الفكرة ونارها
لا يمكنك أن تلغي الفكرة بالإجراء، بالموقف الإداري، أو حتى بالعصا!
الفكرة تقاومها فكرة، والكلمة تدحضها كلمة.
في العالم التقليدي الدينار يكبر الرؤوس والسياط تشل الألسنة، والكهوف تقوي الأبصار، ولهذا فإن جرجرة الصحف والكتاب للقضاء ومراكز الشرطة لن يفت في عضد الكلمة بل سيغمر أصحاب الدعاوى بالعار. الكلمة تنمو بالجدل، واحتكاك الكلمات وتصادم الأفكار يولد شرارات المعرفة.
ألا ترى صحفاً في العالم الشرقي المتكلس هي عبارة عن نشرة واحدة؟
ولم تحدث هذه الصحف عقلاً بل جهلاً وتصادماً وانهيارات؟
لقد تداخلت قوى التخلف والمحافظة خلال عقود لشل الكلمة وتحنيطها، وملء صفوفها بالمبتذل والسطحي، وبالتالي تجميد المجتمعات عن التطور.
مرت عقود منذ أن نشأت الصحافة البحرينية نشأة متفردة ترتقي إلى مستوى هام للصحافة العربية، فكانت سياسة وأدباً وتحقيقات عميقة وتشكيلاً لرموز ثقافية وطنية كبيرة كتاباً يصنعون كتباً في شتى الآداب والفنون لا معقوين بالكاد يفكون الخط.
ولهذا فقد ماتت كل الأفكار لأن الفكرة لا تستيقظ إلا بخلافها، والمطبوعة لا تتجلى بدون منافسها.
أما أن كل كلمة تستدعي ناطوراً، وكل مطبوعة تقف خلف سطورها كشافات الاستادات الرياضية فهي تغدو معوقة ونزيلة مستشفى عظام.
أما أن تتزايد القوى الأهلية التي تراقب الكلمة وتطاردها وتتفاقم تدخلاتها فهذا دليل على ضعف فكري لغوي سياسي، فلن يغير الفكرة الأجراء الإداري، أو الخطب العصماء في المؤسسات الأهلية الدينية التي كان ينبغي أن تنتج مثقفين ومبدعين ومتغلغلين في الثقافة العربية.
الفكرة شرارة تتغذى بالفكرة وتغدو ثقافة وعلوماً وحضارة، أما العصا فهي تصنع المستنقعات.
الفكر والحرية
لا يستطيع الفكر أن يكون خصباً بدون أن ينموعبر الحرية، وقد أدت الشموليات التي تحكمت في إنتاج الفكر العربي إلى أن يكون مقيداً، قليل الحفر في عالمه رغم ضخامة ما يتراءى من كتب كثيفة الورق قليلة المعنى.
إن أسر الفكر العربي في التشكيلة التقليدية كان هو الأسر الكبير الخفي لعرقلة نمو هذا الفكر باتجاه تحليل الأبنية الاجتماعية الراهنة. وعلى الرغم من إدعاء العديد من الكتاب بأنهم شكلوا كشوفاً، أو أنهم تجاوزوا المعطيات الفكرية الماضية والراهنة، فإن السؤال المركزي بتحليل البنية الاجتماعية العربية السائدة لم يطرحوه.
هناك اما قفزات إلى الإمام عبر توهم تحقيق الاشتراكية أو توهم تحقيق الليبرالية عبر نموذجها المنجز الغربي، أو توهم تحقيق الإسلام. تعبر الأوهام الثلاثة الرئيسية، عن توجه ممثلي الفئات الوسطى العربية المختلفة، إلى إنتاج نظام خيالي لا يدور إلا في أدمغتهم.
وإنتاج الأوهام بهذه الطريقة يعني أولاً عدم القدرة على تحليل البنية الاجتماعية الراهنة، فهو هروب اما إلى الخلف عبر النموذج الديني وإما الهروب إلى المستقبل عبر النموذجين الغربي والاشتراكي.
كذلك فإن إنتاج الأوهام بهذا الشكل هو ثانياً تعبير عن انتقائية وانتهازية الفئات الوسطى، لكي تتماشى مع القوى السائدة، المتعددة، في مستويات البنية العربية التقليدية.
فالدينيون يدافعون عن البناء التقليدي في هذه البنية سواء كان سياسياً أم اجتماعياً، وإذا حدث صراع واختلاف فهو في المستوى السياسي، كأن يعملوا من أجل تغيير القيادة السياسية وليس البناء الاجتماعي العتيق . فيغدو الصراع هنا ليس لتغيير البنية الاجتماعية ولكن لتغيير الإدارة فيها، أو الحصول على نصيب من الإدارة فيها.
أما الليبراليون فيعملون على تغيير بعض الحريات أو توسيعها في النظام التقليدي، ولهذا فإنهم لا يطرحون النظام التقليدي نفسه على مشرحة التحليل، وهذه الطريقة تفيد الفئات المرتبطة برأس المال الذي نما في النظام التقليدي، ومن هنا يغدو طرحها توظيفياً انتقائياً، حسب المكاسب المترتبة على هذا الطرح في المدى القريب . أي أنها لا ترى خطورة الطرح القصير النظر على تأسيس وتجذير الليبرالية.
أما الوعي الاشتراكي القديم عموماً في المنطقة، فهو يصر على اعتبار النظام التقليدي الراهن نظاماً رأسمالياً طارحاً الخيار الاشتراكي، وهي عملية تقود الوعي الاشتراكي إلى الانتهازية والانتقائية، والالتحاق بالفئات الذيلية للنظام التقليدي على تنوعها. ولهذا لا يجب أن نندهش لتحول البعض إلى الفاشية والطائفية الخ..
