
كتب : عبـــــــدالله خلــــــــيفة
≣ تعريفُ العلمانية
لفظُ العلمانيةِ لم يكن معروفاً في اللغة العربية، فتراثُ العرب يجهله، مثل مصطلحات حداثية غربية عديدة، فالبنية العربية الاجتماعية العامة لم تعرف الحداثة كبنية، بل كأجزاءٍ مفتتة، وكمحاولاتٍ مُجهَّضة.
(فالعلماني هو الشخص الذي يهتم بهذه الحياة الدنيوية ويتحركُ بمقتضى معيشته الدنيوية ولا يفكرُ في شيءٍ آخر ولا يعمل من أجل هدف آخر ولا يملك حساباً في حياته خارج هذه الدائرة. هذا هو معنى العلمانية بشكلٍ دقيق)، عبدالكريم سروش، التراث والعلمانية، ص 98، دار الانتشار العربي.
(تارة تـُقرأ بفتح العين «عَلمانية» فمادتها علم)، فهي مأخوذة من عَالم، أي التمظهر بمعالم الدنيا. (أما القراءة الأخرى لهذه المفردة بكسر العين «عِلمانية» تقرأ بالكسر)، تعطي معنى العلمي.)، السابق، ص 94.
دخلت لفظةُ (سكولاريسم) العربيةَ منقسمةً، وبالأحرى فإن مثقفي العرب في مرحلة التنوير انقسموا حولها، دخلتْ الحركاتُ العربية الإعرابيةُ فيها، فتباينتْ القراءاتُ لها.
إن تباين القراءات هو جزءٌ من تباين المواقف وتحولاتها، ودائماً تأتي المصطلحاتُ الغربيةُ من بُنيةٍ غربيةِ ذاتِ تطورٍ تاريخي مختلف، تحملُ مضامينَ زمنيتها في تلك البنية، لتدخل بنيةً عربيةً ذات سيرورة مختلفة، ويتم النقلُ بدون إدراك للفروق ولبصمات التاريخ عليها.
لم يكن للإسلام تلك الهوة التي وجُدت في أوربا العصور الوسطى بين الدين والدنيا، كانا مختلطين متداخلين، ولم يكن ثمة طبقة كهنوتية حسب الإسلام الأول المؤسس، كان هذا المؤسسُ يتعمدُ التباينَ عن المسيحية الرهبانية، والافتراق عنها بالبشرية الدينية الأرضية الطينية الفرحة بالعالم، كان مشروعه أمة مختلفة، شعبية، لا ملأ فيها، ولا تناقض بين صورتي العالم، صورة العيش الراهن وصورة الخلود. ولا فصل للدين عن الحياةِ، والحكمِ، والحكمُ غيرُ مفصولٍ عن صنع الناس. عبر رؤى القرون القديمة المسيرة حسب خطط الغيب المصنوعة المتداخلة في مادتها بفعل البشر. وقد جرتْ هذه الصورةُ الدينيةُ خوفاً من عودة الملأ، لكن الملأ عادَ مع هذا وصاغ الدينَ الرسمي.
والكثير من الشعوب قامت على خلاف تاريخ المسلمين اللاحق الرسمي، فصلتْ مؤسسات الدين عن الحياة الاجتماعية، لم تجعل مؤسسات الدين تتدخل بشكل يومي ودائم في حياة الناس.
لكن هذا العام لم يكن كلياً فرجال الدين يتدخلون في حيوات الشعوب بأشكالٍ مختلفة، بعضها خارجي تثقيفي، وعبر منعزلات: غابات البوذيين، والرهبان في الديانات الهندية، وأديرة الرهبان المسيحيين في آسيا وأوربا وأفريقيا. وقد صعدت الكنائس في العصر الوسيط الأوربي وقامت بحكم شامل عبر كنيسة روما، بعد أن أختلف الأمراء وتفتت الدول، أي بعد إنهيار أهل السياسة. وهكذا فقد عرفت أغلبُ الشعوب العلمانيةَ كجذورٍ سياسية، وحين تحكمتْ الكنيسةُ الأوربيةُ في كلِ شيء، وظهر مثقفون وبشرٌ خارجَ سيطرتِها أطلقتْ الكنيسةُ عليهم لفظةَ علمانيين، أي أهل دنيا وليسوا أهل آخرة. بعد أن إحتكرتْ الكنيسةُ الدنيا والآخرة. وتفاقم هذا التناقضُ بين أهلِ الدنيا وأهل الدين، بين الطبقات الوسطى الجديدة التي تريد حياةً، وأصحاب الضياع الكنسيين والملوكيين المسيطرين على الحياة وخيراتها، ووصل لدى الطلائع إلى عداء هائل، وإفتراق. كان هذا هو المصدرُ الأوربي للفظةِ العلمانية.
ولم يفهمْ بعضُ المثقفين العرب هذا المصطلح على هذا النحو وهو يأتي مدموغاً بالقفازاتِ الحديدية لكنيسة روما، لأنهم كانوا يزاوجون بين الدين والدنيا، لم يشعروا بوجود كنيسة متسلطة عليهم، وكانوا يرون الدولة العثمانية المحتلة والدول الغربية كعدو. وكان العديد من رجال الدين يشاركونهم الصراع الوطني. لهذا فإن القراءة الأوربية تعدلت عندهم. لكن القراءة الأخرى راحت تنمو.
كانت الديانةُ الإسلاميةُ المؤسسة لم تخلق مؤسسات دينية رسمية مسيطرة، واعتمدت على التمايز بين من يفقه الدين وعامة الناس وازدادت الهوةُ بين الفقهاء والعامة مع الفتوحات ودخول الملايين للإسلام، كما كثرت الموارد من ذلك.
لكن الفقهاء الكبار نظروا للتثقيف الديني ونشر الأحكام كعمل تطوعي، رغم أن بعض المؤمنين راح يغدق عليهم بعض الهدايا والأعطيات، ورفض هؤلاء الفقهاء عموماً مثل هذه الهدايا، واعتمدوا على دخولهم الخاصة، وقد كانت معيشتهم بسيطة، وحاول بعض الخلفاء إلحاقهم بالحكم والتحق العديد من رجال الدين بالأنظمة، وتوجه الفقهاء المعارضون للاعتماد على تبرعات المؤمنين، ومع ازدياد صعوبات المعيشة وضربات الدول للفقهاء المستقلين المعبرين عن روح الشريعة، اختفى الاستقلال الديني وتم إلحاق رجال الدين بالأجهزة الحكومية.
في البدء كان ثمة طوائف تدعو وتفقه، دون أن تمتلكَ سلطةً، ومنع تحولها لسلطة عملية توزيع الخيرات بشكل عام، ووجود عرب قبليين أحرار، وغياب الأسوار من بين من يَحكم ومن يُحكم، ومشاركة النساء الواسعة في الحياة السياسية، وفي الحياة الاجتماعية القبلية، وصعدتْ عقلانيةٌ جنينية تفصل الأسطرة والتخريف عن الثقافة العامة. هذا كان من حيث الحكم مقاربة لتاريخ العرب القبليين الذين يجعلون الحكم الديني ثانوياً وهامشياً.
وبعد تغير هذا الأساس الاجتماعي فإن الحكمَ السياسي ظل هو الشكل الرئيسي من جهاز الدولة، ولكنه كان محتاجاً باستمرار إلى الدين كأدة سيطرة أيديولوجية على الجمهور، الذي راح يعارضُ الأساسَ الاجتماعي لحكم الأقليات. وعلى مدى القرون التالية تحول الدينُ إلى شكلٍ آخر للسيطرة السياسية، فحدثتْ قراءاتٌ رسميةٌ مُـقطَّعة وإنتقائية للقرآن حسب مصالح النخب الحاكمة والذكور، وإلى تدخلات واسعة وعميقة في حياة الجماعات والأفراد، فلم يعدْ ثمة شكلٌ من أشكال التجمع والتعبير والتفكير لم يتم إدخالَ الدين الرسمي فيه، وكذلك فإن الفردَ يغدو مسيطـَّراً عليه من بدءِ ولادتهِ حتى دفنه. وكل هذه السيطرة تجري من أجل طاعة الجماعات والأفراد للمؤسستين المشاركتين في إستغلالهم. وتتوزعُ هذه السيطرةُ وتتنوعُ وتتداخل، خاصة في حالةِ الانسجام بين المؤسستين السياسية والدينية.
ويرتكز التقييدُ المشترك على الحياة العقلية والحياة السياسية، فهما أداتا التحويل للمجتمع، فكانت عملياتُ إنتاج الوعي الديمقراطي محدودة جداً، وإذا جرت فهي من داخل القوالب السائدة.
لقد واجه المسلمون سيطرتين مزودجتين طويلتين وعميقتين ورهيبتين، ومن دولة كبرى إلى فسيفساء سياسية، وإلى دمج الخرافة في الحياة اليومية، وإلى تشويه البشر، بحيث جاءت الدول الغربية الاستعمارية كمنقذٍ في بداية الأمر وبوابات لعالم جديد!
ومن هنا راح المسلمون يتفتحون وينقلون أدوات التقدم، وأحياناً يعتبرون أن تقدم الغرب هو من نتاجهم، لكن الغرب أفتتح عالماً مختلفاً ومثّل قفزة اقتصادية نوعية، وصنع ثورةً جديدة في تاريخ البشرية. وقد تم ذلك بشكلٍ إستغلالي، بطبيعةِ العلاقات التي كونته ورفعته إلى حكم العالم، ولهذا أنعكس ذلك على ترجمته للعلمانية، ففهم بعض المثقفين العلمانية كشعار علمي، وهذا كان متفقاً مع رغبتهم في نشر العلوم وكسح الجهل السائد، وإعتماد الإسلام كدين مستمر، دون أن يقرأوا بطبيعة الحال جذوره، ومشوا مع السائد من العلاقات التي فرضت خلال قرون، وإن كانوا قد وسعوا النقد للكثير من المشكلات والسلبيات.
لم توجد حينئذٍ سببيات لفصل الدين عن الدولة، بل كانوا متعطشين لدولة خلافة أخرى، ولمساندة رجال الدين في النضال الوطني، حيث كانوا ينظرون بعاطفية تنويرية، تعتمد على نفس الأدلجة القديمة، ولم يعرفوا النظام السائد، وهم أنفسهم كمثقفين من الفئة الصغيرة الوسطى، يتبعون مصالحهم التي كانت بيد القوى الأجنبية – المحلية المسيطرة، وهم كأصحاب وعي ديني مثالي يشاركون رجال الدين في الرؤى المفارقة والمسيطرة والشمولية، وكرجال يشاركونهم في السيطرة على النساء والعاملين.
ليست العلمانية سوى صراع سياسي لتوجيه الموارد الاقتصادية، أما القضاء على الأديان فهو هدف غير حقيقي وغير متحقق. أو خرافة تم الترويج لها لأسبابٍ سياسيةٍ كذلك.
وإذا لاحظنا نشؤ العلمانية في الغرب فإن الهجومَ الواسعَ ضد المسيحية الذي تفجر في عصر الأنوار، كان صراعاً اقتصادياً بدرجةٍ أساسية ضد ملاك الأرض الكبار، الذين كان منهم رجالُ دينٍ متنفذين وحكام، وقاوم هؤلاء صعود الملكيات الحديثة والمصانع واحتكروا الأرض وأغلبية المنتجين من الفلاحين. فلجأت الطبقة الوسطى الصاعدة الفرنسية خاصة المحتاجة لهذه الموارد والقوى العاملة الرخيصة، إلى الهجوم السابق الذكر على المسيحية، وتمت العودة لثقافة اليونان الديمقراطية والوثنية، وتصاعدت موجةُ الألحاد، وحين سيطرت الطبقات الوسطى على الحكم فإن سياساتها تجاه الدين خضعت لأهدافها الاقتصادية والاجتماعية المتبدلة في كل مرحلة، وفي كل بلد، فضخامة موارد الكنيسة الريفية الفرنسية استدعت هجوماً تنويرياً وإبعاداً للدين عن التعليم في المدارس، ثم وجدت حكومات محافظة تالية أهمية عودة تدريس الدين.
لا تستطيع أية طبقة تحديثية أن تلغي الدين، وما المناوشات التي تجري سوى عملية تشذيب معينة في الوضع الاقتصادي، تقود لسيولة الموارد وتوجيهها، فالعلاقات الاجتماعية التي يُضفى عليها طابعٌ ديني جامد بحاجة للتحول، وتعديل رؤية المرأة والفلاح والفوائد المصرفية التي تـُجمد حركتها في النصوص الدينية التقليدية، فتستدعي فهماً دينياً جديداً أو إبعاداً للدين التقليدي عن السيطرة السياسية.
ولهذا فإن العلاقات بين الطبقات الوسطى الغربية والأديان تُستعاد مرة أخرى عبر تحولات سياسية وفكرية جديدة، كما أن مثقفي هذه الطبقات الطليعيين يحفرون لمستويات أبعد، فالمصانعُ بحاجةٍ لتطوير تقني مستمر، ولا بد للعلوم الطبيعية خاصة أن تنطلق بلا قيود، ولهذا فإن العوالمَ الفكرية المصاغة في الكتب المقدسة تتبدل، فلا تعود الأرض مركز الكون، ويُفهم الإنسان بصور أخرى وكذلك الفضاء والتاريخ الخ.
لكن الأديان ليست مرتبطة بالعلوم فقط بل بعلاقات الإنسان الاجتماعية للأغلبيات الشعبية كذلك، وهذه لا تتبدل بمعدلات التطور الاقتصادية، كما أن قهر الطبقة الوسطى والعلاقات الاقتصادية الرأسمالية تجعل من الأديان ضرورة وإنتماءاً مشتركاً وعزاءً في جحيم الرأسمالية.
وهكذا فإن العالم الإسلامي لم يواجه مثل هذه الثورات الاقتصادية الغربية، وإلى إعادة توزيع السكان والطبقات وأشكال الوعي بصورة جذرية، وظلت الفئاتُ الوسطى مهمشَّةً، وذات تصنيع ضعيف، لا يستدعي ثورةً جذرية في الريف والتعليم، كما أنها تستخدم الدين التقليدي عموماً لتجذير مصالحها، ولهذا غدت ضعيفة علمانياً، ولم يكن رجال الدين ذوي سيطرات اقتصادية كبيرة على الموارد والعاملين، بل كانت الصراعات تتوجه للمؤسسات السياسية والحكومات. فغلب الصراع السياسي على الصراع ضد الفهم التقليدي للدين. ولهذا فإن معركة العلمانية ظلت ذات طابع ثقافي، وظل التعريف الأول لها، باعتبارها حركة علمية عربية أكثر منها حركة دنيوية معادية للدين والأخروية، خاصة أن مسائل العيش الدنيوي المبهج وكراهية الرهبنة سائدة بين المسلمين، إلا من بعض القطاعات المتشددة.
كما أن تصاعد دور الحكومات في الاقتصاد وسيطرتها على أغلبية الدخول جعل المعارك معها بصفة خاصة، وغدا التبشير السياسي هو الأكثر قوة في الحياة الفكرية.
≣ العلمانية والعلم
العلمانية هي فصلُ الدينِ عن السياسة، وهذا هو تعريفها العالمي الفيصل.
العلمانية لا تعني العلمية، فالعلميةُ والعلومُ هي مستوىً آخر، مرتبطٌ بتطورِ العلوم وبأهدافِها وبوسائلِها داخل المجتمعات المختلفة، في حين أن العلمانية هي مفردةٌ سياسيةٌ تتعلقُ بعالمِ السياسةِ والقوانين الإجتماعية، وتعني الفصل تحديداً بين الدين والسياسة سواءً كانت أحزاباً أم دولاً. أي أن لا يُستثمر الدينُ لمصلحةِ فريقٍ دون آخر، لا في شعاراتهِ ولا في أسمائه ولا في أهدافه. وأن تظهرَ الدولةُ أو الحزبُ بمظهرِ الكيان الوطني الذي يخدمُ المواطنين لا جماعةً من المؤمنين.
فصلُ الدينِ عن السياسةِ لا يعني الإلحادَ ولا يعني العلمية، فالعلمانيةُ هي وضعٌ سياسيٌّ يقومُ على منع الدينيين أو غيرهم من العسكريين والسياسيين والحكام، من إستخدامِ الدين في عملياتهم السياسية، ولكي لا يمكنهم إستخدام هذه الأدوات المتوارثة المقدسة، من أجل أهدافهم السياسية، ولكي يمنعهم هذا الوضعُ من إستخدامِ المفرداتِ الدينية والكتب المقدسة في دعاياتهم الإنتخابية وفي أحكامهم لأجلِ مصالح حزبية وسياسية، ولكي لا يتم تجنيد الناس من خلالِ نصوصِ الكتبِ المقدسة للمؤمنين جميعاً لغاياتهم الشخصية والحزبية والحكومية.
ففي حين تتوجه الإنتخاباتُ لعرضِ برامج الطبقات المختلفة، وأيها جديرٌ بمقاعد البرلمان، يستثمرُ الدينيون النصوصَ المقدسة من أجل غاياتِهم الحزبية للوصول إلى أهدافهم عن طريق الدين والمذاهب، والدين والمذاهب لا علاقة لها بإهدافهم الحزبية، وإنما هي أدواتٌ محترمة لدى الناس، يريد الحزبيون الدينيون من خلال إستغلالها الصعود لمغانم الحكم ومكاسب الثروات وللأهداف السياسية الحزبية التي تخضع في كل فترة لتحول وظروف وغايات يحددها هؤلاء السياسيون!
يمكن أن يكون العلماني صوفياً ودرزياً وشيعياً وسنياً وبوذياً وملحداً ومسيحياً ووجودياً وحداثياً وعلمياً كارهاً للأديان وغيرها من الآراء والأفكار الدينية والعصرية، فهي حالةٌ سياسيةٌ لا علاقة لها بالمعتقد، وهي وضعٌ إنتخابي ديمقراطي، لا علاقةَ له بالإيمان وعدم الإيمان.
يمكن أن يكون العلماني مجوسياً وبوذياً وهندوسياً وشيوعياً، فقد قررَ هذا الإنسانُ السياسي أن يضع عبادته وأفكاره الاعتقادية خارج العملية الإنتخابية، فيمكن للبوذي أن يصوتَ للشيوعي، ويمكن للشيوعي أن يصوتَ للهندوسي.
حين أرى أن الدرزي في آرائهِ السياسية وليس في معتقداته الدينية أفضل لي ويقدم برنامجاً سياسياً مفيداً لي سوف أنتخبه، وأعرضُ عن السني الذي يرفعُ لواءَ مذهبي، لكنه لا يرفع برنامجي الاجتماعي الذي يهتمُ برفعِ أجوري وبالدفاعِ عن مصالح طبقتي.
العلمانيةُ إذن هي حالةٌ سياسيةٌ تنأى بالأديان والمذاهب عن إقتحامِ الصراع الاجتماعي السياسي، وهي لا تعني القضاء على الأديان، وإبعادها عن معتقدات الناس، ولا تعني هدم دور عباداتهم، ولا منع الإهتمام بتراثهم!
هي منعُ المتاجرة بالأديان في العمليات السياسية فقط، وتتشكل عبر حالة قانونية دستورية معينة.
ومن هنا كان بعضُ العلماء مؤمنين، وبعضهم ملحدين، وغير هذا من الإنتماءات الفكرية، وهذا يتوقفُ على إعتقاداتِهم، ولا علاقةَ له بمواقفِهم السياسية، فالموقفُ السياسي مستوى مختلف، فالعديدُ من العلماء أتخذَ موقفاً غير علماني، أي وقفَ مع الأحزاب الدينية والدول الدينية، كما حدث العكس.
كما أن الكثيرَ من غيرِ العلماء ومن المتدينيين كما قلنا أتخذَ موقفاً علمانياً، أي رفض إستخدام الدين في السياسة.
أي إنهُ رفضَ أن يتمَ الزجَ بالدين لمصلحة فريق دون فريق!
وهذا في عصرنِا يتسمُ بالتوسع، فالأديانُ هي إيمانٌ الملايين، وتقومُ بعضُ الجهاتِ بإستخدامِها لمصالحِها الفئوية الضيقة لكسبِ الأصواتِ والمقاعد والثروات، في حين أن الأغلبيةَ ترى إن إستخدامَ هذه الأقليات لدينها في مثل هذا الوضع السياسي الشمولي ولخدمةِ مصالح تلك الأقليات، يتسمُ بعدمِ تحقيقِ تطوراتٍ لمعيشتِها ولحرياتها، وهو مضادٌ لمعاني الدين والتطور الديمقراطي معاً كما تفهمها.
تتفككُ علاقاتُ السياسةِ بالدين، فالدنيوي المتعلقُ بالحكوماتِ وبالصراع السياسي وبالبرامج السياسية والإنتخابية، ينفصلُ عن الديني المقدس، وينفصلُ عن آيات القرآن ولضرورةِ عدم زجها وإستخدامها في مثل هذه الحلبات، وينفصلُ عن الزجِ بالرموز المقدسة عند أصحابها في صراعات دنيوية محدودة، تتعرضُ للتغيير بشكلٍ فظ في كثير من الأحيان، وتتسم بالديماغوجية وبالانتهازية وبالمبدأية في(قليل) من الأحيان!
وقد إنفصل بعضُ كبارِ علماءِ المسلمين عن مثل هذه الحالاتِ السياسيةِ التنافسية وعن الإنخراطِ في الجبهات السياسية المتصارعة التي أتخذتْ للأسف توجهات طائفية، مشكلين حالة أولية من العلمانية الوطنية التوحيدية، ولا يعني هذا إنفصالهم عن دينهم و لا عن بحثهم العلمي!
كما أن هذا يعني حفاظهم على الخرائط الوطنية لبلدانهم، وبتقنيةِ المذاهبِ الإسلامية من الشوائب المريضة للفساد السياسي، مدركين طبيعةَ التطوراتِ السياسية المتقلبة وبضرورةِ عدم جرها للمذاهب الإسلامية في المزايدات والصراعات السياسية والاجتماعية التي لا تتوقف!
فالحالةُ الدينيةُ لها تطورُها الخاص كذلك، مغايرةٌ عن الحالةِ العلمانية، وعن الحالة العلمية. فهذه مستوياتٌ ثلاثة مختلفة كلٌ له مساره.
≣ العلمانية والدين
العديد من القراء يتصل بي للسؤال عن العلمانية فيقول أحد الإخوة بأن العلمانية تمثل (إبعاداً للإسلام عن الحياة وركنه في المساجد وبالتالي عدم استخدامه في جوانب المجتمع المختلفة، والدين يمثل قيمة روحية كبيرة فإذا خلا المجتمع من أي سلطة عادلة لجأ المرء إلى الدين يستظل به).
والواقع إن العلمانية لا علاقة لها بهذا الإلغاء والمحو للدين، فهي ليست سوى تنظيم اجتماعي يُبعد الدين عن استغلاله في السياسة والمتاجرة به، في حين أن الجوانب الأخرى من الحياة مشروع فيها استخدام الدين بكل أشكاله ومستوياته، فهي لا تلغي جذور وظاهرات المجتمع الإسلامي المختلفة من فقه وفلسفة إسلامية وعبادات وتصوف الح. .فهذه الجوانب لا يستطيع أن يمسها أي تنظيم علماني للمجتمع تصل إليه القوى السياسية بعد تطورها الثقافي الكبير المأمول.
تنظراً إلى هذه التعددية المذهبية والدينية واللادينية في الحياة العربية فإنها تتطلب أجساماً سياسية تجمع بين أصحاب المذاهب والأديان والأفكار إذا اتفقوا على عمل سياسى ما، كما حدث ويحدث للتنظيمات القومية والتقدمية والوطنية، وهذا الاتفاق هو للعمل بشعارات سياسية معينة كتحرير الوطن وتقدمه أو العمل من أجل نظام ديمقراطي، وهي أمور تفرضها كذلك الحياة الاقتصادية النقابية التي تجعل أصحاب المصالح المتحدة يعملون معاً للدفاع عن مصالحهم التجارية أو النقابية بغض النظر عن جذورهم وعقائدهم.
ولم تستطع المرحلة الأولية السابقة من العلمانية العربية أن تكونَ ذات جذورٍ دينية إسلامية ومسيحية عربية، بسبب محدودية تلك العلمانية الشعارية، فكانت تنحي الدين بهذه الدرجة أو تلك، وقد تكون التنحية في المجال السياسي، وقد تصل إلى جوانب أخرى، لكن كانت العلمانية العربية عموماً وربما مازال بعضها حتى الآن، ذا طابع استيرادي، يأخذ ما هو سائد في الغرب وينقله دون إعادة إنتاج عربية إسلامية، فظهر دعاة إلغاء الأديان وتلك ليست دعوة علمانية موضوعية.
فلم يكن العقل العلماني العربي قد وصل إلى مرحلة الديمقراطية، وقراءة جذوره القديمة، والفهم العميق لتاريخه؛ فإذا كانت الحركات النضالية سوف تتقوى عبر فصل المذاهب عن السياسة، لكن لا يعني هذا ألا ترتكز على تاريخها ونضالها السابقين.
والدرزي والشيعي والسني والقبطي المنتمون إلى حزب علماني عليهم ألا يتخلوا عن جذورهم، فيأتوا للحزب ككائنات مجردة، وكأناس من الهواء، بل أن يدرسوا هذه الجذور ويروا ما فيها من دلالات وأهمية تاريخية، ففيها جوانب مركبة من الإيجاب والسلب، أي هناك جوانب لابد من تطويرها في هذه المذاهب والأديان وجوانب لابد من تنحيتها كالتعصب والأحكام المتخلفة تجاه الجمهور وتغيير أوضاعه.
لكن هؤلاء العلمانيون المتحدون ذوي الجذور الدينية المختلفة سيعملون في الجانب السياسي بشكل خاص، أي للنضال من أجل قضايا مشتركة للمواطنين كوضع حد لدكتاتورية أو لتعسف اقتصادي، وهي قضايا أكثر إلحاحاً من قضاياً فقهية ومن عادات دينية مختلفة.
لكن النضال من أجل التغيير السياسي صار يتلازم مع النضال من أجل التغيير الاجتماعى، بشكل أكثر وأكبر من زمن العلمانية الأول، فالآن الأمر يتطلب تغيرات عميقة في الحياة السياسية وفي العلاقة بين الرجل والمرأة وفي الأفكار التراثية وفي رؤية الماضي الخ..
وهذا أمر يلحظه أي متتبع للصراعات الاجتماعية والفقهية التي تجري حيث تتطلب الحياة العصرية تغيير جوانب عديدة من رؤية الماضي وعاداته، لكن هذه التغييرات لن تزيل الأديان والمذاهب، بل ستحدث تطورات في رؤيتها للأمور.
فنظرتنا إلى تعدد الزوجات راحت تغتني برؤيتنا المختلفة للإسلام، وللضرورات التاريخية التي صاحبته، وخطورة كثرة الأبناء في عالم اليوم ذي الظروف الاقتصادية المختلفة وذي التحديات السياسية والعلمية الكبيرة.
لكن تغيرات الأديان والمذاهب هي تغيرات تتعلق بحقب، لأن لها جذورا تاريخية بالغة القدم، وهي مرتبطة بعادات الحياة الاجتماعية الكبرى، فتحولاتها متروكة للزمن ولتطور عادات وأفكار الأغلبية من الناس فلا تفرض عليهم الأمور بقوة إدارية بل عبر الاقتناع، في حين أن الحياة السياسية تتطلب تحولات يومية، والناس بحاجة إلى تغيير ظروف عملهم في المصانع والشركات وعلاقتهم بالدولة وتوزيع المال العام وتوظيفه..
وفي حين تعمل الدول والقوى الاستبدادية على تغذية النزاعات المذهبية والدينية بين الجمهور تعمل الدول والقوى الديمقراطية على توسيع التحالفات الشعبية التي لا تتحقق إلا بعزل الجوانب المذهبية والدينية المختلفة من دائرة الصراع السياسي!
ولهذا فإن اللوحة معقدة، فهناك نضالية علمانية جبهوية تضم مختلف القوى الشعبية ذات الأديان والمذاهب المختلفة التي تسعى للتغييرين السياسي والاقتصادي، في حين تصر القوى المحافظة على تكريس الصراعات المذهبية والدينية لإفشال ذلك التغيير.
≣ العلمانيةُ منعٌ للصراعاتِ الدينية
تعريف العلمانية هي أنها (فصل السياسة عن الدين، أي منع إستخدام الدين في السياسة). لا أكثر ولا أقل، فهي ليست حرباً ضد الدين، كما يحاول تجارُ الأديانِ تصويرَ الأمر.
لا يمكنك أن تبدأ خطاباً سياسياً باسم الله الرحمن الرحيم وأنت تهاجمُ نظاماً أو جماعةً أو طائفة معطياً نفسك الحق بالتعبير عن دين والنطق باسمه والسير تحت رموزه وأنت تدعو لسياسة لا أحد يعرف مدى تطابقها مع الدين وقيمه، وما هي نتائج هذه السياسة على الناس.
لا يمكنك التكلم باسم المؤمنين وباسم الدين وأنت تتكلم باسم حزب وجماعة من طائفة، فأنت تحرضُ على الحرب الدينية والاقتتال بين الطوائف وتسعرُّ نيرانَ الحروب بين المؤمنين!
لا يمكنك وأنت مسئول وتدعو لسياسة رفع الأسعار وخدمة الشركات أو تؤيد رفع أجور العمال أن تقدم نفسك معبراً عن ديانة أو مذهب بدلاً من تقدم نفسك معبراً عن توجه سياسي أو دولة أو وزارة!
كيف خدعوا الناسَ بأنهم معبرين عن الجماعة الكلية المؤمنة ولكنهم كانوا معبرين عن (جماعة) أصحابِ الامتيازات ورؤوساء القبيلة وقادة الحزب، وكيف أباحوا لأنفسم جرّ الناس كلها للصراعات ضد بقية الأديان والمذاهب، وجعلوا من كياناتهم الصغيرة المغامرة صوت الأمة كلها؟
تعالوا الآن وأنظروا لكوارث هذه الدعوة!
طالعوا بلداً مزدهراً عامراً بالخير به طبقةٌ مهيمنةٌ إستغلالية ولكنها لم تُجابه برؤيةٍ توحيدية شعبية ديمقراطية، بل جُوبهت بدعوةٍ سياسية طائفية، مضادة، بمذهب مقابل مذهب، وليس مواجهة لحكمٍ جائر طائفي مقابل شعب موّحد لا يعرف الانقسام المذهبي السياسي!
أنظروا إليه الآن وهو يتفتت تراباً ورملاً وعظاماً، والثائرون البسطاء في نضالهم ضد الاستغلال لم يعرفوا أنهم يُقادون من قبل جماعة طائفية تهيمنُّ عليهم بشعارات دينية، فجعلت من الطوائف الأخرى تفزعُ وتتعصب وتقاتل بشراسة دفاعاً عن حقها في الحياة!
في بدءِ المجزرة كانت الكلمة المُمزقِّة، كان إستخدامُ الشعارات الدينية، كان إستخدامُ رموز دينية طيبة لكن بأيدي طائفية سياسية تريدُ الكراسي والثروة!
لو كانوا لا يريدون الكراسي ما كونوا هذه العصبةَ المتعصبة وسيجوها بالكلام الديني المقدس ليمنعوا إنفلاتها من سيطرتهم وعدم خضوعها لمغامراتهم وإلقائهم لها في أتون الجحيم الأرضي.
ربطُ المقدسِ بالسياسةِ الجيدة أو الرديئة، تحطيمٌ له، وإضعافٌ لمعانيه السامية، ولتاريخه النضالي القديم، والذي لُوثَّ فيما بعد بهيمناتِ هؤلاء الساسة الاستغلاليين، ومتاجراتهم التي أوصلت الأممَ الإسلامية الآن لما وصلت إليه من تخلفٍ بل من هوةِ حربٍ كبرى بين مذهبيها الكبيرين!
إنهم يجرجون الشعوبَ ويسحبونها للمجازر، فبعد أن أنهارَ بلدٌ كامل يوسعون دائرةَ الخراب لشعبٍ مجاور، تسيطرٌ فيه أحزابٌ سياسية طائفية دكتاتورية إستغلالية عميلة في جانب فتنتفض أحزابٌ طائفية شمولية دموية في جانب آخر، والهدف حرق خريطة البلد!
إن هذه الأحزاب الطائفية السياسية بمثابة المجرمين المطلقي السراح، الذين يعبئون العامة لذبح الشعوب بعضها بعضاً، فهي لم تعرف الوطنية والثورية والإسلام والإنسانية، وعاشتْ على الأحقاد الطائفية والتخلف الفكري وتتصور أنها بشعارات منتزعة من الدين وجمل مستهلكة من التراث قادرة على الوصول للسلطات والثروات.
لقد رأى اللصوصُ في الجانب الشرقي أقرانهم اللصوصَ في الجانب الغربي قد سرقوا الدولة والطوائف وأثروا فسال لعابُهم السياسي الطائفي وإندفعوا لــ(النضال)!
كيف لا وهم يرون الشعوب غافيةً على وسائد النوم الفكري الاجتماعي، لا تعرفُ دينَها وحضارتَها وثقافتها وتراثَ الإنسانية التقدمي، ويمكن لهؤلاء من قطاع طرق المذاهب والسياسة كأقرانهم الأوليين من الفِرق المسلحة أن يخطفوها ويخدعوها ويجعلوها تحارب أخوتهم وأخواتهم من المسلمين؟
العلمانية سياسة فكرية تاريخية ظهرت في البلدان التي أكتوت بالتجارة بالأديان، وحين طبقت فصل السياسة عن الأديان لم تمت الأديانُ كما يزعم تجارُ الدين لدينا، فهناك مساحاتٌ شاسعة لحراك الأديان في الفقه والتاريخ والثقافة والحياة الاجتماعية، لكن في السياسة ميدان الصراع لا يمكن إستخدام أداوت التفريق والتمزيق هذه.
ومن لديه سياسة وبرامج فليتقدم بها ويعمل بها ويطبقها كيفما كانت جذوره وأهدافه الاجتماعية بدون أن يحتال تحت مظلة دينية ما، يتقدمُ في بخورها وغبشها ومراكزها الدينية ليسيطر على الناس، فيجعل آخرين يفعلون فعله ويقسمون المجتمع شيعاً وطوائفَ دينية متحاربة.
