❶
حضَّرَ التطورُ التجاري في منطقة الخليج خلال القرن الثامن عشر وما تلاه، الأجواءَ لنمو المدنِ الصغيرةِ في الخليج، وخاصة المدن البحرينية، حيث تمثلُ جزرُ البحرين سفينةً صلبةً راسية في منتصفِ الخليج العربي جاهزةً لمدِ العابرين بالمؤنِ والمياه ولتسلم البضائع وتصدير بعض المنتجات، ولم يكن بالإمكان لتلك المدن الصغيرة أن تكونَ سوقاً واسعة، نظراً لقلة السكان، وضآلة الإنتاج، لكن إنتاج اللؤلؤ لعبَ دوراً في ظهور السوق، رغم هيمنة العلاقات ماقبل الرأسمالية فيه.
ولعبتْ سلعةُ اللؤلؤِ دوراً في ربط البحرين بالسوق العالمية، وقامت بالدور التحضيري لنشأة السوق بشكلِها الرأسمالي، وفي عقدِ العشرينيات كان الصراعُ على أشدهِ لتطوير إنتاج الغوص، وتحويله إلى نمط عصري، لكن ذلك لم يتم. وتعطي (محكمة السالفة) صورةً عن تداخل كبار الشيوخ والتجار البحرينيين والأجانب في حلِ إشكاليات هذه المهنة وقضاياها، مع غياب المنتجين، وهي صورةٌ عن بدايةِ ظهور جهاز رسمي وأهلي مشترك لبحث قضايا السوق ومشكلاته العملية.
إلا أن تطورَ السوق الرأسمالية البحرينية لم يعتمدْ على سلعة اللؤلؤ الغالية، لأنها إستنزفتْ ذاتَها في تخلفِها التقني ولتدني العلاقات الإنتاجية التي ترفعُها لأعناقِ الحسان بعد ذلك، وطرحت اليابان نسخاً مقلدة جعلت السوق في حالة إنهيار متعدد الأشكال. ولهذا سنجدُ في سنة 1935 حالةً أشبه بالمجاعة:
(توفي في المنامة 83 شخصاً معظمهم من النساء والأطفال وذلك بعد تجمع حوالي 2000 شخص خارج منزل أحد التجار بعد سماعهم أن ذلك التاجر سوف يقوم بتوزيع مساعدات على الفقراء والمحتاجين، وبسبب تدافعهم داخل ممر ضيق يؤدي الى ذلك البيت ولضيق التنفس حاول بعضهم الخروج بأقصى سرعة فسرت حالة من الهلع والرعب فتدافعوا وسقط الكثيرون منهم على الأرض حيث سحقوا وراح منهم 83 قتيلا).
في هذ العقد الثلاثيني المرير الذي يمثلُ عقدَ الكساد والفقر وضعف السوق الوطنية، تم إكتشاف النفط وتصدير أول شحنة منه بكمية تجارية في 1 يونيو 1932، لكن هذا التصدير لم يفعل شيئاً كبيراً في تلك الحالة الاقتصادية المتدهورة لكن التغيير قد بدأ.
إن القوةَ الاقتصادية التي كانت تنمو هي التجارة الخاصة، وقد ظهرت أسواقٌ بحرينية عديدةٌ في المنامة والمحرق والقرى، وراحت هذه الأسواقُ تجذبُ تجاراً من مختلف البلدان.
ولعبت الشركاتُ البريطانية دوراً أساسياً بربط البحرين بالسوق العالمية:
(أما التجارة فقد اعتمدت بالأساس على موقع البحرين الاستراتيجي، وقد نمت مع بدايات القرن العشرين بشكل ملحوظ . فعلى الرغم من استعمال السفن التجارية الكبيرة العاملة بالبخار والتي كانت تمتلكها الشركات البريطانية والتي أخذت تحل محل السفن الشراعية وتؤدي إلى انحطاط التجارة فإن البحرين لم تتأثر اقتصادياً باستعمال هذه السفن، لاسيما وأن شركة الملاحة الهندية البريطانية British India Steam Navigation Company والتي سيطرت على النقل البحري في الخليج اتخذت من البحرين مركزاً لتصريف البضائع التي تجلبها من الهند وغيرها من الموانئ الرئيسية، ومن ثم توزع على مناطق الخليج العربي، فضلاً عن ذلك فقد بدأت أنواع البضائع التي تصدر من الهند إلى البحرين تتغير خلال الربع الأول من القرن العشرين من بضائع هندية إلى مصنوعات بريطانية، (تاريخ غرفة التجارة البحرينية، بقلم د . صلاح عريبي)
لكن كان لا بدَّ من ظهورِ عناصر تجاريةٍ وطنية بحرينية تدرسُ مثل هذا الدور وتقلده ومن ثم تتفوق عليه لاحقاً، وتعربه، وكان هذا من دور عائلة كانو خاصة.