أي أن طرح النظام الديمقراطي الحديث الحر على كافة مستويات البنية الاجتماعية، يواجه من قبل القوى التقليدية بأشكال شديدة التنوع. ولهذا فإن الاصطفافات السياسية والصراعات الفكرية تعبر لدى ممثلي الفئات الوسطى المختلفة، عن عدم القدرة على إنتاج الوعي الحديث بشكل عميق وواسع، ومن هنا فإن الفكر لا يستطيع أن ينمو وأن يتجاوز المقالة السياسية والخاطرة الفكرية المحدودة الرؤية.
إن الفكر كي يشكل بناءه العميق يحتاج إلى الغوص في تحليل البنية ورؤية أسباب عجز النظام التقليدي عن إنتاج الحرية، والتحاق الفئات الوسطى المنتجة عادة للوعي، بهذا النظام. فالدينيون التقليديون حين يرفضون الديمقراطية الشاملة فهذا تعبير عن شمولية غائرة في وعيهم، أي أن مقولات الإسلام والألوهية والنبوة والمعجزات والظاهرات التاريخية المختلفة الخ.. لا يستطيعون أن يفهموها بشكل حديث، وهذا الأسر في زنازين الماضي لا ينتج حريةً. أي أنهم لا يستطيعون أن يحرروا المسلمين وهم معتقلون في التاريخ العتيق. كذلك فإن الفرق الأخرى معتقلة في جهات غربية أو شرقية، ولتتحرر تحتاج إلى إنتاج فكري عميق، يقوم بممارسة نقد جذري للحياة، ولهذا فإن الفئات الوسطى بدون تحالفها أو تعاونها مع الجمهور العامل بشكل مشترك لإزالة النظام التقليدي، لا تستطيع أن تحرر نفسها.
الإنتاجُ الفكري وضياعُهُ
مثل أي إنتاج لا بد له من مادة الحياة، أي من مواد حقيقية، لكن ليس من مطاط وجلود ومياه بل من مشاعر وأفكار وتحليلات إبداعية.
ومثل الإنتاج المادي الإنتاج الثقافي ينحرف، ويصب في أسواق ناضبة من المشترين، ويتورم في إنتاج هزيل رغم المظاهر الخارجية الفاتنة والدعاية الخلابة.
الإنتاج الحقيقي والعميق والمتصل بجذور حالات الإنسان وقضاياه لا يجد له سوقاً مزدهرة؛ لأن المشترين يعيشون هم كذلك في حالات من الغربة والضياع عن الإنتاج الوطني، مهمشون أو فائضون عن الحاجة في أجهزة دول متضخمة في الثانوي، محدودة فيما هو جوهري وغائبة عما هو تصنيعي وتحويلي للتخلف، تشكل استقطابات بين الغنى والفقر، بين المدينة والقرية، بين المادة والثقافة.
ولهذا هم يتراكضون نحو هامشيات الحياة، نحو الماديات التي تهترئ، نحو أوقات التسلية المضيعة للعقل، وتصاب الروحيات بالجفاف واللامبالاة والهامشية واليأس والأحزان والأفراح الفارغة والضياع.
غياب الإنتاجيات الحقيقية في أي بلد يدفعه للأزمات، الذهب يذهب إلى الخارج، والعملة الوطنية تترنح وتتضخم أوراقها وتقل قيمتها، ويتكاثر الوسطاءُ البيروقراطيون الحكوميون وتجار العملة والأجهزة والخدم والتضخم.
في أزمنة الكفاح يجد المنتجون الثقافيون أنفسهم في حالة خصب إبداعي، فهنا توازن بين تحليل الحياة ومعرفة عناصر إنتاجها وقوى تغييرها، ووجود قراء ومشاهدين مشاركين يعتبرون هذا الإنتاج جزءًا من وجودهم الجماعي، ويغدو الشاعر صوت (القبيلة) الحديثة بنضالها ومآسيها وأفراحها، ويغدو القاص كاشفاً للنقاط السلبية والإيجابية في الناس والحياة، يقيم جدل التغيير، يحس القراء أنه بينهم، يراقبهم، يشاركهم، ينفعل بما يحدث لهم، يكشف لهم ما لم يروه، يساعدهم على التطور، يغذونه هم أيضاً بملاحظاتهم، ينفعلون لأخطائه، يصوبون صوره.
ويمكن أن يطير الإنتاج الثقافي نحو التجارب والابتكارات ليكشف مناطق جديدة، ودائماً هناك مشكلة القفزة عن مستوى المتلقين، فقد يتغربُ الإنتاجُ الثقافي، ويعجزُ الناسُ عن فهمه، ويعجز المنتجُ عن الوصول إلى المستهلكين، مثل مواد الإنتاج المادي من فواكه وأزهار وحرير، قد تؤخذ للحريق، ويتم أعدامها من أجل أن يبقى مستوى الأسعار عالياً رغم أن المنتج الثقافي بحاجة إلى أبسط أدوات العيش.
ويمكن كذلك أن يصير الإنتاج الثقافي منحرفاً عن طبيعته، طبيعة التلاقي البشري، وطبيعة التأثير وخلق الجمال في الحياة، فيصيرُ أمراضاً بدلاً من علاج وسمو ومتعة ونضال مشترك. الجمال في الثقافة يصبح القبح في الحياة الاجتماعية!
هنا تزدهر الأشكال الخارجية التي لا ترتبط بحقل منتج، تطلق أشباحاً تسبب الأمراض.