إنقاذُ الإسلام من هؤلاء عمليةٌ تاريخية كبرى ستقوم بها أجيالٌ وأجيال، فالمهمةُ ليست سهلة، بل خطيرة صعبة، وهي تتطلبُ درايةً بالتراث الإسلامي والتراث الإنساني، ومعرفة بالسياسات المعاصرة، وهي قمة جهود التوحيد للأمم الإسلامية، وتقدمها، فالنضالُ من أجل التغيير لا ينفصل عن حماية التراث الإسلامي والإنساني، وصيانةُ الرموز جزءٌ من محاربة التلوث السياسي الاجتماعي وجماعات التسلق والتجارة بالمقدس، وتسطيح التراث، وتغريبه.
هدفان لا ينفصلان هما عنوانا تجددِ هذه الأمم وإستقلالها وتطورها.
≣ علمانيةٌ لتطورِ الدين
قامتْ إيديولوجياتُ القوى التحديثية العربية وهي البديل المفترض على إستغلال الدين للوصول لمناصب وواجهات سياسية وثروات، فمحو الدين أو أدلجته لمصالح الإستغلال، كلاهما تعبيرٌ عن عدم إستكمال نضال الأوائل من منتجي الدين، ووضعه في خدمة القوى المهيمنة.
إن إدراكَ العناصر الديمقراطية في الدين هو ذاته إدراكها في الزمن الراهن، حين تطورُ من فاعليةِ القوى الشعبية، لكن القوى المحافظةَ والقوى الإنتهازيةَ الملتحقة بها، تنيحان العناصرَ الشعبية النضالية في الدين وتجعلانها ديكورات وخلفيةً وقوى سلبيةً وقوى مرتشيةً ومُعَّطلةً عن الفعل الإيجابي.
بخلاف أن العملية الديمقراطية هي تطوير للعقليات السياسية والثقافية ولإكتشاف المصالح العامة المطلوب تطويرها، وتوزيع الخيرات الاقتصادية عليها حسب أوضاع الطبقات المختلفة وليس أن تتكرس في فئاتٍ معينة دائمة.
إن الديمقراطيةَ هي تبادل المنافع وليس فقط إستخدام الأصوات لتكريس منافع خاصة. هي حلٌ للمشكلات القديمة المتكلسة في تاريخ الأمة، هي رؤية مواقع قصورها وإستلابها وتجميد تطورها ومنع تحررها من تجاوزها.
لأن (الديمقراطية) على أسس دينية محافظة هي رفض لتغيير حياة الناس والمغبونين منهم بدرجة خاصة، أو على الأقل عدم فهم من قبل المحافظين أن تخلف العامة السياسي الثقافي هو لغير صالح غنى الدين.
تغدو العمليةُ السياسيةُ إتفاقات أو صراعات بين الكبار داخل مسرح توزيع الكراسي، والجمهور (كومبارس)، يصفقُ أو يبصم أو يعتزل يائساً.
إن تنحية المحافظةِ الدينية تطويرٌ للعمليةِ الديمقراطية فهي تفرجُ عن أسرى مخدوعين يُصعَّدون إنتهازيين سياسيين، غير قادرين على فهم العملية الديمقراطية وخدمة المؤمنين العاملين الصابرين على الشقاء.
كيف يمكن أن نترك العلماء والمثقفين الكبار في المدن والريف ونختار شخصيات شابة بعدها لم تنضج للعملية السياسية المركبة المعقدة في هذا الزمن؟
وهل يستطيع هؤلاء جعل هياكل الدول أكثر شفافية وسماعاً للأصوات الشعبية ولتغيير قوى الإنتاج الحقيقية الوطنية وإدراك خفايا عمل الحكومات؟
الديمقراطية المكلوبة من الحكومة والتي تطورها أداءها مطلوبة للمعارضة لتطور من عقليتها ومن برامجها وقياداتها!
هذه العمليةُ ليست في بلدٍ واحدٍ بل داخل المنظومات الدينية المختلفة، التي تمثلُ لحظاتٍ تاريخيةً ضرورية للشعوب والأمم، بأشكال مذاهب كبرى تتحول إلى ما يشبه الأديان المستقلة، أو على صور مذاهب متقاربة.
وهنا في لحظات الإنتكاسات والخيبات من الديمقراطيات السريعة تظهر علمانياتٌ متعددة، فبسبب اليأس والتخلف وهيمنة المحافظين المتكلسين تحدثُ ردات فعل حادة.
فُينظر بأن الدين هو سبب التخلف ولولاه لأختلف الوضع، لكن المسألة تتعلق بسيطرات فئات إجتماعية غير قادرة على فهم العصر والتأقلم المجدد مع، وتأتي قوى البديل التحديثي وتجاملها وتريد أن تركب الموجة وتحصل على الكراسي بدون حفر في الحياة الشعبية.
والنتائج إن ذلك لا يحدث فتنتشر ردرود فعل أو ينمو فهمٌ جديد.
تظهر علمانية إلحادية حادة، وعلمانية قومية شرسة تجاه الدين، وربما أشكالٌ أخرى من ردات الفعل التي تصطدمُ الشعبَ وتجعله أكثر حذراً وخوفاً، وتلك الردود من الفعل ليست ذات وعي فكري عميق ببلدانها.
لكن العلمانية المتساوقة مع تواريخ الأديان في المنطقة تتطلب مثقفين وسياسيين من طراز رفيع، أو من الذين يقرأون النتاجات الحافرة في تواريخ هذه المنطقة العريقة التي أسست الأديان، ولا يمكن بشطحات عقلية وإنفعالية القفز على تواريخ آلاف السنين ببساطة!
كما أن العلمانية تقيم الإحترام لتواريخ هذه الأديان نفسها وتحجم من صراعاتها وتقرأها في مساراتها التاريخية المناضلة وفي دورها المضيء وتكشف جوانب القصور والتخلف.
≣ العلمانية ورأس المال
ليست العلمانية نظاماً سياسياً في الهواء، بل هي تعتمد في نشؤها على الأرباح ومدى تجذر رأس المال في التربة الوطنية لأي بلد.
في الشرق الذي له قوانين تطور اجتماعية مغايرة للغرب، فإن ذلك يعتمد على كيفية نشؤ الفئات الوسطى وعلى أية مداخيل تعتمد.
فإذا كانت فئات وسطى تعتمد على مداخيلها الخاصة، وغير المرتكزة على القطاعات الحكومية المسيطرة، بشكل مباشر وغير مباشر، فإنها سوف تنحو نحو الأفكار الحرة.
ولهذا فإن بروز الفئات الوسطى الحرة شيء محدود، لأن العديد من شخصيات هذه الفئات تعتمد على دخول تأتيها من دولها أو من دول أخرى.
ولهذا فإن معارضتها للاقتصاد الحكومي المسيطر تكون محدودة في بلدها، وتتلفعُ بمفاهيمَ مذهبيةٍ لعدمِ الدخول في صراعٍ ضد هذه الملكية العامة التي تحدُ من تطورِ الاقتصاد ومن نشؤِ هذه الفئاتِ الوسطى الحرة.
ولكونها مذهبية فإن نشؤها ومصدرَ تكوينِها السياسي يأتي من دولٍ ذات حكومات شمولية، فلا تستطيع أن تنتجَ مفاهيمَ الحرية بالصورة النضالية العميقة.
لا تأتي الحرية والحداثة والعلمانية والديمقراطية إلا من فئاتٍ اقتصاديةٍ حرة، يتشكلُ رأسمالـُها من عرقِ عمالها، وأين يمكن أن يجري ذلك؟!!
والمذهبياتُ الشمولية عموماً تشكلت في ركاب الدول المركزية الشمولية كذلك.
حين يتفكك القطاع العام ولا يغدو مركز الإنتاج والدخول وتظهر فئاتٌ وسطى من خارجه تعيش على مصادر دخل مستقلة، فإن أفكارها الحداثية تكون ذات جذور موضوعية، لأن الأفكار الحداثية لا تنتج لوحدها، بل تريد مفكرين وقادة وسياسيين، يضعونها في مجال التداول الاجتماعي.
لكن هذا لا يمكن أن يجري بصورة مطلقة، فلا بد تتوجه أغلبية الفوائض الصادرة من عملية التحول هذه إلى الصناعة، والتعليم المهني، وتوسعات السوق، لا أن تتوجه للخارج، أو التبذير، أو الرفاهيات الخاصة، أو عمليات التسلح الواسعة.
حين يحدث ذلك تزداد الفئاتُ الحرة، سواءً على مستوى الفئات الوسطى أم على مستوى العمال، وحينئذٍ تـُطرح تصورات مختلفة عن الدين والوطن والحياة السياسية.
حينئذٍ يُعاد إنتاج المذاهب الدينية، ويغير اليسار إستراتيجياته، ويتم التركيز على الحريات وتبادل السلطة وإيجاد دولة علمانية ديمقراطية.
هذا يفترضُ وجود سلطة خارج الصراع الديني – الديني، تتوجه لدعم الفئات الاقتصادية الوطنية في كافة المجالات، لأن تصدير السلع وترقية الإنتاج وتقدم القوى العاملة هو ما يضمنُ للبلدِ استقرارها السياسي، وما يعود بالتطور على جميع طبقاتها وفئاتها بأشكالٍ غير متساوية بطبيعة حال اقتصاد الملكية والعمل بالأجرة.
الدول المركزية الحكومية الشمولية تفترضُ رؤىً دينية تقليدية جامدة، من حيث تصور الألوهية والسببيات والقوانين الفاعلة في الظاهرات الطبيعية والاجتماعية، تعيد كل شيء إلى فعل خارجي، وغيبي، وليس من داخل هذه الظاهرات.
مثلها مثل النظريات الحديثة التي تقول بأن العلم وقف عندها.
ومع نشؤ وتطور الفئات الوسطى والعمالية الحرة، تتكرسُ الأحكامُ العقلانية، ويزدهرُ الفقهُ الحر، فتتحرر الأحكامُ الدينية من الجمود، وتخضعها لحاجات المسلمين والمواطنين للتحديث وإستقلال الاقتصاد وتقدمه ولتحرر الأمم الإسلامية من التبعية، ولرقي الشخصية المواطنية المستقلة.
حين نرى تطور الأمم الإسلامية في هذا الوقت سوف نجد أن الأمم والشعوب التي توجهت بقوة أكبر للاقتصاد الحر وغير العسكري الشمولي، والتي لم تخندق الشعب في فئات متقشفة محرومة واسعة، ووسعت سبل الرزق له، وقلصت بقوة البيروقراطية الحاكمة الاستغلالية، تتوجه بقوة للحرية والتقدم ورقي الصناعة والتصدير، في حين أن الدول التي هي بخلاف ذلك تعيش أسطوانات الحروب والصراعات الخارجية والداخلية.
إن الدول حين تتضخم عبر المؤسسات بحاجة إلى أيديولوجية شمولية سواء كان ذلك بشكل قومي أو ماركسي أو ديني، فهي تجعل الفكرة السياسية دينياً.
ومن هنا نرى الجماعات الدينية تحمل مثل هذه الأفكار لأنها تريد مواصلة نموذج الدولة الشاملة، ولم تهضم أفكار الحرية على مختلف المستويات.
فليست العلمانية سوى التخفيف من هذا الغطاء الشمولي الذي يتحكم في الاقتصاد، والحياة الاجتماعية، وجعل القطاعات الاقتصادية حرة دون قوة عليا تهيمن عليها.
إن تركيا تنمو بشكل أفضل من إيران، رأس المال في تركيا يتراكم ويتوجه للصناعات، وفي إيران يهدر جانب منه على التسلح، وفي ذات يوم سوف يصطدم هذا الرأسمال الصناعي – العسكري بالوضع الدولي، ويذهب هباءً، وقد كان نتاج تراكم طويل لعمل العمال.
هيمنة الدولة أو الدين أو القومية على رأس المال تؤدي إلى ضموره وتدهوره أو هروبه.
مثل الطاقات العلمية البشرية من عملاء ومنهدسين وغيرهم تهرب من الدول والمجتمعات الشمولية، ورأس المال العلمي والمادي واجهان لعملة واحدة.
لا تستطيع التنظيمات من قومية ودينية وغيرها إلا أن تعمل على الحرية إذا أرادت توسيع الحرية السياسية، فالحريات لا تتجزأ، وليست وطنية ومقصورة على قسم بشري دون آخر، بل الحرية عامة لكل الشعوب.
≣ العلمانية والديمقراطية
تضعُ العلمانيةُ الشروطَ الكبرى الأولى للديمقراطية، فتفصلها عن العصر الوسيط، الذي تشكلت فيه الصراعاتُ السياسية بشكلٍ ديني، فتمهد وتؤسسُ للدول القومية والوطنية وللأسواق الكبرى لهذه الشعوب، وتفككُ الحواجزَ التي أقامتها الأشكالُ الكثيرة للطوائف والملل والقبائل التي عزلتْ الجغرافيا البشرية وقوى الإنتاج عن توحدها وتعاونها المفترض، ومن هنا يقود نفي ذلك لثورة التقينة والعلوم.
العقلانية مرحلة أخرى لهذا الحراك التحويلي للبُنى المحافظة الذهنية والاجتماعية التي تكرستْ في حياة الشعوب عبر ألوف السنين الماضية.
العقلانية تطلق العلوم لتحريك قوى الإنتاج، من أجل تطوير الآلات والمصانع، والطوائف هنا تلتحم في أمكنة الإنتاج وفي البلدان.
حين نرى الآن الحراك الثنائي المتناقض في العالم الإسلامي بين الشيعة والسنة، ونجد أن النظام الشمولي الديني حجز كثير من الشيعة عن الانخراط في الأوطان التي ينتمون لها، فغياب العلمانية عن إيران أدى إلى حراك سياسي إنقسامي واسع النطاق، وبهذا بدلاً من أن تؤدي التطورات السياسية التحديثية إلى توسع العلاقات بين الإيرانيين والمسلمين والبشر عامة، أدت إلى سلسلة من الحواجز والانقطاعات في البلدان.
نتائج الصناعة والتطورات العلمية التي تدخل في باب العقلانية تتوقف ثمارُها مع الانحباس السياسي، وتؤدي العسكرة إلى تعريض ثمار الثروة للخسائر.
في حين راحت الثورات العربية الراهنة ذات القواعد السكانية السنية المسيحية الشيعية المتحدة نحو تصعيد العلمانية إلى درجة مدنية غير محددة، بسبب ظروف الثورات التي أدت إلى ضرورة الوحدة تجاه أنظمة إستنزافية للثروات، وإلى التوجه للتركيز على السياسي، وإحتذاء التجربة التركية، لكن المسار يبقى غير محدد في المستقبل.
الخطورة تكمن هنا في عدم رفع ثقافة العلمانية، ويكون للدول والجماهير ذات الأصول المذهبية السنية مخاطر في عدم التحديد هذا، وعدم التركيز على التطور السياسي الاقتصادي.
ففيما أدت التجربة الإيرانية إلى مخاطر جسيمة وتمزيق عدة دول عربية في مختلف جوانب الوجود السياسي، من الخطورة أن ينتقل التمزيق إلى بؤر البلدان العربية الكبيرة المركزية.
فحدوث الصراعات داخل هذه البلدان وهيمنة القوى الدينية المحافظة وصراعاتها مع بعضها البعض، ينقل ما جرى ويجري في الأطراف كباكستان وإفغانستان وغيرهما إلى القلب من وجود الأمة العربية.
التجربة الإيرانية فككتْ العراقَ وبعض مناطق الخليج ولبنان فحتى السوق على الطبيعة الرأسمالية العادية تعرقله وتفتته وظهرت العقوبات وتفشى الأرهاب.
إن السياسة المذهبية هي عودة لتفكك الإسواق، ولإضعاف قوى الإنتاج البشرية بعزل النساء، وبإضعاف تقنية الإنتاج بعدم تطور العلوم التي لا يجب أن تقف أمامها محاذير دينية وإجتماعية.
وجود التكوينات المذهبية المنفصلة يؤدي لضرب السوق الوطنية وقوى الإنتاج التي تعرضتْ للكثير من المشكلات في الحقبة السابقة، حقبة رأسمالية الدولة الشمولية، والتي تتطلب الآن مع ضرورة إزدهار الرأسمالية الحرة سوقاً واسعة ليست وطنية فحسب بل عربية وعالمية، إضافة لنمو الوعي العلمي لدراسة مشكلات الإنتاج.
أدت هذ الأشكال المتخلفة من الوعي إلى فصل الجناح الشرقي من العالم الإسلامي عن قلبه وغربه، لعدم إمكانية خلق سوق عربية إسلامية كبرى، والمأساة حين تنتقل هذه الأشكال التمزيقية من الوعي لقلب الوطن العربي.
إن ثورة سوريا تحاول ردم هذه الهوة في إحدى الجوانب الجغرافية المهمة. فيما حراك إفغانستان وطالبان تحمل رياح التفتت والقبلية والمذهبية إلى الدول المتوحدة.
لو أن الحراكَ السياسي الإيراني أخذ بالعلمانية والديمقراطية لكان الموقف مختلفاً، لأمكن ظهور تطورات إجتماعية تحديثية واسعة جداً.
والشكل المتخلف المذهبي يقود إلى فقدان الثروة مرة من خلال البذخ العسكري ومرة من خلال ترحيل الرساميل للغرب، وبخلاف ذلك ومع وجود تلك السوق الكبرى من إيران حتى مصر لن تكون الأشكال العسكرية المتطرفة ممكنة كما أن الرساميل سوف تصبُ في هذه السوق الكبرى.
لم توجد السوق الأوربية المشتركة دون الديمقراطية والعلمانية وبالتالي هذه ليست مفردات سياسية وعقلية بل مفردات إقتصادية في جوهرها، أي هي وضع الأساس الواسع للطبقات الوسطى، وللتجارة الحرة، والسلام وتطوير الأرياف الجامدة.
في حديث وزير الخارجية التركي أحمد أوغلو قبل أيام حول التجربة التركية أشار إلى ما يشبه هذه المعاني بلغة عامة سياسية دقيقة.
إذا لم تتبن الدول والتنظيمات هذه الأساسيات في عملها السياسي الفكري المؤسس فالحديث عن الديمقراطية كعدمه.
≣ لا ديمقراطيةَ بدون علمانية
تأخر المسلمون في الدخول إلى الحداثة والديمقراطية خلال القرون الأخيرة بشكلٍ مأساوي، وحين يدخلون الآن بصعوباتٍ جمةٍ وبثورات مضحية عظيمة يقودها الشباب الديمقراطي العلماني يواصلُ المحافظون السياسيون والدينيون التشبثَ بسلطاتِهم شبه المطلقة.
تنافسٌ مجردٌ عند صناديق الاقتراع حيث تبدو الديمقراطية العربية زاهية الألوان، في حين أن الشموليات الدينية خاصة تجرها من مسامها وخلاياها إلى الماضي والاستبداد.
المؤسسات الدينية الجماهيرية مجيرة لأسماء، والجمهور البسيط يُساق عبر الشبكات الاجتماعية المذهبية التي كُونت خلال زمنية عهود الاستبداد الماضية، من أجل أن يصوت لقوى تقليدية جديدة، فبعد أن عانى الإقطاع السياسي عليه أن يعاني الإقطاع الديني وقد تحول إلى إقطاع حاكم ولكن إلى متى؟
لن تكون الديمقراطية سوى هيمنة معينة، فليس ثمة حرية مطلقة ولا ديمقراطية مطلقة، ولكن هذه الهيمنة الجديدة ما هي مقاربتها للحريات العامة وتطوير حياة الجمهور المعيشية وهل هي تمثل نقلة بإتجاه تطور هذا الجمهور السياسي بحيث يغدو قادراً على الاستقلال من شبكات الماضي القروسطية التي هيمنت عليه خلال العقود الأخيرة خاصة؟
حركت الحياة السياسية خلال العقود الأخيرة الجماهير العربية باتجاه التطور الاقتصادي الحديث نسبياً، وأنشأت أجهزة حديثة ومشروعات عامة وتطورت الحياة الاقتصادية الخاصة، لكن هيمنة الدول التي قامت على هياكل تقليدية، خاصة هيمنة العائلات والقبائل حسب مناطق معينة أغلبها بدوية وريفية وحضرية جزئية، فشكلت إقطاعات سياسية في الدول العربية لهذه العائلات والقبائل والجماعات العسكرية والسياسية المتقاربة والتي إستغلت الملكيات العامة بجزء كبير لها.
ولم يكن بإمكانِ أحدٍ منظم سياسياً أن يُعارض أو يقاوم هذه السيطرات التي كانت تفتتُ قدراته، وتجهضُ تنظيماته، بدواعٍ متعددة، ولكنها لم تقدر على التنظيمات الدينية التي لجأت للاحتماء بالموروث، وشبكاته الاجتماعية الممتدة في الأشكال التعاونية والخيرية الزائفة شكلاً والمبطنة بسيطرات عائلية وقرابية وسياسية مذهبية ودينية.
يجب الفصل هنا بين شكل السيطرة ومضمونها، فالوزارات الحكومية والمصانع والبنوك التي غدت أجزاءً إقتصادية من الدول ذات القطاعات العامة بشكل كبير، والتي تجري فيها الأشكال الحديثة المستوردة، تقوم بخدمة قوى تقليدية، فتتوجه الفوائضُ لبناء قصور أو دعم مشروعات ثقافية تقليدية، فرأينا تنامي الشعر التقليدي والأشكال العامية المتخلفة من الأدب، وإعادة الأعتبار لأشكال موروثة من العادات وجرى التعصب لها. فقام رأس المال بدعم الإقطاع الماضوي في الحكم وفي الحياة عامة.
من هنا رفضت القوى المعارضة ذات الجمهور العامي بشكلٍ خاص أي تلويح بالديمقراطية العلمانية الفاصلة لاستخدام المذاهب والأديان في الحراك السياسي، وهو الأمر الذي لم تعارضهُ بعض الدول ولا أغلبية الأحزاب الحديثة، لأن ليس لها منفعة في هذا الأساليب السياسية المندمجة بالسيطرات الدينية.
وهكذا فإن الشكلين من الإقطاع السياسي الحاكم والديني المعارض، أججا أساليبَ عتيقةً في الحياة العربية وصعدا الموروث المحافظ بأشكال سلبية.
وهذا يمكن أن نلاحظه في العودة للقبائل والمناطقية وتضخم الأرياف في مواجهة المدن، وتفكك الدول فدولة عريقة كالعراق تتحطم في بنائها السياسي الوطني، وكذا السودان وسوريا وغداً غيرها من كل الدول العربية، وهنا تقوم الديمقراطياتُ الطائفيةُ بهدم ما تبقى من الدول العربية ككياناتٍ مؤسساتية، وهذا لا يتعارض مع الثورات العربية التي قادها الشبابُ الديمقراطي العلماني غيرُ المنظمِ والذي سُرقت ثوراته منه.
لقد حدث تردٍ كبير في عقليات الجماهير العربية من الأجيال السابقة خاصة، والتي سُحبتْ من الثقافاتِ التحديثية الديمقراطية والتقدمية، وحُبستْ في الأشكال الإحيائية المحافظة الزائفةِ الانتماءِ للإسلام بغيرِ ما تقول، فهي تمثلُ الثورة المضادة للإسلام التوحيدي، هي مذهبياتُ التفككِ والتخلف واللاعقلانية.
وبهذا فمع عجزِ الإقطاع السياسي الحاكم من تحويل الاقتصاد والثقافة للديمقراطية تحدث أزمة بنيوية، لأن الإقطاعَ لم يغدُ برجوازية حرة، فتحلُ الآن أزمةٌ جديدة أكثر تعقيداً وتحللاً لأبنية الاستقلال السياسية العربية، وتبدو (بشائرها) بعمليات التفكك الواسعة في كيان الدول، وأن تغدو الدول لادول، بل كياناتٍ منفصلةً وأقاليمَ وصراع مدنٍ وقرى، وهويات أثنية وطائفية وقومية.
وإذا كانت الدولُ رفضتْ العلمانيةَ جزئياً والديمقراطية كلياً، فإن الدويلات الجديدة وطلائعها الطائفية ترفض العلمانية كلياً وتقبل الديمقراطية جزئياً، فتحدث نفس النتائج، لأن الديمقراطية تغدو أداة السيطرة الاستبدادية المموهة فيما العلمانية تمثل نقضها وإزالتها.
فهي ذاتها حولت المذاهبَ والأديان إلى أشكال خالية من مضامينها الديمقراطية الإنسانية وصيرتها أدوات لاستغلال الفقراء وإبعادهم عن الحداثة والاستنارة، فلا قدرة لأشكال محافظة على تنمية حرية وتقدم وديمقراطية. وهذه كله بسبب الوعي المتخلف للجماهير العربية وحبسها الطويل في ظلامية الأمية والجهل لعقود.
≣ أمدنيةٌ أم علمانيةٌ؟
نخشى دائماً من هذه الجماعات الدينية المتاجرة بالإسلام، فهي لا تكفُ عن التجريبِ في لحم المسلمين، وكل مرة تقوم بطبخة حارقة، ثم لا تتوقف عن الالتفافِ وعن طرحِ طبعةٍ جديدة من الكارثة.
الشعوبُ العربيةُ في البلدان الثائرة أكتوت بـ(علمانية) زائفة، بأنصافِ أنظمةٍ تحديثية، ومن شقوقِ هذه الأنصافِ تتسربُ مياهُ المجاري، وأبقتْ هذه الأنظمة(العلمانية) على حكم القانون وعلى إحترام النساء وعلى التحديث الوطني وعلى التصنيع، ثم يتحول كل ذلك إلى علمانية الحزب المتدهور في علميته وعلمانيته وديمقراطيته وتحويله النساء إلى جوارٍ والفلاحين إلى خدمٍ وبوابين في عماراتِ الحرامية المدنيين.
وتحولتْ نصفُ العلمانية هذه إلى إضطهادٍ للقوميات والأديان الأخرى، فالأكرادُ يُضربون بالقنابل على ضفتي نظامي العلمانية الزائفين في سوريا وتركيا، والأفريقيون تُحرق غاباتُهم ومنازلُهم في جنوب السودان، والأمازيغ يَحاربون في لغتِهم وتراثهم في الجزائر والمغرب.
هل جاء زمنٌ تتقارب فيه قارتُنا العربية الإسلامية مع الحداثة؟ مع مواثيق أوربا العلمانية حقاً؟
يريدون دخولَ السوق الأوربية مع إستمرار وضع رؤوس الأكراد تحت أحذية المؤسسات المركزية. يريدون دخولَ السوق وقطف ثمار الحضارة والديمقراطية والإنسانية المتقدمة دون أن يحترموا شعبهم وتظل الطائرات تغير على المناطق (المتمردة).
هم لهم طبعاتُهم الخاصة من الإسلام، إنها طبعات المحافظين الاستغلاليين، حيث يقوم الإقطاعُ المنزلي بأسرِ النساء، وحيث مكانة المرأة أدنى من الرجل، إنها المخلوق التابع، هنا تتخفى الذكوريةُ الاستبداديةُ وتموهُ نفسَها بالدين.
دائماً يجعلون الدين أو القومية المتعصبة أداتين لتمرير سلطانهم غير المتساوق مع البشرية الحديثة، وللذكور المتسلطين رغبتهم في بقاءِ سلطانِهم على النسوة، ومن هنا تغدو مدنيةُ هارون الرشيد دون مستوى علمانيةِ ملكةِ بريطانيا.
إن مدنيةَ ابنهِ المأمون الذكي المثقف لا تمنعُ من إستخدامِ الدين لتعذيبِ رجال الدين، أو طبع تفسير معين وفرضه على الجمهور بالسياط.
إن المخاطرَ التي تنشأُ من الثورات العربية الحديثة أنها تسمح للجمهور غير المثقف بالهيمنة على الأصوات الانتخابية، مع بقاء المنظمات الدينية في تسويق أفكارها المحافظة التقسيمية للمواطنين، وطبع نسخ أقل قيمة من نسخة المأمون، والتسلل للسيطرة على الحياة السياسية الاقتصادية في ظل إقتصاد الانفتاح المالي وشركات المضاربة بمال وقوت المسلمين.
(ديمقراطية حديثة) مع بقاء المنظمات الدينية السياسية تتاجر بالإسلام والمسيحية واليهودية، ومع بساطة فهم العوام للدين والسياسة والحداثة، وقد رفعتهم نشواتٌ نضالية إلى السماء السابعة، ثم ستظهر أنظمة دينية شمولية مقنعة تسلبهم آخر مدخرات العمر، ويحدث لقاءٌ فريد بين ولاية الفقيه الإيرانية وولاية الفقيه المصرية ذات طاقية الإخفاء، وربما السورية كذلك.
إحتمال ولكن المؤمنَ لا يُلدغُ من جُحرٍ طائفي مرتين، والعوام ليس هم الجمهور الثوري الحديث بعد، لم يصبحوا بعد المواطنين المثقفين ذوي التجربة السياسية العميقة بعد أن خيّمَ عليهم ظلامُ الأنظمةِ الشمولية طويلاً، هم يَنجرون للخطاباتِ الدينية الحماسية التي تدغدغُ مشاعرهم وتحومُ على رؤوسهم بالرموز لسلب عقولهم وجيوبهم.
النظام السوري نموذج للعلمانية الزائفة كلياً، حيث حكم العصابات العسكرية والمخابراتية يتجلى عن التبعية لولاية الفقيه الإيرانية، أي هو تعبير مشترك عن سحق المثقفين الديمقراطيين والحداثة والفلاحين في الأرياف من أجل عسكر ديني في سوريا كشط علمانيته بسكاكين القمع، وهناك عسكر ديني كرس تخلفه بالحديد والنار. ويظهرُ سنةٌ بسطاء ينشرون شعاراتهم الوطنية الدينية غير مدركين كذلك لسيطرة مذهبية سياسية متصاعدة. فلم يجدوا سوى صلاة الجمعة يفيضون بعدها لنقد النظام، وهكذا كأنهم الهاربون من الرمضاء للنار.
≣ ديمقراطية غير علمانية، أهي ممنكة؟
حسمت جماهيرُ الأقطارِ العربية في مصر وتونس التوجهات الاجتماعية بالاندفاع نحو ديمقراطية علمانية بدت شفافة وغير مؤدلجة ومتسامحة دينياً ووطنية متجاوزة للتفرقة الدينية والمذهبية، وذلك لكون البلدين لهما تاريخ ثقافي تحديثي طويل، ولو أن الأخوان المسلمين قادوا الثورتين لبارتا وتمزق البلدان.
جنوحُ الجماهير تقودها الأجيالُ الجديدةُ المتعلمة الحديثة للبلد الذي لا تستغله طائفةٌ ولا يعيش تحت هيمنة ديانة واحدة، ويغدو بلداً متسامحاً، ديمقراطياً يركز على التغيير المعيشي، وهذا هو سبب الانتصار.
لكن الجماعات الدينية المغلقة لن تدعَ الناسَ تمضي للديمقراطية الحداثية، فحين يحدث ذلك ماذا ستفعل وأين تولي وكيف تحمي إستغلالها للجمهور؟ فلا بد أن تقاوم إنهيار سلطتها بقوة، كما عملَ الحزبُ اللاوطني اللاديمقراطي وصمد من أجل بقاء إستغلاله للجمهور زمناً طويلاً أستغل كافة الأدوات ليواصل عصر شرايين الشعب في خزائنه.
وما أسهل للدينيين المغلقين إثارة العواطف تجاه المسكرات وعورة المرأة والفنون وإثارة الشعب نحو قضايا جانبية قبل أن تجفَ دماءُ الضحايا من على الأرصفة وبلاط الشوارع.
رجلُ السلطة ورجلُ الدين في الشرق وجهان لعملةِ إستغلال الشعب، الأولُ يركزُ على قداسةِ العلم الوطني وخريطة البلد وقوانينه وأرضه التي تُفدى وتُحمى بالأفئدة، والحدود والرموز المقدسة، وكل هذا الكلام لكن المقدس لديه فعلاً هو الخزائن وكيفية تكديس الأموال وتجميع الثروات، وها هو كل هارب كبير تُوضع ثروته على شاشة الفضاء العالمي مُقاسة بالمليارات المكشوفة الواضحة، فأين ذهبت قداسة الوطن؟
ورجل الدين لا يختلف عنه، يحولُ رموزَ الدين المقدسة لدى المؤمنين من صلوات وكتاب ومناسبات إلى سيطرة على الناس وإستغلال موارد عيشهم وهيمنة على أرواحهم حتى لا تطير نحو العقلانية والحرية.
ألا ترى كيف يستميتون لملءِ بيوتهم بالأشياء الثمينة والأموال والأغذية؟ ألا ترى كيف يخافون أن يتحرر الناس ويغدون حداثيين يعبدون اللهَ دون وسائط ماكرة؟ ويمارسون شعائرَهم الدينية دون وكالاتٍ تجارية وسمسرة إجتماعية؟
فهل يمضي عربُ الحرية السياسية نحو سجون جديدة؟ ويستبدلون النار بالصحراء الضارية؟
لا أظن ذلك، ومهما فعلَ المجلسُ العسكري لكي يعيدَ ذات الطبقة القديمة بوجوه جديدة، وأن يواصل الإقطاعان السياسي والديني هيمنتهما على الشعب بأشكال رقيقة في البدء، فإن الشعوبَ العربية وخاصة الشعب المصري، قد أكتوى بالاثنين، ويريد بلداً حراً على الطراز الأوربي الديمقراطي الحديث، ولا يريد مواصلة العيش في زنزانات الأنظمة الدينية السياسية، يريدُ حكومةً تركزُ على تطوير عيشه ولا تفجر الخلافات بين المذاهب الإسلامية والأديان السماوية، فقد شبعتْ الشعوبُ من هذه الكوارث ومن الإدعاءات الأخلاقية المثالية، وأصحابها أكثر الناقعين في عسل المادة، وصانعي عالم الجواري، والبؤس الأخلاقي.
