الأرشيف الشهري: مارس 2023

الطبقة العاملة الهندية في البحرين

الرفيق عبدالله خليفة

كتب: عبـــــــدالله خلــــــــيفة

يزيد عدد أفراد الطبقة العاملة الهندية في البحرين على ثلاثمائة ألف، فيُعتبرون أكبر قوة سكانية منتجة.
وقد ذكرتْ وزيرة الشؤون الاجتماعية البحرينية أنه على (الرغم من مساحة البحرين التي تبلغ 740 كيلومترا مربعا فإن العمالة التعاقدية التي تردُ البحرينَ من آسيا وخاصة الهند تمثلُ خمسين بالمائة من عدد السكان، البالغ مليون نسمة، كما تشكلُ العمالةُ التعاقدية من النساء 31 في المائة من عدد العمالة الأجنبية)، الوسط، 3 ديسمبر، .2009
وتقول وكالة فرانس برس:(ووفق أرقام رسمية فان عدد العمال الاجانب في البحرين يصل الى 270 الفاً غالبيتهم الساحقة من الهنود وهم يعتبرون عمالاً غير مهرة).
تعبرُ هذه الأرقامُ المتضاربة المتنوعة بين المسئولين والمستثمرين والصحافة، كما سنرى بشكل أوضح لاحقاً، عن عدم الدقة في تسجيل هذه الظاهرة الاجتماعية (المائعة)، وهي الدجاجة الكبيرة التي تفقسُ البيضَ الذهبي لقوى الاستثمار المتنوع، ونحن هنا في بداية المشكلة حيث لا تمتلكُ الأجهزة المختصة سجلاً دقيقاً كاملاً عن هؤلاء البشر، من هم؟ وما هي أسماؤهم الحقيقية غير المزورة بشتى طرق التحايل، ومدى صحة البيانات التي يقدمونها؟ وأين سيعملون؟ وماذا سيكون دخلهم الفعلي؟ ومن هو رب العمل الثابت؟ وما هي شروط السكن؟ وغير هذا من جوانب تعبر عن الوجود الغامض الكبير لهذه الظاهرة البشرية.
إن وجود الإحصائيات الدقيقة والدراسات عنها في جوانب هذه الظاهرة كافة، هي التي سوف تعطينا إمكانية فهمها أولاً والسيطرة عليها ثانياً، من قبل مختلف الفرقاء الوطنيين والإنسانيين كذلك.
تقدم جمعية المقاولين البحرينية أرقاماً أخرى ولكنها مهمة لمقاربة أعداد العمالة الأجنبية وتوزيعاتها الاقتصادية الهيكلية العامة:
(حسب الإحصائيات المتوافرة لدى جمعية المقاولين البحرينية فإن إجمالي العمالة الأجنبية في مملكة البحرين يصل إلى 500 ألف عامل موزعين على 270 ألف عامل من الهنود الذين يعمل منهم 200 ألف في قطاع المقاولات والإنشاءات و70 ألفا في مختلف القطاعات الأخرى، و230 ألف عامل ما بين العمالة الباكستانية والبنغالية الذين يعملون في قطاع المقاولات والإنشاءات.
عموماً يبلغُ العددُ الأجمالي للطبقة العاملة الهندية في الخليج 12 مليون فرد، ويحولون مالياً ما قيمتهُ 26 مليار دولار سنوياً ويعتبر هذا الدخل مهماً بشكل كبير للاقتصاد الهندي حسبما ذكره الخبير الاقتصادي حسين المهدي، لكنه يمثل نزيفاً اقتصادياً حسبما يفترضه كاتب هذه السطور.
من الواضح ان ثمة ضخامة (غريبة) في أعداد العمال الأجانب في قطاع الإنشاءات، فهم يشكلون أغلبية العمال الأجانب عامة، وهذا تعبيرٌ كذلك عن البُنى التحتية التي لا تتوقف ولا تصلُ إلى أن تكون بُنى تحتية راسخة ودائمة فهي تتغيرُ وتصيرُ غير أساسية بعد بضع سنوات أو حتى بضعة شهور، وهي موقعُ العمال الأجانب الرئيسي ومنبع التداخل بين الرأسمال الحكومي والرأسمال الخاص، ومن المؤكد انها كذلك تمثل البقعة الاقتصادية التي لا تتمتع بشفافية كافية.
من خلال الرصد الاجتماعي الأولي نجد ان ثمة أربع شرائح أساسية من العمال الهنود في البحرين، الأولى هي الشريحة التي تعمل بلا أجر محدد، وهي فئة سائبة، غير معروفة أحوالها في الدخول إلى البلد، وأغلبها من النساء اللواتي يعملن في المنازل و الفنادق والخدمة، ويستقدمهن أزواج أو اخوة ويتركونهن يعملن في تلك البيوت والمؤسسات، ويحصلن على أجور أو إكراميات من الزبائن، وليست لهن أي حقوق، ويعشن مع أهلهن في بيوت جماعية.
أما الشريحة الثانية فهي البروليتاريا المعدمة وأجورها لا تزيد على خمسين ديناراً، وتأتي للعمل في أشغال متدنية، بأشكالٍ كثيرةٍ متعددة، ولدى الرساميل الصغيرة المتنوعة كذلك.
والشريحة الثالثة وهي العمال الأفضل أجوراً والأقرب لأن يكونوا فنيين وتقنيين، وهم يقتربون من أجر يبلغ مائتي دينار، لكن الإيجار والطعام يقتطعان جزءاً كبيراً من تلك الأجور.
والشريحة الرابعة هم الإداريون والفنيون المتعاقدون من شركات وبنوك، وأجورهم أعلى، وذوو عيش أفضل.
أكبر الشرائح عدداً هي الثلاثُ الأوَل، وهو أمرٌ يعبرُ عن الطابع (المتدني) لمهنية هذه العمالة.
إضافة لهذه الفئات الثابتة من العمال الهنود سنجدُ العمالَ غير الثابتين وهم عمال المقاولات والمشروعات الإنشائية المؤقتة الذين يعملون في ظروف عمل سيئة وقاسية، وهم أغلبية العمال الأجانب عامة والهنود خاصة، وهذه الفئة المتجمعة في أماكنِ عملٍ وإنتاج كبيرة، والمرتبطة بعقود، مغايرة للعمال الهنود المتناثرين كعمال خدمة وعمال أجانب في محيط بحريني، ولهذا استطاع أولئك العمال تغيير أجورهم وظروفهم بسرعة أكبر، وقاموا بإضرابات مؤثرة في أرباب العمل سواء كانوا شركات خاصة أو قوى أرباب عمل مرتبطة بالوزارات.
إن تشكل الطبقة العاملة الهندية في البحرين له تاريخ طويل، فقد تشكلت علاقات اقتصادية وسياسية مع الولايات المصدرة للطاقة البشرية المنتجة الهندية منذ عقود طويلة، خاصة ولاية كيرالا، التي قدمت عمالاً ذوي مستوى سياسي أكثر تطوراً من بقية العمال الأجانب.
ثم توسعت العلاقات مع العمال الأجانب وتدفقت بصور كبيرة، وشكلت البُنى التحتية المتغيرة دائماً، والإنجازات الكبرى في البنايات والمعمار العمراني، ووصلت كذلك إلى الفوضوية والاستغلال الكبير وإلى عدم التخطيط، وسنرى صوراً من ذلك لاحقاً.

إذا كانت الأرقامُ بشأنِ أعداد العمال وأجورهم تسبحُ في غموضٍ كبير، فإن الأرباح الناتجة عن أعمالهم تقع في الجانب المعتم من القمر.
وقد حاولتْ العمالةُ الهندية تغيير أجورها المتدنية للوصول إلى مبلغ مائة دينار كحد أدنى للرواتب خاصة في قطاع الإنشاءات والمقاولات، وهو الجسم العمالي المنهك في عمل صعب وخطر.
في إحدى المواجهات الاجتماعية بين المقاولين وعمال بناء الجزر والإنشاءات السياحية الخرافية، طالب العمالُ بتغييرِ رواتبهم إلى مائة دينار شهرياً فقط ولا غير.
يقولُ أحدُ المقاولين إن عدد العمال الذين يعملون في شركته من الهنود يبلغ 800 عامل ومعهم 300 عامل بحريني، وان توقف العمال يوما واحدا يؤدي إلى خسائر تبلغ 150 ألف دينار، ويذكر أن أغلب أعماله(مشاريع عامة للحكومة).
ضخامةُ أموالٍ تُستثمر في مثل هذه القطاعات البنائية الدائمة والمتبدلة التي لا تنتهي فهي (الحلابة الكبيرة للميزانية)، وأجور هزيلة للعمال ومخاطر العمل لا تتوقف، فلماذا التناقض الحاد؟
ولعل مقاربة السفير الهندي لأوضاع العمال الهنود تعطينا صورة تقريبية لأوضاعهم:
(أشار السفير إلى أن “حصة الهند من العمالة الأجنبية في منطقة الخليج هي الأكبر مقارنة ببقية الجنسيات، إلا أنها تعتبر الأقل في البحرين، حيث لا يتعدى حجمها 350 ألف مواطن هندي، 280 ألفا منهم عمال، فيما تقدر العمالة في السعودية بـ 15 مليون شخص.
واعتبر ان ما نسبته 90% من العمالة التي تصل إلى البحرين غير مؤهلة وتعمل في القطاعات التي ليست بحاجة إلى مؤهلات ومهارات عالية)، (جريدة الوقت).
هذه إحصائيات أخرى وأرقام مختلفة، فكل جهة لديها أرقامها بشأن هذه الظاهرة العائمة، وعلينا هنا أن نرى كيفية تجريد ظاهرة العمال من طبيعتهم الإنسانية، فهم مجردُ قوى ومواد خام تُنقل من بلدٍ إلى آخر، فلا نعرفُ الجهات التي تقومُ بعملية النقل المتدنية هذه، وكيف تستفيد من مثل هذا الشحن العائم، وكيف لا يتم تحديد أجورهم من البداية، أي قبل شحنهم، وكيف يُسمح بذلك؟!
(وقدّر السفير جوزيف عدد الشكاوى العمالية التي تلقتها الوزارة في السنوات الثلاث الماضية بـ “10 آلاف و500 شكوى”، مستدركاً “إلا أننا سعينا إلى حل ما يقارب الـ90% منها، فيما تبقى النسبة المتبقية في أروقة المحاكم ونعتقد أنها في طريقها للحل”.
وأشار إلى أن “أغلب الشكاوى تتركز في قطاع الإنشاءات، وهي عدم دفع الأجور بانتظام أو عدم دفعها مطلقاً، أما في بقية القطاعات فهناك شكاوى ولكن أقل حجماً”، المصدر السابق.
فليس ان تلك السلع لا ترفعُ أجورها لدى القوى الإنشائية والمقاولاتية المتنفذة بل ان هذه الأجور لا تدفع في كثير من الأحيان!
وتضيع أوقات العمال بين أروقة المحاكم والبحث عن أجورهم وبين العمل المنهك.
و يضيف سعادة السفير الهندي:
“هناك جهود تبذلها الحكومة الهندية لتوعية العمال قبل وصولهم إلى الدول المستقبلة للعمالة، عبر النشرات الإعلانية في التلفزيون والإذاعة التي تؤكد لهم بضرورة الذهاب إلى المحاكم من أجل تحصيل حقوقهم في حالة انتهاكها والتنسيق مع السفارة، إلا أن الهند تبقى بلداً كبيراً ومساحاته شاسعة، فضلاً عن وجود ما يقارب 280 لغة ولهجة رسمية، وبالتالي من الصعوبة تغطية جميع هذه الفئات”.
أي أن تحصيل حقوقهم ومعيشتهم تبقى صعبة على ضفتي البلدين المصدر والمستقبل، وأغلب الروايات تعيدُ ذلك للقوى المتنفذة في هذه المجتمعات التي لديها قدرة على جلب العمالة عبر التأشيرات الحرة، واستغلالها في الأسواق بشتى الطرق، وهذا جانب لم يتم توضيحه من خلال الصحافة والبرلمان والبلديات حتى الآن.
ولا تعتمد هذه القوى المتنفذة على معايير محددة إلا معيار المنفعة وتحصيل الأرباح.
في حين ان تعامل الشركات الكبيرة خاصة مع هؤلاء العمال يتم من خلال العقود، وتحديد الحقوق، وينطبق هذا بشكل خاص على العمالة الماهرة والموظفين الإداريين، وتظهر المناطق المعتمة في حياة البروليتاريا، هذه الفئات المحدودة الأجور والحقوق، وتتحجم حقوقهم في الشركات الصغيرة، وتضيع أو تصغر في عالم التأشيرات الحرة ولدى أرباب العمل الأفراد والصغار ولدى أصحاب العمل في الزراعة وفي البيوت.
أما في الجوانب النقابية والسياسية فهي تعكس حالة القوى الاجتماعية البحرينية، وتبدو نظرة الخوف من وجود هؤلاء العمال الأجانب، بدوافع دينية وقومية، فتتصور جماعاتٌ معينة ان هؤلاء العمال الأجانب يمثلون خطراً على الوجود القومي أو على الوضع الديني، وهو أمرٌ فيه بعض الصواب مع غياب الاستراتيجية السياسية في التعامل مع هؤلاء البشر المستخدمين بأشكال استغلالية فظة، وذوي تضارب مع السكان في العقيدة والعادات والتقاليد ومستويات العيش، فهم يسعون للتجذر في هذه المجتمعات والوصول إلى حياة أفضل، وهذه أمور يترتب عليها نمو لغاتهم وحقوقهم وحصولهم على مواقع عيش وسكن وحقوق نقابية وسياسية، فتحدث صراعات بين الأهالي وهؤلاء العمال على مواد العيش، وعلى الحقوق.
لكن في المجال النقابي وفي الرؤية السياسية تغدو هذه نظرات ضيقة، لكون الدفاع النقابي عن حقوق هؤلاء العمال، وتحسين مساكنهم وأجورهم، يؤدي إلى تطور أوضاعهم المادية والاجتماعية، ويؤدي إلى تقلص وجودهم الكثيف وحضورهم غير المنظم والفوضوي. وبدلاً من أن يجري الصراع بين العمال أنفسهم ينبغي أن توضع الكرة في ملاعب الوزارات والشركات وأرباب العمل المسؤولين عن استيراد هؤلاء العمال وتكديس الأرباح من عملهم.
إن غياب درس حياة هؤلاء العمال يقود إلى مواقف سياسية محدودة كما نرى في البرلمان ووزارة العمل والنقابات

كلُ شيءٍ يتغير إن التناقضَ هو أساسُ حياة البشر، وبدون تناقض يزول البشر.