أغلب النقد لا يريد أن يتفاعل مع معارك الحياة، النقاد أغلبهم أساتذة جامعات وموظفون، يتطلعون إلى تحسين مستوى عيشهم وإلى الارتفاع في أجهزة الدول، ولهذا هم يبتكرون النقد الذي لا يكشف الصراعات الاجتماعية، والسياسية، والذي لا يتوغل في أمراض البشر، ويُنزلون على النصوص هياكلَ خارجية تفضي بهم إلى عدم قراءة الواقع ومصائبه ومشاركة الناس التغيير.
مثل ذلك مثل وعي الجامعات العام لا يقيم جدلاً مع البناء الإنتاجي ولا يكشف الهدر الاقتصادي فيه، فلا يريد أن يتعرض هنا لمساءلة الجهات المتحكمة في هذا الإنتاج المادي.
ومع عقم الثقافة يزدهر الجدب والمظاهر الخارجية الخلابة المحدودة المضامين، وتكثر الاستعراضات، والمنتج الذي فقد العلاقة مع الواقع، والذي لا يعني أن يركب «باصاً» ليدون ملاحظاته على التذاكر، بل أن يكشف المشكلات العميقة في الحياة، أي الأزمات الداخلية غير المرئية التي تحيل حياتهم حروباً وفقراً أو بذخاً على حساب المنتجين.
عقم الثقافة يتجسد في صعود التضخمات الروحانية والاستعراضات الصوفية وفي تفاقم كم الإنتاج على حساب كيفه أو غيابه تماماً وهو أمر يعكس فقدان الروح بسبب المادة وتوسع حبسها، ويؤدي لتيبس الكلمة، وعدم ارتعاشاتها بالصراع والتطورات وبالفضح والسخريات وتنوع أشكالها وغياب تجريبيتها النوعية المتغلغلة في حياة الجمهور ودينه وواقعه، في تأمله المفارق ومستنقعات حياته المغمورة بالدماء.
يغدو الإنتاجُ عاقراً حين يكون مرتبطاً بجهات عليا فاسدة أو بمصالح ذاتية متورمة، صادراً عن كليشيهات مسبقة، معدومة التحليلات الموضوعية، وعن فورمات ينتجها أقطاب المذهب، الديني أو السياسي أو الأدبي، أو الفني، أو تحدث بسبب متابعة الموضات المفيدة تجارياً، والتي يتلبسُ بها ادعاءات العملقة والابتكارات المذهلة وهي خاوية.
موجات الثقافة السياسية والأدبية المتصاعدة المتراكمة النمو تتعلق بمدى جرأتها في تحليل الواقع ونقده، وهو الشرط الحاسم في بقاء الكلام أو اندثاره، فإذا تلكأت أو تراجعت يتضح ذلك في النتاج المتكرر العقيم.
ولعل التطرف ومحدودية الثقافة وعدم القراءة الواسعة هي التي تجعل الكتاب والمبدعين ينضبون من دون أن تتفتق عقولهم عن ابتكاراتٍ ومواقف وتجسيدات ذات ذكاء تجمع بين تأصلهم واستفاداتهم من نتاجهم ومن ارتفاع مكانتهم.
وهذا يحدث حين يجدون صيغاً ذكية، فيها الطموحات الشخصية والالتزام بتعرية الواقع الفاسد، والابتكارات الفنية التي تغدو ذات شعبية.
المفكرُ والتحولات
(إن مستوى المفكر إنما تقررهُ قدراتُهُ على ولوجِ مسائل زمنه ورفعها لمستوى التجريد بهذه الدرجة أو تلك مرتكزاً على موقف الطبقة التي ينتمي إليها).
(الاشتراكيات القومية) حطمتْ الفكرَ العربي على مدى العقود السابقة والآن(الرأسماليات الدينية) تجهزُ على البقيةِ الباقية من هذا الفكر.
والفكر المقصود هنا هو عموم ما تنتجه الطبقات الحديثية من فهم للعصر بفضل إختلافها.
الاشتراكياتُ قامتْ على عملقةِ الدولة وتذويب المواطن وسحقه بحيث لم يعد هناك سوى مُحطمين. والمفكرون الأحرار الذين ظهرَ بصيصٌ منهم في مرحلة الليبرالية الديمقراطية الوامضة إختفوا.
لا بد لنا هنا من تأملِ صعود أولئك المفكرين العصاميين الذين كانوا يُقترون على أنفسهم ليشتروا الكتب، ويحصلوا على مواقع في الجرائد ليكتبوا وينوروا ويهتموا بقيم الحداثة. ألم يكونوا خلفاً لأسلافهم(البخلاء) في العصر العباسي، يقتصدون في العيش ليكتبوا؟
لم يربطوا أنفسهم ب(الرعاع) وهم الجزء من الناس المستخدم للتصفيق والسير وراء الشمولياتِ المفترسةِ للفكر، وبحثوا عن المواطنين الأحرار ليخاطبوهم الند للند، وليشكلوا فئات وسطى وعمالية صغيرة متنورة.
لكن زمن الشموليات القومية والدينية كان يصعد في سماء الشرق الملبدة بالغيوم الاجتماعية، وعلى عكس ما أَمِلوا وتمنوا فإن الرعاعَ هم الذين صعدوا وإنتشروا وسيطروا!
الاشتراكيات القومية ليست إشتراكيات وليست قومية، وقد قفز إليها نمطٌ من الرعاع ذوي ملابس براقة وبدوا كأنهم أبناء لفئات محترمة، لكنهم التهموا المؤسسات والأموال العامة، وما فعلهُ المنورون لوصول التنوير والصلابة الأخلاقية والتعفف عن التهالك على المال والغنائم إلى الفئات المتعلمة(فهم لم يطمعوا ولم يفكروا أساساً بالوصول للعامة التي لا تقرأ)، لم يتجذر ولم يؤسس ديمقراطية شعبية بل جاء الاشتراكيون القوميون لينشروا تلك الرذائل وعبادات الأفراد وغدت الجريمة السياسية أساس الحكم حيث ينتشر التعذيب وتُكمم الأفواه وتكتمل دورة سحل الفرد وإهدار كرامته.