وها هو العراق بعد أن رسّخ سلطات الجماعات الطائفية الاستغلالية يثور مطالباً بخبزه الضائع، وأمواله الهاربة من يديه التي تتجاوز أسلاك الحدود وهي تحملُ الملايين، وينعى أعماله المتوقفة وحضارته التي هدمها السياسيون الشموليون والدينيون الطائفيون.
الديمقراطيةُ الحقيقية هي أن لا يكون حزباً واحداً مهيمناً فيها، يعيشُ أبديةَ الكراسي والخزائن، ولا أن يقبض الحزب الديني على عنقه ويمنعه من الطيران في عالم الحرية والاختيارات الأخلاقية والعقلانية.
إذا كان الحزبُ السياسي يمكن أن يتغير فإن الحزب الديني يربط نفسه إدعاءً بالذات الإلهية والسماء والمقدسات كلها، فكيف سيتبدل ويسمح لآخرين بنقده وكشف أمواله وإستغلاله؟
لقد جرب العربُ الأحزابَ السياسية الشمولية الدينية فهل يستمرون في التجريب الخائب؟
هل يعرضون بلادنهم للحرائق والخرائب في كل مكان؟
هل ينخدعون بالكلمات عن الطائفة المقدسة والحزب المقدس والجماعة التي لا يأتيها الباطل؟
(الدينُ لله والوطن للجميع)، قالها المصريون سابقاً، ولا بد أن يستعيدوها بشكل أكثر حداثةً وديمقراطية، وأن لا يجربوا الأنظمة الدينية الشمولية ومرارات الأحزاب الدينية بعد أن عانوا طويلاً من الأحزاب السياسية العسكرية.
≣ العلمانية وحقوق المواطنة
تتعارض حقوق المواطنة مع الدولة المذهبية أو الدولة الدينية، ففي الدولة القائمة على دين أو مذهب، هناك المسائل الحقوقية الكبرى المترتبة على هيمنة المذهب الفلاني، وبالتالي فإن المنتمين إلى مذهب مغاير يكونون بالضرورة في مرتبة حقوقية أدنى.
وعلى الرغم من رفض الدول الإسلامية هذا الوضع رسمياً فإن الحياة الضمنية المتوارية شيء مختلف.
ولا ينظر المثقفون والسياسيون والحقوقيون في العالم الثالث إلى هذه المسألة الجوهرية، وبالتالي فإن مسألة المذهب السائد سياسياً، قد أصبحت مشكلة حقوقية إضافة إلى أنها عائق لتطور الوحدة الوطنية والتعددية السياسية والاجتماعية.
والمذهبية السائدة وحقوقها المتميزة مخالفة للإسلام شرعاً، حيث إن أمة الإسلام حسب وعي الشرع أمة واحدة، والمذهبية السياسية من البدع التي حدثت في القرنين الثاني الهجري والثالث.
ولهذا فإن العلمانية الإسلامية هي الجائزة والمقبولة فقهياً وسياسياً، حيث تغدو الدولة بلا مذهب سائد، وبلا مذاهب مخالفة، فلا يسأل المواطن عن مذهبه إذا أراد أن يصدر جوازه، أو حين يريد أن يدخل الجيش أو حين يرشح نفسه في دائرة انتخابية، وكل من يسأله يتعرض للعقوبة.
وبهذا يجد المواطن المسلم أو المسيحي نفسه حراً، وتجد الدولة نفسها حرة من المذاهب السياسية، ولا يجد الطلبة أنفسهم مجبرين على تعلم مذاهب لا يريدون تعلمها. وتصبح حصص الدين اختيارية.
ويجد المواطنون أنفسهم كمواطنين وليس باعتبارهم سنة أو شيعة أودروزاً أو مسيحيين أو موالك أو شوافع أو غيرذلك من صنوف المذاهب التي صارت حكومات ودولاً، بدلاً من أن تكون فتاوى مدنية لأسئلة الحياة.
تحرير الأديان من هيمنة واستغلال السياسيين، تجعل الملا يتحول إلى زعيم مدني، ترفض الدولة أن يستغل الدين في دعايته السياسية، بل تطالبه بأن يوضح برنامجه الاجتماعي والسياسي، وان يحدد الطبقة أو الفئة التي يعمل من أجل تطوير اوضاعها، وان يدع الكلمات الدينية المجردة، وبهذا يتم التعامل معه كمسئول ساسي مُحاسب من قبل ناخبيه، وبهذا أيضاً ينقذ المذهب الذي ينتمي إليه من المسئولية السياسية التي قد تسببها أعمال السياسي المذكور.
وإذا قام المذكور بأعمال إجرامية روج لها تحت اسم الدين أو المذهب، فإن العواقب تكون وخيمة ليس عليه فقط بل على المنتمين إلى الدين أو المذهب الذي ينتمي إليه، والذي زعم إنه يعمل تحت رايته وهداه.
إن تفكيك العلاقة بين المذاهب والسياسة لن يضر المذاهب بل سيفيدها، وسيكون أكبر النفع على المواطنين الذي سيتحدون، كشعب واحد، وبالتالي ستتطور الأمم الإسلامية لتصبح أكثر قوة ووحدة وحرية.
إن العلمانية تكون في المستوى السياسي فحسب، أي ان المواطنين متساوون أمام الدولة اللامذهبية، في حين ان حياتهم الاجتماعية هم أحرار في تطبيق الأحكالم الشرعية التي يريدونها.
وبهذا فإن الدول الإسلامية تنسجم في سياستها وقانونها، فلا تغدو ثمة مذهبية سائدة، أو مذهبية مغلوبة على أمرها ويغدو المواطنون على درجات، بل على درجة واحدة.
وسيحرر هذا الفئات الوسطى والعاملة من الانقسام ويوحدها في تشكيل المجتمع الحديث من مواقعها المتميزة.
≣ أسبابُ تدهورِ العلمانية
في زمنيةِ النهضةِ والتحرر الوطني والتضحياتِ العامة صعدتْ قيمُ العقلانية والديمقراطية والعلمانية في حدودِ المستوياتِ الثقافية العربية، فقد كانت ضروراتُ النضال الوطني تفترضُ مقاربةً لهذه الأسس التحديثية، حيث بقيت أشكالُ وعي المذاهب الإسلامية والأديان التقليدية المتعددة متناقضةً ومتصارعة، مانعةً لأي توحدٍ وطني وقومي ضد الغزاة.
كانت المستوياتُ الثقافية الدينية تعودُ لزمنية الانحطاط بعد الخلافة ولهيمنة الامبراطورية العثمانية الإقطاعية التي دبغتْ الأقطارَ العربية ببساطٍ ثقافي متخلفٍ اسطوري وجعلتْ الدروشةَ هي ذروةُ الانهيار الثقافي الفكري!
مقاومةُ رثاثِ العصور الوسطى قامتْ به قوى متعددةٌ مسيحية وإسلامية متنورةٌ ركزت على مبادئ عامة مجردةٍ كالتنوير والنهضة والدعوة لتنامي أنواع الأدب والفن وهي دعواتٌ إنتشرتْ وتواكبت مع حركات التحرر الوطنية العربية المتصاعدة بصعوبةٍ خلال عقود، وغدا البحثُ في مشكلات المجتمعات المحورية كالاستعمار وغياب التصنيع والتخلف الثقافي والتفكك الشعبي متواكباً مع مهماتِ النضال الملموسة على الأرض كتوحيدِ الناس وجذبهم عن الدروشةِ والخرافات وتوصلت التياراتُ إلى تحييدِ الأديان بفهمها المحافظ الطائفي التفتيتي للمواطنين وإلى تخفيفِ سيطرتِها على الفئات الوسطى النشطة في ميادين الأعمال والصحافة والثقافة وتواكب ذلك مع صعودِ العلاقات الرأسمالية الحرة وقوى العاملين والمثقفين الأحرار في زمنيةِ الاستعمار حيث لم تؤسس الدولُ الغازيةُ رأسمالياتِ دولٍ شمولية.
مقاربةُ جوانب من الوطنية والعقلانية والعلمانية كانت في حدودِ الشعارات، فأدواتُ التحليل لم تدرسْ الأديانَ كأشكالِ وعيّ مرتبطة بتطور المنظومة الإقطاعية ولهذا أعتبرتْ الطوائفَ كأوهام وخزعبلات مغرضةٍ مدسوسة على المسلمين، وليس كبُنى إجتماعية مرتبطة بعلاقات إنتاج عتيقة موضوعية، تكفي الشعارات العاطفية الوطنية لصهرِها وكنسها!
إن العديد من المقولات المركزية في هذا النشاط النضالي الثقافي كالوطن والحرية والشعب تعرضتْ كذلك للتسييس السطحي، فكانت العلمانية هنا شعاريةً مرتبطة بمحدودية العقلانية والديمقراطية حيث تترابط هذه السمات للتطور التحديثي بشكل عميق.
ولهذا فإن فهمَ الإسلام كدينٍ مركزي لهذه الشعوب أتسم بالتسطح، ولم يحدث نقدٌ عميق للمذهبيات السياسية المنبثقة من تطييفهِ وجعلهِ في خدمةِ الطبقات العليا المتصارعة، كما أن التطور الاقتصادي لم يتسم بالحرية والتوحيد فالقوى الاقطاعية في حقول الزراعة والسلطة والعلاقات الاجتماعية والثقافة استمرت قوية، مفككةً البُنى الوطنية والقومية، وهي جوانبٌ برزتْ على صعيد الوعي في تفاقم صعود المذهبيات السياسية التفكيكية بعد زوال الاستعمار، ولهذا لم تستطع الانقلاباتُ العسكرية ومجريات الاستقلال أن تتغلغلَ في تحرير البُنى الاقتصادية وتوجيهها للاقتصادِ الحر فكانت الاصلاحاتُ مرتبطة بهياكل الدول الشمولية، وتم على العكس تخريب جوانب كبيرة من الاقتصاد والحياة الاجتماعية والثقافية، وتفاقم حضورُ الإقطاع مع صعودِ رأسماليات الدول الشمولية، فكان تدهورُها الأخير وهزيمة هذه الشموليات السياسية الفوقية أو أزمات تطورها مترابطة مع عودة الطوائف السياسية المتحاربة وسقوط العقلانية الفكرية وتفاقم الهجوم على الحريات الشخصية والفكرية!
إن عدمَ النمو على أسسٍ إقتصادية حرةٍ تدريجية مصاحبة لنهضةٍ عقلانية علمانية ديمقراطية مواكبة، تعبيرٌ عن قوة القوى الشمولية المتعددة والتي تخندقتْ في المذاهب المحافظة سواءً كانت من نتاجِ أديانٍ سماوية أم من نتاجِ قوى دكتاتورية برجوازية صغيرة متطرفة، ورغم تناقضاتها الجانبية فقد راكمتْ ونصرتْ معاً البُنى التقليدية الخرافية والاستبدادية في خاتمة المطاف.
ولهذا فإن تدهور العلمانية هو تدهورٌ للديمقراطية والعقلانية، حيث أن التكالب في الهجوم على العلمانية من قبل القوى الإقطاعية العائدة والمرتدين من قوى التحديث المتساقط يعكسُّ إستمرار القوى الرجعية في السيطرة على الجماهير العربية في علاقات متخلفة وبإنتاج مأزوم ضعيف العلاقة بتطور القوى المنتجة العالمية وبالعلوم ومن خلال شبكاتٍ سياسية إستبدادية ذات مظهر ديمقراطي زائف وبعلاقات إجتماعية أبوية مُضعفةٍ لتجديد العائلة.
إن هذه البُنى تشعرُ بتناقضها المتواصل المتفاقم مع التطور البشري وتزداد إرتداداً وتعصباً وعنفاً من جهة، وتفككاً وضياعاً من جهة أخرى!
ولهذا تغدو العودةُ لشروط النهضة المنقطعةِ ضرورةً مصيرية وبرؤية مستقبلية كذلك فيتطلب الوضع توسعاً للجبهات الديمقراطية التحديثية العلمانية مع قفزات في أدوات المعرفة المواكبة لعصر جديد.
≣ العلمانية نظام سياسي وتحالف فكري
يطرحُ العديدُ من القراء مسألة العلمانية وعلاقتها بالإسلام وهل هي تمثل إزالة للأديان وهم محتارون في مسائل كثيرة في هذا المجال، خاصة تشابك هذه المسألة مع التطورات التي تجري في العديد من الأقطار الإسلامية اقتراباً أو نأياً عن هذه العلمانية (المخيفة)، فغدا تعبير العلمانية أشبه بالشيوعية في الزمن القديم أو العمالة الخ..
قد يصدر تعبير العلمانية من أقصى اليمين، أي من أنظمة وتنظيمات شمولية مذهبية لا تعترف في قرارة ضميرها السياسي بوجود الآخر، وترى بأن أي عزل للدين، (ومصورة نفسها هنا إنها الإسلام كله)، بأنه كفر وإلحاد، لأنها تصدر من رؤية شمولية لا تقبل بالآخر، حتى بالمذهبي السياسي الداخل ضمن هذه المذهبية، وهو أمرٌ يمثل أقصى الجمود الفكري، لأن مثل هذا التعنت في التفسير مضر أقصى الضرر بالمذهب نفسه وتطوره الخلاق فيما ينتظر له من تطور.
هنا يتحول الدين، وهو المذهب في الحقيقة، إلى تصور كلي لا يقبل أي منازع أو شريك، وهو تصور متطرف، لأن الإسلام مذاهب كثيرة فما بالك بظهور اجتهادات حديثة فيه وتيارات وطنية، فغدا هذا التصور الأوحد تكريس لدولة شمولية عاجزة عن خلق ديمقراطية داخلية بها، والأجدى بعلماء الإسلام أن لا تتطابق تصوراتهم واجتهاداتهم مع هذه الدول.
ولكن النظام السياسي العلماني هو نظام مطروح على جميع الأديان والمذاهب ليس بغرض إزالتها كما يقول التصور الشمولي الديني السابق ذكره، بل هو نظام فصل محدود بين الدين والسياسة، بمعنى الشعار الذي رفعته الأنظمة الوطنية العربية قديماً مستفيدة من آية من الإنجيل(دع ما لقيصر لقيصر، ودع ما لله لله)، وهي معادلة لوضع حد للصراع بين رجال السياسة ورجال الدين في الحقيقة، فهاتان الفئتان كلٌ منهما تريد أن تهيمن كلياً على السلطة والمجتمع، وهذا غير ممكن ولا بد من تعاون الفئتين، وجعل ثمة اختصاص لكل منهما، ومن هنا فرجال الدين الذين يرفضون الحد الأدنى من العلمانية مثلهم مثل رجال السياسة الذين يريدون بتر الأديان!
وهاتان الحالتان المتطرفتان توجهان أي مجتمع للانهيار في حالة تصادمهما.
ولكن العلمانية نظام سياسي متدرج خاصة في الظروف الإسلامية، وهو يعني جعل السياسة حقلاً مستقلاً، فالبرلمان يعمل بالأصوات من أجل تغيير الأجور وطبيعة الملكية العامة وينظر في الخصخصة ومقاومة ارتفاع الأسعار الخ.. لكن لا يمكن قبول تدخله في مسائل النفقة والحجاب والميراث الخ.. فهذه مسائل تعود للشرع، ولهيئات رجال الدين ولتراكم الأحكام والاجتهاد بها ولتنوع المذاهب، فأي تصويت ينفع في مثل ذلك؟
وهكذا فإن المسائل العامة السياسية والمهمات الاجتماعية الحادة المباشرة تخرج عن الاحتكار الديني للقرار، مثلما أن المسائل الفقهية تعود لعلماء المسلمين وتصوراتهم وهي مسائل تمثل عصب تطور الأمة وجذورها ولا بد أن يكون الأمر بها عبر مراجعات طويلة وديمقراطية عميقة متاحة للمذاهب وتنوعاتها في دول تتجه للتنوع السياسي المذهبي الديمقراطي وتغيير طابع الدولة المذهبية الواحدة الكلية. وهذا أمرٌ يحتاج إلى زمن طويل، فالصراع الآني حول الأسعار والأجور وظروف المعيشة لا يمشي في مسائل المذاهب والعقيدة!
ومن هنا فنحن لا نطرح علمانية كلية شمولية، مثلما نرفض الكلية المذهبية التي لا ترى سوى نظرتها، مثلما نرفض العلمانية الساحقة للدين والمذهبية السياسية الساحقة للتنوع الفكري!
إن هذه خطوط عريضة في السياسة، لا يجب أن نأخذها في الحياة الاجتماعية اليومية، فالعلماني قد يكون مسلماً ملتزماً بكل الجوانب العبادية، وقد يكون غير ذلك، فهو هنا فقط يرفض إدخال المذهب في العمل السياسي، ويرى إبعاد المذاهب عن العمل السياسي المباشر، وأن لا يعمل السياسي إلا بشكل وطني متوجهاً لمجموع الشعب، وهذا العلماني كذلك يدخل الإسلام في الكثير من جوانب حياته ويعتبره جزءً أساسياً من ثقافته.
وهذا أمر لا تناقض فيه، فالحركات القومية واليسارية ذات رؤى متباينة من الدين، لكنها تتقارب في إبعاد الدين عن الهيمنة الكلية على الحياة السياسية فقط، لأن بعضَ رجال الدين يوظفون ذلك لنشر سيطرتهم السياسية الشمولية وهذا لا يعني تصفية الدين فمن الممكن أن تنشأ رؤى ديمقراطية إسلامية كذلك!
≣ العلمانية وعامةُ المسلمين
يتشكل صعود العامة والعلمانية معاً في العملية الديمقراطية المعاصرة في البلدان العربية والإسلامية كضرورة سياسية اجتماعية مركبة.
ففي حين تريد الجماعات الطائفية التحكم في العامة المُقسمة، تريد الجماعات الديمقراطية توحيدها بهذه الدرجة أو تلك من عمليات التوحيد التي تعكس برامجها السياسية ومدى تطورها.
وبهذا فإن الجماعات الطائفية تصرعلى فقه العبادات والأحكام الجزئية، غير قادرة على التغلغل إلى الضرورات الكبرى لحريات المسلمين وتقدمهم، والتي تتطلب تغيرات جذرية في أحوالهم وأهدافهم وطرق حشدهم.
ومن هنا أيضاً تصر الجماعات الطائفية على محاربة العلمانية، كإطار سياسي يوحد اولئك العامة في أشكال تحشيدية أكبر من مستوى تحشيداتها المذهبية العبادية بلدان أخرى ، والتي تلاقي رفضاً و عزوفاً من بقية الطوائف، رغم تأييدها لبعض الأفكار السياسية الداعية لضبط المال العام وتوسيع الحريات الخ..
لكنها لا تنضم إلى تلك التحشيدات بسبب خوفها من السيطرة الطائفية، وتسريب برنامج طائفي متوارٍ، وأجندة تطيح بدولها الوطنية في خاتمة الحراك السياسي المرسوم بشكل طائفي!
لكن (الديمقراطيين) الذين يعملون لمواجهة هذا البرنامج الطائفي متفاوتون في فهم مواقفهم من هذه العملية الديمقراطية التي يشاركون فيها، نظراً لتعبيرهم عن قوى اجتماعية متفاوتة، فالفئات الوسطى في العديد من الأقطار العربية والإسلامية لا تقيم تعاوناً وثيقاً مع (العامة)، ودورهم وانخراطهم هو شرط تطور العملية الديمقراطية النضالية.
وانعزال الفئات الوسطى عن العامة هو الذي يجعل بعض شعاراتها ذا طابع ثقافي، وتنويري مجرد، ولا يصل إلى المسائل الجذرية في التحول الديمقراطي، وهو أمر يتجسد لدى (الليبراليين) الثقافيين، فهؤلاء يعبرون عن اليمين، عن قوى الصناعيين والتجار الكبار الذين يخشون زج العامة والعمال في الحراك السياسى، نتيجة لسوء أوضاع هؤلاء العمال في منشآتهم الاقتصادية.
أما الديمقراطيون الذين ينتمون لليسار أو للفئات الأخرى التي هي أقرب للفئات الصغيرة من البرجوازية، فهم يتفاوتون من علمانية حادة اقصائيه أو من ذيلية للقوى الطائفية.
ووجهتا النظر هاتان تعكسان عدم قدرة الأفكار الديمقراطية على التغلغل وسط الجمهور العامي، فالعلمانية الإقصائية تشير إلى مرحلة العموميات (الماركسية) واليافطات التي لاعلاقة لها بالكفاح اليومي، والتي تنطلق من كراسي المثقفين المراقبين للهم العام.
مثلما أن الجماعات الذيلية للطائفيين تعكس كذلك العجز عن فهم الإسلام والعامة، وكلا وجهتي النظر تعكسان عدم الفحص العلمي للتراث والواقع المعاصر. فتلك تقفز لتحطيم التراث، وهذه تلتحق به كقشرة فوق جسمه.
لكن الموقف المركب هو أمر يعود للممارسة النضالية وسط العامة، أي التغلغل لفهم الإسلام، وكذلك النضال مع العامة لتغيير ظروفهم الاقتصادية الصعبة، والتغلغل في الدين هو وصول وعينا الراهن لكفاح العامة في الماضي، أي في ذلك التراث الذي صاغته العامةُ في شروط تاريخية سابقة، مثلما أن النضال الراهن هو لتغيير فهم الدين في ظل شروط تاريخية جديدة ومختلفة، لكن المضمون واحد سواء لدرس الماضى، أم لتغيير الحاضر، وهو كون العامة هم أساس صنع التاريخ والواقع.
لكن العامه المُفتته المُنقسمة لا تصنع التاريخ، كما هو وضع العامة الراهن، ومن هنا يغدو النضال ضد الطائفية شرطاً للتوحيد، ويغدو درس التاريخ الماضي التوحيدي مهماً في عملية التوحيد المعاصرة، لكنها الآن تتم بشروط مغايرة؛ علمانية ديمقراطية، في شعاراتها السياسية العامة، ولكن جذورها الاجتماعية هي إسلامية ومسيحية وبقية الأديان والمذاهب في المنطقة، فتلك الشعارات العلمانية تستهدف التوحيد السياسي لا إلغاء الاديان والتراث!
إن العلمانية تستهدف هنا توسيع الصفوف والتحشيد سواء في مظاهرة أم في سوق عربية إسلاميه كبرى، سواء بالتعاون لتنظيم مدينة ومحاربة الفساد أم في تكوين تجمع سياسي اقتصادي الخ..
≣ الخلافة الإسلامية في زمن العلمانية
تمثل الخلافة الإسلامية رمزاً عزيزاً على قلوب الملايين، فقد كانت حافظة الهوية ومُقاوِمة الغزاة وناشرة الثقافة، بتلاويين كثيرةٍ وباتجاهاتٍ إجتماعية لا تـُحصى.
وحين انهارت الخلافة الإسلامية في تركيا في العقد الثاني من القرن العشرين في تركيا كان ذلك بلا بديل سياسي عالمي يقاوم الاستعمار ويشكل بؤرة حضارية مختلفة عن العالم القروسطي الجامد لحياة المسلمين طوال قرون، ومضت كل أمة بل كل دولة في خطها الخاص.
وحين يظهر أمثال (أبي حمزة) أو (أبي قحطبة) ويعلنان الخلافة الإسلامية في بقعةٍ نائيةٍ ويقطعان الأيدي ويعودان لما يفهمانه من الشريعة، ويتكلمان بأسم أمير المؤمنين، يضحكُ الكثير من الناس رغم أن ثمة خيطاً رفيعاً من الحقيقة هنا.
فأمثال قطاع الطرق هؤلاء إنما يعبرون عن حاجة هذه الأمم الإسلامية للوحدة والتعاون المشترك والتصدي للقوى المتلغلغلة الطامعة، وكذلك عن رغباتها أن تكون صانعة للحضارة والتقدم في التاريخ الإنساني كما فعلت وأعطت سابقاً بشكلٍ تاريخي مبهر.
لقد تمزقتْ هذه الأممُ كما تمزقتْ أقاليمُها الداخلية، وبقيتْ الشعوبُ والأثنيات والطائفيات المختلفة تتصارع على فتاتِ العصر، ولم تستطعْ دولٌ كبيرة من الدول العربية والإسلامية أن تقوم بدور القيادة الديمقراطية ودور القيادة الحضارية، للملمة هذه الشعوب في أعمال اقتصادية مشتركة عملاقة تعيدُ الإنتاجَ الحديث لهذه الأمم.
لا تحتاج هذه الأمم لخلافة عسكرية توجه الحملات للشعوب وتستخرجُ منها الخراجَ بالقوة، وتتركها في أحوالها المتخلفة الصعبة، فتتمرد هذه الشعوب وتنزع للانفصال وتمزيق الوحدات السياسية المختلفة كما كان يجري الأمر في الخلافة الإسلامية السابقة التي بُنيت على أسسٍ استبدادية.
ولكن لا توجد قيادة للأمم الإسلامية، فالدولة الكبيرة الصناعية الديمقراطية لم تظهر بعد بشكل واسع مؤثر عالمياً. وكل الدول الحالية تسعى لمصالحها الخاصة، التي هي مصالح الأقليات الحاكمة الاستغلالية، فكيف تفكر بأمور الأغلبيات الشعبية العاملة المحرومة؟
وبدون أن تكون هذه الدولة الريادية الإسلامية المجمعة للكل الضائع، دولة صناعية كبيرة وتمد خطوط الاتصال المتنوع، وتتعاون مع الأمم الإسلامية المتخلفة في النمو والفقيرة والتي تعيش معاركها الطائفية والمناطقية الكارثية المستمرة، فإن المحيط كله يتضرر ويُجر للأزمات والصراعات.
لكن ذلك يحتاج من أي دولة كبيرة عربية إسلامية أن تكون هي نفسها متوافقة مع شعبها، مطورة لقدراته الاقتصادية، والسياسية والثقافية، لا متناحرة مع شعبها ومتناحرة مع بقية الأمم الإسلامية.
إذا أرات أي دولة أن تكون قيادة إسلامية عالمية عليها أولاً أن تصلح بيتها الداخلي، وتعطي الطوائف الإسلامية وغير الإسلامية حقوقها، باعتبارها جزءً من مكوناتها.
فأي دولة ممزقة تقوم بكبتْ القوميات والطوائف داخلها لا تستطيع أن تصلَ إلى مستويات اقتصادية متطورة، لأن الحروب والصراعات الداخلية والصرف على الجيوش تخرب الأسواق.
لكن أين تجد نموذجاً مثل ذلك؟
وتمزيق الداخل لا يقود لزعامة الخارج مهما اصطنعت هذه الدول من الصرف على الجماعات المؤيدة لها خارجها، فالأصل الأممي الإسلامي يُنتج من داخل وطني متماسك ومتعاضد.
تحاول تركيا الآن أن تعود للشرق بعد أن خذلها الغرب.
وهي دولة ذات موارد محدودة، لكن النمو الاقتصادي الرأسمالي الخاص في زمن العلمانية السياسية الطويل نسبياً، ووجود جاليات كبيرة لها في أوربا، ساعداها على التقدم الاقتصادي الرأسمالي الخاص وعلى إنتاج حريات اقتصادية وسياسية كبيرة.
ولعل حراك السياسة التركية الحكومية الكثيف في خلال السنوات الأخيرة هو رغبتها أن تكون قيادة اقتصادية لمنطقة تخلو من عملاقٍ اقتصادي مسالم ومتعاون، يغدو مثل الأخ الكبير لمجموعةٍ من الأسر المفتتة المتصارعة بلا مؤثر راعي لهذا التنوع ويستفيد منه ويقوده للتطور العالمي.
ولعل في كونها الدولة التي ألغت الخلافة الإسلامية، وجعلتها العلمانية الشكلانية في العديد من الجوانب، والتي أزاحت صلاتها وجذورها، ترى بعد تطور اقتصادها خطأ القفزة في الهواء، وكذلك فإن البورجوازية الحاكمة التي تمردتْ على العسكر تحتاج إلى أسواق ورساميل تغذي اقتصادها.
وما يمنعها من أن تكون قوة سياسية مؤثرة دافعة للمحيط العربي الإسلامي، هو كونها لا تنطق العربية، اللغة العالمية لهذه المجموعة من الأمم والشعوب، وأنها ابتعدت عن المحيط العربي الإسلامي لعقود طويلة، لكن هذا لا يمنع أن تكون إحدى دول الحداثة البارزة الجامعة للفسيفساء الإسلامية، الموجهة لها نحو الحداثة والتجمع الإقليمي التوحيدي في عالم يحتاج قوى كبرى وأسواق هائلة موحدة.
الدول الإسلامية تتجه للتمزق والصراعات الطائفية والعنصرية وبحاجة لقيادة كبيرة نابعة منها، تقوم بالمساعدة وإطفاء هذه النيران، وخلق مشروعات اقتصادية مشتركة، وجعل التنمية هي حياتها.
بلدان قارية واسعة لا تملك سكك حديد مشتركة، ولا وسائل اتصال واسعة، وكل منها يتجه للغرب أو الشرق يقيم علاقاته.
لماذا تتوجه البلدان (الثرية) الإسلامية لتضع فوائضها النقدية في الغرب والشرق وتتركُ الدولَ الإسلامية من غير ذات الموارد الكبيرة، وهي قاربها المشترك تــُثقب بألف فأس، فقيرة محتاجة، وإذا لم تمدْ أيديها لطلب المعونات لجأت لحروب العصابات والقرصنة أو تمزقت داخلياً؟
هل كانت دول المؤتمر الإسلامية في مستوى هذه التحديات الهائلة التي واجه الأمم الإسلامية؟ ماذا أنتجت وماذا كونت من أسواق مشتركة وعلاقات حميمة؟
ذلك لم يحدث لأن المذهبية السياسية الحاكمة في كل بلد تصورُ لنفسها أنها المعبرة الوحيدة عن الإسلام، وهي لا تقول مصطلح الأمم الإسلامية، لأنها عبر ذلك القول التجريدي تخفي الواقعَ الموضوعي، فثمة تاريخ معاصر تكونت به شعوبٌ مستقلة، لها مصالحها وعلاقاتها الخاصة، فلم تعد الخلافة المركزية الآمرة الموروثة بقادرة على أن تشكل علاقات سياسية ديمقراطية بين الشعوب المؤمنة بدين واحد. لم يعد البابا المسيحي ولا البابا الإسلامي بقادرين على تكوين خلافة.
لا بد من الاعتقاد بالتعدديات السياسية الإسلامية وبالتعاون بينها لتقوية علاقاتها وخلق قوة اقتصادية كبيرة في عالم الإنسانية المعاصر.
≣ علمانية السياسة، إسلامية المجتمع !
ليس ثمة تناقض في هذا الشعار، بل لا يمكن أن تنمو المجتمعات العربية بدونه!
إن الوهم بتناقض هذا الشعار هو نتاج الجهل السياسي، فتطبيق الإصلاح التحديثي فوق مجموعات سياسية مذهبية هو أمرٌ يفاقم مشكلات هذا المجتمع مع أنه يتصور إنه يقوم بحل مشاكله !
يؤدي هذا التطبيق الراهن للإصلاح السياسي إلى تفتيت القوى السياسية على أساس ديني، وجعلها ذرات، أي تذريتها أمام الرياح الغالبة المتحكمة في الثروة، مما يجعل هذه القوى عاجزة عن إعادة توزيع الثروة . فلا تتشكل السياسة من أجل الخطابات !
ولهذا كلما اندفعت القوى السياسية المذهبية في نشاطها كلما ازدادت ضعفاً، وكلما تعمقت في اطروحاتها ازدادت مشكلاتها !
فنتاج هذه السياسة المذهبية زيادة الانقسامات السياسية والاجتماعية وتحركها من القادة إلى الأعضاء العاديين، ومن الأعضاء العاديين إلى الجمهور، ومن المثقفين إلى العاميين، ومن قاعات الجمعيات إلى أزقة المدن والقرى والدخول في البيوت، وهو أمر يقود إلى تقسيم الأحياء والمناطق والمنازل !
ولا يفهم المذهبيون السياسيون مصطلح ( العلمانية )، فهم يعتقدون أن هذا المصطلح يشير إلى إيديولوجية كالإيديولوجية القومية والاشتراكية وغيرهما، ولا يعتقدون بأن الدينيين يمكن أن يكونوا علمانيين ؟ !
فالعلمانية نظام سياسي، يطبقه المسيحيون والبوذيون والهندوس وغيرهم، لكن لا يعني أنهم يتخلون عن أديانهم ! وحتى بعض الدينيين لدينا الذين يتعاملون في السياسة يطبق بعضاً من جوانب العلمانية دون أن يدرك بأنه علماني جنيني!
فهم حين يجتمعون ويعملون مع تيارات قومية ويسارية يفصلون بين آرائهم المذهبية وبين قضايا الوضع السياسي، مركزين على الأهداف العامة سواءً كانت أهداف المعارضة أو الموالاة، راغبين في تحقيق أهداف سياسية معينة، وهذه هي العلمانية !
حين يعملون من أجل تغيير القوانين السياسية ويواجهون دستوراً غير مرضي عنه، أو حين يتعاونون مع بعض القوى الغربية السياسية، فإنهم يبدأون رحلة المسار السياسي العلماني، حيث يقومون بفصل مذهبيتهم الدينية عن عملهم السياسي، فيظهر شيخ الدين قائداً سياسياً يستهدف غايات سياسية محددة هي التأثير على قانون لا يرضاه .
حين يمدح كاتبٌ ديني زعيماً يسارياً فهذا يعني علمانية، لأنه فصل فكره المذهبي عن أهدافه السياسية، حيث يريد تشجيع لونٍ من المعارضة، قد يكون لحسابات انتخابية أو اجتماعية، لكنه سلوك علماني، يدخل في حسابات السياسة المفصولة عن المذهبية .
إن التيارات المذهبية السياسية تتبدل وتتنوع وتزول، لأنها آراء سياسية في ثياب دينية، لكن الإسلام لا يزول، رغم أن كل فريق مذهبي سياسي يزعم إنه يمثل التطابق المطلق مع الإسلام !
ولهذا فإن النظام العلماني يستهدف توقيف هذا الزعم، والمتاجرة بالإسلام، وأن تظهر الأحزاب والجماعات بأجسامها السياسية الغائرة المتوارية وراء الملابس، فتأتي إلى المباحثات والنضالات كقوى سياسية ذات أهداف واضحة، بدون أن تكون ذات وجهين !
