الأرشيف الشهري: جويلية 2022

سذاجةٌ سياسيةٌ : عبـــــــدالله خلــــــــيفة

سذاجةٌ سياسيةٌ

حريات النساء مقياس للديمقراطية

حريات النساء مقياس للديمقراطية

كلما ازدادت حريات النساء كان التقدم الاجتماعي أكبر، وتواجه الدول والجماعات المحافظة اليمينية و(اليسارية) اختباراً قوياً لمدى إيمانها بالديمقراطية اللفظية حتى الآن، ويتحدد ذلك بمدى قدرتها على إحداث تطورات كبيرة في حياة النساء في وضع يهيمن فيه الذكورُ هيمنة مطلقة في هذه الدول والتنظيمات. تعود الهزائم التي حلت بأنظمة التحرر والقومية والليبرالية الضعيفة إلى عدم إيلائها هذا الجمهور القابع في البيوت والتراث المجمد عناية كافية، فقد قادت هذه الأنظمة جماعاتُ الذكور المحافظين، ومهما كانت إيجابياتها على صعيد محاربة الاستعمار والتخلف فإنها تركتْ النساءَ في ظلام العصور الوسطى. وقد بدأت الأنظمة الليبرالية تقدماً مهما على هذا الصعيد فتفجرت شعارات تحرر النساء وظهر منظرون لهذه الحريات على صعيد الحريات الاجتماعية والسياسية المحدودة، لكن تلك الحريات لم تصل للعمل الصناعي وتحجيم العائلة الأبوية الكثيرة الأعداد والقابعة في الأمية والجهل والأساطير، وفي قوانين الاعتقال التي تـُبرر باسم الدين. بل ان الأحوالَ ازدادتْ سوءاً مع الأنظمة والحركات القومية العسكرية والدينية الشمولية، فقد تضخمتْ المدنُ العربية الصغيرة بأعدادٍ هائلة من الريفيين والبدو التي حملتْ الأشكالَ المتيبسة المحافظة وحاربت بها التطورات الوطنية والليبرالية الصغيرة في المدن العربية. وهكذا تحملتْ النساءُ تراجعات الحركات السياسية العربية وتصاعد ذكوريتها، فامتدت الدكتاتورية من البيوت إلى الشوارع والأحزاب والجماعات والحكومات. وكان التراجعُ ظاهراً على صعيد الملابس، وأدوات الزينة، وفرض الهيئة الذكورية على النساء، وتحجيم الجمال ودوره الخلاق، ونشر القبح، والأشكال الرهبانية وأمراض السمنة، ولكن النساء كن حتى في مثل هذا التصاعد للدكتاتورية كن يقاومن داخلها، بتغيير اللباس والبحث عن علماء دين يتسمون بالنزاهة والبعد عن الإقطاع، وهم نادرون محاصرون، فعاد عهد الجواري على نحو كثيف، وربحَ الكثيرُ من الرجال حريات البذخ واللهو والاسراف وتضييع ثروات الأمم الإسلامية. ولكن الأغلبية من النساء يتسمن بالخضوع ويزايدن على علماء الدين في محافظتهم فيزددن عبودية، نظراً لعدم درايتهن بالإسلام والحداثة، وعدم تمييزهن بين الإسلام كثورة نهضوية توحيدية ومشروعات الحركات الطائفية الرجعية التمزيقية لجسد الأمم الإسلامية. ساعد في هذا استيلاء قادة القرويين والبدو على مقدرات المنطقة وبثهم الشعارات المحافظة، وتصاعد مشروعاتهم وتكاتفهم وتكوينهم أحلافاً منظمة، وتمزق الحركات العلمانية والوطنية والتحديثية. صار بعض الرجال يطارد بناته لأنهن يكتبن ويقرأن، أو لأنهن يظهرن على المسرح يشاركن في عروض مسرحية خلاقة، فكان الوأد الجاهلي المتعدد الأشكال للبنات. في حين وجدنا في مرحلة سابقة آباءً أميين يفخرون بكتابة وحضور بناتهم الفكري. لا يعود هذا الحضور المحافظ لهذه الجماعات أساساً بل للتكوينات الاقتصادية الأساسية في كل بلد، فالحكومات العربية لا يهمها النسيج السكاني الاجتماعي برجاله ونسائه بقدر ما يهمها السيطرة على الثروات في مشروعاتها غير المراقبة، التي تخضع لراهن الربح والفائدة المادية، وليس لهدف تقدم السكان ككل. لدينا في البحرين عدة آلاف من النساء لا يشتغلن في الخارج بل يعملن في بيوتهن الخاصة، وهناك الملايين في كل بلد عربي بمثل هذا الوضع، في حين تأتي العاملات والموظفات الأجنبيات للاستيلاء على وظائفهن، ولا يهتم رؤوساء الشركات بالعاملين فما بالك بتطور الحضور النسائي في الأعمال المختلفة؟! يعتمد الحضور النسائي التحرري على تطور معيشة الطبقات الفقيرة، ومدى اتساع تعليمها، فهي المكان الأساسي لوجود الذكورية المحافظة والشمولية، وكلما ترقت في أجورها ووظائفها ومساكنها وثقافتها صعب تغلغل القوى الشمولية بينها. كما يؤدي هذا إلى عمل النساء واتساعه، وهو أمر يعمق كذلك من تطور معيشة هذه الطبقات، فلا ترغب في التوجه للمزايدات السياسية، وتعطي البنات حقهن من العمل والتعليم والثقافة. إن طبقات معدمة جاهلة لا يمكن إلا أن تجعل نساءها أكثر تخلفاً وإنتاجاً للتخلف. ومهما فعلت الأنظمة والحركات الدينية الشمولية من اضطهاد للنساء فإن الكثيرات يجدن ثغرات في نظام القمع الشامل هذا، فكل هذه الدول والجماعات الدينية المحافظة لها ظاهر وباطن، ادعاء بالتدين وتكالب على المنافع ولذائذ الحياة، فتظهر أنظمتها وحركاتها بهذا الشكل المشروخ المنافق، فاللافتات تقول: طهر ونقاء وصرامة، والباطن عمولات ومحرمات، سوق علنية (بيضاء) وسوق باطنية سوداء، أغلب الأشياء محرمة في الظاهر وصارمة ولكن في الباطن كل شيء مسموح وحسب أفضل الأسعار. ولهذا فإن الكثير من النساء المتمتعات عموماً بالدهاء يجاملن هذه الحركات والأنظمة وينسقن مع أغنيات الفضيلة الزاعقة فيها، ولكن يكون لهن باطنهن ومكرهن الخاص. غرائز البشر وأخطاؤهم ونواقصهم لا يمكن القضاء عليها بالخطب التي يعتقد المحافظون انها الوسيلة المثلى، ويجاورها العقوبات الصارمة، وهو أسلوب في ردع الإنسان ثبت فشله، وليس أفضل من المكاشفة والوضوح وتغيير الإنسان عبر ظروفه الموضوعية، ودعوته لخيارات الخير، ويبقى هو سيد مصيره، فإذا تجاوز القانون خضع لعقوباته. فوفر للنساء خيارات العمل والثقافة والرقي ثم حاسبهن على خياراتهن. أما أن تقمعهن وتسود عيشتهن فسوف يمكرن بك ويجعلنك أضحوكة وأنت تعتقد أنك سيد الفضيلة. لكن الدول والحركات المحافظة لا توفر ذلك لأغلبية النساء، فهن عاطلات في البيوت، يخضعن للسحر والثقافة المتردية للفراغ، فيجدن في الأزياء والعطور ومناكدة الأزواج وسوء تربية الصغار وجودهن الزائف وقد اُنتزع وجودهن الحقيقي. فتجر النساءُ الرجالَ المحافظين لهذا المستنقع الاجتماعي، فيؤسس الرجالُ بيئات متعة زائفة، ومجتمعات ذكورية خاصة بهم، ونفقات بذخية تدمر الأسر، فيكون المجتمع قد خسرَ رجاله ونساءه معاً. ونتاج ذلك حشود من النسوة في المحاكم ومعذبات ومطلقات وعيال مشردين، ويقوم الفقهُ الذكوري الجامد بمنع الإصلاح عن طريق الشرع، وعقاب الرجال الفاسدين.