وكانت عائلة كانو إحدى هذه الإسر التي إنجذبت إلى هذه البقعة قبل قرنين من الزمن، وراح مؤسُسها الأولُ يكرسُ تجارتَهُ الخاصة بصعوبةٍ وسط سوق ضعيفة.
(يعد بيت كانو من أبرز البيوتات التجارية الخليجية، والمتتبع لتاريخ هذا البيت العريق الذي يرجع في الأصل إلى شمال الرياض عاصمة المملكة العربية السعودية، ومن ثم ساحوا على ضفاف الخليج، الكويت، العراق، فارس، فالبحرين منذ بداية القرن التاسع عشر حيث استقروا فيها تحت عمادة الحاج بلال، ذلك الإنسان الذي أخذ يشتغل ببيع المواد الاستهلاكية من خلال متجره الصغير في سوق المنامة)، (صحيفة العهد، سيرة عائلة كانو).
أدت عقودُ القرن التاسع عشر والثلث الأول من القرن العشرين إلى حدوثِ عمليات تراكم في الرأسمال التجاري، وتمدده في تجارة اللؤلؤ وفي العقار، لكن التحول سيظهر مع بداية تلك الدفعة الأولى من النفط التي أبحرت في أول يونيو سنة 1932.
وتظهرُ في حياةِ أسرة كانو لمحاتٌ عن صعود الرأسمالية التجارية إلى حقول الخدمات المختلفة والتوجه للرأسمال المالي في ذروة التطور.
(يرجع بيت كانو التجاري إلى المؤسس الحقيقي عميد الأسرة الحاج يوسف بن احمد كانو المولود عام 1868م، وهو الذي تحمل مجموعة شركات كانو اسمه.) وظهر مكتب تجاري للعائلة في الخبر (السعودية)، سنة 1948، وظهرت وكالة السفريات فيها كذلك وتنامت شركات النقل والملاحة والخدمات المالية وغيرها من خلال تلك التجارة الأولى من البحرين حتى فاضت على المنطقة.)، (المصدر السابق).
تعطينا هذه الأسرةُ نموذجاً عن نمو الرأسمالية التجارية إلى حقولٍ اقتصادية شتى، وبطبيعة الحال كان النمو يستثمر كافة الاحتياجات الاقتصادية المختلفة التي تظهر في البحرين والمنطقة، خاصة في سلعة (النقل)، هذه السلعة التي ستغدو محور التطور لعقود طويلة، وذات الأهمية البالغة، تتجاوز صغر السوق البحرينية وضيقها، وطبيعة نظامها، إلى فضاء منطقة مفتوحة الاحتمالات الاقتصادية والسياسية، وذات خيارات كثيرة، مما جعل العائلة التي لم تزل تحتفظ بطابعها العائلي الاقتصادي، تغدو من أكبر الفاعليات الاقتصادية في المنطقة والعالم!
إن البضاعة العادية التجارية تتحولُ لدى العائلة إلى ميدان آخر، والرأسمالُ التجاري ينتشرُ في رأسمالٍ مختلفٍ هام، لتتنامى الفوائض وتتوجه إلى الرأسمال المالي، بدون المرور بالرأسمال الصناعي، بخلاف الرأسمال الغربي في بدء ظهوره بأوربا الجنوبية والغربية.