لأنهم يتباحثون مع القوى اليسارية والقومية فيصيرون في هذه اللحظة علمانيين، لكن حين يذهبون إلى مقراتهم يصيرون غير علمانيين، وينددون بالعلمانية، معتقدين إن تلك القوى علمانية، في حين أنهم كانوا علمانيين مثلهم عندما عملوا معهم لأهداف سياسية غير مذهبية !
لكن وظيفة العلمانية كنظام سياسي إنه يمنع التفتيت ويوحد القوى السياسية ذات الأصول الاجتماعية المتقاربة ويجعل تداول السلطة ممكناً، لأن المعسكرات الطائفية السياسية تكون قد ذابت !
≣ علمانية ذات جذور إسلامية
بؤرة تاريخ العرب الديني كانت الوحدة، بسبب ضخامة آثار التفكك والحروب والمآسي الصراعية الماضية، وكانت الوحدة السياسية يجب أن لا يسود فيها إنقسام على مستوى الوجود، ولهذا تجسدتْ الدولةُ الشعبية ذات الموارد الموجهة للناس أملاً في أن تبقى بلا صراعات.
التوحيديةُ ذاتُ شكلٍ علماني، بمعنى منع نشؤ الفرق والجماعات المختلفة الممزقة للصفوف، وبعدم إدخال الدين في النزاعات السياسية، وأن تحدث تلك الوحدة الصلدة التي تمنع ذلك، لكن هذا كان ممكناً إلى حين، وذلك عندما وضعتْ حروبُ الفتوحِ والانقساماتُ الاجتماعية وتباينُ الثروات وصعودُ القلة الغنية غير المؤمنة بالمساواة الاجتماعية المكرسة سابقاً، فُرئي أنها غير مؤمنة، لكنها كانت مؤمنة إنما برنامجها الاجتماعي أختلفَ عن برنامج الفقراء والعاملين والتجار الصغار.
فغدا النموذج لدى المُصرين على البرنامج القديم الشعبي المساواتي دينية صارمة حادة، شكلانية، وعند العقلاء وبين المجاهدين لحظات من التماسك وطرح ذلك البرنامج بدون تكفير وإساءة إيمانية لأحد، والقصد تطوير حياة الناس.
وبعد ذلك تهاوت هذه الوسطية الأخيرة، وظهرت المذاهبُ السياسية الدينية، تحجزُ الإيمان للبعض وتحجبهُ عن البعض الآخر، ومضت من الألوف للملايين.
قرنان مضيا بعد التأسيس بدون مذهبية سياسية متشددة فما هو مصير إيمان الراحلين؟
من يعرف مذهبهم السياسي؟
كلُ مذهبٍ كبيرٍ يحاول أن يوحد المسلمين فيما يقدرُ عليه من (عقلانية) سياسية، فلا يجعهلم يذوبون بين الأمم، أي يتلاشون بدون مؤسساتهم السياسية والاجتماعية والفكرية.
المذهبية السياسية الكبرى التي تنامت والتي تضمُ الملايين تشكلُ وحدةً إجتماعيةً تغذي التطورَ والصناعةَ والحداثة بمقاييس ذلك الحين.
الوحداتُ الكبرى المذهبيةُ حاولتْ أن تسايرَ أهدافَ الدين ومعالمه في خطوطِ الحضارة، وكلما إتسعتْ الوحداتُ كان فعلها الحضاري أكبر، لأن وراءها أسواقٌ وتغذيةٌ مشتركة للإنتاج.
رفعت الحداثةُ المتجسدةُ في تلك الظروف أشكالَ المذاهبِ إلى مقاربةِ العقول، وخفتتْ من الشكليةِ والحروفية ورأتْ المضامينَ والأهداف وتجميع كل هذه الشعوب في وحدةٍ واحدة أفضل من تشتيتها بإختلافاتٍ عبادية صغيرة.
نهضةُ التجارةِ والحرفِ والفقه والفلسفةِ كلٌ مترابط، وحين راحتْ التجارةُ تنهار بفعل التمزقات السياسية الضارية المتتالية، وبفعل نهوض الأوربيين وسيطرتهم على الممرات البحرية وتغيير البحر الأبيض المتوسط الحضاري المشترك، إنهار الاقتصاد وشاعتْ الأوبئةُ وإنتشرتْ الخرافات وورثنا هذه الموروث الاجتماعي.
التطابق الكلي بين (المِلة) والسياسة هو فهم التقليديين في عالم مركزية المسلمين مثل مركزة الأرض للوجود، مثل الهلال على العلامة على تاريخٍ هجري، فهو زمنُ كلِ الزمن، أي هو عالم ما فتوحه وأبقوه عليه من أراضٍ وبين السياسة حين كانت حد السيف، وحينئذٍ لا مذهبية بدون سياسة، ولا دينية بدون رؤية سياسية، ولا مسجد بدون سيف.
لكن عالم العصور الوسطى أُميد به، والأممُ كلها خرجتْ من تحت هذا التاريخ، وغدت الوحدة شأن العرب، مزقتهم المذاهب الوفيرة وآن عليهم أن يطوروها خارج مسرح الصدام، وأن يشكلوا بيئةً سياسية صرفة.
وقد قدم العربُ للغرب الناهض أسسَ الحضارة الحديثة؛ العلوم والمَلكيات المتحضرة على قرار خلافة الرشيد والمأمون كما قدموا لها النظام العلماني الأولي، الجنين الذي وُلد فيها نظراً لغياب عنصر الصناعة.
≣ لحظةٌ حاسمةٌ في تاريخِ العلمانية العربية
لا تريد القوى الاستغلالية الكف عن المتاجرة بالإسلام كما كان أمر الطبقات العليا في التاريخ السابق، حيث غدا الإسلام على يديها قوى طائفية متحاربة متعادية، وتهجيراً لأصحاب الديانات الأخرى وحصاراً على المسلمين من كثير من الدول والأمم!
ألم يشبعوا من إستغلال العامة؟ أم أن المستويات الفكرية والاقتصادية لهذه القوى لا تتيح لها الصعود لمستوى أعلى من الإدارة؟ لكن هذا المستوى نفسه مدمر لإمكانيات التراكم الاقتصادي السياسي، لأنه توسيع للصراعات وتفكيك للبلدان وتدمير لمواردها.
حتى في عمق المذابح، وبين خندقين مملؤين بالجثث والدماء لا يريدون إلغاءَ صكوك الإيمان من أيديهم يمنحونها لمن شاءوا، فيما الجزارون الحكوميون في سوريا يقولون نحن علمانيون ونعطي المواطنين حرية المذاهب والأديان!
الكلمة السر، دولة الحرية، دولة المواطنين، الدولة اللامذهبية، ذات الجذور الواسعة لكل المؤمنين، دولة الأخوة والأخوات المتساويين أمام القانون، الذين قدموا التضحيات، من كل القبائل والمدن والأديان، مواطنو الوحدة والثورة العلمانية، من كل المذاهب؛ الدروز والسنة والشيعة والمسيحيين والعلويين واليهود، العرب والأكراد والترك، الذين توحدوا في دماء الثورة ونيرانها، الذين قدموا التضحيات الجسام لينتقلوا من عصر الطوائف لعصر الشعوب، والمنفيين في المخيمات الثلجية، والمقتولين في المدن الحارقة، الذين لم تفرق الصواريخُ بين أحيائهم، ولا ميزتْ السياراتُ المفخخةُ بين شهاداتهم الوفاة لهم، إنهم لا يريدون أن ينتقلوا من دولةٍ علمانية خادعة تحديثية واهية إلى دولة مذهبية سياسية ساحقة ماحقة.
لماذا لا يريدون الأعتراف بجوانب التطور التحديثية العلمانية التي أسسها الشعبُ السوري قبل العسكر ولم يستطيعوا هدمها؟ لماذا لا يريدون الإضافة للبناء بدلاً من الرجوع للوراء؟
لم تكن الوطنية السورية نتاج أجهزة المخابرات، فأسألوا ميسلون ويوسف العظمة وخالد بكداش ورياض الترك وحنا مينه.
بين هجومٍ على علمانيةٍ خائبة إستبدادية دموية والخوف عليها من قبلِ ضحايا الاضطهاد الديني الذي إستمر لقرون، تتمزقُ سوريا الشهيدة بمعاولِ طبقاتٍ أنانية جعلت من الأديانِ أدوات هيمنة للغزو والاحتلال، لا أدوات مواطنة وتعاون وأخوة، معاولٌ تجمعُ الثروات في الخزائن وتتركُ الشعوبَ من كل الألوان والأديان في الفقر لتتشاجر على حرفٍ من لغة وجدار من بيتٍ سقط أخيراً وجعل الناس تهرب إلى الخيام وأراضي الثلج والتشرد.
من يمسك خيوطَ الثورة يمسك خيوطَ التخلف والاستبداد والتمييز بين المواطنين، يعدُّ نفسَه ليكون وريثاً في دولة المذهب والخزانة المخصصة لعلية القوم، يكررون تاريخ الاضطهاد المذهبي اللامنقطع، تاريخ العباسيين والسفاح والرؤوس المتدحرجة قرب الولائم، والتفتيش في القلوب والحفر في الرؤوس، تاريخ العثمانيين والصفويين حيث تتسع المعاركُ ويعيدون مجدَ المذابح بين المسلمين ويتعاركون على حطام الأمكنة المقدسة!
عدة ملايين من مسلمين علويين وشيعة ومسيحيين يتخوفون من مذهبية شمولية منتصرة، ولا يقرأون منها فكراً أكثر تقدماً من فكر البعث العسكري الشمولي الدموي، لكن الذي خدعهم وسيطر عليهم بعلمانيته وبخوفهم من دكتاتورية المذاهب الكاسحة المسلحة التي تريد فناءهم.
أثورةٌ بكل هذا الزخم تعجزُ عن رفع شعار العلمانية؟ وتجعلُ ملايينَ المواطنين متخوفين مترددين ومنهم من يعمل بقوة في صفوف الدكتاتورية العنيفة، تجعلهم مرةً أسرى العنف ومرة أسرى الخوف؟
حين تتمزق سوريا سوف تشتعل البلدان الأخرى، والأحزاب الدينية التي رفعت كل الشعارات الأخاذة سوف تلتهم النيران مدنها ومقراتها، والآن تبدأ القوافل الأولى للضحايا، سراً، وغداً ستعلم الأمهاتُ والآباءُ أين أخذوا الشباب وقتلوهم، وكيف تركوا حدود إسرائيل ليذهبوا إلى البيوت العربية يفخخونها، والآن يعودون نعوشاً، فلماذا يزدهر مطرُ الموت الطائفي في شوارع الأوطان العربية؟
إن الذين تاجروا بالمذاهب وجمعوا الثروات منها ها هم يستقبلون الوجبات الأولى من أولادهم، لا زغاريدَ مقاومة، بل نحيب خجول، والعارُ خنق البطولات، وبكاءٌ مشترك من القتلة والمقتولين، والكل مهزوم.
فألى متى يتصور المتاجرون بالمذاهب والأديان إن القلاع والخرافات سوف تحميهم وأن سيلَ النار لن يصل إليهم؟ لا القنابل النووية ولا الدبابات والصواريخ قادرة على قتل فكرة الوحدة بين الشعوب، والعلمانية نارٌ تسري في هشيم الجهل والتعصب توحدُ الطبقات والأمم، وتكسرُ الأسلاكَ الشائكة التي غرزوها في لحم البشر.
فلا يتصور زعماءُ التردد السوري والتجارُ الجددُ في اللحم الشعبي إن القضية فقدان قيادة أو حكومة بل هو فقدانُ فكرة، وغيابُ شعار مصيري، وعدم السباحة في النهر الشعبي، ونقص دم عميق يضرب في العظم الوطني إلى النخاع، بأن يكونوا قادة شعب لا قادة مذاهب وأزقة مسدودة، ورثة يتوجون مسار الوطنية والعلمانية السورية يرفعونها للذرى.
≣ العلمانيةُ سياسيةٌ داخليةٌ وخارجية
تدفع الدولُ العربية ثمناً باهظاً يزدادُ كلَ يوم مع عدمِ تشكيل سياساتٍ علمانية ديمقراطية داخلية متصاعدة تبعدُ القوى الدينية والفاشية والفوضوية عن ساحة السياسة.
في البدءِ يغدو الثمن عمليات قتل وحرق لسياح أو مواطنين أو عمليات تخريب محدودة ثم تتصاعد الأمورُ عبر خطف الأقاليم وإقتطاع أجزاء من البلد يقوم هؤلاء الطائفيون بحكمها والسيطرة عليها ثم ينشرون سلطتهم عليها حتى يزعزعوا أي بلد عربي ويهدمونه.
تتحجر القوى السياسية وتجامل وتتجمد مفترضة حسن النوايا، غيرَ مدركةٍ أن الحرائقَ من مستصغرِ الشرر، كما يحدث بين مصر والسودان، حيث تجمدتْ مواقفُ الحكومات المتعاقبة في مصر تجاه قضايا الإسلام وتركتهُ في يد القوى المحافظة الطائفية اليمينية، ولم تشكلْ سياسات علمانية ديمقراطية تتأسس على تغيير حياة النساء وإعطائهن حقوقهن، وتطوير حياة الفلاحين ونشر ثقافة الديمقراطية والعلمانية والعقلانية الفكرية أي عدم المتاجرة السياسية بالإسلام.
إن غياب المواقف التحديثية تجاه الإسلام هو غياب لمواقف الحكومات تجاه حقوق العمال والفقراء والنساء، وعدم تطوير برجوازية خاصة حرة ومبدعة إقتصادياً، حتى أكلتْ الأجهزةُ البيرقراطية والعسكرية الأخضرَ واليابس. غياب سياسة داخلية علمانية يصير مواقف دينيةً طائفية في السياسة الخارجية.
فتشكلتْ المجاملات في السياسة الخارجية بعدم رفض إسرائيل كدولةٍ دينية غير علمانية حقيقة إضافة إلى أنها دولة إحتلال، وعدم مجابهة اللاعقلانية التي تنشرها الجماعاتُ الطائفية في طول الوطن العربي وعرضه، وهي كانت منتجة الثقافة القومية التحررية العلمانية ورائدة الحداثة والتوحيد. والتوحيد هو بؤرة الأمة ومن يفرط فيه فرط في وجودها.
حتى وصلت الأمور لتمزيق خارطة مجرى النيل شريان الحياة لمصر! عدم تعاون القوى السياسية الحاكمة مع القوى الديمقراطية والتقدمية في مصر، مثله مثل إنهيار الجبهات الوطنية في كل من سوريا والعراق والجزائر وصعود القوى البيروقراطية وهيمنتها على كل شيء، والعلمانيةُ الديمقراطيةُ هي تتويجٌ للتعاون بين القوى السياسية ذات البرامج التحديثية. وحلتْ محلها الطرقُ العمليةُ النفعية بتقلباتِها وبمصالحها الآنية، حيث النظر القصير وعدم رؤية الآفاق البعيدة، والتخلي عن الدور التوحيدي النهضوي الذي بدأته مصر والتطلع لمنافع عابرة محدودة.
وكانت النتيجة أن مصر بتاريخها الديمقراطي العلماني تجامل نظامَ الأنقاذ العسكري الطائفي الذي مزقَ خريطة السودان. والآن يضعها على كف عفريت يطير بنيرانه ودخانه حول وادي النيل مبشراً بالخراب ومزيلاً سلامة النيل والتراب.
بطبيعة الحال فإن التدخلات في شؤون الدول الأخرى السياسية مرفوضة ولكن السلبية قاتلة كذلك، فكيف تكون السياسة أما الزعامة المباشرة والتدخل وفرض نموذج قومي وأما السلبية وترك الأمور على عواهنها؟!
لكن الأمور إعتمدت لدى الإدارات العسكرية المصرية على إرادة الزعيم وغياب الفلسفة الوطنية الديمقراطية العلمانية المؤسسة فلم تخلق نموذجاً وطنياً ديمقراطياً، وحين تلغي العلمانية الداخلية ولا تطور وتوحد مواقف القوى الديمقراطية الوطنية، تجد نفسك مع ضباط أو مع فوضويين وطائفيين ليست لديهم دراية بالسياسة والأمن ووحدة البلدان فتنتقل الحرائق لبلدك. لقد رأيت الحريق في بيت جارك فكيف تسكت؟ الآن ينتقل الحريق لغرف نومك. هذا ما حدث كذلك في البلدان العربية الأخرى كسوريا والعراق والجزائر وغيرها التي نفضت خطاب الوحدة الوطني الديمقراطي العلماني فتغلغلتْ في صفوفها القوى الطائفية الخطرة المسلحة وراحت تمزقُ الخرائطَ الوطنية وتدمر ثروة العقول النقدية وعلاقات الرجال والنساء التحديثية البسيطة وتفرض نماذج من عصور الظلام والفوضى والعنف.
لا تزال الأمور ممكنة وإمكانيات الوحدة لنضالية التحديثية قائمة على شفا هاوية والقوى الطائفية والدينية الأجنبية المحافظة المحاصرة للعرب تتطلع إلى تمزقهم والهيمنة عليهم.
≣ العلمانية الإسلامية والتضحية
تشكلَّ الإسلامُ من تضحياتٍ كبرى، لهذا نجدُ رموزَ الإسلام تعيشُ على الحدِ الأدنى من الرزق والذي لا يبتعدُ كثيراً عن معيشة العامة والفقراء المدقعين، وبرفضِ الهيمنة على المال العام.
في عمليات تأسيس الدول ظهرت قوى صارمة وتكريس الدين بقوة شديدة، لكون ذلك كان تأسيساً لأمم إسلامية في مرحلةٍ مبكرة قبلية.
نجد لدى الرموز الدينية تكريس كبير للتضحية، فلديهم سلطة هائلة وقدرات فكرية تأسيسية للمذاهب، لكنهم تجنبوا التداخل مع الحكومات ورفض أخذ الأموال منها وقبلوا بالعيش الزهيد!
عرض أبوجعفر المنصور على الإمامِ أبي حنيفة النعمان مبالغ معينة كمساعدةٍ له، فقال له إنه يقبلها بشرطٍ وهو أن توضعَ في بيت المال وإذا إحتاج إليها أخذَ منها وبطبيعة الحال لم يحتاج إليها وواصل إجتهاداته الدينية غير المقبولة لأبي جعفر!
وعرضَ أبوسلمة الخلال القائد العباسي الكبير على الإمام جعفر بن محمد(الصادق) حكم الأمبراطورية الإسلامية الهائلة فرفضها متشبثاً بدراسةِ العلوم!
بعد مرحلةِ التأسيس التضحوية تلك جاءت مراحل الأنانية. وكلما ازداد إلتصاق الدين بالحكم وبتبرير أحكامه والمعيشة على أرزاقه وعطاياه ضَعُفت الأحكام الفقهية والسياسية والرؤى الفكرية والأدبية، وضعفت مُثـُل التضحية العظيمة، وإنحط المثقفون ورجال الدين وتدهور فهم الدين.
التضحيات تقود إلى إنفتاح الدين وديمقراطيته حتى بعناصر صغيرة محاصرة وسط الفساد، ولهذا لا عجب أن يكون المتصوفة أكثر الناس إنفتاحاً وحباً لكافة الأديان، لأنهم يعيشون على ما يسد الرمق، ولا يوجهون أية سكاكين للآخرين، وصدروهم متسعة لحب البشر، معتبرين كافة الرؤى الفكرية صادرة عن نضال البشر للحرية والتقدم.
في حين ازدادت الكراهية والشمولية وبغض البشر لدى الدينيين الشموليين، إنهم مرتعبون خوفاً على تسلطهم على البشر ونفاقهم للدول وحصولهم على ثروات طائلة، لهذا فهم ضيقو الصدر فاقدون للتسامح عاجزين عن القيام بإصلاحات من أجل الجمهور، الذي يتخوفون من تطوره. يرغبون في إستمرار تخلف الجمهور وإنحباسه في الظلمات وعدم حريته وعلمانيته
وتزداد خطورتهم حين يلتصقون بالدول الشمولية العسكرية حيث يهددون المسلمين والبشر بالإبادة الساحقة.
التعبير الكلي للخلفاء الراشدين عن المصالح الأساسية لأغلبية الجمهور لا تنفي الشمولية والدينية ولكن كإستقلال تام عن مصالح الكبار الإستغلاليين، فهم ليسوا في خدمة الأقليات، وهذا ما يجعلُ ذلكَ ديمقراطيةً إجتماعيةً تحتاجُ كذلك إلى ديمقراطية فكرية، وهي أقصى الدين وهي علمانية كذلك لأنها إبعادٌ للدينِ عن إستغلالهِ في الصراعاتِ السياسية ولمآرب الملأ الشخصية – الاجتماعية الطبقية الخاصة، وهذه تناقضاتُ العصرِ التي لا مفرَ منها.
إن إستقلاليةَ الأئمةِ اللاحقة جرتْ بعد إنتصار الملأ الديني الجديد، الذي وظّفَ الإسلامَ في صراعاتهِ السياسية المتعددة، سيطرةً على الحكومات ودعوة لتشكيل نفس الحكومات الاستبدادية، ليس لتجديد حال المسلمين وتقدمهم، إلا من الإستثنائيات التي تصارعُ شبكاتٍ غالبةً.
وهكذا فإن خيوطَ التجديد الوامضة كانت هي في إستقلالِ الأئمةِ عن دول الفساد، وهنا (علمانية) مغايرة، فهي إنفصالٌ عن السياسة الحاكمة الجائرة غالباً، وتأييدٌ للسياسة الحكيمة المنصفة التي تندر الظهور لدى هذا الخليفة أو ذاك.
ولم تتشابكْ علومُ الاجتماعِ والطبيعةِ والتاريخ والفقه في ذلك الحين لإنتاج رؤى تجمعُ بذورَ الديمقراطيةِ والعلمانية وتلتقطُها من تحت ترابِ السير الاجتماعي المضطرب الدامي لجموع الناس المتصادمة وللأمم الإسلامية المتكونة، بل كانت النقائض.
في الزمن الحاضر صار من الأهميةِ أن يكونَ الفقهُ مستقلاً، أن لا يختلط بالسياسة، وأن يكون له تبحره الخاص. هو فلسفةٌ دينيةٌ عميقة تقرأُ وجودَ الأمم الإسلامية وتطورها.
أعاقت التدخلاتُ الطويلةُ هذا الفقهَ من أن يكونَ أولاً معبراً عن الأغلبيةِ العامة، فجعلتهُ للأقلية، وأن يقرأ ثانياً الضرورات العميقة لتكونِ وتقدمِ الأممِ الإسلامية، وهو التكونُ الذي يطورُها ولا يذيبها، إنها ضرورات الاقتصاد والاجتماع والعلوم.
وكذلك تصلُ ما إنقطعَ من فلسفةٍ عقلية إسلامية بأن الطبيعةَ لها قوانين سببية موضوعية خارج إرادتنا، والمجتمعات لها قوانين سببية يجب أن نعرفَها ونسيطرَ عليها لكي نبقى ونتقدم.
لا بد أن يتبحرَ فريقٌ من أجل ذلك، ولا ينحشر الجميعُ في النصوص الجزئية والأحكام القريبة، وأن يُرى العامُ والضرورات، لكن هذه لا تتكونُ بدون تراكم المعرفة الغزيرة والإنفصال عن الدول وعدم العيش منها وعدم العيش من الأحزاب والجيوش والقوى الأجنبية.
ففي حين إزدادَ إلتصاقُ جماعاتِ الدين المنظمةِ بالدول ازدادتْ المشكلاتُ وتفاقمتْ لدرجة الكوارث والأخطار الكبار، لكونها تجلبُ العامةَ المتحمسةَ غير المدركة إلى ساحات الصراع فيتم إستغلالها عبر أدواتِ الأضطرار والحاجة وليس عبر أدوات العمل الحر. وبدون أن يكون للعامةِ مصالح عيش مستقلة وموارد حرة تكون أصواتُها في الإنتخابات أو في الهيجان مع الدول مضرة.
ظهرَ زمنُ الفقيه المصلح – الحكومي، وهو نموذجٌ يكررُ أخطاءَ الماضي، فهو ما أن يسيطر على الموارد حتى يتكاثر الناس حوله وينافقونه للوصول إلى نخرِ المصالح العامة، وهذا يؤدي إلى أضرار على مستوى الفقه وعلى مستوى الحكم.
وهذه مجموعةٌ من المعضلات تواجه البلدان الإسلامية بأن يكون الحكم مستقلاً عن المذاهب، وأن يحدثَ نضالٌ من أجل حرياتِ الأعمال ويخفتُ زمنُ الدول الشمولية المهيمنة على أغلب الموارد والمصالح والثقافة والأعلام، ومَن يُرد هنا أن يشكلَ فقهاً لمصالح الأغلبية أو لمصالح الأقلية فليشكل، وأن تغدو البرلمانات صناديق للتغييرات الاقتصادية والاجتماعية باتجاه الآراء السكانية الغالبة.
أن يحدث صراعٌ بين قوائم (اليمين) و(اليسار)، الإقتصاديين الاجتماعيين، اللامذهبيين، اللادينيين.
≣ برنامج العلمانية الشعبية الإسلامية
بما أن تسييس المذاهب يقودُ إلى تفكك المسلمين فإنهم بحاجة إلى فصل المذاهب عن السياسة، وهذا يقود إلى توحيد كل شعب عربي ومسلم، لكن هذا الفصل ليس إلغاءً وهدماً بل هو تطوير فقهي ديمقراطي للمذاهب عبر العقود التالية، لكون هذا الفقه لا يمكن أن ينشأ دفعة واحدة، بل عبر تراكم أجيال، كما أن الوحدة الوطنية لكل شعب ضرورة أسرع من ذلك الإصلاح الفقهي الطويل الأمد.
والإصلاح الفقهي لا يلغي المذاهب وكياناتها الخاصة، بل هو يحتفظ لها باستقلالها ونموها المتميز، وهو ينشيء فقهاً عاماً ديمقراطياً هو عبارة عن أفكار النهضة والتحديث والتوحيد وقد تجذرت في ذلك الفقه.
إن الشعارات الديمقراطية السياسية هي عامة لكافة المواطنين، فإذا كانوا يتميزون في الصلاة، فإنهم لا يختلفون في مكافحة الفساد، ورد الأموال العامة الضائعة في الدهاليز الحكومية والتي تاهت عن الصحة والتعليم ومحافحة التلوث وعن تدعيم العمالة الوطنية!
ولكونها علمانية (شعبية) فهي تعتبر مصالح الجماهير العاملة والفقيرة هي بوصلة حركتها السياسية المطلبية، لأن هذه الجماهير هي أساس وحدة كل شعب، ومعاناة العمال مهما كانت مذاهبهم وأديانهم فهم في النهاية يعانون نفس الأستغلال وتدني الأجور وتخلف وسائل الأمان والسلامة، ولكنهم إذا تفرقوا مذاهب وأدياناً وفرقاً فإنهم وحدهم من يعاني الظروف السيئة لأنهم أقل الناس مالاً وأكثرهم عملاً وأدناهم عيشة.
ولكونها علمانية وذلك من أجل عدم استغلال رموز الإسلام في التجارة السياسية بالدرجة الأولى، لكن هذه العلمانية من جهة أخرى تــُبنى على التاريخ والتراث الإسلاميين( تراث الأغلبية في المنطقة)، فهي علمانية لا تقفز في الهواء ولا تلغي جذورها، ولكن هذا التجذر لا يجري باستخدام الدين أو المذاهب من أجل الأغراض السياسية والحملات الانتخابية، وليس هو عدمية دينية كذلك، ومن هنا يغدو التنظيم المؤمن بهذه العلمانية الشعبية الإسلامية مفتوح لكل الاتجاهات الدينية والفكرية، الموافقة لبرنامج النضال من أجل العمال والفقراء وبقية العاملين.
إن تكوين تنظيمات لا مذهبية سياسية هي خطوتنا الأولى في توحيد الشعب، فهنا تجد الفئات الاجتماعية التي تتماثل مصالحها بأنها قريبة من بعضها البعض، فلا تجعل من تباين المذاهب مانعاً ضد توحدها، بل تجد من المذاهب المتباينة الإسلامية عناصر مشتركة توحدها ولا تفصلها.
إنها لا تجعل الاختلاف الفقهي سبباً في تبعثر الشعب وضياع مصالحه واستقلاله!
وإذ يتطلب العمل السياسي داخل مثل هذه التنظيمات إنتاج فكر ديمقراطي وطني، فإن تطوير الفقه الإسلامي باتجاه الحداثة والديمقراطية يغدو جانباً مهماً في هذا الإنتاج، لأن أغلبية الفقه الإسلامي التقليدي على مر العصور السابقة رفض فقه النضال من أجل المساواة وتحرير النساء، ومساندة العاملين، وإلغاء احتكار الطوائف للحكم وأضطهاد الطوائف الأخرى.
ولا يمكن للنضال الديمقراطي العام أن يمضي دون تغيير في التراث التقليدي الذي أُعتبر دعامة للحكومات الدكتاتورية، ودون إبراز للنضال الديمقراطي الذي قامت به الفرق والمذاهب الإسلامية، فيغدو نضال المعاصرين الديمقراطيين هو تتويج لنضال الصحابة والأئمة والثوار في العصر السابق.
≣ الوطنية والعلمانية والإسلام
تترابط مكونات كل بلد عربي وإسلامي المتعددة، لكنها تؤخذ بتناقض ولا تـُفهم العملية التركيبية لها، فعناصر الوطنية والعلمانية والإسلام تتكامل ولا تتناقض.
فإن العراقي يقول: اتركونا نحل مشاكل بلدنا وحدنا، نحن العراقيين نستطيع ذلك، فلتـُرفع الأيدي كافة عن بلدنا، ونحن نقرر ذلك!
في كلمة العراقي الوطني السياسية المباشرة التقريرية شعارات محددة، فالعراقي لا يريد أي دول خارجية تسيطر عليه، وتغدو لها مركزية فوق إرادته، سواء كانت هذه الدول مرجعيات مذهبية أو دينية أو قومية أو غربية!
وهو العراقي الوطني الذي يقرر مصير بلده ووضع القوات الأجنبية والاتفاقية الأمنية، من خلال أدواته السياسية المنتخبة.
واللبناني الوطني يقول الكلمة نفسها، بظروف لا تقل سوءا عن زميله العراقي، فيطلب من الأحزاب كافة الالتزام بالتبعية للبنان، والانضواء تحت لوائه، منسحبين من أي مرجعيات مذهبية وقومية وعنصرية ودينية، متحدين تحت راية العلم اللبناني!
وهذا وقت الانسحاب من الإرادات المفروضة من الخارج، ومن فاكسات الأوامر ومن سيطرة الجواسيس، وخلايا الارهاب، التي ترفع شعارات النضال، لكي يكون اللبناني لبنانياً، ويغيب الطائفي ويسود الوطني في السياسة فقط، أما العبادات فلكل دين فضاؤه الحر.
ومشكلات الوطنية وعوائقها كثيرة، من داخل الدول التي فيها فئات تريد أن تأكل الموارد لنفسها، ومن خارج الدول، في القوى الخارجية المتعددة المتربصة المتوغلة، والتي كلما تقارب الوطنيون لحظة فجرت الألغام بينهم، وحرضت بعضهم ضد بعض، وكلما سار البرنامج الوطني الإصلاحي لحظة من النمو أوجدوا العراقيل وظهرت تبريرات للعنف وللأخطاء؛ يقولون هناك نقص في العدالة، وهناك عمالة، وطائفية، لكن لا يستمرون في الحوار، ولا يكشفون مواقع النقص القابلة للتغيير، ويواصلون إصلاح الديمقراطية بمزيد من الديمقراطية، وإصلاح الوطنية الناقصة بمزيد من الوطنية المتكاملة، وإصلاح المعارضة الطائفية بمعارضة وطنية.
لا، انهم يرفضون ذلك للمزيد من التآمر، ولبقاء خيوط كل وطن عربي مرهونة بالخارج، ولكي لا يتحد العراقيون واللبنانيون والبحرينيون والسعوديون والمصريون الخ.
هناك دائماً فيتو على النضال الوطني المتحد!
في العراق هناك الانتحاريون الفاشيون الذين يذبحون أهلنا بوحشية قل أن تظهر، لقد تفوقوا بحق على الهتلريين وخرجوا كلية عن الإنسانية.
في لبنان هناك الفاشيون الذين يخرجون من مخيمات الفلسطينيين ليذبحوا الناس، وتغدو العمالة انتحاراً وإجراماً وتمزيقاً لبلد على جيشه ألا يكون جيشاً، بحكم خارجي واضح، مرة بشكل ومرة أخرى بشكل آخر.
لكل بلد صيغة التغلغل الخاصة بظروفه، فالقوى المتدخلة ليست من الغباء بحيث ان تكشف نفسها، وتكون صيداً سهلاً لقوى الأمم المتحدة.
إن البلد الذي يتعرض لهذه المذابح الوحشية من حقه أن يستعين بكل قوى الدنيا والفضاء لوضع حد لهذه الوحوش!
إذا لم يتحول السياسيون في كل بلد عربي إلى وطنيين على مستوى الحكومات والمعارضات، فإن مصيرهم سيكون مؤسفاً.
على مستوى الأداة السياسية لا بد من زحزحة الآراء المذهبية لتأخذ الوطنية المكان المركزي. وكلما تأخر ذلك زادت فاتورة الدماء والمشكلات.
على مستوى المرجعية ليس هناك سوى مرجعية سياسية واحدة، وتتكاثر المرجعيات الدينية حيثما يريد العباد أجوبة ومراجعات دينية خاصة بهم، ومن يمنع ذلك يكون مفسداً.
وهو تاريخ مهم يجب ألا يُفسد بتغلغلات الأجهزة والمخبرين والمتاجرين.
كذلك فإن صراع الوطنيين بين بعضهم بعضا جائز ومقبول بدرجة كبيرة بحيث لا يصل إلى التخريب ولا إلى العمالة ولا إلى القمع.
نحمي مرجعياتنا الإسلامية ونرفعها عن دسائس المندسين والمغرضين.
ونحمي وطننا من كل تلاعب به حين تقول الحكومات إن المعارضات عميلة، وحين تقول المعارضات ان الحكومات طائفية.