صراع الطوائف والطبقات في إسرائيل

≣ يعبر قيامُ إسرائيل عن مجموعة كبيرة من التناقضات السياسية والثقافية، فقد أُقيم المشروعُ من قبل الحركة الصهيونية، التي ظهرتْ في الغرب، ومثلتْ مستوىً دينياً واجتماعياً مغايراً لبقية اليهود في العالم، وخاصة اليهود الشرقيين، فسيطر ما يُسمى (الإشكناز) على مقاليد السلطة وغدوا طبقة مميزة تناهض أي قوة اجتماعية تحاول الصعود.
منذ البداية كان مشروع إسرائيل متضاداً فقد أقامه اليهود العلمانيون المفترضون، فهو مشروع ديني بقيادة رأسمالية غربية يهودية، علمانية، فظهرت دولة حديثة دينية معاً، فهي لا تنتمي للعلمانية ولا للدين، وهي خليط غريب بينهما.
إن النسيج الديني نفسه لا يقوم على دولة متوارثة ذات تقاليد متنامية، فلم تكن ثمة دولة، ولا تراكم تجربة سياسية حكومية، بل قامت على أحلام وذكريات امتدت لقرون مديدة، فكيف يتحقق نسيج ديني موحد بناء على تاريخ الشتات الطويل؟!
لو أن اليهود الشرقيين قادوا بناء الدولة لجاءت الدولة دولة شرقية متخلفة، لكن اليهود الغربيين قاموا بهذه العملية ونقلوا المشروعات الغربية إلى إسرائيل، وهذا كفل لهم كذلك ليس القيادة الروحية فحسب بل القيادتين الاقتصادية والسياسية.
ومع هذا فإن اليهود الغربيين العلمانيين والتحديثيين قليلو الارتباط بالتقاليد الدينية اليهودية الصارمة، مما خلق تضاداً عميقاً بينهم وبين اليهود الشرقيين المُبعدين عن السلطة والامتيازات الاقتصادية، فقام هؤلاء باستثارة التقاليد الدينية وتجذيرها في الدولة العلمانية المفترضة.
إن هذا الصراع الاجتماعي بين يهود الغرب ويهود الشرق ينعكسُ دينياً، بين شكلين من تبني اليهودية، أي بين يهودية تحديثية وبين يهودية تقليدية.
تناقضات العلمانية واليهودية عميقة، فقد تأسس النظام على أساس سلطة الحاخامات في تحديد من هو اليهودي، واشترطوا شروطاً صعبة ومن أهمها أن يكون اليهودي من أسرة يهودية، وعن طريق أم يهودية، وهو أمرٌ من الصعوبة تحقيقه، خاصة لليهود الشرقيين الذين كان الكثير منهم مسيحيين.
تحديد السكان وأصولهم، وجعل هذه الأصول هي المسيطرة سياسياً، يجعل الدولة دينية غير علمانية، في حين ان ماكينة عمل الدولة تعتمد على الانتخابات الحرة والأحزاب المتصارعة، وهي آلية غربية ديمقراطية.
إن هذه الشروط وطرق العمل السياسي الأساسية تجعل أحزاب الأشكيناز هي المسيطرة، لكنها تؤدي كذلك إلى ردود فعل الأحزاب الدينية الشرقية وتصاعد دورها، فظهر بين اليهود الشرقيين حزب (شاس) المؤثر الذي يمنع الأحزاب العلمانية من التفرد بالسلطة.
فلا يُعرف حقيقة هل إسرائيل دولة علمانية أم دينية، أهي شرقية أم غربية؟
لكن الثروة توحد القوى الرأسمالية فيها سواء أكانت تنتحب كثيراً عند جدار المبكى أم كانت لا تراه إلا في الصور.
ومع تجذرها الرأسمالي الكبير، وقد كان اليهود منذ زمن الكنعانيين رأسماليين في الشرق ثم في الغرب، فإن الصراع لا يدور عن توزيع الثروة فقط، بل أيضاً حول أنصبة الطوائف في حصص الحكم، والأمران يتداخلان ويعينان بعضهما بعضا، الثروة تقود للحكم والحكم يقوي الثروة.
هل تؤدي التقاليد الدينية القوية في الدولة إلى الرجوع للبنى الإقطاعية الشرقية؟
هذا غير ممكن، سواء بجذور اليهود التاريخية التجارية، أو بسبب تعاظم الدور الرأسمالي في دولة أقيمت على أساس صناعي غربي متطور، ولكن مع هذا فإن التقاليد الدينية وتدني مستويات اليهود القادمين من الشرق، تجعل الميراث المحافظ موجوداً بقوة، ويؤججه الصراعُ مع العرب خاصة.
إذاً فإن التناقض الأساسي في الدولة الإسرائيلية هو تناقض ديني بين اليهود الغربيين (الإشكيناز) واليهود الشرقيين (الإسفارديم).
ولماذا لا يحدث التناقض الطبقي هنا ويغدو هو محرك الحياة السياسية؟
هذا يعود إلى ان قيادتي الطائفتين قيادات في الطبقة الرأسمالية الحاكمة نفسها، لكن عبر مستويات اقتصادية واجتماعية متباينة، وبتقاليد مختلفة، تمثل المكونين الأساسيين للسكان، القادمين من الغرب، وللسكان القادمين من الشرق، وهما ذوا مستويين مختلفين رأسماليين، أي أن تطور الرأسمالية اليهودية في الغرب متطور عن مستوى الرأسمالية في الشرق.
ومع هذا فإن المستويين المختلفين اجتماعياً بدرجات معينة يشكلان اختلافات سياسية قوية، فتدخل في الصراع عوامل أخرى كاستثمار العمال في الانتخابات والاستفادة من التقاليد الدينية من أجل الوصول للكراسي على طريقة الجماعات الطائفية في العالم الإسلامي تماماً.
ومن هنا فإن العلمانية تتدمر مرة أخرى فتغدو الدولة دينية ليس على مستوى القمة الحاخامية فقط بل على مستوى القواعد السياسية، في حين ان الدولة صناعية.
وهذا أمرٌ يعود لطبيعة تشكيل الدولة القصير نسبياً، وزراعتها داخل غابة تراثية أسطورية، وعودتها للشرق جسماً وبقسمٍ كبيرٍ من السكان، فالقمة الصناعية رأسمالية متطورة والقاعدة شرقية تقليدية.
بل ان الأمر لا يقتصر على هذا، فوجودُ دولةٍ متغربة عن منطقتها وغازية على جسم سياسي لا يعود إليها، ويقوم هذا الغازي نفسه بغزو آخر يحتل فيه أراضي عربية جديدة، إن ذلك كله يعيده إلى تاريخ الاستعمار الغربي وطريقة الاحتلالات القديمة وهو ما يظهر في حركة الاستيطان.
(فيما تلعب حركة غوش أمونيم المتطرفة التي تعتبر أحد امتدادات الحاخام المتطرف مئير كهانا دورا عنصريا مميزا، وهي التي جندت الدين في خدمة الاستيطان، ولهذا فهي في صراع مع جميع الحكومات من أجل الحصول على امتيازاتها الخاصة في دعم المستوطنات والوجود الاستيطاني في الضفة والقطاع والقدس الشرقية.)، (من كتاب الهامشيون في إسرائيل، د. أسعد غانم).
وتمثل حركة الاستيطان استغلال الدين لغايات اقتصادية وسياسية واضحة، فالحركات الشرقية الدينية تقوم بإلهاب المشاعر الدينية من أجل أغراضها.
إن صراع العلمانية والحركة الدينية قديم في النشاط السياسي لليهود، ففي العصر الحديث وخاصة في أوروبا الغربية ومع هزيمة الأنظمة الإقطاعية الدينية المسيحية أخذت الطائفة اليهودية تطرحُ بقوةٍ على نفسها مسألة الهوية الدينية في عصر علماني غربي هائل؛ فإلى أين تتجه وماذا تكون في عصر الحداثة والاستعمار؟ وهو سؤالٌ مصيري تم طرحه في عقر دار الغرب المتوجه للسيطرة على العالم وحوز كنوزه، وكانت نتائج السؤال خطيرة جداً على وضع اليهود وعلى أمم أخرى لم يكن لها علاقة بذلك السؤال وذلك اللعاب السائل على الثروات، خاصة على اليهودي الشيلوكي الذي يتحين الفرصة للهبر من اللحم. ظهرَ إتجاهٌ علماني قوي في الجماعات اليهودية يطرح حلاً فردياً على كل يهودي؛ (كن يهودياً في بيتك وحداثياً علمانياً في العالم الخارجي).
وهو اتجاهٌ تنويري بين اليهود المثقفين، لكن لا يتطابق مع أوضاع اليهود عامة، فهناك ملايين من اليهود خارج هذه الأسئلة وتعيش عالماً تقليدياً سواء في الشرق أم الغرب. وهكذا فإن حركة علمانية تولدت عبر الثقافة الديمقراطية الغربية السائدة، راحت تدعو إلى العيش التحديثي في الغرب نفسه، وعدم الذوبان كذلك في علمانيته. وكان لها مرادفٌ ديني عند اليهود المتدينين الرافضين للدخول في السياسة والزج باليهود في مشروعات الاستعمار. لكن قوى أخرى تمثل اتجاهات متطرفة رأت ضرورة استمرار الحي اليهودي المنفصل (الجيتو) عن المدنية الغربية الرأسمالية المتطورة التي راحت تزيلُ الأحياءَ الدينية والمذهبية الخاصة، في كلٍ اجتماعي لا يعرف الهوية الدينية بل يعرف الهوية المواطنية، لكن الرأسماليات الغربية كذلك لم تـُزلْ جذورَ حكوماتها المسيحية بطبيعة الحال، وبهذا فإن مشروعات الغزو الاستعماري الغربية قوت الدينية التبشيرية والساحقة لشعوب العالم الثالث (الوثنية)! فكانت تلك العلمانية الغربية – اليهودية مبتورة وزائفة. كان هناك لقاءٌ غيرُ مقدسٍ بين ديانتين سماويتين وصارتا استعماريتين! وبهذا فإن الاتجاهات اليهودية المتطرفة وجدت في نمو الاستعمار قوة جديدة لتصاعد دورها، وخاصة أن بعض اليهود أسسوا شركات كبيرة، بحاجة للتوسع والمواد الخام والمستعمرات! هكذا التحمت حركة (التنوير) اليهودية بالحركة الصهيونية وشكلتا الجسمَ السياسي للأشكناز الذين يديرون الدولة العبرية، فلم يُعدْ اليهودي يهودياً فقط في بيته بل في شارعه ومستعمراته وأراضيه! إن قيادة هذه (الطائفة) بالمعنى السياسي للدولة كما تم توضيحه سابقاً، نقلت اليهودَ إلى مغامرةٍ سياسية عالمية محفوفة بالكثير من المخاطر على الشعوب وعلى اليهود أنفسهم، ولم تستطع أن تكون إسرائيل (جيتو) مناطقيا، منفصلا عن محيطها، ولم يستطع اليهود الغربيون أن يكونوا هم كل سكانها، فحدثت تلك التناقضات السكانية والسياسية المتعددة. فانتقلت السياسة اليهودية من محدودية الجيتو السياسية إلى الذيلية للسياسة الغربية (المسيحية)! وكلتا السياستين التوسعيتين قطعتا جذورهما بالديانتين كديانتين إنسانيتين مازال لهما هذا الطابع عند اتباعهما الذين لم يتلوثوا بجراثيم التوسع، وحتى في إسرائيل ظهر أناسٌ لم يشاركوا في صياغة وتنفيذ هذه السياسات، لكن أدخلوا في جوها وغـُسلت أدمغتهم بفعل عوامل كثيرة. فغدت حركة التنوير اليهودية ظلاماً يرفض أن يتغلغل لتحليل الدين وجذوره، ويكتشف في اليهود بشراً مثل غيرهم، فأحاطت بهم الأسلاك الشائكة الثقافية، وتفجرت حروبُ الاقتحام والاستعمار والاستغلال فعجزوا عن التنور والتماهي مع بقية البشر المسالمين حتى ظهرت حركة سلام إسرائيلية تعارض ذلك التاريخ الدامي. كذلك فإن اليهود الشرقيين الذين تعكزوا عليهم من أجل تضخيم العدد السكاني، جعلوهم في المرتبة السكانية الثانية، فالثالثة يحتلها العرب. ففيما يقيم رأسماليو الإشكناز في إسرائيل في المدن المتطورة ويحصلون على ظروف عيش باذخة، يعيشُ الكثيرُ من اليهود الشرقيين في ظروف الفقر والتمييز. (ويتعرض اليهود الشرقيون إلى محنة واضحة على الصعيد الاجتماعي أيضا، فهم معزولون في أحياء قذرة وفقيرة في إسرائيل، إذ يسكن الكثير منهم في مساكن العرب القديمة التي تم هجرها بسبب النكبة، في الوقت الذي يسكن فيه اليهود الأشكناز في أحياء جديدة راقية بعيدة عن أماكن القاذورات والمناطق الصناعية وفضلاتها، إضافة إلى فوارق في التعليم أيضا.)، (المصدر؛ الهامشيون في دولة إسرائيل). وعبر هذا الفقر والمحدودية الثقافية تستثمر قوى التطرف السياسي الإسرائيلي مثل هذه الأوضاع لخلق حركات يمينية متطرفة، كما ظهر حزب (ليكود) الذي هيمن على السياسة الإسرائيلية خلال سنوات عديدة، وهو أمرٌ يشاركهم فيه جيرانهم العرب كذلك. لقد تنامت الانقساماتُ العميقة في المجتمع الإسرائيلي بفضل سياسة السلام العربية واليهودية، والصراعات الداخلية بين القوى السياسية والدينية: (وهكذا عكست الخريطة السياسية والبرلمانية لأول مرة وبشكل جلي التعددية الإثنية والثقافية في المجتمع الإسرائيلي التي كبتتها الصهيونية لعقود طويلة، وحصرتها في ثلاثة اتجاهات رئيسية هي الصهيونية العمالية ويمثلها حزب العمل، والصهيونية المراجعة ويمثلها حزب الليكود، والصهيونية الدينية ويمثلها حزب المفدال. وكان سلوك هذه الأحزاب الإثنية قطاعيا لدرجة كبيرة، خاصة في أمور مثل اقتسام موازنة الدولة، والصراع على وزارة التعليم بين المتدينين والعلمانيين، والصراع على وزارة الداخلية بين «الروس» – كمهاجرين جدد يريدون تأكيد حقهم في المواطنة على أساس المشاركة في المصير- والمتدينين الأرثوذكس الذين يريدون تحديد هوية المواطن بناء على يهوديته التي يفتقر إليها «الروس».. وهو ما جعل قضايا الصراع الداخلي تحتدم بشدة حول أولويات اجتماعية وثقافية بدت للمحلل بصورة لم تكن بهذا الجلاء في وقت من الأوقات.) موقع إسلام أون لاين. وكما هيمن الاتجاهُ الغربي الإشكنازي السابق الذكر على ميلاد إسرائيل الصهيونية خلال نصف قرن فإن الاتجاهات غير الصهيونية أخذت تتصاعد بقوة لتبدأ تاريخ إسرائيل غير الصهيونية، فمنذ القديم كان هناك قسم من اليهود غير موافق على تشكيل دولة خاصة باليهود، ويعتبرها محرقة تقوم بجمع اليهود لإبادتهم، وهذا الخوف أو الوعي الإنساني، جعل هذا القسم يتعاون مع الحضور العربي الفلسطيني. وقد تكون هذه المخاوف نبوءة ما تجعل قسماً كبيراً من اليهود يتوجهون لسياسة السلام التي بدأت تؤتي ثمارها لولا التطرف المذهبي. كذلك كان اليهود الروس غير المعترف بديانتهم يتطرفون بالدفاع عن هذه اليهودية ولكنهم في عملهم السياسي ينسفون الصهيونية، بقيامهم بخلق مجتمع الإثنيات ذات المصالح المشتركة ويرفضون سيطرة يهود الغرب وعبرهم تم إلغاء تحكم حزبي العمل والليكود في إسرائيل لتظهر خريطة سياسة مختلفة تماماً. وعلى عكس الشائع المتصور فقد لعبتْ السياساتُ العربية القومية والدينية المتطرفة دورها في تقوية المجتمع الإسرائيلي وسياسة حكوماته التوسعية، فمنذ حرب التحرير البائسة سنة 1948حتى آخر الحروب كانت الكوارث تتالى على المجتمعات العربية، وكانت إسرائيل تمتن علاقاتها مع الغرب وتستجلب مساعداته وتعتبر نفسها أداته الحربية، لكن سياسة السلام العربية قلصت هامش المناورة هذا، وجعلت القوى الإسرائيلية تتصارع بقوة، وأوجدت جنين دولة فلسطينية لولا عودة سياسة التطرف الدينية مرة أخرى .
هناك صعوباتٌ شديدة في تشكل مواقف مشتركة للطبقات العاملة في كل من إسرائيل وفلسطين المتداخلتين، فالطبقة الحاكمة في إسرائيل تستغلُ كلاً من البلدين وجمهورهما العامل بضراوة. وفي إسرائيل فإن الطبقة الحاكمة المكونة من سياسيين من قوى علمانية ودينية ثرية تركز في سياسة السيطرة على الضفة وغزة وعدم استقلال فلسطين إلا بشروط مجحفة، فيما تستغل القوى العاملة في إسرائيل المكونة من يهود وعرب.
في حوار أجراه اليساريون العرب المغاربة مع عضو حزب شيوعي إسرائيلي من النمط التروتسكي، يقول: (لقد تغير المجتمع الإسرائيلي كثيرا جدا خلال السنوات الأخيرة. لقد مر وقتٌ كانت فيه إسرائيل قادرة على ضمان التشغيل الكامل وتحسين شروط عيش الشعب الساكن فيها. أما الآن فالبطالة تجاوزت نسبة 10%. الحكومة تعمل دائما على الاقتطاع من النفقات الاجتماعية. هاجمت أنظمة التقاعد، التعليم، الصحة وغيرها. وقد صرنا الآن نرى المتسولين في شوارع إسرائيل! والهوة بين الغني والفقير تتصاعد. إن إسرائيل مجتمع طبقي، مثلها مثل أي بلد آخر. توجد فيه طبقة عاملة، مكونة من اليهود ومن العرب. وتوجد فيه أيضا طبقة سائدة. وهناك صراع طبقي كما يظهر من خلال العديد من الإضرابات)، (حيفا، 18 يوليو 2006).
تحول الحكوماتُ الإسرائيلية المتعاقبة الوضع الفلسطيني وخاصة التطرف فيه لأداة سيطرة عسكرية واستغلال، وعبر الادعاء بكون الفلسطينيين يشكلون خطراً وجودياً على إسرائيل فقد تفاقمت النفقات العسكرية بشكل هائل واقتطعت من عيش الناس، وبهذا فقد غدا حل القضية الفلسطينية ومشاكلها لدى الجمهور الإسرائيلي قضية محورية في حياته وأيدت السياسة السلمية وضغطت في اتجاهها لكن ظهرت جهاتٌ عربية أخرى تواصل تبرير الميزانية العسكرية الخيالية باستمرار المواجهة العنيفة. يقول السياسي اليساري الإسرائيلي: ( إن المسألة القومية تعقد بشكل هائل مهمتنا هنا. فبينما الطبقة العاملة في إسرائيل طبقة مضطهدة من طرف طبقتها السائدة نفسها، فإن إسرائيل كدولة تضطهد شعباً بأسره، أي الشعب الفلسطيني. وطالما بقي الشعب الفلسطيني مضطهداً فإنه لن تكون هناك أي حرية حقيقية للعمال الإسرائيليين. إن النضال من أجل حقوق الشعب الفلسطيني هو جزء لا يتجزأ من نضال العمال الإسرائيليين من أجل تحررهم الخاص).
إن الأوضاع متداخلة بقوة بين فلسطين وإسرائيل، وأي نمو لنضال القوى العاملة في إسرائيل يتطلب التوحد مع نضال الشعب الفلسطيني، والخروج من دوامة الوعي الديني العنصري، في كلا الجانبين، ونجد أن قوى عديدة في الجانبين بدأت تتخذ مواقف عقلانية ومتقاربة، لكن القوى القومية والدينية المتطرفة لا تزال كذلك ذات حضور قوي وتمنع فريقي السلام من العمل المشترك. وإذا قامت القوى الديمقراطية في فلسطين بتطوير وعيها السلمي منذ الرئيس السابق ياسر عرفات ومواصلة أبومازن هذا الخط، فإن هناك ضعفاً كبيراً في الجانب الإسرائيلي لهذا التوجه بسبب ما قلناه من الإرث الشمولي الغائر في الحركة الصهيونية، وبسبب استغلال الجمهور العامل الإسرائيلي والفلسطيني، وخاصة في الجانب العربي لما يتم دفعه من أجور رخيصة لهؤلاء العمال قياساً حتى بالعمال الإسرائيليين، كذلك فإن بقاء التوتر بين الجانبين يجعل القوى المسيطرة العسكرية – الصناعية في قمة المجتمع متحالفة مع الحاخامات! لقد كان التصور الأساسي للمجتمع الإسرائيلي بأن يكون قاعدة سكانية عسكرية في حالة طوارئ مستمرة وعمالاً مفرغين من وعيهم العمالي الإنساني وخاضعين للحركة الصهيونية، وهذا يتطلب سياسة مواجهة دائمة، وإذا لم يوجد طرف يواجه إسرائيل فلا بد من خلقه وتوتيره حتى يندفع للمواجهة! كانت سياسة السلام مؤثرة ومزعجة للأوساط الإسرائيلية الحاكمة، ولهذا تكرست بقوة في سنوات المواجهة، والآن تقوم بمساعدتها القوى والأوساط الدينية والقومية العربية والإسلامية المتطرفة، وتعطيها المبررات لزيادة الإنفاق العسكري وطلب المساعدات وتصوير إسرائيل المحاصرة المخنوقة! ومن هنا فإسرائيل الحاكمة تعمل على بقاء الحد الأدنى من سياسة المواجهة المتوترة كذلك تقوم بالابتزاز في مفاوضات السلام، بحيث تكسب من الجانبين.
وهنا فكلما زادت الأطراف العربية في سياسة السلام ورفضت التنازلات المصيرية، وتوقفت عن سياسة العنف وحركت قوى السلام واليسار الإسرائيليتين فقدت تلك القوى الحاكمة الإسرائيلية أوراقها. خاصة ان هذه السياسة العدوانية الاستعمارية العتيقة تواجه برفض جمهور متسع من الأقليات اليهودية المضطهدة التي تريد العيش وزيادة دخولها بدلاً من أن تموت في حروب مستمرة لهذه الدولة – القاعدة العسكرية. فتبدل الطابع الصهيوني للدولة العنصرية وضخامة الوجود العربي فيها الذي يبلغ 16% من مجموع السكان داخل إسرائيل، أي حوالي مليون عربي، وتمرد اليهود الشرقيين واتساع رقعة اليسار الانتخابات وفي الوجود السياسي عامة. لقد كانت الأحزاب المعارضة في القسم العربي قليلة ولكن مع تزايد تأثير القوى المتشددة فقد ظهر الكثير من الأحزاب وقسمت الأصوات العربية.

كلُ شيءٍ يتغير إن التناقضَ هو أساسُ حياة البشر، وبدون تناقض يزول البشر.

المترحلون في الحداثة

عربٌ وعبريون، ساميون غامضون، جاءوا لمنطقةِ الشرقِ الأوسط في قديم الزمان، العرب نزلوا للبوادي الشاسعة وضاعوا فيها قروناً.

والعبريون توجهوا للحضارات الكبرى بين النيل والفرات، وصاروا سجناء الحضارتين، وكتبوا حلماً أن يملكوا من النيل إلى الفرات؛ حضارةٌ طردتهم وحضارة حبستهم.

العابرون المترحلون، البدو في عرقهم العميق، في هدمِ دولتِهم العابرة كتبوا كتاباً باقياً في الزمان على مرِ العصور، هو جوهرُ الحضارةِ الذي لم يصنعوه في العمارةِ والجند، نسجوا خيوطاً من قصصِ وسحرِ وأساطير وتقدم الحضارتين جعلتهم سادةً خرافيين على مدى الزمن، وكان الكتابُ مستعاراً.

لكن الذي أسسَّ التوراةَ هو الذهب، فهذه قبائلٌ توحدتْ برأسِ المال وهو طفلٌ جنينٌ في بطن أمه الرأسمالية الشرقية، في التشرد والضياع وإستغلال الشعوب وأسواطها التي تنزلُ على ظهر هذه القبائل المتمدنة، كان الذهب قوة ًوسيفاً بتاراً، ووراء الذهب كان العمل البشري المُستغَّل، لهذه الشعوب والأمم التي تعملُ وتنتجُ وتكتشف وتتصارع، مضيعةً ثرواتها في غمضة عين.