الاشتراكية القومية نتاجات للنمطين النازي والستاليني وغدت مسوخاً متعددة متداخلة مع تقاليد العنف العربية في شتى الأقطار.
ومن هنا نجد أن الأدبَ في زمن الاشتراكيات القومية وهو مُفعم بالذل، فإغلبُهُ عن السجون وكيف يُمسخُ الفرد، و(الأبطال) هاربون متوارون ووجوههم الشجاعة مطلمسة، وفهم الواقع محدود معدوم.
الصحافة التي كان يمكن التعويل عليها في نقدِ هذا الواقع المزري هي مشتراةٌ من قبل (الرعاع) الذين تنظفوا وأغتنوا وصاروا أصحاب مؤسسات وخلايا سرطانية تتغلغلُ في المجتمعات العربية ثم صارت في مرحلة لاحقة صحفاً مهاجرة وفضائيات وغيرها.
الجامعات التي كان ينبغي أن يكون همها الأكبر هو إنتاج الفكر الحر غدت مكبلةً بالدراسات المؤدلجة لتبرير الاشتراكية القومية، والأنظمة الوطنية الشمولية المختلفة، حيث يظهر رعاعٌ من نوع آخر مهتم بنزع قوى البحث عن الموضوعية والتحليل العميق الكلي، وكشف الصراعات الاجتماعيات والفكرية ومساراتها وتداخلاتها ومخاطر تغييب درسها على تطور الأمة.
القومية الاشتراكية غدت عربية فكل الأنظمة صارتْ تؤممُ المالَ الشعبي والجهلَ الشعبي لحسابها، ولهذا فإنجازاتُ السحل والانتهازية وشخصية المثقف العضوي الطفيلي في الأجسام السياسية الاجتماعية الفاسدة غدت ظاهرات عربية.
غدا الفكر مشوهاً مرتزقاً لا يحلل كليات المجتمعات والطبقات والتحولات، بل يلتقط خيطاً معزولاً، ويركب عليه إستناجاته المسبقة، وتغدو الأوامر السياسية فوق الفلسفة والمفكر الحر صار موظفاً، والجامعات شُغلتْ في خدمة جلب المناهج القادرة على تشويه البحوث وتوجيهها سياسياً وبيروقراطياً، ولهذا فإن معاول الاشتراكية القومية الوطنية من المحيط إلى الخليج حرثت الأرض جيداً للمثقف الديني الشمولي ذروة التلاعب بالمقدس وتغييب درس تاريخ البشر السابقين بموضوعية، فبدلاتُ الأنظمة والحركات الذكورية هي التي تُركب على جسد القضايا وحالات العالم، وما كان المنورون يسعون لنقده وتغييره غدا هو المهيمن.
فبداية القرن العشرين المبشرة تحولت في نهايته إلى عتمةٍ في آخره. أفكارُ الحريةِ والتحليل الموضوعي الذي لا يحسب حساباً إلا لمادته وتطور بحثه وقامات المنورين الشاهقة تبدلت كلها لكائنات متقزمة تركضُ وراء الرغيف المغموس بالذل وقادة الفكر صاروا موظفين مؤدلجين لكل ما تريدهُ السلطات والأحزاب ولا عجب هنا أن يظهر أناسٌ يعودون للكهوف ويرفضون الحضارة(الكافرة) ويموتون في سبيل أوهام ويعتبرون أبطالاً من قبل البعض رغم عودتهم للكهوف والأطلال ورفضهم للأنوار!
الصراعاتُ الفكريةُ بدلاً من التغيير
التكتلاتُ الاجتماعيةُ الكبيرة تعكس قوى التاريخ والطبقات، لكنها تؤُخذُ بشكلٍ ايديولوجي.
الإقطاعُ (القوى الدينية)، والرأسماليةُ الفردية (الليبرالية) والاشتراكيةُ (العمال)، قوى في حالاتِ نزاعٍ محتدمة لتأكيد مواقعها السياسية في الدول الجديدة.
ولكن هذه القوى ليست مجردة صافية بل متداخلة ويسودُ الوعي الشعاري فيها والمصالحُ الخاصة ولكن تكثر الجماعات المختلطة وتضيع القضايا التنموية الحاسمة في هذه المرحلة الانتقالية.
إن تكوينَ أنظمةٍ رأسمالية ديمقراطية صافية واضحة مسألة صعبة، لأن مختلف القوى تطرح غموضا اجتماعيا، وتعيش على الشعارات والأفكار والعبادات المستثمرة في الصراعات السياسية.
القوى الإقطاعية التي تتمظهر في القوى الدينية المحافظة والجامدة والعسكرية والبيروقراطية هذه لا تريد تحولات في فهمها المتكلس للنصوص ولقواعد السلطة ولا تريد تغيير طبيعة المجتمعات العربية التقليدية.
هناك قوى دينية تعبر عن فئات وسطى رأسمالية تريد تحولات حديثة من دون أن تمس الدين، والدين مصطلح عام من الممكن أدلجته وتفسيره حسب مستويات مصالح هذه القوى، ولهذا تظهر تحالفاتٌ بين القوى الدينية الجامدة وشبه الليبرالية مما يعبر عن الرغبة في الهيمنة على السلطات أكثر من تطوير حياة الناس.
