن تتلاعب في التاريخ وتقفر على المراحل وتحقق المعجزات الاقتصادية، بسبب أن التخلف يتيح لماكينة الدولة الضخمة أن تقوم بمعدلات تنمية كبيرة، لكن هذا بشكل مؤقت، لكن هذا لا يحقق اشتراكية بل رأسمالية حكومية، ولكي تتحول إلى رأسمالية حرة تحتاج إلى ثورة لوضع حد لهيمنة الهياكل الإدارية – البوليسية.
وهنا على الطبقات العاملة مهمات جديدة مركبة باستثمار المرحلة السابقة ونقدها والتعاون مع البرجوازية الصناعية لتغيير مشترك .
والآن لم تكتمل الثورة الديمقراطية في روسيا بعد وتحتاج للتخلص من الجوانب الشمولية من فكر لينين وتبقي إنجازات فكره الديمقراطي والعلمي.

لينين بين رؤيتين

لم يكن مصير الإمبراطورية الروسية لآل رومانوف مرتبطاً بالسيرة الشخصية المحضة لفلاديمير إليتش أوليانوف المعروف في تاريخ العالم الثوري باسم (لينين)، بل بالبنى التقليدية الإقطاعية المهيمنة والمتحدة بأكبر آلة سياسية قمعية ومحافظة في العالم، والتي كانت مع هذا تقترب أكثر من غيرها من شعوب الشرق من الرأسمالية والحداثة، وخطوات الاقتراب هذه بدأت منذ أن غزا نابليون موسكو وطاردته فيما بعد جيوشها مسببة الهزيمة لأكبر قوة ثورية حينذاك في أوربا، ومعلنة تحول روسيا إلى قوة اوربية مؤثرة، ومنذ أن قام قيصرها بطرس المتنور بتغيير العاصمة البعيدة موسكو إلى بطرس برج، وأخذ برنامج الإصلاح الاجتماعي يدب في جسد الإمبراطورية المتخلفة والمتعددة القوميات.
لكن لم يستطع برنامج الدولة المحافظ المدافع عن مصالح كبار الملاك الزراعيين أن يزحزح العلاقات الاجتماعية والاقتصادية التقليدية والضاربة الجذور في تخلف روسيا الاقتصادي والثقافي، التي كانت بحيرة من الأمية والفقر والأكواخ، كما أن الرأسمالية نشأت متخلفة ضعيفة، وانتجت ليبرالية محدودة وخائفة من القيصرية المهيمنة على كل شيء.
في هذه الأثناء كان في روسيا برنامجان سياسيان يعكسان هذا التطور المعقد ومصالح الكتل الكبرى في المجتمع الروسي، والأول هو برنامج الليبرالية الخافت، حيث يجري تداول مصطلحات الحداثة والديمقراطية الغربية ومحاولة تجذيرها في المجتمع الاستبدادي العريق، والثاني هو برنامج الكتل الشعبوية الرافضة لمسار روسيا التحديثي والرأسمالي والديمقراطي، وكانت هذه الكتلة الأخيرة هي أقوى التيارات وقد أنتجت سلسلة من الأفكار والكتاب الكبار والجماعات المتطرفة.
إن كاتباً مثل تولستوي الكاتب العالمي كان يردد مثل الشعارات العامة لهذه الأفكار، ويحبذ الطريق الخاص لروسيا، بعيداً كان عالم الحداثة الغربي، ويفضل الحفاظ على المشاعة الروسية (الخالدة) وتجاوز درب الآلام الناتج من الخوض في طريق الرأسمالية الدامي، وسيكون هذا الوعي هو نموذج لقوى تقليدية كثيرة في الشرق تريد الحفاظ على تركة القرون الوسطى بأشكال دينية شتى.
وتولستوي مثل غيره من المنضوين تحت عالم القرى الواسع كان يرفض الاستغلال الإقطاعي ويبغي توزيع الأرض على الفلاحين، عبر اشتراكية دينية، وهذا ما كان يؤيده الشعبويون الروس، أكبر الكتل السياسية بين القرنين التاسع عشرة والعشرين. والذين أنتجوا بعض الجماعات الإرهابية التي تمارس الاغتيال والعنف من أجل التغيير.
وقد راح أخ لينين نفسه ضحية لهذه الأساليب الإجرامية والفوضوية، مما جعل لينين الشاب يكرس نفسه لرفض هذه الأساليب بل والرؤية الاجتماعية القائمة عليها.
استندت أعمال لينين الفكرية في هذه الحقبة على تفنيد خرافة الاشتراكية الخيالية الروسية الخاصة وفكرة المجتمع الريفي المنعزل عن التغيرات الرأسمالية الكبرى، وأثبت في كتابه (تطور الرأسمالية في روسيا) بالأرقام والتحليلات أن الرأسمالية تنمو في روسيا بتوسع.
إن رفض البنية الإقطاعية بتشكيلتها وبمستوياتها السياسية والفكرية والاجتماعية قد قاده إلى تأييد نشوء البنية الرأسمالية في روسيا وانتصارها التاريخي المنتظر، وبالتالي فإن القوى السياسية الروسية بحاجة إلى أساليب النضال الديمقراطية المعروفة، وبضرورة تجنب الإرهاب الفردي..
كان التحاق لينين بالجماعات الاشتراكية الديمقراطية حينئذ هو ثمرة لهذه الأفكار والمواقف. وكان تعبير (الاشتراكية الديمقراطية) هو تعبير مستورد من الحركات الاشتراكية الأوربية التي اعتمدت طريق الانتخابات السياسية العامة كشكل أساسى لنضالها لتغيير الأنظمة الرأسمالية الأكثر تطوراً في أوربا الغربية، وهذا الاستيراد الروسي من قبل النخب المثقفة، يعبر عن محاولة اللحاق بأوربا أكثر من أن يكون تعبيراً سياسياً ناضجاً عن المهمات الروسية الديمقراطية الخاصة.
إذن كان التحاق لينين بالحركة الاشتراكية الديمقراطية الروسية يعبر عن جانيين متضادين في وعيه، فهو إن يرفض التوجهات الفوضوية والشعبوية الروسية، التي كانت تعمل لتشكل الرأسمالية بشكل خاص، يتوجه إلى الاشتراكية الديمقراطية التي هي تعني كذلك رفض المسار الرأسمالي، رغم قبولها العام بقنواته السياسية.
فهنا تقوم كتل المثقفين الليبراليين الاشتراكيين بالقفز على الواقع الروسي ومماثلة التطور الأوربي الأكثر رقياً، فتحيل المهمات لمناطق متطورة إلى مناطق أقل تطوراً.
فالاشتراكية الديمقراطية هنا، وتعبيرات حزب العمال الاشتراكى الروسى وما شابه ذلك، هى التقاطات واستيرادات نخبوية، حيث كانت هذه تعبر في أوربا العربية عن مضامين حقيقية، حيث توجد بوفرة صناديق الانتخابات وكتل العمال الواسعة التي تنتخب، وغير ذلك من صور الديمقراطية، وهي كلها تعبر عن قرن من التصنيع و المنافسة الاجتماعية بين طبقات متيلورة.
أما فى روسيا فإن الأمر ليس كذلك، كانت جماهير الفلاحين الأميين هي السائدة، ولم تكن لجماهير العمال هذه الثقافة والحضور التي تفترضها الشعارات الاشتراكية الديمقراطية، فكان هذا التيار بحد ذاته يشكل نخبوية دكتاتورية مضمرة، تستدعي نموذجاً سياسياً لم تتوفر ظروفه بعد .
ومن جهة أخرى فإن التيارات الاشتراكية الديمقراطية الأوربية لم تكن تأخذ مسألة (الاشتراكية) كمسألة تشكيلة اقتصادية اجتماعية رهن التطبيق المباشر، فهي تدرك قدرات الرأسمالية الغربية المتطورة، وإنجازاتها الاجتماعية، ولهذا كانت تعني باشتراكيتها مسائل الأصلاح الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، أي تغيير ظروف الأنظمة الرأسمالية لمزيد من التغييرات لمصلحة الطبقات العاملة. ويعني هذا البرنامج كذلك إمكانية وصول هذه الأحزاب للسلطة دون أن يعني ذلك الخروج من التشكيلة الاقتصادية الاجتماعية الرأسمالية، بل استخدام الظروف في هذه التشكيلة لمصالح الجماهير العاملة.
وهذا ما كان يفهمه قسمٌ من جماعات الاشتراكية الديمقراطية الروسية، أي كان تقليده للجماعات الاشتراكية الديمقراطية الغربية محاولته لمماثلة الخطوات الروسية بالغربية، لكانت هذه المماثلة غير ممكنة، لكون المسار الروسي مختلفا عن المسار الغربي، فقد كانت روسيا في تشكيلة اقتصادية اجتماعية مغايرة، هي التشكيلة الإقطاعية، ولهذا فإن نقل آليات العمل السياسي من منطقة متطورة إلى منطقة متخلفة، سوف يضع هذه الآليات في خدمة منظورات وقوى مختلفة.
كانت الاشتراكية الديمقراطية الروسية تعبيرا عن وعي النخب العائدة للفئات الوسطى الروسية، لكنها كانت تعتبر هذه الرؤى تعبيراً عن العمال. كانت تنيب نفسها للتعبير عن قوى العمال، عبر الدفاع بطبيعة الحال عن ظروفهم الاقتصادية والاجتماعية السيئة والصعبة.
وهذا ما كان يمكن أن يجعل هذه الأفكار الاشتراكية الديمقراطية ذات تغلغل جماهيري، ولكن هذا التغلغل لا يمكن أن يشير من جهة أخرى إلى أن هذه الأفكار تعبير عن الطبقة العاملة، لأن الطبقة العاملة لم تكن تعبر عن نفسها، بل كان مثقفو الفئات الوسطى هم الذين يعبرون عنها.
لكن الأفكار الاشتراكية الديمقراطية كانت تتطلب مستوى متقدماً من العمال، أي عمالاً مثقفين، وانتخابات نقابية وسياسية، أي تتطلب طبقة عاملة واعية وديمقراطية، يمكن أن تنتخب ممثليها السياسيين حسب مصالحها وإرادتها الحرة، وهذا ما كان غير ممكن فى روسيا الدولة المتخلفة الاستبدادية.
إذن كيف يمكن أن تغدو الاشتراكية الديمقراطية قوة شعبية بدون الانتخابات والمجالس النقابية والبرلمانية ؟
لا يمكن أن تكون كذلك إلا عبر الأضرابات والثورات، أي عبر القوة السياسية المنظمة والدكتاتورية.
وهنا نرى ان عملية نقل الاشتراكية الديمقراطية الغربية المتطورة إلى روسيا الاستبدادية كانت عملية زرع صناعية، فبنية الأقطاع الروسي هي التي اعادت تشكيل هذه ا لاشتراكية وأخضعتها لظروفها، ولمسارها الصراعي الخاص.
إن المسار الروسى الخاص، أي وجود تشكيلة مغايرة للتشكيلة الرأسمالية، أعاد تشكل الاشتراكية الديمقراطية، فبدأ الصراع في هذا التيار الأخير وانقسم إلى (بلاشفة) و (مناشفة)، ولعب لينين دوره المعروف في صعود التيار الأول.
أي أن البلشفية لعبت دوراً في القطع بين الاشتراكية والديمقراطية، بالتركيز على الأولى وإهمال الثانية، والتركيز على الأولى كان يعني التوجه إلى الجمهور والتغلغل فيه وتصعيد دوره السياسي والاقتصادي والنضالي عامة، وهو توجه يقود إلى نشر الديمقراطية الاجتماعية والسياسية في المجتمع عبر تفكيك النظام الإقطاعي المتخلف، وتصعيد دور الجمهور الشعبى.
لكن هذا يتطلب حزباً مناضلاً في ظروف روسيا القيصرية، الاستبدادية، المغايرة لظروف أوربا الغربية الديمقراطية، حزباً منضبطاً حديدياً، فتشكل الحزب البلشفي بإدارة قوية متوارية، أخذت الديمقراطية الداخلية فيه تضعف لحساب المركزية وهيمنة اللجنة المركزية والقيادة الصغيرة عامة، التي تركزت مفاتيحها النظرية والسياسية والعملية بيد لينين.
لقد تغلغل تراث روسيا الاستبدادي داخل الحزب البلشفي بأكثر من صعود الواقع الديمقراطى، وهكذا راحت المهمات الاجتماعية لتحويل روسيا تفرض نفسها أكثر من الأشكال والوسائل الديمقراطية.
كذلك لعبت القوى الاشتراكية الديمقراطية الليبرالية والبرجوازية الروسية الخائفة والمعادية لأي نشاط قوي ديمقراطي، والدولة القيصرية المستبدة، أدوارها في إضعاف القنوات الديمقراطية وتقوية الشبكات الدكتاتورية المختلفة.
كان عجز القوى الليبرالية المختلفة عن طرح نموذج ديمقراطي يتجذر فى الأرض، يتجسد في عدم رؤيتها للاختلاف بين روسيا والغرب، حيث يتطلب الأمر في روسيا أحداث تحولات ديمقراطية في الزراعة ووضع المرأة والحياة السياسية، وتشكيل جبهة ديمقراطية واسعة لإنجاز ذلك، ولكن الليبراليين لم يدركوا عمق الآزمة التي تواجه روسيا، كما هو الأمر تماماً في العالم العربي الإسلامي الآن.
ولهذا فإن الأزمات الكبرى السياسية والاجتماعية لروسيا وأوربا في ذلك الوقت كانت تصعد التيارات الدكتاتورية باشكال مختلفة، البلشفية في روسيا، والفاشية في أوربا الغربية، وكل من هذه التيارات يعبر عن أزمة المستوى الرأسمالي. الخاص به، فروسيا تمثل البلشفية فيها دكتاتورية فئات وسطي لتسريع عملية التطور الاجتماعي ( الرأسمالي ) في حين تعبر الفاشية عن رؤية فئات وسطى تابعة للرأسمالية العليا القوية.
كان هذا المخاض المعبر عن أزمات مناطق كبرى أوربية – آسيوية يتشكل روسياً فى عذاب خاص، به فشل للثورة الجماهيرية وبهزيمة لليابان في الحرب ثم دخول الحرب العالمية الأولى، التي لا ناقة لروسيا فيها ولا جمل، والتي كانت مجزرة عالمية، في حين كانت ألمانيا تبحث عن المستعمرات وتغيير خريطتها. لكن كلا المسارين، الألماني والروسي، اتفقا على تسريع المسار القومي الخاص بكل منهما، وكان هذا التغيير يمثل تحولات كبرى للعالم، لأنه سوف يصطدم بقوى أخرى متنقذة.
ولهذا فإن لينين في مقالته (بصدد الكرامة القومية) رفض اعتبار الاشتراكيين الديمقراطيين خالين من الشعور القومي، والكرامة القومية، ولكن كان لا ينبغى للتيارات الاشتراكية الديمقراطية وقتذاك أثناء مجزرة الحرب العالمية الأولى، أن تنتمي لما أسماه (برجوازياتها) المتقاتلة، وأن الاشتراكيين الديمقراطيين الروس هم أيضا يحبون وطنهم وشعبهم ونضاله وإرثه المستنير ولكن لا يمكن أن تتطابق سياستهم مع سياسة التبعية للدول الحاكمة المتقاتلة.
كان المناخ السياسي قد جعل البرلمانات والكتل الديمقراطية مجرد ملاحق بالقوى السياسية المسيطرة، وكانت إعلانات الحرب من هذه البرلمانات نفسها. لقد فقدت الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية الأوربية صوابها السياسي، وتذيلت لوزارات الدفاع، وكان هذا تعبيراً عن مقدار الفساد داخل قيادات هذه الأحزاب؛ وتطابقها مع رؤى قومية للقوى المستغلة.
ولكن مع هذا فإن الاشتراكيين الديمقراطيين الروس لم يكونوا في البرلمانات ولا فى السلطة أو قريباً منها، في حين كان الغربيون على صلة وثيقة بهذه المستويات، ولهذا كان يمكن تصحيح هذه الافكار وتغيير هذه القيادات عبر الآلية الديمقراطية داخل الأحزاب، وفي المجتع. لكن لينين قام هنا بالحكم الشامل على هذه الأحزاب وإمكانياتها التاريخية.
فى حين ان أي خطأ كان لا يمكن تصحيحه إذا اتحد الحزب بالسلطة اتحاداً أبدياً، ولكن هذه العملية لم تكن قد تشكلت بعد، فلا يزال الحزب البلشفي خارج السلطة وهو يشن الحرب الآن ضد الحرب، وهو ما أعلنه لينين فى كراسه (الاشتراكية والحرب).
وإن يمثل هذا موقفاً أممياً مشرفاً للحزب البلشفي، فإنه يعبر كذلك عن بداية الانفصال الفكري عن منظومة الاشتراكية الديمقراطية.
قلنا إن التماثل بين الحزب البلشفى والأحزاب الفاشية الأوربية الصاعدة في ذلك الوقت من الثلث الأول للقرن العشرين، هو نتاج المناطق الأوربية/ الآسيوية المأزومة، ويعبر عن تصاعد الموجات الدكتاتورية فى الوعى الأوربي ومن هيمنة غربية قاسية على المستعمرات، وهذا كله كان يضع الوعى الديمقراطى والأنسنة بين قوسين كبيرين من الشك.
وإذا كان الحزب الاشتراكى الوطنى الألمانى (حزب هتلر) استند على المطالب الشعبية ومن أجل خوض الحروب وتشكيل إرادة الأمة القومية القوية للحصول على المستعمرات، فإن الحزب البلشفى يتوجه لتشكيل تجربة قومية روسية تحديثية، تتحاوزآليات الرأسمالية الحديثة في التطور الديمقراطى المتدرج وغير العنيف، ومن أجل الحفاظ على المستعمرات الروسية في البرين الآسيوي والأوربي، تحت مسميات جديدة.
ولكن تحاوز قوانين الرأسمالية التحديثية لم يعن تجاوز الرأسمالية، وهذا ما كانت تعبر عنه عمليات إعادة النظر في الماركسية، ليس كما تشكلت تحت تقاليد أوربا الديمقراطمة بل تشكيلها تحت الفضاء الروسى الشمولى الآن.
هنا لم تكتمل عملية تغيير الماركسية وتوجيهها نحو الشمولية، بل سوف تجرى هنا المقدمات لذلك فقط، وقد رأينا سابقاً عمليات التراكم السياسية والفكرية المؤدية إلى هذا.
لكن ظروف الحرب العالمية الأولى وتفسخ الأممية الثانية التى كانت تجمع منظومة الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية العالمية تحت سقف فكري وسياسي واحد، سرعّت من عملية انفصال البلشفية عن التقاليد الديمقراطية الأوربية، وأظهر كتاب لينين (الاستعمار أعلى مراحل الرأسمالية) أفكاراً جديدة بدأت تخرج عن السياق الماركسي، فإذا كان الاستعمار يمثل مرحلة جديدة من تطور الرأسمالية الغربية، تتجسد بتصدير رأس المال وازدياد صعود رأسى المال المالي، والإعادة المستمرة لتوزيع حصص المستعمرات بين القوى الاستعمارية الكبرى، إلا أن الاستنتاجات السياسية التى توصل إليها لينين من هذه المقدمات الموضوعية غير متسقة، فتعبيرات مثل وجود (حلقة رأسمالية ضعيفة) بين الدول الرأسمالية يمكن عن طريقها تشكيل تجربة اشتراكية، لا تمثل تفكيراً ماركساً، فالاشتراكية لا تتشكل من حلقات ضعيفة بل من المستوى المتطور لقوى الإنتاج، بل والفائق التطور لهذه القوى، كما أوضح ماركس في كتيبه (نقد برنامج غوتا). كما ان الاشتراكية ترتبط بالمسار الصناعى والعلمي والسياسي المتطور للإنسانية وليس لبلد أو حتى لقارة.
وبهذه الجمل غير العلمية دخلت الأرادوية الثورية الانقلامية حيز إعادة النظر فى القوانين الموضوعية للتشكيلات، أى أن وعى لينين هنا خلط بين مسألة التطور التسريعي التحديثي لروسيا وبين مسألة الاشتراكية.
هنا نلاحظ القانون الخاص للبنية الاجتماعية وجذورها حدث تقوم بفرض قوتها المتوارية على الوعي، فتستعيد البلشفية هنا الهياكل الدكتاتورية للنظام التقليدى القديم، فتجري عمليات تسريع كبرى للتطور الرأسمالي تحت يافطة الاشتراكية، وتلعب الدولة دورها المركزي كما كانت تلعبه في القرون السابقة، أى كما فعلت الدولة القيصرية بالتمدد أوربياً وآسيوياً على أجسام الشعوب والدويلات والقوميات.
ولكن الإنجازات للثورة الرأسمالية الروسية والأممية التي جرت تحت مسمى الاشتراكية لا تنكر، مثلما إن الثمن كان فادحاً .
وقد أدرك لينين بعد الحرب الأهلية في سنوات العشرينيات من القرن العشرين المهمات الحقيقية التي كان على روسيا تحقيقها، فأعلن سياسة النيب، وهي اختصار للسياسة الاقتصادية الجديدة، وتعني العودة للرأسمالية، فمن الدعوة لإزالة الرأسمالية إلى تشجيع ظهورها ونموها في الاتحاد السوفيتي، لكن بعث الهياكل الرأسمالية لم يصل إلى تغيير الهياكل السياسية الدكتاتورية التى برزت في تلك الآونة وهى : الجيش، والمخابرات، وأجهزة الدولة الضخمة الواسعة، والحزب الواحد، وهي التى سوف تكرس سياسة الحكم تحت تسمية ( اللينينية) التي ستغدو شكلاً لمسار فكري وسياسي خاص في الوعي التقدمي في العالم وفي تجارب التحول الاجتماعي.