هل تعترف بأنني وطني مستقل؟
هل تعترف بأنني عراقي وطني، كردياً كنتُ أم سنياً أم شيعياً؟
هل تعترف بأنني لبناني وتنسى للحظة بأنني مسيحي أو سني أو شيعي؟ هل تلغي هذه النظارات الطائفية التي تلبسها والتي حرقت بأشعتها النارية الأخضر الجميل في بلادي؟
العلمانية مكملة للوطنية بل هي شكلُ تجليها ومعدن ظهورها وتألقها، حين ننزعُ الألبسة الخاصة بكل مذهب في فضاء السياسة، ونرى أنفسنا كمواطنين مسئولين عن الأطفال الذين نريدهم ألا يتذابحوا وألا يكملوا مسيرة النزاعات المختلفة التي غصنا فيها موتاً وتخلفاً!
وهذه لا تنفي الأديان التي تبقى جذور الحضارة الغائصة في تربتنا وتاريخنا.
بل هما (الوطنية والعلمانية) تبقيان وتجذران تلك الديانات فلا تجعلان المذاهب تصطرع فوق جثث الحدود وتحولان كل اقليم إلى عدو للأقاليم الأخرى، تزييفاً من الزعماء والمحتالين لأغراض ارتفاعهم فوق الكراسي والعروش.
الديانات تزدهر فوق تربة الوطنية العلمانية، وتجعل القوى السياسية تتصارع في ملاعب محددة، وتكون محاصرة بمحاسبات المواطنين، فلا تجعل أسعار الخبز ووظائف العمل والمساكن ملقاة على عاتق القوى المجهولة.
وأن تلتفت القوى الدينية إلى ان الأديان ثقافات عريضة عميقة ومدارس فلسفية وحكمة تاريخية وليست فقط شعارات وصراخاً سياسياً.
هذا سوف ينفي صراخ القوى الدينية المتطرفة التي لا تريد مساءلة وتريد أن تهبر من لحم المواطنين باسم الدين، لتحاكم في مدى فهمها ومصداقيتها، وخاصة أن لحم المواطن العربي صار أرخص من لحم الخراف، ومثلنا هو العراق الدامي، وهو السيناريو الذي تريد القوى الطائفية الفاشية توزيعه على كل أنحاء الأوطان العربية والإسلامية.
≣ العلمانيةُ بين المسيحيين والمسلمين
نشأت ظروفٌ مختلفةٌ بين حضارتي المسيحيين والمسلمين، فحين إنتصرت القبائلُ الجرمانيةُ المسيحية على الإمبراطورية الرومانية الغربية الوثنية إنتشرتْ المسيحيةُ الكاثوليكية وقامت كنيسةُ روما وغدا رجالُ الدين المسيحيين هم الطبقةُ المسيطرة على العالم المسيحي الغربي.
إنقسم الناسُ في عالم السيطرةِ الكنسية بين رجال اللاهوت، والناس العاديين. بين الكهنوتيين والعلمانيين، وكانت التسميةُ تعني أولئك الرجال والنساء الذين لا يشتغلون في الأعمال الدينية. فالذين لا يشتغلون في أمور الكهانةِ ووظائف الكنائس يُطلق عليهم علمانيون.
فثمة أناسٌ متخصصون في العمل للآخرة والملكوت القادم الدائم وأناس يشتغلون في مهن الزراعة والحدادة والحطابة وغيرها وكانت حتى المهن الثقافية نادرة فلا شيء يخرجُ من سيطرة الكنسية وثقافة الكنيسة. وهكذا أصطبغت التسميةُ بشكلٍ عملي بين الجانب اللاهوتي والجانب الدنيوي العلماني.
وحين تنامت حركاتُ الطبقاتِ الوسطى والصناعة والحداثة أخذت تنتزعُ مساحات العالم اللاهوتي المسيطر، وراحت تزيحُ سيطرةَ الكنائس ذات الأملاك الهائلة والسيطرات السياسية المطلقة، فدخلت الثقافة العلمانية، أي ثقافة الناس الذي لا يشتغلون في المهن الدينية في صراع مع الثقافة اللاهوتية، مع المتكسبين من الدين.
ليس العلمانيون هم غير مسيحيين لكنهم فقط راحوا يفصلون العلومَ والسياسات والأفكارَ عن هيمنة الكنائس، لكن الكثير منهم مؤمنون بالمسيحية، ولم تسلمْ الكنيسةُ ومعها الحكوماتُ الكليةُ المتشددة بهذا الحراكِ الديمقراطي العلماني حتى تحولت لثورات وتحولات بحيث أخذتْ الأملاكَ الزراعية والسلطات السياسية وتركت للكنائس مناطق واسعة في الحياة الاجتماعية والثقافية والعبادية، لكن مفاهيم القراءات الدينية المحافظة لشؤون التاريخ والعلوم والطبيعة والثقافة تعرضتْ لانهيارات بسبب إكتساحها من قبل الثورات الفكرية ولهذا تم تغلغل العلمانية في المناهج الدراسية والشؤون الشخصية بحيث توسعت الهوةُ بين الدين المسيحي والمجتمع، إضافة للثورات التي دخلت في الدين نفسه وأنشأت تيارات ومذاهب مغايرة للحياة الروحية التقليدية.
في حين أن المسلمين لم يعرفوا هذه الثنائية المتضادة في عصر النهضة، فلم يُقبل في الإسلام نشؤ كهنوت، وسيطرة رجال دين على السلطات، ولم يحدث تمييزٌ بين من هو رجل دين ورجل معاش، وعمل كبارُ الصحابةِ والفقهاء في الأسواق والتجارة والأعمال الحرة المختلفة، بل حتى في الأعمال اليدوية البسيطة، فلم يعرفوا في تلك القرون تسمية العلمانية، ولم يعرفوا الانفصال بين الحياة العملية والحياة الروحية.
وبالتأكيد فإن الحياةَ السياسية والاجتماعية يهيمنُّ عليها الدين، ولكن في الفهم المؤسّس لا يُعتبر الدينُ وسيلةً لتشكيل حزب، أو إقامةِ جماعةٍ سياسية، أو أن الدولةَ هي مخصصةٌ لجماعات دون غيرها، والجماعةُ المسموحُ بها هي فقط جماعة تعمل لنشر الفضائل وليس لتضع خيوطَ السلطة في يدها.
تعبيرُ الإسلام هو تعبيرٌ عن المواطنين ككل، وأن عليهم إذا أختلفوا أن لا يختلفوا في الدين بل في فهم المعاش، وقد كانت الدولةُ حسب التصميم الأولي هي التي تجعل الناسَ يملكون الخيرات، وعندما جاءت أسرُ الأشراف وأمتلكتْ الخيراتَ نشأتْ الفِرقُ الدينية، وقد كان نشؤها إنها ظهرت لشرح معانٍ دينية وليس بقصد شق صفوف (الملةِ) فظهرتْ على أسس فكريةٍ محضةٍ كشرح معنى القَدر وتفسير مصطلحات القرآن ولكنها تغلغلتْ بين الناس وصارت قوى سياسية دينية.
ولم ينشأ مع هذا إختلاف بين المواطنين فيتخصص أناسٌ في الدين دون سواهم، أو أن يظهر كهنوت، ومع هذا فإن الدولَ المسيطرة حولت الفقهاءَ ورجال الدين لشراح وواعظين ومؤدلجين لسياساتها، ومسيطرين على الأحوال الشخصية خاصة، فيستفيدون من منافعها وأن لا يقحموا أنفسهم في السياسة. ومع تدهور الانتاج والمعاش وسع رجال الدين من نفوذهم وغدتْ الصوفيةُ دروشةً والفقهُ جموداً.
هكذا نشأ الكهنوتُ من خلال سيطراتِ الدول المحافظة، الأمر الذي إستدعى تعدد أشكال الكهنوت، والمذاهب، بحيث غدا إستغلال الدين في عصور التفكك والانحطاط سلعةً رائجة. هنا تشابه الحال مع عالم البابوية وحكم الكنيسة، على الرغم من أنه ظلت الحكومات العربية مدنيةً، ويُلزم في الحاكم حفظُ الحمى والأمن والمعاش أكثر من أي منحى آخر لديه.
تجذرُ المنحى (العلماني) كبيرٌ بهذا المعنى في تاريخ العرب والمسلمين، ولكن إنقلاب التطور عن أوربا هو بسبب ضخامة مخلفات العصر الوسيط المتأخر، ولم يفهم النهضويون المتأوربون الاختلافَ بين عالم المسيحيين والمسلمين، فراحوا يصارعون تاريخَ أوربا الوسيط أكثر من فهم تاريخ العرب، وجاءت الماديةُ العدميةُ وأثارتْ الشكوكَ والصراعات الجانبية فتوسعت التنظيماتُ الدينية المستغِّلة للدين في أعمال السياسة، وصورتْ الحياةَ السياسية التحديثية وكأنها مؤامرات للقضاء على الدين، ولكن من المؤكد إنه مع تطور الحياة السياسية الديمقراطية وحدوث ثورة ثقافية وسط العامة سوف يتم توجيه السياسات للصالح العام كما ستتغير صورةُ الدين.
≣ العلمانية المستوردة والعلمانية الإسلامية
تمثل العلمانية المستوردة ككل أشكال الاستيراد الفكري خلال القرنين الأخيرين من عمر النهضة العربية الحديثة، جسداً غربياً يُراد فرضه على الجسم العربي، وهو من نتاج حضارة أخرى، لها خصوصياتها وتطورها المستقل، ولكنه التطور الذي فرضته على العالم أجمع!
لكن حتى هذه العلمانية الغربية تمثل إنجازاً حضارياً وقد استوعبت الأديان بأن جعلت لها نطاق تحرجها ووجودها، ومنعت عنها أن تدين السياسة، أي أن تجعلها دينية. وهذا غدا معطى عالمياً ديمقراطياً، ولكن الغرب كاستعمار لم يؤمن بالعلمانية هذه حين غزا البلدان الأخرى، بل صار دينياً!
فقد كرس الاستعمارُ المذهبيات وحافظ على سيادة الأديان، بصورتها التقليدية غير النهضوية العتيقة، من أجل أن يمتص خيرات هذه البلدان!
فلم يكن الاستعمار علمانياً، بل كان دينياً!
فإنجازاته الحضارية جعلها في بلدانه، فليس من الممكن أن يخرز عينه بنفسه، ومن حاول أن يستورد هذه الإنجازات هم قادة العرب والمسلمين المتنورين، وكان قادة العلمانية المستوردة يعتقدون بأنهم حين ينقلون منتجات الغرب الصافية هذه فإنهم يماثلونهم بأوربا المتقدمة، فلا حاجة لأن يبدع ويعاني المسلمون ويصنعون نموذجهم الحضاري الخاص، فيجب أن يستوردوها كما يستوردون المذياع والمنظار، وكأن منتجات الفكر والدين والعادات والتقاليد، هي نفسها موضات الأحذية والمصابيح!
ولكن هذه المنشورات الاستيرادية فشلت لأنها لا تقوم على أساس موضوعي، وقد ارتدت الناس بحكم هذا الدفع الاستعماري الغربي والمحافظ الشرقي، إلى الطرف المضاد، إلى الشكلانية الدينية واندفعوا فيها حتى وجدوا أنفسهم أمام حائط تترنح عليه تجاربهم وأجسادهم!
ولكن العلمانية لم تعد نظاماً غربياً بشكله السياسي العام، وهو فصل السياسة عن الدين، فقد أخذت بها الشعوب الشرقية كذلك، ولكن هذا لا يعني من جهة أخرى نحر الأديان أو تذويبها، بل يعني أن ملل الشرق وأديانها الكثيرة لا يجب أن تتناحر فيما بين بعضها البعض، بل يجب أن تركز على قضايا التنمية والعدالة، وهذا التركيز تقومُ به الأحزابُ السياسية والبرلمانات المنتخبة، أما قضايا الأديان وعادات المؤمنين فإن المؤسسات الدينية تتكفل بها، أو الأفراد كما يريدون.
ولكن ذلك لا يعني عدم احترام المؤسسات السياسية والبرلمانية المذاهب والأديان، وتوجهها للقضاء عليها!
فالبرلمان الهندي وأعضاؤه وكلهم في السياسة علمانيون، يتوقفون احتراماً لأي بقرة مقدسة، ورئيسة وزراء نيوزيلندا العلمانية حين تدخل معبد السكان الأصليين الذين لا يسمحون للمرأة بالكلام في هذه الأماكن المقدسة تلتزم بالصمت التام!
إن بدايات من العلمانية السياسية تتشكل لدينا، فلم يعد البرلماني البحريني يقبل أن يُقال له إنه ممثل للسنة، أو ممثل للشيعة، بل يعتبر نفسه ممثلاً للناس ككل ولقضاياهم السياسية والاقتصادية، لكنه لا يستطيع أن يفتي في الفقه، فذلك من اختصاص رجال دين متمكنين، وهذا مع تطور الزمان ووعي الجمور والعملية السياسية سيحول البرلمان لأداة سياسية مستقلة. كذلك ليس من مصلحة رجال الدين أن يأخذ البرلمان دورهم.
وهذا العملية الانفصالية بين السياسية والمذهب، هي عملية علمانية، لأن قضايا المعاش اليومية أكثر مباشرة من قضايا الدين، التي هي قضايا تحتاج إلى زمن طويل، وقد استقر البحث والفحص فيها عبر المذاهب وعمليات البحث والاجتهاد فيها ومن خلال مؤسساتها العريقة كالجوامع والحوزات الدينية والمجتهدين والمحاكم والمجالس، التي باتت تتصدى لكل صغيرة وكبيرة وتفتي وتصدر الأحكام..
وإذا حدث أن تقاطع عمل البرلمان بعمل المؤسسات الدينية، فلا بد من اللجؤ للسلطات الأعلى المُبينة بحكم الدستور والقانون.
وهكذا فإن قوانين الأجور والإيجارات والضمان الاجتماعي وغيرها لا تفرق بين المؤمنين، لأنها قضايا معاش، في حين أن قضايا الزواج والطلاق والعدة والنفقة لا يستطيع أن يُفتي فيها برلمان!
ومن بدايات هذا التطور تتشكل العلمانية، التي تعني هنا الحفاظ على جذور المجتمع الإسلامية، واختصاص السياسيين بقضايا الصراع الاجتماعي وحل مشكلات المجتمع الاقتصادية والسكنية الخ.. فالسياسون لهم منطقتهم ولرجال الدين منطقتهم، وهذه هي بدايات العلمانية في مجتمع مسلم!
≣ مراحل انهيار العلمانية المستوردة
تتماثل خطوط التطور العربي بشكلٍ متفاوت، وفي بلدنا كانت التحولات تجري بسرعة وبكثافة، نظراً لكونها معمل صغير تجري فيه التفاعلات بقوة.
وكانت العلمانية العربية المستوردة من مراكز الإنتاج الأوربي تجري ببطء في بعض الدول العربية، وخاصة في المشرق، ولعبت أحزاب الفئات المتوسطة الدور الريادي في عملية النقل، وكان من أبرزها حزب البعث، الذي رفع شعارتها بناءً على فلسفات أوربية قومية، ولكن عبر الممارسة على الواقع العربي التقليدي، لم يستطع هزيمة هذا الواقع في البلدان التي مارس القيادة فيها، بسبب قيامه بالاستيلاء على السلطة من خلال الانقلابات، وهذا ما جعله يتحول إلى جزء من الطبقة التقليدية التي عمل على محاربتها.
وراحت فروع البعث القطرية تنقل هذه الخطة تدريجياً، وتتحول من الصراع مع الحكومات الاستبدادية إلى أن تكون متعاونة معها، وأخذ هذا التعاون طابع التسلق والحفاظ على مظاهر تحديثية، لكن في العمق مضت المصالحة مع ركائز النظام الإقطاعي، وغدت استعادة الإسلام لا تختلف كثيراً عن الاستعادات التي تطرحها الحركات الدينية المحافظة، وعملياً انتهت هذه العلمانية الشعارية، وغدت مظاهر تحديثية صغيرة لدى البعثيين دون أن تغدو خطة استراتجية لتغيير خطف الإسلام من قبل المحافظين، وعجزت من أن تتحول إلى حفر نقدي في بُنى الدين المحافظ، كما شكلته الطبقاتُ الاستغلالية على مدى التاريخ السابق.
وجاءت بعد ذلك القوى القومية اليسارية ورفعت شعارات لمحاربة الاستعمار في الخليج والبحرين، وخاضت نضالاً مريراً وتضحيات في سبيل ذلك، ورفعت شعارات الماركسية على الطريقة الماوية، وهي تعني إزاحة الإسلام من المنظور السياسي، ومن البناء الاجتماعي، فهي قد تابعت منظوري الشيوعيين والبعثيين، باعتبار الإسلام تركيبة متخلفة، وإنه ينبغي التماهي مع الحداثة التي صيغ نموذج الصين كمثال لها في تصور القوميين اليساريين.
لكن مع الضربات المتتالية الموجهة لهذه القوى، واستنفاذ مخزونها القتالي شيئاً فشيئاً، فقد فقدت قدرتها على الحراك السياسي المؤثر، وفوجئت بالمد الديني الشيعي عبر الثورة الإيرانية ثم انتقال هذا المد إلى البحرين والعراق ولبنان الخ، فأصبح الخيارُ هو العمل مع هذا المد، وتحول ذلك إلى عمل سياسي مشترك يقوده على الأرض الدينيون، دون أن يكون للقوميين رؤى فكرية كما كان الأمر في السابق، لأن الكادر على الأرض شبه معدوم، فتلاشت الشعارات العلمانية والماوية وصار القوميون ينقلون منشورات الحركة الدينية وشعاراتها.
ولا بد أن نقول هنا بأن هذه الكتل كفئات وسطى وصغيرة غالباً ما تتعرض لمد وجزر بين أقصى اليمين وأقصى اليسار حسب الغضوط المختلفة، ويغدو التوجه اليمني كامناً ثم يحصل على تحولات غائرة بثراء الزعامات أو تغلغلها في أجهزة الحكم العربي والاستفادة منها الخ.. مما يغير من الانتماء السابق للأنظمة (الرأسمالية الحكومية) كالصين وروسيا، والتي دخلت نفق أزمة.
وهذا ما حدث للتيارات الشيوعية كذلك التي وجدت نفسها على نفس مسار القوميين (اليساريين)، فالاستنزاف والتضحيات هي نفسها، ثم ظهرت قوة دينية ذات جماهيرية مؤثرة، فأخذ هذا السيل العناصر الباقية من الشيوعيين في تدفقه العنيف!
إن النجومية والعداء للشمولية والرغبة في إحداث تحول سياسي ديمقراطي، والمشي مع الموجة وعدم التطلع للخسائر الجسيمة في هذا العنف، وعدم الحفاظ على الاستقلالية الفكرية، هذه كلها من العوامل التي ذوبت العلمانية المستوردة القادمة سواء من بكين أو موسكو.
وإذا كان البعثيون قد ذابوا في هيئة السلطة العليا، فإن القومين والشيوعيين قد ذابوا في قوى المد الديني، وهو أمر يعبر عن كون العلمانية الشعارية في الرفض الكلي للدين، ليست ذات أساس فكري عميق وصحيح، فهي عبارة عن تسطيح للموقف من الدين، واتخاذ أقصر السبل لعدم قراءته ولعدم كشف مستويات وجذوره واتخاذ مواقف مسؤولة من قضايا الناس في مسائل العلاقات الأسرية والفقهية وغيرها.
هناك تباينٌ بين العلمانية الاستيرادية كما لدى عفلق القادمة من الفلسفة الألمانية الدينية، والتي تماهت مع الإسلام السني المحافظ، وبين الماركسية اللينينية التي جاءت من موقع الإزاحة الكلية ولكن القشورية للدين، لكن الموقف الاستيرادي وتناول المعلبات الأجنبية على مائدة الغذاء الوطنية هو نفسه، وهي أمور قربتها للمذهبيات الأمامية أكثر، وهذا سينطبق على المذهبيين السياسيين لكن من موقع الاستيراد الماضوي وليس الحديث، وسوف يجابهون نفس الانتكاسات بسبب وجود ذات المنهجية الاستيرادية.
≣ التبعية والعلمانية الإسلامية
حين دخل الغرب العالم الإسلامي رفع الرايات الدينية المذهبية، فقد وجد في المذاهب مستوى فكرياً شعبياً لا يمكن تجاوزه، ومن جهة أخرى فقد وجد فيها أداة لإبقاء العرب والمسلمين والمسيحيين واليهود الشرقيين، في تناحر مستمر يضعف أنظارهم وتوحدهم عن مقاومته.
ومن هنا عمل فى كل بلد على إحياء مختلف الطوائف، ورأى نابليون فى نفسه زعيماً إسلامياً! وكانت هذه الشعارات تخدع أغلب الناس لبعض الوقت .
لماذا لم يستطع الغرب أن يجلب علمانيته إلى هذه البلدان ؟ فإذا كان النظام العلماني شريراً وفاسداً كان الغرب الاستعماري اول من يجذره ويكرسه في العالم الإسلامي؟!
ولكنه انفصل عن علمانيته وتنويريته وديمقراطيته وتوحد بالنظام الإقطاعى المذهبى بمختلف تلاوينه، وسواءٍ كان كاثوليكية محميةٍ بمدافع فرنسا في لبنان، أو كان سنية محافظة مرفوعة على رؤوس البنادق البريطانية فى بغداد مع جحافل الملك فيصل، أو كان اثناعشرية شاهنشاهية مؤيدة بالأساطيل البريطانية في الخليج!
لكن العلمانية السياسية نشأت من بين المسلمين والمسيحيين على الرغم وبضد الثقافة الغربية المهيمنة.
وقد رفض اليهود تكون علمانية سياسية برفضهم الذوبان السياسي في الغرب، حيث شكلوا الحركة الصهيونية السياسية الدينية، أما في الشرق فقد رفضوا التعاون مع الأديان الأخرى لتشكيل دول علمانية وعملوا من اجل دولة حديثة في فلسطين، هي في الحقيقة دولة دينية مضادة للعصر في عظامها الهيكلية!
إن الثقافة الغربية المسيطرة وهي تتنصل من تراثها الديمقراطى الإنساني، وتتحول إلى وحشٍ غاز، لم تستطع ان تمنع الشرقيين من الإطلاع على نضالات شعوب الغرب نفسها في مراحل سابقة، أي حين كانت شعوب الغرب تعاني هي نفسها من مرحلة الإقطاع الدينية، وتكوّن أدوات النضال للتخلص من التفتت المذهبى وتشكل أسواقها وبرلماناتها وحرياتها!
كانت شعارات الوحدة الوطنية التي أطلقتها ثورة العشرين في العراق، وثورة الوفد في مصر، و مختلف الثورات الوطنية العربية، هى البروفة الأولى في تشكيل العلمانية العربية الإسلامية، أي حين تقوم الفئاتُ الطليعية في كل بلد عربى بتجميع ومراكمة العناصر الديمقراطية لفصل المذاهب عن السياسة، أي حين يتم توحيد الجمهور المختلف دينياً لأهداف سياسية نضالية وطنية مشتركة،, أي حين تتم رؤية العناصر الإسلامية الديمقراطية والعناصر الإنسانية الديمقراطية في الأديان الأخرى.
ان المرحلة الوطنية العلمانية التأسيسية العربية هي التي أنشأت الزعماء الموحدين، وفي هذا نفسٌ أصيل من الثورة الإسلامية التأسيسية التي لم تكن مذهبية، فلم يكن ثمة توجه مذهبي أو ديني مخصوص لزعماء الثورات العربية كسعد زغلول ويوسف العظمة وعبدالرحمن الباكر وغيرهم.
ان مراكمة العناصر الديمقراطية العلمانية في النضال المعاصر هي بيد المسلمين بشكل أساسى لأنهم الأكثرية في المنطقة، وهذه العناصر تعنى تجميع أكبر قوى بشرية لاستقلال وتحرر المنطقة، ولتقدمها الاقتصادي، ولتثوير هياكلها الاقتصادية العتيقة، ودفع أغلبية سكانها رجالاً ونساءٍ في الثورة العلمية المعاصر.
أما التحجر في النصوصية والرفض الجامد للأطروحات السياسية الحديثة وعدم تغيير الهياكل السياسية التقليدية في التنظيمات الدينية والقومية و(التقدمية)، وبقاء التنظيمات ذكورية استبدادية نخبوية فهو معاندة للماضي المجيد وللحاضر الكاسح.
≣ الاستعمار ورفض العلمانية
على الرغم من أن الأستعمار كنشاط سياسي غربي إحتلالي وذي هيمنة على القارات الأخرى، كان نابعاً من حضارة علمانية ترفض إستخدام الدين في السياسة، إلا أنه في إستغلاله للبلدان الأجنبية ركز على تغييب العلمانية السياسية من حياتها ودعم مختلف الطوائف في عدائها لبعضها البعض.
لا شك إن ذلك يعود لطبيعة هذه العلمانية كتطور خاص بالغرب حيث عمدت القوى الحاكمة إلى العودة لميراث العصر الوسيط من أجل كبح نمو القوى الاشتراكية، وعبر إدعاء هذه الطبقات النازفة لعرق الملايين بأنها مؤمنة، فسقطت هذه القشرة الرقيقة من العلمانية حالما أجتازت دباباتها خطوط التماس بين الغرب والشرق، فهنا عاد الزمن للعصر الوسيط الديني، فظهرت البرجوازياتُ الغربية المتدخلة في العالم المستعمَّر وكأنها قوى حامية للأديان.
فقام الاستعمار البريطاني بحماية مختلف الأديان والمذاهب والنحل العجيبة في الهند لا لشيء سوى تفجير الخلافات بينها ومنعها من إتخاذ موقف مشترك نضالي ضد هذه الهيمنة.
وهذا ما جرى بأشكال متباينة في مختلف الدول التابعة، فنظراً لعجزه عن رد التاريخ للوراء في الدول الغربية كان علمانياً فيها، ونظراً لعرقلته لنمو التاريخ في الدول التابعة صار دينياً!
لكن قادة التحرر الكبار في الشرق؛ غاندي، وماوتسي تونغ، ولينين، وسعد زغلول، وغيرهم، أتخذوا سياسة مضادة، رغم تنوعها إلا أنها سياسة توحيد قومي. فغدت العلمانية السياسية هي شعاراتهم لكي يوحدوا الملايين من البشر التي تعاني في رزقها وحياتها من تلك الهيمنة، لكن هذا التوحيد القومي أتخذ مسارات مختلفة، ظللها الكثير من الوهم الإيديولوجي، فعلمانية غاندي كانت هي اللاعنف ومقاومة الاستعمار وترك كل الشعوب تعيش في دياناتها وتشكيل حزب هندي قومي لا ديني، دون أن تتطرق هذه السياسة إلى تغيير حياة الملايين الأشد فقراً في العالم، فصعدت البرجوازية الهندية الغنية والإقطاع إلى كرسي الحكم الوطني، فتململت القوى الشعبية وتوجهت للهندوسية المتطرفة حاسبة إن مشكلتها هي في عدم تطبيق الدين!
وهذا ما حدث في روسيا والصين بشكل مختلف، فكان قادتها علمانيين إلى درجة العمل لسحق الأديان، لكن الرأسمالية الحكومية قادت إلى بروز البرجوازيات من داخل الدول، فعادت الشعوب للدين لأنها رأت نفاق السياسة الاشتراكية المزعومة.
وهكذا فإن السياسية الغربية الاستعمارية الجديدة الحاصلة هذه الأيام وجدت في البروز للرأسمالية البيروقراطية الشرقية إمكانية أخرى للتغلغل في المشرق العربي تحت راية الإصلاح وحماية الأديان والطوائف، كما كان العهد في السياسة البريطانية السابقة، فمر أكثر من قرن دون أي تغيير عميق في السياسة الغربية لكن مركز القرار العالمي تحول من قارة إلى أخرى!
لقد قام قادة الثورات الشرقية السابقين بعمل إنجازات كبرى في مسائل الاستقلال القومي لكن محدوديتها تعود لمستوى وعيهم ولمستوى تخلف شعوبهم، فلم يستطيعوا الجمع بين الحرية والديمقراطية والعلمانية وتغيير حياة الملايين الفقيرة.
إن هذا الجمع المركب بين هذه السمات هو كذلك وليد التاريخ والتجربة، فنحن نرى قادة أمريكا اللاتينية يتجاوزون مستوى لينين وماوتسي تونغ وغاندي، فيجمعون بين توحيد شعوبهم وتحررها وتقدمها وبين ارتفاعهم عن خلافاتها الدينية والعرقية والفكرية ودون أن يكون ذلك أيضاً عبر القبضة الحديدية!
لا شك إن هذه السمات الجديدة الوطنية العلمانية في العالم الثالث تشكل ظاهرة نوعية تحولية هي نتاج خبرة الآلام والثقافة، وسوف يتسع حضورها وانتشارها، لكي يقوم قادة العالم الثالث الجدد بتوحيد شعوبهم وتطويرها، ومن موقع الند للند للحضارة الغربية التي فشلت علمانيتها على المستوى العالمي، مقدمين مستوى أرقى من العلاقات الدولية.
علمانية ديمقراطية لا تتنكر لتاريخ وأديان هذه الشعوب المضطهدة وتعمل لتغيير حياة الملايين من الفقراء!
≣ العسكرية العربية والعلمانية
لا بد للدول العربية من تخطو أن خطوات كبيرة باتجاه العلمانية السياسية، بسبب تفاقم الصراعات الاجتماعية التي تتخذ ألواناً دينية ومذهبية وعنصرية وإقليمية، وتأتي الأحداثُ كل يوم بأخبار المذابح والحروب والكوارث التي تجري على أساس ديني ومذهبي وعنصري وقبائلي الخ.
أنطرْ إلى تفكك السودان ومذابح نيجيريا والجزائر والعراق والهند وباكستان الخ، لترى بأنكَ لستَ في مأمنٍ من الأخطار!
كما أن العالمَ القديم الذي تسيطر عليه تمام السيطرة الدول الغربية بدأ يفلت زمامهُ، وتتفجر الأزماتُ المالية والاقتصادية والعسكرية، وتعود الدولُ الشمولية الشرقية العسكرية لتصطاد في المياه العكرة وتشجع الفرقاء الدينيين والمذهبيين والعنصريين وتمدهم بالسلاح والتكنولوجيا المتطورة، فهي تريد أموالاً بأي شكل، وهي تريد بلداناً مفككة لتتوغل فيها.
ولهذا فإن الانقلابات على أساس ديني ومذهبي وعنصري ليست بعيدة عن الجيوش العربية، في السنوات القادمة، وهي الغارقة في حياة السكان، ولم تصبح فصائلَ منعزلة عن صراعاتهم الدينية والمذهبية والسياسية والعنصرية، بل هي داخلة فيها، وهذه الجماعات بدورها تستفيد من طابع الولاء الديني والمذهبي والسياسي في التغلغل في أعصاب الجيوش وعروقها الداخلية المخفية.
ومع اشتداد الأزمات الوطنية والإقليمية، وتفكك الدول بسبب الصراعات الدينية والمذهبية والعنصرية وغيرها، فإن توغل هذه الصراعات داخل الجيوش، وإتخاذها مبررات للإنقلابات و(إنقاذ الأمة) ليست بعيدة عن الاحتمالات المفتوحة.
ولهذا فإن الدول الدينية والدول الكبيرة ذات الأحلام التوسعية تعتمد على غزو الجيوش من الداخل، وتغيير ولاء ضباطها، أو إحتكار جماعاتها التابعة لها للسلاح، ورفضها الدخول والأنصياع لإرادة الجيوش الوطنية، والذوبان في الجيوش الوطنية والتخلي عن إيديولوجياتها المزعومة بأنها الدين الحق، والمذهب الحق، وهي التابعة لعصابات ودول ناقعة في الفسادين الديني والسياسي.
أو ترى هذه الجماعات المسلحة تقوم بالاضطرابات المستمرة، وتدبر المذابح الرهيبة، وتقتل الأبرياء في مغامرات تدعي فيها أنها تحرر البلد من الطغيان، وتقوم بفصل الأقاليم في حرب ضروس بأسم المصلحة الوطنية العليا وهي تبحرُ في مستنقعات من الدم!
بل هناك حتى محاولات الأستيلاء على مدن وإحتجاز الرهائن. وقد دمر هؤلاء كل شيء بأسم الدين والمذهب والعنصر!
كل هذا يجري والعواصف لم تتنشر انتشارها الكثيف مع تنامي الأزمات الاقتصادية المتصاعدة في الدول الأخرى، التي تنظر لهذه الكوارث وكأنها بمنأى عنها، وأنها في عالم مستقر أبدي.
ومن هنا ضرورة وجود جيوش عربية خالية من التوجهات المذهبية والدينية والعنصرية والإقليمية، وأن يكون ولاؤها للوطن والدستور، وأن لا يُسمح بتوغل هذه الاتجاهات داخل صفوفها، وأن تمنع أية دعاية طائفية ومذهبية وقومية عنصرية داخلها. فاليوم هؤلاء معك وإذ تمكنوا فهم غداً ضدك!
كما أنه لا يجب بقاء المروجين الدينيين والمذهبيين والعنصريين وغيرهم من أصحاب الرؤى التقسيمية للشعب داخلها، وأن يُضم كل عنصر يرفض هذه التوجهات حين يصيرُ جندياً، فنريد جيوشاً منضبطة قوية لا تدين بالولاء إلا للوطن والدستور، وكل من يقبل ذلك ويلتزم به بصرامة وقوة يكون عسكرياً وإلا فليخرج من الجيوش العربية.
ولا يجب أن تنظر قيادات الجيوش لمنبت المجند أو عائلته أو طائفته، أو إقليمه بل تنظر لمدى إلتزامه بالأخلاص للوطن والدستور، ومن هنا ضرورة أن تكون الدساتير بمستوى تحديات التاريخ الراهن، وتتحول مثل الجيوش إلى دساتير ديمقراطية علمانية.