هذا نموذجٌ يختصرُ ما يجري للدائرتين التاليتين الليبرالية والاشتراكية، ولكن ما يحدث هو صعود الرأسمالية بجناحها المنتصر وهو الرأسمالية الخاصة بمؤثراتٍ مذهبية كبيرة، وانتصارُ الرأسمالية لا يعني سوى تزايد الصراعات الاجتماعية وزيادة تراكم الثروات عند أناس معينين وليس كل الناس.
ما يحدث لا علاقة له بالأخلاق والمُثل إلا في شكلها السياسي المجرد، أي ليس هو انتصارُ مملكةِ العدالة والحق والعقل وبقية التعبيرات المجردة الخيالية لقوى التنوير الغربي المثالي في القرن الثامن عشر، بل ما يتحقق هو رأسماليةٌ صرفةٌ متخلفة، ليست فيها قوى إنتاج متطورة، ولا ثقافة متطورة، ولا تنوير طويل، ولا ديقراطية راسخة.
ما نأمله فقط أن تكون متطورة بعض التطور الاقتصادي السياسي المفيد لكل السكان.
إن هذه الرأسمالية الصرفة الديمقراطية العلمانية هي أفضل الشرور، وأقل الخسائر الممكنة، وتتجنب الأوهامَ التي تعششُ في الكثير من العقول باعتبار ان مملكة الحق قد ظهرت، وأن أمام المجتمعات الثائرة تاريخاً من السعادة الطويلة.
أي أن مجتمعا سياسيا يطرح منذ البداية هدفه التنموي وتطوير القوى المنتجة البشرية والمادية وإزالة العراقيل أمامها هو أفضل من الدخول في الصراعات السياسية لأسبابٍ فكرية، أو يبني قصوراً من الرمال الاجتماعية على أراض لم تُحرث بعد للتغيير العميق الديمقراطي.
إن التيارات تطرح مستويات تاريخها وتجربتها، فهناك تخلف في فهم الدين يعبر عن إبقاء العلاقات الإقطاعية التقليدية في مُلكيات الأرض والعقارات وشكل السلطة وبناء العائلة، والتحكم في الثقافة.
وهي لها جذورٌ كبيرةٌ في وعي الناس مما يؤدي إلى الصراعات حول القديم وليس حول الدخول في المستقبل والتحديث.
أو في الدفع برأسماليةٍ استهلاكية فوضوية تؤدي إلى تخبط الأسواق وتدمير قوى الإنتاج الباقية التي عصفتْ بها الرأسمالياتُ الحكومية الشمولية السابقة، عبر قوى رأسمالية سياسية بلا تجربة تخطيطية مستقبلية وتمثل قطاعات المضاربة بالإنتاج واستغلال الفرص في الحكم.
والخيار الثالث الاشتراكي هو تفجر المغامرات الاجتماعية الشعبية نظراً لتبخر الأحلام والوعود الكاذبة لقوى المال والدين بحيث تتحول هذه المغامرات لثورات دامية.
الربيع لابد أن يعقبه خريف، هذا جدلُ التاريخ، وليس هو رومانسية الوعي التي تحيلُ مظهرا طبيعيا لجنة أرضية أبدية لا تتبدل فيها الفصول، ومن هنا يجب درس كيف سيأتي الخريف أعبر هجوم صاعق أم بتطور طبيعي؟
والخريف قادم لا محالة لأن هذه القوى الاجتماعية الثورية المتحدة في زمن لابد ان تتباين مصالحها في زمن آخر، وهي منذ الآن لا تريد أن تكرس تحالفها بشكلٍ دستوري، أو في شكل برامجي مرحلي، بل ان كل قوة تريد أن تستفيد من الأصوات لتفكيرها القوي في الكراسي والنفوذ والامتيازات.
إن نوعيات الساسة والمعبرين الخطابيين للثورات يعيشون في اليومي السياسي، ولم يطرحوا صراع التشكيلات المحتدم وكيفية الوصول إلى الحد الأدنى من التفاهم بين طبقات الثورة.
حين يأتي الخريف مكتسحاً بذور الربيع تضيع الانجازات، ولهذا فإن قوى وسط عميقة تنجح في التنمية الشعبية الواسعة والديمقراطية يمكن أن تمثل استمرار البذور الربيعية، وتجدد سلطتها من دون الحاجة إلى العكاكيز والخداع والقهر.
عدم التطور الفكري وأسبابه
كانوا واعدين بإمكانية تطور فكرية ولكنهم توقفوا ونكصوا للوراء!
هذه معضلة ملازمة للتطور الفكري الذي يتطلب نشاطاً مستمراً وعقلية ديناميكية لا تتوقف عن البحث والتساؤل، وغير مرتبطة بعوائق اجتماعية تمنعها من البحث والتفتح والنقد والإضافة!
قد تعود هذه العوائق إلى عادات شخصية تتوقف تدريجياً عن المتابعة وتعب البحث وتركن للكسل والتوقف والتقطع عن العادات الأولى العملية، وكثيراً ما يكون هذا التوقف مرتبطاً بموقف الذات من نفسها، وتصور بأن ما قدمته فيه الكثير، وأن ما فعلته كان جهداً (خارقاً).
وقد يقود هذا إلى الركون للسهولة في الإنتاج، وعدم خط طرق أخرى، والتوجه إلى وسائل وسبل بحث جديدة، وعدم طرح أفكار مختلفة، وهي مسألة تقود إذا لم تدرس ويتم تجاوزها عبر البحث والقراءة، إلى التوقف عن التطور والركون للوراء، وبالتالي تصبح المادة الفكرية ناضبة من الحيوية ومن الجدية يوماً بعد يوم.
