الأرشيف الشهري: سبتمبر 2022

من الثورة إلى الفضيحة : عبـــــــدالله خلـــــــيفة

مريعٌ أن يقف إنسانٌ مناضلٌ أمام الملأ ويدمر نفسه عبر قوة خارجية مسيطرة عليه، لا تريد سوى أن تذله!

الأساليب الفاشية في إحتقار الإنسان والمسح به أرضاً وتعفير هامته الشامخة بالوحل، هي أفظع ما يمكن أن يهدمَ روحَ الإنسان العظيمة ويلقي كل مـُـثــُل النظام في مزبلة التاريخ، هو وكل ما يمثله.

لا يمكن أن نغفرَ للأنظمةِ التي أذلتْ الإنسانَ الشامخ، ورمزَهَ المثقفَ المناضل، صاحبَ المبادئ والتضحيات الجسام، الكائنَ زهرة الشعب، أن يُحطم ويُداس.

كانت محاكمات النظام الهتلري للمثقفين بداية الحرائق البشرية.

حين صرخ جورجي ديمتروف أمام المحكمة التي اتهمتهُ بحرقِ الرايخستاج إنني لست مشعلاً للحرائق، إنني مناضل! وقامت الهتلرية بعدها بإشعال الكون!

لم تستطعْ قوى التعذيب أن تجعله يعترف بأنه منفذ مؤامرة تصنع حريقاً وكيف للمناضل أن يكون مخرباً؟، وتحولت كلماته الشجاعة إلى خطة نضالية لتوحيد القوى الشعبية على مختلف توجهاتها للتصدي للنظام الهتلري عدو البشرية!

وكذلك فعل بوخارين وهو يواجه ورفاقه قادة الحزب الشيوعي السوفيتي دكتاتورية ستالين الدموية ومؤامراته لذبح الإنسانية والعقلانية في الحزب الشيوعي السوفيتي الذي كان قائد هذه الإنسانية التقدمية!، وصرخ في قضاته الشرطة (لن تستطيعوا هزيمتي وهزيمة الحزب).

وقامت إدارة ماكارثي الأمريكية في أوائل الخمسينيات بمحاكمة المثقفين التقدميين لأنهم يعارضون الحروب والأحلاف وينشرون الأدب المناضل وسجنتهم وطردتهم من وظائفهم في دولة الحريات!

تمتلك الأجهزة المتعالية كل صلفها وغطرستها عبر أدوات التعذيب الحقيرة ضد جسد منعزل متوحد وحيد، لكي تسحقه بالألم وبالكهرباء والتغطيس في المياه الحارة وإدخال الزجاجات في جسمه وتعريض عائلته للخطر، وتستطيع أن تصل إلى إرادته الداخلية وتهزمها، وتدمرُ روحه، لكن القضية لا تنتهي، وتطور الحرية لا يتوقف، والبلد ليس صوتاً واحداً أو جماعة كبيرة، البلد أكبر من فرد وحزب وجماعة! كذلك فإن إهانة الإنسان هو أمضى سلاح لزوالها!

وحين تفعل أية أجهزة ذلك تخرج عن الثورة، وتدخل مزبلة الثورة المضادة، مستنقعَ بناتِ آوى، ووكرِ الذئاب، وينفصلُ المعذبـون والمحاكـمون عن تاريخ الإنسانية، ويخرجون من القيم الدينية والإنسانية ويتحدون مع تاريخ الشياطين والأفاعي.

وكلُ كتـَابِ القيمِ العظيمةِ التي تفعلـُها الثوراتُ وتـُضاف للرصيد البشري من المنجزاتِ والأخلاقِ الرفيعةِ والتضحيات، يُغلق، ويبدأ كتابٌ وضيعٌ، كتابُ المعذبين وأعداء الشعب، وينفتحُ تاريخُ اللصوصِ والمجرمين على مصاريعه الدموية.

هنا ينتكسُ الإنسانُ الشعبي عمود النظام الثوري وتسقط روحهُ في الوحل، ولن يجرؤ على الخروج لتأييد هذا النظام، سيتركهُ لأي ضابط عسكري حقير يركبُ دبابة ويستولي عليه فقد سقط الشعبُ مشكلُ الثورة.

يتركهُ لأي مغامر لأنه فقد القيم العليا، قيم إعلاء الإنسان واعتبار كرامته هي ذروة النضال، لأنه كان يقدم أولادَهُ قرابين ليس من أجل محاكم التفتيش بل من أجل الوطن، ومن أجل الثورة، ومن أجل التغيير ومن الدفاع عن الحدود.

حين يرى الإنسانُ قائدَهُ وقد قـُدم مسحوقاً محطماً معترفاً بجرائم لم يرتكبها، وهي جرائم شريفة، عظيمة، تـُصنع من أجل الوطن والتقدم، لا من أجل هذا الرجل أو ذاك، من أجل حرية إيران وحداثتها وتقدمها، حين يرى ذلك ينهار، فينفتح البابُ للمغامرين العسكريين، وقادة الأجهزة الخفية، خفافيش الدم، لكي يشربوا ما يشاؤون من دماء، وينطلقوا بحروب القتل والمجد الفارغ وإفناء البشر.

هنا يظهرُ الشمرُ بن ذي الجوشن والحجاجُ بن يوسف الثقفي ونابليون وهتلر وستالين فحين تبدأ السواطيرُ في قطعِ أعناق المناضلين تنفتح بواباتُ الجزارين، وتـُداس القيمُ والأخلاق أرفعُ ما كرستهُ الأديانُ والأفكار، ولا يُعد لدم الإنسان وشرفه وعائلته أدنى مكانة.

وإذلال الرموز الذين حملهم هذا الإنسان نفسه لسدة الحكم، هو دولاب لا يتوقف، وآلة جهنمية سوف تطحن كثيرين بمن فيهم المحاكمين والقادة، إن لم ترتفع الأصوات البشرية في كل مكان لمنع ذلك، لمنع سلخ جسد إيران حية تنزفُ أمام المسرح العالمي، منهوشة في كلِ جزءٍ من جسمِها ومدمرة في كل خلية من روحها العظيمة، إن لم تدوِ صرخة ديمتروف البلغاري الشجاع في مواجهة الجلادين وتضع حداً لدركولا برلين لكي لا يصير كونياً ويحرق العالم.

لقد قدم الوطاويطُ عظاماً سياسية هشة، لكي يكسبوا البطولة الجبانة، ويشربوا دماءها أمام عدسات التلفزيون الميتة بكلِ تشفٍ وغرور، ورغم ذلك ذهب ضحايا في الأقبية السرية ماتوا تحت التعذيب، بل قلْ إنهم صمدوا تحت السحق الروحي، وليس كل إنسان قادر على ذلك، وهذه هي سمة الشهداء، لا سمة السياسيين العائشين على المناورات الحزبية والنضال الصالوني.

ومن حق كل إنسان أن يعترف وحتى أن يُهزم محافظاً على حياته وأوضاع أهله، فهذه هي طاقة تحمله، ولكن سوف تسقط روحه القتالية ولا شك في القعر إلى الأبد، ليتحطم على نحو مريع نفسي، وهنا ندرك ماذا تعني الشهادة وشهادة الإمام الحسين خاصة في مثل هذا الظرف، فليس كل من هتف صدق، هنا نعرف ماذا تعني هزيمة الروح وسحقها، ليظهر (البطل) ذليلاً يسعى فقط من أجل البقاء والعيش، يفقد كرامته الكفاحية بؤرة بشريته، وينضم للمُدمرين. ويفتح جهنمَ الانتقام والثأر التي تبلعُ في أحشائها الثورة والثوار.

لكن بالمقابل يفقد الجاني، السوط المسرور بسوائل الدم التي ينتفخُ بها من ظهور المناضلين، والمنتشي بدموعِ الأمهاتِ والزوجات والأرامل! ويصيرُ مجردَ حثالةٍ تاريخية، وجيفة سياسية!

على الأنظمة العربية والإسلامية أن تخرج من هذا التاريخ الفظيع إذا أرادت أن تنظمَ لركبِ الإنسانية، تاريخ الوحشية والتعذيب والجلادين، والاعترافات المزورة وشهادات الزور والإفادات الملفقة المكتوبة بالحبر الدموي البشري، وأن تنظف مخازنها المليئة الرثة من كل هذه الأشباح والوطاويط العائشة على الدم والعظام وتحرقُ على الملأ جبالَ الاعترافات والإفادات والتزوير.

استطاع نظامٌ عربي واحد فقط هو المغرب أن يخرجَ من هذا التاريخ الملوث، تاريخ التعذيب والضحايا وورق الاعترافات المُذلة، وأن يحترمَ آدمية الإنسان، ويلقي بملفات التعذيب وتزوير الإفادات في المحيط الأطلسي، فمتى تفعل ذلك بقية الأنظمة (العربية الإسلامية)؟