الماركسية

إنجازات وقصور كارل ماركس

قدم كارل ماركس مقاربةً اقتصادية لرأسمالية زمنه، وكشفَ قوانيَن نموها وتطورها لحد نهاية القرن التاسع عشر الميلادي، وجاءت الاحتمالاتُ الكبيرة التي تصورها لرأسمالية زمنه، بأن تدهوراً عميقاً سوف يحل بقوى الإنتاج، نظراً لنزول معدل الربح الوسطي، وبالتالي سيؤدي ذلك أما لتدهور الإنتاج أو لتوسع المصروفات القاصمة لظهر كل منتج، وإنه بالتالي فإن المجتمعات الرأسمالية سوف تشهد ظهور معسكرين لا ثالث لهما، معسكر نخب الأغنياء القليلة الباذخة، ومعسكر البروليتاريا المدقعة في الفقر والمتهيأة للثورة. لقد اكتشف سلسلة من قوانين الإنتاج الرأسمالي التي تمثل ثورة معرفية مثل فائض القيمة، وطرق إعادة الإنتاج الخ.
كانت هذه القراءة العميقة لجذور نمو الرأسمالية تمثلُ معجزةً معرفيةً لرجل واحد مضح، كرسَّ أربعين سنةً من سنواته الأخيرة من أجل القراءة والكتابة في بلد لا ينتمي إليه، وفي عائلة فقيرة وبين كثرة أولاد، لم يعتمد سوى على صديق واحد، ولم تكن له لجان أو مؤسسة دراسات خاصة به.
لكن الرأسمالية الغربية لم تقتصر على جذورها وعلى أوضاعها في القرن التاسع عشر، وراحت تتطور كأسلوبُ إنتاجٍ ديناميكي لم يتوقعه ماركس، وظن إنه سيكون محصوراً في أوربا الغربية وأمريكا النامية بقوة وقتذاك.
إن السوق الضيقة التي توقعها ماركس توسعت كثيراً، وشملت قارات العالم كله، وبهذا فإن الأنظمة الغربية حولتْ العالمَ إلى تابع لها، فما عادت القوانينُ المتعلقة ببنيةٍ اقتصادية ضيقة تشمل غرب أوربا بمماثلة لسوق كونية. وبهذا فإن دورَ الربح الوسطي المتآكلِ والمتدني والمضعفِ لقوى الإنتاج، والذي يعبرُ عن مجتمع واحد لا امتداد متوسع له، والمحكوم بآلية اقتصادية غدت ميكانيكية في رؤية ماركس؛ إن هذا الربح المتراجع تلاشى، وظهرت آفاقٌ لا تحدُ من الأرباح!
لقد توسعت الشركاتُ الغربية، ووجدت عالماً فقيراً تابعاً يمدها بالمواد الخام، وأسواقاً كبرى، ووجدت قوى عمل هائلة في الشرق، بأجورٍ شديدة الانحفاض وهذا هيأ لها الانتقال من عالم الثورة التقنية الميكانيكية إلى عالم الثورة المعلوماتية.
فمن المصانع الكبرى والتلوث وثورة الحديد والفولاذ والمدن المكتظة إلى عالم الأجهزة الدقيقة والكومبيوتر وثورات الفيزياء والكيمياء وتصنيع الزراعة والثورة البيولوجية وغزو الفضاء الخ.
ومن بعد الحرب العالمية الثانية توافقت الرأسماليات الغربية على منظومة واحدة، تجعل الصراع بينها سلمياً، تقنياً، وعبر غزو الأسواق الأخرى وهذا يعني مزيداً من التغيير في السلع والتقنية.
إن رأسمالية كارل ماركس القديمة لم تعد تحكمها قوانين الربح الوسطي وعجز القوى الإنتاجية، لكن تحكمها قوانينُ العالم الواحد الذي صار كتلةً اقتصادية واحدة، متعددةَ المستويات؛ غربٌ غنٌّي مسيطرٌ وشرقٌ ناهض، ذو آفاق في الرأسمالية أكثر توسعاً وتقنية وفتوة وأقل تكلفة من رأسمالية الغرب الكهل.
ظهرت قوانينٌ جديدةٌ للرأسماليات الكونية، رأسماليةٌ غربية حرة قديمة وذات مستوى عريق من التقنية والمستوى المعيشي الجيد ومن السيطرة على البيئة، ورأسماليات شرقية متنوعة تسودُ فيها الحكوماتُ المسيطرة والمتحكمة في الإنتاج والتي تقومُ بالتخطيط وبفتحِ الأسواق معاً، وهذا بسبب تأخر نمو هذه الرأسماليات وبضعف وعي الشعوب وتراثها الاجتماعي المحافظ، مما يجعل الصناعة بأجور شديدة الانخفاض وبدون شروط بيئية كبيرة، وهذا أدى كذلك لنقل صناعات كبيرة إلى الدول ذات النمو المتسارع كالصين والهند وشرق وجنوب آسيا.
فنهضت هذه الرأسماليات الشرقية نهوضاً لا سابق له، بسبب اتساع أسواقها وعوز أهلها وضخامة أعدادهم وكبر ساعات العمل فيها، وجلبها للتقنيات الغربية التي تعبتْ فيها الدولُ الغربية، فحصدتْ مكاسباً من التطور العالمي متنوعةً، وبهذا قامت بغزو أسواق المسيطرين السابقين عليها وانتزعت منهم الأرباح في عقر دارهم.
إنها رأسمالياتٌ كونية متعددة الأقطاب، متنوعة المستويات، وهذا لا يمنع من بقاء التناقض الكبير بين مستويات الغرب والشرق.
فرأسمالياتُ الغرب لديها كذلك عمقها التقني ولشعوبها مستويات حضارية أكبر، وهي لا تزال مسيطرةً على ثروات كبيرة من الشرق، خاصةً من المناطق الضعيفة التطور، والتي لا تزال تقدمُ الموادَ الخام وليس في شعوبها تطور صناعي أو تقدم تقني كبيرين.
ولكن العالم كله تشمله رأسماليات متعددة، مُقادة من الغرب، الذي لم تعد تناقضات كارل ماركس الاجتماعية تجري فيه بتلك الصورة المبسطة، ولكنه لم يخرج من ذلك التناقض المحوري بين البرجوازية والبروليتاريا، وهي برجوازية اصبحت ذات سيطرة عالمية، والبروليتاريا لم تعد البروليتاريا الصناعية المدقعة الفقر، بل تطورت مادياً ومعرفياً، وظهرت بروليتاريا جديدة ذات معرفة تقنية، وانتقل عصبُ قوةِ العمل إلى الدماغ بدلاً من التركيز على اليد كما كان سابقاً، فهي بروليتاريا مثقفة تتطلعُ لمستوى معيشة مرتفع، وتجمع في نضالها بين ورقة الانتخاب والأضرابات الاقتصادية المؤثرة، وآفاق تطور هذه الطبقات العاملة كبير، ليس على مستوى العمل الاقتصادي بل كذلك في دورها السياسي، وفي تغييرها لحياة الاستغلال والثقافة المحافظة، ولا يستبعد في العقود التالية أن تحكم عبر أحزاب ووزارات.
أما البروليتاريا الرثة المدقعة فقراً ذات العمل اليدوي فانتقلت إلى الشرق وأمريكا اللاتينية. إن برجوازيات الغرب تنقل مخلفاتها الصناعية إلى الشرق كما تنقل الوظائف الدنيا في مجتمعاتها، أو تستورد العمالة اليدوية المتدنية، فتصاعد التناقض بين الشرق والغرب وغدا كتناقض كبير يحكم العالم، فغدا سكان العالم الثالث كبروليتاريا عالمية متدنية الأجور وتعيش في أوضاع سيئة وبخدمات رثة، وبدت الفروق بين الأجور والظروف على مستوى العالم مخيفة.
وبدت سيطرة الدول دائم العضوية ودول الشرطي العالمي الغربية كجهاز عسكري يؤبد الفروق بين التكوينين المختلفين ولا يبحث هذه الفروق التناقضية الخطيرة ويحلها.
إن التطور الرأسمالي العاصف خلال القرن الجديد سيكون ذا احتمالات خطيرة، وستظهر رأسمالياتٌ شرقية كبرى تريد أسواقاً وموادا متناقصة باستمرار، ولا يستطيع هذا العالم المكتظ بهذه الرأسماليات المتصارعة إلاستمرار إلا عبر تغييره وتشكيل مجتمعات إشتراكية ديمقراطية تنقله إلى تعاون إنساني أرقى.