 الملوك والأمراء والرؤساء يتلاعبون بالثروات، ويبعثرونها على القصور والمحظيات وسماع المديح، واليهود يعيشون في أزقة نائية عن الصراعات البذخية الضارية، والجميع يحتاج إلى صبرهم وعملهم وخزنهم للمال. كانوا هم الملوكُ المتوارون وراء السراب السياسي للشعوب.

لم يشكلوا إمبراطوريات تحول جبالَ الذهب إلى ديون، بل حولوا الديونَ لجبالٍ من الذهب.

فيما كان أشقائهم العرب ينحدرون للبداوةِ ويعيشون فيها مخلدين. وفي ومضةِ الإسلامِ والنهضةِ طار العربُ بعضَ السنين فوق الصحارى، واستأجروا الشعوبَ لكي تعملَ عنهم، وشكلوا لحظات معرفية عظيمة منفصلة عن الصحراء ثم ما لبثوا أن صحروا المدن.

وكان الذهبُ يتسربُ لليهود المتوارين عن ظهور الخيل والعاملين في النقش وحك المعدنين الثمين والرخيص، والسير وراء الحرف والحريات الاقتصادية.

في العصر الحديث تواجه العربُ والعبرانيون بعدَ طول إفتراق، عدةُ آلافٍ من السنين لأبناءِ العم لم تُغيرْ لغتيهما الصارمتين الأسطوريتين المتقاربتين الموجودتين في الكتب المقدسة.

ولكن شتان بين حالٍ وحال.

حشودٌ هائلةٌ بين المشرقِ والمغرب، شعوبٌ كبيرة تواجه العبرانيين وقد تركوا الترحال وتخندقوا في دولة، ولم يتفقوا على عيشٍ مشترك، العبرانيون جاءوا فوق بوارج وطائرات وبنوك الأمم المتقدمة. إن أممَ الذهبِ إستوتْ أنظمةً وهيمنةً على الشعوب، والعربُ بقوا في صحاريهم وخنادقهم، وإنتُزعتْ أراضيهم وثرواتهم الشحيحة.

العبرانيون تجسدَّ فيهم تاريخُ العمل والعربُ تجسد فيهم تاريخُ الكسل.

رغم إحتفاظ العبراني بقداسةِ الإله والصلوات والأعياد المعقدة التركيب والمغرقة في الفذلكةِ العبادية، فقد كان شديد العملية، وقد عبرتْ أممُ الرأسماليةِ الغربية في عبادتِها الجامحةِ للنقود والإنتاج والهيمنة عن مكنونِ ذاتهِ العميقة الخالدة،

فيما العربي ضائعٌ، كسولٌ، خريجُ المقاهي والغرزات، يجمعُ شيئاً من المال ليبعثره على ملذاته أو يقدم الإحسانَ الوفير للأمم التي تنهبه، لا يزال مترحلاً غير مستقر، وطنه خيمة، وصندوق نقوده غيمة،

وجد العبراني دولةً يُظهرُ فيها عقدَهُ التاريخية، تاريخُ الذل الطويل يتحولُ إلى إذلال لأي شعبٍ يقعُ تحت قبضته، كما واصل الإنحناء لإله الرعود الباطش، وإستطاع بنفعية جبارة أن ينتزع الأرباح من ظهور الشعوب طوال أيام الأسبوع ويخصص السبت فقط لربه. 

إنه شعب الكيف ذي النوعية المتقدمة.

وهناك شعوب الكم الهائلة ولكن ذات النوعية المحدودة.

بلد صغير في مواجهة بلدان عدة غير قادرة على وقف رعونته.

وعي العربي السائد لا يُفكك، ينتظرُ الغيبَ يشتغلُ عنه، ولهذا يكثرُ من القراءات الدينية، والبدوي الكامن في روحه ينتظر الحديقة المليئة بالجواري والغذاء والمياه المتنوعة، وحوّلَ برميل النفط لبركة سباحة ورقد تحت الشجرة يعيد مواويل الرعاة.

إعتبر النفط غيباً، ونشر ديكورات وأكسسورات التدين، فإنتشرت دكاكينُ اللحى والبساط السحري والتمائم والجوامع، ورغم كل هذه الجهود الجبارة لم يستطع أن يلاحق العبراني الذي ليس لديه آبار نفط ولا مناجم حديد.

الثورة المحمدية

مؤسسُ ديانةٍ، وقائدُ ثورة
تكرُ العصورُ وأسمكَ نورٌ يغمرُ البشر، وليس ثمة نبيٌ ولا وصيٌ ولا ولي ضحى كما ضحيت، وعانى كما عانيت، وأبلى كما أبليت، ونقل أمته من الحضيض إلى شاهق القمم!
من استطاع أن يفعل مثلك، في ربع قرن حولت هؤلاء الفقراء الضائعين في بيداء التاريخ إلى حكماء وفلاسفة، وهادمو عروش راسخة على القهر، فبنوا حضارةً تمتدُ من الصحراء إلى القارات المسكونة وكادوا أن يمسكوا القمر ؟
من تحمل كل هذا الألم ؟ من خاض كل هذه الحروب وصاغ البيان وعلم الإنسان وإذا ارتجف الناس في حضرته قال إن أمه كانت امرأة عادية تأكل القديد ؟
من استطاع أن يقود مساكين الصحارى ليتملكوا الجنان، ويأخذهم إلى جهات العلوم، وينثر في أيديهم الفضة كما ينثر الحكمة، ويبقى هو في بيته البسيط وحتى همسه يغدو مسموعاً في الشارع ؟
ليس اللباس ولا الشعر ولا الصولجان من أخدته إلى العلى بل هذه الروح المتوثبة المشتعلة لهدم الاصنام ورموز العبادة البشرية الوضيعة ولهذه التجارة بالضلوع البشرية، وقدته لهذه الينابيع المتدفقة من التضحية والشجاعة التي تنتقل إلى الملايين كالكهرباء فتفجرُ طاقاتها وتوزع محطات نورها عبر العصور!
وهذه الثقافة العميقة العريقة وهذا التجميع المدهش لقوى البشر المتضادة الممزقة، وتحويلها إلى سيل بناءٍ، وهذا الصدر المفتوح لكل نأمة بشرية، ولكل خلجةٍ إنسانية ولكل وجعٍ فلا يضيق ولا يهدأ..
وامتد عذابك إلي أسرتك، وراح لصوص التراث والحكم، يسرقون ثمار ثورتك، ويحملوننا وزر عذاب أهلك، فامتد حيطُ الدم إلى نحورنا وعروقنا وضمائرنا، وليس لنا إلا أن نناضل ضد رموز الشر والاستغلال لنسترد كرامة النبوة والأسرة النبيلة!
فى عظمتك الباقية عبر العصور نستلهمُ حرفاً أو كلمة، لعلنا نضيءٌ كهفاً، وقد أطبقت علينا الظلماتُ، وصرنا أسرى لأناس سرقوا تراثك، وأناس كرهوا سيرتك، أولئك حبسوا ماضينا، وهؤلاء اعتقلوا حاضرنا، وليس لنا سوى المستقبل نوحدُ فيه صفوفنا علنا نتحرر ونفجر نهضة عظمي كما فعلت..
سُرقت كنوزنا حتى اصحبنا عرايا بين الأمم، وتماثيلنا ونفطنا وأرضنا مباعة بأرخص الأثمان، يأكلون من أكتافنا ويضحكون على تراثنا، وهذه الملايين قادرة أن تصنع شيئاً جديداً للإنسانية رغم أن عرافى الكذب اجتمعوا على نفى خصوبتها ودورها التاريخي..
وليس بيننا رجلٌ أو امرأة يرتفعُ إلى ظلٍ من قامتك فيوحدُ الملايين الجاهزة لكل تضحية، والرموز الشاحبة انحشرت في ثقوب الحصالات والتبعية والطوائف رافضةٍ التوحيد الذي أعلنته مبدأُ، وكرسوا التفريقَ وباعوا كل شيء من أجل فللهم وقصورهم وخزائن طوائفهم ووضعوا ملياراتنا المسروقة في شركات الإغارة على مخيماتنا وارواحنا وأكواخنا..
لكن الملايين تصعد للمعرفة والاكتشاف، وتنخرط في المصهر الثوري المحمدي الإنساني الكوني، تكتشف علاقاتها بالجمهور الفقير المستعبد، أصل الطاقة المولدة لكل ثورة، وتحول خموله ومعاناته إلى نشاط وعلم وفلسفة، مثلما حولت عظمتك عماراً وبلالاً قادةٍ كباراً..
نمضى على حبك، ونستلهم سيرتك، ونمشي على خطى ثورتك، ونفصل مؤقتاً الديانة عن الثورة، لنوحدهما في تكوبنٍ جديد، يكرس الديانة كحياة اجتماعية، ويعمق الثورة كنظامٍ سياسي ليصهر مجموعات المسلمين والعرب في تكوين حديث يقفز إلى ذرى الحداثة والعلوم والنهضة كما فعلت وفجرت طاقة هذه الأمم وعبرت بالإنسانية صحارى كبرى!

الثورة المحمدية والإقطاع الدينى
تشكلت الثورة المحمدية على أرضية شعبية بدوية لا تعرف مؤسسات الكهنوت، ولم يسبق للعرب أن شكلوا مؤسسات دينية متوحدة مع قوى القهر والاستغلال، إلا بشكل هلامي وضبابي عبر دور مكة المقدس، والتى كانت تحتفي بأصنام القبائل العربية، وبدأ كهنوتٌ غامض يظهر في بني هاشم ماعتبارهم أهل الرفادة وسقاية الحجيج والاعتناء بالكعبة.
ولكن هذه المؤسسة الدينية لم تتبلور في شكل سياسى متوحد مع الدولة حدث لم يكن ثمة دولة، ولا مؤسساتها المنظمة من جيش وشرطة، إلا إذا كان الأحابيش وهم قوة عسكرية صغيرة لدى ملأ قريش يمثلون أهمية وسط القبائل المسلحة.
ولهذا حين ظهر الإسلام تخوف من تحول بعض المؤمنين إلى رجال دين، يتحولون إلى مؤسسة دينية على طريقة اليهود والمسيحيين، ومن هنا كان شعار «لا كهنوت فى الإسلام» واضحاً قوياً حتى أن عهد الخلفاء الراشدين وعصر السلف كلاهما مرا ولم تتشكل فيهما مؤسسة دينية، وحتى التعليم الديني والفتاوى والأحكام والقضاء كانت تُجرى دون أن تكون ضمن مؤسسة دينية، ودون مقابل مادى، ورفض السلف تسميات رجال دين أو فقهاء.
بطبيعة الحال غمر العربُ والمسلمون الصحابةَ والسلف في الأمصار بالهدايا، والحب، وهناك من القلة من استغل هذا العطف والاهتمام إلى إثراء، وأخذ جانب من الدينيين يحولُ المعرفةَ الإسلامية إلى رأس مال، وتداخل هذا الاتجاه المصلحى مع نمو أجهزة الدولتين الأموية ثم العباسية، وأخذ الفقه المعارض المرتكز على بحث المال العام وحرية المسلمين والعدالة يتحول إلى فقهٍ موال يتجنب القضايا الكبرى.
ورغم القمع الفظيع والمجازر فإن المجاهدين لأجل توزيع المال العام على الناس، لم ينقطعوا، وتحولت دعواتهم إلى فرق فكرية سياسية، مما جعل الدول توسع دوائر مشاركة رجال الدين في غنائم الاستغلال، وتطارد من يفتى ضدها. لكن حتى هذه الفرق الفكرية السياسية لم تنجُ من الاضطهاد والشراء لضعاف النفوس من داخلها، فأخذت تتحول إلى فرق تنوير فكرية خالية من النضال السياسي الجماهيري، وعجزت عن تطوير أدواتها الفكرية لكشف أوضاع الإمبراطورية القائمة على استغلال الفلاحين والعبيد والناس عامة.
وقد سيطرت الأشكال الدينية المفرغة من المضامين النضالية و المساواتية للفترة الأولى على المناخ الفكري الديني، وغدت أسر الأشراف تحول هذه المادة الدينية إلى وسائل للوثوب إلى السلطة، والنزاع مع القوى السياسية الأخرى.
تحولت أشكال الفقه السياسي للقوى المسيطرة إلى مذاهب كبرى، وقامت بتفتيت المسلمين إلى قوى متنابذة، كما تحولت هذه المذاهب إلى أشكال لصراع الأمم البازغة فى المناخ الديني العام، مثلما كان الصراع بين الأتراك والفرس في إيران على الحكم خلال القرنين الرابع والخامس الهجريين، لكنه تجسد من خلال صراع المذاهب السنية والإمامية المختلفة.
هكذا دخلت هذه الأشكال الدينية إلى حيز الوجود الاجتماعي اليومي للمسلمين متحولة إلى مؤسسات مهيمنة، تفرض حضورها المطلق على قضايا الحياة الاجتماعية، أي في ميادين العلاقات الأسرية خاصة وطرق التفكير والأحوال الشخصية، حيث أن الدول لم تسمح لها بالوثوب إلى السلطة، وكان هناك تداخل بين المسيطرين على الثروة العامة من حكام ورجال دين.
لم تستطع هذه المؤسسات التي تمازجت والقوى التقليدية المالية والعقارية أن ترى الإسلام التأسيسي كثورة نهضوية وذات قوانين تحالفية مع الفقراء لتشكيل عالم حر، أي قامت بنزع المضمون، وغيبت المسار التاريخي، والدلالات الاجتماعية والسياسية في سبيل الهيمنة.

الثورة المحمدية والديمقراطية المعاصرة
اعتبرت التحولات العربية الإسلامية في القرن الأول الهجري باعتبارها إما نموذجاً سياسياً مطلقاً، وإما أنها لا تصلح كنموذج للتطور السياسي الراهن، والذين يأخذونها كنموذج مطلق لا يعنون أنها ثورة نهضوية، بل يأخذونها كرسالة دينية غيبية مطلقة، وبالتالي يقومون بتجاوز مضمونها السياسي والاجتماعي التحويلي لمجتمع
التخلف والتفكك السابق .
وهذا يعود لانبثاق منطلقاتهم الايديولوجية عن عصر تال على هذه الثورة، وليس بسبب قراءة الظروف السياسية، التي شكلت ديمقراطية مباشرة بين القيادة النهضوية والجمهور الشعبي، حيث لم تكن هناك فترة كافية لترسيخ الدولة، وكذلك بسبب تمازج مهماتها التحويلية للجزيرة العربية بالتصدي للهيمنة الأجنبية على المشرق.
وكان النموذج السياسي القوي في التجربة العربية لا يرتفع عن دور دار الندوة، أو عن الرياسة القرشية التي توجهت للاستبداد، وعن المشيخة القبائلية التي كانت تتخلى تدريجياً عن ديمقراطيتها المباشرة، والذي تمظهر ذلك في ظهور الملوك في بعض القبائل العربية الكبيرة كقبيلة كندة، والتي كان التحالف مع الأجنبي متضمناً في غور تجربتها السياسية كما فعل أمرؤ القيس حين استعان بالروم بعد الثورة ضد طغيان أبيه.
وقد اعتمد الإسلام في تجربته الاجتماعية على التراث العربي السابق، في مجالات كثيرة، ولأن هذا التراث لم يفرز حكماً شعبياً، يمكن أن يرفد المرحلة النبوية النهضوية التحولية، في مخاضها الشعبي والحربي في تغيير الكيان التقليدي المفكك والدموي السابق، فلم تظهر تجربة سياسية انتخابية.
ولكن نستطيع أن نرى بعض البذور الديمقراطية الشعبية في هذه التجربة، عبر عدم تشكل جهاز قمع عسكري موجه ضد الناس، حيث كانت القبائل المنضمة للإسلام هي التي تكون هذا الجهاز.
ومن هنا كان إنشاء الأجهزة المحلية في حكم المناطق، لم يحدث عبر صدامات حادة، بل كان أهالي المنطقة العرب ينضمون للوالي الإسلامي، ويشكلون إدارة محلية، صارت بعد بضع سنوات قليلة قواعد لحرب الفتوح.
وكذلك كان عام الفتوح بلقاءاته المباشرة ومكاشفاته يعبر عن هذه البساطة في تكون السلطة، التي جاءت كتتويج للتقاليد الديمقراطية القبلية الغائرة، والتي إزاحتها الأرستقراطية القبلية المتنامية في الحياة الاجتماعية السابقة.
ولكن من جهة أخرى فإن هذه التقاليد الديمقراطية، التي تركزت على العلاقة المنفتحة والودية والمباشر؛ بين القائد والجمهور، لم تتشكل في مؤسسات، ولم يحولها الخلفاءُ فيما بعد إلى مجلس عام للقبائل؛ لكون عملية الانتخاب غير مقرة لديهم، فالانتخاب عملية مضادة للطابع القبلي، فالقبائل عادةً يمثلها شيوخها، ولا يمكن أن تجري فيها عملية تفكك اجتماعي وسياسي.
ومن هنا نقول بأن تجربة المدينتين النهضويتين اللتين قادتا الثورة، جرتا عبر إلحاق هذه القبائل، عمق الامتداد الشعبي للمدن، بجسم الأحداث المتصاعدة وبالتحويلات الاجتماعية، ولم تكن لديهما فرصة طويلة لتشكيل مدن كاملة الحداثة.
وسرعان ما انقطع التطور بالاندفاع نحو الفتوحات، التي قوت زعماء القبائل والفئات الميسورة بشكل أكبر من القوى الفقيرة، والتي لم يكن لديها مؤسسات.
وإذا كانت الفئات التجارية المكية القرشية التي قادت هذه الثورة، تعتمد أساساً على رأس المال التجاري، فإن هذا الرأس المال قد تكون بفائض هذه القبائل الفقيرة الرعوية، ومناطق الإنتاج الحرفية المحدودة، ومن خلال السوق الكبرى في الشام وفارس، التي تحكمت فيها الدول العظمى في ذلك الوقت .
ولهذا من المستحيل أن يتشكل رأس مال صناعي في ذلك الزمن، رغم أن الإقطاع لم يظهر بعد، ولا تزال الفئات الوسطى هي المسيطرة على الأفق التاريخي.
إن الثورة الاجتماعية الإسلامية إذن تمت بقيادة فئات تجارية طليعية وعبر مدنية حديثة بالنسبة للقبائل والرعاة، وهذا هو المناخ الاجتماعي التاريخي الذي سمح بحدوث عمليات ديمقراطية سياسية واجتماعية كبيرة، لكنها لم تتبلور بهياكل سياسية منتخبة.
وحين تم الانتقال إلى الأقطار الشمالية ذات الإرث العبودي المُعمّم، القائمة على الأنظمة الاستبدادية العريقة، فإن التراث الديمقراطي الشعبي سيبقى لفترة وجيزة، وبعدئذ سنرى المعارك الكبيرة لانتقال السلطة إلى الأشراف، إلى الأرستقراطية، التي كانت مضطرة للحفاظ على الإرث المحمدي شكلاً وتغييبه مضمونياً، عوضاً عن تطوير آلياته الشعبية الجنينية. أما الفرق المعارضة فستناضل للإبقاء على ذلك الإرث، ولكن مع القمع المتواصل وتشكيل الفضاء السياسي والثقافي من خلال وعي الأشراف، فإن القوى المعارضة ذاتها ستلتحق بعالم الأشراف الفكري، والسياسي، وستعجز عن العودة إلى تقاليد الثورة الشعبية السابقة والمتكونة في عالم اجتماعي وتاريخي مغاير.
وتعطي التطورات الاجتماعية والسياسية المعاصرة بعثاً لتلك التقاليد المضمرة دائماً في اللاوعي السياسي العربي، والتي يشوشها الإرسالُ الأرستقراطي، فتغدو تقاليد التجار الأحرار القرشيين مضمرة في تقاليد الديمقراطية الغربية المعاصرة، باعتبارها التتويج الذي حصل على امتداده التاريخي، ولكن في حاضنة غير عربية، وهي حاضنة الصناعة والتقنية والعلوم التي طورت رأس المال ليزيل العوائق الإقطاعية والتقليدية.
ومن هنا تغدو هذه الثمار الغربية، أدوات عربية إسلامية، لتجلية ذلك المضمون الشعبي الديمقراطي العربي القديم، والذي تكدس فوقه تراب القوى اللاديمقراطية على مر العصور السابقة، ولكن هذا التراب هو المؤثر الأساسي، في تشكيل وعي الجمهور العربي، وبناء التقاليد الاجتماعية الراهنة.
وهنا تحدث العملية المعاكسة لفعل القوى المحافظة على مر التاريخ السابق، عبر كشف تغييبها للتقاليد الديمقراطية الشعبية، واستغلالها للثروتين المادية والدينية من أجل خلق عوالم شمولية أبدية، جعلت الفرد العربي والمسلم خارج الفعل التاريخي.
إن الفقه السياسي الديمقراطي لا بد أن يعاضده فقهٌ ديمقراطي اجتماعي، يربط العلاقات بين الجانبين، ويبحث في مدى مشروعية الفقه التقليدي، ومن أين تشكلت أصوله الحقيقية، ودور الحواضن الشمولية في إنتاج وعي معاد لتطور الأمة.
فظهور الديمقراطيات السياسية العامة من برلمان وانتخاب ليس هو إلا الإطار للتغيرات العميقة التي تحفر في بنى العائلة والقبيلة والدولة والجماعات المختلفة، وما دامت هذه البنى الاجتماعية ذات أسس شمولية فلن يكون للتغيرات السياسية العامة تأثيرات بعيدة المدى. حيث هيمنت تقاليد الأشراف التقليدين لا تقاليد التجار المكيين النهضويين.
إن التغيرات التي جرت في الثورة الإسلامية التأسيسية ستجد الآن بعضاً من فضائها المفقود في التاريخ السابق، فالملكية العامة التي وُضعت من أجل (الأمة) ستعاد الآن، والملكية الخاصة الإنتاجية الموزعة والمنتشرة يكثر نموها، ومن هذين الجانبين تجري خلخلة لتقاليد الهيمنة الشمولية على كافة المستويات، وهذا ما يسمح بتطور فقه ديمقراطي تجديدي حديث، يجمع بين الجوانب المشرقة والإيجابية في الإرث السابق، وإنجازات الحداثة التي لا تمسخ شخصية الأفراد وتطورهم الفكري المستقل.