#إيران

الروايةُ وبناءُ وطن : عبـــــــدالله خلـــــــيفة

#الرواية_في_البحرين #الرواية_البحرينية

تتداخل الروايةُ والرؤيةُ الفكرية، ولكلِ منهما مستوى وبنية، ولا نستطيع أن نقرأ الرواية مثل الرؤى خارج التاريخ والمراحل.
إن روايات بلزاك مرتبطةٌ بمرحلة متقدمة من التطور الاقتصادي مختلف عن روايات تولستوي التي هي مرتبطة بمستوى آخر، ولهذا فإن معالجات بلزاك للحياة تختلف عن تولستوي الذي عاش في بلد متأخر عن ذلك التطور، ولكل من الروائيين أفكاره الاجتماعية والفنية، فتنمو التجارب الروائية في حقول مختلفة عامة وخاصة.
الآن يلخصون الرؤيةَ في (الإيديولوجية) ولكنها المصطلح الأول ذا عمق أوسع، فالروائي يجسد نظرته في الحياة التي هي تاريخية، فلها زمن تطورت وصُقلت لديه ولها زمن موضوعي إجتماعي حيث تشكلت في تطور الثقافة المحلية.
الزمانُ التاريخي البشري المعاصرُ متشابهٌ حيث بدأت الرأسماليةُ في غرب أوربا وأمتدت إنسانياً، ولهذا نجد الحلقةَ الفرنسية في زمنية بلزاك قد قاومت وتخلصت بشكلٍ كبير من زمنيةِ الإقطاع، وغدت العملياتُ الاقتصادية المالية فاقعة تتحكم في البشر، هذا ماتبرزهُ رواياتُ بلزاك وشكل أحداثاً وشخصيات تتبلور في الحياة.
في حين أن الحلقة الروسية كانت لا تزال تدخل في هذه العلاقات ولا تزال العبوديةُ ورقيق الأرض تثقلُ الحياةَ الاجتماعية العامة بطابعٍ حاد يحيلُها لبؤسٍ واسع، ولهذا نجدُّ الثيمةَ الكبرى في روايات تولستوي هي قضية الأرض والعاملين فيها وعالم الرقيق القديم السائد غير المتزحزح.
وحين نجيء للبحرين والجزيرة العربية لابد من قراءة المرحلة الاجتماعية، حيث لايزال التطور الحديث في أوله، وصراع التحرر والوجود الوطني في بدايته بحيث إن النتاجات الثقافية احتاجت لزمن طويل كي تتشرب رائحة الأرض وتغتني بعناصر ثقافية محلية وعربية، أما النوع الروائي فأحتاج لزمن أطول، إنه بالكاد يتحسسُّ الصراعات الحديثة.
إن هذه المرحلية والدوائر البشرية لا تعني عدم تداخلها فقد يقفزُ تكوينٌ أوروبي في هذه الغضاضة الإبداعية المحلية وينحشرُ داخلَها وسواءً كان ذلك باقتسار أم بتطور داخلي وطني متصاعد، حيث يلبس اللباسُ الوطني العربي الشكلَ الخارجي ويطوعه.
مهمة الناقد هي قراءة هذه المرحلية المتصاعدة، وكيف يتتبعُ تجاربَ الروائيين في تناميها التاريخي، ويمسك خيطَ التطور المتداخل مع تطور البنية الاجتماعية ومدى تطور نظرة الروائي وعلاقاتها بالصراعات الاجتماعية والسياسية والفكرية، وتلك مهمات تحتاجُ إلى تأنٍ شديد وبدون استعجال، وإلا اختلطت الأشياء اختلاطاً شديداً.
وعمليات الدرس النقدية للتجارب الروائية هي لها تاريخ كذلك، ثمة دارسٌ عدته في بدايتها، وتطوره بمدى قدرته على متابعة البلد والمنطقة في تطورهما، لكنه يستعجل ويلقي بمحفوظاته الدراسية على الثقافة، وتنفصل غالباً هذه المجلوبات عن الدرس العميق للرواية، وتتصدر أحكامه الشخصية ملاحظاته، وتتقطع الملاحظات عن مشاهد المسرح الكلية للأعمال، وعن السيرورة التاريخية لتطور الرواية.
الدراسات محدودة ومتقطعة وجزئية لذا فإن الأعمال الواسعة الحفرية لا تزال غير موجودة.
إن تناول أعمال الروائيين في مسارها، وقراءة خيوط التطور فيها هو المؤدي لفهم كل عمل بذاته ووضعه في حلقته، ومن ثم الوصول للتعميمات الفكرية الفنية النابعة من هذه التحليلات المعمقة.
ولهذا فإن قيام أي دارس بمحاولة هذا العرض الكلي للتجارب الروائية تغدو مغامرة محفوفة بالمخاطر خاصة إذا لم يتتبع مرحلية التطور والسياق الاجتماعي الفكري للبلد، وجاءت الأعمال في غير سياق فني، ولم تقرأ التنامي الكتابي.
هذا ينطبق على عمل الدارسة (أنيسة السعدون) في كتابها (الرواية والأيديولوجيا)، من إصدارات وزراة الثقافة البحرينية، وطباعة الدار العربية للدراسات والنشر 2013، فهي أخذت أربع روايات بحرينية مختلفة وقامت بقراءة البناء والأفكار فيها، ولا يربط بين هذه الروايات سوى صدورها عن مؤلفين بحرينيين، وهي منتزعة من لحظات إنتاجية مختلفة، فواحدة هي من أعمال عبدالله خليفة قبل الأخيرة (الينابيع ثلاثة أجزاء ممتدة على أكثر من عقد)، في حين أن الثانية (سلالم الهواء هي لمحمد عبدالملك) وهي من أعماله التالية غير الأولى، مثل الكاتبة الروائية التالية فوزية رشيد (وهي رواية القلق السري)، أما الروائي الأخير وهو أمين صالح فعمله الأول المبكر (أغنية أ.ص).
إن انتزاع هذه الروايات من شريطها الاجتماعي التاريخي وقراءتها وهي منفصلة غير منبثقة من مسار كل كاتب ومسار تطور البلد يطرح مدى قدرة الدراسة – أي دراسة – على التحليل العميق والمقارب للتجربة الروائية والثقافية البحرينية، ومن جهةٍ أخرى فلا بد من الاهتمام بكل عملية نقدية للنتاج المحلي فهي تمثل تضحية من قبل الباحث وجهد يُشكر عليها مهما كانت اجتهاداته.
ليس ثمة ترابطات ومحاور بين الأعمال الروائية التي اتخذتها الدارسة أنيسة السعدون لكتابها (الرواية والأيديولوجيا) غير البحث في الواقع السياسي العام والأفكار العامة للمؤلفين، وهي في مقدمتها تعطينا صورةً قاتمة لواقع الرواية وواقع الثقافة الإبداعية في البلد ككل وتلخصها في فقرات قليلة حاسمة، وبدايتها كون الرواية غير موجودة في الأسواق وغير منتشرة وغير مقروءة وغير منقودة إلا من بضعة كتاب نادرين، وأن هذا جزء من المناخ الثقافي المتردي الذي خلقته الموجةُ الأدبية المعاصرة ذات الخلافات الصراعية المدمرة!
تقول:
(ومما يزيد المشهد تهافتاً مشاركة الكتاب والنقاد أنفسهم في إضعاف الحركة الأدبية والحركة النقدية في البحرين)، ص13، في حين إن ذلك كان كله كان حوارات وكتابات لفحص النتاجات وتحليل الحياة الفكرية والثقافية والصراع حول جذورها ودلالاتها ومصيرها، وقد أدى ذلك لتبلور اتجاهين إبداعيين واقعي وتجريبي، وتغلغل الكتاب في الحركات الاجتماعية وساهموا فيها بالتضحيات وحتى الاستشهاد وبصنع التجارب الشخصية، ومن الطبيعي أن تُجابه النشاطات السياسية والفكرية الوطنية الجريئة هذه بالمصادرات والسجن، وهي جوانب خلقت الحياة الثقافية والسياسية وساهمت في إغناء الأعمال الروائية والنقد، ومن العجب أن تستشهد بآراء واهنة هروبية مختزلة في تحليل تجربة بلدها التاريخية الكلية وبشكل وامض وتملأ الكتاب كذلك بالاستشهادات الأجنبية بشكل مطول واسع.
يعبر هذا التقزيم للرواية في البحرين عن ضعف قراءة التطور التاريخي للرواية حيث ظهرت عبر تطور الصحافة كمحاولات قصصية قصيرة ثم كأعمال روائية مسلسلة ثم ككتب مستقلة.
عملية البحث عن الأجنة الصغيرة للرواية وتطورها كانت غير ممكنة في دراسة سريعة مختزلة طائرة لا تتغلغل في بُنى الواقع المحلي ثم في تجارب الروائيين المتعددة، لتدرس هياكل التجربة ومدى تجذرها في الواقع ومدى نمو قدراتها الفنية.
ومن هنا عملية الاسقاط الأيديولوجي الذاتية التي تلقيها على التجارب، ووجود الأحكام المتناقضة، ففي رواية تعكس وعياً دينياً تقول عنها إنها(واقعية اشتراكية)، في حين أن وجود زمن ديني محافظ يحاول أن يمزج بين العصرين العباسي والحديث بأشكال ضبابية رومانتيكية ينفي إمكانية وعي واقعي اشتراكي يجسد صراع الطبقات البرجوازية والعمالية في نظام رأسمالي متطور!
وإذ تعكس تجربة رواية (أغنية أ. ص) تجربة المؤلف من قصة قصيرة مفككة، تعتمد التداعيات الذاتية الحرة، شديدة التناثر فإنها لا تقوم بتجسيد تجربة شخصية واجتماعية متبلورة تصور واقعاً تاريخياً وذاتياً، ولهذا فإن المؤلف ينمو باتجاه ذلك عبر تجارب رواية أخرى تالية لم تُدرس من قبل المؤلفة، والتجربة الأولى الغضة لا يمكن أن تقود لأحكام كبيرة مثل (هي محصول أفكار أراد أن يبثها الراوي، ويقلب أنحاء النظر بالتأمل، والتحليل والتعليق على قضايا متنوعة انبثاقاً من رؤية ماركسية)، ص 124. فأي رؤية ماركسية تنتج من بناء متناثر لم يخلق هيكلاً حدثياً وشخوصاً؟ والكاتبة على كثرة استشهاداتها بالماركسية لا تعرف أولياتها من حيث هي رؤية تاريخية اجتماعية متنامية ذات قوانين في فهم الواقع والنوع الأدبي الروائي. فهنا تناقض أيديولوجي بين اعتقادات الكاتبة الدينية والرؤية الماركسية، فهي لا تتبنى هذه الرؤية ومع هذا تسقطها على الأعمال الإبداعية دون قراءة داخلية متفهمة.
كراهية التجارب المحلية والتصغير منها تتوسع في قراءتها لرواية (الينابيع)، وعدم استخلاص الدلالات الكلية من البناء وليس من مواقف الشخصيات التي تعكس تجاربها وليس رؤية المؤلف، ونقرأ تعليقاً من كاتب أردني بارز يرد على هذا الجانب وهو الباحث الأكاديمي إبراهيم خليل:
(فكانت رواية عبدالله خليفة (الينابيع) 1998 أولى الروايات التي وضعتها المؤلفة تحت المَجْهر. فشخصية محمد عواد هي الشخصية الرئيسة البارزة، وقد يكون لاسم هذه الشخصية تأثيرهُ في انطباعات القارئ عنها، فالعواد اسمٌ عُرف به لعشقه آلة العود، والموسيقى، والغناء، ولعل هذا هو الذي جعل المؤلف خليفة يعنون القسم الأول من الرواية بالصوت.
وقد واجه العواد هذا الكثير من التضييق الاجتماعي، والاستبعاد الأخلاقي، بسبب تعلقه الشديد بالغناء، والموسيقى، ولا سيما من الجيل الذي نشأ وترعرع في الماضي، وشابتْ رجالاته على عاداتٍ، وتقاليدَ متحجِّرَة، تعد المغني، أو الموسيقي نموذجا منحرفا عن السراط المستقيم، تجبُ محاربته، ونبذه، واستبعاده. والمؤلفة تستخلص – محقة- من هذا الموقف اتخاذ الكاتب عبد الله خليفة من شخصية العواد قناعًا «يدين به الرؤية التقليدية المحافظة ذات التوجه اليميني» (ص 71) وأنَّ هذه الشخصية، بسبب ذلك، تترنَّح بين التقاليد، والتغْيير، موتورة الخطاب، مما يدفع بها دفعًا للبحث عن مكان آخر تلجأ إليه وهو (المحرّق) طمعًا في العثور على ملاذ آمن تستطيع فيه أنْ تنتج ما تشاء من الأغاني، ومن الموسيقى، وتبدع.
بيْدَ أن الرياح لم تجر بما تشتهيه السفن، فيشد الرحال ثانية للهند للغرض ذاته. ومن تتبُّعها الدقيق لمجريات الحكاية تخلص أنيسة السعدون لرأي مؤداه أن شخصية العواد سلبية، لأنها تكتفي بنقد الواقع وبإدراك ما فيه من تداع، وتقفُ عاجزة عنْ تغييره. (ص 75) فالدائرة التي وضع فيها عبدالله خليفة بطله، هذا، دائرة مغلقة، تنتهي بخاتمة تقليديّة ليس فيها بريق نورٍ، ولا بصيص أمل. وتبعًا لذلك فإن النهاية التي تؤول إليها، وهي مصرعها على يدي ابن ميّ زوج الشيخ (حامد) نهاية مأساوية، متوقَّعَة. (ص76).
ولا تفتأ المؤلفة – مع هذا- تؤكِّدُ أن العواد يحتج على ذلك الموقف القمعي، المتهافت، المهزوم. (ص77) ونحن نرى في هذا التوكيد ما يخالف تأكيدها السابق، فالبطل الذي ينتقد الواقع المتأزم مشيرًا لما فيه من انهيارات، لا يُعدّ بطلاً سلبياً، وليس ينتظر من الكاتب الروائي أن يطرح بديلاً لذلك. سواء أكان هذا البديل أفضل ممّا هو كائن، أوْ لم يكن. إذ لو توخَّى الكاتب هذا عامدًا لما حال بينه وبين الوقوع في شرك الأيديولجيا بمعناها الحرفي، ولا بينه وبين الوقوع أيضًا في فخ المباشرة، وتحوُّل الرواية من عمل فني إلى آخر وعظيّ، وهذا ما حذرت منه السعدون في تمهيدها الشيّق.
وقد تتبعتْ المؤلفة تتبُّعًا دقيقا الشخصيات الأخرى في الينابيع كشخصية إبراهيم زويّد، والشيخ محمد، وزهرة، وعلي الابن غير الشرعي للعواد، وبعض الشخصيات الأجنبية، ومنها الميجر بيلي، وجون سميث، وزوجته. ولم يغب عن بال الناقدة وهي ترمي تلك الشخصيات بتهمة السلبية تارة، والتآمر تارة أخرى، والطمع بثروات البحرين من نفط وغيره تاراتٍ أُخر، أن تلتفت للجانب الآخر من الصورة.
فقد ذكرت أن في وجه تلك الشخصيات المستغلّة (بالكسر) فئة مثقفة متعلمة من الشباب تؤمن بقداسة الوطن، وتدين بقضايا الأمة، من نحو: جميل المدهون، وكريم شاكر، وسلمان العكار، وبدر الوزان. وقد صرح جميل في أحد الحوارات، بالنهج الذي عليهم أن يتبعوه.: «دعونا نصنع أشياء رائعة لأرضنا، وقوميتنا المهددة بالانقراض والموت.. بدلا من الدهاليز المعتمة. ومهن الدواوين والخياطة والإمامة». ص 84 فمثل هذه الإشارة تكفي للدفاع عن موقف عبدالله خليفة الذي وُصِمَ ظلمًا بالسلبية. فهو يسلط الأضواء على هاتيك القوى المرشحة للقيام بما من شأنه تغيير الواقع الذي تصوره من خلال شخصية محمد العواد، واقعًا منهارًا مأزومًا فاسدًا. وهذه هي وجهة نظر جورج لوكاش الذي لا يفترض في الكاتب الواقعي أن يكتفي بتصوير الواقع كما هو، فهذا، في رأيه، كاتب طبيعيّ. ولا يفترض فيه أن يقدم حلولا للمشكلات الاجتماعية، والاقتصادية، بحيث يتحول إلى واعظ، فحسبه أنْ يسلط الضوء على القوى الكامنة القادرة على التغيير.
والصحيح أن المؤلفة لم يفتها هذا، فقد نبهت في إشارة مختصرة، وعابرة، على إخفاق هذه الفئة المثقفة المتعلمة في تحقيق ما ينسب للإنجاز لا للأماني. فذكرتْ أن بعض هؤلاء كجميل شاكر، وبدر، وغيرهما.. انكفأوا على ذواتهم، ولم يواصلوا السعي لتحقيق ما يرجونه من إعادة ترتيب البيت البحريني. ولهذا خلصت إلى نتيجة صنفت فيها الرواية تصنيفا ثابتا لا مِرْيَة فيه، ولا جدال، وذلك أنَّ الكاتب يحملُ «رؤية انتقادية أكثر رسوخًا في عالم الرواية- الينابيع- بأفول تباشير التغيير حتى مع فئة الشباب المثقف». (ص 85 ).
إن غياب قراءة تطور الرواية المحلية ومعرفة مساراتها لا شك أنه يؤدي لأحكام مُسقطة متناقضة.