وقد تتشكل عوائق موضوعية لعدم التطور إضافة للجوانب الذاتية السابقة، وهي ارتباط عدم التطور هذا بعوائق إيديولوجية وسياسية، فمهما كان نشاط المنتج أو الباحث أو المثقف فإن هذا النشاط يصطدم بالمحيط الذي يعمل فيه هذا المنتج، فإذا كرر نفس الخطاب خوفاً من الجماعة أو من العائلة أو الهيئة السياسية فإن التراجع للوراء وتدهور الوعي هنا مسألة وقت.
وتقوم الجماعة المتخلفة أو المحافظة بعرقلة تطور أفرادها النشطين نظراً لتلك الإيديولوجية المتوقفة عن التطور والمكرورة على مر السنين، إذا لم تكن في الجماعة أدوات الحوار والبحث الكفيلة بتشجيع الأفراد على التطور والتساؤل، وتنشيط إيديولوجية الجماعة في سبيل فهم أفضل لنفسها، وبهدف استيعاب تغيرات الواقع والتأثير بشكل أفضل على الناس.
وعلى مدى ارتباط هذه الإيديولوجية بأصحاب النفوذ والاتجاهات المندمجة في الدول الجامدة، يتعلق الأمر بتطور الجماعة والأفراد، فهناك جماعات ربطت وجودها بدول في متحجرة في كل الخطوط الفكرية والسياسية، ولم تقم مسافة من الانفصال وخلق حرية ذاتية في العلاقة بالمذهب أو بالأيديولوجية أو بالفكرة الأصلية للجماعة.
وأحياناً تتعلق العوائق بمشكلات ذاتية في الجماعة، بوجود مسيطرين متخلفين عن التطور لا يريدون لأحد تجاوزهم، فحتى الإيديولوجية أو المذهب، فيه إمكانيات للتطور والبحث، ولكن المستوى الوطني أو الإقليمي للفكرة وعملية إنتاجها، مستوى متخلف، بسبب عدم وجود قوى فكر واسعة، أو منابر بحث حرة، وكثافة سيطرة المتخلفين والأميين مما يجعل الفكرة متخلفة حتى عن نظائرها في الدول الأخرى، أو الجماعات المماثلة في مجتمعات مشابهة.
ولهذا نجد الإنشائية غالباً أو الارتداد للوراء، أو تراجع الإنتاج وتدهوره، أو الذهاب لحقول سهلة، ويحدث تناقض حاد بين مجتمعات بدأت تنفض عن نفسها عباءات الغبار وتنطلق فيها عمليات التغيير، في حين أن العقول الثقافية في حالة جمود أو نكوص.
هنا نجد الإيديولوجيات السائدة الشمولية غالباً ما تلعب الدور الأساسي في عدم تطور النشطاء، فهي تخاف من تغييرات في صفوفها حتى لا تفقد مكانتها السياسية، لكن عدم التطور من شأنه أن يضاعف خسائرها السياسية على المدى البعيد.
وعدم التطور الفكري ينعكس على مجالات النشاطات الفكرية والأدبية والفنية والعملية المختلفة، ففي حالة الجمود نجد غياب تلك المعالجات الجديدة وعدم التلاقح مع الواقع بزخمه المتجدد، وانتشار التفتت وجمود الإنتاج الثقافي وعدم بروز تجارب خلاقة الخ..
إن الدكتاتورية في ذات الإنسان أو في جماعته أو مجتمعه هي التي تلعب دور الإعاقة في التطور الفكري.
وحدة فكر النهضة
طرح مشروع التغيير في العراق مسألة أي فكر يهيمن على البلاد ويقودها في مشروعه السياسي .
وقد رأينا نماذج من التناقض الحاد بين التطرف العلماني والتطرف الديني وكل منهما يسعى للتحكم المطلق في الخريطة السياسية والدينية المنوعة .
بدأت القصة حين اندفعت الجماعات الدينية المتطرفة في منع الخمور والهجوم على محلات بيعها وحرق هذه المحلات، وما تسبب ذلك من إزهاق أرواح واعتقال هؤلاء الحارقين، وثمة أناس يعتبرونهم أبطالاً وثمة أناس يعتبرونهم مجرمين، لكن القانون يأخذ مجراه ويعتقل هؤلاء وتنطلق القضية بغض النظر عن الحيثيات الدينية!
وهنا يعمل الفقه المحافظ المنتج في قرون سيطرة الإقطاع الديني على تحويل أية قضية شرعية إلى رافعة ضد التطور والحداثة، سواء كانت قضية خمور أو قضية تحرر نساء أو قضايا حقوق شخصية وممارسات جنسية حرة أو قضية فقراء، مستهدفاً في ذلك الوصول إلى السلطة السياسية المطلقة، إذا وجد إليها سبيلاً، وإذا لم يجد اكتفى بحضوره الكبير فى السلطة الاجتماعية، أي الهيمنة على الحياة اليومية للمؤمنين به. أو أنه يعمل بكافة السبل العسكرية أو السياسية الانتخابية المجيشة بهدير ديني تحريضي طائفي، للوصول إلى السلطة، وتحقيق برنامجه السياسي في هيمنة الملالي المنتمين لمذهبه على الحكم.
ومن الجهة المعاكسة يسعى بعض الفكر العلماني المتطرف إلى تبرير أي جانب من الحقوق الشخصية والحريات، واعتبار الإسلام هو العائق الأكبر أمام تطور وحرية المنطقة!
تقوم الديمقراطية العربية الراهنة المزعومة على استمرار النظام الطائفي الإقطاعي العربي القديم، بدون المناقشة في أن هذا النظام لا يمكن أن ينتج ديمقراطية حقيقية، تعتبر الانعطافة الديمقراطية المنشودة !