❷
رأينا كيف بدأ الرأسمال التجاري في صنع العلاقات البضاعية الجديدة، حيث لم يستطع الغوصُ أن يشكلها، ودخلتْ بضاعةُ النفط في أوائل الثلاثينيات بشكلين سياسي وإقتصادي، فمداخيل النفط خضعت لتوزيع حددته السلطة البريطانية، بأن يكون ثلاثياً؛ (الثلث الأول للأسرة الحاكمة، الثلث الثاني للميزانية العامة، الثلث الثالث للإحتياط)، ولكن الرأسمالية الخاصة لم تكن لها حصة إلا من خلال الإستفادة من فوائض النفط الموظفة في مختلف جوانب الاستهلاك الشخصي والعام.
أي أن جوانب الإستهلاك الشخصي تعني شراء سلع من السوق، سواءً كانت بضائع مادية مباشرة كالملابس والأحذية والأسمنت وغيرها، وهي التي ستتنوع كثيراً مع تبدلات الإستهلاك العادية أو الباذخة، أو كانت بضائع على شكل خدمات نقل، وشحن وصرافة وغيرها.
هذا يعتمد على السوق وكيفية مجيء الفوائض النقدية النفطية إليه، ونقول النفطية حصراً، لأنها ستكون أكبر الفوائض النقدية المحركة لعجلة التغييرات الاقتصادية، وستبقى الفوائضُ النقديةُ الأخرى تصبُ في مجرى السوق، وبالتالي تقومُ بتغييرِ طابعِ الرأسمالية الخاصة، وتفتحُ لها قنواتٍ جديدةً، توسعُ ما كان سابقاً من رأسماليةٍ تجاريةٍ سائدة.
نلاحظ في هذه السنوات الأولى من آثار فوائض السلعة النفطية مجموعة من التغييرات والمشروعات، فكما أن الرأسمالية الخاصة تزدهر، كذلك فإن الرأسمالية الحكومية تظهر وتبدأ نشاطها.
من جهة الرأسمالية الخاصة تبدأ السلع الاستهلاكية (المعمرة) بالظهور والإتساع، كبضاعة الدراجة والراديو.
(أصدرت حكومة البحرين إعلاناً تفرض فيه على عموم أصحاب الدراجات الهوائية (السياكل) أن يمشوا في الطرق والشوارع العمومية طبقاً لقانون السيارات وأن يسلكوا جهة اليسار كما فرضت الحكومة في إعلانها هذا حمل فانوس مضاء من قبل سائق الدراجة من بعد غروب الشمس وأن من يخالف ذلك يعاقب).
(في هذا العام وصلت الى أسواق البحرين أعداد قليلة من أجهزة الراديو الجديد ذات القطعة الواحدة، حيث كان الجهاز القديم ذو 4 قطع كبيرة مع الهوائي الأصغر نسبياً، فكانت البيوت المالكة لمثل هذه الأجهزة القديمة تخشى إفشاء سر وجوده لكي لا يتهم أصحابها بالكفر والشعوذة ومن ثم مقاطعة الناس لهم، غير أن هذا الجهاز الجديد لقى طلباً كبيراً من قطاع كبير من الأهالي.).
نشرت جريدة (البحرين) في عددها رقم 46 إحصائية بعدد أجهزة الراديو في البحرين، حيث بلغ عدد الأجهزة الإذاعية (الراديو) حسب ذلك الإحصاء 511 راديو، ولذلك بسبب الإهتمام بالإستماع لأخبار الحرب العالمية الثانية من إذاعة برلين (العربية) والإذاعة العربية الإيطالية في مدينة باري (سنة 1940).
هذه البضائع ما تزال تتداول في سوق ذي طلبيات محدودة، تعبر عن ضيق ذات اليد للقوى العاملة، التي راحت تنتقلُ من أعمالِ الغوص بدرجةٍ أساسية إلى الأعمالِ الجديدة، فيما لا تزال الزراعة ذات أساسٍ مهم في الإقتصاد، وبهذا فإن الدخُولَ لم تكن كبيرة ومؤثرة في تعميق السوق المتخلفة، ولهذا فإن عائلة كانو وغيرها من العائلات التجارية تقوم بالتوجه إلى أسواق أخرى في البلدان المجاورة، مما يعبر توسع رأسمالها وتناميه.
في حين أن عائلة تجارية أخرى كعائلة المؤيد تركز على السلع الإستهلاكية المعمرة الجديدة الداخلة في السوق بشكلٍ بطيء.