الحدثُ الأوكراني ودلالاتُهُ الديمقراطية

الحوار المتمدن 2014 / 3 / 4

اقترب التفكك والصراع حتى حدود العالمين الشرقي، ذي الرأسمالية الحكومية، والغربي ذي الرأسمالية الحرة، حدود روسيا وحدود ألمانيا.
قامت روسيا خلال التحولات الديمقراطية في شرق أوروبا بالإبقاء على السيطرة على أوكرانيا التي تماثلت معها في البُنية السياسية الحزبية الشمولية، عبر سيطرة الحزب الشيوعي المتحول إلى بنية اشتراكية غير ديمقراطية وبقيت القوى البيروقراطية تواصل الهيمنةَ على المجتمع ولهذا تواصلت التبعية السياسية من قبل أوكرانيا لروسيا.
فيما توسعت كذلك القوى الرأسماليةُ الخاصة المنبثقةُ من أجهزة الدولة والتي عاشت على ثمار الفساد والتي راحت تعيدُ السيطرةَ على الحياة الاجتماعية والسياسية.
تفككت الدولة الأوكرانية والمجتمع بحسب هذا الصراع الطبقي بين القوى السائدة، الرأسمالية الحكومية المتحالفة مع روسيا والنمط الشرقي والجموع الروسية الباقية على الحدود الشرقية من جهةٍ، والرأسمالية الخاصة المتحالفة مع النمط الغربي ومجمل السكان الأوكرانيين المندمجين في عالم الغرب والذين يعيدون قوميتهم التاريخية المنفصلة عن القومية الروسية من جهةٍ أخرى.
التحالف التاريخي بين القوى العمالية والشعبية خلال عقود النضال المشترك قضت عليه القوى الاستغلاليةُ الحكومية التي تحللت عبر تينك القوتين الاجتماعيتين الفوقيتين الاستغلاليتين، في حين تساقط التحالفُ العمالي الأممي بسبب عدم تطوير الفكر الماركسي نحو الديمقراطية وعدم صعود القوى السياسية والنقابية الشعبية.
الهيمنة الروسية اليمينية اتخذت لها شكل الشيوعية الحكومية العتيقة فيما هي تغدو قوى بيروقراطية استغلالية، وأبقت على الترابط مع الدولة الروسية والإرث الشمولي الفكري القديم.
فيما لم تستطع القوى القومية الأوكرانية الشعبية المختلفة إنتاج وعي تقدمي ديمقراطي معارض واسع، ولهذا فإن الأقسام المتحالفة سابقاً مع الشمولية الروسية والتي استثمرت مواقعها السياسية تصوغ سياسة رأسمالية خاصة قومية تحللية في عالم الغرب وشركاته ودوله.
إنها تخفي قسماتها الطبقية العليا عبر اللغة القومية المحلية ونقد الاستبداد الروسي والتشنيع على الاشتراكية ومشروع الهيمنة الاقتصادية والعسكرية الروسية المستمرة عبر مشروعات بوتين الأخيرة فيما هي تصوغ سيطرتها الجديدة.
إن القوى التابعة لنمط الرأسمالية الحكومية البيروقراطية الروسية معبرةً عن نمط سياسي إنتاجي، وهو النمط الواسع الانتشار في الدول الآسيوية والذي يتزعزع وغير قادر على الملائمة مع معايير الديمقراطية الغربية، وهو النمط الذي سنشهد انهياراته التالية في العديد من الدول والمصاحب للقلاقل والحروب والصراعات القومية، وخاصة التجارب السورية والعراقية والإيرانية والعديد من التجارب العربية الأخرى.
فيما يستفيد النمط الغربي بشركاته وقواه الاستغلالية الخاصة من هذا التحلل لوراثة الأسواق.
لكن روسيا وريثة الشمولية ونمطها في الشرق تدافع عن مصالحها وعن حلفائها.
لم يعد النمط البيروقراطي الشرقي قادراً في نماذجه الباقية على التغيير الداخلي الديمقراطي، فقد كانت الدول السابقة كالمجر وبولندا وغيرهما ذات مستوى اجتماعي متقدم قادرة على التحرر من النفوذ الروسي عبر تطورها الاجتماعي الخاص الطويل فيما عاشت أوكرانيا تحت النفوذ الروسي الحكومي الذي منع تطور الفئات العمالية والخاصة من التطور الفكري السياسي المستقل.
كذلك هناك التفكك القومي الذي يصيب هذه الدول ويجعلها قوى هادمة لخريطة الدولة، وهو الأمر الذي يجعلها تتخوف من الاستقلال عن روسيا.
إن نمطي الإنتاج الرأسمالي العالمي: نمط الدولة البيروقراطية الرأسمالية، ونمط الدولة الرأسمالية الحرة، يتفاقم الصراع بينهما ويتغلغل في الشرق موطن النمط الأول ولهذا تتفجر المعارك وتتغير الخريطة عبر استخدام القوى الشعبية والحكومية المتنازعة.

الدولةُ والدكتاتوريةُ الروسية : عبـــــــدالله خلــــــــيفة

يضعُ لينين تعريفَ المفكر فريديريك أنجلز بدايةً لكتابهِ (الدولة والثورة)، الذي يُعرفُ الدولةَ في كتابهِ (الملكية الخاصة والعائلة والدولة) بأنها تنشأ: (لكيلا تقوم هذه المتضادات، هذه الطبقات ذات المصالح الاقتصادية المتنافرة، بالتهام بعضها بعضاً وكذلك المجتمعات في نضال عقيم، لهذا اقتضى الأمر قوة تقف في الظاهر فوق المجتمع، قوة تلطفُ الاصطدامَ وتبقيه ضمن حدود «النظام». (الدولة والثورة ص 2).
لكن لينين يقولُ شيئاً آخر:
(إن الدولة تنشأ حيث ومتى وبقدرِ ما لا يمكن، موضوعياً، التوفيق بين التناقضات الطبقية. وبالعكس، يبرهن وجود الدولة أن التناقضات الطبقية لا يمكن التوفيق بينها).
وجهتا نظرٍ تبدوان متقاربتين لكن ثمة تشويشاً أيديولوجياً في تعبير لينين.
فحين تتصاعد التبايناتُ الاجتماعيةُ في القَبليةِ على سبيل النشأة التاريخية فإن جهازَ الدولةِ يظهرُ من رؤساء العشائر والمتنفذين ليجعل التناقضات الاجتماعية غير مفجرةٍ للقبيلة، وأن يستمر وجودها الاجتماعي الموحّد، وحين تغدو القبيلةُ متحكمةً في مدينة وتقوم القوى العليا بالحكم فيها وتتفاقم الصراعاتُ الاجتماعيةُ فتظل الدولةُ قامعةً للخارجين عن سيطرتها ولخلق وحدةٍ اجتماعية سياسية.
إن التناقضات الطبقيةَ يمكن المواءمة بينها حسب طبيعة أسلوب الإنتاج ومدى تطوره أو تفسخه، وليس بشكلٍ تجريدي عام كما يصورُهُ لينين.
فإذا كان أسلوبُ الإنتاجِ مستمراً متطوراً فإن الدولةَ المعّبرةَ عنه تبقى مستمرةً وتبدأ الدولةُ في التخلخل والانهيار التدريجي حين يغدو أسلوبُ الإنتاج متناقضاً، وتصطدمُ قوى الإنتاجِ بعلاقاتِ الإنتاج المتخلفة، وعلى قدرةِ الدولةِ والقوى السياسيةِ بفهم هذا التناقضَ الجوهري وإيجاد الحلول له، فإن الدولة تبقى وربما تتطور، وربما تدخلُ في تناقضاتٍ مستعصية على الحل كالحالة الروسية.
لا يقومُ لينين بدرسِ أسلوبِ الإنتاج ليضعَ بعد ذلك الجوانبَ الداخليةَ فيه كالدولة والصراع الطبقي ضمن مساره، فيقرأها على ضوء الكل، على ضوءِ التشكيلةِ التاريخية.
(الأيديولوجيون البرجوازيون ولاسيما الأيديولوجيون البرجوازيون الصغار، – المضطرون تحت ضغط الوقائع التاريخية القاطعة، إلى الاعتراف بأن الدولة لا توجد إلاّ حيث توجد التناقضات الطبقية، ويوجد النضال الطبقي، -«يصوّبون» ماركس بشكل يبدو منه أن الدولة هي هيئة للتوفيق بين الطبقات. برأي ماركس، لا يمكن للدولة أن تنشأ وأن تبقى إذا كان التوفيق بين الطبقات أمراً ممكناً. وبرأي الأساتذة والكتاب السياسيين من صغار البرجوازيين والتافهين الضيقي الأفق ؟ الذين لا يتركون سانحة دون أن يستندوا إلى ماركس باستلطاف! ؟ الدولة توفق بالضبط بين الطبقات. برأي ماركس، الدولة هي هيئة للسيادة الطبقية، هيئة لظلم طبقة من قبل طبقة أخرى، هي تكوين «نظام» يمسح هذا الظلم بمسحة القانون ويوطده، ملطفاً اصطدام الطبقات. وبرأي الساسة صغار البرجوازيين، النظام هو بالضبط التوفيق بين الطبقات، لا ظلم طبقة لطبقة أخرى؛ وتلطيف الاصطدام يعني التوفيق، لا حرمان الطبقات المظلومة من وسائل وطرق معينة للنضال من أجل إسقاط الظالمين.)، المصدر نفسه.
يتم الصراع الأيديولوجي هنا بين وجهتي نظر محصورتين في جوانب جزئيةٍ ضيقة، فالدولةُ لدى لينين أداةُ ظلمٍ من طبقة لأخرى، وكلمة ظلم مثالية أخلاقية، ويمكن قراءتها بأن الدولةَ أداةٌ في يد طبقةٍ لاستغلال طبقات أخرى حسب تاريخ التشكيلة، فيمكن لدولةٍ أن تقوم بالصراع مع الطبقة التي تمثلها، وتطرح إجراءات تحويلية، في الاستثناء التاريخي، ويمكن أن تظل أداتها المعتادة في الحكم في الأحوال العادية.
ما يحددُ التغييرَ والعاديةَ في مسلك الدولة، وما يحددُ الثورةَ هو مدى تطور التناقض في أسلوب الإنتاج. فأسلوبُ إنتاجٍ في بدايتهِ ربما تلجأُ فيه الدولةُ لإجراءاتٍ إيجابية مفيدةٍ للكل الاجتماعي كما يحدث في ظروف الإصلاحات الاقتصادية السياسية. وما يحددُ الانفجارَ هو عجزُ الطبقةِ عن تغيير التناقض المتفاقم في أسلوبِ الإنتاج.
ومن هنا فإن التعبيرات المُستخدمة في هذه الفقرة السابقة أعلاه هي مواقف جزئيةٌ لا تدلُ على أن الثورة لازمة حتمية أو أن الإصلاحات غير ممكنة أو أنها ضرورية، فالأمور هنا خاضعة للمجتمع ودرجات تطوره وتناقضاته وكيفية حلها، من قبل القوى الاجتماعية السياسية المختلفة.
فتعبيرُ لينين بكونِ الدولةِ أداةُ ظلمٍ، أو تعبير الاشتراكيين الديمقراطيين والجماعات الأخرى بأن الدولةَ أداةٌ للتوفيق بين الطبقات، لا يرتكز على قراءة تاريخ التشكيلة وأسلوب الإنتاج.
فالمجتمعُ الروسي القيصري هو مجتمعٌ إقطاعي فيه علاقاتٌ رأسماليةٌ متنامية، لكنه لم يحسم تطوره التحديثي بعد، فعلاقاتُ الإنتاجِ السائدة إقطاعية، وقوى الإنتاج البشرية السائدة وهم الفلاحون، والمادية وهي أدوات الانتاج في الزراعة خاصة تصطدم مع علاقات الإنتاج الإقطاعية المتخلفة.
ولهذا فإن الدولة الروسية هي دولة إقطاعية وينبغي أن تتحول لدولة رأسمالية حديثة وهو الخيار التاريخي، وحين يتوجه من يسميهم لينين البرجوازيين الصغار لتصعيد المجتمع الرأسمالي الحديث الديمقراطي وتغيير طابع الدولة يكونون في المسار التاريخي الصحيح، أما ما يقوله بالقفز على ذلك فهي مغامرة تاريخية كبيرة لها نتائج وخيمة.