أي أن وجود دولة طائفية تهمين على الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية لا يمكن إلا أن يشكل معارضة طائفية مضادة، ولا سبيل لخلق ديمقراطية سوى بتجاوز الكتلتين : كتلة الدولة الطائفية، وكتلة المعارضة الطائفية!
ومن خلال الكتلتين تتشكل فسيفساء سياسية كاذبة في أغلب تلاوينها، فالقوى السياسية المقتربة من الدولة الطائفية تشكل معارضة ديمقراطية ترفض طائفية الدولة واحتكارها للسلطات، وهنا تتنطع هذه القوى في عرض ليبرالية مجردة كاذبة، أي أنها تركز في خطابها على مهاجمة طائفيي المعارضة، لا طائفية الدولة، أي لا تقوم بتحليل موضوعي ينقد كافة الطائفيين سواء الحكوميين والموالين للحكومة أو المعارضين، بل هي تقوم بعملية انتقاء انتهازية، وذلك بأن تعرض خطابات مجردة أو مقطوعة السياق وغير شاملة ودقيقة، وذلك بفرض إشاعة وعي تابع للسلطة الطائفية، التي تقوم بعرض جوانب ليبرالية جزئية من عملها ونشاطها، متغاضية عن الجوانب السيئة، بغرض تبييض صفحتها والدعاية لنهجها السياسي، أو على الأقل إبعاد موظفين وشرائح معينة من سيطرة خطاب المعارضة الطائفي المناوئ.
هذه لقطة صغيرة من الديمقراطية العربية الراهنة !
وفي الجهة المقابلة تركز المعارضة الطائفية على إخفاء طابع معارضتها الطائفي، أي إخفاء هويتها السياسية التي تعني وصولها إلى الحكم، وقلع حكم الطائفة الأخرى، كما يصور لها وعيها السياسي الطائفي.
فهي لا ترى قسمات اجتماعية أو وجود صراع اجتماعي بين الكتلة الساحقة من المواطنين المنتمين لهذا القطر العربي أو ذاك، وبين الكتلة الصغيرة من كبار الملاك وأصحاب الأموال والشركات المهيمنة على جهاز الدولة، وعبره شكلت ثرواتها.
إن الوعي الطائفي المعارض عادة يقوم بتمويه طابع المعركة الاجتماعي، وإخفاء دلالاتها الطبقية، وانعكاساتها السياسية، فيظهر معارضته كما لو كانت هي دفاع عن كل المواطنين، وكما لو كانت هذه المعارضة ستشكل سلطة أخرى غير طائفية، في حين إن المضمون الداخلي الغائر والظاهر يوضح انها جماعة طائفية أخرى، لا تختلف عن طابع السلطة الطائفي !
إذن فلو استمرت هذه العملية وجاءت الطائفة المعارضة للحكم، فإن التغيير سوف يجري في الشكل، أي أن كبار المهيمنون على الطائفة الأخرى هم الذين سيصلون إلى الحكم وبالتالي فإنهم سيمتلكون الشركات والمال العام، وفي حالة كونهم رجال دين فإنهم سوف يمتلكون ثروة البلاد وثروة السماء معاً !
ومن المؤكد إن الليبراليين التابعين للدولة، أي للطائفية الرسمية المسيطرة، أي لوجه الحكم الإقطاعي بوجهه السياسي، لديهم حق في نقد خطاب رجال الدين الشمولي، ولكن هذا الخطاب الديني الشمولي ليس حكراً على رجال الدين الطائفيين المعارضين أو الموالين، بل هو جزءٌ أساسي من خطاب الدولة الطائفية !
فالدولة العربية وغير العربية الدينية تقوم على أساس طائفي، وسواء كانت سنية أم شيعية أم مسيحية، أم شافعية، أم زيدية، أم مالكية الخ.. فإنها تقيم سيطرة المذهب، الذي هو تعبير أيديولوجي عن سيطرة الإقطاع السياسي/ الديني .
أي أن المذهب الإسلامي المعني، لا يمثل حقيقةً كل الطائفة الإسلامية، المفترض أنها هي التي في السلطة بحكم أن المذهب الرسمي للدولة يمثلها، لأن المذهب الرسمي هنا مجرد شكل، خالٍ من التمثيل السياسي للطائفة المعنية التي يقال بأنها هي التي تحكم !
فلو افترضنا جدلاً بأن الطائفة السنية هي التي تحكم في العراق يحكم أن المذهب الرسمي المعتمد في كل الدولة العراقية يقوم على المذهب السني. ولكن أي تحليل بسيط يبين خرافة هذا الوهم الإيديولوجي، في الطائفة السنية لا تحكم العراق، لا من الناحية المذهبية ولا من الناحية السياسية !
فالأحكام الشرعية المتعددة بين المذاهب ليس بينها أي فوارق فكرية أو سياسية جوهرية تقلب كيان المجتمع قلباً اجتماعياً جوهرياً شاملاً، بل هي اختلافات بسيطة حول الوضوء والإرث والصلاة الخ.. أي أن تكريس الدولة العراقية للمذهب السني في المحاكم والحياة العامة، مجرد تكريس لبعض جوانب عبادية شكلية لا تختلف نوعياً عن الممارسات الشيعية والإسماعيلية والزيدية الخ..
أي أن الفروق بين المذاهب الإسلامية مجرد فوارق شكلية، ليس فيها مثلاً اشتراط أن يكون الحاكم منتخباً بالاقتراع السري ! أو من بينها مثلاً أن يكون الحاكم من الكادحين أو من طبقة الصناعيين أو أن تقطع يد الحاكم في حالة السرقة !