جسد فهم المجتمعات للمادة، وهي الأشياء والعالم الخارجي الموضوعي، خارج العقل البشري، مدى قدرة البشر على السيطرة على الطبيعة والمجتمع، ومدى قدرتهم على التصنيع وخلق تراكم للعلوم الطبيعية والاجتماعية.

الفكرة ونارها

الفكرة ونارها
لا يمكنك أن تلغي الفكرة بالإجراء، بالموقف الإداري، أو حتى بالعصا!
الفكرة تقاومها فكرة، والكلمة تدحضها كلمة.
في العالم التقليدي الدينار يكبر الرؤوس والسياط تشل الألسنة، والكهوف تقوي الأبصار، ولهذا فإن جرجرة الصحف والكتاب للقضاء ومراكز الشرطة لن يفت في عضد الكلمة بل سيغمر أصحاب الدعاوى بالعار. الكلمة تنمو بالجدل، واحتكاك الكلمات وتصادم الأفكار يولد شرارات المعرفة.
ألا ترى صحفاً في العالم الشرقي المتكلس هي عبارة عن نشرة واحدة؟
ولم تحدث هذه الصحف عقلاً بل جهلاً وتصادماً وانهيارات؟
لقد تداخلت قوى التخلف والمحافظة خلال عقود لشل الكلمة وتحنيطها، وملء صفوفها بالمبتذل والسطحي، وبالتالي تجميد المجتمعات عن التطور.
مرت عقود منذ أن نشأت الصحافة البحرينية نشأة متفردة ترتقي إلى مستوى هام للصحافة العربية، فكانت سياسة وأدباً وتحقيقات عميقة وتشكيلاً لرموز ثقافية وطنية كبيرة كتاباً يصنعون كتباً في شتى الآداب والفنون لا معقوين بالكاد يفكون الخط.
ولهذا فقد ماتت كل الأفكار لأن الفكرة لا تستيقظ إلا بخلافها، والمطبوعة لا تتجلى بدون منافسها.
أما أن كل كلمة تستدعي ناطوراً، وكل مطبوعة تقف خلف سطورها كشافات الاستادات الرياضية فهي تغدو معوقة ونزيلة مستشفى عظام.
أما أن تتزايد القوى الأهلية التي تراقب الكلمة وتطاردها وتتفاقم تدخلاتها فهذا دليل على ضعف فكري لغوي سياسي، فلن يغير الفكرة الأجراء الإداري، أو الخطب العصماء في المؤسسات الأهلية الدينية التي كان ينبغي أن تنتج مثقفين ومبدعين ومتغلغلين في الثقافة العربية.
الفكرة شرارة تتغذى بالفكرة وتغدو ثقافة وعلوماً وحضارة، أما العصا فهي تصنع المستنقعات.

الفكر والحرية
لا يستطيع الفكر أن يكون خصباً بدون أن ينموعبر الحرية، وقد أدت الشموليات التي تحكمت في إنتاج الفكر العربي إلى أن يكون مقيداً، قليل الحفر في عالمه رغم ضخامة ما يتراءى من كتب كثيفة الورق قليلة المعنى.
إن أسر الفكر العربي في التشكيلة التقليدية كان هو الأسر الكبير الخفي لعرقلة نمو هذا الفكر باتجاه تحليل الأبنية الاجتماعية الراهنة. وعلى الرغم من إدعاء العديد من الكتاب بأنهم شكلوا كشوفاً، أو أنهم تجاوزوا المعطيات الفكرية الماضية والراهنة، فإن السؤال المركزي بتحليل البنية الاجتماعية العربية السائدة لم يطرحوه.
هناك اما قفزات إلى الإمام عبر توهم تحقيق الاشتراكية أو توهم تحقيق الليبرالية عبر نموذجها المنجز الغربي، أو توهم تحقيق الإسلام. تعبر الأوهام الثلاثة الرئيسية، عن توجه ممثلي الفئات الوسطى العربية المختلفة، إلى إنتاج نظام خيالي لا يدور إلا في أدمغتهم.
وإنتاج الأوهام بهذه الطريقة يعني أولاً عدم القدرة على تحليل البنية الاجتماعية الراهنة، فهو هروب اما إلى الخلف عبر النموذج الديني وإما الهروب إلى المستقبل عبر النموذجين الغربي والاشتراكي.
كذلك فإن إنتاج الأوهام بهذا الشكل هو ثانياً تعبير عن انتقائية وانتهازية الفئات الوسطى، لكي تتماشى مع القوى السائدة، المتعددة، في مستويات البنية العربية التقليدية.
فالدينيون يدافعون عن البناء التقليدي في هذه البنية سواء كان سياسياً أم اجتماعياً، وإذا حدث صراع واختلاف فهو في المستوى السياسي، كأن يعملوا من أجل تغيير القيادة السياسية وليس البناء الاجتماعي العتيق . فيغدو الصراع هنا ليس لتغيير البنية الاجتماعية ولكن لتغيير الإدارة فيها، أو الحصول على نصيب من الإدارة فيها.
أما الليبراليون فيعملون على تغيير بعض الحريات أو توسيعها في النظام التقليدي، ولهذا فإنهم لا يطرحون النظام التقليدي نفسه على مشرحة التحليل، وهذه الطريقة تفيد الفئات المرتبطة برأس المال الذي نما في النظام التقليدي، ومن هنا يغدو طرحها توظيفياً انتقائياً، حسب المكاسب المترتبة على هذا الطرح في المدى القريب . أي أنها لا ترى خطورة الطرح القصير النظر على تأسيس وتجذير الليبرالية.
أما الوعي الاشتراكي القديم عموماً في المنطقة، فهو يصر على اعتبار النظام التقليدي الراهن نظاماً رأسمالياً طارحاً الخيار الاشتراكي، وهي عملية تقود الوعي الاشتراكي إلى الانتهازية والانتقائية، والالتحاق بالفئات الذيلية للنظام التقليدي على تنوعها. ولهذا لا يجب أن نندهش لتحول البعض إلى الفاشية والطائفية الخ..
أي أن طرح النظام الديمقراطي الحديث الحر على كافة مستويات البنية الاجتماعية، يواجه من قبل القوى التقليدية بأشكال شديدة التنوع. ولهذا فإن الاصطفافات السياسية والصراعات الفكرية تعبر لدى ممثلي الفئات الوسطى المختلفة، عن عدم القدرة على إنتاج الوعي الحديث بشكل عميق وواسع، ومن هنا فإن الفكر لا يستطيع أن ينمو وأن يتجاوز المقالة السياسية والخاطرة الفكرية المحدودة الرؤية.
إن الفكر كي يشكل بناءه العميق يحتاج إلى الغوص في تحليل البنية ورؤية أسباب عجز النظام التقليدي عن إنتاج الحرية، والتحاق الفئات الوسطى المنتجة عادة للوعي، بهذا النظام. فالدينيون التقليديون حين يرفضون الديمقراطية الشاملة فهذا تعبير عن شمولية غائرة في وعيهم، أي أن مقولات الإسلام والألوهية والنبوة والمعجزات والظاهرات التاريخية المختلفة الخ.. لا يستطيعون أن يفهموها بشكل حديث، وهذا الأسر في زنازين الماضي لا ينتج حريةً. أي أنهم لا يستطيعون أن يحرروا المسلمين وهم معتقلون في التاريخ العتيق. كذلك فإن الفرق الأخرى معتقلة في جهات غربية أو شرقية، ولتتحرر تحتاج إلى إنتاج فكري عميق، يقوم بممارسة نقد جذري للحياة، ولهذا فإن الفئات الوسطى بدون تحالفها أو تعاونها مع الجمهور العامل بشكل مشترك لإزالة النظام التقليدي، لا تستطيع أن تحرر نفسها.

الإنتاجُ الفكري وضياعُهُ
مثل أي إنتاج لا بد له من مادة الحياة، أي من مواد حقيقية، لكن ليس من مطاط وجلود ومياه بل من مشاعر وأفكار وتحليلات إبداعية.
ومثل الإنتاج المادي الإنتاج الثقافي ينحرف، ويصب في أسواق ناضبة من المشترين، ويتورم في إنتاج هزيل رغم المظاهر الخارجية الفاتنة والدعاية الخلابة.
الإنتاج الحقيقي والعميق والمتصل بجذور حالات الإنسان وقضاياه لا يجد له سوقاً مزدهرة؛ لأن المشترين يعيشون هم كذلك في حالات من الغربة والضياع عن الإنتاج الوطني، مهمشون أو فائضون عن الحاجة في أجهزة دول متضخمة في الثانوي، محدودة فيما هو جوهري وغائبة عما هو تصنيعي وتحويلي للتخلف، تشكل استقطابات بين الغنى والفقر، بين المدينة والقرية، بين المادة والثقافة.
ولهذا هم يتراكضون نحو هامشيات الحياة، نحو الماديات التي تهترئ، نحو أوقات التسلية المضيعة للعقل، وتصاب الروحيات بالجفاف واللامبالاة والهامشية واليأس والأحزان والأفراح الفارغة والضياع.
غياب الإنتاجيات الحقيقية في أي بلد يدفعه للأزمات، الذهب يذهب إلى الخارج، والعملة الوطنية تترنح وتتضخم أوراقها وتقل قيمتها، ويتكاثر الوسطاءُ البيروقراطيون الحكوميون وتجار العملة والأجهزة والخدم والتضخم.
في أزمنة الكفاح يجد المنتجون الثقافيون أنفسهم في حالة خصب إبداعي، فهنا توازن بين تحليل الحياة ومعرفة عناصر إنتاجها وقوى تغييرها، ووجود قراء ومشاهدين مشاركين يعتبرون هذا الإنتاج جزءًا من وجودهم الجماعي، ويغدو الشاعر صوت (القبيلة) الحديثة بنضالها ومآسيها وأفراحها، ويغدو القاص كاشفاً للنقاط السلبية والإيجابية في الناس والحياة، يقيم جدل التغيير، يحس القراء أنه بينهم، يراقبهم، يشاركهم، ينفعل بما يحدث لهم، يكشف لهم ما لم يروه، يساعدهم على التطور، يغذونه هم أيضاً بملاحظاتهم، ينفعلون لأخطائه، يصوبون صوره.
ويمكن أن يطير الإنتاج الثقافي نحو التجارب والابتكارات ليكشف مناطق جديدة، ودائماً هناك مشكلة القفزة عن مستوى المتلقين، فقد يتغربُ الإنتاجُ الثقافي، ويعجزُ الناسُ عن فهمه، ويعجز المنتجُ عن الوصول إلى المستهلكين، مثل مواد الإنتاج المادي من فواكه وأزهار وحرير، قد تؤخذ للحريق، ويتم أعدامها من أجل أن يبقى مستوى الأسعار عالياً رغم أن المنتج الثقافي بحاجة إلى أبسط أدوات العيش.
ويمكن كذلك أن يصير الإنتاج الثقافي منحرفاً عن طبيعته، طبيعة التلاقي البشري، وطبيعة التأثير وخلق الجمال في الحياة، فيصيرُ أمراضاً بدلاً من علاج وسمو ومتعة ونضال مشترك. الجمال في الثقافة يصبح القبح في الحياة الاجتماعية!
هنا تزدهر الأشكال الخارجية التي لا ترتبط بحقل منتج، تطلق أشباحاً تسبب الأمراض.
أغلب النقد لا يريد أن يتفاعل مع معارك الحياة، النقاد أغلبهم أساتذة جامعات وموظفون، يتطلعون إلى تحسين مستوى عيشهم وإلى الارتفاع في أجهزة الدول، ولهذا هم يبتكرون النقد الذي لا يكشف الصراعات الاجتماعية، والسياسية، والذي لا يتوغل في أمراض البشر، ويُنزلون على النصوص هياكلَ خارجية تفضي بهم إلى عدم قراءة الواقع ومصائبه ومشاركة الناس التغيير.
مثل ذلك مثل وعي الجامعات العام لا يقيم جدلاً مع البناء الإنتاجي ولا يكشف الهدر الاقتصادي فيه، فلا يريد أن يتعرض هنا لمساءلة الجهات المتحكمة في هذا الإنتاج المادي.
ومع عقم الثقافة يزدهر الجدب والمظاهر الخارجية الخلابة المحدودة المضامين، وتكثر الاستعراضات، والمنتج الذي فقد العلاقة مع الواقع، والذي لا يعني أن يركب «باصاً» ليدون ملاحظاته على التذاكر، بل أن يكشف المشكلات العميقة في الحياة، أي الأزمات الداخلية غير المرئية التي تحيل حياتهم حروباً وفقراً أو بذخاً على حساب المنتجين.
عقم الثقافة يتجسد في صعود التضخمات الروحانية والاستعراضات الصوفية وفي تفاقم كم الإنتاج على حساب كيفه أو غيابه تماماً وهو أمر يعكس فقدان الروح بسبب المادة وتوسع حبسها، ويؤدي لتيبس الكلمة، وعدم ارتعاشاتها بالصراع والتطورات وبالفضح والسخريات وتنوع أشكالها وغياب تجريبيتها النوعية المتغلغلة في حياة الجمهور ودينه وواقعه، في تأمله المفارق ومستنقعات حياته المغمورة بالدماء.
يغدو الإنتاجُ عاقراً حين يكون مرتبطاً بجهات عليا فاسدة أو بمصالح ذاتية متورمة، صادراً عن كليشيهات مسبقة، معدومة التحليلات الموضوعية، وعن فورمات ينتجها أقطاب المذهب، الديني أو السياسي أو الأدبي، أو الفني، أو تحدث بسبب متابعة الموضات المفيدة تجارياً، والتي يتلبسُ بها ادعاءات العملقة والابتكارات المذهلة وهي خاوية.
موجات الثقافة السياسية والأدبية المتصاعدة المتراكمة النمو تتعلق بمدى جرأتها في تحليل الواقع ونقده، وهو الشرط الحاسم في بقاء الكلام أو اندثاره، فإذا تلكأت أو تراجعت يتضح ذلك في النتاج المتكرر العقيم.
ولعل التطرف ومحدودية الثقافة وعدم القراءة الواسعة هي التي تجعل الكتاب والمبدعين ينضبون من دون أن تتفتق عقولهم عن ابتكاراتٍ ومواقف وتجسيدات ذات ذكاء تجمع بين تأصلهم واستفاداتهم من نتاجهم ومن ارتفاع مكانتهم.
وهذا يحدث حين يجدون صيغاً ذكية، فيها الطموحات الشخصية والالتزام بتعرية الواقع الفاسد، والابتكارات الفنية التي تغدو ذات شعبية.