جانبا التشكيلة يمرضان

مفكرو الرأسمالية والماركسية كانوا في صراعهم المطلق ضد بعضهم بعضا يقعون بين تضاريس لحظات تاريخية محدودة ونسبية في فهم نمو التشكيلة الرأسمالية وتناقضاتها، فكانوا ينفون بعضهم بعضاً، لكونهم رأوا خواص أيديولوجية لا حركةً تاريخية مفتوحة، وأسقطوا مصالح قومياتهم ونخبها العليا على الواقع الحقيقي.
رأوا رأسماليات حكومية شرقية فتصوروها اشتراكيةً قادرةً على إكتساح أنظمة استغلالية وتقديم البديل، فيما رأى الآخرون أن رأسماليات الشرق الحكومية التي أسموها شيوعية، تستغللا المنتجين لصالح بيروقراطيات فاسدة، وشمولية، تتفاقم أزماتُها في نهاية المطاف، لكنها أزمات بنيوية كاسحة لا أزمات الغرب المؤقتة التي يتعافى منها ويصير أقوى.
هنا رأسمالياتٌ شرقيةٌ بدائية متدرجة وهناك رأسمالياتٌ متطورة بفضل الاستنزاف الكبير للأولى.
كان أي انهيار وضعف لأي من الجانبين هو في التصور السائد في الحرب الباردة هو لصالح الرأسمالية الأخرى لكونها هي الباقية والأخرى عابرة.
وكما يقول المفكر الألماني مانهايم ناقداً:
(الماركسية تركيبٌ بين الحدسية وأقصى إرادة العقلنة). أي أن الماركسية هي كذلك بها نسبةٌ من اللاعقلانية، خاصة حين تغيبُ الأبحاثُ الاجتماعية الدقيقة، وهذا كلامٌ قيل قبل عقود طويلة، قبل أن تظهر الماوية وبول بوت، فمن دون ترافق بين الماركسية والأبحاث الموضوعية تتحول إلى لاعقلانية، وتسكنها الأوهامُ الفكريةُ ثم المغامراتُ السياسية الخطِرة. وهذا أمرٌ مطروحٌ في كافة الأفكار والأيديولوجيات بما فيها الرأسمالية الغربية.
الحدسية تَنتجُ من عدم تراكم التجارب الاجتماعية العقلانية في مجتمع ديمقراطي حر، فتقوم الأجهزةُ بقفزة في الاحتمالات غير الواضحة.
والحدسية هي شكلٌ من الوعي غيبي غيرُ محددٍ علمياً، بسبب تصورها إمكانية قيام نظام اشتراكي في التشيكلة الرأسمالية، فهي تشكيلةُ نقدٍ وفائض قيمة ودولٍ واستغلال وأجراء وإدارات متنفذة فكيف تكونُ الاشتراكيةُ ممكنةً فيها؟ لكن حين تكون الاشتراكية سياسات وليستْ نظاماً وتتشكل لدعم مصالح المنتجين وقد تبنتها الأحزابُ في حراكٍ ديمقراطي ونفذتها وصعّدتها على مر السنين تكون تلك هي الاشتراكية، وهي الاصلاحاتُ المكرسة للعاملين والأنظمة التي تتغير مع مرور العقود.
إرادة العقلنة تتناقض مع الغيبية والحدسية والأفكار غير المجربة المدروسة، سواءً أكانت اشتراكية أم رأسمالية شرقية رافضةً لأسس التشكيلة، ويكون نتاج ذلك فوضى ومشكلات لاعقلانية هائلة. مثلها مثل الأنظمة الدينية العربية والاسلامية تتصور أن تصوراتها الأيديولوجية باقيةٌ بشكل مطلق، وأنها قادرة على الخلود بسبب تلك الآراء، وليس من خلال علوم الحساب وفحوص الأبحاث الاجتماعية.
بعضُ غيبياتِها تحولهُ إلى نظام اجتماعي، وفي هذا لاعقلانية وتجريبية خطِرة، لأن الأنظمةَ يجب أن تستند إلى ما هو مُجرب ودقيق في نتائجه، والمغامرات بالشعوب مكلفة. ونحن نرى الآن في الثورات العربية استفحالَ التجريبية فتختلطُ معها أشد مظاهر الهوس اللاعقلاني!
تصورت بعضُ القوى الغربية أن الرأسمالية مطلقة وذات هيمنة قطبية واحدة في مجتمعاتها وفي العالم، وهو أمرٌ مدمر لها ويسبب عواصف اجتماعية؛ فساد بذخي وضياع ثروات ودفع العالم الثالث للانهيارات الاقتصادية والتغرب والصراعات الدينية، ولكن الاشتراكية الديمقراطية تقدم بديلاً آخر لكلا الجانبين الغرب والشرق، كما يقول مانهايم عبر اعتماد سياسة لصالح الأغلبية الشعبية مستندة الى دراسات العلوم الاجتماعية المُراقِبة والديمقراطية السياسية.
والأبحاثُ الغربية كذلك تسيطر عليها أدلجات مغرضة، ولا تحلل سبب هذه الكوارث المالية وتفاقم الفقر والأمراض في العالم الثالث.
رأسمالية غربية ترحل شرقاً حيث الاستنزاف والأرباح، وعمالة ورساميل ترحل غرباً، وحراك الرساميل هو السائد ذو المصلحة المسيطرة، بينما حراك العمال حراك فقر وبحث عن أجور أفضل، وحمل المعتقدات الدينية من مستوى إلى مستوى آخر مختلف مقلق وقيام اضطرابات عالمية بسبب ذلك.
الرأسماليات الغربية استنزافية للشرق، وتتراكم لديها الفوائض الهائلة، والشرق يفتقر ويضطربُ ويبحث في الاشتراكية مرة والدين مرة، ويعيش حالاتَ جنونٍ اجتماعية واسعة، لأسباب التركيبة العالمية المختلة ولعدم وجود أنظمة غير مؤدلِجة وغير معبرة فعلاً عن درس الأوضاع فيها بموضوعية ومن خلال اليسار واليمين المنتجين المتعاونين، ولأن هذه الأنظمة تخلط بين أوهامها الأيديولوجية والواقع وهذا الخلط هائل وواسع في الشرق.