الأزمة العقلية للثورة

الأزمة العقلية للثورة

يُلاحظ في تاريخ المسلمين المعاصر ترافق الايديولوجية الدينية مع القومية عدة عقود، ثم نرى خفوت القومية، وكذلك ترافقها مع الايديولوجية اليسارية، ثم خفتتْ هذه كذلك.
ما هي الأسباب التي جعلت من الايديولوجية الدينية بهذا الاستمرارية؟ وهل فعلاً تمتلك الخواص المطلقة وأنها هي الخالدة؟
إن الايديولوجيات الدينية ذات تاريخ طويل جداً، وهي ذات مكونات مرنة: السحر، والنضال لتغيير حالة تخلف كبيرة، ثم سيطرة قوى التخلف في مرحلة تالية أكثر تطوراً، واعتماد الغيب، وتعددية الإيحاءات والتفسيرات التي لا تنفد، والارتباط بالمطلق، وبمركزية الشخوص الإعجازية البطولية (الذكورية) غالباً والنسائية نادراً، والدوران حول العبادات كشكلانيةٍ وهوية مركزية للجماعات، والفقهية الجزئية لرفض أو مسايرة الأحوال الاقتصادية والاجتماعية.. الخ.
تعود هذه المحاور لما قبل تكون الأمم، وتعود للجماعات القبلية الموغلة في القدم، حيث تشكلتْ العقلياتُ الدينية الأولى عبر صراع الأرواح الخيرة والشريرة، ثم حين تكونتْ الأديانُ انتقلتْ هذه المكونات إليها، وحين تشكلت الشعوب والأمم، دخلت تلك المكونات في ثقافتها، فما هو قديم غيبي سحري يهيمن على المكونات العليا، وحتى في تكون قوميات العصر الحديث غربية وشرقية، تدخل تلك المكونات القديمة.
طرحت التياراتُ القومية واليسارية في بادئ وجودها لافتات علمانية وعلمية ورغبات قوية في كنس الخرافات والتخلف، وكانت مستفيدة من رأسمالية خاصة متقدمة في الغرب ومن رأسمالية حكومية في روسيا والصين خاصة، فكان التقدمُ الصناعي العالمي يفرضُ تحولات كبيرة في البنى الاجتماعية المتخلفة، ومن ضرورة انتشار الوعي الموضوعي للظاهرات.
في البدء النهضوي العربي تشكلتْ رأسماليةٌ خاصة ديمقراطية جنينية بفعلِ التجارة وشكلتْ وطنيات عربية دفعتْ عمليةَ الوعي الموضوعي وفي اتساع تحليل الظواهر الفكرية والتراثية خاصة، لكن قواها الإنتاجية تكلستْ بتوجهها للملكيات الزراعية والعقارية والمالية وبالتقصير في الإنتاج الصناعي، فتحالفت مع القوى الدينية المحافظة، وتزاوج ملاك الأرض وتجار المدن.
التوجهات الاشتراكية في الشرق قفزت بالتحولات الاقتصادية إلى مدى أكبر، لكن ملكيات الدول الحكومية الرأسمالية قادت في النهاية للمحافظة والبيروقراطية وتوقف تطور العلوم الاجتماعية خاصة.
استند القوميون واليساريون العرب إلى هذه المنتجات، ونهضتْ بهم إلى حين، لكنهم لم يكونوا كتلك الدول والشعوب فليس لديهم إنتاج مادي يسند عقلياتهم المتفتحة على العلوم، وبهذا فقد أخذتْ الأحزابُ القومية واليسارية العربية تتوقف عن التطور السياسي.
كان إدخال العامة مفيداً في انتشارها وسط الجمهور والجدل مع ظروفه ونضاله، لكن حين تدهورت القيادات فكرياً ولم تتطور فلسفياً وفكرياً، فإن الموروثات الدينية المحافظة التي يحملُها العامةُ أخذتْ تتغلغلُ بقوةٍ أكبر في هذه الأحزاب.
فالعمالُ يتحدثون عن الثورة لكنهم يقمعون نساءهم وبناتهم في البيت، كانت عقلياتُهم الدينية المحافظة أكبر من شعاراتِهم التقدمية، كانوا يعملون لزيادة أجورهم وتغيير ظروفهم الاقتصادية أما الاشتراكية فشعاراتُ حلمٍ اجتماعي. وحين تتصدع (الاشتراكية) قومياً وعالمياً تتبخر حتى تلك الشعارات. ويتم الرجوع إلى القبائل والأسر والمذاهب والقوميات.
ويقفز متعلمون لتوظيف تلك التحولات أو التراجعات لمصلحتهم، وفي الدول الاشتراكية والقومية والدينية كان الضباط هم المستفيدون الكبار فغيروا المسارات لما يلائمهم ويلائم جماعاتهم وطبقاتهم.
كان الارتباط مع الرأسماليات الحكومية الشرقية سواء أكانت ماركسية أم قومية أم بعثية ذا وجهين، وجه الثورة ثم وجه الثورة المضادة. ويغدو التراجع الأكبر في هذا كله نحو الدين، أي لهذا الوعي الغامض المتعدد التفاسير الذي يقومون باستغلاله لمصالحهم، وليس لتسليط الأضواء على أخطائهم، وليس من أجل التضحية العامة، بل يقومون بخداع الناس مرةً أخرى، ويدغدغون مشاعرهم الدينية التي لم تنطفئ، وسرعان ما تتبدل الأسماء والأزياء والشعارات وتظهر الصلوات.
الدينُ يظهرُ مرةً بشكل ثورة، إيقاظية محولة للتاريخ، ومرةً بشكلِ خداع وأفيون. مرةً يظهرُ بشكلِ بطولةٍ وتضحية كبرى، ثم يغدو أداةً للتضليل، يتوجه إليه اللصوصُ يطمسون سرقاتهم، وانهياراتهم الداخلية، ولكن لماذا يحدث ذلك؟ وكيف يتحول الثوري المكافح إلى لص أو انتهازي؟
كلُ لحظة دينٍ تأسيسيةٍ بطولية هي لحظةُ يسار.
وكلُ هزيمةٍ لرموزِ الدين في لحظةٍ تالية هي لحظةُ يمين.
مثلما هي ثوراتُ الشرق التأسيسية الحديثة كانت ثوراتُ الأديان ترتعش بين السحر والعلم، بين الغموض غيرِ المسيسِ الواقعي وذي القفزات في الحلم الاجتماعي، وبين الإمكانيات الموضوعية المحدودة لزمانهم، كان الأنبياءُ قادةَ ثوراتٍ، وتحولاتٍ، في ظلِ ظروفٍ صعبة رهيبة، وكان عليهم أن يدفعوا الضرائب الثقيلة لتحدياتِهم سواءً كانت عذاباً في حياتهم أم كوارث لأهلهم فيما بعد.
هناك التداخل بين السحر والنبوة، حيث يستمدُ الداعي العديدَ من أفكارهِ عبر الغيب، وعبر مخاطبةِ قوىً مفارقةٍ تمتلكُ معرفةَ المستقبل، وتحديدَ المصير، وتحديدَ العالم ومسارَهِ كليا ونهائيا، ومع هذا تبقى اللحظات اليومية مجهولة، ومصير الحركة السياسية الدينية متعلقاً بالخطوات الذكية على الأرض وبمعرفة القوى الاجتماعية وكيفية جذب العامة وعزل قوى الطغيان.
لكن التحولات التكتيكية تبقى مفهومةً وعزل الملأ الارستقراطي مفيداً لتغييرات كبيرة، ويظهر هنا الحلمُ الغامض السرمدي، بظهورِ دولة الفقراء وانتصار المعذبين في الأرض كليا، وإن الذين استضعفوا في الأرضِ سوف يُمن عليهم ويكونون هم الوراثين.
هو تبشيرٌ سياسي بانتصار الكادحين في بعض الأديان التام والنهائي، لكن ما يجري على الأرض يمضي بخلافِ ذلك، فالأغنياءُ هم الذين يصعدون، بسبب أن صعود الفقراء ظل في حالةِ الحركة الثورية، التي تهزُ قوانينَ التطور الاجتماعي، وتلغي بعضَ أوجهِها في لحظةٍ استثنائيةٍ تاريخية، ما تلبث أن تزولَ لأنها لحظة غير تقليدية، عابرة، ثم ترجعُ قوانينُ التاريخ في الأنظمة الاستغلالية، ويعودُ الأغنياءُ للسيطرةِ على مقاليد الحكم، وتعودُ الثروةُ “لأصحابها”، حتى يأتي زمنٌ مختلف يلغي التفاوت، له قوانينٌ أخرى.
وتدفعُ قوى الحلم الثوري ضريبةً مضاعفة بين صعود الثورات وهبوطها، فالنبي موسى يُمنع من دخول الأرض الفلسطينية ويحدث انقلابٌ عليه، والنبي عيسى يجري ما جرى له من عذاب بتعدد الروايات الدينية، والعائلة النبوية المحمدية تجرى تصفيتها بشكلٍ دموي رهيب وكذا الكثير من الصحابة وأصحاب حلم المساواة، ويعدمُ أهلُ المقصلةِ الفرنسية نبلاء وثوريين كباراً، ويصفي ستالين أبرزَ قادة حزب الثورة والكثيرين من العامة.
في منطقة التحولات الثورية العاصفة يصعدُ الفقراءُ وتظهرُ رموزٌ منهم، وهي لحظةٌ تبينُ الاستثناء والبطولة وتحطيم معايير الذل والخضوع وكسر عالم الطبقات، لكنها مجردُ لحظةٍ ثم تأتي القاعدة.
تظلُ الشعوب تعيشُ في الحلم، في لحظةِ الاستثناء والبطولة تلك، وترى انها تاريخها الحقيقي، غير الزائف، لأنها وجدتْ فيها روحَها الحرة الضائعة في عوالمِ القهر.
لا يخلو أي قائد ثوري حديث في الشرق خاصة من الجمع بين العلم والسحر.
حين نقول إن قائد ثورة أكتوبر يجمع بين العلم والسحر لن نكون مغالين. بين برنامج الكهربة وتوزيع فوائض الإنتاج على العاملين، ثم بين برنامج إزالة الاستغلال ومحو الطبقات، ثمة هوة كبيرة، في الطرف الأول يحلُ البحثُ والعلم، وفي الطرف الثاني يحلُ السحرُ.
دائماً هنا في الثورة حس الأبدية، والمطلق، وحس السيطرة على التاريخ إلى نهايته، فتحدث فترةُ الاستثناءِ الثوريةِ البطولية بضع سنوات أو بضعة عقود ثم تعودُ القاعدة، بسبب مستوى سيادة أساليب إنتاج موجودة ومتنامية قبل الثورات وبعدها.
الإسلامُ التأسيسي لم يعرفْ ما هي طبيعة علاقات الإنتاج السائدة لدى البشرية القريبة منه، وفي عالمهِ البدوي الحر، تصورَ إمكانيتَهُ المطلقة على صنع التاريخ، وكون القوة والعدالة النسبيتين بين الناس كافيتين لزوالِ الشرِ والاستغلال إلى الأبد.
لكن العالم الأرضي الواقعي كان يعيش زمن الانتقال من أشكال الإنتاج العبودية والمشاعية والبطريركية إلى أشكالِ الإقطاع، التي انتشرتْ وسادتْ في آسيا وأوروبا، وهي تجعلُ من ملكيةِ الأرض وخراجها أساس الوجود السياسي للدول.
وكان زمنُ الانتقال في عصر روسيا الاشتراكية هو زمن الرأسمالية العالمية واكتساحها الأرض. لكن الوعي السياسي المغيب عن العلوم يتصور انه زمن الانتقال للاشتراكية. هو غيبٌ بشكلٍ آخر، ولهذا يتكون الماركسيون بشكلين علمي شعاري وديني غائر.