المفكرُ والتحولات
(إن مستوى المفكر إنما تقررهُ قدراتُهُ على ولوجِ مسائل زمنه ورفعها لمستوى التجريد بهذه الدرجة أو تلك مرتكزاً على موقف الطبقة التي ينتمي إليها).
(الاشتراكيات القومية) حطمتْ الفكرَ العربي على مدى العقود السابقة والآن(الرأسماليات الدينية) تجهزُ على البقيةِ الباقية من هذا الفكر.
والفكر المقصود هنا هو عموم ما تنتجه الطبقات الحديثية من فهم للعصر بفضل إختلافها.
الاشتراكياتُ قامتْ على عملقةِ الدولة وتذويب المواطن وسحقه بحيث لم يعد هناك سوى مُحطمين. والمفكرون الأحرار الذين ظهرَ بصيصٌ منهم في مرحلة الليبرالية الديمقراطية الوامضة إختفوا.
لا بد لنا هنا من تأملِ صعود أولئك المفكرين العصاميين الذين كانوا يُقترون على أنفسهم ليشتروا الكتب، ويحصلوا على مواقع في الجرائد ليكتبوا وينوروا ويهتموا بقيم الحداثة. ألم يكونوا خلفاً لأسلافهم(البخلاء) في العصر العباسي، يقتصدون في العيش ليكتبوا؟
لم يربطوا أنفسهم ب(الرعاع) وهم الجزء من الناس المستخدم للتصفيق والسير وراء الشمولياتِ المفترسةِ للفكر، وبحثوا عن المواطنين الأحرار ليخاطبوهم الند للند، وليشكلوا فئات وسطى وعمالية صغيرة متنورة.
لكن زمن الشموليات القومية والدينية كان يصعد في سماء الشرق الملبدة بالغيوم الاجتماعية، وعلى عكس ما أَمِلوا وتمنوا فإن الرعاعَ هم الذين صعدوا وإنتشروا وسيطروا!
الاشتراكيات القومية ليست إشتراكيات وليست قومية، وقد قفز إليها نمطٌ من الرعاع ذوي ملابس براقة وبدوا كأنهم أبناء لفئات محترمة، لكنهم التهموا المؤسسات والأموال العامة، وما فعلهُ المنورون لوصول التنوير والصلابة الأخلاقية والتعفف عن التهالك على المال والغنائم إلى الفئات المتعلمة(فهم لم يطمعوا ولم يفكروا أساساً بالوصول للعامة التي لا تقرأ)، لم يتجذر ولم يؤسس ديمقراطية شعبية بل جاء الاشتراكيون القوميون لينشروا تلك الرذائل وعبادات الأفراد وغدت الجريمة السياسية أساس الحكم حيث ينتشر التعذيب وتُكمم الأفواه وتكتمل دورة سحل الفرد وإهدار كرامته.
الاشتراكية القومية نتاجات للنمطين النازي والستاليني وغدت مسوخاً متعددة متداخلة مع تقاليد العنف العربية في شتى الأقطار.
ومن هنا نجد أن الأدبَ في زمن الاشتراكيات القومية وهو مُفعم بالذل، فإغلبُهُ عن السجون وكيف يُمسخُ الفرد، و(الأبطال) هاربون متوارون ووجوههم الشجاعة مطلمسة، وفهم الواقع محدود معدوم.
الصحافة التي كان يمكن التعويل عليها في نقدِ هذا الواقع المزري هي مشتراةٌ من قبل (الرعاع) الذين تنظفوا وأغتنوا وصاروا أصحاب مؤسسات وخلايا سرطانية تتغلغلُ في المجتمعات العربية ثم صارت في مرحلة لاحقة صحفاً مهاجرة وفضائيات وغيرها.
الجامعات التي كان ينبغي أن يكون همها الأكبر هو إنتاج الفكر الحر غدت مكبلةً بالدراسات المؤدلجة لتبرير الاشتراكية القومية، والأنظمة الوطنية الشمولية المختلفة، حيث يظهر رعاعٌ من نوع آخر مهتم بنزع قوى البحث عن الموضوعية والتحليل العميق الكلي، وكشف الصراعات الاجتماعيات والفكرية ومساراتها وتداخلاتها ومخاطر تغييب درسها على تطور الأمة.
القومية الاشتراكية غدت عربية فكل الأنظمة صارتْ تؤممُ المالَ الشعبي والجهلَ الشعبي لحسابها، ولهذا فإنجازاتُ السحل والانتهازية وشخصية المثقف العضوي الطفيلي في الأجسام السياسية الاجتماعية الفاسدة غدت ظاهرات عربية.
غدا الفكر مشوهاً مرتزقاً لا يحلل كليات المجتمعات والطبقات والتحولات، بل يلتقط خيطاً معزولاً، ويركب عليه إستناجاته المسبقة، وتغدو الأوامر السياسية فوق الفلسفة والمفكر الحر صار موظفاً، والجامعات شُغلتْ في خدمة جلب المناهج القادرة على تشويه البحوث وتوجيهها سياسياً وبيروقراطياً، ولهذا فإن معاول الاشتراكية القومية الوطنية من المحيط إلى الخليج حرثت الأرض جيداً للمثقف الديني الشمولي ذروة التلاعب بالمقدس وتغييب درس تاريخ البشر السابقين بموضوعية، فبدلاتُ الأنظمة والحركات الذكورية هي التي تُركب على جسد القضايا وحالات العالم، وما كان المنورون يسعون لنقده وتغييره غدا هو المهيمن.
فبداية القرن العشرين المبشرة تحولت في نهايته إلى عتمةٍ في آخره. أفكارُ الحريةِ والتحليل الموضوعي الذي لا يحسب حساباً إلا لمادته وتطور بحثه وقامات المنورين الشاهقة تبدلت كلها لكائنات متقزمة تركضُ وراء الرغيف المغموس بالذل وقادة الفكر صاروا موظفين مؤدلجين لكل ما تريدهُ السلطات والأحزاب ولا عجب هنا أن يظهر أناسٌ يعودون للكهوف ويرفضون الحضارة(الكافرة) ويموتون في سبيل أوهام ويعتبرون أبطالاً من قبل البعض رغم عودتهم للكهوف والأطلال ورفضهم للأنوار!

الصراعاتُ الفكريةُ بدلاً من التغيير
التكتلاتُ الاجتماعيةُ الكبيرة تعكس قوى التاريخ والطبقات، لكنها تؤُخذُ بشكلٍ ايديولوجي.
الإقطاعُ (القوى الدينية)، والرأسماليةُ الفردية (الليبرالية) والاشتراكيةُ (العمال)، قوى في حالاتِ نزاعٍ محتدمة لتأكيد مواقعها السياسية في الدول الجديدة.
ولكن هذه القوى ليست مجردة صافية بل متداخلة ويسودُ الوعي الشعاري فيها والمصالحُ الخاصة ولكن تكثر الجماعات المختلطة وتضيع القضايا التنموية الحاسمة في هذه المرحلة الانتقالية.
إن تكوينَ أنظمةٍ رأسمالية ديمقراطية صافية واضحة مسألة صعبة، لأن مختلف القوى تطرح غموضا اجتماعيا، وتعيش على الشعارات والأفكار والعبادات المستثمرة في الصراعات السياسية.
القوى الإقطاعية التي تتمظهر في القوى الدينية المحافظة والجامدة والعسكرية والبيروقراطية هذه لا تريد تحولات في فهمها المتكلس للنصوص ولقواعد السلطة ولا تريد تغيير طبيعة المجتمعات العربية التقليدية.
هناك قوى دينية تعبر عن فئات وسطى رأسمالية تريد تحولات حديثة من دون أن تمس الدين، والدين مصطلح عام من الممكن أدلجته وتفسيره حسب مستويات مصالح هذه القوى، ولهذا تظهر تحالفاتٌ بين القوى الدينية الجامدة وشبه الليبرالية مما يعبر عن الرغبة في الهيمنة على السلطات أكثر من تطوير حياة الناس.
هذا نموذجٌ يختصرُ ما يجري للدائرتين التاليتين الليبرالية والاشتراكية، ولكن ما يحدث هو صعود الرأسمالية بجناحها المنتصر وهو الرأسمالية الخاصة بمؤثراتٍ مذهبية كبيرة، وانتصارُ الرأسمالية لا يعني سوى تزايد الصراعات الاجتماعية وزيادة تراكم الثروات عند أناس معينين وليس كل الناس.
ما يحدث لا علاقة له بالأخلاق والمُثل إلا في شكلها السياسي المجرد، أي ليس هو انتصارُ مملكةِ العدالة والحق والعقل وبقية التعبيرات المجردة الخيالية لقوى التنوير الغربي المثالي في القرن الثامن عشر، بل ما يتحقق هو رأسماليةٌ صرفةٌ متخلفة، ليست فيها قوى إنتاج متطورة، ولا ثقافة متطورة، ولا تنوير طويل، ولا ديقراطية راسخة.
ما نأمله فقط أن تكون متطورة بعض التطور الاقتصادي السياسي المفيد لكل السكان.
إن هذه الرأسمالية الصرفة الديمقراطية العلمانية هي أفضل الشرور، وأقل الخسائر الممكنة، وتتجنب الأوهامَ التي تعششُ في الكثير من العقول باعتبار ان مملكة الحق قد ظهرت، وأن أمام المجتمعات الثائرة تاريخاً من السعادة الطويلة.
أي أن مجتمعا سياسيا يطرح منذ البداية هدفه التنموي وتطوير القوى المنتجة البشرية والمادية وإزالة العراقيل أمامها هو أفضل من الدخول في الصراعات السياسية لأسبابٍ فكرية، أو يبني قصوراً من الرمال الاجتماعية على أراض لم تُحرث بعد للتغيير العميق الديمقراطي.
إن التيارات تطرح مستويات تاريخها وتجربتها، فهناك تخلف في فهم الدين يعبر عن إبقاء العلاقات الإقطاعية التقليدية في مُلكيات الأرض والعقارات وشكل السلطة وبناء العائلة، والتحكم في الثقافة.
وهي لها جذورٌ كبيرةٌ في وعي الناس مما يؤدي إلى الصراعات حول القديم وليس حول الدخول في المستقبل والتحديث.
أو في الدفع برأسماليةٍ استهلاكية فوضوية تؤدي إلى تخبط الأسواق وتدمير قوى الإنتاج الباقية التي عصفتْ بها الرأسمالياتُ الحكومية الشمولية السابقة، عبر قوى رأسمالية سياسية بلا تجربة تخطيطية مستقبلية وتمثل قطاعات المضاربة بالإنتاج واستغلال الفرص في الحكم.
والخيار الثالث الاشتراكي هو تفجر المغامرات الاجتماعية الشعبية نظراً لتبخر الأحلام والوعود الكاذبة لقوى المال والدين بحيث تتحول هذه المغامرات لثورات دامية.
الربيع لابد أن يعقبه خريف، هذا جدلُ التاريخ، وليس هو رومانسية الوعي التي تحيلُ مظهرا طبيعيا لجنة أرضية أبدية لا تتبدل فيها الفصول، ومن هنا يجب درس كيف سيأتي الخريف أعبر هجوم صاعق أم بتطور طبيعي؟
والخريف قادم لا محالة لأن هذه القوى الاجتماعية الثورية المتحدة في زمن لابد ان تتباين مصالحها في زمن آخر، وهي منذ الآن لا تريد أن تكرس تحالفها بشكلٍ دستوري، أو في شكل برامجي مرحلي، بل ان كل قوة تريد أن تستفيد من الأصوات لتفكيرها القوي في الكراسي والنفوذ والامتيازات.
إن نوعيات الساسة والمعبرين الخطابيين للثورات يعيشون في اليومي السياسي، ولم يطرحوا صراع التشكيلات المحتدم وكيفية الوصول إلى الحد الأدنى من التفاهم بين طبقات الثورة.
حين يأتي الخريف مكتسحاً بذور الربيع تضيع الانجازات، ولهذا فإن قوى وسط عميقة تنجح في التنمية الشعبية الواسعة والديمقراطية يمكن أن تمثل استمرار البذور الربيعية، وتجدد سلطتها من دون الحاجة إلى العكاكيز والخداع والقهر.

عدم التطور الفكري وأسبابه
كانوا واعدين بإمكانية تطور فكرية ولكنهم توقفوا ونكصوا للوراء!
هذه معضلة ملازمة للتطور الفكري الذي يتطلب نشاطاً مستمراً وعقلية ديناميكية لا تتوقف عن البحث والتساؤل، وغير مرتبطة بعوائق اجتماعية تمنعها من البحث والتفتح والنقد والإضافة!
قد تعود هذه العوائق إلى عادات شخصية تتوقف تدريجياً عن المتابعة وتعب البحث وتركن للكسل والتوقف والتقطع عن العادات الأولى العملية، وكثيراً ما يكون هذا التوقف مرتبطاً بموقف الذات من نفسها، وتصور بأن ما قدمته فيه الكثير، وأن ما فعلته كان جهداً (خارقاً).
وقد يقود هذا إلى الركون للسهولة في الإنتاج، وعدم خط طرق أخرى، والتوجه إلى وسائل وسبل بحث جديدة، وعدم طرح أفكار مختلفة، وهي مسألة تقود إذا لم تدرس ويتم تجاوزها عبر البحث والقراءة، إلى التوقف عن التطور والركون للوراء، وبالتالي تصبح المادة الفكرية ناضبة من الحيوية ومن الجدية يوماً بعد يوم.
وقد تتشكل عوائق موضوعية لعدم التطور إضافة للجوانب الذاتية السابقة، وهي ارتباط عدم التطور هذا بعوائق إيديولوجية وسياسية، فمهما كان نشاط المنتج أو الباحث أو المثقف فإن هذا النشاط يصطدم بالمحيط الذي يعمل فيه هذا المنتج، فإذا كرر نفس الخطاب خوفاً من الجماعة أو من العائلة أو الهيئة السياسية فإن التراجع للوراء وتدهور الوعي هنا مسألة وقت.
وتقوم الجماعة المتخلفة أو المحافظة بعرقلة تطور أفرادها النشطين نظراً لتلك الإيديولوجية المتوقفة عن التطور والمكرورة على مر السنين، إذا لم تكن في الجماعة أدوات الحوار والبحث الكفيلة بتشجيع الأفراد على التطور والتساؤل، وتنشيط إيديولوجية الجماعة في سبيل فهم أفضل لنفسها، وبهدف استيعاب تغيرات الواقع والتأثير بشكل أفضل على الناس.
وعلى مدى ارتباط هذه الإيديولوجية بأصحاب النفوذ والاتجاهات المندمجة في الدول الجامدة، يتعلق الأمر بتطور الجماعة والأفراد، فهناك جماعات ربطت وجودها بدول في متحجرة في كل الخطوط الفكرية والسياسية، ولم تقم مسافة من الانفصال وخلق حرية ذاتية في العلاقة بالمذهب أو بالأيديولوجية أو بالفكرة الأصلية للجماعة.
وأحياناً تتعلق العوائق بمشكلات ذاتية في الجماعة، بوجود مسيطرين متخلفين عن التطور لا يريدون لأحد تجاوزهم، فحتى الإيديولوجية أو المذهب، فيه إمكانيات للتطور والبحث، ولكن المستوى الوطني أو الإقليمي للفكرة وعملية إنتاجها، مستوى متخلف، بسبب عدم وجود قوى فكر واسعة، أو منابر بحث حرة، وكثافة سيطرة المتخلفين والأميين مما يجعل الفكرة متخلفة حتى عن نظائرها في الدول الأخرى، أو الجماعات المماثلة في مجتمعات مشابهة.
ولهذا نجد الإنشائية غالباً أو الارتداد للوراء، أو تراجع الإنتاج وتدهوره، أو الذهاب لحقول سهلة، ويحدث تناقض حاد بين مجتمعات بدأت تنفض عن نفسها عباءات الغبار وتنطلق فيها عمليات التغيير، في حين أن العقول الثقافية في حالة جمود أو نكوص.
هنا نجد الإيديولوجيات السائدة الشمولية غالباً ما تلعب الدور الأساسي في عدم تطور النشطاء، فهي تخاف من تغييرات في صفوفها حتى لا تفقد مكانتها السياسية، لكن عدم التطور من شأنه أن يضاعف خسائرها السياسية على المدى البعيد.
وعدم التطور الفكري ينعكس على مجالات النشاطات الفكرية والأدبية والفنية والعملية المختلفة، ففي حالة الجمود نجد غياب تلك المعالجات الجديدة وعدم التلاقح مع الواقع بزخمه المتجدد، وانتشار التفتت وجمود الإنتاج الثقافي وعدم بروز تجارب خلاقة الخ..
إن الدكتاتورية في ذات الإنسان أو في جماعته أو مجتمعه هي التي تلعب دور الإعاقة في التطور الفكري.