في محاولتهِ لإقامةِ دكتاتوريته يتلاعبُ لينين بالنصوصِ الماركسية والحيثيات التاريخية، فالدولةُ كقوةٍ تمثل الطبقة السائدة هذا معنى معروف وشائع، ولكن القوى السياسية المعارضة لا تشكل فصائل مسلحة لهدم النظام بدعاوى مختلقة، بل عبر اعتمادها على التطور الديمقراطي والمؤسسات المنتخبة المنبثقة عنه، لكنه يقولُ ذلك ويفعلهِ ليبررَ مغامرته العسكرية الذاتية، أي العائدة لفصيل سياسي مغامر يمثل الرأسمالية الحكومية ويقول إنه ممثل العمال وإنه يقيمُ الاشتراكيةُ لهم!
بالاعتماد على نصوصِ الماركسية القائلة إن الدولةَ جهازٌ يمثلُ الطبقة الحاكمة بشكل عام، لكن يمثله حسب تطور أسلوب الانتاج، لا في التجريد السياسي الاجتماعي، وعندما يقومُ بهذا التمويه وينتقي جملاً ويحشدها في برنامجه المغامر.
فهناك التعكز على كومونة باريس وإنشائها لقوةٍ عسكرية، ولكن هذه القوة تمت لغياب الجيش الفرنسي وللاحتلال الألماني لفرنسا، ولهروب الحكومة الفرنسية إلى فرساي، كما أن هذا الحدث الاستثنائي لا يُلغي في التاريخ الفرنسي العودة للمؤسسات الديمقراطية وإلى حكم الطبقة السائدة البرجوازية والصراع معها والدفاع عن مصالح الأغلبية الشعبية كذلك. لكن لا تستطيع الكومونة أن تقيم نظاماً اشتراكياً فرنسياً متواصلاً.
كذلك يستند لينين إلى دعاوى الفساد وأن الحكومات الغربية الرأسمالية ممتلئة برشا الشركات.
(وفي الوقت الحاضر «رقت» الإمبريالية وسيطرة البنوك إلى حد فن خارق هاتين الوسيلتين من وسائل الدفاع عن سلطان الثروة وممارسة هذا السلطان في أي جمهورية ديموقراطية كانت).
إن تلوثَ الدول الغربية وتعبيرها عن الاستعمار والاستغلال هي أمورٌ لا شك فيها، ولكن هناك كذلك مؤسساتٌ تقاومُ وتفضح، عبر وجود برلمانات وصحافة مختلفة الاتجاهات وطبقات شعبية وحق الإضراب والتظاهر وغير ذلك، لكن في مشروع لينين الدكتاتوري فإن كل وسائل الفضح هذه سوف تختفي، والرأسماليةُ الحكوميةُ المزعومة اشتراكيةً ستغدو دكتاتوريةً شموليةً تمنعُ الصحافةَ المتعددة وحقَ الإضراب والانتخابات الديمقراطية وتُصعّد الفاسدين البيروقراطيين كحكامٍ ورأسماليين على مدى عقود حتى ينفجر الاتحاد السوفيتي بتناقضاته المزروعة من عهده!
إن التحالف والتعاون الذي تطرحهُ فصائل سياسيةٌ اجتماعية متعددة من أجل إنشاءِ وتطور جمهورية روسيا الديمقراطية يهزأ به لينين ويرفضه، ويقول إنه صارت في روسيا خلال الأشهر القليلة من سنة ١٩١٧ حيث انتصرت الثورة الديمقراطية على الإقطاع ظاهرة فساد وهي دليل على فساد الحكومات الناشئة عن هذه الحيثيات السياسية وبالتالي يجب إسقاطها.
إن مقاومةَ الفساد هو شأنٌ نضالي جماهيري عبر تطور البرلمانات والأحزاب والصحافة والرأي العام والنقابات المستقلة، وغيابها هو بقاءٌ للفساد وتجذره في النظام حيث سيعششُ فيه ويخنقهُ مع غياب تلك الأدوات الديمقراطية كما حدث في نظام رأسمالية الدولة الشمولية الذي أقامه لينين.
(ويمكن القول في شهر العسل لقران «الاشتراكيين»، الاشتراكيين-الثوريين والمناشفة، بالبورجوازية ضمن الحكومة الائتلافية- قد عرقل جميع التدابير الموجهة لكبح جماح الرأسماليين وسلبهم ونهبهم للخزينة العامة بالطلبات العسكرية.)
إن الاختلافات بين القوى السياسية الديمقراطية يجب أن تتجذر وتتطور لتشكيل نظام ديمقراطي وأن تُقاوم ظاهرات الفساد وفقر الناس وان تطور الإصلاحات في الريف وغير هذا من المسائل الملحة لتحقيق الثورة الديمقراطية الوطنية.
لكن لينين كدكتاتور يستغل هذه الوقائع ويفصلها عن مسار أسلوب الإنتاج والتشكيلة، عبر لصقها مع مقتطفات من أنجلز، وقد قرأنا لأنجلز في كراسه (حول المسألة الدستورية في ألمانيا، راجع مقالتنا من رأسمالية الدولة إلى الرأسمالية الحرة) نظرةً مختلفةً عما يقولهُ لينين بالتعكز على أنجلز وكتابه (العائلة والمُلكية الخاصة والدولة)، وهو كتابٌ يعالجُ مسائلَ نظرية تاريخية بعيدة، في حين يوضحُ كراسُ المسألةِ الدستوريةِ أوضاعاً أوروبية معاصرة، حيث يؤكد أنجلز في مقالته أهمية دعم البرجوازية وتصعيدها لتشكيل نظام ديمقراطي حديث، من دون غياب الصراع معها.
نظرةُ أنجلز نظرةُ ثوري عالمٍ ونظرة لينين نظرة مغامر سياسي، لا يقوم بالتحليل العميق الواسع للظاهرة، بل يرتكزُ على مقتطفات غالباً ما تكون مطولةً من الكتب الأخرى، ليبررَ موقفه السياسي المفصول عن قراءة التشكيلة التاريخية عبر بضع عبارات وجمل.
فهل يمكن لنظام رأسمالي وليد في روسيا لم تمض عليه سوى بضعة شهور ليتم القفز عليه؟ نظامٌ رأسمالي في قمته فقط بينما علاقات الانتاج والحياة الاجتماعية إقطاعية؟
أسلوب الإنتاج الإقطاعي لم يتم تغييره، وثمة أسلوب لم يتعمق هو الأسلوب الرأسمالي، ثم يقال إن هناك تشكيلة تاريخية أخرى هي التشكيلة الاشتراكية يجب أن تُفرض من أدوات السلطة!
ومن هنا فإن القوى السياسية الديمقراطية الروسية في تصعيدها للنظام الرأسمالي التدريجي كان ذلك ضرورياً، ثم جاءت المغامرةُ السياسيةُ البلشفية ومن ثم حدثتْ الحربُ الأهلية والتدخلات الأجنبية وسقط ضحايا بمئات الألوف.
إن غياب الرؤية الكلية لتباين مواقع الرأسماليات الغربية عن الدول الشرقية، وعدم قراءة أساليب الإنتاج في كلٍ موقع بين الغرب والشرق، واعتماد الانتقائية في القراءة وإخضاعها لأدلجةٍ مسبقة لمشروع سياسي شمولي، وقلب الحقائق والمواقف الطبقية للفصائل المختلفة، وتصعيد المغامرات السياسية العسكرية، هذه هي نظرة لينين للعملية السياسية الاجتماعية، التي ستغدو مادةً وراثية لقوى سياسية كثيرة ستدخل في صلب أعمالها ومناهج عملها فتقودُ النضالَ الديمقراطي لشعوب الشرق إلى سكك خاطئة تفشل لتصعد القوى الطائفية والرجعية والرأسمالية الحكومية الطفيلية في نهاية المطاف.

تطورات الرأسمالية الحكومية الروسية

عبـــــــدالله خلــــــــيفة


عاشت روسيا خلال القرن التاسع عشر مواجهة مستمرة مع الغرب المتفوق عنها، والغرب المقصود هنا أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية، وقد نتج التحدي بسبب الطفرة التي قام بها الغرب، من التخلف حتى الصناعة الحديثة، وما استتبع ذلك من تبدل كبير للمجتمعات، ومن انتشار لثقافتها، ومن استيلائها على مستعمرات كبيرة زادت من تطورها ومكانتها على الصعيد العالمي، بل جاء هذا الغرب غازياً على خيول نابليون ومدافعه، في حين كانت روسيا تعيش في مرحلتي العبودية والإقطاع المتداخلتين، ففي الوقت الذي كانت تنتشر في الغرب الديمقراطية والحداثة، كانت روسيا تناقش تحرير العبيد! كانت أغلبية الفلاحين وهم أغلبية الروس كذلك، مسترقين في قرى شديدة التخلف.
فكانت روسيا تصحو من مجتمع الرقيق على رؤية أكثر العلاقات تطوراً في العالم وقتذاك، وأدى ثقلها السكاني الكبير ومستعمراتها الأكثر تخلفاً منها، إلى إشكاليات في التطور الروسي إلى حد الانفصام، فهي حاضرة في أكبر الأحداث الغربية كهزيمة نابليون ووقف إصلاحات الثورة الفرنسية وراحت تقود المد الرجعي في أوروبا وهي في الوقت نفسه تتطلع إلى تجاوز أوروبا ولعب دور قيادي آخر للإنسانية!
فكانت هناك أفكار وتيارات تنادي بتجاوز الرأسمالية، سواء بشكل أدباء كتولتسوي وديستوفسكي أم بتيارات كالشعبيين والاشتراكيين الثوريين وتنادي بالحفاظ على الإرث المشاعي الذي لا يزال قائماً في بعض المناطق والعلاقات، وهو الأمر الغامض الذي تغلغل في حزب البلاشفة في آخر الأمر، على الرغم من أن حزب البلاشفة قام على الصراع ضد هذه الأفكار أساساً، ونادى بضرورة الدخول العميق في الرأسمالية! ويمكن الرجوع هنا لكتب لينين المتصدي الكبير لأفكار الشعبيين وخاصة في كتاب (تطور الرأسمالية في روسيا).
وحاول بعض القياصرة المصلحين سد الهوة الهائلة بين روسيا والغرب، عبر نقل العاصمة بقرب القارة الأوروبية، وبإيجاد انفتاح اقتصادي وبقبول المؤثرات الثقافية الفرنسية والألمانية.
لكن ضخامة روسيا ومستعمراتها وتجذر الاقتصاد الإقطاعي وضعف نمو الرأسمالية داخل هذا المجتمع الضعيف التطور الصناعي، جعل من حل تناقضات التخلف الرهيبة مسألة تحتاج إلى قرون.
كيف تبدل حزب البلاشفة من التصدي للشعبيين والاشتراكيين الثوريين، الرافضين للتطور الرأسمالي، والمنادين بالإبقاء على الجماعية وضرورة تأميم الأرض، إلى أن يتقبل مثل هذه الأفكار؟!
لماذا لم يواصل تأييد التطور الرأسمالي الديمقراطي العلماني والمتدرج؟
فبين الحملات الفكرية ضد أولئك الخصوم (غير العلميين) و(الفوضويين) على حد التعابير البلشفية وقتذاك، إلى تقبل أطروحاتهم ومركستها بصورة عسكرية، لم يمض سوى عقدين.
هل حدثت تغييرات رأسمالية هائلة تستوجب تجاوزها نحو الاشتراكية؟
لم يحدث شيءٌ من هذا القبيل، ولكن حدثت تطورات سياسية كبرى، فقد توسع الاستعمار الغربي، وراحت دوله الكبرى تستحوذ على أقطار الدنيا كلها، وتقوم حروب بينها، وخاصة المجزرة الهائلة، الحرب العالمية الأولى، بل راحت تتغلغل في روسيا نفسها عبر شركاتها، مهددة ببلع مستعمراتها.
ولم تؤد دعوات لينين بتشكل معارضة قوية ضد الحرب دورها، وانحاز الاشتراكيون الديمقراطيون في كل بلد إلى بلدهم، وأعلن لينين الانفصال عنهم، ونعتهم بأنهم أصبحوا منحازين لبرجوازيات بلدانهم.
في هذه الفترة يمكن رؤية لينين (القومي)، المتواري، الغائر في الثقافة الشعبوية الاشتراكية المنعوتة سابقاً بالتخلف، وهذا التبدل الكبير بين تأييد التطور الديمقراطي للرأسمالية ورفض هذا التطور والقفز عنه، هوة كبيرة.
تم سد هذه الهوة المفاجئة الغريبة بمجموعة من المقولات، أهمها أن(روسيا تمثل الحلقة الرأسمالية الضعيفة التي يمكن كسرها والقفز بها للاشتراكية)، وبظهور الاستعمار الذي هو أعلى مراحل الرأسمالية، مما يعني في هذه المقولة الأخيرة ان الرأسمالية غدت كونية، وانه لا داعي لانتشارها الكلي في البلدان المتخلفة.
وكل هذه المقولات تقوم على هواجس قومية برجوازية لدى لينين، فروسيا أمنا تواجه خطر السيطرة الأجنبية، ولابد من الحفاظ عليها وعلى مستعمراتها، يغدو لينين هنا رجل التحرر الوطني، الذي سوف يجابه عملية استعباد روسيا، وينقذها بالتوجه الشعبي التحرري التقدمي.
لقد سقطت الأممية الثانية التي كانت ترفع راية الاشتراكية الديمقراطية في رأيه، على الرغم من أنها لم تسقط حقيقة، وسقطت الماركسية المنتجة في الغرب كما يتصور.
هنا مفترق طريق كبير بين الشرق المتخلف الإقطاعي، والرأسمالية الغربية، فالشرق يريد النهضة، والغرب الاستعماري يريد السيطرة عليه، الشرق يبحث عن طرق جديدة للتطور مغايرة للغرب، الذي وصل إلى ذروة التطور الاقتصادي ويريد منع الآخرين من التطور والاستقلال!

وطنيون لا طائفيين : عبـــــــدالله خلــــــــيفة

#صراع_الطوائف_والطبقات_في_المشرق_العربي_وايران

تسربتْ الأفاعي إلى ثيابِنا ودفأناها في جيوبِنا وبيوتنا.
صحونا بغتةً فإذا المدنُ دمار، والشعوبُ هائمةٌ على وجوهها في ملاجئ ومخيمات وتحت الثلوج والنيران!
الطائفيون السياسيون إنتشروا بفضلِ الحكومات وصناديق ضخ الأموال وخدع الجهاد وهوس القوميات الطائفية ثم إستيقظتْ بعضُ الحكومات على الأهوال وحرق البلدان وإنتشار النيران من بلدٍ إلى بلد وما تزال الخريطةُ تشتعل، والبيتُ الذي لا يحترق نيامٌ أهله، وصرخاتُ جيرانهِ لا يسمعها.
وطنيون وليس مسيسين سنةً وشيعة وعلويين ودروزاً، وطنيون موحِّدون لا ممزقين بلداننا، وطنيون لا مخربين فوضويين، وطنيون لا نقابيين طائفيين وبرلمانيين طائفيين ومتعلمين طائفيين.
بدلاتُ الطوائف السياسية المشتعلة ضعوها على معالقِِ الصخور وفي قيعانِ البحار وفي المزابل، هناك أمكنتها الطبيعة لا في النقابات والقصائد ومدارس الطلبة ولا في المصانع والصحف، ولا في الأحزاب والبرلمانات والعقول والبرامج.
لسانُ رجلِ الدين الطائفي يضخُ نيرانَ الموتِ لشعبه، فآن له أن يعودَ مُوحّداً، أما يرى كيف إحترقت المساجد؟ أما يرى كيف تشردت الشعوبُ وتلحفتْ بقصفِ الطائرات الطائفية ودك المدافع الطائفية؟
أما يقرأ القرآنَ؟ أما يرى الجثثَ التي ملأت ساحات بلاد المسلمين؟ وكلُ طامعٍ بالسلطان والكنوز تلحفَ بعباءةِ الموت هذه وخدع الشبابَ الساذج، وأعطى لعصاباتٍ من السياسيين الذين جعلوا المبادئَ مثل الأحذية المهترئة، وزارات وقطائعَ وهمية فلا يرون سوى المقابر والسجون والفوضى والدمار؟
لماذا يصمت رجلُ الدين ويشارك في نحرِ الشعوب، وتوصيل القنابل للبيوت، لماذا لا يتكلم ويوقظ الأمهات والآباء النائمين عن أولادهم وبناتهم يحرقون أعمدةَ الكهرباء والشوارع والسيارات والمدارس؟ ثم يحرقون بلدانَهم؟
لماذا يشاركُ في الجريمة؟ من خطفَ لسانه؟ من سرقَ بيانه؟ كيف يشاركُ في المنظمات الطائفية السياسية ويحطمُ إرادات الشعوب؟ يجعلها عرضةً للحروب؟
أخرجوا من المنظماتِ الطائفية، أخرجوا من مصائدَ الموت هذه، من تظاهراتِ الكراهية لأخوتكم، من تحت عباءاتِ زعماء العصابات الذين يقودونكم لقتل أهلكم، لتوزيعكم على ملاجئ الظلام والبرد والجوع، ومخيمات اللجؤ فتنتظرون قنابل من الكرام لا تجيء، لكنها تمحو المدن والحياة.
أخرجوا من مقراتِهم ومظاهراتِهم ومعسكراتهم وكونوا في بلدانكم في أمتكم في نضالكم الوطني، في أقاليمكم وقد صارت للوطن، للمواطنين من كل المذاهب والأديان، للمسيحيين والمسلمين، للعرب والأكراد، لأهل الشمال المسلمين وللمسيحيين في الجنوب، للعرب والبربر، للسود والبيض، لأهل القبائل والمدن، تراصوا في تجمعاتكم وقد صارت مدافعةً عن شعبكم، في كتلكم البرلمانية وقد صارت كتلةً شعبية تبحثُ عن قضايا الإنسان من كل الألوان!
أخرجوا من معسكراتِ القتلة يذبحون على الهوية الطائفية، لا تستبدلوا قتلةً بمجرمين، ولصوصاً بمجانين.
أخرجوا من عالمِ الطوائف لرحاب الأوطان، لا توجدُ قصيدةٌ سنية ومسرحيةٌ شيعية ونقابة مسيحية، لا يستدرجكم الطائفيون بالوعود الخلابة فوراءها نيرانٌ ضارية، فممزقو الشعوبِ لا يقودونها إلا للهلاك، يبعدون آياتَ التوحيدِ وهم يتلون الكتاب، جاءوا من الكهوفِ وعصور الظلام حيث تمزقتْ الأممُ والشعوبُ لقطعِ فسيفساء محترقة، يعيدون إنتاجَ الكراهيةِ والمذابح والجهل.
يخدعوننا يوماً بعد يوم أنهم المحررون والمنقذون والناس المأزومون في عيشهم أو المتبطرون في غناهم تستويهم الأحلام، ينقادون للعصاب الطائفي وليس للنضال العقلاني الوطني، يخدرهم القات المذهبي المسموم فيحرقون بلداً موحَّداً، فصار اليمن السعيد دامياً، والعراق كنز الأنهار والحقول المعدنية جائعاً شريداً، ومصر المحروسة بلا حراس تطلبُ معونة المجرمين، والجزائر جزائر من الجثث، ولبنان الأخضر دامياً، وسوريا.. آه سوريا في القلب الدامي.
ويريدون التسلل للجزيرة العربية وتطبيق برنامجهم المشؤوم، الذي لا يتوقف. فكلما أكل ضحيةً طلب المزيد.
فآن لهذه الأمةِ أن تحيا، وهذه الشعوب أن تتحرر وتتوحد وتنزعَ الأوشاب والأشواك من جلدها وثيابها.