هنا لابد للحلم والسحر من أن يتدخلا ليعطيا للعاملين إمكانيةَ التحليقِ في أجواءِ الفضاءِ المليئةِ بالمن والسلوى، وهم يدفعون ضرائبَ العمل والتضحية، مثلما أن جمهورية إيران تجعل البسطاء يطيرون بأجنحة الأئمة في أجواء الملكوت الرحبة، وتتكاثر مقابرهم ثم تتكاثر سجونهم في مرحلة لاحقة، مثلما أن جمهورية الحلم القومية العراقية تتحول فيما بعد إلى جهنم.
كانت الأزمة السياسية لجمهورية الإسلام التأسيسية تظهر على شكل وامض، لا يُلاحظ على السطح. قدرة الجمهور الشعبي على حشد القوى وإيجاد التوزيع العادل للخيرات قدرة نسبية، فهي من دون تقاليد عريقة، ومن دون مؤسسات سياسية متجذرة في الأرض، وقوى الاستغلال لا يحد تاريخُها حد، والأنانية أقوى من التضحية في البشر بكثير.
نلاحظ الأزمة العقلية لقوى التغيير في ظهور حالات فكرية سياسية غريبة، فلأول مرة يظهر متصوف، يغرقُ في العبادة، وينأى عن العمل. وظهر ذلك في البداية، تعبيرا عن ضياع سيطرة العقل على اللامعقول السياسي المتصاعد!
هناك حكمُ السماء وهناك التوجيه الإلهي المصون ولكن الدنيا تخرجُ عن السيطرة وتنفلتُ الغرائزُ وكلٌ يهتمُ بنفسهِ ومصالحهِ بعد عقود من النضال المشترك والتضحيات، فيظهرُ الملأُ الاستغلالي مجدداً!
تباينُ طرق الخلفاء الراشدين تعبرُ عن عدم القدرة المتصاعدة على السيطرة على الوضع السياسي المنفلت من عهد الثورة إلى عهد (الاستقرار) الاجتماعي، أو قل عهد الأنانية، أي عهد المَلكية، عهد الأغنياء الكبار المسيطرين!
الخليفة عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) يفرضُ سيطرةً قويةً على هذا الانفلات، على الانبعاث التدريجي لحكم الملأ، ويشعر في نهايةِ حكمهِ بالتعب من هذا الجهد الهائل.
لدى الخليفة عثمان بن عفان (رضي الله عنه) تتضحُ عمليةُ الانفلاتِ الأولى، وصعود قوى الاستغلال.
في عهد الخليفة علي بن أبي طالب (رضي اللهُ عنه) تتفجرُ العمليةُ وتصيرُ حروبا، ولا ينفعُ العدلُ والقوةُ في السيطرة على قفزة قوى الاستغلال إلى السلطة.
لقد قام الإسلام بتغيير، مثلما قام بالفتوح، وتبدلت خريطة القوى الاجتماعية، وصار الكثيرون أغنياء بعد أن كانوا فقراء، ولم يعد توزيع الثروة بالشكل القديم ممكن الاستمرار، وصار الحجاز مركز الثروة ونجد استمرت مركز الفقر!
إن تبدلَ السلطةِ هو ذروةٌ لتراكم طويل، وليس حدثا عجيبا غريبا!
وظلت كلمةُ (الخلافة) الغامضة تجمعُ بين من ارتفعوا إلى السلطة بسواعدِ الناس، ومن ارتفعوا إلى السلطة بسواطير وسيوف!
نلاحظُ أزمةَ اليسار والثورة هنا في (الخوارج). فدائما يبقى للنصوصيةِ الثوريةِ تلاميذها المخلصون، ومَنْ يَحاكمون تحولات التاريخ بالجملِ وشعيراتِها الدقيقة، ويَزِنون القادةَ والفترات بميزان الملموسية الشديدة، ولا يفهمون السببيات ولا قوانين التاريخ، ويظلون معلبين في الجملة (الثورية). إن ظروف نجد وفقرها في ذلك الحين وارتداداتِها عن الإسلام وحروب الردة التي أنهكتها، كلها أوجدت من بعضِ قبائلِها مادةً مناسبةً للتمردِ المعاكس للتاريخ، ووجهاً آخر من الإخلاص الحرفي للثورة، وقتلِها في آنٍ واحد.
لم يعطها الفقرُ تعليما مهما، وظل إنتاجُها العقلي قائما على الشفاهية والحفظ، ولذا تعاملت مع القرآن بشكل نصوصي حفظي، وغرقتْ في تلاوته بإيمان عاطفي شديد، وصار لديها تقطيعُ النصوصِ وغيابُ التاريخية، وفقدانُ الدراسة الفكرية أمورا متلازمة، وعبر هذا الوعي الذي رُكب على تمردِ القبائل وصعود الزعامات الذاتية وقوة الجماعية والمشاعية في هذه التكوينات العشائرية البعيدة عن بضائع المدن ونقودها، خاضتْ حروبا سالت فيها الدماءُ أنهارا وكلها من دون فوائد مهمة!
ظلت لدى الخوارج الفكرة الجنونية المطلقة التي تمثل الانفصام عن الواقع، بأنهم النسخة الحقيقية المستمرة والدقيقة للإسلام الأول، فهم يرون النصوصَ تنطبقُ عليهم تمام الانطباق، فهم العبادُ الزاهدون الذين يقرأون القرآن آناءَ الليلِ وأطرافَ النهار، وهم الذين يبكون حين يسمعون عذابَ النار، ويبتهجون أشدَ البهجة حين تذكر الجنة ولو من خلال غابات السيوف، وهم الفقراء يتلحفون السماءَ في حين غيرهم (من الكفار!) يعيشُ في الرفاه والقصور ويتحدث عن الإسلام! وحاول الكثيرون إقناعهم بأن هذه الآيات تنطبق على ظرف، وان لها معاني كثيرة متعددة، وهناك مستويات عديدة في فهم القرآن، أي حاولوا نقلهم للمستوى المركب المتعدد الدلالات للقرآن، لكنهم كانوا أصحاب منهج نصوصي حرفي أوجده فيهم وضعُهم الاجتماعي، وظروفُ الفقر الهائل الذي يعيشون فيه. وهذان المستويان، مستوى فهم الحضارة وقوى الرفاه، ومستوى فهم أهل البداوة البسطاء، فهمان يعودان لمستويين من مستويات المسلمين لا يجتمعان، وحين يحدث تقاربٌ بين الغنى والفقر، وتزول تناقضاتهما الرهيبة، تتقارب رؤى مشتركة. لكن النص الحرفي موجود لدى هؤلاء البسطاء وينقلونه مباشرة للحياة ويرفعون السيوف ويذبحون!
إن إنهيار المعسكر الاشتراكي وزوال التكوينات السياسية الثورية لذلك العالم المناضل ضد اللامساواة الاجتماعية والرأسمالية والإجحاف وغير ذلك من القيم، هو أمرٌ عادي لعمليات الثورات في التاريخ.
لكن الأزمة العقلية تنتج من خلال الأفكار المطلقة، التي تربط بين العمليات السياسية النسبية، والمقدسات، والأفكار الأبدية والشعارات الخالدة.
بعد تراجع كل ثورة يتشكلُ إضطرابٌ عقلي كبير. كلُ ثورةٍ وهي تغيرُ التاريخ، تخلقُ قوى إستغلال جديدة. مثلما رأينا في الثورة الإسلامية.
لقد تصور منورُ الثورة الغربية للطبقة الوسطى بدوامِ شعاراتِ الإخاءِ والحرية والمساواة، وسيادتها ليس في القارة بل في الأرض كلها! وفي العقود التي تلتْ كان النقيضُ يتحقق، ولكن على مدى القرون كان الأمرُ يتحقق.
إن الرأسمالية وهي تنقلُ الغربَ لمرحلةٍ جديدة كانت تنقلُ الشرقَ كذلك، عبر القهرِ والإستغلال والتطوير وبظهور ثورات جديدة. لكن بعد هزيمة ثورة الطبقة الوسطى الفرنسية خاصة أُبعدت الأفكارُ العقلانية المثالية وبذورُ الأفكار المادية، وعادت الطبقةُ الوسطى للأنجيل ولتدريسه في المدارس. كانت الهزيمةُ تستعينُ بالدين لتخفي تنصلَها من المبادئ الإنسانية التي أعلنتها ولم تواصل تطبيقها. ولترفع القومية كتعصبٍ وإستعمارٍ وبطش بالشعوب الأخرى!
والرأسماليةُ الحكوميةُ الروسية فعلت ذات العملية، فرفعتْ الشعارات المادية الفلسفية، كأدواتِ تحليلٍ عميقة ثم تجمدت لديها مع نشؤ التفاوت الطبقي الكبير، ثم تنصلتْ منها وعادتْ للدين كمظلةٍ سياسية. كانت الفلسفةُ الماديةُ أداةً لكشفِ ما يجري في الواقع من تمايزات طبقية، ومن هو الذي باع الثورة ومن سرقها.
في الصين الشعبية كانت التحولات نحو الرأسمالية الخاصة حادة ولكن أقل خطورة من روسيا، لأن الصين بلد هائلة السكان، وتحتاج لتطور عقلاني. في أقصى تطرف للثورة، أي حين أرادت أن تقفز بمبادئ المساواة الاجتماعية إلى حدها الكلي، ودمرت أي تمايز للثروة بين الأفراد، وأي تمايز للعقول، في ما يُسمى بالثورة الثقافية، رغم إنهذا التطرف بقى في دول أخرى ككمبوديا وأدى لقتل الملايين. لقد أقر الحزب الشيوعي الصيني بنمو الرأسمالية الخاصة تحت قيادته، ورغم الفساد المترتب على هذا، لكنه كان إبداعاً أكثر تطوراً من الروس. لقد تم الأعتراف بنسبية شعارات الثورة، وبعدم إمكانية الانتقال للمساواة الاجتماعية، وبضرورة التطور الصناعي الواسع على أشكال من تفاوت الثروة والثقافة. إن الشعارات الحالمة للاشتراكية تم تأجيلها لعصر آخر، وحلتْ برجماتيةٌ واقعيةٌ ليبراليةٌ شمولية كذلك في النظرة العامة والحياة السياسية المسيطرة. لقد أوقفت الدولة مسار الانهيار المتوقع، وتفكك البلد، وقفزت بالتطور الاقتصادي إلى آفاق كبيرة.
إن الارتباكات والتمزقات السياسية والعقلية لم تتوسع بفضل ذلك، وقادت عمليةُ التناسق بين القطاعين العام والخاص، إلى إفساح المجال للتطور العقلاني الهادئ، وغدت المعيشة ومطالبها أهم من الإيديولوجيا، ولم تتوجه السلطةُ للدين كمظلةِ خداع، لأن الدين لا يلعب دوراً في حياة الصينين عموماً، وهذا جزءٌ من الموضوعية المميزة في التاريخ الثقافي لهذا البلد.
ترينا هذه اللوحة المعقدة كيف أن مبادىء الدين، والعقلانية الأوربية، والمادية الفلسفية، هي مراحلُ تطورٍ طويلة لدى البشر، في ظروفهم المتحولة، وإذا عبرت هذه المبادئ عن مصالح الأغلبية الشعبية، فإنها تتطور وتكشف المشكلات، وحين تقوم بالدفاع عن الفساد والتمايزات الحادة في مستوى المعيشة، فإنها تتلبس بالغموض والدجل.
حين يزداد التطرف الديني فذلك تعبير عن إزدهار الفساد، وحين يتم التجريد والذاتية في العقلانية ويظهر التحجر في المادية، فهذا يعني كذلك تفاقم إستغلال الشعوب وفساد الأحزاب والدول التي كانت مناضلة، وتداخلها مع البيروقراطيات المستغِّلة للعامة.