وحدة فكر النهضة
طرح مشروع التغيير في العراق مسألة أي فكر يهيمن على البلاد ويقودها في مشروعه السياسي .
وقد رأينا نماذج من التناقض الحاد بين التطرف العلماني والتطرف الديني وكل منهما يسعى للتحكم المطلق في الخريطة السياسية والدينية المنوعة .
بدأت القصة حين اندفعت الجماعات الدينية المتطرفة في منع الخمور والهجوم على محلات بيعها وحرق هذه المحلات، وما تسبب ذلك من إزهاق أرواح واعتقال هؤلاء الحارقين، وثمة أناس يعتبرونهم أبطالاً وثمة أناس يعتبرونهم مجرمين، لكن القانون يأخذ مجراه ويعتقل هؤلاء وتنطلق القضية بغض النظر عن الحيثيات الدينية!
وهنا يعمل الفقه المحافظ المنتج في قرون سيطرة الإقطاع الديني على تحويل أية قضية شرعية إلى رافعة ضد التطور والحداثة، سواء كانت قضية خمور أو قضية تحرر نساء أو قضايا حقوق شخصية وممارسات جنسية حرة أو قضية فقراء، مستهدفاً في ذلك الوصول إلى السلطة السياسية المطلقة، إذا وجد إليها سبيلاً، وإذا لم يجد اكتفى بحضوره الكبير فى السلطة الاجتماعية، أي الهيمنة على الحياة اليومية للمؤمنين به. أو أنه يعمل بكافة السبل العسكرية أو السياسية الانتخابية المجيشة بهدير ديني تحريضي طائفي، للوصول إلى السلطة، وتحقيق برنامجه السياسي في هيمنة الملالي المنتمين لمذهبه على الحكم.
ومن الجهة المعاكسة يسعى بعض الفكر العلماني المتطرف إلى تبرير أي جانب من الحقوق الشخصية والحريات، واعتبار الإسلام هو العائق الأكبر أمام تطور وحرية المنطقة!
تقوم الديمقراطية العربية الراهنة المزعومة على استمرار النظام الطائفي الإقطاعي العربي القديم، بدون المناقشة في أن هذا النظام لا يمكن أن ينتج ديمقراطية حقيقية، تعتبر الانعطافة الديمقراطية المنشودة !
أي أن وجود دولة طائفية تهمين على الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية لا يمكن إلا أن يشكل معارضة طائفية مضادة، ولا سبيل لخلق ديمقراطية سوى بتجاوز الكتلتين : كتلة الدولة الطائفية، وكتلة المعارضة الطائفية!
ومن خلال الكتلتين تتشكل فسيفساء سياسية كاذبة في أغلب تلاوينها، فالقوى السياسية المقتربة من الدولة الطائفية تشكل معارضة ديمقراطية ترفض طائفية الدولة واحتكارها للسلطات، وهنا تتنطع هذه القوى في عرض ليبرالية مجردة كاذبة، أي أنها تركز في خطابها على مهاجمة طائفيي المعارضة، لا طائفية الدولة، أي لا تقوم بتحليل موضوعي ينقد كافة الطائفيين سواء الحكوميين والموالين للحكومة أو المعارضين، بل هي تقوم بعملية انتقاء انتهازية، وذلك بأن تعرض خطابات مجردة أو مقطوعة السياق وغير شاملة ودقيقة، وذلك بفرض إشاعة وعي تابع للسلطة الطائفية، التي تقوم بعرض جوانب ليبرالية جزئية من عملها ونشاطها، متغاضية عن الجوانب السيئة، بغرض تبييض صفحتها والدعاية لنهجها السياسي، أو على الأقل إبعاد موظفين وشرائح معينة من سيطرة خطاب المعارضة الطائفي المناوئ.
هذه لقطة صغيرة من الديمقراطية العربية الراهنة !
وفي الجهة المقابلة تركز المعارضة الطائفية على إخفاء طابع معارضتها الطائفي، أي إخفاء هويتها السياسية التي تعني وصولها إلى الحكم، وقلع حكم الطائفة الأخرى، كما يصور لها وعيها السياسي الطائفي.
فهي لا ترى قسمات اجتماعية أو وجود صراع اجتماعي بين الكتلة الساحقة من المواطنين المنتمين لهذا القطر العربي أو ذاك، وبين الكتلة الصغيرة من كبار الملاك وأصحاب الأموال والشركات المهيمنة على جهاز الدولة، وعبره شكلت ثرواتها.
إن الوعي الطائفي المعارض عادة يقوم بتمويه طابع المعركة الاجتماعي، وإخفاء دلالاتها الطبقية، وانعكاساتها السياسية، فيظهر معارضته كما لو كانت هي دفاع عن كل المواطنين، وكما لو كانت هذه المعارضة ستشكل سلطة أخرى غير طائفية، في حين إن المضمون الداخلي الغائر والظاهر يوضح انها جماعة طائفية أخرى، لا تختلف عن طابع السلطة الطائفي !
إذن فلو استمرت هذه العملية وجاءت الطائفة المعارضة للحكم، فإن التغيير سوف يجري في الشكل، أي أن كبار المهيمنون على الطائفة الأخرى هم الذين سيصلون إلى الحكم وبالتالي فإنهم سيمتلكون الشركات والمال العام، وفي حالة كونهم رجال دين فإنهم سوف يمتلكون ثروة البلاد وثروة السماء معاً !
ومن المؤكد إن الليبراليين التابعين للدولة، أي للطائفية الرسمية المسيطرة، أي لوجه الحكم الإقطاعي بوجهه السياسي، لديهم حق في نقد خطاب رجال الدين الشمولي، ولكن هذا الخطاب الديني الشمولي ليس حكراً على رجال الدين الطائفيين المعارضين أو الموالين، بل هو جزءٌ أساسي من خطاب الدولة الطائفية !
فالدولة العربية وغير العربية الدينية تقوم على أساس طائفي، وسواء كانت سنية أم شيعية أم مسيحية، أم شافعية، أم زيدية، أم مالكية الخ.. فإنها تقيم سيطرة المذهب، الذي هو تعبير أيديولوجي عن سيطرة الإقطاع السياسي/ الديني .
أي أن المذهب الإسلامي المعني، لا يمثل حقيقةً كل الطائفة الإسلامية، المفترض أنها هي التي في السلطة بحكم أن المذهب الرسمي للدولة يمثلها، لأن المذهب الرسمي هنا مجرد شكل، خالٍ من التمثيل السياسي للطائفة المعنية التي يقال بأنها هي التي تحكم !
فلو افترضنا جدلاً بأن الطائفة السنية هي التي تحكم في العراق يحكم أن المذهب الرسمي المعتمد في كل الدولة العراقية يقوم على المذهب السني. ولكن أي تحليل بسيط يبين خرافة هذا الوهم الإيديولوجي، في الطائفة السنية لا تحكم العراق، لا من الناحية المذهبية ولا من الناحية السياسية !
فالأحكام الشرعية المتعددة بين المذاهب ليس بينها أي فوارق فكرية أو سياسية جوهرية تقلب كيان المجتمع قلباً اجتماعياً جوهرياً شاملاً، بل هي اختلافات بسيطة حول الوضوء والإرث والصلاة الخ.. أي أن تكريس الدولة العراقية للمذهب السني في المحاكم والحياة العامة، مجرد تكريس لبعض جوانب عبادية شكلية لا تختلف نوعياً عن الممارسات الشيعية والإسماعيلية والزيدية الخ..
أي أن الفروق بين المذاهب الإسلامية مجرد فوارق شكلية، ليس فيها مثلاً اشتراط أن يكون الحاكم منتخباً بالاقتراع السري ! أو من بينها مثلاً أن يكون الحاكم من الكادحين أو من طبقة الصناعيين أو أن تقطع يد الحاكم في حالة السرقة !
وبهذا فإن الحكومات المذهبية المتعاقبة في العالم الإسلامي، لم تكن تجري تغيرات جوهرية ونوعية في حكمها ساعة تبدلاتها الكثيرة والدموية في أكثر الأحيان!
فنحن لا نلحظ تغييراً حين أعقب العباسيون الإماميون الأمويين الانتهازيين الدينيين، أو حين جاء الإسماعيليون لحكم مصر وأطاحوا بالخلافة العباسية، أو حين أطاح صلاح الدين بهم وأقام الدولة على المذاهب السنية، أو حين أطاح الإثناعشرية بالحكم المغولي أو التركي السني ! أو حين صار أهل شمال افريقيا مالكية بعد أن كانوا من الخوارج، وربما كان هذا يعبر عن خضوعهم للسلطة القاسية أكثر من اقتناعهم بالمالكية !
لم يشهد العالم الإسلامي في تحولات الحكومات المذهبية أي تغيير، فأختكِ مثلكِ، لأن الملاك الكبار، الحائزين على الثروات، هم الذين يستبدلون الكراسي، وهم الذين ينعمون بالامتيازات، ولم نجد حين استولى صلاح الدين وأطاح بالإسماعيلية بأن كادحاً مصرياً سنياً حصل على أرض، أو أن الفاتح الكبير والمحرر الكبير قد غير من طبيعة استغلال الفلاحين السنة أو المسيحيين، الذين لم تتغير عليهم كميات الخراج ولا سياط الملتزمين !
ولم نر ان الإثناعشرية حين حُكم باسمها في إيران أيام الدولة الصفوية أو أيام الجمهورية الإسلامية الحالية قد غيرت من وضع الفقراء والفلاحين ولا يزال هؤلاء مستغلين منهوبين للدولة والاقطاع الدنيوي والديني ممنوعين من الإصلاح الزراعي الذي حتى الشاه الراحل قام بتطبيق جزء منه!
فلم يستطع الفرد الشيعي سواء كان في الحكم الطائفي أو المعارضه الطائفية أن يحكم، أو حتى يقترب من السلطة، التي ظلت لأصحاب الملايين والمليارات حالياً!
إذن فإن الحكومات العربية وغير العربية الدينية التي تحكم باسم المذاهب والطوائف لا تمثل حتى الطوائف التي تزعم تمثيلها، وكذلك فإن المعارضات الطائفية التي تزعم تمثيل الطوائف هي لا تمثل الطوائف!
والأمر بسيط لأن الطائفية دكتاتورية !
والأمر يعود أيضاً لهذه الأدلجة التي تمت للمذاهب، ولعمليات تسييسها ولإخفاء مضامينها، عبر السيطرة المستمرة لكبار المتنفذين والأغنياء والمتسلطين عليها، والذين قاموا بشكلنتها، أي بجعلها شكليةً، متمحورة في الأشكال العبادية التي عملوا على تركيز الاختلاف فيها، والمحافظة على هذه الاختلافات بغرض إبقاء سيطرتهم السياسية والاقتصادية على جماهير المسلمين العاملة، واستمرار استغلالهم لها، وإبقائها في ظروف الفقر والعوز والتخلف والفرقة والعداء!
إذن أمام قوى المسلمين المختلفين المنهوبين المستغلين المبعدين دائماً عن الحكم الحقيقي، أن ينسحبوا من عباءات التسييس المذهبي ويتوحدوا!
إن التسييس المذهبي هو دكتاتورية، لأنه رفض لوجود الفقراء والمستغلين، لأنه رفض لكيانهم الاجتماعي المستقل، رفض لوجودهم كقوى اجتماعية مختلفة عن الأغنياء المتحكمين في الطوائف كلها !
فلماذا يخافون أن يتوحد الفقراء سنةً وشيعة ومعتزلة وزيوداً ودروزاً ومسيحيين وعلمانيين وليبراليين وماركسيين ؟
لماذا يشكلنون المذاهب ويجعلونها أشكالاً تخفي سيطرتهم المالية على الأراضي والبنوك والمال العام، ولا يريدون لفقراء المسلمين وعامليهم وفئاتهم التجارية البسيطة أن تتوحد وتدافع عن حقوقها وعن أوضاعها السيئة في الأجور والسكن والصحة والتعليم؟
إن هذا بسبب أن الكثير من المثقفين المسيسين تابعين لمثل هذا الوعي الطائفي الطبقي التابع للكبار .
لماذا جعلوا أقوال الأئمة شكلانية ووسائل بهدف سيطرتهم على البساتين والأسهم والعقارات ؟
لماذا لا يحررون الأئمة من هذه السيطرة ويطرحون برامجهم السياسية والاقتصادية بشكل مكشوف ودون تستر بالمقدس ؟
لماذا لا يجتمعون في طبقة مالكة من شتى المذاهب تطرح برنامجها الاقتصادي والاجتماعي الذي يحفظ ويوضح مصالحها وحتى أن تجذب الناس المختلفين اجتماعياً من خلاله ؟ !
لماذا يزعمون أنهم يتعاركون على الدين والمذاهب وهم يتعاركون على المصالح والكراسي ؟ !
هذا يتطلب نهضويين وديمقراطيين ينبثقون من شتى المذاهب ويؤسسون حركات ديمقراطية عميقة تقوم على هذه الأسس الفكرية!
حركات تقوم بإبعاد المذاهب عن هذا الاستخدام السيئ للمذاهب وتجمع الفرقاء الاجتماعيين كلٌ وأهدافه دون تستر براية مذهبية أو بسلطة طائفية !

جسد فهم المجتمعات للمادة، وهي الأشياء والعالم الخارجي الموضوعي، خارج العقل البشري، مدى قدرة البشر على السيطرة على الطبيعة والمجتمع، ومدى قدرتهم على التصنيع وخلق تراكم للعلوم الطبيعية والاجتماعية.

السحرية والعقلانية الدينيتان

كتب : عبـــــــدالله خلــــــــيفة

ارتبطتْ التحولاتُ الدينيةُ الأولى بالأشكال السحرية الثقافية المختلفة للشعوب، فكان لا يمكن أن تتشكلَ عملياتُ تحولٍ بدون الاعتمادِ على السحر كأكبرِ قوةٍ ثقافية في التاريخ القديم، وجاءت الأديانُ لترتفع عن هذا المستوى دون قطع العلاقة معها.
لقد جعلت الأديانُ عملياتِ التحولِ الاجتماعية والسياسية مرتبطةً بالآلهة والسماء وإنتزعتْ السلطات من السحرة، المعبرين عن فسيسفاءِ الأرضِ الاجتماعية السياسية الممزقة، وعن موادِ الخبرة البشرية المحدودة، وعلى الغموض الفكري واللغات الرمزية الإحيائية غير الدقيقة.
مثلّتْ الأديانُ ثورات، وتشكلت في إثرها الدولُ الكبيرة والأمبراطوريات، وتنامت العلوم الطبيعية خاصة.
وواجهت الدول الدينية إشكاليات الاعتماد على الزراعة والحرف وهي قوى إنتاج محدودة تظلُ مرتبطة بغيب، ولم تستطع العلوم أن تصل لفهم السببيات العميقة للمادة، أما السببيات المُفكِّكة لتطور المجتمعات فكانت أكثر غياباً. اليونانيون شكلوا أقصى تطور للعقلانية في العالم القديم، بسبب هذه المدن التجارية الحِرفية غيرِ الاستبدادية لكن أرجهلم كانت في عالم العبيد الضيق الذي خنقهم فيما بعد.
في الدول – المدن كان يمكن للتجارة أن تتطور بشكل كبير، وبالتالي فإن الحرفَ إزدهرت، وإزدهارُ الحرفِ يعني إزدهار العلوم الطبيعية، حيث تُخضعُ السلعُ والموادُ المختلفة للفحص ولمعرفةِ كياناتها ولإمكانيات السيطرة عليها وإخضاعها لقوى العمل والعلم البشرية.
هذا يعني إزدهار المعامل والتجارب وظهور العلماء، ويمكننا أن نرى المدنَ العربيةَ الإسلامية التي إزدهرتْ بالتجارة والحرف والزراعة، وهي تشكلُ فئاتٍ من العلماء الدينيين العقلانيين، ويمكنُ معرفةَ حرفِهم من إسمائِهم: النظَّام والخراز والإسكافي الخ.
إن الفئات الوسطى الصغيرة وهي تعملُ في الحرف تشتغلُ في المعرفةِ كذلك، وتنأى بالدينِ عن السحرية، وعن الغيبياتِ، وتروحُ تكتشفُ السببيات القريبة، وتتوغلُ في فهمِ جسد الإنسان والحيوانات والطبيعة، عبرَ الإمكانياتِ التي أتاحتها قوى العمل والفحص، لكن المنظارَ المكبر والتلسكوب وغيرهما من الأدوات لم تُكتشفا، فنأت الموادُ المجهريةُ والكواكب والنجوم عن الإنكشاف للعقل.
إن سدَّ هذه الثغرات المعرفية كان يعني بقاءَ الطبيعةِ مصنوعة، وعدم رؤية الكون كعملياتٍ تحوليةٍ مستمرة، فظلت الطبيعةُ مخلوقةً، وتقوم القوى الغيبيةُ بتشكيلها. وقد تجاوز أرسطو هذه المسألة بقرون عبر رؤية العالم ما تحت القمر وهو خاضعٌ كلياً للسببية، وهو ما تبناه ابن رشد، وصارت(الرشدية) من القوى المُغيرة لأروبا العصور الوسطى ثم عادت إلينا على شكلٍ أكثر تطوراً بأسم العقلانية الأوربية.
إن إمكانية المتكلمين الإسلاميين، وهم المتفلسفون الدينيون، للوصول إلى هذا المستوى اليوناني كانت محدودة. وكان العالمُ الإسلامي يطرحُ مسائلَ أكثر خطورةً من الماضي، من أجل مقاربة ثورة صناعية – علمية، لكن عجزَ المتكلمين والفلاسفةِ فيما بعد عن القيام بذلك يرجعُ لبقاء أسس التفكير السحري، الذي كان يمخرُ عالمَ الوعي الديني. فتقود مفرداتُ الصورِ الإلهيةِ لديهم إلى التوقف عن القيام بتحليلات عميقة للواقع وللطبيعة، فهم يجعلونها أدوات للهيمنة ولإيقاف العقول عن النقد والتحليل ولتجميد حراك الطوائف عن التمدن والديمقراطية والذوبان في أممٍ موحدة. وكان هذا يتعلقُ بفئاتٍ وسطى إرتبطت بالقصور وبالخلفاء وإعطياتهم، فلم يوسعوا دوائرَ التحليل نحو كشف إضطهاد الجمهور، وإختناق الزراعة وجمود الحرف، وهذا من الناحية الفكرية كان يعني جعل النجومَ والسماءَ هي التي تحددُ المصائرَ البشرية، وبترديدِ هذه العبارات المسكونة بالسحر يتوقف الفعلُ والتخطيط البشريين! وكلما ازدادَ التمزقُ كثُرتْ تلك النجوم حتى صارت الآن في الجرائد اليومية تحدد اليوم البشري!
إن وضع العقيدة الإسلامية في الدساتير جزءٌ من ذلك السحر، فتكفي الصور الإلهية لتحفظ الأمة من القدر الشرير، ويمكن للأنظمة أن تفعل ما تشاء وهي بهذه الحماية السماوية، وأن تجلبَ من العمالة ومن الأموال ما تشاء أو تهربَ كلَ ذلك وهي في حماية القدر الكوني، وليس أن الأمور مرتبطة بالتخطيط والتنفيذ البرلمانيين اللذين يحددان حركة الواقع المُراقبَّة لمصلحة الناس.
لم يقم العقلانيون الإسلاميون في الزمن السابق بالارتباط بالحركات الاجتماعية، ولا بتطوير العلوم الاجتماعية، أي بتحليلِ الموادِ التابعة لهذا العالم، وإكتشاف قوانينها الطبيعية والاجتماعية، فيعاونون المنتجين على تغيير علاقات إنتاج متخلفة، ويخلقوا الديمقراطية، ويصلوا لقوانين المادة العميقة، في الذرةِ والكون، وما الذرةُ إلا كونٌ وما الكونُ إلا ذرةٌ، واللانهائيةُ تسودُهما.
إن مستوى السلف يعني الاستفادة من التجربة وليس سحقها، فيتعين الآن درس موادنا، وعقبات تطور الإنتاج، وإقامة علاقات بين حركات التغيير وركائز الواقع، وتغيير المستوى المتخلف من العلوم العربية، والسحر يدل دائماً على الثغرات الكبيرة التي يجب تجاوزها، ومن سماته القدرية، ورفض التجريب والقوننة للظواهر، والأفكار الحظوظية، وغياب التخطيط، وغياب المسئولية البشرية الصارمة، وعبادة الرموز البشرية، والعداء للعلوم.

جسد فهم المجتمعات للمادة، وهي الأشياء والعالم الخارجي الموضوعي، خارج العقل البشري، مدى قدرة البشر على السيطرة على الطبيعة والمجتمع، ومدى قدرتهم على التصنيع وخلق تراكم للعلوم الطبيعية والاجتماعية.