إن سلع الدراجات، وأجهزة الراديو المُفكّكة ثم المُجمعّة، والمراوح والمكيفات، ستكون من السلع التي تنمو جنباً لجنب مع تطور المعيشة وبناء البيوت الجديدة والتخلص من بيوت الأكواخ تغييراً سلمياً أو حرقاً.
فيما ستنمو السلع الأكثر قيمة وبذخاً بشكلٍ أقل بالنسبة للعامة، أما بالنسبة للخاصة فستكونُ جنباً لجنب مع تغيير طابع البيوت القديمة إلى الفلل والقصور.
ولهذا فإن طابع الشركات الخاصة سوف ينمو تبعاً لحاجات السوق وتنوع الطلب، ومن هنا سنرى العديد من البيوتات التجارية تتوجه إلى تلك البضائع الإستهلاكية المعمرة الهامة للمنازل والخدمات المختلفة التابعة لها، وكذلك ما يتلوها من سلع ذات قيمة في التصنيع والتصليح والتطور الاجتماعي عامة.
«المؤيد» (من العائلات الشهيرة في البحرين والخليج العربي، فقد تأسست مجموعة يوسف خليل المؤيد وأولاده قبل ستة عقود، وتمتلك المجموعة أنشطة منوعة من بينها مجموعة يوسف خليل المؤيد وأشرف ومجموعة المؤيد للمقاولات.
وتشتمل الأنشطة التي تعمل فيها عائلة المؤيد على تجارة السيارات والأنشطة التجارية والعربات والمعدات الثقيلة ومعدات المقاولات والمقاولات الصناعية ومقاولات التكييف والتكنولوجية الطبية وتجارة الأجهزة الالكترونية والمنزلية والأثاث وغيرها. أسس المجموعة الوجيه يوسف خليل المؤيد ويقودها اليوم الوجيه فاروق يوسف المؤيد.)،
«فخرو» (ما زالت مجموعة فخرو تعمل في البحرين منذ العام 1888، ولديها اليوم نشاطات في مجالات متعددة في البحرين وبقية دول الخليج العربي. هذه النشاطات تتضمن التجارة، بيع محركات الديزل، الكيماويات، الإطارات، البطاريات، معدات الحماية من الأشعة، التأمين، الشحن، النقل، الأغذية.
وقد توارث المرحوم الحاج يوسف عبدالرحمن فخرو الأعمال من والده، وقام بتحقيق توسعات كبيرة في أعمال المجموعة خلال النصف الأول من القرن الماضي. وبوفاته العام 1952 تطورت أعمال المجموعة من التعامل في مواد البناء التقليدية والتمور إلى مؤسسة تجارية نشطة في عالم التصدير والاستيراد وتمتلك أسطولاً من البواخر. كما تمتلك المجموعة فروعاً في البحرين والعراق والإمارات والهند.
وفي الجيل التالي، تولى المرحوم عبدالله يوسف فخرو القيادة وقام بإعادة تنظيم الأعمال من خلال تأسيس الشركات الفرعية والأقسام المتخصصة، وتمتلك المجموعة اليوم مجموعة من الشركات المتخصصة في مجالات تجارة السيارات والأجهزة الالكترونية وأجهزة الاتصالات والمطاعم والخدمات التأمينية والمقاولات والمواصلات وأجهزة الكمبيوتر وغيرها.)،
«الزياني» (تعود مشاركة عائلة الزياني في النشاط التجاري الحديث إلى ما يزيد على ثلاثة أجيال، فقد تأسست استثمارات الزياني في عام 1977 كإحدى الشركات النشطة والفاعلة في البلاد. وللشركة أنشطة متنوعة تشمل تجارة السيارات، الرعاية الصحية، الأنشطة الصناعية، العقارات والخدمات..
ففي أعقاب إنشاء شركة ألمنيوم البحرين (ألبا) في العام 1971 كأول مصهر للألمنيوم في منطقة الشرق الأوسط كانت استثمارات الزياني أول مجموعة شركات خاصة تعمل على الاستفادة من المزايا الضخمة لإنشاء الصناعات التحويلية واستغلال الألمنيوم المصهور.