إيران بين الحصارِ والتراث : عبـــــــدالله خلــــــــيفة

إيران بين الحصارِ والتراث

عاشتْ إيران في العصور القديمة محاصرةً بين جماعاتٍ من الشعوب البدوية الضارية، الهضبةُ الإيرانية كانت مركزَ الوجودِ للشعبِ الفارسي المتحضر الذي سكنَ هذه الأرض المجدبة، وحولها على مر القرون لمدن تقدم، ومن هنا صنعَ صورتي الإلهين المتضادين، إله النور وإله الظلام، إله الخير وإله الشر، وقد تجسد الشريرُ في هذه الشعوب البدوية الدموية.
وحتى حين شكل امبراطورية سمح بالتعدديات الدينية، وجاء حتى لليهود المُبعدين عن أرضهم وأرجع بعضهم بعد تخريب ملوك بابل وآشور. كان نموذجاً غريباً لأمبراطورية غزو وهيمنة.
وعارض هذا الشعبُ الإسلامَ بعد ذلك بشكلهِ البدوي الغازي المتجسدِ في عواصم الهيمنةِ والخراج، وحاولَ إعادةَ تأسيس حضارته القديمة بشكلٍ ديني إسلامي، فبحث عن العناصر المعارضة في هذه الحضارة الإسلامية، وأخذ يتماهى مع عناصر الغضب والعنف الحاد فيها كالخراسانية تحت رمزية القائد الفذ أبي مسلم الخراساني والقدرية والزيدية والإسماعيلية وهي كلها عرضتهم لأهوالِ الهجماتِ المضادة من قبل الدول المركزية، التي اكتسحت بلدهم مراراً وتكراراً بسبب دعوات هذه الفرق للثورة العنيفة الدائمة!
جاءتْ الصوفيةُ الاثناعشرية لتخلصهم من هذه الأهوال الحربية، ومن غياب الشخصية الوطنية، واختارتْ الطريقَ السلمي ونبذتْ العنف، وأخذتْ بالتقية، التي تعني المرونة السياسية في ظل حكم الهيمنة الأجنبي، وحدث فيضانٌ ثقافي كبير خلال هذا التاريخ.
ن العناصرَ الحصاريةَ ومواجهة الخير والشر، استدعتْ ثيمةً تاريخيةً تراثية مهمة هي حصارُ الحسين في معركة كربلاء الشهيرة، وهذه الثيمةُ انتشرتْ وتوسعتْ في الثقافة الإسلامية الإيرانية، وغدتْ عنصراً مركزياً استحضر كلَ ذلك الحصار التاريخي الطويل للشعب الإيراني، وهجوم القبائل البدوية، والنزيف الدموي الذي لم يتوقف، والمعاناة والحزن والنواح المُعذب من الفقر والاستغلال والحكومات الغريبة.
وصارتْ هيكلاً دينياً سياسياً متداخلاً وهو الذي تنبثقُ منهُ الدولةُ كجهازٍ متعالٍ على الشعب، يحكمهُ ويقهره، ويبقي سيطرةَ الأغنياءِ الكبار فيه ويغدو كذلك أداةَ تحريره من الدخلاء، ونهضته وتقدمه.
إنها ثيمةٌ ذاتُ وجهين: وجهُ العذابِ القادم من الخارج، ووجهُ التعذيبِ الذاتي. إنها الرغبةُ في وقفِ الألم ، الممزقِ للإنسان، وكذلك الرغبةُ في بقاءِ الأشكالِ الدينية التعذيبية كإطارٍ اجتماعي ديني لوحدةِ الشعب. إنه تاريخٌ معقدٌ طويل للشعوب الزراعية.
هو تعبيرٌ عن بقاءِ الألم والعذاب ونقص الوجود الإنساني وسلبيته وغربته عند جمهور الفقراء الذين لم يجئ الإمام بعد لتخليصهم من المعاناة وسوء الأحوال، وتمثل هذه الممارسات فرصة للتوحد والاشتراك في المحبة الإنسانية.
وفيما الشعبُ الإيراني يتحررُ ويدخلُ العصرَ الحديثَ بأحاديثه عن النور والسعادة تبقى ظروفهُ تراوح في مكانها، وعذاباته تتلون حسب الفترات المختلفة، وتنهمرُ سيولُ عذاباتهِ في العزاء وفي الفنونِ النواحية التي تغرفُ من ينابيع الأسى الدفينة الغائرة.
جاء الغربُ واعداً بالحريةِ والحداثة لكن الشركات راحتْ تنهبُ المدن والأرياف الفقيرة، ويظهر تراثٌ جديد، وفنون مختلفة، تفككُ تلك اللحمة القديمة، ويظهر إلهُ الشر وإلهُ الخير في صراع جديد، وهذه المرة من خلال صراع الغرب والشرق.
الجمهورُ يكره الحكومةَ ورجالَ الدين ويصارعهما لكن حين يهدد البلدُ يقف مع الدولة بقوة!
مظهران غريبان متضادان لم يُدرسا من قبل قوى الحصار والعقوبات.
تستثمر الأجهزةُ الحكومية الإيرانية تراثَ الحصارِ القديم، وتؤدلجُ الظاهرات الدينية، وتركبُها على التاريخِ المعاصر، وتستدعي الرموزَ وتعبئها بمادةٍ جديدة مُسيّسة تحرك المشاعر وتستدعي الاصطفافَ حولها.
العقوباتُ والأزمةُ المعيشية التي يعانيها الناس، تتفاعلان وتُصوران بأنهما جزءٌ من العداءِ التاريخي للأمم التي تكره الشعب المُختار من العناية الإلهية، ويعزف الرئيسُ الإيراني على نغمات العنصرية والجذور الغيبية، في سيمفونية عسكرية سياسية، تتخلص من ثقالة الرأسمالية الحكومية حين تكون عوناً للشعب، في جهات الأكل والوقود، وتضعها على أكتافه وهي تتسلح بمشروعات عسكرية خيالية.
يستثمر النظامُ الحصارَ والعقوبات، ليبرر الأزمات، فيظهرُ نفسَهُ بمظهر الدفاع العظيم عن الأمة المُهددة بفقد تراثها ودينها، وهو يعجز عن تكوين الفئات الوسطى الحاكمة الجامعة بين الديمقراطية التنموية والحرية الوطنية، بين حماية الجذور الإسلامية العريقة وتقبل ثقافة العصر الغربية الإنسانية.
فنظراً لتوجه أغلبية الفوائض الاقتصادية الكبيرة نحو التسلح وهيمنة العسكر، يصعب نمو الفئات الوسطى الصناعية والمدنية ويعاني الفقراء والكادحون هذا النزيف غير المبرر لكن الذي تبرره ثقافةُ المُحاصرين المُعذَّبين.
بينما يظن المؤسسون للعقوبات أنهم يهزمون النظامَ هم يقوونه، ويغذون لغة الحصار، وتكتيكات النظام المتلاعب على المشروع النووي، والشعب الإيراني يحتاج إلى المساعدات وتطوير البنى الاقتصادية المدنية ودعم الأرياف المنهكة، وتوسيع العلاقات الأخوية، التي يمكن من خلالها التعاون مع قوى السلام والآيات العظمى الحكيمة وقوى الإصلاح، أما لغة التهديد والتجبر فلا تنجح معه.

طريق اللــــــــؤلؤ ـ رواية الفصول من 1 إلى 6

شكرآ ووردبريس

     1    

هذه نشوتي وحبي لبلدي، منذ زمنٍ طويل لم أفرح، حتى لو أن عبدالحسين إختفى، والدوارَ هُجرَ وأزيل، لكن ديرتي ما زالت شامخة.

غصنا كثيراً من أجل اللؤلؤ، فقدنَا أعضاءَنا وقلوبنا، وعدنا بتمراتٍ وماء.

نحن سلالة الغواصين لا نتعبُ من أجلِ المحارِ واللؤلؤ.

مضينا في البحار، تهنا، أسرَنَا الأعداءُ، ضعنا.

وحين عثرنا على لؤلؤةٍ كبيرةٍ خرمَ بعضُنا السفينةَ وغرقنا.

تفجرُ الصخبُ بشكلٍ لم يسبق له مثيل، خلتُ أن البحرَ الذي هجرنا وذهبَ بعيداً، والذي سُرقتْ أمواجُهُ وسفنهُ ومواويله، هو الذي يتدفق، وأن الأحجارَ التي وُضعتْ في خلفيةِ الدوار، وزهتْ في الجسر، هي التي صارت تمشي.

عبدالحسين يتجمد عند التلفزيون، يطالعُ الشاشاتَ العربيةَ منبهراً، هذه أريافُ تونس التي يعرفها، ساحاتٌ واسعةٌ لأشجارِ الزيتون، بيوتٌ صغيرةٌ حالُها كحالِنا، لكنها أجمل بهذه الأشجار التي تبدو مثل نساءٍ أسطوريات، فنحن لم تبقْ لدينا أشجارٌ كثيرةٌ مثل هذه، عندنا نخيلٌ باقياتٌ وأشجارٌ خاليةٌ من الثمر. في تونس الأمر مختلفٌ، أراض لا تُحدُ من الزيتون، الشجراتُ النسائيةُ ذاتُ الجدائل الخضراء والسوداء.

بناتُ تونس الجميلات يظهرن على الشاشة ويصرخن، ونساؤنا مخبآت، مستترات، وعائشة مغيبة، نائية، ممنوعة على عبدالحسين، وها هو البائع المتجول الذي صار شهيراً يتحولُ إلى كتلةٍ من لهب!

عبدالحسين يقفزُ من على كرسيه! يَخرجُ من جلده، يَسحبُ الستارةَ عن النافذة، يفتحُ الزجاج، يعبُ الهواء.

يتطلعُ إلى بيوتِ القرية الكثيفةِ الكثيرة؛ منازلٌ هشةٌ، عتيقةٌ، بعضُها مرمم، بعضُها ينحني مترنحاً، وبعضُها جديدٌ يزهو بعيداً، والدروبُ ضيقةٌ، وساحاتُ الفضاءِ القديمةِ الواسعة نشبتْ فوق حواجز، إنغرستْ فيها جلاميد، أو سُيجتْ بأسلاك.

يريد عبدالحسين أن يشعل النارَ في روحه! كلُ الأوراق التي بثها رعبُهُ وجنونُهُ ما زالتْ في أدراجه. مضتْ في بريد، أخذها أبوهُ شهاب، سُلمتْ بأيدٍ عَرقة، لكنها ما رأتْ الحرية.

يرى البحرَ البشري يتدفقُ في شارع الحبيب بورقيبة، الناسُ تخرجُ من بين الصخورِ والأشجار، تُغرقُ الشوارعَ بأصواتِها وأنفاسِها، تملأُ الساحاتَ، حيث لا مكانَ لدراجةٍ أو مظلة، حيث تداخلتْ الأجسامُ حتى ذابتْ وصارتْ نهراً.

يقول عبدالحسين لكريم مهدي:

–  مازالتْ الناسُ تأكلُ وتشتري الخبز في حشدٍ هنا، ما زالتْ تتغلغلُ في سوق السمكِ والفواكه وتساوم!