تحليلٌ لكلامٍ مغامر

عبـــــــدالله خلــــــــيفة: تحليلٌ لكلامٍ مغامر

لا أعرفُ من هو الذي يتحدث لأنه يكتبُ باسمٍ مستعار (علي الديري)، ولكنه دائب الكتابة الصغيرة المهمومة بنضال شعبنا وبتحولاتِ الأمة العربية وثوراتها، فيه هذا الحفظ للجمل والشعارات العامة، وهو يريد أن يثّورَ الشعب المظلوم بأي طريقة، فتصطخبُ كلماتُهُ وتشتعلُ وتضطرب.
يعتقدُ أن حراكَ البحرين يمكن أن يكون خارج الإطار الوطني القومي المتداخل.
(أعتقد أن الحديث عن تمايز الانتفاضة أو الثورة في البحرين عن غيرها مما حدث في تونس أو مصر.. كل ذلك يعكس عجز بعض المفكرين عن الخروج من إطار الأفق القومي والطائفي)، قحطان راشد(عرف الان !) ، رداً على أطروحات عبدالله خليفة، الحوار المتمدن.
بدايةً ما الذي يحددُ الثورةَ؟ إنها حركةُ طبقاتٍ لا تعجزُ عن العيشِ بالأسلوبِ القديم وهي خاصيةً الطبقات الدنيا في حين لا تستطيع الطبقات العليا أن تواصلَ السيطرةَ بالأسلوبِ القديم نفسه، فتحدثُ ثورةٌ هي حراكٌ موضوعي لا تحركهُ فئةٌ سياسية ما، وهي نتاج قوانين البنية الاجتماعية.
قحطان راشد صاحب الاسم المستعار يستعير لينين كثيراً، لكن لم ينتبه ربما لهذا التعريفِ التشخيصي الدقيقِ المشهورِ الذي قدمهُ لينين للثورة.
لينين يقولُ (طبقات) وليس طوائف. حراكُ الطبقات مختلفٌ عن حراك الطوائف، حراكُ الطبقات هو صانعُ التاريخ إلى الأمام، أما صراعُ الطوائفِ والقوميات فهو مدمرُ التاريخ! وصراعُ الثوراتِ العربية صراعُ نقلاتٍ إلى الإمام عبر مساهمات جميع الطبقات الوطنية في تغيير رأسماليات الدول الشمولية.
في البحرين تحركت أجسامٌ من طائفة عبر فعل مغامر إرادي، أي لم يكن نتاج ظروف موضوعية خارجة عن الإرادات الذاتية للقوى السياسية ولا من فعلِ طبقاتٍ وطنية.
لقد قامت الطائفيةُ باختراقِ الطبقات الوطنية البحرينية وتشتيت وجودها الاجتماعي السياسي. وقد تم هذا الاختراق عبر عقود، وقد وضحنا ذلك في مقالات سابقة التأريخَ، الملموسَ لهذا الاختراق وغيره من الاختراقات المذهبية السياسية، والذي أدى إلى تفكيك شعب البحرين كشعبٍ موّحدٍ وتحويله إلى طائفتين متمايزتين في وجودهما السياسي، وجره إلى سياساتٍ أجنبية خطرة.
حتى لو افترضنا جدلاً اننا نريد أن نقيمَ ثورةً فلابد لنا من توحيد الشعب المفكك أولاً. وهو أمرٌ مستحيلٌ كما قلنا لمخالفته القوانين الموضوعية للتطور الاجتماعي، فلا بد لنا بدايةً من هزيمة التيارات الطائفية السياسية المعرقلة للتطور الوطني، فكيف يمكن أن تقود هي نفسها ثورة؟!
والثورةُ حلقةٌ من حلقاتِ التطور الاجتماعي لشعبٍ موّحد، وتغدو قفزةً متطورة لتاريخه، وتحولاً نوعياً فيه.
وهكذا فإن ما يقولهُ الأخُ قحطان ليس صحيحاً، وما يقوله عن التحركات الاجتماعية لفبراير 2011 بأنها ثورة، فهي ليست ثورة ولكنها تحركات مذهبية سياسية جرت إلى أغراضٍ باتت معروفة وأدت إلى المزيد من تخريب عملية توحيد شعبنا، الذي فُككَ بسبب السياسات الطائفية.
إن خطأه الفكري هنا انه يقول إنه ينتمي إلى الماركسية ولكنه لا يعرفُ أبجديات الماركسية! وليست مسألة الثورة مسألة هينة، يمكن التغاضي عنها فهي مصيرية خطرة.
هو يعتقد إذًا أن الشعوبَ العربيةَ متمايزةٌ ويمكن بالتالي أن تجري الحركة السياسية فيها بأشكال مختلفة، وأن (الثورة في البحرين) ذات الطابع المذهبي، لا يجب أن تخيف أحداً إذا كان الدينيون هم في (بوز المدفع) على حد تعبيره.
هنا جملة من الأخطاء فالشعوب العربية هذه تنتمي إلى الأمة العربية ذات المسار التاريخي المعروف، وهذا يعطيها خصائصَ تاريخية لم يتفضل السيد قحطان بفهمها، وبالتالي فإن شعوبَ هذه الأمة تتخوف من تداخلاتِ أمةٍ أخرى، وخاصة بسبب الصراعات الكثيرة بينهما على مدى التاريخ.
ولم يستطع هؤلاء الدينيون السياسيون أن يكونوا جزءًا من الأمة العربية، عبر ثقافتهم السياسية المذهبية، وجاءتْ كنسخٍ لتجربة تلك الأمة الأخرى، عبر قيادتها المذهبية الشمولية، إنهم يتكلمون العربيةَ ويعيشون ويتنفسون في الثقافة العربية لكن النسخة المذهبية السياسية تكونت في تاريخ الدولة الإيرانية، عبر صعود دور رجال الدين وتكوينهم تلك النسخة في الأمة الفارسية التي لن تُستعاد في الأمة العربية وشعوبها ولأسباب ملتبسة. إن المذهبيين لدينا بحاجة إلى أن يكونوا جزءًا من النضال العربي الديمقراطي وأن يكونوا جزءًا من الثقافة العربية الديمقراطية الحديثة.
وقد جرتْ محاولاتُهم خلال ربع قرن مضى وعُرض عليهم المستقبلُ الكارثيلا لحركاتِهم من دون أن يمتلكوا مصيرهم بأيديهم ويعيدوا إنتاجَ ثقافتهم المذهبية المحافظة ذات الجذور الفارسية بثقافةٍ عربية ديمقراطية، ومازالوا يصرون والقادم أخطر وأفدح لو يعلمون!
أناسٌ يعيشون على قمعِ الكادحين والنساءِ والأطفال والثقافة الديمقراطية الحديثة داخل طوائفهم نفسها، فلا يستطيعون أن يكونوا جزءًا من الثقافة العربية الديمقراطية ومن حراكِ الأمةِ العربية المتجهة إلى أنظمةِ التعدديةِ والعلمانيةِ والحداثة. فدعْ عنكَ أن يقدروا على صناعةٍ ثورة عربية بأفق الحداثة! قلْ إنهم يقدرون على المشاركة في مؤامرةٍ أو أن يخدعوا البسطاءَ بنضالٍ ملتبسٍ، أما أن يصنعوا تقدماً اجتماعياً فهيهات! كيف لا وقادتهم الدينيون يعيشون على استغلالِ عامةٍ يريدونها دائمة متخلفة راكعة لهم. نريدهم أن يكونوا جزءًا من نضالنا الديمقراطي الوطني، أن ينصهروا في تاريخنا.
(اليساري) المتطرفُ ذو هوسٍ بالجُملِ المنتفخةِ ويعتبرُ الكلامَ بديلاً عن الواقع الحقيقي، وكلما نفخَ في الجُمل وامتلأَ ريشهُ ظنَّ أنه غيّرَ الواقعَ فيما هو يُدمرُ الواقعَ وإمكانات التحول الموضوعية فيه.
قحطان راشد ذو الاسم المستعار يصرخ بأسماء الثورات العربية وبأسماء القادة، فماركس نفسه يحضرُ بكل بساطةٍ خاضعاً لسلطتهِ المطلقة:
(لقد ناضل ماركس من أجل تغيير الواقع.. لقد كان ليبرالياً حقيقياً (؟).. ولم يتردد لحظة في الوقوف ضد الطغاة..)، (المصدر السابق).
يتحول ماركس هنا إلى دجال شرقي، رجل البحث والعلم يغدو مؤيداً لدكتاتورية رجال الدين المتخلفين الذين قادوا بلداً من أهم بلدان المنطقة الواعدة بالسير نحو الحداثة إلى سجن كبير محافظ، وهو ما يريد تلامذتهم أن يطبقوه علينا في البحرين، وما يتحمس له صاحبُ الوعي المستعار.
ببساطة شديدة يسوق الأخُ الجملَ الإنشائيةَ الحماسية التي تقود إلى التهلكة، فكيف يمكن أن يؤيد رجل حديث ديمقراطي مثل هذه التجارب الدكتاتورية الدينية وباسم الماركسية في وقت أصبحت فيه كل التجارب الدكتاتورية مرفوضة؟! ومع كل مخاطرها الآن على السلام والتقدم والتوحيد للمسلمين والقوميات في المشرق والخليج المستهدف خاصة؟
إن تجربتنا طويلة ومريرة مع اليسار المغامر في بلدنا ذاته، ففي أوائل السبعينيات كان هذا الوعي نفسه بانتفاخه وغروره وبجمله الصاخبة يدعو إلى الثورة المسلحة في البحرين والخليج العربي كله. ولم يفد أي جدال وكتابات طوال سنين، ومن ثم كانت الضحايا في ظفار والبحرين، والكثيرون عانوا ثم فقد البلد الكثيرَ من قوى الحرية ومن الشباب الذين ذابوا في غبار الأيام.
وجاء المجلسُ الوطني في السبعينيات نفسها وجرى نضالٌ لإيجاده وتطويره ولكن أصحابَ الجملة الثورية يعرقلون مساره ويصطخبون، وكان ذهابُ المجلس الوطني المنتخب خسارةً كبيرةً كان يمكن مع استمراره إصلاح جوانب كثيرة على مدى العقود السابقة، وهو ما لم يحدث وسبب نشوء الطائفيات المتصارعة الممزقة للشعب.
ووجد أصحابُ الجملةِ الثورية في هؤلاء الشباب الديني قارباً يركبونه من أجل المغامرات وكانت أفدح وأشد خطورة، وذات أبعاد أقليمية يرفضون الربط بينها وتحليلها ورؤية أبعادها وآثارها القادمة، ثم يجلبون رموزاً وتجارب مقطوعة السياق، مضطربة الاستشهاد ويضعونها في مثل هذا الصراخ السياسي ويغدون هم أساس المواقف المبدئية.
ثورة مسلحة باسم الماركسية الماوية في السبعينيات، ثم تحركات شعبية كاسحة باسم رجال الدين المحافظين ركائز الإقطاع في العقد الأول من القرن الواحد والعشرين!
أي دركٍ نزلتْ إليه جماعةُ الجملِ الثورية المخيفة هذه، فمن ثورة الكادحين الإلحادية إلى حرق البخور للملالي؟ أهذا هو المصير البائس لشباب القمصان الحمر؟ لكن كيف حدث السقوط؟ وأية كتابات تحلل وتغوص في مثل هذه الانقلابات المأساوية الكوميدية؟ فالتاريخُ مثل النظريات والاستشهادات ضائع، فليس ثمة فكرٌ يتكون، ولا نظراتٌ تتأسس، وإنما هي لحظة الانفعال الحادة الراهنة، التي يتصيد فيها البرجوازي الصغير المضطرب لحظةَ قنصٍ سياسيةٍ كبيرة، يمكنُ أن يحصلَ منها على غنيمة، فلا يهملا من سيقدم هذه الغنيمة، أكان فلاحاً مسكيناً في ظفار أم قروياً شاباً متحمساً في ريف البحرين، وسواءً كان ملحداً على الطريقة الماوية أم طائفياً متشرباً بتعصبٍ ديني رهيب، فالمهم هي (الثورة) سواءً سلختْ جلود الظفاريين والعمانيين أم حرقت البحرين، المهم هو لحظة التفجر الفوضوية ذاتها واقتناص منافع الحكم منها.
لكن البرجوازي الصغير المراهق لا يتعلم.. وفي كلِ عاصفةٍ يتوقعُ أن يصيرَ حاكماً، ومن هنا وقع كثيرون في السبعينيات ولم يتعلموا سوى الاختباء وتركوا ساذجين آخرين في موقع أمامي ليتم اصطيادهم إذا فشلت اللحظة المكسبية الكبيرة.
إنه لا يقيم وزناً لكون مؤامراته تدمرُ أسراً، فهو يحفظ أسرته في مكان أمين، وقد عرّضَ كثيرين للعذابات والتجريب السياسي المرير، وتدمروا ولكنهم يُذكرون كأبطالٍ انتفت تواريخُهم الحقيقيةُ المتكلمة وتم أدلجتها والنفخ فيها. ولو أنه كان عاقلاً لم تحركهُ جملهُ الثوريةُ الزائفةُ إلى الفضاء، لكان من الممكن أن يجدَ رفاقاً وأتباعاً مناصرين يشدون أزره بدلاً من أن يذهب لاصطياد شباب الريف المساكين ويستخدمهم بديلاً عن شبابِ المدن والذين قدمهم قرابين لغروره السياسي وجنون عظمته.
وهل يهتم هو بهؤلاء الشباب ويقدم لهم معرفة ثمينة تجنب أمهاتهم فقدهم؟ أو أن يوجههم إلى الطرق العقلانية من النضال لتزدهر حياتهم وتتراكم تجاربهم وثقافتهم؟لا! إنه لا يريد ذلك فهو الرافض لطريق الديمقراطية الغربية يتعلق بكل حبال سيرك الدكتاتوريات الشرقية المتعددة فلا تتراكم لديه ثقافة ديمقراطية تؤسس لتنظيم مؤسسي متين! فمن لم يتعلم خلال أربعة عقود هل سوف يتعلم الآن؟ من لم يحلل تاريخَهُ السياسي وما فيه من إيجابيات وسلبيات، هل يقدر أن يكون صادقاً مع نفسه في بضع سنوات راهنة؟!
هو على طريقة قحطان راشد هذا الذي يكتب بلا مسئوليات فكرية وشخصية وتنظيمية فهو متبخرٌ في الهواء الايديولوجي، فالاسم رمز للموقف المسئول، لكنه يختبئ وراء اسم مستعار من أجل أن يتهرب من ضريبة التجربة وأمانة المكاشفة، ولا يريد أن يتحمل خطأ الفكرة أو صوابها، ويراوغ في السر، وفي التاريخ، وفي النضال، وليتحمل شبابُ الريفِ الكوارثَ وحدهم.
البرجوازي الصغير اليساري المتطرف كالبرجوازي الصغير المذهبي المتطرف يستغلان العمالَ ونضالاتهم حتى يصعدا هما الاثنان إلى المراكز والمكاسب، وليتحمل العاملون آثارَ المغامرات من سجون وتخريب وضياع لفرص العمل وليتحمل الأهالي العذابات. واشتغالُ الاثنين على الوعي السياسي يتم بالطريقة ذاتها حيث يتملا أسطرة الوعي وتحويل المفكرين والمناضلين إلى صوفيين وسحرة كما حوّل الماضون الرموزَ إلى نجومٍ وكواكب وأرواح وشخصيات خارقة وكما يحولُ قحطان راشد ماركس إلى مشعوذٍ شرقي .