وبهذا فإن الحكومات المذهبية المتعاقبة في العالم الإسلامي، لم تكن تجري تغيرات جوهرية ونوعية في حكمها ساعة تبدلاتها الكثيرة والدموية في أكثر الأحيان!
فنحن لا نلحظ تغييراً حين أعقب العباسيون الإماميون الأمويين الانتهازيين الدينيين، أو حين جاء الإسماعيليون لحكم مصر وأطاحوا بالخلافة العباسية، أو حين أطاح صلاح الدين بهم وأقام الدولة على المذاهب السنية، أو حين أطاح الإثناعشرية بالحكم المغولي أو التركي السني ! أو حين صار أهل شمال افريقيا مالكية بعد أن كانوا من الخوارج، وربما كان هذا يعبر عن خضوعهم للسلطة القاسية أكثر من اقتناعهم بالمالكية !
لم يشهد العالم الإسلامي في تحولات الحكومات المذهبية أي تغيير، فأختكِ مثلكِ، لأن الملاك الكبار، الحائزين على الثروات، هم الذين يستبدلون الكراسي، وهم الذين ينعمون بالامتيازات، ولم نجد حين استولى صلاح الدين وأطاح بالإسماعيلية بأن كادحاً مصرياً سنياً حصل على أرض، أو أن الفاتح الكبير والمحرر الكبير قد غير من طبيعة استغلال الفلاحين السنة أو المسيحيين، الذين لم تتغير عليهم كميات الخراج ولا سياط الملتزمين !
ولم نر ان الإثناعشرية حين حُكم باسمها في إيران أيام الدولة الصفوية أو أيام الجمهورية الإسلامية الحالية قد غيرت من وضع الفقراء والفلاحين ولا يزال هؤلاء مستغلين منهوبين للدولة والاقطاع الدنيوي والديني ممنوعين من الإصلاح الزراعي الذي حتى الشاه الراحل قام بتطبيق جزء منه!
فلم يستطع الفرد الشيعي سواء كان في الحكم الطائفي أو المعارضه الطائفية أن يحكم، أو حتى يقترب من السلطة، التي ظلت لأصحاب الملايين والمليارات حالياً!
إذن فإن الحكومات العربية وغير العربية الدينية التي تحكم باسم المذاهب والطوائف لا تمثل حتى الطوائف التي تزعم تمثيلها، وكذلك فإن المعارضات الطائفية التي تزعم تمثيل الطوائف هي لا تمثل الطوائف!
والأمر بسيط لأن الطائفية دكتاتورية !
والأمر يعود أيضاً لهذه الأدلجة التي تمت للمذاهب، ولعمليات تسييسها ولإخفاء مضامينها، عبر السيطرة المستمرة لكبار المتنفذين والأغنياء والمتسلطين عليها، والذين قاموا بشكلنتها، أي بجعلها شكليةً، متمحورة في الأشكال العبادية التي عملوا على تركيز الاختلاف فيها، والمحافظة على هذه الاختلافات بغرض إبقاء سيطرتهم السياسية والاقتصادية على جماهير المسلمين العاملة، واستمرار استغلالهم لها، وإبقائها في ظروف الفقر والعوز والتخلف والفرقة والعداء!
إذن أمام قوى المسلمين المختلفين المنهوبين المستغلين المبعدين دائماً عن الحكم الحقيقي، أن ينسحبوا من عباءات التسييس المذهبي ويتوحدوا!
إن التسييس المذهبي هو دكتاتورية، لأنه رفض لوجود الفقراء والمستغلين، لأنه رفض لكيانهم الاجتماعي المستقل، رفض لوجودهم كقوى اجتماعية مختلفة عن الأغنياء المتحكمين في الطوائف كلها !
فلماذا يخافون أن يتوحد الفقراء سنةً وشيعة ومعتزلة وزيوداً ودروزاً ومسيحيين وعلمانيين وليبراليين وماركسيين ؟
لماذا يشكلنون المذاهب ويجعلونها أشكالاً تخفي سيطرتهم المالية على الأراضي والبنوك والمال العام، ولا يريدون لفقراء المسلمين وعامليهم وفئاتهم التجارية البسيطة أن تتوحد وتدافع عن حقوقها وعن أوضاعها السيئة في الأجور والسكن والصحة والتعليم؟
إن هذا بسبب أن الكثير من المثقفين المسيسين تابعين لمثل هذا الوعي الطائفي الطبقي التابع للكبار .
لماذا جعلوا أقوال الأئمة شكلانية ووسائل بهدف سيطرتهم على البساتين والأسهم والعقارات ؟
لماذا لا يحررون الأئمة من هذه السيطرة ويطرحون برامجهم السياسية والاقتصادية بشكل مكشوف ودون تستر بالمقدس ؟
لماذا لا يجتمعون في طبقة مالكة من شتى المذاهب تطرح برنامجها الاقتصادي والاجتماعي الذي يحفظ ويوضح مصالحها وحتى أن تجذب الناس المختلفين اجتماعياً من خلاله ؟ !
لماذا يزعمون أنهم يتعاركون على الدين والمذاهب وهم يتعاركون على المصالح والكراسي ؟ !
هذا يتطلب نهضويين وديمقراطيين ينبثقون من شتى المذاهب ويؤسسون حركات ديمقراطية عميقة تقوم على هذه الأسس الفكرية!
حركات تقوم بإبعاد المذاهب عن هذا الاستخدام السيئ للمذاهب وتجمع الفرقاء الاجتماعيين كلٌ وأهدافه دون تستر براية مذهبية أو بسلطة طائفية !