تناقضات الماركسية – اللينينية

تقوم الأفكار الماركسية اللينينية على التجميع المركب بين فلسفتين متضادتين . إن الماركسية فلسفة ديمقراطية على المستوى الفلسفي وعلى المستوى الاجتماعي، فماركس قام بدراسة قوانين البنية الاجتماعية الرأسمالية وتوصل عبر بحوث مطولة إلى نتائج أوروبية هامة، وحين جسد نتائج هذه الدراسة في العمل السياسي أشار إلى ضرورة العمل النضالي من داخل قوانين هذه البنية واعتبر الاشتراكية تتويجا لذروة التطور التقني والعلمي والأخلاقي والكفاحي داخل هذه المنظومة.
فيما بعد قام شموليو رأسمالية الدولة في روسيا، القوميون الروسيون، كما سيظهرون في المجرى التاريخي لانحلال رأسمالية الدولة الشمولية الروسية، بالجمع بين هذه الماركسية الأوروبية مع استبداد الدولة المركزية، وإنتاج خليط نظري متناقض اسمه (الماركسية – اللينينية).
علينا أن نرى بادئ ذي بدء، أن هذا الجمع المتناقض، هو افتقار هذه الماركسية الأوروبية في نشأتها، إلى أن تكون نظرية إنسانية، أي أن منشأها الأوروبي في غرب أوروبا تحديداً، يمنعها أن تكون نظرة لمختلف التجارب الإنسانية، فلكي تصل أن تكون نظرية إنسانية يلزمها أن تدرس تجارب مختلف الشعوب ومستويات تطورها، وهذا هو الأمر الذي لم يتوافر.
فحتى القوانين الأعم للمادية التاريخية المتعلقة بالتشكيلات: المشاعية، والعبودية، والإقطاع، والرأسمالية، لم تؤخذ عند مثقفي الأمم غير الأوروبية خاصةً كبديهية مُلزمة، وتم رفضها لدى العديد من الباحثين. أي أن نمو الأمم تاريخياً لم يتم التأكد العلمي الكامل منه، وهو يخضع للبحوث المستمرة. ومن هنا فإن هذه التشكيلات رُئيت من خلال التجربة الأوروبية الغربية، التي توفرت لديها أدوات وقوى البحث الكبرى والديمقراطية الثقافية التي أمكن خلالها الوصول إلى قراءات موضوعية لا يكرسها جهازُ سلطةٍ مستبد .
أي أن الماركسية كنظرية أوروبية غربية تشكلت على أرض بحثية ديمقراطية، أما اللينينية فأمرُها يختلف، ومع هذا فإن الماركسية يتجلى جانب القصور فيها في طرحها نفسها كنظرية عالمية، من دون أن تُرفد بتجارب الأمم غير الأوروبية، وبهذا فإن السيادة الأوروبية – الأمريكية على العالم يمكن أن تغدو الماركسية جزءاً منها، وبهذا يصبح اختزال تجارب ومستويات الشعوب غير الأوروبية ممكناً، بفضل هذا التفوق.
إن جرَ الماركسية من إطارها القاري إلى التداول العالمي، سيعضدهُ ولا شك غيابُ الجامعات العلمية التي تدرسُ الماركسية وتفحصها وتنقدها، في العالم الثالث، بحكم اعتبار الماركسية لدى هؤلاء نظرية انقلابية مدمرة مع ارتباطها بالدولة الروسية فيما بعد، وكذلك لتطورات الماركسيات وتناسخاتها في العالم الثالث التي اتحدت مع الأبنية الشمولية.
إن جذر القضية يقع في أزمة روسيا ودول العالم الثالث في الانتقال السلس إلى الرأسمالية، ومن هنا لعبت (اللينينية) باعتبارها الحلقة الأولى في نشر وإفساد الماركسية على المدى العالمي.
وكان الجمع بين النظرة الماركسية كنتاج أوروبي ديمقراطي شعبي؛ وبين الفكر المعارض الروسي، قد كرسته ثقافة روسيا المتخلفة، فعبر هذا المحيط الشمولي تم تداول الماركسية وتصوير خيانة أوروبا الغربية لها، وأمانة روسيا في احتضانها.
فروسيا المتخلفة التي تملك بحراً من الفلاحين هي الجديرة بتطبيق النظرية العمالية الحديثة، في حين أن أوروبا التي تملك ذلك البحر العمالي والعلوم لم ترتفع إلى مستوى تطبيق الماركسية وإنجاز الاشتراكية.
وفي سبيل هذا الزعم ابتكر العقل الشمولي الحكومي الروسي مجموعة من الخرافات (العلمية) لتبرير هذه القفزة غير العقلانية ولحرق المراحل وقيادة العالم الثالث في هذا السبيل الصعب المكلف.
كان من أولى الخرافات (العلمية) التي ابتكرها العقل الشمولي الروسي هي (نظرية الحلقة الأضعف في مسار التطور الرأسمالي)، فقد قام هنا بتعميم المسار الروسي باعتباره مساراً رأسمالياً، في حين أن هذا الوعي الروسي نفسه يضع روسيا في خانة الدول الإقطاعية، وبين المسارين تضيع روسيا.
فأوروبا الغربية حين انتقلت إلي الرأسمالية من الإقطاع احتاجت إلى عشرة قرون، فبدءاً من تفكك الإقطاع وانكسار سطوة البابويه وظهور البروتستانتية، ثم مجيء عصر النهضة، ثم عصر الكشوفات الجغرافية في القرنين الخامس عشر والسادس عشر ثم عصر الثورة الصناعية في القرنين السابع عشر والثامن عشر، فعصر الثورات الرأسمالية والاستعمار في القرنين التاسع عشر والعشرين الخ..
أما روسيا فكانت في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر متحجرة عند الإقطاع وأخذت في القرن العشرين تتململ اجتماعياً لما يمكن أن يُسمي عصر نهضة روسي، وبهذا فإن ثمة بوناً شاسعاً بين إمكانيات أوروبا الغربية وروسيا، وإذا أمكن لأوروبا أن تنتج الماركسية ضمن نظريات علمية عدة، أمكن لروسيا أن تحيل نظرية علمية كالماركسية إلي ايديولوجيا، بمعنى أن تقوم أجهزةُ الدولة بتبني هذه النظرية العلمية وان تخنقها.
فكان على روسيا لتستوعب الماركسية أو أي نظرة علمية أخري أن تتشرب بيئتها الاجتماعية والثقافية الكثير من النظريات والآراء التي تحفرُ في البناء الاجتماعي وتخرجه من التكلس الأبوي والنظام الإقطاعي والأمية الخ٠..
بمعنى أن النظريات العلمية في أوربا الغربية هي تتويجٌ طويلٌ لعصر نهضة أبعد النظرات الدينية الشمولية وحفر تعددية دينية ديمقراطية، وهو أمر على سبيل المثال لم يتم حتى اليوم في روسيا، وتتكرس المسيحية الأرثوذكسية كفكر مسيحي مُغلق، تتماهى فيه الألوهية وتقديس التماثيل والصور وحكم الكنيسة الهائل. وهو ما تحقق في الماركسية – اللينينية على مستوى تحويل الزعماء إلى أيقونات وأصنام للهيمنة على الشعب المقدس لهم.
وعلى مستوى الديمقراطية فلم يجرب الشعب الروسي الانتخابات كشكل أولي من العملية الديمقراطية، فهو من الشعوب المتخلفة المتكتلة وراء القيصر والكنيسة، وكان يحتاج إلى زمن موضوعي لكى يخرج من حالةِ القطيع التاريخي.
لم تقم هذه الرؤية السياسية النخبوية بالحفر في هذه الكتل الشعبية المتخلفة، وهي الإشكالية الكبرى التي تواجهها نظم العالم الثالث كذلك، وسيتم الإبقاء على أبويتها الاجتماعية وتدني مكانة المرأة فيها، وسيطرة المؤسسات الفوقية وضعف وجود الفردية المبدعة الخ..، أي على كل الخصائص السلبية التي أنتجتها أنظمة ما قبل الرأسمالية، المُجسَّدة في روحية القطيع والجمود والحفظ النصوصي.
لم يحدث هذا الحفر النهضوي والديمقراطي وتفجر الفردية وتفكك الكتل الأبوية الإقطاعية، وانغمار البلد بتعددية فكرية وفلسفية واشتراك الجمهور في هذه الاتجاهات والانقلابات الفكرية العميقه، ولهذا فإن المؤسسات السياسية القيصرية القديمة اُستبدلت بسهوله بمؤسسات جديدة، فحدث تغير في الشكل ولم يتغير المضمون.
إن المؤسسات السوفيتية لم تحدث فيها الانتخابات الديمقراطية إلا في توصيل مندوبي الأحزاب، وسرعان ما رُفضت التعددية الحزبية، وهيمن طاقمٌ بيروقراطي واحد، فتم دفن المؤسسة البرلمانية الشعبية والصحافة الحزبية ثم الحرة الخ . .
أي أن البنية المتحولة من الإقطاع إلى الرأسمالية شهدت سيطرة المؤسسات الحكومية مجدداً، فأبقت الكتل الجماهيرية من دون الدخول في عصور النهضة والتنوير والإصلاح الديني والتغيير الديمقراطي الواسع، وبالتالي تم الحفاظ على الطابع (الآسيوي) للجمهور، ولم يتأورب، أي لم يتحدث؛ ولم يُعط الفرصة ليعرف التنوع والحداثة في الأسرة وتنوع الأفكار وفعالية المؤسسات الشعبية الخ..

الليبراليةُ والماركسية

تتناقضُ الليبراليةُ والماركسيةُ تناقضاً نسبياً وليس مطلقاً، مثل قطبي المغناطيس، فهم تزولان معاً كذلك.
مثل طبقتي الإنتاج الرأسماليين والعمال، تتعاونان وتتصارعان وحين يحدث زوالهما تزولان معاً، يصير الناسُ عاملين والإنتاج لهم.
حين يحدث الإلغاء من قبل أحدهما للآخر يتشوهُ كلٌ منهما، فتلغي الليبراليةُ الماركسيةَ عبر القمع ومصادرة الحريات، فتغدو الليبرالية فاسدةً بيروقراطية وتتحلل من الحرية.
وتلغي الماركسيةُ الليبراليةَ حيث تنشئُ رأسماليةَ دولةٍ شمولية فتفتقدُ الحريةَ وتتعفنُ الماركسية.
مثقفون وسياسيون وأرباب عمل أفراد ليبراليون يلغون الماركسيةَ لكن لا يستطيعون، ومثقفون وسياسيون وأرباب عمل حكوميين ماركسيين يلغون الليبراليةَ فلا يستطيعون.
الماركسية والليبرالية تتصارعان وتنفيان بعضهما ولكن في أنظمةٍ غيرِ حرة، إستثنائيةٍ يتصاعدُ فيها الإرهابُ أو القمع، مما يؤدي لصعود قوى أخرى ما قبل الحداثة.
في توسع الحداثة من الغرب للشرق، نحو العالمية تتوسع النظرتان وتتغلغلان في كل مكان وتغيران أساليب الانتاج الحِرفية والمتخلفة والصناعات الملوثة وغير التقنية المتطورة، وكل التيارات ما قبل الحداثة تنصهر فيهما.
عبر القرون يتبدلُ نسيجُ البشرية، وتتفجر مشكلات التحديث التي يُقضى عليها بمزيدٍ من التحديث والعقلانية السياسية والديمقراطية وإنتشار الكشوف العلمية.
الليبرالية المشوهة والماركسية المشوهة نتاجا أنظمةٍ لم يتطور أسلوبُ الإنتاج الحديثِ فيها، تفرضُ أدواتُ التسلطِ الشرقية أو الغربية نفسها فتعرقل التطور، يغدو تداول السلع وتداول السلطة معرقلين بأسباب سياسية متخلفة. يتلكأ تطور قوى الانتاج المادية وقوى الانتاج البشرية.
البشريةُ تغدو منتجين، أو مالكين، وتتعمم التطورات الاقتصادية والتقنية والفكرية والأخلاقية حتى تصير أفقر البلدان منتجة تحديثية، وتصير الكرة الأرضية سوقاً واحدة.
حين تظهر أنظمةٌ تعادي هاتين الفكرتين تكونُ أنظمةَ ما قبل الديمقراطية، تتفجرُ بتناقضاتٍ تهدمها. لا يستطيع أي نظام أن يبقى في ما قبل هذه الثنائية. الذي يبقى يجرفه الأعصارُ التحديثي الصناعي الغامر.
الأسلوب الرأسمالي في عالميته يصلُ لقمة مداه، تصبح كلُ الشعوب منتجةَ السلع التي تفيضُ ويختنقُ الأسلوبُ بشكل تدريجي.
وأي هيمنة من قبل الفكرتين الليبرالية أو الماركسية تغدو تحسينات وإصلاحات، وليس هيمنةً أبدية، فالانطفاءُ تدريجي في الأسلوب الرأسمالي، لهذا فإن دكتاتوريات أي من هاتين الفكرتين هي حرب أهلية وجمود تقني وتوقف عن تطوير قوى الانتاج لكن قوى الانتاج لا تعرف الوقوف.
الليبرالية التي تتعرقل بالشمولية تنقدها وتغيرها الماركسية، والماركسية المتخلفة عن فهم الثورة العالمية الديمقراطية تجرفها الليبرالية.
والشعوبُ المتأخرةُ في الوصول لهذه الثنائية الصراعية الجدلية التعاونية عليها أن تحافظ عليها وعلى تطورها في الاقتصاد والحياة الاجتماعية، لكي تصبح منتجة سلع متطورة.
إلغاء الفكرتين أو أي منهما هي عودة للوراء، لصراع ما قبل الرأسمالية وما قبل الحداثة.
كلٌ من أرباب العمل والعمال مساهمٌ رئيسي في الإنتاج، وكلٌ يلغي الآخر، لكن التطور الحقيقي يعتمد عليهما معاً.
الاستغلالُ مرتبطٌ بتخلف قوى الانتاج والمنتجون القوة الكبيرة فيه، وقوى الإنتاج مرتبطة بالعلوم والتقنيات السابقة والتطور الاقتصادي، ولهذا فإن زوال الاستغلال يتعلق بتطور المنتجين وتحولهم لقوى عاملة علمية متطورة، وهذه قضية تحتاج للكثير من الزمن والتطورات الاجتماعية والاقتصادية.
كما أن الاستغلال مرتبط بالمالكين ونظراتهم ومدى ضخامة ذواتهم وأنانيتهم، وهم يتطورون كذلك لأن الأنانية تذبل، ومشكلاتها تعصفُ بالانتاج، وتسبب الكساد والثورات الاجتماعية والفوضى، ويخفف منها الرقي الثقافي والتطور الأخلاقي، وتصاعدُ دورِ المنتجين في الحكم والحياة الاجتماعية والعلوم، لكن الاستغلال لا يزول إلا مع أسلوب إنتاج جديد ليس فيه عمال أو أرباب عمل.
ينطفئُ هذا الأسلوب مع إختناق التصدير والأسواق، فلا يعود هذا الأسلوب قادراً على البقاء في قادم العقود والقرون فيتحول الناسُ إلى عاملين ومالكين معاً. يتحولون إلى أحرار وذوي نظرة موضوعية، ولا يتصارعون بشكلٍ تناحري، ويكون صراعُهم الأكبر مع الطبيعة ومشكلاتها.
تنطفئُ الليبراليةُ والماركسيةُ معاً، ويتم تجاوزهما معاً مع إنطفاء هذا الأسلوب الصراعي التناحري.
حين تزول الطبقات يزول الوعي الطبقي.