وفي العام 1987 تأسست ميدال للكابلات المحدودة بطاقة إنتاجية مبدئية قدرها 20 ألف طن متري (زادت لاحقا إلى 90 ألف طن) لإنتاج كابلات وقضبان الألمنيوم من الفئة المقررة لدى الاتحاد الأوروبي وقضبان وسبائك الألمنيوم اللازمة للتطبيقات الميكانيكية والكهربائية وجميع أنواع موصلات الألمنيوم المقواة بالصلب والموصلات المصنوعة من سبائك الألمنيوم اللازمة لخطوط نقل الكهرباء.
وفي العام 1998 انطلقت السيارات الأوروبية كوكالة لسيارات بي إم دبليو قبل أن تحصل على توكيلات كبرى السيارات الشهيرة مثل رولز رويس، فيراري، مازيراتي، ميني، لاندروفر، روفر وإم جي في إطار أنشطتها.
«العالي» (تعد شركة أحمد منصور العالي إحدى الشركات الكبرى في البحرين التي تعمل في مجال المقاولات والبنية التحتية الصناعية، معدات البناء، التجارة والتطوير العقاري.
تأسست الشركة في العام 1948 على يد أحمد منصور العالي، وهي شركة عائلية، تحقق اليوم عائدا سنويا يتجاوز 300 مليون دولار أمريكي (233 مليون دينار)، وبها أكثر من 20 قسما، بالإضافة إلى الشركات التابعة والمشاريع المشتركة، والتي توظف أكثر من 5 آلاف موظف، وتلبي احتياجات العملاء في كل من القطاعين العام والخاص.. (أسواق، العائلات الثرية في الخليج تجلس على أكثر من تريليون دولار. د. حسن العالي، نزيهة سعيد، 16 أغسطس، 2009)
هذه العائلات التجارية تقارب عائلة كانو في البدء بالتجارة البسيطة ثم في نمو الأعمال المختلفة المتوازية مع التطور النفطي، وتطور الاقتصاد والحياة الاجتماعية عامة.
لكن لتراكم العائدات من التجارة إحتاج الأمر لعقود طويلة، ولدور عوائد النفط في تطور السوق، ولحراك الرأسمال التجاري في أسواق أخرى غير سوق البلد، ولتدني مستوى الأجور للعاملين.
❸
كان التطور الاقتصادي والتطور الاجتماعي متلازمين، فكان لا بد من مؤسسات وقوانين ملازمة للسوق، فلم تعد إشكال تنظيم التجار السابقة المتداخلة مع أحكام الغوص ومحكمة الغوص أو (مجلس السالفة) قادرة على إستيعاب مشكلات التجارة الحديثة كما أسلفنا من قبل، كذلك كان مجيء شركة النفط والحراك التجاري الذي قامت به أدى إلى تفعيل الوعي التجاري وبدء البحث عن تنظيمات جديدة للتجار ، كذلك كانت شؤون الحياة الأخرى تفعل العمل التجاري، كبناء الأسواق الجديدة، وتطور التعليم، والزوال التدريجي لمجمعات بيوت الخوص، وتحرك شراء الأرض، وتجديد المساكن.
ظهر المجلس العرفي في سنة 1920، معيناً من قبل الشيخ عيسى بن علي آل خليفة الذين عين تجاراً بحرينيين خمسة والمقيم السياسي البريطاني يعين خمسة آخرين هم من التجار الأجانب المقيمين بالبحرين. وحددت مهمته في النظر و(تمثيل مصالح التجار وفض الخلافات بينهم وكافة الأمور المتعلقة بالجوانب الاقتصادية)، (تقرير غرفة التجارة السابق ذكره).
ثم دعي هذا المجلس العرفي بمجلس التجار. وقد أدت الاختلافات التي نشأت بين بعض التجار وموظفي شركة النفط إلى تحريك هذه النواة لتغدو (جمعية التجار العموميين) سنة 1939. ثم تغير اسمها ليصير(غرفة تجارة البحرين) سنة 1950.
وفي سنة 1968 تغير اسمها لغرفة تجارة وصناعة البحرين، وتبدلُ الأسماءِ يعبرُ عن دلالةٍ إجتماعية هي أن الفيض التجاري شكل فروعاً أخرى للاقتصاد حسب أهميتها وحسب الطلب المتنامي والمتعدد للسوق فعبرت الأسماء عن هذه التحولات، إلى أن وصلنا لدخول فئات جديدة خلال العقود التالية.