كلنا إسلام سياسي!

عبـــــــدالله خلــــــــيفة: كلنا إسلام سياسي!

هناك بعض الكتاب يستخدم إصطلاحاً مضحكاً هو إصطلاح (الإسلام السياسي)، كأنه يوجد إسلام سياسي وإسلام غير سياسي، كأن يكون إسلاماً اجتماعياً أو فنياً!
ولا يوجد دين أو فكرة كبرى دون أن يكون لها تطبيق سياسي وجذور سياسية!
بل أن الأديان والأفكار الكبرى كان جوهر وجودها وحركتها من أجل غايات سياسية، ولكن الأديان نشأت في ظروف التبس فيها السياسي بغير السياسي، وظهر القومي والقبلي والاجتماعي بأشكال دينية ضرورية وموضوعية، كان لا يمكن للوعي أن يتشكل دون الاستعانة بها، وهي التي رافقت حضور الإنسان وهو يبدأ بتشكيل التاريخ المكتوب!
ولهذا حين يقولون عن جماعات دينية بأنها إسلام سياسي، يقصدون بأن الجماعات العادية المسلمة والمثقفين الديمقراطيين والعلمانيين، هم يمثلون الإسلام غير السياسي!
وبالتالي على جماعات الإسلام السياسي أن تكون غير سياسية، وإنه يجب أن يغدو الإسلام غير سياسي، وهي كلها عبارات متناقضة غامضة!
ولكن كل المسلمين يعيشون الإسلام السياسي، بل وغير المسلمين الذين يعيشون معهم بحكم تأثير الأغلبية.
وهذا كله نتاج تاريخ طويل موضوعي، بمعنى أنه له أسبابه في الاقتصاد والاجتماع والثقافة.
ولكن هذه الجماعات التي يسميها المتفذلكون بأنها (جماعات الإسلام السياسي) هي جماعات سياسية تقوم بتسييس المذاهب كالمذاهب السنية المتعددة والإثناع عشرية المتعددة والدروز والإسماعيليين وغيرها من الجماعات التي تشتغلُ في فضاءِ القرون الوسطى المنسحبِ على عصرنا!
ففي كل مذهب كبير هناك مذاهب وتقوم بتشكيل أفكار سياسية داخلها، وإذا كانت هذه النخب تشكل تيارات سياسية فإن الطوائف التي تنتمي إليها هذه التيارات هي أيضاً سياسية، ولكنها ذات سياسة كامنة متوارية، فتنخلق علاقات بين النخب والطوائف لدفعها واستثاراتها لمواقف معينة، أو لتجميدها والسيطرة عليها الخ..
لكن الجماعات السياسية الدينية تشكل سياسية طائفية، فهي تعجز أن تكون سياسة وطنية، لأن الوطنية هي تذويب للطائفية السياسية في وطن موحد يرتفع عن تكوينات الطوائف والأديان المختلفة،