الأديان والماركسية

لا يمكن أن تُفهم الأديان والتراث السابق للبشرية بشكل موضوعي حقيقي إلا من قبل الماركسية. ولكن ليست أي ماركسية، فالماركسية غدت ماركسيات، مثلما أن الإسلام غدا مذاهب وتيارات لا حصر لها.
فالإسلام بكل أطيافه يظل متوحداً في بنية كلاسيكية لم يستطع المنتجون الفكريون والسياسيون المنتمون إليها تغييرها، وليس للإسلام كدين عريض لكي يبقى سوى أن يتحد بالمستقبل والتطور، في حين أن أغلبية المنتجين السابقين يقودونه إلى الماضي ويمنعون مقلديه من المضي إلى الحداثة، لأنهم لا يفهمون تركيبة الإسلام الماضوية الحقيقية.
وقد نظر الدينيون في الغرب والمشرق الإسلامي الى الماركسية باعتبارها أداة هدم وإزالة للأديان، خلطاً منهم بين الماركسية الارادية الذاتية وبين الماركسية الموضوعية، بين الماركسية كما تشكلت في دول الشرق الاستبدادية وبين الماركسية كما تنامت في حقول المعرفة الحديثة.
لقد تشكلت ماركسية القرن التاسع عشر في أوروبا الغربية كتتويج لنزعات التنوير والإلحاد والنضال العمالي ضد الكنيسة وراس المال، بعد أن تم على نحو مهم إبعاد الدين عن العمل السياسي العام، وهي معبرة عن مصالح الطبقة العاملة تحديداً، التي ظلت تعمل من أجلها، فتوجهت للعمل السياسي مشكلة أحزاباً لم تستطع أن تصل إلى السلطة، بحكم أن طبقة رأس المال استطاعت أن تجذر سلطتها في نواحي الحياة كافة.
كما تشكلت أصولُ الماركسية بين نزعات الحداثة المختلفة، التي اتسمت بطابع معرفي متقارب، هو كون نظراتها كما تعتقد هي النظرات الوحيدة الصائبة، فالعقل لديها هو عقلٌ مطلق، وهو العقلُ المطلقُ الذي انتقل إلى روسيا والصين وغيرهما وصار نظاماً اجتماعياً متوحداً بالعقل الديني. فتغدو أحكامها نهائية، من حيث اعتبار دولتها أبدية، وثورتها مطلقة، ونظرتها باقية على مر الزمن.
فتشكلت في العالم المتخلف ماركسية أصولية، فهي تعتمد على أصول أبدية، خارج التاريخ، وهي نظرية تاريخية نسبية! ولا يمكن لهذه الماركسية الأصولية أن تختفي من الأحزاب التى آمنت بها، وهي ذاتها جاءت من مرتكزات دينية، كما لا يمكن بسهولة أن تظهر ماركسية تجديدية تاريخية نسبية، فتعتقد أن ما تقدمه من أطروحات وبرامج شيء نسبي وأن برامجها ونظراتها الفكرية هي نسبية كذلك.
يعوق ذلك الوضعُ الاجتماعي الذي تتشكلُ فيه هذه الأفكار، ومستويات الأعضاء القادمين من بيئات فقيرة محدودة التعليم، ومحدودة القراءة. وهكذا حدث للماركسية ما حدث للأديان، من حيث تفككها إلى مذاهب، فتقومُ كلُ دولة ذات نفوذ كبير، وكل حزب كبير، بصياغة ماركسيته المشكلة على مصالح سلطته، لا على تشكيل عقل ديمقراطي جماعي للتنظيم، نسبي في تاريخه، منفصل عن السلطة المطلقة، وسواء كان دولةً أو جماعة أو ديناً . ومن هنا كانت عبادة الأصنام والمناطق والشخصيات والتجارب، لا باعتبارها تجارب تاريخية نسبية يجب ألا تُعبد.
وهكذا ظهرت الماركسية العربية في تبعية للمراكز الخارجية، إلى أن بدأت تظهر عقولٌ نقديةٌ باحثة، ظلت هي الأخرى تشتغلُ تحت مظلةِ العقل المطلق، عقل الحداثة، لأنها تتصور أن عقلها قادر على إزاحة كل العقول المتخلفة المحيطة، فهو النفي المطلق للدين، والنفي المطلق للاستغلال، والنفي المطلق للقومية.
وحين ظهرت محدوديةُ العقلِ المطلق الماركسي هذا في تجارب روسيا والصين وكوبا الخ.. غدا الشك موجهاً للتطبيقات وللتدخلات العدائية القادمة من الخارج ضد بنيته النقية، وليس في نقد هذا العقل المطلق نفسه، ولعدم اعترافه بنسبيته ومحدوديته في زخم التاريخ.
إن الأنظمةَ والجماعات الدكتاتورية التي شكلت إسلاماً دكتاتورياً بعقل مطلق وأبدي كما حدث ذلك في الماركسية، والإسلام والماركسية كفكرين ثوريين من عصرين مختلفين، يحويان بذور التفكير النضالي الإنسانى بأدوات تعبيرية ومنهجية مختلفة حسب مستوى العصور، لكن الأنظمة والجماعات الشمولية تسيطرُ على ذلك المضمون وتحوله إلى شكلٍ مفرغٍ من دلالاته الكفاحية.
كان الإسلام والمسيحية واليهودية ثورات في أزمنتها وحسب مواقع ومستويات تطور شعوبها التي ظهرت فيها، وكانت الماركسية نظرية للثورة العمالية فى العصر الحديث، لكنها كذلك تحوي نظرة لرؤية العالم مختلفة نوعياً عن طرائق فهم الأديان للعالم.
وبسبب ذلك تشكلت صراعات معقدة بين الأديان والماركسية، وأخذ ذلك مجرى الصراع الإلغائي بين الماركسية المطلقة، أي الماركسية الشمولية، وبين الأديان كما جيرتها الأنظمة الشمولية على مر التاريخ.
إن الأدوات المعرفية والتعبيرية في الأديان هي نتاج تاريخ طويل للبشر، ففكرة الإله الواحد أو فكرة الآلهة المتعددة والأقانيم والأرواح المتحكمة والسماء المسيطرة على الأرض واليوم الآخر والثواب والعقاب الأخروي وغيرها هي أدوات تُفهم على أنحاء مختلفة، ففي حين يفهمها المؤمن بها على أنها أجزاء موضوعية حقيقية من العالم، يفهمها الماركسي على أنها تعبير عميق معقد عن ظروف الشعوب وكفاحاتها المجسدة بالمفاهيم، فاليوم الآخر هو تعبير عن سلطة أخلاقية فوق الزمن، تحاكم المجرمين والاستغلاليين بشكل نهائي وحاسم عما اقترفوه. وبغض النظر عن الغيب والواقع، فإن اليوم الآخر كفكرة حكمت الملايين بضمير أخلاقي وبتفكير في الثواب والعقاب قد هذبت من انحرافاتهم وجرائمهم في وقت ظهرت فيه سلطاتٌ مطلقة تقفز فوق الخير وتتلاعب بالخيرات، وحين تظهر العدمية تجاه الدين فإن غرائز الإنسان تنفلت، ويعتبر نفسه فوق الخير والشر، فلا يؤمن بإله يراقبه، وبضمير يحاسبه، وإذا كانت قوى الاستغلال الشرهة العديمة الضمير لا تؤمن في حقيقة الأمر بإله يراقبها ويحاكمها في خاتمة المطاف، فإن الجمهور يؤمن بذلك، وتدفعه الفكرة إلى التمسك بالأخلاق، بشكل نسبي بين الجماعات والأفراد، حسب مستوى الإيمان بالإله المعبر والمجسد لهذه الأخلاق. وهكذا فإن قوى الاستغلال الدينية والحكومية الشرهة للمال العام والخاص والعدميين التحديثيين الذين يبيعون أنفسهم لمن يدفع، تلتقي كلها في عدم الإيمان بالإله العادل وبالشعب الذي يجب أن يتملك خيراته. إن العدالة الإلهية والديمقراطية الشعبية هما مظهران لمضمون واحد.
إن الثورة الشعبية الإسلامية الذي ظهرت في ظروف إنسانية معينة، تماثل النضالات الشعبية والعمالية في الزمن العربي الحديث، حيث قوانين التحالف الشعبي بين التجار والعمال لتشكيل دول عربية ديمقراطية مطلوبة، للتخلص من عصر تقليدي تفكيكي متخلف سابق.
وإذا كانت أقسام من قوى هذه الثورات تؤمن بالغيب وبالتاريخ الماضي بكل ألوانه وتنغمس فيه لدرجة نسيان الحاضر، فإن أقساماً أخرى تندفع بشدة إلى الحاضر، وترفض الماضي.
لكن شكلي الوعى مختلفان، فالأديان ثمرةٌ لتفكير البشر في ظروفهم ولتغييرها ولكن عبر ركائز غيبية، وتتجسد عبر عبادات ومعاملات، في حين أن الماركسية والآراء الديمقراطية الحديثة وجهات نظر دنيوية منقطعة عن الغيب وما بعد الطبيعة، وتسعى لتغيير حياة البشر كذلك.
وإذا كانت الماركسية الأصولية توحدت مع منهج الأديان محولة نفسها إلى بناء كلي وسيطرة شاملة، فإن الأديان كما صاغتها قوى الاستغلال عبر مئات السنين السابقة، كانت مثل ذلك، وليس الأمر يعود لبنائي التفكير المختلفين بل للبناء الاجتماعى السياسى الشمولي الذي يحول كل فكرة سواء أكانت دينية أم حديثة إلى شكل للسيطرة المغلقة.
وهو أمرٌ لا يتبدى في الدول بل في الجماعات والأسر والتكوينات الفكرية والثقافية، فالماعون الفاسد يفسد كل الطبخات. لأنه ماعون يقوم على ذلك العقل المطلق الذي يعتقد انه كل الوعي والوجود والمصير. ومن هنا تتحول الكتب الدينية والسياسية الحديثة إلى كلمة أخيرة للإنسان.
وتحوّل قوى الاستغلال الحكومية – الدينية الثقافةَ إلى بناء يلغي كل أسئلة الإنسان؛ ويحول حياته وإجاباته ونمط عيشه إلى طقوس لا تخرق، لكن التغيير يشق طريقه سواء عبر كنسية التضامن البولندية العمالية أم عبر أفكار اليسار اللاتينى، فالجمهور يبحث عمّن يدافع عن مصالحه التي تُخنق عبر مؤسسات الإفقار والقمع الشاملة، ثم يدرك الجمهور أن قوى الكنسية غير قادرة على النضال من أجل العمال، كما تدرك شعوب أمريكا اللاتينية ضرورة وجود برجوازية حرة صناعية مستقلة عن هيمنة أمريكا الشمالية بضرورة تصفية إرث الإقطاع في الملكيات الكبيرة الريفية.
إن الجمهور يتحرك ضمن إرثه الديني ثم يكتشف عبر معاركه الاجتماعية أهمية التركيز على فهم الواقع، ورؤية مشكلات الاقتصاد الحديث، ولكنه كذلك يحتفظ بدينه ويحافظ على صلواته!
إن الأديان والماركسية والتوجهات الديمقراطية الحديثة عموماً تتعاون على تغيير حياة إنسان هذا العصر، عبر مناهج مختلفة، وتغدو مقاربات متعددة، وعقول نسبية، يحتفظ كل منها بمساراته وفضاءاته الفكرية متعاوناً على ما هو مشترك ومعوق للناس.

الإمبريالية والماركسية

إن ظهور الاستفادة الواسعة من قبل الإمبريالية للماركسية هو ما يمثل المفارقة التاريخية الكبيرة، حين عجز (الماركسيون) عن الاستفادة من نظريتهم.
لقد أصبحت رؤية الماركسية في صراع الطبقات وظهور التشكيلات ورؤية القوانين الموضوعية للتطور الاجتماعي، حقيقة لا يجادل فيها إلا أناسٌ خارج العصر، وغدت هذه مادة إجبارية في الجامعات الغربية، بعد أن عجزت البنيويات والتخريفات كافة في تفسير الصراعات السياسية والاجتماعية، وما غياب الماركسية عن الجامعات العربية والإسلامية إلا فى عجز العقول العربية الرسمية المتخلفة عن الاستفادة من الحداثة الحقيقية.
واعتراف الإمبريالية الامريكية بالماركسية حزباً سياسياً ونظرية، يجيء منذ ان رفع الرئيس كلينتون يديه عن العقل الأمريكي الشمولي واعترف بأن الماركسية تشكل قوة فكرية كبرى في العالم المعاصر وأن التقدميين فى الولايات المتحدة هم حزب شرعي.
ولعل فى غياب المنظومة «الاشتراكية» سبباً آخر في الحيوية الفكرية التي عادت إليها هذه النظرية بعد أن فشل الاستبداد القومي الروسي فى تدجين هذه النظرية لمواصفاته المتخلفة، ولهيمنته السياسية.
لقد استفاد الإمبرياليون من الماركسية أكثر من الماركسيين، وخاصة في مسألة التشكيلة، ولهذا أدركوا أهمية أن يتجاوز العرب المنظومة الإقطاعية التي تهيمن عليهم، وذلك لمصلحتهم ولهيمنتهم في السوق.
إن صراع الرأسمالية الأمريكية الرئيسي ليس مع التقدميين العرب أو مع المتخلفين منهم، أو مع إيران أو غيرها من دول المنطقة، فصراعهم الرئيسي هو مع اليابان واوربا الغربية.
تمثل اليابان وأوربا الغربية، 15% و١٦% من إنتاج العالم الصناعي، والولايات المتحدة ٢٩% من إنتاج العالم، أي أن الولايات المتحدة تقوم بسياستها الحربية فى توسيع الأسواق أمامها خوفاً من العملاقين الآخرين، وقد قرأت النظرية الاجتماعية وعكف خبراؤها على التحول إلى«ماركسيين إمبرياليين»، أي أنهم يستفيدون من قراءتهم لظواهر التطور والصراع الاجتماعي بموضوعية، ولكن ليوظفوها لمصلحتهم الطبقية.
ولهذا ليس ثمة إثم سياسي في اتفاق التقدميين العرب أو الدينيين، مع هذه الإمبريالية إذا كانوا يعملون من أجل إحداث تقدم للعرب والمسلمين، وفي النهاية يريدون التخلص كذلك من هذه الهيمنة الاجنبية.
إن الاتفاقات المرحلية إذا كان خيرها واضحاً جلياً، وباطنها مختلفا عليه وخاضعا للمستقبل ولميزان القوى، فهي اتفاقات إيجابية، لأنها تجعل العرب والمسلمين في القطر المعني بحالة أقوى وأكثر عدة للتصدي لعدوهم، فيما لو كانوا خاضعين لنظام دكتاتوري دموي مدمر لقواهم.
إن العرب أو إخوتهم من القوميات الأخرى التي تشاركهم الوطن، ليسوا معنيين بتطبيق أهداف الإمبريالية أو الماركسية، بل بشق طريق نهضوي ديمقراطي يوحد قواهم في كل قطر، ويتجاوز الطائفيات، وهذا لن يتحقق إلا بنظام رأسمالي ديمقراطي، يقوده الغربيون للاسف الآن!