أقولُ لهُ بنشوةٍ خفيةٍ لا أعرفُ كيف غمرتني:

–  الشاشاتُ تشتغل هنا مبهورة بذلك الشعبِ الجريء، الأخبارُ تتداول. والجماعةُ هادئة، كراسٍ في المجلس ورواتبٌ عالية وسيارات فارهة، هؤلاء هم الذين يختارهم السيد ميرزا علي، صبية، وجماعةُ حزبِ هارون تعرفهم!

صرخَ عبدالحسين:

–  إلى ماذا ينتظرون؟ حتى يفنى هؤلاء الناس؟ صرنا أقليةً في بلدنا، صرنا هنوداً حمراً!

أصدمهُ، أحاولُ أن أخفف من هياجه:

–  لا تستعجل، حاولْ أن تقرأ. شِعركَ الأخير لم يعجبني.

–  ماذا به؟

–  أشياءُ غائمةٌ، دوائرٌ غامضةٌ، وأنتَ وحدكَ في البستانِ المهدمِ والمحروق، تصطادُ أشباحاً، ملفاتٌ من الدخان وغيمٌ يأخذكَ في البهيم. ما هذا؟ أين الزخمُ الهادرُ؟ أين الجلجلة التي تمشي فيها مضرجاً بدمك؟

كريم يحتج:

–  أنتم تثرثرون في الشعر، الذي لا أقرأهُ ولا أحدَ يقرأه!

هذا النمطُ الغريبُ من المتعلمين ككريم كان دائماً معنا، لكن بحرَ المعرفة بعيدٌ عنه، ومع هذا يقودُ ويملأُنَا بالجراح!

يسترخي كريم على الجدارِ المشوهِ، حفرياتُ البحرِ وأصابعُهُ فيه، لا ينقصُ كريمٌ المال، لكنه مغروسٌ في القريةِ لبخلٍ عريقٍ لديه، كلُ الدكاترة وأصحابِ النظاراتِ المقعرة، والشهادات المزورة غادروا إلى الصحراء ينشئون بيوتاً فارهة، لم يسمعْ أصواتَهم إلا متقطعةً في الهواتف أو يراهم يتحدثون في التلفزيون عن الانجازات.

أنهضُ وأسكبُ شراباً لهما، يدفق عبدالحسين السائلَ البارد، ينتعش، يهتفُ بجرأة عاطفية:

–  سأقولُ لكما حكايةً غريبةً حدثتْ لي، في نفس الوزارة، في نفسِ الممراتِ الخائبة، ونفس الموظفين المصنوعين من الملح،  حدثَ شيءٌ غريبٌ جميل.

برعونةٍ يقول كريم:

–  هل يمكن أن يحدثَ في الوزارات شيءٌ جميل؟

–  كلمتني فتاةٌ، فتاةٌ جميلةٌ أخذتني لمكتبها، جلستُ في مواجهةِ طيفٍ ملائكي، كثيرٌ من الشوكِ الذي أحملهُ من غاباتِ القرى تناثرَ هناك، إحترقَ، ذاب تحت الرموش، تمددتُ. وودتُ لو أظلُ إلى الأبدِ أطالعُ هذا الوجه. ثم مرةً ومرةً أخرى، وصار مكتبينا أجمل بقعتين في العالم!

–  أبهذه السرعة وفي الجانب الآخر من البحر الأهلي المضطرب؟

–  ما هذه الكلماتُ المحبطةُ يا كريم، لم أجدك يوماً تمدح لي قصيدةً فما بالك بمشروع حياتي الراهن؟

–  كيف لا وأنت مثل الأدباء القدامى الرومانتيكيين الهائمين بين جذوعِ النخيل والغابةِ المقطوعةِ وكل هذه الكلمات العجيبة، أصحْ، استيقظْ من رقدتك!

يبتعدُ عن كريم ويقتربُ مني ويكادُ ينحني ليس لي ولكن للأرضِ، لجذورِ النخيل اليابسة:

–  علاقةٌ غمرتني، خفتُ أن أبوحَ بها لأحد، لا أصدق أن كلَ هذا الجمال يحبني، رحتُ أعملُ في المجلة، وأقرأ، شجعتني عائشة على الحياة، غمرتْ روحي محبةٌ عظيمة!

     2    

لو أنهم يَصرخون لعرفتهم، هذه الوجوهُ تمشي إلى الأبدِ في الطرقِ الغامضةِ، بين القبورِ، تَدخلُ القلاعَ القديمةَ وترفعُ الأعلامَ. منذ أن هُزمَ الحسينُ والدوائرُ كلُها تشتعلُ، مخاضُ الأمةِ يتجددُ في كلِ ربيعٍ من الدمِ والأزهار.

الحصادُ التونسي من الجثثِ كان رهيباً، الطاغيةُ وراء الأسوارِ والمدافعِ والمكاتب، بوجهٍ مصنوعٍ من قناع دبق، كأنه إحدى العرائسِ المتحركةِ لكنها تنفثُ أعاصيرَ الملاريا ورياحَ الطاعون، الشجرُ مشى محتجاً، الزيتونُ صار قبضات، والفتياتُ صرنَّ ربيعاً، وبائعاتُ اللذةِ في الأزقةِ الداخلية رحنَّ يسرقنَّ سجلات المخبرين.

بيتُ عبدالحسين ضيقٌ وغرفتُهُ يشاركُهُ فيها أخوتُهُ الصغار، ويعودُ بعد أن يناموا ليقرأ، وأصواتهم وشخيرهم الرقيق تفتتُ أنسجةَ الشعر.

يقول لي:

–  كريم لا يفهمني، بل غضب عليّ لأنني أُعجبتْ بفتاةٍ من مدينةٍ بعيدة، يقولُ لي كيف تحب وأنتَ عاطل؟ فأصرخُ فيه قلبي لم يُوضع في سجلِ التأمين بعد! ماذا تقول يا شيخنا، أنت هنا متوحدٌ، غريبٌ، لا تؤنسكَ سوى الكتب والموسيقى والنبيذ، ألا تخافُ من أهلِ القرية يقتلونك؟

أردُ عليه:

–  أشعلْ قلبكَ بهِ، هو الضوءُ الكبيرُ لنا.

–  أتعرفُ يا شيخنَا كيف أفادتني نصائحك، كأنكَ جربتَ الحبَ كثيراً! كنتُ أبحثُ عن وظيفةٍ حقيرةٍ في الوزارة فإذا بي أقعُ في شَركٍ كبير. لا مالَ، ولا بيتَ مثل بيوت الناس، ولا وظيفة، ولا كتبَ مؤلفةً أتباهى بها، ولا زاويةً في جريدةٍ أرفسُ فيها كالبغل، ثم يتم إصطيادي في شباكِ فاتنةٍ لا أستطيعُ أن أمزقَهُ أو أخرجَ من بين ثغراته. لكن الكلماتَ التي أمطرتْ فوق روحي، الكبريتُ الصغيرُ الذي يضيءُ غرفتك، مشيتُ بهِ على أهابِ الحسِّ العاطفي، دخلتُ به في عيني الفتاةِ التي تشرقُ في تلك المدينة مع الشمس. قلتُ لها: هاكِ نفسي فداءً، وضعتُ حياتي تحتَ أناملِها وشِعري تحتَ ظفائرِها. فلم تقدمْ لي وظيفةً فحسب بل قلبَها كذلك.

     3    

لا يمكنُ لهذا الفتى الطفلِ إلا أن ينغمسَ في اللهوِّ ويطيرَ بين الزهرِ، ويعودَ بكتابٍ يقرأهُ على ضوءِ شمعةٍ، أو عند مصباحٍ لبيتِ رجلٍ ثري لا يشكُ فيه فيتصلُ بالشرطةِ ولا يأبهُ بفواتير الكهرباءِ الثقيلة.

وعليَّ أن أمضي بين أزقةِ الوحشةِ أتنصتُ لما يقولهُ الشيوخُ المجتمعون بدأبٍ مقلقٍ، تضطجعُ سياراتُهم وتهزُ الأحياءَ الهادئةَ المسكينة، في ذلك الخلاءِ الكبيرِ الذي يشرفُ عليه بيتُ السيدِ ميرزا علي، لا يمكن لنأمةٍ أن تتسللَ من بين تلك الأجداثِ الغلاظِ، أو أن يتمكنَ عصفورٌ من تناولِ قشةٍ ليصنعَ عشَ حبٍ بدونِ أن يدفعَ ضريبةً، لكن عليّ أن أخطَ الأثرَ، وأنصتُ للمحطاتِ السريةِ، وأتجلى للنخلاتِ الباقياتِ بعد عواصفِ الشيطان هادياً للروحِ الأخضر.

ثمةَ ناطورٌ مسكينٌ يدلي بأخبارٍ بعد التحياتِ التي يطلقُها هو بادئاً، ويرجعُ أصداءَ تمتماتِ السادةِ وسواقِهم الغامضة وتلاميذهم الأوفياء، وحتى البراميل لا يمكن أن تُدلي بشيءٍ من قصاصاتِ أوراقِهم المحروقة، لكن إحدى الخادمات الجارات التي تقدمُ الأطباقَ الكثيرةَ بتعبٍ لا يتوقف هي وحدها من يمكن أن تسربَ بعضَ الجملِ والأخبار المفيدة.

كلهم يتكلمون إلا السيد ميرزا، يظلُ يرمقُهم بوجههِ الصغيرِ وعينيهِ الخرزيتينِ المضيئتينِ كأنهما نصلانِ تحت الماءِ الشفاف.

يتكلمون ويَعرضون الأسى العامَ الذي يسببُهُ غيرُهم، لكنهم لا يتحدثون عن المخازنِ الوفيرة المتسعة، وحملات تغذيتها تجنباً ربما للخطوب القادمة، وعن التحويلاتِ النقديةِ الكثيرة التي تصاعدتْ فجأة لجهاتٍ شتى.

لا أستطيع أن ألمسَ شيئاً، وأمضي في تجوالي، في ذاتِ الأزقةِ الموحشةِ، وبين دروبِ البساتينِ الصامتةِ إلا من ثرثرةِ الجنادبِ المزعجة، وكثيراً ما صادفني عبدالحسين فيُفاجئُ من وجهي في الظلام. يهتفُ: توقعتُ كلَ البشرِ إلا أنتَ! وكان يجب أن يقولَ لم أتوقعْ أحداً إلا أنت! ولكن من أين لهذا الفتى أن يعلمَ؟ وهو لم يرَ الخطوبَ. أمضي، أشقُ دروبي، تطالعني الأقمارُ الصناعيةُ وتحددَ خطاي، أجنحُ نحو النُهيرِ الضيق، تحسبُ خطواتيَّ الحشائشُ. بيوتُهُم عملاقةٌ في هذه الزروعِ الوفيرة، قصورٌ على مدى النظر، وبيوتٌ فوق المرتفعاتِ الشامخة، وعندهم أضواءٌ جامحةٌ، أصغي للأسلاكِ تنقلُ ذبذباتِنا، أرهفُ السمعَ للصرخاتِ القادمةِ من مدنِ الصفيح، تغمغمُ إعلاناتُ التوفيرِ القاسية في بيوت الظلمات والأسى، تبكي تسريحاتٌ إضطراريةٌ في أوقاتٍ صعبة، نهرٌ من المعدنِ المضيء ينسحبُ من عينِ قصاري إلى مدينةِ الأضواء وناطحات السحب، أطفالٌ يبكون في المزاداتِ العلنية، تنشل قواي، لا أستطيع أن أسير .

     4    

كيف لي أن أغيرَ من شابٍ كـ عبدالحسين الوسيم العطر في بيئةٍ رثةٍ مليئةٍ بالسماد؟ هذا الذي لم يرحلْ لبلدان بعيدة؟ يسألني: كيف هي تونس؟ كيف هي مصر؟ كيف هي سورية؟ ويدوخُ حين يقولُ كيف هي أوروبا؟ لم يذهبْ سوى إلى الكويت، حيث إشتغلَ في فندق، وأحسَّ أنه في مصيدةٍ حجريةٍ نارية، فشربَ وسجنوه ثم سفَّروه!

لم يرْ أزقةَ تونس الرفيقةِ بالماشي. الأحجارُ تندى بالماضي وتمدُ أغصانَ الياسمين لروما، الدروبُ تحنو عليك، والجبالُ الرفيقةُ مفروشةٌ بالعشبِ الأخضر، والنساءُ مثل الخوخ في الشوارع، وعلى المقاعد في الشارع الرئيسي، وحاناتُ الشغيلةِ في كلِ أزقة شارع الحبيب، حيث الزنود والهياكل العظمية التعبة، وسحابات من الكلام والدخان.

هناك جلستُ في فندق وأحتضنتُ امرأةً جميلة، جاءتْ من الريف فأخذتُها إلى الخلاءِ الواسع، حيث تُذبحُ الأغنامُ ويُشوى اللحمُ كأنه الزبدة، كانت في كل لحظة تسرقني، تجمعُ رثاثاً نقدياً تافهاً، حتى تَركتُ لها كلَ شيء وأنا أسبح في الحمام أحسُّ بأصابعِها اللزقة وهي تنظف جيوبي!

هناك كانت رفقتي، بيت المعلمة عرضتْ عليّ سريرَها فجلستُ في غرفةٍ أخرى، وكان برداً، ودفئاً في المشاعر والسفر إلى الجبال ومدى الزيتون وأخذ التذكارات من مهاراتِ الحرفيين، كان البشرُ يظهرون معصورين، مثل قطع الصخور، صاحبي كان ينفضُ عليّ آلامَ الناس، كلُ قطعةِ نقدٍ تَظهرُ من مسامٍ ملأى بالدم.

نتطلع عبدالحسين وكريم وأنا للشاشة وهي ترينا البحرَ البشري في شارعِ الحبيب ملأ الآفاق، كتلُ السوادِ والدروعُ تخترقُهم، المياهُ الحارةُ تنصبُ فوقهم، شلالاتٌ هادرةٌ تفتتُهم، تمزقُهم، يتسربُ بعضُهم للحارات الجانبية، تتحملُ البقيةُ ضرباتَ العصي، تنهارُ على البلاط، تُقذفُ في الشاحنات، جمهورٌ آخرُ يظهر، جاءَ من كلِ مسامِ المدينةِ، إنتشرَ مرةً أخرى.