حكمٌ دستوري وإلهٌ عادلٌ

حكمٌ دستوري وإلهٌ عادلٌ

اتفقت الآراءُ الديمقراطية الحديثة في العالم على جعل منصب الحاكم شرفياً، غير متدخل في السياسة المباشرة، وذلك ابتداءً من النهضة الأوربية، وعلى جعل الحكومات تنبثقُ من البرلمانات الشعبية المنتخبة، بعد طول تحكم من الملوك والأباطرة والبابوات الذين كانوا رموزاً على الحكم المطلق الذي بدأ منذ فجر التاريخ وشمل الإنسانية كلها.
وقد أدى هذا إلى استقرار تدريجي وتطور كبير في أوربا الغربية وأمريكا اللتين شهدتا أكبر تقدم تحقق في التاريخ.
ومع هذا فإن المسيطرين على الحكم حاولوا العودة للحكم المطلق بأشكالٍ مختلفة، عبر المواد الاستثنائية في الدساتير وعبر إعلان حالات الطوارئ وغيرها من الجوانب التي تشكلُ ثغرات في الدساتير يستغلها الحكام لعودة الحكم المطلق.
ولا يمكن حدوث ذلك في الحكم ما لم يحدث شيء مشابه له في الدين، وهو صنو الحكم، وكان أداة سيطرته واستبداده، وذلك عبرَ نشوءِ فكرٍ ديني ديمقراطي ينتشر في أدوات السيطرة الدينية خاصة في المجمعات الدينية ومراكز القيادة، وفي القواعد الدينية وفي وعي الجمهور، بحيث تزول حكومات الحكم المطلق الدينية وهي التي ترافق حكومات الحكم المطلق السياسية وتدعمها في أحيان وتتصارع معها في أحيانٍ أخرى بقصد السيطرة الحكم وخلق نفس النظام الاستبدادي وهي تزعمُ أنها تحكم باسم السماء.
إن انتشار مفردات الديمقراطية السياسية هي غير انتشار مفردات الديمقراطية الدينية، ففي الأولى يتركز الأمر على نقل السلطات إلى البرلمانات وكتابة دساتير تضمن حقوق الشعب وواجباته وتشكيل سلطات ثلاث مستقلةالخ..
ورغم صعوبة تشكل الديمقراطية السياسية وحدوث ثورات واضطرابات طويلة حولها، إلا أنها أقل صعوبة من تسرب الديمقراطية إلى المؤسسات الدينية التي اعتبرت نفسها دوماً مقدسة لا تعرف معاني الديمقراطية البشرية الموضوعة من قبل الناس.
وهي تستند في حكمها على صورة معينة للإله، وهي صورة الإله المتدخل في كل شيء والمسيطر على كل شيء، وأن رجل الدين هو الحامي لهذه الصورة الأزلية.
ولكن صور الإله تتعدد ولم تعد هذه الصورة تتماشى والعصر الديمقراطي، فهناك صورة الإله الذي ترك للأشياء طرق حركتها ونموها، وللبشر حرياتهم وقوانين تطورهم وتطور مجتمعاتهم.
وهذه الصورة لائمت المجتمع الحديث حيث تم أكتشاف قوانين المواد والحركة في الأشياء وفي الطبيعة، وكذلك قوانين التطور في المجتمع وفي عقل الإنسان نفسه.
ولقد كانت هذه الصورة قديمة وقام الفيلسوف اليوناني أرسطو بتدوينها، فجعل للإله مكانة عليا، وجعل للطبيعة والمجتمع مكانة لها سببياتها وأحوالها، لكن مجتمعات أوربا الدينية في العصر الوسيط رفضتها، بينما تبناها بعض فلاسفة المسلمين كالفارابي وابن سينا وابن رشد، ثم رحلت هذه الصورة لأوربا في عصر النهضة وتبتنتها وجعلت الكنيسة تخرج من السيطرة الكلية على المجتمعات فينفتح عصرٌ جديد في التاريخ.
ونحن بحاجة في العصر الديمقراطي العربي إلى إعادة النظر في ثقافة التحكم الشمولية سواء في السياسة أم في الدين، وأن الحكم المطلق على المجتمع وعلى المؤمنين آن له أن ينقشع.