تآكلُ الماركسيةِ في البحرين

كان الشكلُ الأولي لتآكلِ الماركسية في البحرين شيعياً. فالانقسامُ الفارسي العربي الذي كان يحفرُ على مدى قرون بين الضفتين الشرقية والغربية للخليج، بين الطائفتين الشيعية والسنية، ظهرَ مُجدداً وبقوة عبر ولاية الفقيه. كانت ولايةُ الفقيهِ شكلاً متخلفاً للقومية الفارسية وهي تظهرُ مجدداً من خلال عباءة الدين وهذا ما جعل الفئاتُ الريفيةُ المحافظة المتخلفة سياسياً واجتماعياً تقودُ العملية التحولية الجديدة، وكان الشكلُ الديني هو بالضرورة عودةٌ إلى الوراء، إلى زمنية الإقطاع، والصراعات المذهبية بين الدول الإسلامية وتجميد تطور المجتمع الإيراني الحر.
وهكذا فإن تسربَ ولاية الفقيه في حركاتٍ مختلفةٍ بحرينية منذ الثمانينيات من القرن العشرين كانت تصطدمُ بالمحافظة السياسية المذهبية السنية بالضرورة. حيث ليس في داخلها مضمون ديمقراطي وطني، وليس في قدرتها الانفتاح وتكوين شيء مستقبلي توحيدي بما أنها ماضٍ، وأوجاعٌ قديمة تُستعاد، ومظاهر طائفية اجتماعية تُسترجع، وأوراقٌ صفراء تُنشر، وأساطير تُقرأ ثانية، وأشكال عبادية تغدو روابطَ سياسية.
ليس في إمكان مثل هذه العودة أن تتلاقح مع طوائف إسلامية أخرى، إلا عبر خضوعها لها، وليس في إمكانها أن تنتج ديمقراطيةً وتحديثاً، ولهذا تقيمُ حواجزَ وتصعد حزازات ومخاوف لدى الطوائف الأخرى.
ولهذا فإن تسييس هذه الولاية أو هذه العودة لأقسام الطائفة السياسية للعصور العتيقة لا تنفعُ فيها طلاءاتٌ سياسية فوقية.
وحين تقبلُ المنظماتُ الوطنيةُ البحرينية في المنفى أولاً هذه العودة وتدخلها في البيتِ الوطني وتعملُ معها، يبدأ مسلسلُ انهيارِ الإيديولوجيات التحديثيةِ المبحرنة خلال عقود.
إن ولايةَ الفقيه تبدأ في تحطيم مشروع إيران التحديثي العلماني الديمقراطي الداخلي أولاً ولا تقبلُ بالتالي تأثيرات تحديثيةً وعلاقات أخويةً في السياسة الخارجية، تصبحُ السياسةُ الداخلية والخارجيةُ وجهين لعملة الدكتاتورية الطائفية، ومن يدور في فلكها يغدو جزءًا منها، ومظهراً من تجلياتها بالضرورة.
وهكذا غدت الأعمالُ المشتركة مع المنظمات الطائفية السياسية من الاتجاه الشيعي هدماً لداخل المنظمات الوطنية، التي كانت في حالةِ تآكل على مدى طويل.
إن الجيلَ الأول التحديثي من المنظمات الوطنية البحرينية يغلبُ عليه الانتماءُ القومي العلماني التنويري عامة، وكان انتماء أهم قياداتها إلى الطائفة السنية، وإلى المناطق المدنية، جزءًا من القيادة التحديثية لمشروع البحرين التحولي العميق الذي تقلقل بعد ذلك.
لكن هذا الجيل يتآكل نظرياً وسياسياً، ويعجزُ عن فهم الماركسية وتطويرها خاصة، والجيل التالي الأكثر فهماً لها يتآكلُ عملياً، والتطورُ النوعي الواسع للأعضاء لا يحدث، وتصبحُ القواعدُ شيعية أكثر فأكثر. لأن الزخم الجماهيري يتوجه نحوها، لهذا تغدو قياداتُ الانقسام والانتماء لولاية الفقيه تتويجاً لهذا التحلل.
لكن لماذا يصير زمن الانفتاج والوعود الديمقراطية زمن الطائفية السياسية المتصاعدة؟!
كانت إعادة تشكيل الجماعات وخاصة الجماعة الماركسية عفوياً وتجميعاً للعضوية غير الرسمية وغير المتطورة على مدى سنوات، ولكل من كانت له صلة، رغم تقطع الصلات وذوبان السمات النضالية خلال سنوات الابتعاد وعدم تطبيق الشعارات والبرنامج السياسي.
لم تكن الإعادةُ في بدء الانفتاح بحثاً عن العضوية المميزة والشخصيات النوعية القليلة ولكن المعبرة عن التجربة التراكمية النضالية لعقود، بل للتجميع العشوائي، ولهذا فإن هذه العضويةَ الهشةَ الواسعة، ما كان لها أن تصمد أمام الاختراقات السياسية الطائفية المنتشرة بقوة.
في هذه الفترة كان الاختراقُ الطائفي الشيعي السياسي هو الأول. فبعد فتح الباب له من قبل قياداتِ الجيل الأول وعدم فهمه وحصاره، تسربت مفاهيمُهُ إلى دواخل الجماعات التحديثية، ولكن كانت المشاركة في الدورة الأولى للبرلمان البحريني من قبل اليسار ورفض المقاطعة دليل على بقاء حسٍّ سياسي مميز كان لا يزال وقتئذ، كما أن مشروع دولة ولاية الفقيه البحريني لم يكتمل بعد، حتى تفجر في (الربيع العربي).
وقد بين ذلك عدم القدرة على خرق جدران الجماعة المغلقة لتشكيل مجتمع ديمقراطي وطني. الأمر الذي انعكس على تمزق الجماعة الماركسية طائفياً وتمايزها شيعياً وسنياً.
والشكل السني تصاعد هو الآخر بعد هذه السيطرة، تعبيراً عن تحلل واسع للجماعة ليقوم بنفس الآلية تحت إطار مذهبه. وسوف يعتمد على مقاربة الدولة ومؤسساتها، والتداخل مع الجماعات الطائفية السنية، وغالباً ما يجري طرح الحداثة والسمات الحضارية هنا لكنها غير مكتملة فشرطُ العلمانية المحوري يُرفضُ بقوة، ولهذا نجد اتحاداً نقابياً شيعياً في مواجهة اتحاد نقابي سني.
ويُفترض عدم تمزيق حتى الروابط الهشة بين الجماعة، وإعادة النظر في كل هذا التاريخ، وعدم القيام بنفس الطائفية السياسية بشكل سني هذه المرة، وإعادة اللحمة وكتابة دراسات حول مختلف جوانب الحياة الاجتماعية، وإثراء الوعي الوطني والإعلاء من سمات الحداثة وخاصة العلمانية والديمقراطية والوطنية.

الماركسية الرسمية والماركسية الديمقراطية

ككل دين وفكرة كبرى مرت بها البشرية وخاضت بها حروب التغيير تعرضت الماركسية لما تعرض له غيرها من المبادئ الإنسانية المصيرية، فانقسمت إلى مبادئ رسمية ومبادئ شعبية معارضة.
كل دين وكل فكرة عظمي نبيلة فجرت طاقات القبائل والأمم والشعوب ونقلتها من مرحلة إلى مرحلة أرقى، واتحدت بدولة وغرقت في الدفاع عنها، تتجه هذه الفكرة إلي الاحتضار والتشوه.
كل فكرة كبرى قالت: انها خاتمة التاريخ وإنها سوف تزيل المظالم وتحل العدل الأبدي، وجعلت من الحكم الأبدي على ظهور الناس جسراً لها، تذوي وتنقسم.
ولكن في حالة الماركسية كانت الأمور أكثر خبثأ، وتركيباً، فهنا كانت العدالة المطلقة مبنية فوق نظريات علمية، ودراسات عميقة للمجتمعات، وقد أنجزت هذه النظرية تحولاً كونياً حقيقياً، جعلت مليارات بشرية تنتقل من عصور إلي عصور، وأرياف شاسعة في آسيا تتحضر وتتعلم وصناعات عملاقة تنتشر، ولكن الماركسية تحولت إلي أيديولوجية حكم تبرر وأداة تسلط، فغدت هذه الماركسية المضادة للاستغلال تؤدلج استغلال الإدارات البيروقراطية والحزبية، وتفرمل التحليلات الموضوعية للمجتمع، والأحزاب؛ وما كان أداة ثورة صار أداة للمحافظة، وما كان وسيلة للعلم صار قوة تفرغ العلم من محتواه النقدي.
لكن الماركسية التي تعرضت للخراب النظري في البلدان الاشتراكية لم تمت، ففي أوروبا الغربية وأمريكا معقل الرأسمالية، كانت الماركسية الديمقراطية تنمو في الأحزاب والجامعات، وغدت الأخيرة معقلا لعلماء وباحثين وإنجازات فكرية، وهكذا أدى سقوط المعسكر الاشتراكي إلي انتعاش الماركسية، التي نفضت عنها ملابس القياصرة الحمر، واستبدلت دكتاتورية البروليتاريا بالتعددية، والحقيقة الأخيرة بالحقيقة الموضوعية المتنامية.
ولكن أطقم الماركسيات الرسمية المستولين على الأحزاب في العالم ليس من السهل أن تستسلم لتيار الزمن، وقد اتحدت مع سلطات وقوى بسطاء محدودة المعرفة، وكانت وحدتها مع أجهزة بيروقراطية وسياسية شمولية، جعلتها تتجمد في إنتاج الشعارات وإعادة المعرفة القديمة، فهذه القوى التي غدت شمولية، كان لا بد أن تحافظ على سمات أيديولوجية تراها مقدسة.
وكان هذا من الناحية الشعبية، مرتبطاً بقوى عمالية قديمة، هي البروليتاريا الصناعية، التي تشكلت على قواعد الصناعة الثقيلة والعمل اليدوي الواسع، والتي راحت تتغير بعد الحرب العالمية الثانية مع نمو الثورة التقنية والعلمية والمعلوماتية، بحيث أصبحت قوى العاملين مكونة بشكل كبير من فئات المهندسين والفنيين المختلفة.
كما أن رأسماليات الدول القومية «المعسكر الاشتراكي» وصلت إلي حالات التشبع الصناعي الكلاسيكي، وتطلبت عمليات تجديد تقنية وديمقراطية واسعة.
وإذا كانت الماركسية الديمقراطية في الغرب قد واصلت أبحاثها وعملها التعددي إلا أنها لم تستطع أن تعيد النظر في إنتاج الماركسية، وكانت محاولة جارودي في «ماركسية القرن العشرين» محاولة عودة لفكر إنساني ليبرالي أكثر منها إعادة نظر في الماركسية وتجديد لها.
وكانت آراء جورباتشوف في البيرسترويكا محاولة لتجديد نظام رأسمالية الدولة، عبر الاعتقاد أنه نظام اشتراكي لا تنقصه سوى الديمقراطية، ولكن الواقع المرير كشف غير ذلك، واتجه الأمر إلى الجهة المعاكسة وهي دكتاتورية رأسمالية الدولة والرأسمالية الخاصة المشتركة.
محاولات الجمع بين الماركسية وأنظمة سيطرة مطلقة لن تنجح، والآن تتحرر هذه النظرية من هذه الهيمنة ومن اسمها الشخصي، لتصير مناهج موضوعية في قراءة الحياة وتغيرها.