إعادة إنتاج العفاريت

كتب : عبـــــــدالله خلــــــــيفة

حين تسيطر الأغلبية الشعبية على الموارد العامة يقل حضور العفاريت في الحياة. فهي تعبيرٌ عن عدم سيطرة الإنسان على واقعه الاجتماعي وحياته وأمراضه.
وقد شكلت سورة الجن في القرآن تعبيراً ترميزاً مثالياً عن إلغاء دور العفاريت في حياة المجتمع وإبعادها عنه، بجعلها جزءً من عالم الإسلام، من عالم الخير، فانتهت تدخلاتها الشريرة، وانتهى حضورها في عالم الإنس، وغدت السيطرة لدى الإنسان.
إن الأدوات السياسية والاقتصادية لذلك العصرمحدود الثقافة العلمية، لكن المسيطر على ثروته المادية الموزعة على الأغلبية، تجعل مقاربته مع عالم الجن مقاربة دينية مثالية، فلا تتم إزالتها بل تتم إسلمتها.
ولكن المسلمين في مسيرتهم التالية وبسبب عودة الأغنياء للحكم، وإبعاد الأغلبية عن السيطرة على واقعها الاجتماعي، أعادوا حضور الجن بكثافة، وصار الجن الشرير خاصة هو المهيمن على الفضاء الثقافي.
فكلما فقدَ الإنسانُ السيطرة على واقعهِ، وتاريخهِ، وصار في مهبِ الرياح السياسية، لجأ لما هو خارج وجوده الاجتماعي، واستعان بالقوى الخفية ذات القدرات السحرية لكي تعيدَ له صحته أو ماله أو الأعزاء الذين فقدهم أو الشباب الذي مضى أو لكي تزيل العقم الجسدي والعقم الروحي، ولهذا لا بد من تقديم أعطيات لها مثل القوى الشريرة الاجتماعية وعمليات إسترضائها وخدمتها.
كانت الكلمة القرآنية والثقافية والتوحد الشعبي الواسع هي أدواتهم للسيطرة على الواقع الاجتماعي، لكن الواقع فلت من إيديهم لغياب الأدوات السياسية المناسبة، وجاءت قوى الأغنياء وحكوماتُ الأقلياتِ لتلغي ذلك الانسجامَ بينهم وبين وجودهم الاجتماعي التعاوني.
فراحوا يتصورون تاريخهم السابق كتاريخ من الأساطير ومن التدخلات السحرية العجائبية، فالكائنات والحيوانات والرموز العجيبة كلها هي التي صنعت تاريخهم الذي صنعوه هم بأيديهم، ويتراجع حضورهم الجماعي الذي تمزق فرقاً وأحزاباً.
لا يمنع من هذا إن المسلمين لم يسيطروا على ثقافة الخرافة كلياً، فهي نتاجٌ موغلٌ في القدم، فثقافتهم كانت تؤمن بالرقى والتعاويذ لكن المُسيطرَ عليها بالقرآن، وهو جانبٌ يماثل تحييد الجن وأسلمتها، والجانب التنويري الإسلامي حسمَ الخيارَ في بعض الجوانب، خاصة في تنحية الكائنات العلوية – الأرضية الشريرة، متوافقاً مع الكائنات العلوية الخيرة، والأفكار المثالية الفكرية الغيبية الخيرة الأخرى باعتبار العالم نتاج إله، وهو الذي يحكم الكون بالخير والفترة الأرضية هي فترة مؤقتة تجريبية، وبالتالي فإن الأفكارَ الدينية هي التي تعاونهُ على إستئصال الشر من حياة البشر.
ومع غياب الدولة الشعبية التي ترفدُ هذه التكوينات الفكرية العامة الخيرة، وتصاعد سيطرة الأشرار الاجتماعيين السياسيين الاستغلاليين، فإن الكائنات السحرية الشريرة تنطلق هي الأخرى في الحياة الاجتماعية.
لا يستطيع الإنسان في هذا المجتمع الذي فقدَ فيه الناسُ سيطرتهم على مصادر إنتاجهم، سوى أن يرتعب من كل بوادر الشر والموت والخراب والحروب، ولا يستطيع وعيه أن يفهمَ تاريخَهُ وكيف عجزَ عن السيطرة عليه، وما هي أسبابُ الحروب والأوبئة وسوء العلاقات البشرية، فهذه كلها تخرجُ عن فهمه، ويتصور إن مسبباتها موجودة في كائنات غيبية وفي حيوانات وطيور شريرة:
(العرب مثلا تكني البوم بطائر الخراب، إذ ينظرون إليه على أنه طائر شؤم تنقبض صدورهم لدى سماع صوته ليلا، ويتوهمون جهلاً حدوث مكروه كموتِ عزيز أو خراب ديار، ويصف الكتابُ الأوروبيين بأنهم يرون في صوتِ البوم إعلاناً لموتِ أحد الأشخاص أو أن أحد الناس يعاني في تلك اللحظة من سكرات الموت، ويتوهمون أن البومَ إذا ما حطَّ على سقفِ أحد البيوت أصابه بالشقاء!)، تعليق صحفي على كتاب مُترجم بعنوان (معجم الخرافات).
إن ارتباط البوم بالخرائب الناتجة عادة من كوارث الحروب وخراب العمران التي لها أسباب شتى، تتحول مع تكرارها في مثل هذا الوعي الشعبي العفوي إلى أن تكون هي مصدر الشر.
إن إعطاء الطيور أو الزواحف كالحيات قدرات على التدخل الواسع في الحياة البشرية تتصاعد إلى حد إعطاء الألوان والألبسة والوجوه إمكانية السيطرة على حياة البشر المستقبلية.
فالتطير والطيرة هي رؤية تشاؤمية من بعض الطيور كرؤية الغربان والاستدلال من وجودها على أحداث سيئة سوف تجري في المستقبل، مع ارتباط الغربان بالجثث الناتجة من الحروب خاصة.
ومع فقدان البشر السيطرة على واقعهم يبحثون عن مفاتيح السيطرة والتحكم خارجهم، نظراً لغياب التراكم المعرفي العلمي في حياتهم، وتظهر فئاتٌ متخصصة في مثل هذه الرؤى الغيبية، المستقبلية والمصيرية، وهي تقوم بإنتاج مثل هذا الفهم الخرافي، كشكلٍ آخر من توظيف الخرافة من أجل عيش تلك الفئة المنتجة لهذه الأشكال من الوهم.
تغدو النجومُ والكواكب والأرواح مصدراً لهذه المعرفة المستقبلية مع عجز العقول الأرضية عن التحكم في يومها، فهذه الأشياء خارج الملموس، ولها ظلال وصور لا نهائية وغير محددة، يمكن عن طريقها تسريب الأفكار والتوجيهات والنبؤات وخلق أشكال من التفكير المحتاجة للمعونة الماروائية نظراً لأزماتها المعيشية والسياسية والجسدية والنفسية المختلفة.
وإذا كانت هذه الأشكال السحرية عفوية وواضحة ببساطة فإن جر جوانب من الدين لعمليات سحرية هو الأمر الأكثر صعوبة في الكشف، حيث تجر تلك المناطق الغيبية لإنتاج ممارسات سياسية عامة مضرة بالتطور.
يؤدي ازدياد الاضطرابات في الحياة السياسية العربية إلى طريقين أما إلى توسع السيطرة العقلانية على الاقتصاد وأما السماح للقوى المتنفذة الإستغلالية التلاعب به كما تشاء مصالحها.
طريق السيطرة العقلانية يقود إلى ازدهار العلوم بما فيها علوم فهم الأديان، والثقافة عامة، وإلى إعادة لحمة القوى الشعبية وإمتلاكها لمواردها الاقتصادية، وهي أمورٌ تقود لزعزعة الثقافة السحرية والغيبية فهي ليست سوى إنعكاس لفوضوية الاقتصاد وتهميش العاملين.
أما طريق السيطرة الآخر والذي أنتج أغلب التاريخ الثقافي العربي، فهو يجعلها تزدهر، وهي تستغل مصطلحات الدين ورموزه من أجل إنتاج ثقافة لا تسيطر على واقع، ولا تجعل الجمهور يتحكم في إنتاجه الاقتصادي والخيرات التي يصنعها.
ولهذا كان نمو الموجات الأولى من الحركات الدينية يتم مع نشر السحر بصورةٍ واسعة، وهذا يتجسدُ بجعل العوالم الغيبية متحكمة تحكماً مطلقاً في الكائناتِ البشرية الشبحية، التي تفقدُ أيَّ دورٍ خلاقٍ في تغيير المجتمع بشكلٍ عقلاني مخطط.
ومن هنا فهي تتوجه للجوانب الدينية الغامضة، التي يتداخلُ فيها الواقعُ مع الغيب، وهي تلك العوالم التي حسم الإسلامُ الموقفَ منها، وجعلها سلبية فاقدة التدخل في الحياة البشرية، كالجن والأرواح.
وحتى لو فرض جدلاً بأنها غير موجودة فيزيائياً إلا أنها موجودة في الوعي البشري والوجود الاجتماعي، وهذا لا يغير من دورها.
فهناك إستغلال للمناطق المتراوحة بين الوجود والغيب كالموت، وهي منطقة خطيرة محفوفة بالأسرار والمخاوف، وذلك عبر جعل البشر يرتعدون خوفاً منها، فتتراءى لهم الثعابين والنيران والأرواح المختلفة، التي عادة ما تـُدخل في مثل هذه المناطق البرزخية عبر التعبئة السحرية التصويرية السينمائية بقصد نزع العقلانية من وعي المسلم، ويتحول المؤدلجُ السحريُّ هذا إلى قائد سياسي، يبطشُ بالعقل، ويهمشهُ، ويحيلُ الإنسانَ إلى أداة في يده من أجل المشروعات التي يخطط لها.
كما يقومُ بالتحكم في النصوص الدينية وإعطائها الأهداف التي يريدُها المتمثلة في زوال العقلانية، وإلى اعتبار التاريخ وحركة المجتمع لا تسير بقوانين، وأن الإسلام الأول لم ينتج خطة عقلانية للسيطرة على الاقتصاد، فتغدو منتجات التاريخ والتراث كلها بيدِ المنتج الساحر الحديث التي يوجهها كيفما شاءت مصالحُ الجماعات والدول الإستغلالية التي تتصرف بالمال العام كيفما تشاء.
إن الأغلبية الشعبية الجاهلة والأمية والتي عاشتْ طويلاً في ثقافةِ السحر، يُعادُ السيطرة عليها عبر مثل هذا التداخل بين السحر والدين، فتتحول الآياتُ والجملُ المُنتزَّعة من سياقاتِها إلى أدواتٍ للحكم والحروب والكوارث.
فيمكن للكلمة حسب هذا الفهم أن تحدث الانتصارات في الحروب، ويمكن إستدعاء بعض المنجمين لمعرفة مصير الحرب مع إسرائيل، وإعطاء الجنود مفاتيح الجنان وهم يدوسون على الألغام في جبهات القتال ويفقدون شبابهم، ويغدو أمراء الجماعات هم المحددون لجنس الكفار – سواء كانوا من جنس المسلمين أم من غيرهم – بعد أن التحموا بالذوات العليا، فهم الذين يستطيعون نقل المجتمعات المتخلفة والفقيرة إلى الأسلام الأول عبر دكتاتوريات المجموعات الصغيرة الأرهابية فيقررون الحياة والموت للناس.
إن حصول هذه القيادات على تلك الإمكانيات الخارقة يحيلُ الإسلامَ العقلاني التحديثي عند هؤلاء إلى شعوذةٍ سياسية، فهم قادرون على إقناع الجمهور الحاشد بأن يعود للوراء وأن يكون ضد مصالحه وتقدمه.
وهذا حدث ليس فقط لأن الجمهور جاهل وأمي، لكن لأن الجمهور يأمل في تسوية مشاكله الاقتصادية والاجتماعية الضارية بنفحةٍ سحرية، بتعويذةٍ تقدمُ له العفريتَ الهائل الذي ينقلهُ بين ليلة وضحاها إلى الجنة الأرضية، ويغدو الشباب غير المنتج وغير المشتغل في الصناعة وغير الدارس للعلوم وغير المصنعة في زنازين الدول الشرقية، يريد بلا عمل شاق أن يرى نفسه فجأة بين الحوريات، وأنهار اللذائذ حوله.
تتحول الجماعات الدينية السياسية إلى قوى خارقة ملكتْ السحرَ القادر بين عشية وضحاها على نقل المؤمنين للجنان الأرضية، فإن لم تستطع نقلتهم للجنان الأخروية، ولهذا تتحولُ سياساتـُها لبرامج سياسية فقيرة بفهم المجتمع وبفهم الدين معاً، معتمدة على زرع الأوهام في عقول الناس، فعبر روشتة حكم الأقليات أو الشركات الإسلامية أو شعارات العودة للشريعة، تجعل الناسَ تتصور أن هذه الشعارات قادرة على حل أزماتهم المعيشية في غمضة عين وانتباهتها.
في حين أن أزماتهم وتخلفهم نتاج ((علاقات اقتصادية)) متجذرة بحاجة إلى تحليلات عميقة، ومشروعات طويلة الأمد، فنقل الملكيات العامة الحكومية للناس وإحداث تنميات كبرى، وتوزيع فوائضها للمشروعات والحاجات الأهلية، مسألة تحتاج لعشرات السنين، إذا عملت وتوحدت الجماهير الشعبية وتعلمت وازدهرت بالعلوم.
إن الفانوسَ السحريَّ السياسي غير موجود، وإنه إذا لم يحدث الحراك الإنتاجي وتقلص هيمنات الدول على الاقتصاديات والدخول والعمالة والفوائض، وبقيت الجماهير في أميتها وسحريتها وتخلفها وأعمالها الحرفية المحدودة، لن يحدث أي تقدم، وسوف يزداد الفقر وتتكاثر الأرواح والأشباح.
إذا لم يحدث تعاون واسع بين القوى السياسية الديمقراطية لفهم الواقع الاقتصادي بالدرجة الأولى، وفهم عملياته ودخوله وكيفية تغييره، فلا تفيد أية روشتة أخرى، خاصة الروشتات السحرية.
لم تقم الثقافة الغربية المسيطرة على المنتجين الشرقيين أو الغربيين، بإنتاج ثقافاتهم العقلانية، فمثل هذا الإنتاج يتواكب مع تغيير ملكيات الصناعة الخاصة، التي تفيضُ عليهم بخيراتها، وإذا كانت ثمة عناصر عقلانية فيها، فهي لا تسود ولا تنتشر بشكل جماهيري.
بل توسعت الثقافات الغربية السائدة المعبرة عن أؤلئك المالكين للفوائض الاقتصادية غرباً وشرقاً، في نشر الخرافات وتيارات تغييب الحفر العقلاني.
كانت المدارس (الرفيعة) الأدبية والفنية كالسريالية والدادائية والبنيوية والشكلانية وغيرها تمثل عبادات الأشكال المفرَّغة مما هو حقيقي وما هو إنساني كفاحي، فتتركز على الخطوط والنقط المجردة والبُنى، ويُتم تغييب الإنسان وإزالة وجوده الاجتماعي، وتـُعطى لتلك الأشكال أهمية مساوية لعبادة النجوم والكواكب والأصنام، وتغدو عبادة الأشياء تخريفاً على أساس تحديثي، وتنقل للمنتجين الثقافيين لينشروها ويعطلوا ملكات الحفر النقدي في مجتمعاتهم.
لكن الجمهور العادي لا يفهم مثل هذه المنتجات الصعبة، كما هي مستوياته وظروفه، فتـُسوقُ له الخرافات عبر الأفلام، وتظهر الوحوشُ على هيئات مصاصي دماء وموتى وقوى غامضة تنبعث من الكواكب والقبور والأرواح ويجيء سكان المدارات البعيدة ليحكموا الأرض، ويتشكل أفراد بقوى خارقة، سوبرمان يرفع الطائرات على كتفيه ويحول مسارات الصواريخ في دقائق، وحيوانات قديمة هائلة يتم ظهورها في المدن الحديثة والبشرية تغوص في حروب نووية كارثية وغيرها من السيناريوهات الخرافية المرعبة والمسلية، وتـُحشدُ معها تقنياتٌ رهيبة لتجسيدها وجعلها حقيقية، مثلما يترافق مع ذلك نشر المخدرات وأشكال التسلية الخطرة والأدمان.
وتـُسمم الجامعات والثقافة وعمليات الإنتاج الفكري بالمستوى (الرفيع) فيما يُسمم العامة بالمستوى المتدني، وبهذا تجد ترنح الثقافات العربية من هذه الفؤوس الواسعة الانتشار، فالكثير من الشعر يغدو ذاتياً نرجسياً أو فقاعات، واللوحات تقلد اللاوجود الثقافي الغربي الخ..
ومع بقاء الرأسماليات الحكومية العربية الفاسدة المستنزفة للثروات وللأدمغة، وبقاء الأرياف غير مصنعة، والنساء الأميات يواصلن إنتاج الخرافة، تفيض البلاعات.
وتظهرُ مؤسساتٌ لعبادة الشيطان، ويُقال بأن ذلك جزء من الحرية الدينية، ويُقال بأن الإلهَ أو الشيطان تسميات خيالية مشتركة.
والقضية ليست الحرية هنا ولكنها في إلغاء التراث الإنساني المتمثل في الأديان، وصور الإله والملائكة واليوم الآخر هي رموزٌ لإنتاج الخير في تاريخ الإنسان، جوانبٌ روحية لتوسيع الضمائر وإحيائها في حالة الموات، ولكي لا تغدو الجريمة مبررة، والمذابح محترمة، وحين جاءت الهتلرية أنشأت الصليب المعقوف، صليبٌ يغيبُ التضحية، ويبررُ الحروب والقتل!
وهذا لا يعني جعل الفكر الديني مطية للاستغلال وهيمنة الطبقات والأمم، بل تعني رؤية التاريخ الديني كنضالٍ للإنسان في ظروفٍ فكرية مغايرة لنضاله في ظروف العلوم الحديثة.
وكم يحاول بعضُ المثقفين جعل تاريخ الأديان ومواده وسيلة لاستمرار الخرافة والقهر، ولهذا يشحنونه بما يجعل العقل يطير فوق ظروف الأرض الحقيقية، لتبرير اللاعقلانية.
فيظهر مثقفون يدافعون عن وجود الأرواح والروحانية ويعرضون فشل العلوم والسببيات والقوانين، وفي مواجهة ماديين آليين يريدون سحق الأديان بشكل لا يقل عن لاعقلانية أولئك.
يغدو الوجود صدفة، والخير صدفة، والعقول متاهة.
وفي ذات الوقت تبرز عبادة الشيطان وعبادة الدولار!
وفي ذات الوقت تفقد الكثير من الشعوب سيطرتها على أحوالها وأسواقها، ومعيشتها، وتتشردُ في أركان الأرض بحثاً عن لقمة العيش، حاملة معبوداتها وكتبها الدينية في أرجاء المعمورة، قد تغرق في قوارب أو تتلاشى في مجازر، وتنتفض الأريافُ بحروبٍ طاحنة مخربة لنفسها قبل الآخرين، وتلجأ للقرصنة وحروب العصابات لتأكيد عيشها الذائب في العولمة الرأسمالية الحديثة.
في حين إن كل أدوات الحداثة والعقلانية لم تستطع أن تضع حداً لفوضى الوجود السياسي الراهن، مع ازدهار الأنانيات الطبقية في كل مكان.
يعود الكثيرون للخرافات، ويغدو بند مطاردة السحرة في كل اجتماعات وزارات الدول العربية والإسلامية المخصصة لتنمية العقلانية وبشكلٍ مستمر، دون إلقاء القبض على الفقر والبطالة والجوع والتشرد والهجرة.
ورغم نشر بعض التقنيات في المدارس فإن الطلبة يعودون لصفحات التنجيم وقراءة حظوظهم في الجرائد، بسبب أن الخطط الحكومية لتشغيلهم غير مضمونة.
في هذا الجو العالمي تنتعش زيارات البابا وتحصل المنظمات الدينية على مساحات عمل تخصصها في زيادة نشر اللاعقلانية، وتهاجم الحداثة والعلمانية والديمقراطية سبب مصائب العالم في رأيها، وفي هذا الجو الخرافي الدموي، يبرر مثقفون المجازر بدعوى المقاومة، ويؤججون تصادم الأديان والشعوب، ويعودون لاستحضار السحر والشعوذة وإدراجها في الحياة اليومية.
لا عجب في مثل هذا الجو أن يستعين حملة رسائل الدكتواره بأرواح أسلافهم عبر القبور ويستنجدون بملاحظاتهم الهامة، وتظهر دراساتٌ عن أهمية البصل في أشعار الأمويين، وعن مدى الملوحة في مياه البحار، وتكثر الخطب عن التنوير في قرى ومجمعات قـُطعت عنها الكهرباء، وتلتهم الأغاني تسعين بالمائة من بث الفضائيات العربية، ويظهر قادة السحر في السماء وهم يرشدون الشعوب لكيفية محاربة الأمراض ودحر التخلف وهزيمة الصهيونية.

كلمات الاغلفة        

السحرُ وتغييرُ العصور

كتب : عبـــــــدالله خلــــــــيفة

القصة ذات أطوار تاريخية عديدة، لكن الوعي المحافظ الأسطوري لا يعرفها، فقد كان السحرُ ملازماً للقصص القديمة، والقدرات خارقة للأبطال الرجال عادة حيث لا بطولات نسائية.
ومن هنا كان البطلُ قادراً على الطيران بأجنحة أو بدون أجنحة، وظهور الأجنحة المتكرر يشير للرغبة في الطيران.
الأبطال السحريون هؤلاء ينقلون مدينة من مكانها ويحضرونها أمامهم وينتقون إمراة جميلة ويحاكمون المدينة عن دينها وموروثها ويتحكمون فيها.
أو يقدرون على الدخول في جوف الحيوانات الكبيرة بدون موت أو حتى تسمم غذائي.
أو يمشون من منطقة نهرية محدودة في بلدتهم ثم يمشون مسافات هائلة بمقاييسنا المعاصرة بدون موت بل يصلون للبحر القصي.
لهذا كانوا يماثلون حتى القصص التالية في ألف ليلة وليلة حيث البطل يكتشف المصباح الذي يعطيه قدرات خارقة أو يستخدم البساط للطيران مثل المرأة العجوز الساحرة التي تستخدم المكنسة للطيران!
ولهذا حين تتداخل القصص السحرية وأشكال الوعي الأخرى يحدث اشتباك بين الفهم المعاصر وهذه العقلية القديمة التي تريد السيطرة والتحكم في السدود والمعامل والمجالس النيابية والمدارس وهي بهذه الثقافة القصصية العائدة للمجتمعات الإقطاعية الزراعية حيث لا آلات ولا مختبرات علمية ولا معاهد تحليلية للنصوص القديمة، لكن هو التمايز بين أزمنة مختلفة لكل منها ظروفها.
لكن الأبطال الخارقين يتكشفون والقصص الخيالية تُدرس باعتبارها معبرة عن مرحلة طفولية من التاريخ الشعبي، وتغدو موروثاً للقراءة وزاداً يمثل بكارة الجنس البشري في فهم الطبيعة والبشر والتطور الاجتماعي.
ملاحم مثل الأوديسة والإلياذة وجلجامش وألف ليلة وليلة تعبر عن سير شعبية كبرى فالملاحم الإغريقية عبرت عن الشعب الأثيني وهو يشكل دولته ويزيح القوى المنافسة من خلال أبطال بدوا خارقين.
لكن الوعي السحري لا يتخلى عن أبطاله، وقدراتهم الإعجازية لا يحيلها لظرف الزمان والمكان، وعقلية البشر السائدة في كل مرحلة تاريخية، فهو وعي لا يعرف القراءة الموضوعية، ويعتبرها صالحة لكل زمان ومكان، ولهذا فإن جثوم الإنسان طويلاً في جوف حيوان أمرٌ ممكن، ونقله البلدان بطرفة عين أمر سهل، وعبور الخرائط الجغرافية بصحاريها وجبالها ووحوشها لا غبار عليه حيث تكفي بعض التعاويذ والورق العتيق للقيام بهذه المهمات المذهلة لكنها تعبير عن حلم وهذه الرحلة السحرية تعقبها مرحلة واقعية يفهم فيها الإنسان سببيات التطور ويصيغ قصصاً مختلفة مبنية عن تقاربه مع العلوم.
هذه القدرات هي التي جعلت العرب يصيغون من القصص الفارسية والهندية المبعثرة ملحمة بشرية قصصية كبرى هي ألف ليلة وليلة وغذت البشرية عامة بتقنيات السحر العجائبية في حين أن أحفادهم عجزوا عن تطوير القصة في هذه الجوانب الخارقة ودمجها بالواقع المعاصر وإنتاج مركب بين السحر والتاريخ والواقع.
رغم تقدم العلوم الإنسانية تحتفظ القصص القديمة بنكهتها وتظهر أسرارها الحياتية البسيطة، وتغدو الخوارق أشكالاً تعبيرية أبنة عصورها، ويمكن تداخلها مع العصور الراهنة وأن تظهر عقليات إبداعية جامعة.
هذا ما احتفت به آداب أمريكا اللاتينية وأدب عصر النهضة الأوربي وكيف إنشات حكايات خرافية طريفة مثل رحلات جلفر وروبنسون كروزو وقصة الغوريلا العملاقة التي تغزو لندن عاصمة الحداثة والقوة!
غياب السحر والبنى المركبة في القص وغياب تحليلات الصراع الطبقي تجعل القصص العربية نثرية سطحية تعبر عن يوميات وجزئيات فاقدة للوهج والتغلغل في الحياة والوعي.