تفتيتُ المكونات

تفتيتُ المكونات

الكتابُ الدينيون يجسدون بوعيهم المتعددِ التكويناتِ شكلَ الأزمة الفكري في المنطقة.
إنهم يتهمون الفكرَ الليبرالي والفكرَ التقدمي بانهما تابعان للغرب، لكونهما لم يندمجا في المذهبية الدينية، وهما بذلك خارجان عن نسيجِ (الأمة الإسلامية)، وكلمة (الأمة) هذه إحدى إشكالياتِ هذا الوعي المنفصمِ عن التاريخ.
إن كلَ مذهبيةٍ تتصورُ أنها الأمة الإسلامية، فلدينا إذن مجموعات كبيرة من الأمم الإسلامية؛ الأمة السنية، الأمة الشيعية، الأمة الدرزية، الأمة الحوثية الخ!
لماذا هذا الأصرار بعد قرونٍ من الثوراتِ الفكرية التي إجتاحتْ العالمَ ونشرتْ مناهجَ علومِ الاجتماع والسياسة والفلسفة، نجدُ كتاباً ينكرون الحراكَ والصراع في المذاهب، ويشكلون أمماً وهميةً وعلى ضوءِ هذه الأمم الوهمية يشكلون برامجَ سياسية وتعليمية وإجتماعية ويحركون الخرائطَ البشريةَ من خلالِ تلك التصورات الوهمية؟
يقومُ الديني صاحبُ هذا الوعي بإطلاقِِ تلك الألفاظ على ذاته، فهو(الإسلامي) وحين يمرُ على تياراتٍ مذهبية أخرى يضعها في خانة مغايرة للإسلامي، التي إحتكرها لذاته المميزة المنفصلة.
ومن هنا، بطبيعة هذا الوعي، أن يجردَ هذا المذهبي الليبراليين واليساريين من الإسلام، ومن وطنيتهم، ومن وقوميتهم، ويعلقهم في دائرة الارتباط ب(الغرب)!
ما هو هذا الإسلام الذي يؤمنُ به؟ هو هذه المذهبية الصارمة الشكلانية في العبادة بدرجة أساسية، لأنه لا يجد خارج هذه الممارسات العبادية شيئاً جوهرياً آخر! خاصة إنه يتعامل مع عامةٍ يريدُ الهيمنةَ عليها من خلال هذه العبادات، وخارج هذه العبادات هو لا وجود له. فهو حراكٌ سياسي مذهبي وليس إنتاجاً لأمة متحضرة.
وحين يتعمق ويسير بهذه الممارسات العبادية إلى منتهاها سيُعلبُ التاريخَ، ويسقطُ فهمَهُ المذهبي على التاريخ الإسلامي. ولا نعرف كيف سيحولُ الصحابةَ إلى مذهبيين؟ وإذا لم يكونوا مذهبيين فماذا كانوا؟ وإذا كانوا رموزهُ فلماذا هو مختلفٌ عنهم؟
وإذا كان الصحابةُ ليسوا بمذهبيين فمن أين جاء بمرجعيتهِ المقدسة هذه؟! إذن هو كائنٌ جذورهُ ملتبسة، لكنه يفرضها بقوة في السياسة خاصة. فلماذا؟؟
هي معضلةٌ عميقةٌ منتشرةٌ أزّمتْ الواقع، والمذهبيون السياسيون قادة الحراك والتأثير الشعبي يشلون الشعوبَ والأمم الإسلامية عن التقدم، والأممُ الإسلاميةُ في أزمةٍ تاريخية خانقة!
حين يكونُ المذهبُ(أمةً) فعلينا أن نفتتَ الأقطار العربية الراهنة حسب مكوناتها (القومية) هذه!
آخرون لا يتحدثون بصراحة عن كون المذهب أمةً، يطرحون مسألة الأخوة المذهبية، السني أخو الشيعي، الدرزي أخو الإسماعيلي، لكن كيف يكون أخوه وهو مختلف عنه، وجذورهما مقطوعة متشكلة من خلال عداء حسب هذا الوعي؟
هي مسائلٌ تطرح بكل فجاجة العصور الوسطى المظلمة، أنها الموادُ الخامُ لتلك العصور، وقد غدتْ سياسةً يومية، وعليك أن تحاورها وتحللها.
عمليةُ جوهرةِ المذهبِ، أي جعلهُ مفارقاً لتطورِ التاريخ، وتعليقهُ في فضاءٍ مجرد، فليس هو تكوينٌ تاريخي تشكلَّ في زمن، بل هو جوهرٌ لا يقبل التغيير، هو مطلقٌ مرتبطٌ بنورٍ إلهي يتصوره هذا المذهبي، وهو قادمٌ من السماء وبالتالي من المستحيل تغييره وتبديله، ومرتبطةٌ به وقائعٌ ورموزٌ، وهو محبوسٌ في هذا الكيان الغيبي السرمدي، ومبرمجٌ في السياسة اليومية على أساسه.
لكن علينا في السياسة وعلم الاجتماع أن نعيش على الأرض ونفهم التاريخ كمادة واقعية. فالإسلام تكون في ذلك الحين من مصادر فكرية دينية سابقة ومن الثقافة العربية الجزيرية، ومن الأدب الشعبي (السحري) لكي يقومَ بعمليةٍ سياسيةٍ كبيرة توحيديةٍ تجميعيةٍ للقبائل لتكوين دولة، وبعد أن ظهرتْ الدولةُ برزتْ الصراعاتُ الاجتماعية فيها وتغلبتْ القوى الارستقراطية القبلية الغنية، ونشأتْ المذاهبُ المعبرةُ عن هذه الصراعاتِ الاجتماعية بين أسرِ الأشراف والعامة، وكلٌ منها جعل مصدره غيبياً مطلقاً ومعبراً عن الكل المقدس الخاص به، لكن الأشراف استمروا متحكمين مؤدلجين المذاهبَ لمصالحِهم ومقسمين نواةَ الأمة العربية تلك ثم الأمم الإسلامية التي تكونت بعد ذلك في خريطة الأرض الواسعة إلى مذاهب كل منها ينفي الآخر في صراعاتٍ سياسية واجتماعية. فإلى متى؟
المذهبيُّ السياسي لا يَحتارُ في تاريخه، لأنه لا يشتغلُ في تحليل التاريخ، وهو أيضاً يريدُ(ثورةً) ويريدُ تغييراً للعالم!
كانت الثورةُ الإسلاميةُ المؤسِّسة بلا مذهبيين، فلو كانت قد تشكلتْ بمذهبيين لم تقمْ أصلاً!
لماذا لم يكن الصحابةُ مذهبيين؟!
الجماعةُ المغيرة كانت تضم تجاراً وفقراءً وعبيداً، ولم تخلق بينها تفرقة مذهبية، التوحيدية النهضوية تغورُ فيها، أصولُ القبائل والطبقاتِ لم تكن أساساً للدخول في تجمعها، لولا أن قبليةَ قريش كانت بؤرة محورية فيها، لكن لم تُوضع كشرطٍ للانتماء، ووضعت المساواة بين أفرادها. لكن القرشية أنشأتْ من جهةٍ أخرى وبعد هزيمة الثورة الإسلامية: الارستقراطيات أو أسر الأشراف المتصارعة المؤسِّسة للمذاهب.
المذهبيُّ السياسي وهو يستعيدُ هذه الأسسَ التكوينيةَ ل(الأمة) ويقصدُ جماعتَهُ المذهبية، يُسقطُ عليها تاريخَه الراهن، قوقعتَهُ الطائفيةَ التي تعزلُ وتضمُ الموادَ حسب قربها من هذه القوقعة، يبعدُ من لم يمضِ في مشروعهِ الطائفي، ويوهجُ ويعظمُ من سار معها.
ويغدو التاريخ ذاتياً، الجماعة الموحدة في ثورتها التأسيسية، يفتتها حسب منطقه. وهو وليد الثورة المضادة على الإسلام يجعل من نفسه ثورياً.
وضعت الوحدةُ اللامذهبيةُ، أساسَ التاريخ الإسلامي والفتوحات والتكوينات القادمة والحضارة.
من أسسَّ التاريخَ لم يكن مذهبياً، المذهبيةُ لا تخلقُ حضارة، أو دولة، المذهبية تستلمُ منجزات سابقة، تستلم دولةً كبيرة ناجزة وتعضُ عليها بضروسِها الحديدية.
حين تستلم المذهبيةُ السياسيةُ الدولةَ التوحيدية تخربُها، حتى لو استمرتْ هذه الدولةُ قرناً كالدولة الأموية، أو قروناً كالدولة العباسية وما بعدها من دول.
تقوم المذهبيةُ بنخرِ الدولة التوحيدية التي أستلمتها، عبر ارستقراطية الشيخ البدوي المهيمن وعائلته وزوجاته وأنماط الثقافة المترافقة معه، وهي التي قفزت إلى السلطة وإنتزعتها من الدولة التوحيدية، هذه الارستقراطية غائرة في تاريخ البداوة والقبلية والاستغلال، تبدأُ من بئرِ الماءِ حتى بئرِ البترول.
يقعُ بئرُ الماء على ضفافِ الاقتصاد تكملهُ مُلكية القطعان والعبيد والتحكم في الفقراء، فلا ميزانية حقيقية، ولا رقابة، ولا ديمقراطية.
تنخر الدولةُ المذهبيةُ في الاقتصاد إستغلالاً وأثرةً لجماعةٍ دون جماعات الناس. ومهما كانت توسعاتُها ومهما كانت حروبُها وغنائُمها فهي ذاهبةٌ لزوالٍ وتفككٍ وتمزيق، فهي لا تنتجُ وحدةً أكبر، بل تنتج شظايا دول ودويلات.
قامت الدولُ المذهبيةُ بإنتاجِ التفتت: تفتيت الإسلام من وحدته ومن مضمونه النضالي التوحيدي، تفتيت الشعوب، تفتيت القبائل، تشكيل الخرافات السياسية والاجتماعية المختلفة، تفقير الفقراء مادةً وثقافةً الخ..
أما ما نراه من إزدهار في فقهٍ وفكرٍ وأدبٍ وفلسفةٍ فهو محاولاتٌ لخقِِ وحدة ونهضة على نموذج الثورةِ المؤسِّسة، وخلق تنوير ومحاولات لتجاوز المذهبية السياسية المُفكِّكة لعُرى العرب والمسلمين. لكن هذه المحاولات لم تنجحْ بسببِ عدم تحليلها العميق لأزمةِ وإنسدادِ بابِ الدولة المذهبية، وكون المعارضين الذين أنشئتهم ظهروا وهم مصابون بنفس وباء المذهبية.
فهي أي هذه النتاجاتُ الفكريةُ والدينيةُ والثقافية كانت ترتكزُ على خلايا المذهبية المصابة بالسرطان الطائفي.
الدولةُ المذهبيةُ تخلقُ دولةً مذهبية أخرى معاديةً منافسة، والدولتان تشيعان الانقسامَ بين المسلمين في كل شيء، وتنشران الانقسامَ في كل مكان، وهذا الانقسام يؤدي إلى إنقسامات مذهبية سياسية جديدة، وهكذا تتوالد التكوينات المريضة تشل الجسد الأمبراطوري الهائل وتحيله إلى فتات.
ولكن المذهبي السياسي المعاصر يتطلعُ بكل فخر لهذا التاريخ.
إنه يستخدم عمليات التنحية للأخطاء والسلبيات، يجوهرُ التكوينَ المذهبي خارج التاريخ، يلونه بالألوان المشرقة، فإذا كان من المستفيدين من الدولة المذهبية خفف أخطاءها، وإذا كان من المتضررين فاقم هذه الأخطاء، والدول المذهبية تعيش على هذه الانقسامات، ويقوم المذهبيون السياسيون المختلفون بالتصادم.
ثم إنهم يريدون تشكيل ثورات ونهضات بهذه الأفكار!
السياسي الفاسد الاستغلالي والمذهبي السياسي وجهان لعملة واحدة، فحين تنحت الدولةُ الإسلاميةُ المؤسسة عن صدارةِ التاريخ، كان هذان الوجهان من العملة غير موجودين، وحين ظهرَ الوجهُ الأولُ من العملة ظهرَ الوجهُ الثاني. هما متلازمان ويحتاج كل منهما للآخر، وأن بدا أنهما متعاديان في بعضِ لحظات التاريخ، فحين تأسست الدولة المذهبية حتى بخطواتها المتقطعة؛ أموية، عباسية، أدرك السياسي الحاكم أنه يقاطع تاريخاً سابقاً، أنه ينقضه ويؤسس تاريخاً مختلفاً، فلا بد له من تحويل الآراء الاجتهادية في الدين إلى مذاهب، لا بد أن يفتت لحمة المسلمين المتوحدة، فكما أنه استولى على أرزاقهم فقد استولى على تراثهم كذلك، فقام بتحوير التراث التوحيدي وأدلجته، مثلما كرسَّ الجانبَ الأكبرَ من الخراج له ولأسرتهِ وطبقته.