من تجربة اليسار العراقي : سفر ومحطات لــ شوكت خزندار

من تجربة اليسار العراقي

في كتابه (سفر ومحطات) يقدمُ لنا المناضلُ العراقي شوكت خزندار موادَ تجربةٍ ضخمة، وليس هذا بغريبٍ على العراقيين الذين إهتموا بتجربتهم السياسية إهتماماً كبيراً رغم الإهمال الطويل الذي جرى لها في عقود سابقة، بسببِ كونها تجربة غنية بالملاحم النضالية وبالأخطاء الجسيمة كذلك وتعكس مستوى من مستويات تطور اليسار العربي في أكثر أشكاله درامية وخصوبة.
كوّنَ الباحثُ المؤلفُ مادتَهُ من عصارةِ حياته، فكان يجمع خيوطها الطيفية من الذكريات والمراجعات، ثم وجد في خضم الصراعات إن مادة تاريخ حزبه؛ الحزب الشيوعي العراقي، هي نفسها تتعرضُ للتشويه والتأويلات المختلفة وللحرق والإزالة.
إستطاع أن يكّونَ هذه المادةَ التي تغدو هي بحدِ ذاتها شهادة نضال، بسببِ إصرارهِ على البقاءِ في التنظيم رغم كل العواصف، وجمع مواد التاريخ من خلال الوثائق، فوجوده في إدارة مهمات التنظيم من طباعة وأرشفة وتنظيم للاجتماعات وللجان التحقيق وغيرها جعلته في قلب الأحداث وفهم القادة والأعضاء ومسار تاريخ الحزب حسب إجتهاده.
وتم ذلك منذ بداية الخمسينيات حتى الثمانينيات من القرن العشرين، وهي فترةُ عقودٍ إشتغلَّ فيها بشكلٍ يومي داخل العراق وخارجه عبر السفر في البلدان العربية والاتحاد السوفيتي وأوربا، وقريباً من قيادة التنظيم وقواعده، فشهدَ صعوده وشهد هبوطه، شاركَ في السجون التي تسلطت عليه، وراقب حملات القمع التي قام بها الحزبُ ضد الآخرين كذلك، عملَ لإنتاجِ ورقهِ المضيءِ لتبصير الناس بأوضاعهم وحقوقهم، وأوقف كتباً ومنشورات هجمت عليها رقاباتُ الأنظمة ورقابة حزبه كذلك.
إنه راوٍ موضوعي بأسلوب ابن البلد الصنايعي، ويقدمُ روايتَهُ التي جمعها بذلك الصبر الأسطوري كمادةٍ قابلة لمختلفِ الطعون، بل يقومُ بعرضِها قبل النشر ليعلق عليها بعضُ رفاقه مؤيدين أو منتقدين عباراته، ويحملُها كلَ هجومه الضاري على قيادة الحزب خاصة الأمين العام السابق لهذا الحزب وهو الأستاذ عزيز محمد وأمينه العام الحالي كذلك الأستاذ حميد موسى وهما معروفان في الساحة السياسية العربية والعالمية.
إن موضوعيته الروائية تكمنُ في تقديمهِ المادةَ الخامَ التي جرتْ فيها الأحداث، وهو فيها شاهد عيان فإذا لم يكن شاهد عيان لا يقوم بعرضها إلا من خلال راوٍ آخر محدد الأسم.
يعرضُ في هذه المذكرات شخصياتٍ شهيرةً كعبدالكريم قاسم وصدام حسين وعبدالسلام عارف إضافة طبعاً لقيادات الحزب الشيوعي العراقي.
وهو ينطلقُ من هذه الإيديولوجية الماركسية – اللينينية التي ثبتَّ تناقضها التركيبي، دون أن يهتم بهذا التناقض التركيبي، والكتاب كُتب قبلَ وبعد إنهيار الاتحاد السوفيتي والرأسماليات الحكومية الشرقية الأخرى.
وهو كشغيلٍ ومالكٍ صغيرٍ عاشَ في ظروفِ العاملين بعيشهم الصعب المحدود وفي تفتح هذا العيش خاصة حين يرتبط بقوى الدولةِ ذات الموارد، وعبر المادة الفكرية الأسلوبية المتاحة لهذه الفئات، وبالتالي فإن ما يرويه هو المادة الخام النضالية التي من الممكن الاستفادة منها لدرس هذه التجربة وما يماثلها كذلك من تجارب.
إن المنطلقَ الفكري يحددُ طبيعةَ المادةَ المعروضة، بل هو يحددُ التجربةَ وتناقضاتها، غيرَ المرئية لمثل هذا الوعي، فهو يبقى على سطوحِ هذه المادة، ويعرضُ تأزماتها وسيرورتها كأخطاءِ قياداتٍ إنتهازية، حادت عن (الحقيقة) المتمثلة بذلك المنطلق الماركسي – اللينيني، وليس أن وعيَهُ لم يقرأ تناقضات الواقع والطبقات والفئات وصراعها.
(الحقيقة) بدأت من لينين وثورته (الإشتراكية)وأقتبسها قائدٌ آخر هو فهد وحاولَ إعادةَ تطبيقها في الواقع العراقي، والاشتراكية قادمة من كارل ماركس بأوربا، يقول الأستاذ شوكت خازندار في تحديده للتجربة الإشتراكية:
(صحيح كان في الاتحاد السوفياتي بطالة مقنعة ولكن في النهاية الكل يعمل ولم نجد إنساناً تحت خط الفقر. ولم نجد أيضاً في الاتحاد السوفياتي مواطن(؟) يبحث عن وجبة طعامه داخل القمامة كما هو الحال في الولايات المتحدة الأمريكية؟!)، ص222، دار الكنوز، بيروت.
قراءةُ المناضلِ العراقي تقفُ فوق سطوح الظواهر، وسنحاول هنا أن نقرأ تناقضات هذا الوعي عبر هذه العروض للأمثلة مخترقينها نحو السببيات البعيدة، فالعديد من الأفكار تقف عند الظاهر، المرئي المحدود، فكان ينبغي للنص أن يتساءل عن الأسباب العميقة لسقوط (الاشتراكية) ولماذا زالت قيادة العمال ولم يزل الإستغلال وإستمرت هيمنة الإدارات الحكومية البيروقراطية التي تعالت داخل التجربة السوفيتية وتحولت إلى القوارض الداخلية لفائض القيمة العام وحولته إلى منشآت رأسمالية خاصة. كانت السمات الإيجابية التحويلية(الإشتراكية) في بدايات التجربة وبعدئذ ذابت هذه القيادة وذابت الجماعية والسوفيتيات. ولا بد أن نقرأ لاحقاً هذا التداخل بين التجربتين العراقية والسوفيتية، بين ما هو وطني وما هو عالمي، وكيف قادت عمليتا الترابط والتداخل إلى نخر التجربتين معاً.
إذن لم يقتبسْ فهد الاشتراكيةَ لكنه إقتبسَ مشروع الرأسمالية الحكومية الروسية، (حسب شعاره لا نريد اشتراكية ديمقراطية بل نريد شيوعية)، ولنقلْ بشكلٍ آخر إن فئاتٍ وسطى وعاملة عراقية وعربية وعالمية إقتبست هذا الهيكلَ الرأسمالي العام في ذلك الظرف التاريخ الملتبس الدقيق، وأرادت تطبيقه في بلدان أخرى، وجرى ذلك في هذا الحراك التاريخي التعجيلي بنشر الرأسمالية بوسائل سياسية فإدارية حكومية.
يعبرُ مصطلحُ الماركسية – اللينينية عن هذا التركيب المتضاد، الذي أعتبرهُ كاتبُ كتابِ(سفر ومحطات) مفتاحَ فهمٍ وعرضٍ لتجربة الحزب الشيوعي العراقي، لكنه مفتاح كشف تناقضات التجربة ككلِ أيضاً.
فالماركسيةُ في قمتِها الغربيةِ، أي في نضجِها، أداةُ تحليلٍ موضوعية، ولكن اللينينيةَ إنتقائية، ذاتية، شكلتْ شموليةً سياسيةً قافزةً على التحليل الماركسي للمجتمعات الشرقية.
وقد قادت الأحداثُ التاريخيةُ الأليمة المريرة إلى كشفِ التناقض بين المصطلحين، ليس على المستوى الروسي فحسب، بل على المستوى العراقي، وعلى المستوى العالمي كذلك.
لقد أجرتْ الأحداثُ نفسُها عمليةَ التفكيك، لكن العديدَ من العقولِ المناضلة لم تقمْ بذلك، ولهذا نعودُ إلى المنهجيةِ الأولى وقد تمت تنقيتها من بعض الشوائبِ الاستبدادية الشرقية، مستفيدين كذلك من الجوانبِ الإيجابيةِ من التجربةِ الروسية السوفيتية وبقية منظومة الرأسماليات الحكومية ومن التجاربِ النضالية التي عاشت في مناخها وتأثرت بها إيجاباً وسلباً.
ولكن حين يضيع هذا الخيطُ الأساسي فإن موادَ التجربةِ المُفَّكرِ فيها تضيع، وتضطربُ، وأهم هذه المواد هي مادة من يقودُ الحزبَ، وهو هنا الحزب الشيوعي العراقي؟
إن من يقود هو هذه الفئة الوسطى، هذه الخلية الاجتماعية المُسماة برجوازية صغيرة، وهي التي تتلبسُ معاناةَ العمال والعامة وتريدُ أن تحلَ مشكلاتِها، لكن من خلال سيطرتِها ودكتاتوريِتها هي، لكنها تقولُ إنها دكتاتورية العمال.
ولهذا فإن الحراكَ هو حراكُ هذه الفئة، ويختلف مسارُ قيادةِ البرجوازيةِ الصغيرةِ النهضويةِ اليسارية في الاتحاد السوفيتي عن مسارهِ في العراق، لكنهما يتلاقيان، فقد سبقتْ التجربةُ الروسيةُ وكونتْ نظاماً يُحتذى ويَغمرُ بالمساعدات، وهو نظامٌ غيَّرَ البنيةَ الإقطاعيةَ المتخلفة وشكَّل حداثةً كبيرةً من خلال ذلك النظام الرأسمالي الحكومي، وأراد أن يقودَ النظامَ العالمي، غير معترفٍ بأنهُ جزءٌ من النظام الرأسمالي العالمي ومن الجزء النامي فيه.
هو شكلٌ صاعدٌ من الرأسماليةِ العالمية وتوجه لمقاربتِها بسرعة من ضمن قوانينه ومستواه، وهو شكلٌ أولي من إشتراكيةٍ غيرِ مكتملةٍ ظهرتْ قبل الولادة الطبيعية. أي هو طفولةٌ لإشتراكيةٍ مخنوقةٍ بسبب الدكتاتورية وتخلف قوى الإنتاج التي قامَ عليها.
فتكون ذلك في رأسماليةٍ حكومية تناقضتْ بها السبلُ حتى تمزقت من الداخل.
وأخذ الشيوعيون في العالم الثالث وبعض القوى السياسية الغربية هذا النموذج وجُعل مؤسساً طليعياً. وغدت سياساته الداخلية والخارجية جزءٌ لا ينفصل من النموذج، هذا جزءٌ من وعي طبيعي في ذلك الزمن، ولكن غير الطبيعي هو الإستمرار فيه.
ويعرضُ لنا شوكت خزندار مادةً وفيرةً عن هذه التناقضات في الماضي، وأغلبها تصوير لتبعية هذه الفئة المناضلة العراقية للقيادة الروسية، وهو تعبيرٌ عن مصالح هذه الفئة في الانحياز للقوى الحاكمة السائدة في أغلب المراحل.
ثمة جماعة في التنظيم قاربت الموضوعية في رؤيتها وهي جماعةُ (إتحاد الشغيلة)، (1954) التي رأتْ إن النضالَ والبقاءَ في النظام الملكي وتطويره ديمقراطياً بشكلٍ متصاعد ورفض المغامرات السياسية، هو السبيل الصحيح والعقلاني للحزب.
لكن المؤلفَ والجماعات الأخرى صبوا جام نقدهم عليها وحطموها.
ثمة عوامل عديدة لذلك أهمها تصاعد الدور الروسي داخل الحزب، ودور الجماعات القومية والمذهبية في كراهية نظام ذي علاقة قوية بالغرب وغياب قائد عقلاني في النظام الملكي نفسه، وبعدها تفجرَ العنفُ والانقلابات المتعددة حتى وصل العراق إلى فسيفساء سياسية.
صار الحزب يتبع البوصلة الروسية، فكان عبدالكريم قاسم الزعيم الموتور مقبولاً في خريطتها المعقدة عالمياً، والموجهة لزحزحة مصالح الغرب إلى حد معين فقط، وينتبه المؤلف لهذا المأزق الحزبي ويطرح ضرورة تجاوز نظام قاسم وإستبداله بنظام (إشتراكي).
لكن الحزب صار مع السائد والغالب، عالمياً، ووطنياً، فتتوجه الفئةُ الوسطى فيه للاستفادةِ من منحِ ومساعدةِ الحليف، كما تستفيدُ من نظامِ قاسم، الذي تلاعبَ بكلِ القوى السياسية وبقي الحزب الشيوعي يدافع عنه حتى اللحظة الأخيرة بحماقةٍ كبيرة.
وهذه كانت إحدى لحظاتِ الإستنزافِ الكبيرة التي سيكون لها دور في حرق أرضه الخضراء وتصحرها القادم.
راحتْ الفئةُ العليا من الحزبِ تتبعَ قانونَ وجودِها الموضوعي، قانونَ البرجوازيةِ الصغيرة التي تمشي مع الغالبِ السائد وبشرط أن يكون هو المفيد، حتى إذا ذهبَ تبحثُ عن آخر وتلتصقُ به وهكذا دواليك.
وقد تحولتْ القيادةُ السوفيتية إلى رأسماليةٍ حكومية كبرى بعد أن كانت برجوازية صغيرة في بدءِ النظام، وراحتْ تتفسخُ من الداخل بسبب ذلك، فتخلقُ برجوازيات صغيرة وأنظمةً إستغلاليةً في قوالب (الإشتراكية) ومن خلال هذه العلاقات تتشكلُ صلاتٌ ومصالحٌ وفوائدٌ ضمن عالم التبعية (الاشتراكية)، وتغدو الثورة الحقيقية مُجهَّز عليها مسبقاً، والمبادرات النضالية المستقلة متوقفة.