جسد فهم المجتمعات للمادة، وهي الأشياء والعالم الخارجي الموضوعي، خارج العقل البشري، مدى قدرة البشر على السيطرة على الطبيعة والمجتمع، ومدى قدرتهم على التصنيع وخلق تراكم للعلوم الطبيعية والاجتماعية.

بداية جديدة لانطلاق السحر

كتب : عبـــــــدالله خلــــــــيفة

كان السحر جزءً من التكوين الديني العريق في المنطقة، ولم تقم الأديان بتجاوزه، فهي رغم رفضها لاستخدامه لكنها لم تستطع إلغائه، وهو لا يزال يعيش حتى العصر الراهن، فلم يحدث في العصر الديني الوسيط تحول جذري عن البنية الرعوية ـ الزراعية. وكان السحر موجوداً في الجزيرة العربية قبل الإسلام وأستمر بعده. فالقرآن يذكر (وغاسق إذا وقب) و(النفاثات في العقد) ، وهذه تعبر عن دور القوى الطبيعية والساحرات في التدخل في الحياة البشرية. إن دور القمر في التأثير على الوعي السحري ـ الديني كان كبيراً، وعبادة النجوم والكواكب كانت متأصلة في الجزيرة العربية ، والمنطقة عموماً. وكان الانفصال بين العرب وسكان المناطق الشمالية واضحاً في عبادة العرب للقمر ، ومنها تشكلت السنة القمرية ، وهي غير مرتبطة بالزراعة ، فيظهر طابعها الرعوي جلياً، في حين كان سكان الشمال، الذين سوف يصيرون عرباً، مرتبطين بالسنة الشمسية ، ذات الأهمية القصوى للزراعة ، إن هذا يوضح التضاد الأقصى بين جزئي المنطقة المتباينين.
وكما تتبعنا التداخل بين القسمين في مختلف تجليات الوعي ، عبر العملية التاريخية الصراعية ، فإن قراءة تطورات السحر هامة ، لمعرفة دور هذا العامل في التفاعلات الاجتماعية والفكرية، وكيف إن الانتقال إلى القسم الشمالي الزراعي، وبدون حدوث تغيرات صناعية هامة ، سوف يعزز الجانب السحري في الوعي، كما سيؤدي إلى نهوض الماضي الفكري.
إن كلمة (النفاثات في العقد) تعطي ملمحاً هاماً للمشترك بين الشمال الزراعي والجنوب الرعوي ، يقول ميرسيا ايلياد في كتابه صور ورموز:
(في بلاد الرافدين ، هنالك آلهة ذات سلطان مطلق مثل إنليل وزوجته نينكورساك (…) وجميعها توقع في شباكها الجناة الذين يقولون الزور، ويحنثون باليمين، وأما شاماش، إله الشمس، فسلاحه، الأربطة والحبال)، ويضيف:(1ـ هناك “الأربطة” السحرية ، المستخدمة ، أثناء الحروب، ضد الخصوم من البشر. 2 ـ وهناك ” العقد والأربطة” الدالة على اليمن وحسن الطالع ، والمستعملة كوسائل للدفاع ، ولدرء خطر الحيوانات المتوحشة ، ولتحصين الفرد ضد الأمراض، وضد الأبالسة والموت ، والمفيدة أيضاً في مواجهة رقية الشر والأذى) ،( 1 ).
وهكذا فإن العقد هي شكل سحري مستخدم بوفرة في الجزيرة العربية والمنطقة ، وتعبر عن التداخل العميق بين هذين الجزئين الجغرافيين ، هذا التداخل الذي أستمر لآلاف السنين ، ولكون الوعي السحري أعمق تجذراً في الحياة الاجتماعية ، ولا يحتاج التأثير السحري في هذا النفث سوى إلى تكوين هذه (العقد) وحلها ، عبر التعاويذ واللغة السحرية. إن كافة أشكال الرقى مبثوثة في استخدامات الوعي الإنساني لفك العقد الطبيعية والاجتماعية ، وتصل إلى ذروتها باستخدام النجوم والكواكب ، باعتبار هذه الأجرام مؤثرة على الوجود البشري.
يقول أبن خلدون حول دور الأمم القديمة في إنتاج السحر:
( كانت كتبها كالمفقود بين الناس (..) وكانت هذه العلوم في أهل بابل من السريانيين والكلدانيين وفي أهل مصر من القبط وغيرهم وكان لهم فيها التآليف والآثار ولم يترجم لنا من كتبهم إلا القليل مثل الفلاحة النبطية من أوضاع أهل بابل فأخذ الناس منها هذا العلم وتفننوا فيه ووضعت بعد ذلك الأوضاع مثل مصاحف الكواكب السبعة وكتاب طوطم الهندي في صور الدرج والكواكب وغيرهم ثم ظهر بالمشرق جابر بن حيان كبير السحرة في هذه الملة الخ..، (2 ).
لقد كان السحر موجوداً ومنتشراً لدى العرب ، ولكن تحوله إلى ظاهرة فكرية ـ سياسية واسعة أمر أحتاج إلى شروط موضوعية ، فقد رأينا السحر لدى خالد بن معاوية ، كبير المثقفين الأمويين، والذي قيل إنه استخدمه لتحويل المعادن” الخسيسة” إلى ذهب ، ولم تكن هذه سوى ظاهرة فردية ، وعبرت هذه المحدودية السحرية عن انشغال العرب بالفتوح ونشر الإسلام ، وتوفر مستويات معيشية جيدة لهم قياساً بالأمم المغلوبة ، وفي العصر العباسي الأول ، وبعد منافسة الفرس وانتشار اللغة العربية، وبدء التغلغل العربي في العالم الزراعي، وحدوث التمازج مع الأمم الأخرى ، بدأت البنية العربية الرعوية الذهنية في التبدل ، كما بدأت عملية تصعيد الأمم المغلوبة لتراثها القديم باللغة العربية ، واعتباره أداة مقاومة سياسية لثقافة الفاتحين . وكانت ركيزة هذه الثقافة هي السحر وعبادة الكواكب في المشرق خاصة.
وفي هذه المرحلة ، يبرز أبن وحشية في هذه العملية الإستعادية للإرث القديم ، يقول أحد المساهمين في كتاب(تراث الإسلام) :
( وقد اشتهر أبن وحشية كجامع وشارح للمؤلفات القديمة في العلوم ، وبأنه مترجم لكتاب في أحكام النجوم لمؤلف يعرف بأسم تانكالوشا (..). واشتهر كذلك ناقلاً لكتابات بابلية قديمة مزعومة أشهرها الكتاب المعروف باسم ” الفلاحة النبطية “. وكتاب السموم (…). وهذه الكتب ، كما نرى في هذا العرض ، ليست دائماً مؤلفات حول موضوعات غيبية، بل كان من بينها أيضاً كتابات لها قيمة علمية كبيرة ، وإن لم تكن تخلو تماماً من المادة الخرافية.) . ويقول المؤلف إن هذه الاستعادة ليست بعيدة عن إثبات تفوق البابليين على العرب الفاتحين ، كما يرى أبن وحشية. ( 3 ).
إن تمازج المنظومات المعرفية الثلاث: السحرـ الدين ـ العلم هو أمر شائع في العصرين القديم والوسيط ، وفي البدء كان السحر مسيطراً ، وحين حل الدين فإنه لم يلغه ، بسبب الطبيعة الفكرية المشتركة ، فكلاهما يعتمد على الاستعانة بالقوى الغيبية، لتغيير المادة والواقع، وكلاهما يتغلغل في الوعي البشري لإحداث الفعل المطلوب، وإذا كان الدين يعتمد على القوى الخيرة فالآخر يعتمد على القوى الشيطانية، ثم ألتحم الأخير بالقوى الغيبية المرئية كالكواكب و النجوم ، وفي تضاعيفهما لا بد من توفر المادة المعرفية الموضوعية كذلك ، بسبب إن هذه المادة لا بد منها في إثبات غيبهما. وإذا كان العلم يتشكل كنقيض للشكلين السابقين ، فإن ثمة وشائج تعاونية بينه و بين الدين ، بسبب إن غيبية الدين عامة وغير متدخلة في تفسير مختلف الظاهرات ، ولكن مع محدودية العلم فإن الشكلين السابقين يتقدمان لتفسير الحياة و الطبيعة ، ويرتبط تطور العلم بنمو الصناعة والوعي الحر المستقل ، و كما رأينا ـ في الفصول السابقة ـ فإن ذلك مرتبط بسيطرة الأشراف على الملكية العامة ، و تطورات الصراع الاجتماعي . فمع استقرار النظام الاجتماعي في علاقاته الزراعية خاصة و تدفق التجارة ونمو المدن ، تتشكل هوامش للتطور العلمي ، و مع تقلص هذه الهوامش وحدوث أزمة فإن انهمار الغيبيات السحرية والدينية سيكون حتمياً ، ونستطيع أن نعتبر ذلك أحد قوانين التطور في المنطقة.
وفي عصر الدولة العباسية الأول رأينا كيف تدفقت الفوائض المالية من الزراعة والضرائب ، فاتسعت المدن وتطورت التجارة ، وكان الدين والعلم هما الظاهرتان الناميتان في الحقل الثقافي ، وكان السحر موجود كعناصر ظاهرة، و كمثال عليه ترجمات كتب السحر كما فعل أبو جعفر المنصور، وهو موجود كعناصر متوارية لدى العامة ، وبشكل خاص أهالي البلدان المفتوحة ، كما قال أبن خلدون، و مع تصاعد الأزمة الاقتصادية وتحولها إلى حركات سياسية وثورات ، يبدأ التصدع في المستوى الفكري ، فتتشكل ظروف لزيادة مساهمة السحر في الحقل الثقافي ، وحينئذٍ تتكاثر الترجمات لكتب السحر و يظهر مؤلفون مختصون بذلك كأبن وحشية و جابر بن حيان كبير السحرة في التأليف العربي ، كما يصفه أبن خلدون.
أي أن الدين والعلم ، بوضعيهما الملحقين بسيطرة الأشراف ، يعجزان عن تحليل أسباب الكوارث المتلاحقة على البناء الاجتماعي العام ، فقد قال الدين بأن المجتمع مادام في رعاية الإسلام فهو المجتمع المعقول والمحمي إلهياً ، و لكن توالي الأزمات والحروب أخذ ينشر علامات الاستفهام حول هذه المعقولية ، و كان الدين الرسمي قد جعل العلم ملحقاً به ، و هو علم يقوم على الترجمات والمبادرات الفردية ، و نظري غير تجريبي ، و غير منتشر بين العامة ، وهكذا ظهر شخص كأبن وحشية يعتبر العودة إلى تراث الرافدين القديم بطابعه السحري وعبادته للنجوم والكواكب ، حلاً وبديلاً عن وعي الدين الجديد .
إن أزمة سيطرة الأشراف العباسيين على السلطة ، تخلق بداية أزمة فكرية عميقة في الدولة الواسعة، فإذا كانت المزدكية قد عادت إلى أقسام من إيران ، ثم فشلت سياسياً وفكرياً، و انبعثت القبطية كثورة في مصر ، وترك أهل شمال أفريقيا المذهب الخارجي و تبنوا المذهب المالكي ، ولهذا فإن أديان ما قبل الإسلام و المذاهب المتطرفة ، لم تستطع أن تسود ، و أخذت مجموعات الشعوب المختلفة تدخل في الإسلام رغم هذه القلاقل ، و تبدأ بأخذ صيغ منه تعبر عن وضعها الخاص وتجربتها.
وفي أزمة سيطرة الأشراف على المركز ، ومع حل هذه الأزمة عبر إعادة النظر في هذه السيطرة المركزية الشديدة ، فإن الخريطة السياسية والاجتماعية سوف تتبدل ، وتبدأ عمليات جديدة من التكوينات الفكرية تنمو في مخاض جديد ، يبدأ من هذه العناصر الجديدة المتكونة على مدى القرنين السابقين ، ومن العناصر الماضوية البعيدة ، فيأخذ عناصر من الإسلام وعناصر من الأديان القديمة ، من الدين والعلم والسحر على السواء ، بمعدلات تعكس التجربة المناطقية لكل أقليم وبلد.
إن محاولة المركز فرض صيغة من التجريد العقلي ، المنقطع عن أخذ المصالح العامة للأقاليم وعن التقاليد المتشكلة خلال الماضي الإسلامي ، إن هذه المحاولة تفشل ، وتبدأ صيغة مشتركة ، من المركزي والمحلي ، من ما هو إسلامي مشترك و ما ينبعث من التقاليد المحلية، ومن المجرد والملموس ، من ما هو إسلامي و من ما هو قبل إسلامي ، من ما هو ديني ومن ما هو سحري و من ما هو علمي. والنسب بين كل ذلك تخضع للفاعليات الملموسة في التاريخ الخاص والعام.
ـــــــــــــــــــ

المصادر:
(1 ): ( منشورات وزارة الثقافة، دمشق،1998 ، ص 150ـ 152).
( 2 ): ( فصل علوم السحر والطلسمات ، المقدمة ص 393 ، طبعة دار العودة ).
( 3 ):(ج 2 ، عالم المعرفة 1998ص 147 ، 148).

في إنتاجِ دكتاتوريته الفردية يصعدُ لينين صراعَهُ ضد التعددية في الحزب، فيقسمهُ، ويصعدُ صراعَه ضد التنوع الديمقراطي في الغرب فيغدو الغرب برجوازياً لا بد له من شيوعية نافية له بكليته.

عودة السحر

كتب : عبـــــــدالله خلــــــــيفة

موضوعا السحر والدين واسعان جداً، ولكننا نقصد هنا الأسباب التي أدت إلى بقاء السحر بل وأنتشاره بقوةٍ في العقود الأخيرة، حتى صار للسحرة بدل البيوت المخفية محطات فضاء ذات تأثير شعبي واسع!
إن السحر والدين تربطهما وشائج وصلات قوية، فكلاهما يعتمدان على الغيبيات، فهما مرحلتان من التفكير البشري اللتان لهما أسباب موضوعية، وإذا كان السحر هو المرحلة البدائية من التفكير البشري في البحث عن الأسباب، فالدين مرحلة تالية وأعلى منه للبحث عن هذه الأسباب كذلك!
فالبشر لا يختلقون أسباب التفكير بل هي تكونُ نتاجَ تطورهم الصعب وسط ظروف الطبيعة القاسية ووسط صرعاتهم الضارية كذلك!
وما يحيط بهم من ظروفٍ وأحداث فيها السيء وفيها المفرح لا يفهمونه كل الفهم، ولهذا يلجأون لقوى أخرى من خارج وسطهم البسيط لكي تعينهم على هذا الفهم وعلى التأثير فيها والتغلب عليها!
وتتباين استجاباتهم لهذه القوى حسب مداركهم وظروفهم العامة والشخصية، وحتى صاحب النفوذ والقدرة الهائلة يحتاج للسحرة لا لشيء سوى إنه فقد القدرة على السيطرة على الأوضاع والتنبؤ بالمصير، فيتوجه المعتصم الحاكم ذو النفوذ الهائل للاستعانة بالمنجمين، في حين إن أخاه المأمون كرس حكم العقل الديني!
وحتى لو جاء العالمُ ذو الإمكانيات العلمية الكبيرة لا يستطيع أن يفهم كلَ شيء، وأن يتنبأ بالمصائر، وأن يعرف تطورات الدول والأحداث بدقة، فهو يمكن أن يعرض ملامح عامة، لكن التطورات والأحداث لا يحيط بها كل وعي مهما كانت سحريته أو تدينه أو علميته!
والمجتمعات تتباين في تطورها فإذا حدثت الأزمات الحادة وكثرت الظروف السيئة عليهم أو داهمتهم أمراضٌ خطيرة لجؤا إلى نوع ما من التفكير بأنواعه الثلاثة السابقة الذكر، حسب مستوى معارفهم، وحسب تطور حياتهم، فالمتخلفون جداً والمأزومون يختارون السحر، مثل الذي يلجأ للفانوس السحري وبساط الريح والنفث في العقد والتمائم والأحجبة وغيرها، يستعين بها من أجل تجاوز الخطر وخلق الظرف الملائم له، وعادة يجري ذلك في المستويات الشعبية، التي لا حظ لها من دين عقلي أو من علوم، أو تكون الحالة قد وصلت في الإنسان أو المجتمع إلى درجة الإطاحة بكل ثوابت العقل!
إن الإنسان المأزوم جداً أو المجتمع شديد التخلف أو المأزوم جداً كذلك يلجأ للحل الأخير المتدني، وهو إزاحة العقل بشكليه الديني أو العلمي.
إن علينا أن نحترم هذه الأشكال الثلاثة الكبرى من التفكير البشري، فهي وليدة حالة الإنسان الموضوعية، فكم من مثقف حين يعجز عن حل تناقضاته الداخلية أو حين أستفحل به المرضُ الخطير، يلجأ إلى مشعوذٍ أوساحر، وكم من عالمٍ راح يكلم قبور أهله!
وقد ازدادت موجة السحر بسبب إن الموجتين السابقتين العلم والدين اللتين كانت أملاً للتغيير بالنسبة للجمهور تحولتا إلى مشاكل بل والأسوأ من هذا إن الموجة الدينية التظاهرية الشكلانية التي لفت بعض المثقفين تحولت في العديد من الأقطار إلى حروب أهلية وصراعات ضارية، بحيث أخذ جزءٌ من الجمهور الأكثر تخلفاً ويأساً يعود بشكل واسع إلى أي خشبة طافية في نهر الجثث والخراب والحرائق!
مع الظلمات التي تحيط بالإنسان الصادق المعذب بشكل حقيقي وليس الذي يستعين بالدين أو بالسحر بشكل سياسي نفعي، فإن اليأس يدفع إلى أشد الحلول غرابة ولاعقلانية.
وإذا كان دعاة العلوم والتصنيع القذر يلفون المدن بسحب السرطان، وبدلاً من أن يحصل العامل على أجر، يكون نزيلاً في أحد المستشفيات يواجه اللحظات الأخيرة من حياته السريعة، فإن بطل العمل العلمي هذا يتحول أعمى يريد النجاة بأي شكل!
أصبح الموت السياسي والموت الصناعي يخطفان الناس الفقراء خاصة، وبسرعة مخيفة وبضربات صاعقة، وتبخرت أحلام العلميين والدينيين وارتفعت أسهم السحرة والدجالين!