لقد لعب الصراع مع شركة النفط دوراً كبيراً في تغير فئات التجار، فقد كانت الشركة تتجاهل الطبقات الوطنية المختلفة، وجاءت أحداث منتصف الخمسينيات لتعصف بهذا التجاهل، وتوجهت إدارات الشركة لإعطاء أعمال ومقاولات لتجار بحرينيين، لكن المطالب ضد شركة النفط إستمرت حتى منتصف الستينيات لتتفجر مرة أخرى.
ورغم الطابع غير السياسي للغرفة وإبتعادها عن إثارة المطالب العامة، وهو أمرٌ يشكله طابعها التجاري المحض خلال عقدين، إلا أن إدارتها إجتمعت مع «ليش دورين» رئيس شركة نفط البحرين المحدودة سنة 1964، وطالبت بدعم الاقتصاد الوطني عن طريق زيادة مشترياتها من السوق المحلية، وتوفير فرص العمل لأبناء البلد وتدريبهم وحصولهم على مراكز قيادية في الشركة، وأصدرت بياناً عقب ذلك، وهو قد ألقى بظلاله على الأحداث في السنة العاصفة التالية.
ويعود الضعف السياسي للغرفة إلى تضخم الأجهزة الإدارية والاقتصادية الحكومية وتحولها إلى أكبر رب عمل في البلد، ودخولها حقول الإنتاج النفطية والصناعية، بحيث أن التجار والصناعيين والمقاولين صاروا تحت رحمة الفوائض الحكومية، فيما كانوا منذ بداية القرن العشرين هم القوة التي تسند الحكومة مالياً، وتحرك الحياة السياسية وتغذي التطور الثقافي.
لقد رأينا كيف كانت الرأسمالية الخاصة البحرينية هي القوة الاقتصادية الأولى، وأدى النفط إلى إنتعاش كبير للحياة الاقتصادية، فبناء جسر المحرق – المنامة كان في أوائل الأربعينيات، وفي نفس السنوات كان بناء باب البحرين، وظهور شركة طيران الخليج بشكلها الخاص، وعملية البناء تغدو مشتريات ومساكن جديدة خاصة لموظفي الشركات والنبوك ومشتريات، وعبر فوائض النفط تنامت الإدارات الحكومية وتضخمت في تشكيلاتها الوزارية مع الفورة النفطية.
فيما كانت أغلبية الشعب تعيش ظروفاً متردية، فالأكواخ كانت موجودة حتى الستينيات، وبدأ من ذلك الحين ظهور المنازل الحجرية ذات الغرفة والغرفتين، بما يقارب الستين بالمائة من عدد المنازل. كذلك كانت الأجور منخفضة، وثمة بطالة وهجرة للخارج.
ونظراً لأنصباب أغلبية الدخل في يد الدولة تشكلت بيروقراطية متضخمة إدارية، وحدث الفساد، وغدا ثمة توجيه معين قسري كبير للحياة الاقتصادية ولأرباب عمل جدد مقربين.
إن التغيرات الاقتصادية والاجتماعية الجيدة في صفوف الشعب حدثت ببطء شديد، وكانت المشروعات الإسكانية نفسها مشروعات تجارية حكومية، وكما كان إنهيار الغوص والحرف الشعبية عاملاً رئيسياً في نزول طبقة عمالية ذات أجور متدنية جداً، وراحت تحسن وضعها ببطءٍ عبر ثلاثة عقود، كذلك كان إنهيار الزراعة والحرف المتواشجة معها عاملاً رئيسياً في نزولِ طبقةٍ عمالية ريفية ذات أجور متدنية. ولكن فيما كان التجار والمثقفون التنويرون يلعبون دوراً وطنياً توحيدياً ويدفعون العمال للنهضة التي لم تخل هي الأخرى من فوضى في الخمسينيات، لكنها كانت القوة المهمة للتحرر الوطني والتقدم الفكري، إلا أن العمال الريفيين الذين نزلوا في زمن ضخامة الرأسمالية الحكومية وإحتكارها السوق والسياسة أدى إلى حراك سياسي من نوع مختلف: طائفية وتعصب ديني وإنشقاق إجتماعي، وكانت الرأسمالية الخاصة مُغيبَّة عن السياسة وعن التنامي في السوق كما بدا ذلك في بداية القرن العشرين!