إن تربية وطنية علمانية عسكرية باتت ضرورة كبرى في هذه المنزلقات التي تجري، وتجرُ بلداً بعد آخر لدروب الانقلابات والحروب وتجعل الجيوش تتفكك وتنقسم إلى طوائف كما هو حال البلد المتزعزع، فبعضٌ من الدول العربية تحتوي على ثلاثة جيوش متطاحنة مستفيدة من اتساع المساحة في هذه الدول.
ولا شك أن الإصلاحين السياسي والعسكري يترافقان مع بعضهما، وأي إصلاح يعتمد على مدى تغيير ظروف أغلبية الشعب، وعدم وضعها في دوائر الأزمات والفقر المدقع وعرضة لهيمنة الخارج، وحين لا يُلتفت إلى ذلك ويتم جذب المجندين الفقراء العاطلين الجهلة وجعلهم أساس الجندية، فهؤلاء يغدون سبب المشكلات والتمردات لا على أساس الضبط والربط المطلوبين.
كما أن وضع الضباط المؤدلجين والمؤيدين للتيارات المذهبية والدينية والعنصرية على رأس هؤلاء، وفي بلدان تغلي بالأزمات والصراعات، ليس معناه سوى الانفجارات السياسية.
إن الجيوش الحضارية العلمانية كما في الغرب والهند وتركيا وغيرها من الدول التي نأت بالجيوش عن التدخل في الدين والمذهب والسياسة، هي أداة للحكومات التي تصل للحكم عن طريق القانون والدستور، فتخدم سياستها، لا أن تكون هي مصدر السياسة.
وتغدو هذه الجيوش حارسة للدستور في حالة الاضطربات وإنفلات زمام السيطرة، وتمنع العودة للوراء، أي للدولة الطائفية والعنصرية.
والعديد من الكتاب العرب ينتقدون التجربة التركية وسيطرة الجيش وحمايته للدستور، رغم أن هذ الأمر هو الذي جعل تركيا تتطور بهدوء خلال العقود السابقة، رغم قلة موارد هذه الدولة وغياب النفط والموارد الكبيرة الأخرى والتي تتمتع بها بعض الدول العربية لكن حياتها كلها اضطراب وقلاقل وإنقلابات خلال نفس العقود!
كما أن الجيش التركي يحمي الحدود وهي مهمته الأساسية، والقمع التركي للأكراد هو بسبب تطرف حزب العمال التركي ومطالبته بالانفصال عن تركيا، وهذا الأمر خطير ويحول أي دولة إلى فسيفساء متناحرة.
يتحول الجيش في الدولة الشرقية العلمانية إلى حامي للحدود وحارس للدستور، وليس إلى متدخل في الصراعات السياسية ما دامت الأحزاب تلتزم بالدستور.
≣ القومية الدينية بين ضفتين
انحدر العرب والفرس من شواطئ بحر قزوين (خزان الشعوب) قبل آلاف السنين، مثلهم مثل العبرانيين، إلى منطقتين جردائين صحراويتين، وراحتا تزحفان نحو العراق الأرض الخصبة، ومع القرون اقتربتا ودخلتا فيه، وتصارعتا طويلا عليه، ولعل هذا الصراع ما زال قائماً وإن كان بأشكال جديدة.
وإذا كانت الوديان الخصبة هي منتجة الثروة الأساسية فإنها كذلك منتجة الأفكار الدينية، وهي الثروة الروحية للمنطقة على مدى آلاف السنين، ولم تفعل الشعوب الرعوية الوافدة من الشمال سوى أن تملكت الثروتين المادية والروحية، وصبغتهما بصبغتيهما (القوميتين).
وعبرت الأفكار الدينية عن سيطرة المركز السياسي سواء كان أمبراطوراً أم شيخ قبيلة، ومنذ ذلك الحين عبرّتْ المفرداتُ الدينية عن هذا الحراك السياسي الذي لا يتوقف.
وكانت المركزية السياسية تزدادُ وتظهر إمبراطوريات متوالية، مثلما أن تفتيت الأمبراطوريات وتمزيقها بفعل النضال الشعبي كان أيضاً مستمراً.
كانت الألوهية المركزية تعبر عن مركزية السلطة، وكانت التعددية الإلهية تعبر عن مقاومة تلك المركزية السياسية.
انتقل الفرسُ من الثنائية الإلهية المتمثلة في صراعِ إلهي النور والظلام، إلى التوحيد الإسلامي، وانتقل العربُ من الوثنية وتعددية الآلهة إلى التوحيد.
كان هذان مشروعان سياسيان متصادمان. فكلُ أمة من الأمتين تريد صعود وسيطرة مشروعها السياسي (القومي)، وبطبيعة الحال نظراً للوضع الاجتماعي لكلا الشعبين الكبيرين حيث تسود القبلية والاقتصاد الزراعي والثقافة الدينية التقليدية، فإن هذا لم يظهرْ على صعيد الوعي، وكذلك فإن الصراع الديني الذي تحول إلى صراع مذهبي معقد، لم يظهرْ للنور كصراعٍ سياسي بين مشروعي أمتين وجدتا نفسيهما في منطقةٍ خصبة وكلُ منهما تريدُ إمتلاكَها، وبكون هذا الصراع السياسي الضاري هو بسبب علاقات السيطرة والاستغلال من قبل الطبقات الحاكمة للشعوب في كلا الجانبين وفي مختلف تجليات الأمبراطوريات التي زعمتْ كلٌ منها تمثيل الشعب برمته، وكذلك فإن الأفكارَ والملاحمَ القصصية والتيارات الصاخبة بينهما تعبرُ عن هذا الصراع الطويل في مراحله المتعددة بدءً من معركة ذي قار حتى الأختلاف المذهبي والتفسيرات المختلفة التي تـُساق لتبرير هذا الصراع وتعميقه.
وحتى في العصر حيث جرت عملية الفصل بين الدين والسياسية في تجربة الأمم المتقدمة داخلها، ولم تعممها على البشرية، فإن الأمتين ظلتا تتحاربان بمفردات الدين والمذهب، كما أنه لم تنجحْ محاولاتُ الفئاتِ الوسطى الحديثة في جلب نموذج العلمانية الغربية حيث استمرت الدولُ والحركات السياسية الشمولية في فرض وصايتها على الشعوب.
كما أن هذه الأحزاب التحديثية أما أن تنزلق للوعي الديني التقليدي بفعل سيطرتها على السلطة، أو أنها لا تتخذ مواقف نضالية صلبة في مواجهة الحياة الاجتماعية والسياسية التقليدية.
بحكم هشاشة وضع هذه الفئات الوسطى نفسها، وطبيعة تجاريتها وارتباطها بالسلطات وثقافتها المتقلبة القشورية. ولهذا فقد سادت الخطابات الدينية التقليدية المعبرة عن سلطات كلية بيدها أغلب الموارد والتحكم في الحياة والموت، ومن هنا فهي تنشىء خطابات بهذه المعاني.
وتعبر عن صراعاتها مع الأمم الأخرى وصراعاتها مع الطبقات الشعبية الناقدة لسيطرتها، من خلال هذه المفاهيم التي تجعلها دستورية، ومحمية من خلال القوة.
ومن هنا فإن أحاديثها عن الشورى والديمقراطية والعدالة هي كلها تقطيع لجسد هذه الشعارات على سريرها الضيق.
ومن هنا فضعف العلمانية السياسية في الأمتين العربية والفارسية، هو بسبب هذه الهيمنة شبه الكلية على الموارد، وإغذاقها الأموال على الفئات البيروقراطية والعسكرية، التي تتحول إلى أخطبوط سياسي.
وتزداد هذه مع تنامي العسكرة والتلويح بمشروعات حربية مغامرة، أو بنقل ثروات المنطقة للخارج، مما يقود إلى غرق الشعوب في مفاهيم دينية أكثر تخلفاً، معبرة عن اليأس والخوف من المجهول والمستقبل، ويتم حشد جماهيرغارقة في هذه المفاهيم ومغسولة عقولها بثقافة العصاب الديني، فتـُطلق في أعمال إرهابية ودموية رهيبة.
وإذا كان ذلك يقدم صورة مخيفة عن الممارسات السياسية بين الأمتين، فهو كذلك يعبر عن الطريق المسدود الذي تسلكانه.
ففي الأعماق يتشكل شيءٌ آخر فقد تعبت الشعوب من هذه المذابح بأسم الدين، وتريد أن تعيش حياتها بفرح وسعادة، وتريد أن تحصل على شيء يسير من هذه الثروات التي توجه للجيوش، وعلى التدخلات والصرف على الأجانب والمظاهر الاستعراضية ولكن الطوق السياسي حولها كبير وتغزلهُ كلَ يوم آلاتٌ هائلة من العصي والبث الدعائي، حيث يجري التخويف والحبس على المستويين المادي والروحي.
وقد انقطعت العلاقات الثقافية الثرة بين الأمتين العربية والفارسية التي كانت واسعة هائلة في العصور الوسطى، والترجمة بينهما ضئيلة، والعلاقات بين التيارات الفكرية والثقافية صغيرة إن لم تكن معدومة كلياً.
وهذا كله يؤدي لسيطرة الخطابات العدائية والجاهلة والمتعصبة، مما يتيح هيمنة تلك التقليدية التي نشأت في جو الخلاف والكراهية، والتي تـُسوقـُها عبر يافاطاتٍ مُضللة تلغي بها التاريخَ الثقافي الحقيقي، والصراعات السياسية والاجتماعية وتعلقها في فضاءِ العداء المجرد، أو في مفاهيم المذاهب التقليدية، خدمة لبقاء تلك القوى المتحكمة في الثروات وسُبل توظيفها.
إن وقف الإهدار العسكري والبيروقراطي وتحويل الثروات نحو الصناعة وحاجات الأغلبية الشعبية، يتطلب عمل المثقفين والسياسيين من أجل العلمانية والديمقراطية والوحدة الإسلامية والإنسانية، ولعدم جر الشعوب للقتال بين بعضها البعض.
≣ العلمانية التركية والسلام والتقدم
اختارت القوى الدينية العربية والإيرانية سياسة المجابهة، وهي سياسة نازفة للموارد المحدودة، لكن الفئات الوسطى التركية باتجاهها الديني – الإسلامي اختارت التنمية والسلام والتقدم.
بطبيعة الحال كانت هناك خلفية الأمبرطورية العثمانية والتحديث المتردد فيها، والتي استفادت من الموارد الكبيرة التي اتاحتها تلك الهيمنة الطويلة على البلدان العربية والإسلامية الأخرى.
وحين خرجتْ تركيا الحديثة من الارتباط بهذه الأمبراطورية الشائخة، وابتعدت عن الدخول في المحاور الأوربية المتصارعة على المستعمرات بدءً من الحرب العالمية الثانية، حققتْ هذه السياسة تراكماتٍ اقتصادية وسياسية مفيدة لها، أهلتها لأن تنعطفَ بفهمِها الديني نحو آفاق الحداثة.
كانت الحرية الاقتصادية مقدمة لانتعاش الفئات الوسطى المختلفة، ورغم أن حكم الجنرالات كان حكماً دكتاتورياً، لكنه كان مركزاً على الناحية السياسية بدرجة أولى.
وحتى لو كان الحكم مؤسساً لأنظمة يمينية فاسدة وتابعة للغرب، لكنه كان مؤسساً كذلك لوحدة تركيا الحديثة الوطنية.
إن تركيا الخارجة من العصور الوسطى مثل بقية الدول العربية والإسلامية واجهت تحديين أساسيين؛ فثمة خطر المغامرة اليسارية المتطرفة الداعية لتحول تركيا إلى دولة إشتراكية عمالية تسحق البرجوازية، وكان هذا الخيار يجد صداه في العديد من المنظمات اليسارية المتشددة الصغيرة، وفي صفوف بعض قطاعات الجماهير الفقيرة المعدمة. وكان الخيار الثاني هو دولة رأسمالية حرة بشكل كلي وهو أمر لم ينضج بعد.
وتركيا دولة تسودُ فيها طبقة الفلاحين الفقراء، حيث تركيا هضبة كبرى واسعة شبه زراعية، ضعيفة الموارد.
ولم تحدثْ لهذه الطبقة إصلاحات عميقة، أو تحولات رأسمالية كبيرة، تحول فلاحي الريف إلى عمال.
كما أن القومية التركية هي قومية سائدة فوق الأكراد والعرب وغيرهم من القوميات الأقل عدداً، ولم تعط هذه القوميات حقوقها الكاملة، مما أوجد جماعات متطرفة رفعتْ السلاحَ وانهكتْ تركيا كدولةٍ تتوجهُ للتنمية.
إن تحقق الديمقراطية بنفس المستوى الغربي غير ممكن تماماً بسبب إن الفئات الوسطى لم تستطع أن تقوم بالتحديث الصناعي وتوحيد السكان حولها، إلا في بعض المدن الرئيسية، وهو ما جعل هذه الفئات تبحثُ عن الجمهور الواسع المغذي لها بالتأييد وبالإدخار المالي والاستهلاك.
وبين العلمانية الساحقة للتراث، وبين القومية ذات النزعة الأوربية والوطنية المعادية للعمال والشرق(المسلم المتخلف)، حسب فهمها، تقلبت هذه الفئات عدة عقود، حتى استقرت على صيغة تحديثية وطنية – إسلامية – علمانية.
إن دكتاتورية الجنرالات قد أفادت في جوانب معينة مهمة، وهي إبعاد الفئات الوسطى عن التجارة بالدين، وهو أمرٌ كان يضعفها اقتصادياً وسياسياً وفكرياً، ومع انقطاع هذه الفئات عن التجارة بالدين توجهتْ للاستثمار الحقيقي وتحرير النساء ودفعهن بأعداد كبيرة للعمل المنتج، كما فتح أفقاً لفهم مختلف للتاريخ والتراث، وحتى الآن فإن هذا الجانب يبدو أقل الجوانب حضوراً وانتشاراً بين الأمم الإسلامية.
وعبر هذه العقود فإنها أحدثت تراكمات اقتصادية مؤثرة، قادتها لأن تبرز على المسرح السياسي بقوة، وكلما قاربت الحداثة والعلمانية كلما تحقق لها نجاح أكبر.
ليست هذه القسمات السياسية والفكرية هي مجرد كلام مجرد، بل هي استثمار وأموال ومصانع وتجارة، فالتسييس الديني يدفع المجتمع للصدام مع الغرب خاصة، ومع المذاهب الإسلامية الأخرى ومع الأديان المختلفة، مما يقود إلى حروب نازفة للموارد.
وهو أمرٌ نلحظه الآن بوضوح شديد لدى الجماعات الدينية العربية والإيرانية والإفغانية التي تتغذى بالصدام وتريد توجيه بعض الدول العربية للحرب، ولكن كان لدى الطبقة الحاكمة التركية خاصة العسكرية خبرة مؤلمة في هذا الشأن، ورفضت طوال عقود سابقة الانجرار لمسألة الحروب حتى في ظل سياسة حلف الأطلسي.
فالتراكم الاقتصادي في دولة فقيرة كتركيا ليس سهلاً، كما أن النزاعات القومية والسياسية والاجتماعية، تجعل هذا التراكم صعباً ومؤلماً، لأنه إنتزاع لفوائض القيمة القادمة من المصانع وتوزيعها بأشكال غير متكافئة بين الطبقات.
وقد جعلتها سياسة السلام هذه تكبر على مسرح المنطقة، أكبر من دخول المسرح الأوربي.
فلا تزال معاييرها للتقدم أقل من المعايير الغربية، ولا تزال بعضُ القوميات لا تتمتع بحقوقها، وهناك تفاوتت كبيرة بين مستويات المعيشة بين الأرياف والمدن الرئيسية. والمعايير الغربية ناتجة من ثورة صناعية على مدى ثلاثة قرون بينما التحديث التركي قصير نسبياً، فهذا تشرطٌ على تركيا فاقد للمقارنات التاريخية والنسبية في التطور السياسي.
وقد تحقق للنخب السياسية الراهنة حضور على مسرح المنطقة بقوة كبيرة، فتلك التبعية للسياسة الغربية بحذافيرها لم تعد مقبولة لديها، والخدمة للسياسة الإسرائيلية صارت عاراً مرفوضاً، وتحرر السياسة الخارجية من هذه الوصمة صار أمراً شعبياً.
لكن هذه النخب كذلك لم تنجر للسياسة المعادية للسلام، ودعت حماس أن تحذو حذوها في وعيها السياسي، لكن حماس نتاج مجتمع متقطع متخلف، لم يعش مستوى حريات طويلة، ولم تنشأ فيه فئات وسطى مهمة، ولا عمالة تقنية رفيعة المستوى، وغزة أشبه بجيب جغرافي ملحق بعدة دول، وهي ذيل سياسي لدول متنفذة في المنطقة وأقل من تنظيم مستقل.
وهكذا كان الحضور الحكومي التركي مفيداً للعديد من القطاعات، فقد أوضح بأن السياسة العلمانية الوطنية ذات الجذور الإسلامية ليست انقطاعاً عن مهمات السلام والتحرر والتقدم.
≣ مشكلات العلمانية العسكرية
حين أسست الدولة التركية النظام العلماني شكلته بطريقة عسكرية دكتاتورية، أي عبر التنفيذ الصارم من قبل الجيش، وبدون إصلاحات عميقة في حياة الفلاحين والفقراء، واحتفظ الإقطاع والرأسمالية الطفيلية البيروقراطية بدوريهما الأساسيين في الحياة.
ومع ذلك فإن تركيا عبر منع التجارة بالدين حققت تقدماً كبيراً على الأقطار الأخرى المماثلة، ولولا المشكلة القومية الكردية، والتفاوت الكبير الطبقي بين الفقراء والأغنياء، التي تأسست فوق تلك العلمانية العسكرية، لكانت تركيا دولة أكثر تقدماً.
إن العلمانية العسكرية هي فترة ضرورية للدول المتخلفة الساعية للتقدم، ولمنع التجارة بالدين من قبل المحافظين، وهي يمكن الاستعانة بها حين تهدد المنظمات الطائفية سلامة الدولة، وتعرضها لخطر الانهيار، مع الحفاظ على الانتخابات والبرلمان والنقابات.
لكن مثل هذه العلمانية تقوم فوق جسد دكتاتوري، والأفضل اعتماد علمانية مختلفة، ديمقراطية، تتجذر كذلك في الثقافة الإسلامية.
إن القوى العربية الديمقراطية ملزمة بأن تقوم بتركيب أكثر تطوراً من الصيغة التركية، عبر تشكيل وعي نهضوي واسع الانتشار بين القوى السياسية الوطنية، يفصل الدين عن السياسة، ويشكل فقهاً إسلامياً ديمقراطياً، يدرج المسلمين نحو المساواة بشتى أشكالها، سواء بين الأجناس أو الطوائف أو القوميات أو الطبقات، أمام القانون.
وإذا كانت الصيغة التركية اعتمدت الآلة العسكرية والتسريع والشكلانية والإبقاء على الإقطاع، فإن العلمانية الشعبية الإسلامية العربية، تقومُ على أسسٍ مختلفة، عبر تصعيد الحياة الديمقراطية وتغيير حياة العاملين الأشد فقراً وتخلفاً، وعدم التركيز على الأشكال والملابس باعتبارها رمز الحداثة، وعبر احترام عقائد الناس وعباداتهم واختياراتهم.
فليست الحداثة باللباس، وليس الدين بالديكورات، وليس التغيير بمجاراة الغرب في كل شيء، وليس كل الماضي سيء بالمطلق أو جيد بالمطلق.
إن كل شيء يتحدد بمصلحة تطور المسلمين وتحررهم ونهضتهم، فهذا هو المقياس الذي نرى به العالم.
إن كل شيء نأخذه أو نستفيد منه ، وكل سياسة نصنعها نراها بهذا المقياس، هل هي تحررهم وتنشر التقدم بينهم، وتزيل بقع الاستغلال المتخلفة، وتطلق الملايين من أسر الأمية وأساليب الإنتاج البالية، وهل هي توحدهم وتنبذ التفرقة العنصرية والطائفية والجنسية بينهم، هل تشكل منهم قوة اقتصادية عملاقة وسوقاً ضخمة، وتزيل الحواجز الاقتصادية وتزيح القوى الأجنبية المتخلة..؟
إن قدرة القوى الوطنية العربية على تحديث المجتمعات العربية، هي مسألة طويلة الأمد، ولكن في كل لحظة سياسية راهنة تجابها الأسئلة الكبرى، كيف تمنع التجارة بالدين وكيف توحد الناس، وكيف تعزز التقدم بينهم، وكيف تنشىء مجتمعات أكثر تقدماً، وذات علاقة صحية بتراثها الديني السابق – الراهن؟
إن تراكم هذه العملية لو تمت يجنب بلداننا تدخل العسكر لإقامة علمانية تغدو ضرورة يوماً بعد يوم، في وقت يتصاعد الصراع المذهبي والديني، وفي وقت تعجز القوى الوطنية عن الانتشار وطرح نفسها كبديل عن التمزق وكقوة قادرة على حل مشكلات الجمهور في الفقر والاستغلال والتخلف.
وبدلاً من هذا الحل العسكري الذي سيغدو عنيفاً وكارثياً في العديد من الجوانب، لا بد أن ترى القوى السياسية على اختلاف ألوانها بأن التطور الديمقراطي التدريجي والعقلاني وتصعيد آلية الاجتهاد والإصلاح السياسي والديني، هي البديل عن مستقبل محفوف بالمخاطر، كل يرى إنه له، وأنه هو الفرقة المالكة للحقيقة.
≣ العلمانية التركية والسنة والحداثة
ليست العلمانية الإسلامية التركية الوطنية سوى محاولة أولى للمسلمين للخروج من استغلال الإسلام لمصالح القوى المحافظة.
فالذكور لا يريدون أن تتحرر المرأة وتتسع حقوقها مثلما فعل أجدادهم المحافظين في كبت وحرمان النساء.
والطبقات الغنية تجد في الدين غموضاً سياسياً اجتماعياً تستطيع أن تتلاعب من خلاله بمصالح الشعوب والعاملين.
والحداثيون درجوا من جهة معاكسة على ذم الإسلام واحتقار تاريخ المسلمين، وتعميم صفات الطبقات الغنية التي تحكمت في إنتاج نسخ الدين المشوهة واعتبارها هي الإسلام.
لكن تاريخنا التحديثي العروبي الإسلامي الإنساني يجب أن يخرج من هذه القيود، ويحتاج إلى جهود فكرية وسياسية مبدعة، لن تأتي بسهولة نظراً لتباين المواقع وتعدد مستويات الفهم وتناقض المصالح المؤقتة غالباً. وقد مثلت التجربة التركية قفزة في نحو ذلك، لأسباب تاريخية جعلت من تركيا مثل هذه البؤرة التجريبية لعالم المسلمين.
كان المذهب الحنفي من أكثر مذاهب أهل السنة تحرراً وعقلانية، ولكن القبائل البدوية التركية التي اعتنقت هذا المذهب في غابر الأيام لم تفهمه بشكل دقيق، ولا يعود الأمر سوى لتحكم الأمراء وفرضهم تبني المذهب، بدون ثقافة كبيرة في ذلك الزمن.
ولعل من أهم الأسباب في ذلك أن أصول الإمام أبي حنيفة النعمان كانت تركية.
لكن هذا التبني كانت له نتائجه المفيدة على الشعب التركي في العصر الحديث، فهذا الشعب البدوي المترحل استقر في أرض كبيرة، وكون أمبراطورية كبيرة، واستفاد من غنائم الأمم في تشكيل مدنه، واقترب من أوربا التي كانت متخلفة وراحت تتطور وتؤثر على الشعب التركي وتحدثه، مرة بانتزاع مستعمراته، ومرة بفرض الحداثة عليه.
لقد استفاد الاتراكُ من تبني المذهب الحنفي الذي يُقام على الاجتهاد بدون الخروج عن الأصول، وبإعطاء العقل مكانته الكبيرة في فهم الإسلام و مقاربته للعصور وللتقدم.
لقد كان الفقهاء الحنفيون مثالاً لخلق الفرضيات وقراءة المستقبل ومحاولة تطوير النصوص الدينية لحاجات مسلمي اليوم، فكان تقدم المسلمين يقع في بؤرة اهتمامهم، فقد فهموا أن النص في خدمة البشر وليس أن البشر في خدمة النص.
وهذه بداية فهم كبيرة لكون الإسلام ثورة نهضوية لكنها جرت بين سكان متخلفين، فكان عليه أن يراعي ظروفهم، ولا يتجاوز قدراتهم، ولكن هؤلاء الناس راحوا يتطورون وعجز فقهاء كثيرون عن اللحاق بهذا التطور، في حين إن الفقه الحنفي أحس بهذا المضمون المتواري دون أن يصل إليه، بسبب إن منهجية الفقهاء حينذاك تركز على الفقه الجزئي وليس الفقه الكلي، فقه التغيير الشامل، ومع هذا فقد كان هذا الفقه الجزئي المرن في تلك العصور مهماً.
وقد أحس الاتراكُ وهم يرتفعون في تاريخهم إلى ذروةِ الصراعات التاريخية العالمية الكبرى في العصر الحديث بأهمية تطور المذهبية نحو أفق العصر، ولم تأتِ إليهم هذه المعرفة العفوية إلا من تجارب مريرة مثل هدم الأمبراطورية العثمانية، واستعمار الشعوب الإسلامية، وإلغاء الخلافة، وإحتلال بلادهم، وتحولها من أمبراطورية إلى بلد تابع.
وقد فهم مؤسسو تركيا الحديثة الإسلام بنفس الفهم الشكلاني للعصور الماضية، مثلما فهموا الحداثة الغربية بذات الطريقة الشكلانية، ولا تزال الغالبية الكبرى تفهم الدين والحداثة على أنهما أشكال من الأزياء والشعارات.
فتكفي بعض الشعارات والأزياء لخلق الحداثة وللابتعاد عن الماضي المتخلف؛ ألبس قبعة، أزل الحجاب، عش مثل الغرب، وسوف تتحقق الحداثة. أو على العكس سوف يتحقق الدين من الأشياء المعاكسة: ألبس، وضع الديكور ويتحقق دينك.
وحتى هذه الشعارات كانت لها بعض القيمة، فحتى الملابس تحولت في تاريخنا إلى شكل من الاستبداد والسيطرة على عقول النساء، بدوافع الخوف من الأثم والأخلاق الفاسدة، وهي دوافع نبيلة غير أنها شكلانية، لأن الأخلاق العالية لا تتحقق من لباس.
لكن العلمانيين العسكريين الأتراك جاوزا ذلك لبعض مضامين التحديث الغربي، لكن المطابقة مع التحديث الغربي تتطلب ثورة صناعية، أي تحتاج إلى فوائض مالية ضخمة من عمل الناس، لم تتوفر في بلد فقير، وطبقته الحاكمة توجه الأموال للخارج والبذخ.
وهذا الفشل العلماني العسكري التركي يعود لنهج الطبقة الحاكمة ولا يعود للعلمانية التحديثية، فقد نجحت هذه العملية المتجاوزة للتخلف في روسيا والصين واليابان والهند، بسسب الحريات المتعددة المعطاة للناس، وللتركيز على التصنيع والتعليم وليس على قهر عادات الناس، وهي مرحلة حدثت في بلدان أخرى، ولكنها ما لبثت أن تخلت عنها مركزة على التطور الجوهري.
وقد عاد الاتراك للصراع على الحجاب والمشروبات وقضايا الأكل، كشكل من أشكال عدم المقاربة مع الثورة الإسلامية، وعبر التركيز على الفقه الجزئي، الذي لن يغير حياة المسلمين، بل يغيرها سياسة ثورية إصلاحية توزع الأرض على المعدمين، وتوسع التصنيع والثورة التقنية، ولا تجعل الأتراك بلداً يوزع عماله على الخارج، وبلداً يحرر القومية الكردية من الاضطهاد ولا يبعثر ميزانيته المحدودة في الحرب ضدها.
من المؤكد إنه إذا لم يستطع الجيل الراهن المقاربة مع التراث الإسلامي وآفاق التحديث الديمقراطي، فإن جيلاً آخر سيقوم بالمهمة، وقد أعطته تجربة الشعب التركي الغنية إمكانية لفهم جدلية التضفير بين الماضي والحاضر، بين تراث المسلمين الديمقراطي، وخاصة الفقه الحنفي، وبين الحداثة العالمية المعاصرة التي قام كل شعب بالمساهمة فيها بقسطه الخاص.
وتعني العلمانية هنا عدم التجارة بالتراث وتعني الأسلمة عدم تدمير وإلغاء الماضي العريق للشعوب، وأن على الطبقات الحاكمة والمؤثرة أن تخلق تركيباً بين الثورة الصناعية و(العدالة) الاجتماعية وحقوق القوميات والأقليات وحرياتها الخاصة في عباداتها ولغاتها.
مقاربة السنة للعلمانية ستكون أكبر من بقية المذاهب الإسلامية بسبب عملية الانفتاح والمرونة في الأحكام الفقهية وخاصة في المذاهب الثلاثة الكبرى المعتدلة، التي عاشت في المدن وركزت على الاجتهاد ومصالح الناس وتقدم الأمة والابتعاد عن الحكم والذوبان داخله.
≣ العلمانية والانتهازية الدينية
إن إزالة المذهبيات مثل إزالة الأديان مسألة غير مطروحة، خاصةٍ ان للمذاهب تطورات تاريخية عريقة، كذلك تختلف التوجهات السياسية التي تظهر في المذاهب عن المذاهب الاجتماعية كما يمارسها الناس، فهذه التوجهات السياسية تخترق المذاهب وتتشابك معها، غير أنها تختلف عن بنية المذاهب الاجتماعية، وهي تتيع موضات العصر والظروف السياسية المختلفة، وتأثير الحكومات، وتدخلاتها في صياغة هذه المذاهب بهذا الاتجاه أو ذاك، وأحياناً مؤامراتها لعرقلة التطور، أو أحياناً كشكل سياسي لسيطرة المحافظين الأغنياء الرجال وعرقلتهم لتحرر العاملين والنساء.
ولهذا فإن ادعاء الحركات السياسية أنها تتطابق مع المذاهب هو مجرد لافتة سياسية ترفعها هذه الجماعات بفرض استثمار المذاهب سياسياً؛ واتخاذها أداة في نيل الشعبية أو المناصب أو للقيام بأغراض سياسية متعددة.
كما أن المذاهب الاجتماعية التي تبناها الناس عبر التاريخ هي نفسها خضعت لتحولات سياسية واجتماعية كبيرة، بحيث إن طابعهاً التحولى المعارض لخدمة الناس تم إزالته أو تذويبه لخدمة السلطات والزعماء الدينيين والقوى المتنفذة، ولهذا فإن الحركات المذهبية السياسية تتوجه لاستغلال هذا الكم الخام في عملياتها السياسية المختلفة، ومن هنا تتعدد هذه الاطروحات وتتباين تبياناً شديداً مع صدورها عن مذهب واحد، مما يعبر بأنها لا تعود لمصدر مقدس حقيقي؛ ولو كانت تعود لهذا المصدر المقدس لما اختلفت كل هذه الاختلافات؛ وتصارعت حول شؤون مادية رخيصة محضة، أو لما استخدمت مثل هذه الأساليب الملتوية الانتهازية في سبيل الوصول للثروات والجاه!
إن هذه المذهبية السياسية تحاول أن تربط نفسها بالمذاهب الفقهية الإسلامية دون أن تقول بأنها مجرد حركات سياسية عادية أنشأها هذا الإنسان المعاصر أو ذاك في سبيل أن يصل إلى الحكم ويتمتع بنفوذ سياسي.
ولهذا فإن العلمانية العربية تحاول أن تفكك العلاقة بين المراجع الإسلامية المميزة العظيمة، وبين هذه الحركات السياسية المعاصرة، فلا بد من أن نسيّج رموزنا الإسلامية عن هذا الابتذال المعاصر، فمن المستحيل أن نرى علاقة بين الخليفة الراشد عمر بن الخطاب النزيه العادل، الذي طلق الثروة والجاه وحكم الناس بموضوعية وسمو، وبين الحركات المذهبية السياسية الراهنة، التي تضع المتفجرات في الباصات، والتي تخطف الناس الخ..
إن تنحية رموزنا الإسلامية عن الاستخدام السياسي الانتهازى المعاصر لا بد أن يكون عاماً شاملاً، بمعنى أن هذه الرموز للتداول العبادي وللتراث والحياة الاجتماعية للمؤمنين، وليس لاستخدامها في الانتخابات وصناديق الاقتراع ولصراعات القوى السياسية وخططها للسيطرة على البشر والمال العام.
فلا حزب سياسي أو جماعة فكرية تحتكر الرموز ولا هي مخولة بالحديث السياسى عنها، ولا بد من النظر أن أي تدول سياسي بهذا الشأن وأي تجارة سياسية إنما هي ستكون ضد القانون عاجلة إم آجلاً.
أي أن الناس سيقتنعون بعد تجاربهم بأن أي جماعة سياسية لا حق لها في التحدث عن الميراث السني أو الشيعي أو الدرزي أو المسيحي الخ.. وأن أي زعيم ينشق لخدمة أهدافه الشخصية وزعامته يجب ألا يحملها للمذاهب والإسلام، بل يلزم قانوناً أن يقول إن ذلك هو من أجل أهدافه السياسية الشخصية، وليس أن ذلك تم لخدمة الإسلام المفترى عليه!
سوف تعرف الناس ذلك بعد تجارب ربما تكون مريرة، فالعلمانية الشعبية الإسلامية سوف تشقُّ طريقها وسط الصعاب والآلام، منتزعةٍ الأقنعة الأيديولوجية الزائفة، محررةٍ الميراث الإسلامي العظيم من الاستخدامات الوضيعة للقوى الانتهازية وللمحافظين المتاجرين بلحم وروح هذه الأمة على مدى القرون السابقة.
≣ العلمانية الانتهازية
تنبع الديمقراطية من احترام تقاليد الشعوب، وتشكيل أبنية تحديثة من داخل هذه التقاليد، تعكس مصالح الأغلبية الشعبية فيها، وهذه عملية مركبة، لأنها فيها احترام وصراع مع هذه التقاليد كذلك.
ومنها تصعب على القوى الانتهازية أن تشكل هذا الموقف المركب، فهي تأخذ جزءً منه، وتترك أجزاءَ أخرى.