عبدالحسين مبهورٌ:

–  ماذا يحدثُ؟ لماذا لا يتوقفون؟ لماذا يختفون فيظهرون من جديدٍ أكثر، وأشجع؟ الأزقةُ الصغيرةُ تفيضُ بالبشر وقد صاروا عملاقة؟

     5    

أطيرُ بأجنحتي وحبي نحو خلايا الرحيقِ في المدينة، الرفاقُ الذين إنقطعتْ خيوطي بهم، الأصدقاءُ الذين يشربون ويثرثرون ويدفئون الأجواءَ الباردة في الأحياء، يخلقون ألفةً في غربةٍ كثيفة كاوية، هم أنفسُهم لم يتغيروا، على مقاعدِهم، بنفسِ هيئاتِهم، بنفسِ شرابهم، وسحناتُهم إزدادتْ قدماً، وإسترختْ وملأتها الأطلالُ والحفرُ والتلالُ والأضواءُ الخاطفةُ وأغوارٌ ملعونة.

صديق قديم هو سلطان علي، ينظرُ بكبرياء شامخةٍ إلى الوجود، يحدقُ في كلماتِ الآخرين بتجهم، عبدالله عبدالوهاب ربعة وهادئ وذو لغة راقية، وداخله نيران، ويونس خلف يحتفظ ببدلته وربطة عنقه في كل الأوقات يكتب مقالة نادرة في كل شهر.

سلطان في حالة غليان:

–  وماذا بعد؟ العالم يشتعل ونحن في برود غريب؟ نريد أن ينفجرَ شيء هنا؟ لماذا هذه الشوارع منطفأة؟

يجيب عبدالله:

–  تركنا الناس والناس تركتنا. نحن لا نمثلُ شيئاً.

يأتي أناسٌ آخرون، تتكرر الكلمات، كم من الضحايا الذين سقطوا في تونس؟ الجيش لم يتدخل، الموجات البشرية تتدفق من أعماق الريف المثخن بالجراح، يصرخ سلطان:

–  علينا أن نفعل شيئاً. أن نصدر نشرة، ان نوزع كلمة، أما هذا الخرس فهو مشين!

يرد عبدالله:

–  من يتحرك هم هناك رجال الدين في الأعماق والذين لا تحبونهم!

ينهض سلطان بقامته القصيرة الهزيلة وكأنه سيف مشهر:

ــ  هم الذين خربوا كلَ شيء!

نفس أنفاس الحارات، نفس البيوت القديمة، والدكاكين محنية الظهور، كم مرة مررنا بهذه الأزقة المحرقية الدائخة من المطر والحر وسلطان من العلب القليلة عند البحر حتى الشرب ظهراً وليلاً، كائن صغير يشفط الدخان ويتصحر، ولا يهدأ عن الطيران في الهواء.

عقوداً جلسوا هنا، حاصروا أنفسهم بين الدخان والجدران والعلب والكلام والشجار، نفس الحارات والبشر والمدن تنمو وتتوغل في البحر والفنادق والعمارات وناطحات السحب تظهر بدون دخل لهم، الأحجار تتنامى في كل مكان وغرفهم هي نفسها، سلطان كان في بيت كبير ثم بيع وتقاسم الأهل المال، وأجر شقة صغيرة ثم سكن مع صديق.

عبدالله كون أسرة وعاش في الوزارات الحكومية وما يفتأ يهاجمها ويقبع في العتمة، يقرأ كثيراً، ويصمت كثيراً، وكون لنفسه ثروة صغيرة ويطير مع الثورات الكبرى وهدم الأبنية العتيقة ويتبدل الهدوء فجأة بعاصفة ويريد حرق كل شيء!

يتسلل عبدالله بسرعة إلى البيت، مهتماً بالدوام، والاستيقاظ المبكر والصحة. في حين يدع سلطان نفسه للسهر والتدخين والثرثرة، يتعبه في دورانه على ذات الجملة، (يجب أن يحدث شيءٌ يهدم هذا الجمود)، السيجارة تشتعل وترتفع إلى وجهه، تدور في هذه التلة الصغيرة الضامرة، ذات المنخفضات والعظام اليابسة الأخيرة والعينيان الصغيرتان التائهتان بين الجمل والجهات، والحانة راحت تغسل نفسها من الورق والبشر وتقلب الكراسي والحضور، وهو متشبث بعلبه:

–  هل نقبل أن يحكمنا أصحاب اللحى المتخلفون هؤلاء.. القادمون من عصور الظلام.. يتجمدون في الحلال والحرام.. ماذا نفعل بهذا الهراء كله؟

يقوده في السيارة إلى بيته وتداخلت الدروب والأشياء والكلمات، ويعرف الشارع العام، وتاهت الأزقة الجانبية وهو لا يزال في جملته الدائرية المحورية، والسيجارة تنفض رمادها على الأرصفة والدموع والأغلفة التي لم تقرأ، وحتى حين أنزله كان لا يزال يتكلم.

     6    

عبدالحسين محباً صارَ فراشةً، يقفزُ على جذوعِ النخلِ الميتِ ومصائدِ الأولادِ المطبقةِ على أعناقِ العصافير بخفة، يصنع قارباً لوحاً لوحاً، صارَ لديه مكتب، في مجلةٍ بائسة لكنه لا يتحمل مسئولية النشر فيها، ويدخلُ وزارةً بين حرس، ولديه بطاقة تُوضع على صدره، وصار يستلم رواتب، ويرى عائشة كل يوم، ويلتقيان في مقهى، وثمة شرارات تتفجرُ بين أصابعِهما، حمامتانِ طائرتانِ في الأعالي ثم نزلتا لتضاريس الأرض، وجدتا نفسيهما بين طوابق عماراتٍ ضارية، قرب مكيفات صاخبة بالهواء الحار، في مربعات صغيرة محفورة بين الجدران فكيف سيبنيان عشاً؟

الآن قميصه المفتوح يرتعش، الريشُ يلامسُ النارَ، حِكمُ الشيوخِ تبخرتْ في رمادِ العقودِ البنكية، ويسألهُ أن يمدهُ بحكمة، ومن يستطيع في الحب أن يكون حكيماً؟!

–  حين قلتُ لأمي أن اسم حبيبتي عائشة فَزعتْ! قالت بسخرية منفرة: ألم تجد إلا واحدة اسمها عائشة؟ عائشة أم الذباب؟! وسنية وأخوتها ضباط وأبوها لا أعرف ماذا يكون! وأمامك كل هؤلاء البنات المصونات المحجبات الطاهرات النقيات! رحتُ أحاولُ إقناعَها: هذه فتاة طيبة جداً، نقية، ما دخلي أنا بأبيها وأخيها وجذور اسمها؟ ضحكت أمي، جذور؟ (ويش هذه الجذور؟)، هل أنت سوف تزرع أم تتزوج؟!

رمادُ سيجارتهِ يظهرُ من دائرةِ قلبه، يدخلُ تضاريسَ الأزقةِ القديمة، يَرى خِياماً وقوافلَ ودماءً، وصحراءَ تنبضُ بقصور عملاقة زُرعتْ فوق جماجم وأسواق، ويظهرُ ورقٌ وشعرٌ وحكايات وأقمارٌ محترقةٌ في السماءِ ونيازكٌ غامضة تنشرُ المعرفةَ والسحر، والقافلتان تتحاربان، تظلان في الرمال، تدفنان الجماجمَ والتعاويذ وتراسلان الأجيالَ عبرَ المخطوطات وأوراق البردى والإنترنت، توصلان الدمَ والعظامَ المحروقة والخرافات إلى الأسرة ومهود الأطفال.

–  ماذا أفعل يا شيخي؟ ما دخلي أنا بكل هذا التاريخ؟ ولم تختلف ردودُ أسرة أحمد العلاف العالية، ذات البيوت الكبيرة والدائرة المالية والسيارات عن عائلة شهاب عمران! عن هذه الأسرة ذات البيت الرث والأولاد الكثيرين الذين يذهب بعضهم للسوق لتسفيط السمك وحمل الأغراض في العربات!

أجنحتهُ لا تستطيع أن تطيرَ به، أجنحتهُ تضربُ الصخور ، يسمعُ الكلماتَ الغريبة، تجرحُ أذنَهُ، تقولُ الأمُ: أتتزوجين شخصاً اسمه عبدالحسين؟ هل ضاقتْ الدنيا حتى تذهبين تتسولين في قرية من أجل زوج؟ لو أنك جلبتِ لنا كلَ أموال الدنيا وكل جمال الشباب لن يخطو هذا الكائن نحونا أبداً! ليذهب ليصلح اسمه أولاً ويجد أصلاً غير هذا الأصل حتى يمكن لبنات الأشراف أن يرضين به!

حاولْ أن تطيرَ، أن تجدَ صخرةً تنزلُ عليها غير هذه الصخرة الموحشة الناقعة في البحر، تضربها الرمالُ الموحشةُ البليدةُ من الخيامِ وغاباتِ الماعز والإبل، وتجرفها زجاجاتُ القرى الجائعةِ المسكينةِ المليئةِ بأسماكِها الصغيرة المتعفنةِ وبالمدمراتِ الشامخة التي تسبحُ فوق عظام المساكين.

أخو عائشة الضابط خثلان ينتفض غضباً، تطير النجوم من على كتفيه وتصيرُ أسهماً نارية، ويَضربُ حذاؤه وجهَ الرصيفِ تاركاً فيه علاماتٍ من الصوتِ والصولجان، ويقتربُ من طاولةِ الغزلِ العفيف، ولقاء البحر بالنخيل، ورفيف العصافير الشعرية على القواربِ التي تكادُ أن تغرقَ في بركة.

–  لا أسمح أن تقتربَ من أختي ثانية!

–  أرفعْ يدكَ عن كتفي!

–  سوف أجركَ لزنزانةٍ تقبعُ فيها نصفَ عمرك!

–  أنت شقيقُ حبيبتي ولهذا لن أردَ على جرحِ أظافرك لكتفي!

–  لا تقلْ مثل هذه الكلمات البذيئة.

–  لا تفعلْ ذلك يا أخي! أنت تعتدي على القانون أولاً!

سيدي تونس تمضي في الشوارع كلها، لم يبق أحدٌ في بيته سوى الطاغية وأتباعه، خائفون أنزلوا كلَ العساكرِ والمروحياتِ والسياراتِ تمطرُ رذاذاً ساماً وإشاعاتٍ وأكاذيب وتملأ الإسطبلات والملاعب بالمقيدين والمجروحين، والفارون يملأون الزوارقَ والسفنَ ويلوذون بشواطئ أوروبا، ويغرقون، ويسبحون، ويتمزقون بين الصخورِ وأسماكِ القرش، ولا يجدون أطواقَ النجاة، وينتشر المعلقون والناشرون والأفواه المفوهة ويتحدثون عن حقوق البشر، ويجد روادُ المطاعمِ على شواطئ البحرِ قلوبَ التونسيين في الأطباق محمرةً لذيذة!

اطلب الرواية عن طريق النيل الفرات : https://www.neelwafurat.com/itempage.aspx?id=lbb291574-278294&search=books

تلاقي المستغِلين فوقَ التضاريس

#عبدالله_خليفة


ما الذي يجعل إيديولوجية مستنيرةً كالماركسية نتاجِ التحضر الأوروبي تتلاقى وإيديولوجية ظلامية كولايةِ الفقيه نتاج العصور الوسطى؟
كيف لطموحات الشغيلة البطولية للقضاء على الاستغلال والقفز بالعالم نحو الاشتراكية أن تتعاضدَ مع آمال الإقطاعيين للعودة إلى الوراء والسيطرة على العمال والنساء في قمقم التخلف؟
كيف لفكرة تسعى إلى التنوير والانفتاح والشفافية والديمقراطية ومساواة القوميات أن تتلوى بين أيدي القمع ومصادرة الحريات والتنوع الفكري والصحفي؟
هي مصائرُ أفكار الطبقات العليا في تنقلاتها وتحولاتها، وخداعها للجمهور عبر الدول والجغرافيا السياسية والاجتماعية.
هي مثلما كانت وما زالت أفكارُ الأديان في تنقلاتها بين العصور والأمم، تبدأ ثورات مناضلة للتطور، وتتآكل وتغدو شكلانية خارجية فوقية، معبرةً عن سيطرات القوى الاجتماعية العليا في الأمم المختلفة، فلا يختلفُ بعضها عن بعض إلا بعبادات تُضخمُ وجوانب صغيرة تتعملقُ وتغدو مدار الاختلاف والتعصب، ولكن عبر تلاقي الطبقات العليا في السيطرة وتلاشي الطبقات الشعبية في الخضوع وتقزم الشخصية والجهل بمصالحها.
وإذ تعبرُ دكتاتورية البروليتاريا عن مصدرها الغربي الرفيع كحكمٍ استثنائي عابر لمرحلة تحول، ومع هذا فهي تُطردُ من الغرب مشكل الديمقراطية وعدو الدكتاتورية، فإنها لا تجد تحلّلها وتدهورها إلا في الشرق الوسيط الناهض حيث الأبنية الاستبدادية.
هنا تصيرُ سيطرةً شبه أبدية، وتغدو الرأسمالية الحكومية المصوّرة نفسَها بأنها اشتراكية ومعبرة عن الكادحين، تفريخاً للرأسمالية من الباطن.
حيث إن سمات الدكتاتورية من منعِ التنوعِ الفكري السياسي، ومصادرة تنوع الطبقات، وقيام فئة من البرجوازية الصغيرة بمنع التشكيلات الموضوعية للطبقات وقوى الانتاج، تجعل من هذه الدكتاتورية صعوداً لقوى عليا تمتلكُ كلَّ أدوات السلطة وتمنع غيرها منها، فلا تغدو لها علاقات كفاحية مع العمال، بل تنفصلُ عنهم، وتغدو عدوةً لهم!
وهي السمات نفسها التي تتلاقى مع ولاية الفقيه، حيث إن التنوع الفقهي الإسلامي وتعددية الآراء السياسية تُصادرُ لمصلحة سيطرة فقه شكلاني وحيد، تتجسد فيه سيطرة الدولة الكلية.
ويقوم هذا الفقهُ المسيّس المجّمدُ شريعةً بوقف تنوع الطبقات وصراعها وتعدد مواقفها، حين يُطبقُ بهيمنته على عَصب الحكم، ويحددُ برنامجَ التنمية الاقتصادية في مصالح الفئات التي تخضعُ له، ليحولها كذلك إلى طبقات رأسمالية من الباطن والظاهر معاً.
ولهذا فإن مسار الاتحاد السوفيتي كان مضاداً لمسار الدولة الإيرانية المَلكية في القرن العشرين، حيث كانت برامج الطبقات السياسية الحاكمة في أولى تجلياتها، وتعبيرها عن النهضة الاقتصادية في روسيا، وبداية تشكل الدولة القومية الجديدة في إيران.
القوميتان الروسية والفارسية ما كانتا قادرتين على التطور الديمقراطي نظراً إلى الأبنية السياسية والاجتماعية المحافظة، فكان الشكلان الدكتاتوريان تعبيرين عن خيارات قوى عليا في مراحل مختلفة، يصطدمان في البدايات، حتى يتآكل الشكل في روسيا، ويغدو تطور الرأسمالية الحكومية عاجزاً فيخلق رأسمالية خاصة، مثلما يعجز التطور القومي التحديثي الديمقراطي في إيران عن القيادة، فيظهر التطور الشمولي الديني لإحداث التحولات.
يصنع هذا التطور رأسماليةً حكومية إيرانية عبر سيطرة القوى الريفية المحافظة، التي تقود إلى هيمنة رجال الدين والحرس الثوري.
القوى العليا في كل من روسيا وإيران تلتقي في سياسات معبرة عن طبقات الاستغلال التي ركبت فوق المُلكية العامة والطبقات الشعبية، وبسياساتٍ متعسفة عسكرية تجاه الأمم الأخرى.
الأبنية المحافظة للشرق غربلتْ الأفكارَ المتقدمة للغرب والمتخلفة في العصور الوسطى، في سياسات متقاربة معبرة عن تلك القوى الاستغلالية الشمولية، وقد ادَّعت كلٌّ منها في البدايات أنها تعبر عن الكادحين والمظلومين ثم تكشفت باعتبارها معبرة عن قوى البيروقراطية السياسية والدينية والعسكرية.