❹
اتسعت بشكل كبير فروع وأشكال الرأسمالية الخاصة في العقود الأخيرة من القرن العشرين والعقد الأول من القرن الواحد والعشرين في كافة القطاعات، وفي حين تعاني الرأسمالية الحكومية من عجز وتقوم بالاستدانة المالية، وتواجهها عواصفٌ إقتصادية وإجتماعية وسياسية كبيرة، تحققُ الرسمأليةُ الخاصة فوائضَ نقدية كبيرة وتتوسع داخلياً وعالمياً.
هذا الأداء المتميز له أسبابه، وهو التركيز على الأرباح، وفصل الإقتصاد عن التوجهات السياسية والفكرية، فرأس المال ليس مؤسسة للرعاية الإجتماعية، وهذه الجوانبُ جعلتْ أغلب العائلات الاقتصادية الكبيرة محافظةً دينيةً، وهذه المحافظةُ الدينيةُ أتاحتْ التماسكَ الداخلي للعائلة الغنية، والعمل الرأسمالي المربح في مختلف الدول المحافظة شبه الإقطاعية في الخليج والجزيرة العربية. فإن أي دعائية سياسية ديمقراطية وعلمانية لها عواقبها في الحساب التجاري السياسي الختامي هنا، وبالتالي نجد العائلات التي إستوعبت هذه المناخات الاجتماعية وعملت على التراكم المالي تتوسع بشكل كبير، وتدخل في علاقات محدودة مع الرأسماليات الحكومية وسياساتها المختلفة كذلك، متجهة للارتكاز والتعاون مع المؤسسات الغربية المتطورة رأسمالياً وحداثياً! مع وضع واجهات سياسية عامة قابلة لتفسيرات متعددة، فهي لا تعادي ولا تتطابق، لا تعلنُ معارضةً وترفضُ الذوبانَ في الكيانات الحكومية وتنتعش أو تخسر مع الرأسماليات الغربية والشرقية النامية.
لكن لا يعني هذا إن كل البيوتات التجارية بهذا المسار، فهناك الإستثناء، فالعمل الرأسمالي المركز في دول صغيرة ذات مناخات ليبرالية وشبه ليبرالية ينتجُ كذلك رفضاً للمحافظة الدينية الجامدة في مسائل الوعي والسياسة، وغالباً ما يكون ذلك في مجال الشعار السياسي، الذي ينفصل عن تشكيل بُنى فكرية ديمقراطية عميقة، ويتحقق ذلك في الحركات السياسية على شكلِ أفرادٍ من البيوتات التجارية، لكن في ظل التعاون مع الرأسماليات الحكومية على أمل (إصلاحها) من الداخل. لكن الرأسماليات الحكومية لا تُصلح من الداخل فقط، وهذا لا يعني توقف المشروعات الرأسمالية لهذه العائلات بل مجيء الفوائض إليها وفتح بوابات جديدة لها من خلال نمو الشركات الحكومية وخلق العلاقات المربحة لكلا الجانبين، وهو أمرٌ يزيد النقود ويهلكُ الأفكارَ الإصلاحية.
وفي العقد الأخير خاصة في البحرين تتنامى الأصوات بتغيير العلاقة بين البيوتات التجارية والدولة، وتُطرح الإستقلالية ونقد الأوضاع العامة، وينمو فيها رفضُ الاتجاهات الدينية المحافظة والفوضوية المتدخلة في الاقتصاد وفرض هذه الاتجاهات مقاييس من خارج العمل التجاري، ويتخوف بعض رجال الأعمال من هذا الوضع ويتحدثون بشكل سياسي صريح ربما لأول مرة.
لقد كبرتْ الرأسماليةُ الخاصة، رأسمالية البيوتات التجارية المرصودة في هذه المقالات.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يصدر قريباً: عبـــــــدالله خلــــــــيفة ــ إضاءة لذاكرة البحرين ــ الفصل الأول من الكتاب على العناوين التالية:
↫ فائض القيمة البحريني
↫ القحط في زمن النفط
↫ فائض القيمة والاقتصاد السبعيني