فالعلمانية حين تغدو انتهازية تصبح تابعة للمذهبيين السياسيين في جانب سياسي جزئي، هو التماشي مع هدف المذهبيين في تكوين ديمقراطية سياسية، تقتصر على جوانب صغيرة من الحياة، هي تلك التي تتيح صعودهم السياسي وتحولهم إلى قوة دكتاتورية في المجتمع، وحينئذٍ يكون مثل التأييد والتصعيد خطراً على الديمقراطية!
لو كان هذا الصعود يترافق وعمليات ديمقراطية فقهية وتحرر للنساء ونمو ثقافة وطنية، وصعود للفلسفة، وللنقابات الحرة، لما كان هذا الصعود يمثل خطراً.
تغدو العلمانية هنا انتهازية، وليست موقفاً شاملاً، وتسلقاً على موجةٍ شعبية ملتبسة، تسيطرُ عليها قوى محافظة غير مدركة لتعقيدات الموقف وغير قادرة على مجاراة عملية تحرر المسلمين وتقدمهم، ومن هنا حين يحاول بعضُ القادة ركوبَ الموجة فإن مسائل ذاتية تتغلب عليهم هنا، ويغدو هدفهم الشخصي طاغياً على مستقبل المجتمع.
مثلما أن العلمانية التي تجعلُ أوراقَ التحديثِ والتحرر كلها بيد الغرب، تمثل موقفاً معاكساً، ومماثلاً في الجوهر.
إن المميزات المشتركة بين هذين النمطين من العلمانية هو غياب ذلك الموقف المركب، المرتكز على مصالح الأغلبية، وعلى جذور الكفاح لدى المسلمين والمسيحيين العرب وكل التراث السابق في المنطقة، حيث لا يمكن لهذه العلمانية إلا أن تنهض فوق تلك المصالح وذلك التراث، ولكن بشكل نقدي يعري طبقات التخلف واللامساواة والاضطهاد، ويجمع تلك الأغلبية في موقف نضالي مشترك واسع وعميق.
ومن هنا يغدو عزل الجوانب المحافظة والمتخلفة في المذاهب، وتطوير الجوانب العقلاينة والديمقراطية والتوحيدية في التراث، ورفدها بإنتاج الإنسانية المعاصر الديمقراطي والإنساني، عملية سياسية بالغة الدقة، وموضوعية، لا تهدف إلى تسلط طائفة أو زعيم، بل تستهدف تجميع الناس التعاوني والخلاق لتشكيل وطن حر متقدم، يكرس كذلك احترام تقاليدهم ومذاهبهم وتطورها الحديث، بحيث أن لا تمثل تسلطاً على المجتمع أيضاً وعلى تنميته وتقدمه ووحدته.
ولهذا تحتاج العملية إلى سياسيين فقهاء علماء، أي سياسيين علمانيين إسلاميين شعبيين ديمقراطيين، في هذه العملية المركبة الدقيقة.
ومن هنا يغدو نفخُ جانبٍ واحد كالتعصب لمذهب، أو لجهة عالمية، تديناً ناقصاً، أو علمانية انتهازية، تكرس التخلف والتبعية لا التحرر والتقدم.
≣ الهروبُ من العلمانية!
يعلق أحدُ القراء على مقالتي (السياسة الأمريكية وتفكيك العرب) المنشورة في أخبار الخليج وفي موقع الحوار المتمدن تحت عنوان (جراة ووضوح: نور إسلامي) قائلاً:
(العالم العربي كان مقسوماً بين الخليجي والملكي الاستعماري على طول الخط والمتحرر العلماني الذي حاول الارتفاع بالعرب واتخاذ موقف مستقل محايد
وهذا القسم العلماني الشمالي والجمهوري العلماني هو الذي يتعرض للتفكيك والتفتيت والتدمير بمساعدة مباشرة من اليمين الديني الخليجي والملكي الرجعي
وأميركا لا تريد قوة مناوئة لها ولذلك تعمل على تصفيتها بذرائع الديمقراطية والانفتاح والاكاذيب.
لماذا (دول) الخليج والملكيات هي المستقرة بينما انقلبت الدنيا في البلدان الاخرى؟
هل تعتقد إن الدول الاخرى اليمينية والرجعية أهل لموقف عربي لبناء موقف أم أن في الفم ماء.
اقرأ على العرب والمنطقة السلام).
عزيزي القارئ هذا تقسيمٌ أحادي الجانب وغيرُ تاريخي، فالسيرورةُ التاريخية للأنظمة العلمانية الشمالية التي تكتبُ عنها مدافعاً غير مرئية في تطور تاريخي معين حسب تعميمك هذا، ولا نعرف لماذا تدهورت لكي تصير مكاناً خرباً لصراع الطائفيين العنيفين؟
لم تقمْ بتحليل بناها الاجتماعية المتناقضة والتي تكونت كدولٍ شمولية كرستْ الثروة لدى قواها العليا العسكرية خاصة، والتي عجزتْ عن تطوير بذور الحداثة والوطنية، وجعلتْ جمهورَ الشعب يرتدُّ للوراء بسبب هذه الهيمنة والفساد وتعملق قطاعات معينة مناطقية ومذهبية سياسية عليا عن المناطق الشعبية الواسعة.
كأن علمانيتها تلك ظهرتْ في الفراغ أو نزلتْ من السماء ولم تكن نضالاً محدوداً لم تعمقهُ القوى التحديثية وبسبب علاقات هذه القوى بالدول وحصولها على مكاسب سَدت أفواهها وسكتتْ عن الانزلاق نحو المذهبيات السياسية المحافظة.
لقد رأينا ذلك في بعض القوى السياسية والكثير من أدبيات المثقفين وغاب التحليلُ النقدي الموضوعي وتفشت الانتهازية!
تحول التدهورُ عن العلمانية والديمقراطية إلى صراعات دينية عنيفة، في الأقطار التي تقول أنها الشمالية المبتلاة بالتآمر، ولا تقول أنها خرقتْ فكرَها وفَسدت من الداخل وغدت مظاهرُ التغلغلِ فيها وإرجاعها للوراء وتفجر الحروب والصراعات السلبية داخلها نتائج لتحللٍ عميق.
ولا تبتعد بعضُ دول الخليج عن هذا التحلل وتشجيع القوى الطائفية العنيفة والتي أنتجت ظاهرات لا تقل خطورةً في إفغانستان وباكستان وغيرهما، ولا تقاومها حتى الآن بشكل سياسي منهجي بعيد النظر.
لكن الغرق في الصراعات الطائفية ومغامراتها بدأت تُعارضُ في العديد من هذه الدول، والموقف الكبير ضد الانزلاق الإخواني كان أحد المظاهر المهمة ولكنه غير كاف.
ولهذا فإن الانزلاقَ الواسع الخطر فيما غرقت فيه دولٌ الشمال(العلمانية) ممكن أن يحدث هنا في الخليج والعديد من الدول العربية إذا لم تحدث مقاومة شعبية ورسمية لهذا الانحدار الخطير، عبر إبعاد الدين عن السياسة، وعن الهيمنة على المؤسسات العبادية وإستغلالها في تفكيك الشعوب وشحن العداوات بينها، وإذ لم تحدث تحولاتٌ في أوضاع الجماهير الاقتصادية المنهكة، وتطوير المؤسسات البرلمانية والمنتخبة والصحافة الحرة.
إن جدلية الشعوب العربية شمالاً وجنوباً هي تحولاتُ أمةٍ متداخلة، أثرت فيها التراجعاتُ عن قسمات الحداثة في دول الشمال وبسبب الأنظمة العسكرية وطرق توزيعها الحادة للثروات وشن الحروب تصاعدت قوى ما قبل الحداثة وشنها الهجوم على الوعي الحديث البسيط عربياً وإرجاع الجماهير للوراء، وهذا ما أثرّ على الدول الأخرى، وأضعف من تطورها التحديثي الديمقراطي العلماني.
إستعانة الدول العربية بالقوى الطائفية في الخارج والداخل لشن الحروب والتآمر وإضعف العمليات الديمقراطية، إنعكس على الجميع وأضعف الأمة وتطورها المشترك.
يلزمنا الآن التصدي لهذه الظاهرات وعدم تكرارها بالقول أن القوى الإرهابية والرجعية والتباعة التي تصارعُ النظامَ السوري أو العراقي الطائفيةَ الدموية أو تحميهما هي قوى مفيدة وليست إجرامية.
يلزمنا المساهمة في تحول الأنظمة المحافظة الدينية المتعددة القوميات إلى دول ديمقراطية علمانية وتبصير الشعوب بما ينتظرها من فواجع إذا إستمرت في عدم رؤية الأخطار وأنساقت في تبعيتها لهذه القوى.
الحرائقُ تنتشر، ومعظمُ النار من مستصغر الشرر ولكنه لم يعدْ مستصغراً بل غابات سكانية ومدنية تحترق! فعاونوا في إخمادها لا في توسيعها!
≣ تحديات العلمانية البحرينية
حين يرحل المناضلُ العجوزُ ربما نؤجلُ البحثَ في تاريخه كله الآن، ونتذكرُ لحظةً مفصليةً مشتعلة من تاريخه، هي قراءته لهيمنة القوى الدينية المستغلة للإسلام لمسرح الحياة السياسية.
هذه القراءة ينبغي أن تكون موضوعية وعقلانية لترى الانهيار من جهتين: من جهةِ عدم فهم النظرية الاشتراكية ومن جهة عدم فهم الإسلام. لأن تلك اللحظة عكستْ خموداً من جهة وطغياناً من جهة أخرى. هيمنة القوى الدينية على مسرح اليسار (واليمين الليبرالي كذلك) قد جرت وهو في حالةِ أنقاضٍ وضرباتٍ من كل الجهات.
ثلةٌ قليلةٌ وقفتْ ضد هذا في مسرح المحرق السياسي حيث الغرف الصغيرة للحوارات الساخنة، وفي حالة عدم القدرة على إنشاء روابط واسعة في حياة الناس نتيجة لتاريخ دام طويل.
لن يذكر تاريخُ الأشباحِ هؤلاء القلة، والعجوزُ الكهلُ كان من ضمن هؤلاء، الذين قبضوا على جمرةِ الشعب المتوهجة في أيديهم.
تصدوا بأفكارهِم لدخولِ القوى المذهبية السياسية مسرحَ اليسار وإحتلاله، كان لديهم تاريخٌ طويلٌ من التضحيات، عملوا لتشكيلِ شعبٍ موحد، وزرع أفكار ديمقراطية وطنية تميل للعاملين ولكلِ قوى النهضة، رفضوا تسييسَ السنة والشيعة وإعادة البحرينيين لما قبل تاريخ الهيئة ونسيان تضحيات عبدالرحمن الباكر وعبدالعزيز الشملان ورفاقِهم الكثيرين، أي العودة للوراء، وتحويل الشعب الصغير إلى معسكرين، كان كارثةً بكلِ المقاييس، مهما ارتدتْ العمليةُ من شعاراتٍ براقة.
ليس هذا دفاعاً عن الحكومة بل نقداً لعملها في سد الأبواب أمام القوى الديمقراطية في العقود الماضية.
الإشكاليةُ بطبيعةِ الحال أكبر من كافةِ الشعوب العربية الإسلامية المفتتة، غير القادرة على التوحد النهضوي مجدداً، بعد اللمحات الوطنية النهضوية الليبرالية التي جرت في سماواتها المتفرقة، المتباعدة، التي انفجرت مثل الشهب في تلك السماوات، الوفد في مصر، والتوحد الوطني في العراق، والهيئة في البحرين وغيرها في كل بلد عربي.
التماعاتٌ سريعةٌ لأن الأصواتَ الديمقراطيةَ شاحبةً وضعيفةً في المجتمعاتِ العربيةِ التي تكدستْ الأبنيةُ الإقطاعيةُ فوق صدورِها ألفَ سنة، وجاءَ الاستعمارُ ففتحَ بعضَ القنواتِ الصغيرةِ لمرورِ الضوء وتركَ جبالاً جاثمة.
كانت شبكاتُ الغوص في المحرق لم تستطعْ سوى أن تحول القبائل إلى (فرجان)، وهي كلمة عامية تعني الفريق، فكانت القبائل فرقاً عسكرية، تجثمُ على مكان ويكون لها، ورغم تحول عامتها إلى عاملين، فإن الجذورَ العسكريةَ والأنتماءَ القبلي التحالفي ظلتْ مستمرةً فيهم، ومع كل تبدلات في الإنتاج تكون لها تغييرات لا تصل إلى زوال تلك الأسس القبلية المذهبية التحالفية.
وقد ظهر سوقٌ فيها، عبر نمو تراكماتِ الفيضِ الاقتصادي لزمنِ الغوص، في البحر والدكاكين، وظل هامشياً على ضفافِ المدينة خاصة، وكعروقٍ صغيرةٍ في أنحاء جسمِها المتماسك، كأنه القبائل العسكرية المتخوفة من الخارج، والمترابطة، ولهذا ستكونُ محكومةً بهذا الهاجسِ العسكري (السني)، الذي يستقبلُ أعضاءَ المذاهب الأخرى كعاملين لديه، ليس لهم إستقلال سياسي، وهو بهذا متخوف من المذاهب الأخرى ويخاف من إختراقه، ولهذا يتراص داخلياً ويتعصب، وتكونُ للمدينة بهذا نشأةٌ جغرافيةٌ مأزومةٌ بين البحر والبرية، في تضادٍ مع القريةِ ذاتِ الهويةِ المذهبية المغايرة، والمدينةُ تضعُ أوزارَ الغوص تدريجياً وتلبسُ أشكالَ الحداثة، كالقرية لكن الأخيرة تقومُ بذلك على زمنيةٍ أطول، ويتنامى السكانُ المدنيون في أزمةٍ معيشية، فالغوص توفى، والنفط ليس سوى أجور زهيدة تُدفع لعاملين محظوظين تمكنوا من الالتحاق بالجبل، وهو التسمية الرمزية لشركة النفط.
لم تستطع التجارة التي اتخذت صفة الدكاكين التي رضعت من أثداء الغوص ببيع حباله وخشبه ومواده المختلفة، وامتدت للبضائع الجديدة الأخرى الاستهلاكية غير الثمينة غالباً، أن تخلق (طبقة) تجارية في المدينة، بل بضع عائلات تجارية أمتدت قليلاً في شراء الأراضي، والعمارات.
ولهذا فإن مستقبلَ الطبقة التجارية سيكون في المنامة التي كانت لها مساحاتُ فراغ أكبر، وقدرة على المناورة المكانية أوسع من المحرق، وتوسعاً في الوكالات، وكذلك عرفتْ جدلاً إجتماعياً أكبر من المحرق، فتداخلتْ في أحيائِها الطوائفُ والمهاجرون وأنتشرت فيها التجارة على نحو كبير، والسمة العروبية السنية الكبيرة في المحرق تجاوزتها المنامة بتعدديتها الإسلامية والقومية!
تشكلت الوحدةُ الوطنيةُ الأبرزُ، العمودُ الفقري للبحرنة، من هاتين المدينتين، بتمايزهما وبتداخلهما، وصراعهما زمناً ثم وحدتهما النضالية، التي ارتفعت عن المذهبية وبدأت تصيغ الوطنية البحرينية!
لم يكن بإمكان مدينة المحرق أن تكَّون طبقةً تجارية، أو ثقافةً حضرية ديمقراطية، رغم نشؤ التعليم المبكر فيها، وظهور المجالس والمنتديات الثقافية والتعليمية، وكانت الرموزُ النادرةُ التي تعودُ للزمنِ التقليدي الثقافي كالشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة وعبدالله الزائد وعبدالرحمن المعاودة تؤكد الماضي الثقافي المبهر للمدينة وكذلك عملية الإنطفاء الثقافية وعدم قدرة هذه الرموز على إنتاجِ ثقافةٍ وطنيةٍ ترضعُ من التحديثِ لصعوبةِ المهمة وضخامة العراقيل.
وهذا يعكس من الناحية الاجتماعية الغائرة عدم وجود حوار مؤسساتي بين الشيوخ والعامة، وبين المدنية والقرية، فقد إنقسمتْ القبائلُ إنقساماً حاداً، بين قمةٍ وسفح، وتحول العامةُ إلى ما يشبه الرقيق في نظامِ الغوص، وسنجدُ هذه المرارةَ متفجرةً حادةً في شعر علي عبدالله خليفة، الذي أرتسمتْ في قصائدهِ عظامُ الغواصين الملتهبة وغرقُهم المستمرُ في الليلِ الاجتماعي، والذي تجسدَ بحراً لا يرحم وعلاقات إجتماعية إستغلالية بشعة، غير إنسانية، وكذلك صَورتْ تلك الأشعارُ التي أُنتجتْ في المحرق طبيعةَ المثقف البحريني في المدينةِ كفردٍ ينتظرُ المخلِّص، القادم، فيراهُ في البطلِ الشعبي، وفي الإنسان العامي الذي ينزلُ للصراع في الشارع، ويرحل، ويتحول لديه إلى أسطورةٍ، ورمز، أو يراه كذلك في الرمز السياسي العربي القومي: ناصر.
إن تحول العامة إلى ما يشبه الرقيق في نظام الغوص خلقَ عامةً مسحوقة غير متعلمة، حادةَ المزاج، بسببِ هذا الانحصار المعيشي وهذه المدينة الضيقة المزدحمة التي هي أشبهُ بسجنٍ كبير، وتشرّبَ الشبابُ هذه الأزمةَ وهذه العواطف الحادة وهذا الصخبَ السياسي المتفجر في المقاهي الكثيرة المنتشرة، وقام الراديو بربطِها بأحداث العالم، ولهذا فإن تأييدها لأدولف هتلر في الحرب العالمية الثانية غير مستغرب، فهي تبحثُ عن بطلٍ يقومُ بتوجيهِ ضرباتٍ حادة وقوية للاستعمار، أي أن يذلَ عدوَها البريطاني، مثل كل الشعوب الأخرى المكتوية بسيطرةِ الاستعمار ولا تملكُ قيادةً وطنيةً حصيفة، مثل غاندي في ذلك الوقت تماماً، الذي كان موضع سخرية من هذه الجماهير، وكان يجابهُ الأمبراطوريةَ العجوز بعنزةٍ، وراح يشاركُ في الحربِ العالمية الثانية ضد الهتلرية البغيضة.
عبدالله الزائد الذي تعاون مع السلطة البريطانية كان حصيفاً بعض الشيء في فتح قنوات التعاون في مثل هذه اللحظة التاريخية الهامة، والتي تجسدتْ ورقاً صحفياً وأدبياً بحرينياً لعبَ دوراً كبيراً أكبر من هذه اللحظة وأطلق بداية الكتابات البحرينية المخلتفة في المقالة والقصة والنقد والشعر التي قامتْ بالدورِ التوحيدي الثقافي كمقدمةٍ للتوحيد السياسي. لكن الزائد لم يكمل مشواره بسبب إن قدراته الفكرية والنفسية لم تكن متماسكةً وقادرةً على الاستمرار والتجدد وخلقِ إنتاجٍ مستمرٍ متابعٍ لمدينةٍ نهضوية.
إنحصارُ عبدالله الزائد وجفوةُ مدينتهِ له، مظهران لعجزٍ مشترك، فالمثقفُ الفردي النهضوي غيرُ باحثٍ عن أدواتٍ تحليليةٍ وتعبيرية مواكبةٍ لتطور المدينة، والمدينةُ المأزومةُ بعامةٍ مسحوقةٍ غيرِ صبورةٍ، تبحثُ عن إنقاذ سريع، يتحققُ في لحظات، حتى لو كان مدمِّراً، على هيئة هتلر، أو على هيئات آخرين يتابعون الصفعات الحادة للاستعمار البغيض فيما بعد ويسببون تحديات وإختراقات وربما كوارث، وإذا كان هتلر بعيداً ليس عن المحرق فقط بل عن الخليج ككل، إلا من طائرة عابرة تلقي قنبلة فاشلة، فإن نماذجَهُ سوف تتالى مع أزمات دول الشرق المتصاعدة، وتقارب المحرق بقوة من الراديو ذي السلطة الكبيرة في الشوارع، ويمكن أن تُدار المدينة من الخارج عبره.
إن الأزمةَ المعيشية والهياجَ النفسي وفقدان آفاق التحول الموضوعي، ومحدودية العناصر المتعلمة والمثقفة، وهشاشة (طبقة) التجار، غير المتجذرة في حداثة وقوة إقتصادية، والجذور العسكرية القبلية للمدينة، حيث يُحل كلُ شيءٍ بالقوة وحدها، هي كلها تجعلُ عنصرَ البطلِ العفوي والعاطفي الحاد والمتوجه للموجات السياسية القوية الطافية في البحر الاجتماعي هو القوةُ الصانعةُ للأحداثِ اليومية في المدينة، إنهُ ينفعلُ بقوةٍ بها، وينقلها للجماهير(المتعطشة للنضال القومي)، أو للنضال التقدمي العمالي، أو للإسلام النقي. (حماسٌ) قوي لا يعطيهِ فترةً للدرس، فقواهُ العاطفيةُ مشتعلة، وهو ينزلُ بقوةٍ لأزقةِ المدينة صارخاً، ويجمعُ عدداً كبيراً، مفجراً كميةً كبيرة من المفرقعات الكلامية، ثم يلوذُ بالفرار في الدروب الضيقة الممتنعة عن القمع.
لقد تشكلت بيئةٌ طبيعيةٌ مماثلة للكثير من الأحياء الشعبية في المدن العربية، وإن كانت بشكل مصغر، لكننا نجدُ نفسَ السببيات الاجتماعية التي أحدثت التحولات الكبيرة بقفزاتها وبانهياراتها.
وفي القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين كان الوعي ينقسم بشكل ثنائي مذهبي حاد يعكس التضادات بين القبائل والريف، بين المدينة والقرية، ولم تتشكلْ جسورُ الاتصال، وتكوين الشعب البحريني، إلا عبر تلك الفترة وعبر روابط الاقتصاد الحديث، وتقوقعتْ المذاهبُ بشكلٍ حاد، ولم يكن بالإمكان خلق حركة سياسية وطنية عبر ذلك، وهذا ما سهل الوجود البريطاني، فكان الوعي المضاد هو الذي كونته الفئاتُ الوسطى بين هذين الوجودين الاجتماعيين، وهو الذي قاد لتكون الحركات السياسية الحديثة. ولكن المذاهب حتى فيما بعد ربما غدتْ مرنةً في بعض الأحكام الفقهية لكنها بقيت على الوجود الهيكلي المذهبي الذي تشكل في القرون السابقة.
ولم تزد المقاربةُ العلمانية البحرينية هنا عن فكرة التسامح والشعار الإسلامي التوحيدي العام، والأخوة الوطنية المحدودة المتصاعدة. إن المذاهب تحتفظ بخصائص تكونها الماضوي، ومن الصعب أن تعيدَ تشكيلِ نفسِها حتى على المستوى الإسلامي العام في بضع عقود. ومن هنا تغدو الأفكارُ الوطنيةُ العلمانية دعوةً لتركِ خلاف المذاهب، وخلق مجرى سياسي وطني مشترك تتطلبهُ الضروراتُ الخطيرة في الحياة السياسية.
إن صدور توجه ديمقراطي علماني وطني لدى مجموعة صغيرة من مناضلي مدينة المحرق خاصة، كان شيئاً مذهلاً في خضم الانهيارات الفكرية والسياسية لليسار البحريني وهو يتعاملُ مع أزمةِ الرأسمالية الحكومية وعدم قدرتها على حلِ إشكاليات الاقتصاد والتطور الاجتماعي.
كان تغلغل الفكر اليساري داخل المدينة القومية ذات الجذور القبلية شيئاً صعباً، وبعكسِِ المنامة التي أحتضنت هذا الوعي ونشرته في القرى بسرعة.
علينا هنا أن نقرأ حيثيات مدينتين متقاربتين وصار لهما مساران سياسيان في بعض السنوات السابقة.
إن تمثل أدوات التحليل الموضوعية، ودراسة البُنى الاجتماعية وتناقضاتها وتطورها، ورؤية السياسة كشكلٍ من الموقفِ المقارب للأوضاع الحقيقية المحتمل تغييرها بأدواتٍ متواضعة، مثل المنشور والمظاهرة والخلية، هذه الأمور كانت مثار سخرية في خضمِ الهياجِ القومي، وهي أدواتٌ تحتاجُ إلى صبرٍ ودرس، وإلى عملٍ يومي لا يتوقف وصغير، وذي نتائج ضئيلة في الزمن الراهن، لكنه يتراكم وينمو ويشكلُ تغييراتٍ على المدى الطويل فهو يقاربُ العلومَ بينما ذاك يقاربُ السحر.
هذه الطريقة في العمل السياسي مغايرةٌ للأسلوبِ العربي القديم القادم من إجتماعاتِ الخيام وتجمعات المجالس، والذي يعتمد على القريحة والخاطرة مثل الشعر العامي، ويشكل الدكتاتور من جهةٍ ويشكلُ الخدمَ من جهةٍ أخرى، ومن هنا فهو لا يعتمد على التدقيق والتوثيق في فحصِ المشكلاتِ والرجوع للمصادر ولا يكَّون تنظيماتٍ مهمةً متجذرةً في الأرض، وحواريةً في بحثها الداخلي وفي حوارها مع الناس، ولا يخلقُ مناضلين ذوي كفاءات، بل يكونُ تنظيماتٍ هلاميةَ الأشكال، لا تعتمدُ على تنامٍ في القدرات العقلية والسياسية، ويكـّون شخصياتٍ متعاطفةً مع التيار اليوم وغداً مع غيره، وليس مناضلين أكفاء فيها حادبين على التطور الوطني الديمقراطي العلماني التوحيدي، ويضيفُ العملُ السري أعباءً على هذه العملية النضالية.
هذه الطريقة السياسية يصعبُ أن تخترقَ الجماعات الشعبيةَ الهائجة، فهذه ليس لديها قدرة على التمثُل الفكري وعلى الهضمِ السياسي العميق، فهي ترددُ المحفوظات في حالةٍ من الصراخِ والتبتل الديني. إنها في حالةِ تكهرب سياسية، وهي تغدو في أيةِ حالةِ تفكيرٍ عميقةٍ أو حوار تفقدُ الشحنةَ المُسَّربة إليها، وتعودُ للحالةِ السلبية، فالشحنةُ خارجيةٌ، شعاريةٌ، تـُقذفُ في سمعِها فتجثمُ هناك مطلقةً الحركة، مولدةً طاقةً يسيرةً فيها وعنيفة في الغالب لأنها لا تقوم على العقلانية. إنها دُمى إجتماعية ولم تصرْ بعد بشراً ذوي مواقف. اليوم لكَ وغداً عليك. (ألسنتهم معك وسيوفهم عليك) حسب خبرة التراث.
وعادة تعتمد الشحنة على المقدس الديني أو القومي. أو يجري تحويل أي شحنة سياسية إليهما. وبدون أن تصير السياسة مقدسة يفقد مثل هذا الجمهور طاقته. فهو يعيشُ عالم الرموز والعبادات المقدسة كل يوم وأن ينحو خارجها يحتاج إلى ظروف كبيرة.
لا يظهر من الجمهور المتكهرب بهذه الحالة السياسية أي إنتاج عميق في الثقافة أو الاقتصاد، وحالما يفقد الشحنة الوطنية أو التقدمية يعودُ لوجودهِ المذهبي العتيق. وقد تمرُ سنواتٌ طويلةٌ من هذا النضال السياسي الملتهب الممزوج بالعصير المقدس، وفي حالات مروعة هائلة من الحدة، ثم بعد ذلك يتحول هذا الجمهور إلى شيء آخر. إلى سكون فاجع. قال أحمد شوقي (إن الجمهور عقله في أُذنيه)، ولكن الجمهور هو صانعُ التاريخ في شروطٍ موضوعية وذاتية معينة. وقد بكى عبدالرحمن الباكر بعد إعتقاله ومحاكمته في قرية البديع قائلاً: أين الشعب؟!
ويمكننا مراجعة كتاب الأستاذ محمد السيد عن يومياته في المحرق في ظل أزمة الخمسينيات والصراع القومي العربي، فسنجد مثل هذه الحالات وهو يروي كيف تجري المظاهرات فيها بنفس الشعاراتِ كلَ يوم على مدى شهور طويلة تنتهي بالحرائق.
هذا هو الوجودُ العربيُّ الاجتماعي عادةً الذي يشكلُ السكان، ويحركُهم في الأزمات السياسية، وهو يعتمدُ على تنظيماتٍ هلامية، تجتمعُ بصورٍ ليس فيها تراكمات سياسية وتراتبية مدروسة تنتجُ معرفةً بالواقع وبتنفيذِ البرامج وبأحوالِ الواقع والناس وبقراءة تحولات العالم.
فمثل هذه المعارضة تشكلُ حالاتٍ من ردودِ الفعل تجاه سياسة رسمية معينة، تسمعُها وتهاجمُها، محاولةً تغيير الواقع السلبي وخدمة الناس. وهذه الطريقة الانفعالية التي تجري بصورةِ فعل القدماء على مدى التاريخ المغلق السابق، أي بتشكيل التضادات الكلية، وبصورة الخندقين اللذين لا يتقابلان، بصورة الإله أو الشيطان، سواء كان (العدو) حكومة محلية أم قوة إقليمية محتلة كإسرائيل، أو عدواً إستعمارياً شيطانياً كالغرب، هنا تلاميذُ الإله، وهناك تلاميذُ الشيطان، هنا معسكرُ المؤمنين وهناك معسكرُ الكفار. وليس ثمة من حلٍ وسط ولا بد من الاستمرار في هذا الصراع الجياش العواطف!
كانت حركة العامة بعد الخمسينيات هي التي أوصلت البحرين للاستقلال ولحدوث التحولات في الاقتصاد والوعي.
في الخمسينيات مع إحتكار المحرق لقيادة العمل السياسي الشعبي، كان من الصعب إحداث الاستقلال. كان الارتباطُ واضحاً بالخارج، كان البلدُ ترتبط بإذاعة صوت العرب، وبرموز مصر، وكان هذا غير مقبول في عُرف السياسة البريطانية بأي شكل من الأشكال وقتذاك.
كانت بريطانيا لا تزال تهيمنُ على بقاع الخليج، ولا تتصور عملية الانسحاب من(شرق السويس)، وكانت تضربُ عُمان بالقنابل فلا يمكن أن تتخلى عن شبر من الأرض عبر الصراخ.
وشكلت المحرق بتلك القيادة نهجاً مضاداً كلياً للقيادة البريطانية، وحين اقتحمت قواها العسكرية المدينة، بعد حدوث (الفوضى) وحفاظاً على (السلام الاجتماعي)، فقد انتهت لغةُ الهياج القومية المطلقة، لكن لغة الهياج النسبية سوف تستمر إلى حين.
أخذت المنامة في البروز في القيادة السياسية، فالحركةُ الاقتصاديةُ راحتْ تتنامى في هذه المدينة التي أخذت تتوسعُ وتلتهمُ البساتين والخلاءَ والشواطئ، وصارت مركز الحركة الاجتماعية وظهرَ العمالُ كطبقةٍ واسعة فيها، وبعدما كانوا مادةً لحركةِ الهيئة نزلوا مدافعين عن وضعهم المعاشي، ودخلتْ مصطلحاتٌ جديدةٌ في الحياة الفكرية، بل منهجيةُ وعيٍّ مختلفة: كلمات مثل الامبريالية والطبقات، والانتاج، والبناء الاجتماعي، والسببيات والقوانين الاجتماعية، وماذا يعني الاستعمار اقتصادياً وغيرها، كان دخولها بمثابةِ منهجيةٍ جديدةٍ وتأملاً أكثر عمقاً من الخطاب السياسي السابق. وهو أمرٌ إنعكس على طبيعة المنظمات السياسية، وصغرها ونوعيتها المتماسكة المطلعة، وتنامي روابطها مع الناس كذلك.
الفروقُ كبيرةٌ بين مصطلحاتِ الجماعاتِ بين المدينتين وأساليب العمل السياسي.
كان تتويجُ الحركة التي نبتتْ في المحرق هو العنف الكاسح، هو الحرائق التي التهمت أبنيةً، وكان هذا تعبيراً عن المضمون الداخلي للحركة، فهي ليس لديها شيء إجتماعي تطرحه، شيءٌ يضيفُ للبلدِ نقلةً سياسية أعلى. إنها تظاهراتٌ حادة مستمرة تشعر بالفوران العاطفي كل يوم دون نقلة جديدة، وقد أصيبتْ الجماهيرُ بمسٍ سياسي، لا تقبل فيه أي مراجعة لشيء، حتى تقفز في لحظة الهياج العارمة إلى أكبر شيء من العنف وفرض إرادتها بالقوة النارية!
هناك دائماً الجندي المجهول للعنف، والذي سوف يكونُ بديلاً لمناقشةِ من المتسبب في الحرائق والتكسير والقتل؟ والأصابع المختلفة سوف تشيرُ لجهاتٍ متعددة، وبطبيعة الحال سوف تتداخل الإراداتُ السياسية لجهات، ويحدث التنصلُ منها جميعاً، وهي مشتركة في العنف جميعاً.
ومن هنا فالذين قاموا بالعنف والذين حرضوهم والذين خططوا بمهارة لأحداث ذلك وهم ينتظرون بقواتهم الدخول إلى المدن، والذين أرادوا الانتقام من مؤسسات أجنبية رأوا فيها صورة المحتل، كل هذه القوى لن تعترف بما فعلته، ويشترك في هذا (المتحضر) الأجنبي و(المتخلف) الوطني.
لن تُناقش تلك البذورُ السياسيةُ والشعارية التي زُرعت في أرضِ الكراهية المطلقة، في ذلك الأصطفاف العدائي الرهيب؛ بين الشعب الذي يُحقر ويفقر وقوى التسلط المطلقة في فرض الأحكام.