الماركسية والأديان

#عبدالله_خليفة

لا يمكن أن تُفهم الأديان والتراث السابق للبشرية بشكل موضوعي حقيقي إلا من قبل الماركسية. ولكن ليست أي ماركسية، فالماركسية غدت ماركسيات، مثلما أن الإسلام غدا مذاهب وتيارات لا حصر لها.
فالإسلام بكل أطيافه يظل متوحداً في بنية كلاسيكية لم يستطع المنتجون الفكريون والسياسيون المنتمون إليها تغييرها، وليس للإسلام كدين عريض لكي يبقى سوى أن يتحد بالمستقبل والتطور، في حين أن أغلبية المنتجين السابقين يقودونه إلى الماضي ويمنعون مقلديه من المضي إلى الحداثة، لأنهم لا يفهمون تركيبة الإسلام الماضوية الحقيقية.
وقد نظر الدينيون في الغرب والمشرق الإسلامي الى الماركسية باعتبارها أداة هدم وإزالة للأديان، خلطاً منهم بين الماركسية الارادية الذاتية وبين الماركسية الموضوعية، بين الماركسية كما تشكلت في دول الشرق الاستبدادية وبين الماركسية كما تنامت في حقول المعرفة الحديثة.
لقد تشكلت ماركسية القرن التاسع عشر في أوروبا الغربية كتتويج لنزعات التنوير والإلحاد والنضال العمالي ضد الكنيسة وراس المال، بعد أن تم على نحو مهم إبعاد الدين عن العمل السياسي العام، وهي معبرة عن مصالح الطبقة العاملة تحديداً، التي ظلت تعمل من أجلها، فتوجهت للعمل السياسي مشكلة أحزاباً لم تستطع أن تصل إلى السلطة، بحكم أن طبقة رأس المال استطاعت أن تجذر سلطتها في نواحي الحياة كافة.
كما تشكلت أصولُ الماركسية بين نزعات الحداثة المختلفة، التي اتسمت بطابع معرفي متقارب، هو كون نظراتها كما تعتقد هي النظرات الوحيدة الصائبة، فالعقل لديها هو عقلٌ مطلق، وهو العقلُ المطلقُ الذي انتقل إلى روسيا والصين وغيرهما وصار نظاماً اجتماعياً متوحداً بالعقل الديني. فتغدو أحكامها نهائية، من حيث اعتبار دولتها أبدية، وثورتها مطلقة، ونظرتها باقية على مر الزمن.
فتشكلت في العالم المتخلف ماركسية أصولية، فهي تعتمد على أصول أبدية، خارج التاريخ، وهي نظرية تاريخية نسبية! ولا يمكن لهذه الماركسية الأصولية أن تختفي من الأحزاب التى آمنت بها، وهي ذاتها جاءت من مرتكزات دينية، كما لا يمكن بسهولة أن تظهر ماركسية تجديدية تاريخية نسبية، فتعتقد أن ما تقدمه من أطروحات وبرامج شيء نسبي وأن برامجها ونظراتها الفكرية هي نسبية كذلك.
يعوق ذلك الوضعُ الاجتماعي الذي تتشكلُ فيه هذه الأفكار، ومستويات الأعضاء القادمين من بيئات فقيرة محدودة التعليم، ومحدودة القراءة. وهكذا حدث للماركسية ما حدث للأديان، من حيث تفككها إلى مذاهب، فتقومُ كلُ دولة ذات نفوذ كبير، وكل حزب كبير، بصياغة ماركسيته المشكلة على مصالح سلطته، لا على تشكيل عقل ديمقراطي جماعي للتنظيم، نسبي في تاريخه، منفصل عن السلطة المطلقة، وسواء كان دولةً أو جماعة أو ديناً . ومن هنا كانت عبادة الأصنام والمناطق والشخصيات والتجارب، لا باعتبارها تجارب تاريخية نسبية يجب ألا تُعبد.
وهكذا ظهرت الماركسية العربية في تبعية للمراكز الخارجية، إلى أن بدأت تظهر عقولٌ نقديةٌ باحثة، ظلت هي الأخرى تشتغلُ تحت مظلةِ العقل المطلق، عقل الحداثة، لأنها تتصور أن عقلها قادر على إزاحة كل العقول المتخلفة المحيطة، فهو النفي المطلق للدين، والنفي المطلق للاستغلال، والنفي المطلق للقومية.
وحين ظهرت محدوديةُ العقلِ المطلق الماركسي هذا في تجارب روسيا والصين وكوبا الخ.. غدا الشك موجهاً للتطبيقات وللتدخلات العدائية القادمة من الخارج ضد بنيته النقية، وليس في نقد هذا العقل المطلق نفسه، ولعدم اعترافه بنسبيته ومحدوديته في زخم التاريخ.
إن الأنظمةَ والجماعات الدكتاتورية التي شكلت إسلاماً دكتاتورياً بعقل مطلق وأبدي كما حدث ذلك في الماركسية، والإسلام والماركسية كفكرين ثوريين من عصرين مختلفين، يحويان بذور التفكير النضالي الإنساني بأدوات تعبيرية ومنهجية مختلفة حسب مستوى العصور، لكن الأنظمة والجماعات الشمولية تسيطرُ على ذلك المضمون وتحوله إلى شكلٍ مفرغٍ من دلالاته الكفاحية.
كان الإسلام والمسيحية واليهودية ثورات في أزمنتها وحسب مواقع ومستويات تطور شعوبها التي ظهرت فيها، وكانت الماركسية نظرية للثورة العمالية فى العصر الحديث، لكنها كذلك تحوي نظرة لرؤية العالم مختلفة نوعياً عن طرائق فهم الأديان للعالم.
وبسبب ذلك تشكلت صراعات معقدة بين الأديان والماركسية، وأخذ ذلك مجرى الصراع الإلغائي بين الماركسية المطلقة، أي الماركسية الشمولية، وبين الأديان كما جيرتها الأنظمة الشمولية على مر التاريخ.
إن الأدوات المعرفية والتعبيرية في الأديان هي نتاج تاريخ طويل للبشر، ففكرة الإله الواحد أو فكرة الآلهة المتعددة والأقانيم والأرواح المتحكمة والسماء المسيطرة على الأرض واليوم الآخر والثواب والعقاب الأخروي وغيرها هي أدوات تُفهم على أنحاء مختلفة، ففي حين يفهمها المؤمن بها على أنها أجزاء موضوعية حقيقية من العالم، يفهمها الماركسي على أنها تعبير عميق معقد عن ظروف الشعوب وكفاحاتها المجسدة بالمفاهيم، فاليوم الآخر هو تعبير عن سلطة أخلاقية فوق الزمن، تحاكم المجرمين والاستغلاليين بشكل نهائي وحاسم عما اقترفوه. وبغض النظر عن الغيب والواقع، فإن اليوم الآخر كفكرة حكمت الملايين بضمير أخلاقي وبتفكير في الثواب والعقاب قد هذبت من انحرافاتهم وجرائمهم في وقت ظهرت فيه سلطاتٌ مطلقة تقفز فوق الخير وتتلاعب بالخيرات، وحين تظهر العدمية تجاه الدين فإن غرائز الإنسان تنفلت، ويعتبر نفسه فوق الخير والشر، فلا يؤمن بإله يراقبه، وبضمير يحاسبه، وإذا كانت قوى الاستغلال الشرهة العديمة الضمير لا تؤمن في حقيقة الأمر بإله يراقبها ويحاكمها في خاتمة المطاف، فإن الجمهور يؤمن بذلك، وتدفعه الفكرة إلى التمسك بالأخلاق، بشكل نسبي بين الجماعات والأفراد، حسب مستوى الإيمان بالإله المعبر والمجسد لهذه الأخلاق. وهكذا فإن قوى الاستغلال الدينية والحكومية الشرهة للمال العام والخاص والعدميين التحديثيين الذين يبيعون أنفسهم لمن يدفع، تلتقي كلها في عدم الإيمان بالإله العادل وبالشعب الذي يجب أن يتملك خيراته. إن العدالة الإلهية والديمقراطية الشعبية هما مظهران لمضمون واحد.
إن الثورة الشعبية الإسلامية الذي ظهرت في ظروف إنسانية معينة، تماثل النضالات الشعبية والعمالية في الزمن العربي الحديث، حيث قوانين التحالف الشعبي بين التجار والعمال لتشكيل دول عربية ديمقراطية مطلوبة، للتخلص من عصر تقليدي تفكيكي متخلف سابق.
وإذا كانت أقسام من قوى هذه الثورات تؤمن بالغيب وبالتاريخ الماضي بكل ألوانه وتنغمس فيه لدرجة نسيان الحاضر، فإن أقساماً أخرى تندفع بشدة إلى الحاضر، وترفض الماضي.
لكن شكلي الوعى مختلفان، فالأديان ثمرةٌ لتفكير البشر في ظروفهم ولتغييرها ولكن عبر ركائز غيبية، وتتجسد عبر عبادات ومعاملات، في حين أن الماركسية والآراء الديمقراطية الحديثة وجهات نظر دنيوية منقطعة عن الغيب وما بعد الطبيعة، وتسعى لتغيير حياة البشر كذلك.
وإذا كانت الماركسية الأصولية توحدت مع منهج الأديان محولة نفسها إلى بناء كلي وسيطرة شاملة، فإن الأديان كما صاغتها قوى الاستغلال عبر مئات السنين السابقة، كانت مثل ذلك، وليس الأمر يعود لبنائي التفكير المختلفين بل للبناء الاجتماعى السياسي الشمولي الذي يحول كل فكرة سواء أكانت دينية أم حديثة إلى شكل للسيطرة المغلقة.
وهو أمرٌ لا يتبدى في الدول بل في الجماعات والأسر والتكوينات الفكرية والثقافية، فالماعون الفاسد يفسد كل الطبخات. لأنه ماعون يقوم على ذلك العقل المطلق الذي يعتقد انه كل الوعي والوجود والمصير. ومن هنا تتحول الكتب الدينية والسياسية الحديثة إلى كلمة أخيرة للإنسان.
وتحوّل قوى الاستغلال الحكومية – الدينية الثقافةَ إلى بناء يلغي كل أسئلة الإنسان؛ ويحول حياته وإجاباته ونمط عيشه إلى طقوس لا تخرق، لكن التغيير يشق طريقه سواء عبر كنسية التضامن البولندية العمالية أم عبر أفكار اليسار اللاتيني، فالجمهور يبحث عمّن يدافع عن مصالحه التي تُخنق عبر مؤسسات الإفقار والقمع الشاملة، ثم يدرك الجمهور أن قوى الكنسية غير قادرة على النضال من أجل العمال، كما تدرك شعوب أمريكا اللاتينية ضرورة وجود برجوازية حرة صناعية مستقلة عن هيمنة أمريكا الشمالية بضرورة تصفية إرث الإقطاع في الملكيات الكبيرة الريفية.
إن الجمهور يتحرك ضمن إرثه الديني ثم يكتشف عبر معاركه الاجتماعية أهمية التركيز على فهم الواقع، ورؤية مشكلات الاقتصاد الحديث، ولكنه كذلك يحتفظ بدينه ويحافظ على صلواته!
إن الأديان والماركسية والتوجهات الديمقراطية الحديثة عموماً تتعاون على تغيير حياة إنسان هذا العصر، عبر مناهج مختلفة، وتغدو مقاربات متعددة، وعقول نسبية، يحتفظ كل منها بمساراته وفضاءاته الفكرية متعاوناً على ما هو مشترك ومعوق للناس.