إن هيمنة البرجوازية الصغيرة داخل الحزب الشيوعي العراقي تنمو لتكون برجوازية كبيرة. هذا هو قانونُ الحركةِ الاجتماعية، وفي ظلِ بنيتي الحراك التاريخي المتداخل، بنية المصدر الروسي السوفيتي، والبنية العراقية، اللتين يتفاوت بين تطورهما الزمن، فالبرجوازيةُ الصغيرةُ الروسية بدأت سيطرتَها في بدءِ النظام السوفيتي وأزاحت قيادة العمال، التي ظهرتْ مع تفجر الثورة وبتضحياتهم الكبيرة، وبالتالي قامت تلك الفئة بصناعة إيديولوجية مركبة متناقضة، شمولية، خصيصاً لنظامٍ رأسمالي حكومي، أسمها الماركسية – اللينينية، تعبرُ عن قفزةِ التغيير في الشرق وبأدواتٍ شعبوية دكتاتورية، لكن التركيب هذا كما قلنا يتفككُ بسببِ تناقضاتِ البنية الاجتماعية السوفيتية وحراكها بين ماقبل الرأسمالية وما بعد تأسيسها وتطورها، وتنتقل أصداءُ وشظايا هذه التناقضات للأحزاب الشقيقة ولحركة التحرر الوطني، التي لا تعي بشكل واسع هذه التناقضات في المركز.
ومن هنا فإن السيد شوكت خزندار الذي يؤرخُ لتجربةِ الحزب الشيوعي العراقي يعالجُ من موقعهِ أصداءَ وآثارَ هذه التناقضات دون أن يتغلغلَ لفهم جذورها بين الكيان الحزبي الذي يعيشه والمركز الذي غدا هو الموجه وينقل رؤيته ومشكلاتها إلى الأطراف.
ففجأة بعد وقوف الحزب الشيوعي العراقي المطول مع نظام دكتاتوري فردي مريض هو نظام عبدالكريم قاسم يؤيدُ عمليةَ تصفية للحزب الشيوعي ويقبل أن يذوبَ في كيان أسمه الاتحاد الاشتراكي العربي بقيادة عبدالسلام عارف وأخيه عبدالرحمن، هذا التنظيم الفضفاض العاجز عن أي فعل نضالي.
روجت السياسةُ السوفيتيةُ في هذه السنوات لنمو الأنظمة الرأسمالية الحكومية الوطنية الأقل جذرية منها في عمليات التغيير، وهي سياسةٌ مفيدةٌ إيجابية في حينها لو ركزت على الديمقراطية في هذه الأنظمة وتطورها داخلها كذلك، لكن هذا أمرٌ يخالف طبيعة الرأسمالية الحكومية الروسية نفسها. إذ لم يكن بإمكانها أن تؤيدَ طبيعة ديمقراطية في أنظمةٍ وطنيةٍ تماثلها في السيطرة على المُلكية العامة، فكان لا بد أن تماثلها في شموليتها، ومن هنا طرحتْ القيادةُ السوفيتية وقتذاك تقييماً زائفاً لهذه الأنظمة بإعتبارها أنظمة لا رأسمالية، وهو كما يشير الباحث وغيره تعبير تلفيقي. ولم تقبل أن يتحول نظام مثل العراق إلى نظام (إشتراكي سوفيتي) على طريقتِها لما يمثله ذلك من صراعاتٍ حادةٍ هائلة في المنطقة تجرها لحرب عالمية، فهنا مراكز النفط، أما بلدان مثل اليمن الجنوبي والحبشة فلا تمثل مراكز هائلة للصراع العالمي.
هكذا أخذت التجاربُ والأحزابُ تتكيف حسب أهداف وعلاقات المركز، وتغدو البرجوازية الصغيرة في الحزب العراقي تابعة للبرجوازية الروسية الحكومية، وتنمو في سياقِ التبعية، وتتوقفُ مشارطُ التحليل العميق لديها للواقع المحلي، في كلِ ظرفٍ سياسي رئيسي، كفتراتِ عبدالكريم قاسم وعبدالسلام عارف ثم في عهدي البكر وصدام، فغدا عهدُ البعثِ عهدَ الجبهةِ الوطنية، حيث تقزم الحزب الشيوعي وتقلص ثم قُمع بشدة ثم نجا بنفسه من هذه المصيدة الكبرى عبر إستشعار حس الخطر لدى قيادته.
تدهورتْ القيادةُ البرجوازيةُ الحكوميةُ الروسية وتعفنتْ من الداخل، وقامتْ بمغامراتٍ خطيرة على مستويات كثيرة أنهكتْ الاقتصاد ومعيشة الشعب ودهورت الإنتاج، وبطبيعة الحال لا يمكن لقيادة مثل هذه أن تتبصرَ المنزلقَ الخطيرَ الذي يقومُ بهِ صدامُ حسين، فتدعو للانقضاضِ عليه وإزالتهِ وهو في بدءِ تكوينهِ، بل شجعتْ صعودَهُ وغذته.
ثم على إنقاض القيادة الروسية (السوفيتية) ظهرت قيادةٌ أخرى تخلصت من الكثير من هذه الأعباء الاقتصادية والسياسية الخارجية والداخلية، وأوضحت نفسها كنظام رأسمالي عادي.
قامت الحروبُ التي خاضتها القياداتُ الروسية والعراقية في إفغانستان وإيران وفي شمال العراق ثم الكويت بتفجير التناقضات الداخلية في البلدين وتعرية طابعيهما الضارين، وغدت الحربُ كما قيل قاطرة التاريخ لكن للوراء هذه المرة.
لم يستطع المؤلفُ شوكت خازندار أن يربط بين النظامين، ويكشف طبيعة ما سُمي بالنظام الاشتراكي، العالمي والوطني، وغاص في حيثيات التجرب العراقية التفصيلية كأخطاء عزيز محمد وقيادته بحيث مضى في تفاصيل كثيرة أغلبها عام وبعضها شخصي، لكن للأمانة كان الكاتب موثقاً طارحاً الأدلة وحيثيات تفصيلية دقيقة لا تهم بصورة خاصة إلا العراقيين، وكان هذا تعبيراً عن النقص التحليلي الفكري للتجربة، فهو يقف عند سطوح التاريخ العراقي السياسي، بدون كشف الطبقات والفئات والأفكار التي تؤسس كل ذلك ويتوجه مطولاً نحو الأشخاص.
وعموماً فإن درس مثل هذا التاريخ هو لتعميق تحليل التجربة السياسية العراقية والعربية عامة، وتقديم حيثيات كبيرة للأجيال من أجل أن تدرس تاريخها، وتنحت مادة مؤثقة عن قادة أحياء وأموات قدموا الكثير من حياتهم لأجل الناس، بغض النظر عن مدى توفيقهم في هذا، وقدموا ذلك في ظروف قاسية معقدة متشابكة، ولكن لا بد فيها من التأصيل والفرز وتطوير نظرية النضال العربي التقدمي.
5 ــ اليسارُ العراقي يناضلُ بوطنيةٍ ديمقراطية
الحكومة المركزية العراقية التابعة للسياسة الإيرانية تعبر عن طابع الطائفيين اليمينيين غير الوطنيين العاجزين عن الارتفاع للمهام النضالية الوطنية العراقية.
مع انفصام هذه السياسة عن الجماهير العراقية عامة، والتحاقها بطائفة، فإنها انساقتْ وراءَ قواها العليا، خاصة في الأجهزةِ السياسية والمذهبية المستفيدة من هذه الهيمنة واشتغلتْ معاً على سياسةِ الغنائم وسط المذابح وتمزيق خريطة العراق الوطنية.
سياساتُ الطوائفِ لا تقودُ إلا إلى التداخل مع قوى الهيمنة الخارجية وتفتيت الشعب، وتعريض أمنه للخطر، وإدخاله الحرب الأهلية في خاتمة المطاف.
لكن اليسار العراقي اتخذ سياسةً مغايرة «جريئة» مقاتلة، ويعود هذا لتجذر صفوفه في أوساط الشعب المختلفة، من دون أن يجعل مستويات تطوره المختلفة شعبيا، واتساع صفوفه في إقليم من دون الآخر، إلى الغوص في المستنقع الطائفي واستغلال أعداده، فقد بقي وفيا لأطروحاته الوطنية الديمقراطية، وارتكازه على قوى العاملين والمثقفين الشعبيين والرأسمالية الوطنية، ولم يتخل عن تراثه الكفاحي الطويل في الانتماء إلى اليسار والعلمانية، وهذا أهله لأن يقود المعركة التوحيدية الوطنية من دون نسيان مطالب الشعب اليومية في الأجور والغذاء والسكن أو الانسياق وراء القوى الطائفية المتعددة المرتشية التي تدفع الرشا لحرف الطريق الوطني النضالي الواحد.
هذا لا يعني عدم ظهور انتهازيين يساريين استغلوا قومياتهم وطوائفهم ليركبوا الموجات المختلفة المؤشرة على أكل اللحم الشعبي نيئاً، لكنهم يتساقطون بفضل الصلابة الموجودة في تنظيمات لم تنحرف أو أن الانحرافات لم تستطع أن تدخل في عظامها المؤسِّسة وهي تلفظها باستمرار مع تقدمها في التعبير عن الشعب العراقي وليس عن الطوائف.
لقد قامت هذه القوى الطائفية المحافظة على تراث ديني وإرث قومي محافظين، جعلا من القومية الكردية أو الطوائف الإسلامية قوى متجوهرة مطلقة خارج التاريخ، وخارج الصراع الاجتماعي.
إن المذهبيةَ الشيعية المُسيَّسة المحافظة ترفضُ العصرنةَ والديمقراطية والصراع الاجتماعي داخل الطائفة، وهو ذاتهُ التراث السياسي الدموي الذي كرسهُ نظامُ البعث السابق في طائفة أخرى، والذي غدا حجر الزاوية لنظام ولاية الفقيه في إيران، وتنامت على جحافلهِ العامية الأمية لغة العساكرِ الدكتاتورية المُهَّددة للدول الأخرى الزاحفة في داخل أنظمتها المستقلة.
فيما الأكراد يريدون بناء نظام قومي شمولي ويقتطعون من الدول الأخرى أجساماً سياسية يشكلونَ بها دولتَهم الشمولية الشوفينية، وهذا الحلمُ يغدو كابوساً لغيرهم من الأمم ذات الحدود المعترف بها.
وفي سبيل ذلك يقيمون دكتاتوريةً قومية داخل مناطقهم ويحجّمون القوى الأخرى ويقزمونها ويتحالفون مع الطائفيين اليمينيين الشيعة للسيطرة على الأموال العامة ومقدرات الشعب في المركز بغداد، لتصعيد مثل هذه الفئات البيروقراطية السياسية القَبلية القومية الشوفينية الاستغلالية التي تعتاشُ على الجرائم والفساد والعداوات بين البشر والأمم والأديان وغير القادرة على إنتاج وعي عقلاني أو سياسة نضالية.
وفي هذا يدفعون العراق كبلدٍ إلى التمزق، والخراب، بدلاً من أن يناضلوا من أجل سياسة ديمقراطية وطنية عراقية، ويحشدوا قوى الفئات والطبقات المستنيرة لهيكل وطني توحيدي ديمقراطي معاً، يوزع الخيرات الكثيرة على الجميع ويصنع تنمية متوازنة بين المناطق المختلفة، ويجتث الأسسَ الإقطاعية وطفيليات العصور الوسطى التي لاتزال تأكلُ بنهم الجسدَ العراقي المذبوح الممزق.
اليسارُ العراقي يقومُ بذلك في خطوط عريضة عامة، ويدفعُ الشعبَ إلى التوحد ورفض المحاصصات الطائفية ويقوم بالدفاع عن حقوق الجماهير الشعبية الضائعة وسط الانتهازيات الطائفية المختلفة.
وقام في الفترة الأخيرة بنضال صلب واسع من أجل حياة معيشية جيدة للجمهور العام، ومن أجل ديمقراطية ووطنية عراقيتين متجددتين، ومن أجل ثقافة حرة لا يكتم أصواتها الأولياءُ الفاسدون والبيروقراطيون المتحكمون الذين نصبوا أنفسهم إقطاعيين سياسيين إداريين على العراق من خلال التلاعب بديمقراطية شكلانية وهي دكتاتورية طائفية ناقعة في الرجعية.
وهذه الهبة التي قام بها اليسار والليبراليون والوطنيون وراحت تتنامى وسط القمع والمذابح الإرهابية من قبل القاعدة ومن يحركها، أزعجت السلطة اللقيطة المكونة من مجموعات متحدة ومتنازعة من اللصوص، فراحت تقتل أبرز المثقفين العراقيين الذين ناضلوا على مدار عقود لوحدة العراق وتقدمه.
ان اغتيال فنانا مسرحيا صبيحة الجمعة 9 سبتمبر2011 اسمه هادي المهدي فهل كان يحمل رشاشاً؟ بل لأنه كان من أبرز القيادات التي تقود الاحتجاجات على سرقة المال العام والمحاصصة الطائفية وغلاء المعيشة. لم يكن سوى شخصية ثقافية فهل وصلت زمر الطائفيين إلى خنق أي صوت معارض؟
إذا كانوا يغتالون المسرحيين والأدباء فماذا يفعلون في القوى السياسية؟ إن المنطقةَ في خطر بسبب القوى الطائفية الفاشية المتصاعدة من إيران والعراق.