وبعد هذا يحلُ الهدوءُ ويتمُ طمس ذكرى الضحايا ويتوارى المجرمون وتبدأُ مسيرةٌ سياسية جديدة، تسدل الستار على الماضي ذي الأشباح المخيفة، لكن ذكريات العنف والحماس الأهوج سوف تتركُ بصماتِها غير المرئية في النفوس والعقول. البسطاء الذين تم جرهم في غمرة الانفعالات الحادة والذين لم يخسروا شيئاً كثيراً واختفوا وعادوا لبيوتهم سالمين، ستترك الأحداثُ أشياء كبيرة في نفوسهم، سوف ينظرون بأحتياط أكبر للمتعلمين الذين جروهم لمثل هذه الأحداث، سيشعرون بخيبةٍ هائلةٍ بأن كل ما فعلوه وتعرضوا له من عنف وضرب وخوف من العقاب وما ضحوه به من مال ووقت، لم يغير شيئاً في الواقع، الواقعُ الظاهرُ الذي يلمسونه، غير قادرين على التغلغل لما تحته، بل يرونهُ قد صار أسوأ، فهذه القوى العسكرية الأجنبية قد اقتحمت الدروب، واقتادت شباباً كثيرين للسجون، وحلَّ صمتٌ، وحلَّ يأس.
لهذا حين تبدأ المنامة بالنضال الوطني يكون ذلك بشكلٍ جديد، مغاير لما سبق!
ومن تلك الكتل الكبيرة غير المسيطر على إنفعالاتها وجياشانها العنيف تخرج جموعٌ مُنظَّمة، وتتشكلُ نضالاتٌ صغيرةٌ مدروسة، وتتوسع، ولا تحدث أضراراً في المباني حتى ولو بالتكسير الطفيف!
كانت هذه نقلة تمت في بضع سنوات، ولها سببياتها!
ومن حيث الأفكار تكون العلمانية البحرينية قد إنتقلت لخطوة أبعد، بل وقفزة، رغم أنها لم تؤسس نفسها جيداً ولم تدرس تاريخها بعمق، ولم تحلل المذاهب والواقع، بل توجهت للنضال القومي، والنضال الأممي التقدمي ، وهكذا في بضع سنوات قليلة تكون قد حلقت في الفضاء السياسي على هيئةِ نخب صغيرة. وتبقى الجماهيرُ العاديةُ مشاركةً في شعاراتِ كلِ مرحلةٍ حسب مقاربتها لحياتها الاقتصادية وما تقوم به تلك الشعارات من تغيير تلك الحياة ذات الفقر والبطالة وسوء السكن.
إن التحولات التي جرت للجمهور العريض في مدينتي المحرق والمنامة كانت متناقضة، الجمهور دخلَ في حالةِ يأسٍ شديدة بعد القضاء على حركة الهيئة، لم تعدْ المنشوراتُ الصاخبةُ تحركهُ، الإذاعاتُ التي لا تزال فوارةً بالجملِ الملتهبةِ ما تزالُ مسموعةً غير أنها تنزلُ على حديدٍ بارد.
تركتْ حركةُ الهيئةِ الناسَ بلا قيادة، لم تنشيءْ أي مجموعة بديلة، لم تؤسسْ فكراً منتشراً بين المتعلمين، لم تتركْ تراثاً أدبياً يخلقُ هويةً أو تياراً، بدتْ الحركة ونتائجها أشبه بانفجارٍ كبير لم يخلف أثراً، أو أرثاً. فالحركةُ الصاعقةُ المليئةُ بالخطبِ الرنانةِ والاجتماعات الحاشدة واللقاءات الحماسية، كانت تبدو للجموع بأنها خالدة، فيكفي منظر هذه الحشود التي تخرجُ من الحارات ومن القرى وتندفع لأمكنة الاجتماعات، والورق الصادر من القيادة الذي يدعو لكذا وكذا من القرارات والتي تـُلبى، يكفي هذا كله لاقتناع هذه الجماهير بأنها باقية بهذا الشكل للأبد.
لكن الجماهير أختفت فجأة! والسطورُ الملتهبةُ لم تعد تحرك أحداً!
كان ثمة أحساس واسع النطاق بأن ثمة أخطاءً كبيرةً حدثت، لكن أين؟ ومن الذي ارتكبها؟ كانت أسئلةً تدورُ في الفضاء بلا إجابة!
أذكرُ كتيباً صغيراً قرأته بعد سنواتٍ من كهف الحزن الشعبي هذا، بعنوان (المد والجزر في الحركة السياسية)، وهو مكتوبٌ بخط اليد ويتم نسخه وقراءته وتداوله، وثمة عقلٌ في هذا الكتيب يتساءلُ لماذا حدث ما حدث؟ لكنه لا يناقش تلك التجربة الخمسينية عبر تحليل ملموس لطبيعتها الاجتماعية ولأدواتها الفكرية والسياسية المخلتفة، بل من خلال تجريد عام.
يطرح الكتيبُ هذا التصور العام للحركات السياسية، وأن المجتمع مثل البحر فيه المد وفيه الجزر، والناس يحدث لها ما يحدث للبحر، تتمدد وتنكمش، وعلى المناضلين أن يكونوا في كل وقت، خاصة وقت الجزر حين يحدث اليأس، ويفقد الناسُ الحماسَ للسياسة!
ليس في الكتيب على ما أتذكرُ أية حيثيات سببية عميقة، ويتم دمج المجتمع بالطبيعة بشكلٍ ميكانيكي، فلا تُدرسُ بُنيةُ الواقع الراهنة، وما يجري فيها من أوضاعٍ اقتصاديةٍ وإجتماعية وتحولاتٍ، وعلاقة ذلك بمعاشِ الناس وأفكارهم.
لكن الكتيب عبّر عن رؤيةٍ جديدة بدأت تدخلُ الواقع الوطني.
أجل كانت ثمة بذور تنمو. فمن الحشود كان ثمة نشطاء شباب تبعوا تلك الأحداث وتحمسوا مثلها، وحين أختفتْ لم يعرفوا كيف يوظفون طاقاتهم. حين نقرأ ما كتبه الشاعر قاسم حداد في كتابه (ورشة الأمل) عن لحظات الهيئة وكيف أنغمرَ هو الفتى بالحشود متحمساً مذهولاً مما يحدث، ثم تتالت فتراتٌ من التخمر التي تحولت شعراً سياسياً حاداً ورغبة في إسقاط الواقع بذلك النفس المحرقي الصاخب، فندرك بأن صخب الفترة قد أمتد للجماعات الشبابية الصاعدة في ذلك الحين، على طريقتين؛ أستمرار خط الهيئة خاصة خطها العامي الحماسي والذي سوف يتنامى في الجماعاتِ القوميةِ والتجماعات التنظيمية الفضفاضة والمتصفة بغياب البرامجية الدقيقة، أي سوف يستمر خطُ الحماسِ المتأجج الذي يضعُ رغباتَهِ وحماسه محل الواقع. وتغدو أداته البارزة: العنف، ويعتبر نفسه جزءً من كيان عربي سواء تمظهر عند الخليج أو أتسع ليشمل الوطن العربي. وخطٌ آخر سوف يدرسُ الواقع بتحليليةٍ أكبر ويبرمج أعماله السياسية. ويربط نفسه بالبلد خاصة.
إن مسألة التحليلية وقراءة الواقع وسببياته مسألة مهمة، وهي تحتاجُ لأداةٍ فكرية، ولمصادر وحلقات درس وعمل، ولهذا فإن الشباب الذين تأملوا حركةَ الهيئة وارتبطوا ببعضِ أنشطتِها وبأعمالٍ إجتماعية ونضالية كانت من موجتِها، سوف يتوجهون للجمع بين البحث وتكوين مؤسسات تعليمية وثقافية على شكل أندية ليحركوا الجمهور بشكل آخر، غير الصخب السياسي، محاولين كسر اليأس الذي أطبق على النفوس سنين عديدة.
إستمرار التجمعات الفضافضة، غير الداخلة في علاقة تحويلية يومية للجمهور البسيط في مواقع عمله وأحيائه، والتوجه الجديد بخلق بنية تنظيمية دقيقة مثقفة مُحّولة لها تلك العلاقة، وتستند على برنامج، هذه طبيعة المخاض الذي تولد من حركة الهيئة.
لكن الاتجاهات كلها هذه كانت في الحراك القومي وكذلك البذرة التقدمية معاً، حيث كلها كان أجهها المركزُ المصري الناصري، للنضال الوطني، وهذا ما جعلها ضمناً من خط العلمانية المرتفعة فوق تمزق المذاهب وصراعها، فكانتْ وريثةُ الهيئة كذلك وحضورها الاجتماعي، وهو أمرٌ مثل جبهوية شعبية في ذلك الأفق الفكري الوطني المتصاعد. كانت نضالاً على المستوى القومي بدرجة كبيرة ونضالاً على المستوى المحلي، حتى بدون تباين ودرجة من الاستقلال بين القومي والوطني، وهذا ما يؤدي إلى فصل للجانب الآخر، أي الجانب الوطني أكثر من الجانب القومي في المرحلة التالية.
لكن هيئة الاتحاد كانت من الناحية الفكرية لا تقدم سوى شعارات، وتجمعُ قوى الطائفتين في حراك سياسي مشترك، دون هيئة تنظيمية توحيدية فكرية، لعجزها عن قراءة المذاهب، ولعدم قدرتها على إيجاد إيديولوجية لأنها لم تكن بمستوى ذلك، ولم يعطها الوقت مثل هذه الإمكانية لصهر القوى الطليعية في فكر سياسي وطني.
كان نشؤ جبهة التحرير الوطني البحرانية هو بلورة إذن لتلك العلمانية القومية الوطنية المتداخلة. والتسميةُ تشيرُ إلى الإشكاليةِ التي وقعتْ فيها الجماعةُ، فهي منبثقةٌ من إضرابٍ عمالي مباشر وقع في منتصف الخمسينيات، وهو أمر يعطيها بعداً نقابياً عمالياً، لكنها وضعت اسم جبهة تحرير وطني، مما يشير لمهماتٍ تحريرية كبيرة وصعبة في هذا الزمان وهذا المكان، وهو صدى لاسم جبهة التحرير الوطنية الجزائرية المُشكَّلة وقتئذٍ في ظروف مغايرة. وبين التعبير عن العمال والتعبير عن الوطن، تنامتْ الجماعة، معتمدةً على قاعدة عمالية ولكن بدأ متعلمون يمسكون بالخيوط.
في البرنامج السياسي الأول الذي ظهرَ في البلد نقرأ عبارات محددة:
(من أجل دولة ديمقراطية ذات سيادة مستقلة إستقلالاً حقيقياً وذلك بإلغاء الحماية ومعاداتها الاسترقاقية غير المتكافئة وذيولها المفروضة على شعبنا)، (تصفية القواعد العسكرية الأجنبية وجلاء القوات الأجنبية)، (قيام حكومة وطنية ديمقراطية تعملُ لصالحِ الشعب وتطهير الأجهزة الحكومية من العملاء)، (إقامة نظام وطني ديمقراطي بإقامة مؤسسات ديمقراطية تكفل الحريات لجموع الشعب وقيام برلمان وبلدية منتخبة)، (ووضع دستور يأخذ بعين الأعتبار الظروف الموضوعية لبلدنا)، (إنشاء جيش وطني)، (مساواة المرأة بالرجل في كافة الحقوق) الخ.
غدت هذه العبارات الآن عادية لكنها في سنة 1962 لم تكن بمثل هذه السهولة، ويهمنا هنا هذا التبلورَ الفكري في العبارات القصيرة المكثفة والذي أزالَ التطويلَ والحشو، في صيغةٍ برامجيةٍ واضحة، وفي المضمون الداخلي جرت بلورةٌ إختزالية، عَبرتْ عن رؤى القوى السياسية العربية في ذلك الزمان التي تتسم رؤاها بالحسم، فتشكلُ نظاماً جديداً تصيغهُ هي لوحدها، وعبر صوتها القوي، لكن بدون حيثيات عميقة تصوب وتعمق هذا المسار، فما هو الدستور؟ وكيف يُصاغ؟ وكيف تتشكل المساواة بين الرجل والمرأة؟ لو ظهرت مثل هذه التحليلات لأدخلت الوعي السياسي في إكتشاف أعمق للواقع.
وفي العمق نقرأ ثنائيات متضادة كلياً: وطنيون/عملاء، شرق متحرر/ إستعمار غربي، دكتاتورية راهنة/ ووطنية ديمقراطية قادمة ناجزة، إستبداد ذكوري راهن/ ومساواة تامة بين الجنسين الخ.
في هذه الأهداف التي صاغتها جبهة التحرير الوطني البحرانية وقتذاك، قفزةٌ عن اللغةِ القوميةِ الدينية السياسية السائدة، وبلورة للأهداف، وتحديد بناء وطني متكامل، لكن لا تخرج هذه اللغة كذلك عن مناخ الوعي القومي الديني، فتقوم بتحديد معسكرين مجردين، وأهدافَ مجردة كبيرة عامة، ليس بإمكان القوى السياسية الراهنة وقتذاك تحقيقها، لكنها سوف تدفعُ القوى نحو تحقيقها وهي بشكلها المجرد ذاك.
فإستقلالٌ تامٌ ناجزٌ وزوال الاستعمار وظهور نظام وطني ديمقراطي هكذا بالمطلق، تكمن وراءه قدرةٌ سحرية ولا شك، ويمكن تحققها بالشعب المارد، وبهذا فإن اللغة السياسية هذه رغم قطعها لمسار الانتفاخ العاطفي السياسي السائد لم تخلُ هي الأخرى من ذلك. لكن هذا هو المناخ المسيطر.
ورغم بساطة الكلمات وإختزالها للظروف وإطلاقها وكونها لا تتسم بوضعِ أهدافٍ واقعيةٍ ممكنة في الراهن، لكنها من الناحية التاريخية ذات أهمية بالغة، بسببِ تلك البلورة لأهدافِ شعب، سوف تتحققُ فعلاً لكن ليس بصورةٍ آحادية بل من خلالِ صراعِ وتعاون القوى الاجتماعية المخلتفة.
إن الأدبيات القادمة من الخارج والتلاقح العربي التقدمي والاستفادة من تطور حركة اليسار العالمية، لها فوائدها في التحديد السياسي وبلورة الصياغة وتحديد الأولويات ولها أضرارها كذلك.
فلا يزال جو الحماس العاطفي والتصدي للغرب الاستعماري المجرد مسيطراً، وثمة معسكرٌ عالمي يزيل الغرب، والحركةٌ الوطنيةٌ جزءٌ من هذا المعسكر المتقدم لتنظيفِ القارات من (رجسِ) الاستعمار، بل أن الأنظمة الوطنية العربية موجودةٌ ومتسعةٌ وسوف تزيل أنظمة (العملاء).
تستلزم هذه الأهداف الكبيرة تضحيات جساماً على مر الأجيال، ولكنها على الأرض الملموسة تتطلب خطوات صغيرة بسيطة مثل القراءات وتكوين الخلايا والقيام بالدعاية السياسية، وهي أمورٌ تتجاوزُ طرقَ السابقين، سواء في الهلاميات التنظيمية للهيئة أم الأبنية الفضفاضة للقوميين، وكلما تقدم التنظيم في تجذرهِ على الأرض واصلَ العملَ لتطبيق ذلك البرنامج الحاسم.
وهذا ما يؤدي إلى صعودهِ على بقية التنظيمات التي تفتقدُ مثل هذه الطريقة السياسية وعمليات البحث في الواقع وجذب الجمهور العمالي خاصة. ولأنهُ بصددِ تنظيمِ ذلك البرنامج الجذري الذي يخلقُ نظاماً وطنياًً، يُضمرُ شموليةً إشتراكية متوارية، وإذ تمتلك الأفكارُ الماديةُ الجدلية ثقافةَ الجبهة فهي تعزلُ الدينَ، ويغدو خارجَ نطاق وجود العضو، فكأنهُ بلا تاريخ، بسبب عدم وجود قدرة وقتذاك على قراءة التراث بعمق، والمستوى الذي سيطر فيه واستمر، ورؤيته كواقعٍ راهنٍ محافظ، ويتجلى خاصةً في الحركات المذهبية، وهو أمرٌ سيؤدي في النهاية إلى التعثر في هذا التاريخ.
ومن البداية فإن التغلغل في العمال سيغلب عليه طابع السكان في أي مرحلة، فمع التوازنات السكانية المذهبية، وأنتشار الأفكار القومية واليسارية، سيغدو الاتجاه العمالي وطنياً قوياً، مع عدم بروز قيادات سياسية مذهبية، لكن هذا التوزان سيختفي ويتزايد حضورُ العمال المتأثرين بطائفتهم وحركتها السياسية، وهذا التحول في نسب القواعد يؤثر في تلك الصدامية الحاسمة الباترة للنظام، فتتمظهرُ وراءها كذلك عداوةٌ حاسمة طبقية – مذهبية.
فتؤثر الصراعاتُ المذهبية السياسية على قوى اليسار (العلماني) فتتجه جماعةٌ لناحية وتتجه أخرى لناحية، ويحدث إصطفافٌ مذهبي متوارٍ في أغلب الأحيان.
إن الشعارات الاشتراكية تضعفُ ويرتفعُ طرفٌ سكانيٌّ في عملية الصراع ذي خلفية دينية فيؤثر هذا على مسار هذه الحركات وإصطفافها، عبر التأثير الطبيعي العفوي غالباً، كالتأثيرات اليومية والعائلية، ومع تنامي المراكزُ الإقليمية المذهبية، وتآكل قواعد التنظيمات اليسارية، تدخل التأثيراتُ المذهبية السياسية داخل هذه التنظيمات وتتأثر بالسائد وهيمنته.
بدأت جبهةُ التحرير بالنسبي، أي بالنضالِ الممكن، وبالدفاعِ عن مطالب العمال، وحقوق الشعب في الحرية والتقدم عامةً، وهو أمرٌ مفيدٌ ويؤدي لالتفاف الجمهور الذي يعاني ويطالب، ولكن البرنامج السياسي الذي قرأنا بعضَ لمحاتٍ منه يقودُ للمطلق، والارتباط بتصفية النظام وإستبداله بنظام آخر، والاندماج مع حركة المعسكر (الاشتراكي) الهادفة للقضاء على الاستعمار والرأسمالية قضاءً مبرماً.
بين النسبي الممكن والمطلق غير الممكن تاهتْ الخطواتُ السياسية للجبهة، بين النضال المطلبي المستمر والانقلاب السياسي، وهي إذ لم تعلن القضاء على الرأسمالية، لكن أدوات الوعي المتداولة من فكر الماركسية – اللينينية كلها تقود لهدف غير معلن وغائر ومستمر.
لا يستطيع العمالُ بشكلٍ عام إستيعاب الماركسية، لأنها فلسفة مركبة من عدة علوم، وقد يستوعبون شعاراتها السياسية في مناهضة الرأسمالية لكن عملية إستيعابها على نحو واسع من قبلهم، أمرٌ يتجاوز مداركهم وظروفهم الصعبة.
وقد يستوعبها أفرادٌ بشكلٍ عميقٍ فيكونون أقرب للمثقفين، وما راج في الشرق هي نسخٌ مشوهةٌ من الماركسية، قامت بتوزيعها الرأسمالياتُ الحكومية (الاشتراكية)، فلم تنتجْ وعياً منهجياً مستنداً على أدواتِ تحليل الماركسية، ولهذا لم تحقق خصباً بحثياً لدى التنظيمات التي تبنتها، فكان ذلك إرتباطاً بالمعسكر (الأشتراكي) ومسيرته في تشييد الرأسماليات القومية، وحين إنتهت الحرب الباردة، سقطتْ هذه النسخُ من الماركسية، أو عجزت عن الاستمرار، أو فقدتْ قدراتها على تمييز الديمقراطي العقلاني العلماني من الطائفي والمحافظ، فسادت عموماً عمليات الشعارات.
إن الارتباط بالمطلق (الأشتراكي) في تجربتنا المحلية جعل الطريق مفتوحاً للانكسار والترابط مع الجماعات الدينية ذات الأهداف الانقلابية فيما بعد. في حين كان قوى دينية أخرى ترتبط بالنظام وبالفئات الوسطى والصغيرة وقد تراجعَ حضورُ العمال لديها، وتتشكلت لديها معارضات نسبية في الأقل، ولم تتوجه للمعارضة المطلقة بشكل عام، وهي القائمة على الهويات المذهبية.
والارتباط بالنسبي غذا نمو الجبهة الديمقراطي ووسع تحالفاتها ونما القوى الاجتماعية المختلفة. في حين إن المطلق قربها من الضفة الأخرى.
تجسد النسبي عبر مشروعات سياسية ممكنة، في النضال المطلبي والنضال البرلماني الذي تفجر في بداية السبعينيات، ومع غيابهما انسدت الآفاق أمام التطور الداخلي الديمقراطي في الجماعة، ومع تضخم الرأسمالية الحكومية المحلية ورفضها للنقد والمراقبة، فإن آفاق المطلق تنامت وفاضت على الجميع.
ومن جهة فقد سقط الاتحاد السوفيتي ومن جهة أخرى ظهرت التجربةُ الدينيةُ الإيرانية مندفعة نحو شموليةٍ توسعية وأحتاجت إلى إشعال المنطقة حولها بالتوتر، لكي تنطلق في هيمنة قومية، جعلت من المذهبية جسراً لها.
هنا جرى مخاضُ اليسار المتصدع أكثر فأكثر، وكان لا بد للفئات الوسطى الصغيرة أن تتذبذب بقوة نحو الموجة الأقوى في المنطقة وفي البلد.
وساعدت ضرباتُ القمع لهذا اليسار من هذا التصدع الداخلي ومن المقاربة مع المذهبيين السياسيين، ولم تكن الأدواتُ السياسيةُ المشتركةُ سوى قناع للمذهبيين لكي يفرضوا سيطرتهم ويتحكموا في الصفوف الوطنية، فهم الذين يقودون والآخرون مجرد مؤيدين.
أكثر من ثلاثين سنة من التربية السياسية ومن نشر الأفكار ضاعت بسرعة شديدة، وغدا الانفجار الذي أعقب سقوط الهيئة انفجارات، حيث العنف الأهوج هو الوسيلة الوحيدة.
تنمية مواقف العمال وتصعيد الوعي الديمقراطي، ونشر التنوير هذه كلها تلاشت، بسبب هذا القهر الطويل، وذوبان فكرة لم تكن موجودة إلا كشعارات، أما سياسة الصدام الطويلة، فقد استعارها آخرون، والبديل المذهبي السياسي كان أكثر قدرة ولكن القدرة وقفت عند شق خريطة البلد وشق صفوف المواطنين لا هزيمة النظام.
من اليسار ومن جعل الطبقة العاملة صاحبة الصوت الأساسي في الحياة السياسية ينتهي ذلك إلى تصعيد دور المحافظين الدينيين في الحياة السياسية، بكل ما فتحوه من مشكلات سياسية عنيفة على البلد، وبكل ما يمثل ذلك من تراجع البرنامج الديمقراطي التحديثي للمجتمع.
إن مرتكزات الحداثة من عقلانية وعلمانية وديمقراطية ذابتْ مع صراع الفئات البرجوازية الصغيرة التي تسلمتْ القيادةَ من هيئةِ الاتحاد الوطني الأقرب للفئات الوسطى من كبار التجار وغيرهم، وعلى مدى عقود تسلمتْ تلك الفئاتُ البرجوازية الصغيرةُ مقاليدَ الحراكِ السياسي فتضاءلتْ مرتكزاتُ الحداثة في خاتمة المطاف، وخاصة العلمانية، وغدا للفئات البرجوازية الصغيرة ذبذبة مصلحية تجاهها، فجعلتْ من العلمانية ليس نظاماً سياسياً وبرنامجاً شاملاً على ضوئهِ تحددُ السابقَ واللاحقَ بل لحظةً تكتيكية، يمكن الاستفادة منها في جوانب ويمكن تجاهلها في جوانب أخرى حسب مصلحة الجماعة المعنية، ولكن خطورةَ هذا التجريب والتذبذب إنها ساهمت في بروز الثنائية الطائفية التي شقتْ المجتمعَ شقين كبيرين لم يعدْ من خلال الأدوات السياسية الراهنة إمكانية إصلاحهما.
إن محاولات دول الشرق لإجهاض وإزالة الرأسمالية تحت دعاوى مشروعات كثيرة، إنتهت بإظهار رأسماليات خاصة من باطن الدول، مع ما جرى في ذلك من فساد وهدم للديمقراطية والتنوير وإعلاء الأجرام.
ما سيحدثُ في دولنا خاصةً الكبيرة منها هو صعود القطاعات الرأسمالية الخاصة ومنافستها الحكومات في إحتكارهِا للسلطاتِ والثروات. إن نمو هذه القطاعات سوف يزعزعُ الطائفيةَ السياسية التي ظهرت ونُشرت مع هيمنة الرأسماليات الحكومية، إذا جرت بالتعاون مع قوى العلمانية والحداثة.
انتهى اليسار التقليدي إلى دعمِ قطاعاتٍ خاصة ملوثة بكل إستبداد الماضي، فظل صعود القطاعات الخاصة هو المخرج في كل الأحوال، في التجارب (الاشتراكية) وفي الراهن القادم من التجارب (الوطنية).
في كل دولنا الكبيرة تحاول هذه القطاعات الخروج من عنق الزجاجة، ولهذا فإن اليسار الديمقراطي يغدو مشروعه الراهن هو مساعدة هذه القطاعات الخاصة ونموها السياسي لتحجيم الاحتكار الحكومي للسلطات السياسية والاقتصادية والثقافية وإنهائه وتشكيل دول ديمقراطية علمانية.
إن حلم الاشتراكية يبقى لعصر قادم، وفي الراهن لا يزال اليسار يغذي بذورَ الحلم، بالدفاع عن الطبقات العاملة، ونشر الحداثة، ودرس المنطقة والتغلغل في جذورها.
ليس التعاون مع القطاعات الخاصة ودعمها هو شكلٌ مطلقٌ، ووحدةٌ صوانية، بل هو تعاونٌ وصراع، لأن القطاعات الخاصة تتوجه حسب مصالحها، ولا تعترف ببرامج سياسية وإيديولوجية من هذا الطرف أو ذاك، وتوجهُ الاقتصادَ بخياراتها، لكن الرأسماليات الحكومية تثقلُ عليها، وتحجمُ من تطورِها، ومسائلُ الاقتصاد محل نزاع، والخططُ الحكومية في الاقتصاد أكثرها بيروقراطي لا يخضع لدرس وطني عميق تحكمهُ البرلماناتُ المنتخبة والقوى الاجتماعية الأهلية.
ولهذا فإن العقود التالية سوف تشهد نمواً كبيراً في الإرادة السياسية للقطاعات الخاصة، ويظهر من بينها قادة سياسيون ذوي بُعد نظر، ومن هنا فإن التعاون الديمقراطي العميق أساسي، لأنه سوف يترك بصماته الكبيرة على التاريخ.
وحتى الجماعات الدينية خاصة القادة فيها والصفوف الأولى ستجدُ نفسَها مع نمو هذه القطاعاتِ الخاصة ومصالحها المشتركة، والأمر لا يجري في بلدنا وفي دول الخليج فحسب بل يجري في إيران ومصر وغيرهما من الدول المؤثرة في تشكيل النمط الاقتصادي العام، الذي عادة تقيمهُ الأممُ الإسلامية بأشكالٍ متفاوتةٍ تعكسُ طرق تطورها الخاصة.
ليس غريباً أن يبدأ اليسار حياته بالصراع لإزالة الرأسمالية و(ينتهي) بدعمها، لقد كان هو يفعل ذلك دون أن يدري، لكن الارتباط السياسي بالعاملين وتصور نشؤ دولة يحكمونها وإزالة الأستغلال للأبد، هذا مشروعٌ عالمي في الدول النامية لتصعيد الرأسماليات القومية والوطنية، ولهذا حين سقط (الحلم) فقد توازنه السياسي، لكن التشكيلة الرأسمالية مستمرة وكائنة في مشروعات (الإشتراكية) وما بعدها وما سوف ينقضُها حين تأتي الظروفُ التي لا نعلمُها حتى الآن، وهي لا تعني خدمة الرأسماليين فقط، بل إحداث تنمية واسعة، وتفعيل قوى الإرادات السياسية كي لا تكون هذه العمليات خدمةً لقوى عليا محدودة، وتقود المجتمعات لتنمية جيوبها، وتوزيع الخدمات على مناطقِها، وتصعيد طائفة ضد أخرى، ولا أن يتحول العمال إلى أنفار مستجلبين من الداخل والخارج مقذوفين في الأسواق بأرخص الأجور، وتنعدم الخطط الاقتصادية وتفرض مشروعات إقتصادية إحتيالية وتضيع الثروات الهائلة على بذخ وفوضى عمرانية وتلوث الخ.
تقوية الإرادات السياسية لرجال الأعمال، وتصعيد أدوار العمال النقابية والسياسية، كقوى أساسية متعاونة لتطوير الأنظمة باتجاه الديمقراطية الحداثية العلمانية، تتطلب الانتقال من سياسة الانتفاخ والاستعراض، والكم التنظيمي الكبير غير الفاعل، ومن لغات الشعارات إلى البحث الجدي، وإلى إنشاء الدراسات للواقع الراهن، وتنمية العناصر النضالية البشرية العميقة، وخلق هذه التيارات الديمقراطية العلمانية الوطنية العقلانية بإرثها الإسلامي الإنساني، لخلق ذلك الانعطاف السياسي المحوري وأن لا تكون الدول هي المحتكرة للثروة.
لكن هل استطاعت تنظيمات اليسار أن تحافظ على الإيقاع المتوازن في الدعوة للاشتراكية أو في أعتبار نفسها بديلاً لأنظمة تابعة ومقيمة للنظام الوطني الديمقراطي الناجز ثم في ضياعها السياسي؟
وفي تبدل أسمائها فجأة ؟
ولماذا لم تتم عمليات التغيير في مؤتمرات يجري فيها البحثُ العميق في الإرث السابق، ومعرفة ما سوف يأتي وتـُدرس فيه وثائق التحول وأبعاده واحتمالاته؟
لقد وقعَ البلدُ في ثنائيةِ الطائفيةِ التي غدت هي صانعة النظام والسياسة. إن القطبين الطائفيين يجران الجميع نحو ما يتوارى داخلهما من مضامين غامضة، ويغدو بقية اللاعبين السياسيين ثانونيين.
إن تسليم القيادة للمذهبيين السياسيين بشكل عملي كان تعبيراً عن تلاقي يمينين، فلا يمكن لليسار أن يسلمَ القيادةَ لليمين، خاصة إنه يمين محافظ بلا ثقافة عميقة، وذو أساليب فوضوية سياسية، أدخلتنا في نفق لم نخرجْ منه حتى الآن.
ليس عمل التنظيمات السياسية اليسارية كان كذلك وردياً، كانت خلايا في ظروف صعبة، وكانت ثمة قراءات محدودة، وعامة مكافحة لكنها تعيش شعارات، ولا تنقل هذه الأفكار التقدمية لعمقِ حياتها، وكان ثمة طلبة ينقلون بعض علومهم والأفكار الجاهزة. كان الإنتاج الفكري العميق نادراً إن لم يكن معدوماً.
ليس محض صدف هذه التحولات والتلاقي؛ التآكل في اليسار والتداخل مع اليمين الديني. اليسارُ العالميُّ الشرقي (المعسكر الاشتراكي) والصين، كان في حالات إحتضار، والبيروقراطياتُ الرأسمالية الحكومية كانت قد أبعدتْ العمالَ ومؤسساتهم، وذابتْ أصواتُ العمال، ولهذا رأينا الانهيارات التالية وصعودَ الحكومات الرأسمالية بشكلٍ واضح، وهذا ما حدث في التنظيمات اليسارية المحلية والعربية عموماً، فقد حدث التآكل والجمود في القيادات، وفقدتْ التنظيماتُ العمالَ الذين ضحوا وتعبوا وأنقطعت علاقاتهم بالتيارات، وتبدلت الحياة الاجتماعية في البلد ولم تعدْ المدنُ النهضوية هي التي تزخ أغلبية العمال، بل صار الريف، وأعطت هذه القواعد العمالية الريفية أجواءَ أخرى، وتداخلتْ مع الآراء السياسية المذهبية.
إن البنية الاجتماعية تبدلت، وأخذت الفئات الوسطى تلعب الأدوار الرئيسية في الحراك الاجتماعي السياسي، الذي نحا من المدن للريف، وتعملقت مؤسسات الرأسماليات الحكومية ووجهت البلد في مركزية شديدة التهمت أغلب المداخيل.
إن ثوابت التنظيمات اليسارية الفكرية من علمانية وعقلانية وديمقراطية تآكلت على مدى السنين السابقة، لغيابِ أسسها الموضوعية والذاتية، فاستخدام الدين سياسياً كان يجري بشكل عفوي ولمجاملة الجمهور في مناسباته الدينية، وبعضها يتحول إلى مشاركة إيديولوجية فيها، فُرؤيت التنظيمات الدينية كجزءٍ من ظاهرة طبيعية، لكنها كانت إمتداداً لصعود الرأسمالية الحكومية الإيرانية، بشكل الثورة القومية الفارسية خاصة، والتي جعلت الشعارات المذهبية أداتها في السيطرة الداخلية والإقليمية، فحلَّ تأثيرُ رأسمالية حكومية صاعدة مع حل رأسمالية حكومية ثورية آفلة، وضعفت المدن في مقابل صعود الأرياف، وتقزمت العلمانية كإتجاهات سياسية قوية، تنادي بفصل الدين عن الحكم، وعن السياسة.
وأمام هشاشة اليسار البحريني تم التغلب على منحى العلمانية فيه، وروج للاتجاهات المذهبية السياسية.
وكانت التنظيمات السنية كذلك إمتداداً لرأسماليات حكومية مناطقية محافظة، وتركزت في المدن، وتغلغلت في الفئات الوسطى وبعض العامة، خاصة المتواجدين في المؤسسات العامة.
وهكذا فإن الشرخ أخذ يتوسع ثم صار إنقساماً عميقاً في الشعب وفي المؤسسات العامة وفي الحياة الاجتماعية وفي بقايا التنظيمات.
عبـــــــدالله خلــــــــيفة : تعريفُ العلمانية


تعقيب: عبـــــــدالله خلــــــــيفة: تبعية العلمانيين للدينيين ــ جذورها ونتائجها | عبـــــــدالله خلــــــــيفة : كاتب وروائي