ولهذا فهو بحاجةٍ لتفتيتِ وإزالةِ المثقفين التوحيدين، وتصعيد غير التوحيديين المفتتين للناس. لا بد أن يهدمَ الاعتزالَ الداعيَّ للتوحيد من منطلقاتٍ عقلية مثالية، وأن يقوي حضورَ المذهبيين الآخرين حتى لو كانوا مخالفين له، أي مخالفين للمذهبِ الذي كرسهُ عبر إضطهادِ الأئمةِ منتجي النصوص الاجتهادية التوحيديين، وإنتاج رجال دين طائعين منتجين للمذهبية الانقسامية.
يتم خلق المذهبية السياسية الطائعة للحكم عبر صنوفٍ متعددةٍ من الاضطهاد والإستغلال. فالسياسيُّ الفاسدُ وقد استولى على الخراج، يستطيع أن يضطهدَ الاعتزاليَّ التوحيدي، ويَعيشهُ في ضنكٍ وفقرٍ حتى يتعب هذا من إنتاجه للفكر، الموحِّد، لينتج فكراً تقسيمياً، وليحول وعيه المثالي المتابع لانهيار التوحيد والبحث في جذور ذلك وسببياته، إلى أن ينظرَ لهذا التاريخ الاسلامي غير المتسق والمتناقض إلى أنه تاريخٌ متسقٌ وغيرُ متناقض، وأن الدولة الراهنة المذهبية هي إستمرارٌ للدولة الإسلامية التوحيدية، فليس ثمة فروق جوهرية، بل هي ظروف الزمان والمكان، وليس إلى ظروف السيطرة على الاقتصاد وتحويل الفوائض من جموعِ الناس لطبقةٍ مخصوصة.
وهذا ما يتم في الفقه فمن توحيديةِ الأئمة ونقدهم للانقلاب الاجتماعي، ومن إلغاء الشروط العامة للدولة من توحيدية سياسية ومن خراج مخصص للأمة، ومن إنتخاب للحاكم، يتم تبديل هذه الشروط، وإنتاج شروط جديدة من صنع رجال دين تابعين للدولة. فتصبحُ شروطُ الحاكم هو من كان سليم الجسم والعقل و(عادلاً) أي تتم صناعة شروط فردية جسمية وليس شروطاً إجتماعية شعبية أي يجري خلق شروط مطابقة للدولة الاستغلالية، حتى يغدو الحاكم أي كائن تفرزهُ ولاداتُ وصراعات الطبقة الحاكمة سفيهاً أو غبياً، أو حتى مجنوناً كما ظهرُ الحاكمُ في بعض الأحيان وهو يسكر ويضرب القرآن بالسهام، أو يتآمر مع العدو، لكنه حالته العادية غير الاستثنائية هي إهدار مال المجتمع في شؤون الذات اللاهية.
وبتجميع هذه الخصائص من فقهٍ وفكرٍ وثقافة وقد قُطعت إرتباطاتها بمصالح الناس، وبتقدم المسلمين، وصارت خادمات للسلطان، يُؤسسُ المذهبُ السياسي.
أي تتم تنحية خصائص التوحيد وتُثبت خصائصُ التفريق.
والناسُ بوعيها الغائر في الحاجات اليومية وسؤ العيش تتحسسُ من هذه المذهبية، وقد سُيست، والحاكم يدعوها لها لكنها تخشاها، إنها مثل الحاكم صارتْ بعد التطويع والعقود من السنين مذهبيةً، لكنها مذهبيةٌ إجتماعية، غيرُ مُسيسة، بينها وبين الحاكم هوة المصالح المختلفة، وإختلاف الطاحن والمطحون وخوف العامي من النار.
المذهبية الاجتماعية وقد كُرست من خلال سنين طويلة جعلت المسلم والمسلمة متقوقعين في شروط العبادة، وقد تقطعتْ بهما السبلُ لفهم الجذور، ولقراءةِ التطور وفهم السببيات. يرى المغايرَ له يتوجهُ للعبادةِ بشكلٍ آخر، فلا يصارعه، فقد قبلَّ التنوعَ، مثلما قبلَ التنوعَ في الديانات، التي الأخرى غدت عبادية.
لكن لا بد للعامة خاصة في بعض الأزمات ولحظات الصراع والاضطرابات أن تكون مُسيَّسةً، أو جزءً منها يغدو مُسيساً، فلا بد من إدخالها الجيشَ والشرطة ومصلحة الخراج وغيرها من الدوائر التي تقومُ بإنتاج القوة مع الناس أو ضدهم.
والمذهبيةُ السياسيةُ بطبيعةِ تكوينها هي من نتاجُ الخلافاتِ والصراعاتِ السياسية التفكيكية بين المسلمين، فهي صارعتْ التوحيدَ وعزلتهُ عن المسار التاريخي، وهذه الإزاحةُ لا تشتغلُ في الفراغ، بل تشتغلُ بين الناسِ وبين أفكارِهم وعواطفِهم وأحلامهم، عبر الحروبِ الطويلة والصراعات الدامية والسلمية، والعزل والرفع، فيرى الناسُ أن مقدساتَ الدين غدتْ خادمةً للسياسة، وأن كلَ حزبٍ يقومُ بتبرير سياسته عبر ذات المقدسات، والعامة لا تقدر أن تفهم هذه التناقضات، بأن تعرضَها على مشرحةِ التاريخ فتحللها، فقدارتها لا تسمح بذلك وقد قُطعتْ عن الفكر وعن العلوم، وخُصصت للخدمة وإنتاج الخراج.
لكن الحاكم يحتاج لتسيسها، وهو لا يبتكرُ المذاهبَ الأخرى المنافسة أو المعادية، بل هي موجودةٌ من صراع التاريخ نفسه. فتشتغلُ المذهبيةُ السياسيةُ الحاكمة على خلقِ العداءات، مثلما أن المذهبيةَ السياسيةَ الأخرى تقومُ بذلك من موقعٍ آخر، وبمفرداتٍ مقدسة أخرى. وتحرك عامةً آخرين.
يخافُ المذهبي السياسي من التوحيد رغم أنه يلهجُ بلفظهِ كل يوم، فثقافتهُ تقومُ على التفكيك لا التوحيد.
حين كانت عصورُ الظلام، حين كانت الأمبرطورياتُ العربيةُ والتركية والفارسية تلفظُ أنفاسها، كانت ثقافة التفكيك تنشرُ أجسامَ هذه الدول الكبيرة وتفتتها، كانوا يوحدون الناسَ بالسيف ويفرقونهم بالمذاهب.
وقد سُميت عصورُ التفكك والتخلف لأنهم كانوا يزيلون أفكار التنوير والتوحد والنهوض المشترك للشعوب والأمم الإسلامية، ويحرقون كتبَ الفلاسفة وعلماء الطبيعة وينشرون كتباً تفسر بألف طريقة ثقافة التفتيت.
ومن هنا يصرُ المذهبيُّ السياسي الآن على العداء للغرب والعلمانية والديمقراطية، فيخلطُ الاستعمارَ بثقافةِ التوحيدِ من أجل أن يُضفي عليها المظلةَ الاحتلالية ويبعدُ الناسَ عنها حتى لا يتوحدون.
وحين كانت الأمبراطورياتُ في حالاتِ الانهيار وتعرضَ المسلمون للتفتيت الجغرافي إضافةً للتفتيت العقلي، لم تستطع المذاهبُ السياسية أن تقوم بدور التغيير والتوحيد وقد كرستْ نفسها في ثقافة التمزيق. لم تستطع هذه الأدواتُ التي بقيتْ محميةً قروناً، وإنتفخت أجسادُ أصحابِها من كرم الدول، ونشرتْ ملايين الكتب أن تجعل بضعة أوراق تقاوم.
جاءَ التوحيدُ من العدو الغربي. ليس من خلال بنادقه القاتلة أو زنزاناته الواسعة بل من أفكاره. قدم ثمارَ أممٍ ناضلتْ للتوحد وخلقته، ونهضتْ، تجاوزت تفتيتة رجال السياسة المحافظين ورجالَ الدين وأدوات فكرية قديمة لم تعد قادرةً أن تواكب النهضة والتحرر، وبطبيعة الحال لم يقبل هذا الكم الهائل المنتج لثقافة التفتيت ثقافةَ التوحيد سواءً جاءتْ من رجال مسلمين متنورين كجمال الدين الأفغاني أو من مثقفين علمانيين مسلمين وعرب. ولكن معارضاتهم ذهبتْ أدراج رياح التاريخ العاصفة.
إنتجتْ ثقافةُ التوحيد العربية المتشربة بجزئيات ديمقراطية الغرب وجزئيات علمانيته أحزابَ النهضة والتحرر وخاضت معارك الاستقلال والحرية، وبعد عقودٍ من التضحيات على مستوى الأجساد والإنتاج المعرفي تحققت هذه الأهداف التي أنجزها (الديمقراطيون العلمانيون) العرب المسلمون والمسيحيون والماركسيون.
لم يكن رجل الدين المتجه لأن يكون حاكماً في الثورة الشعبية الإيرانية ثورياً، كان رجعياً، لكن الأمر إختلطَ عليه، ظن إنه ثوري مع الجموع الهادرة، وإنه مع أحلامِ البسطاء لتغييرِ حياتِهم ولإنصبابِ الفوائض الاقتصادية لتغييرِ أكواخهم وحرمانهم، ولم يكتبْ برنامجاً للخروج من الماضي للحاضر ثم للمستقبل المتطور السعيد لهذا الجمهور الذي ضحى.
بل وضع القرية فوق المدينة. جاء بنماذج الماضي وكرسها فوق الحاضر.
الفئة الوسطى الصغيرة من رجال الدين المحافظة كلها إنقسمت، والعديد منها يعرف مخاطر القيادة إلى المستقبل، وهناك أدراكٌ غائر فيها هي (أننا لسنا للمستقبل)، نحن نجعل ماضينا العتيق يبقى ويتكيف في العالم القادم، أي أن (نطور مذهبيتنا ببطء دون أن نتخلى عن أساسياتها لكن السياسة ومغامراتها وصراعاتها الحادة فنحنُ لسنا لها).
هذا هو الاتجاه الشيعي الإيراني الأصيل القديم، كما حدده آياتُ الله الكبار. لكن الاتجاه الآخر إتجاه المغامرة بدأ يطفو على هذا ويتلقى تفكيراً جديداً ظهر في كتب مثل(فلسفتنا) و(اقتصادنا)، يُطرح فيها تحدي العصر ورفضه، يتحدى الاشتراكية والرأسمالية معاً، ويطرح(الخيار الإسلامي). أي أنه يريد العودة للماضي، وبالأحرى البقاء في الحاضر الإقطاعي الديني مع تطور للرأسمالية أو للقطاع العام بشرط أن يكون الولي الفقيه مسيطراً على هذا النظام.
لسانُ حالهِ يقول علينا أن لا نتخلى عن قيادة جماعتنا ونمنعها من الذوبان في هذا العالم، نمنعها من أن تكون حديثة ديمقراطية عصرية ذائبة في هيمنة الآخرين، في صراع المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي، كما يظهرُ في ذلك الوقت من الخمسينيات والستينيات، ولهذا فإن الذي يقرأ هذه الكتب الآن، لن ينتبه للتضاريس الاجتماعية والسياسية التي كُتبت فيها، وهذا هو نفسه الذي جرى لبعضِ الأديانِ كاليهودية، حين فكر سياسيٌّ كبيرٌ فيها(وهو هرتزل) أن يكون ثمة وطنٌ لليهود يغدو خارجَ الرأسمالية الحديثة كي لا يذوبَ اليهودُ فيها، ثم ظهر قادةٌ سياسيون آخرون في العالم الإسلامي يفكرون بذلك الشكل وهو:(إبعاد المتدينين عن الحداثة والعلمانية وإذا جرى تحديثٌ يكون تحت قيادتنا حتى لا يزول ديينا!).
في ذلك الوقت كان ثمة إلتباسٌ في من تقود العالم هل هي الرأسمالية أم الإشتراكية، لأن البرجوازية والعمال هم الذين يصنعون هذا العالم الحديث، ويصطرعان على قيادته بقيم وأوضاع وسياسات متضادة.
فقد حدث للاشتراكية في الشرق ما حدث للمذاهب واليهودية وهو القفزات المغامرة في المجهول. وظهر في آسيا أناسٌ يقررون سحقَ المُلكية الخاصة والفقر والأديان دفعةً واحدة! وكان لا بد أن ينتقلَ الخوفُ والتسرعُ إلى بعض قادة المذاهب المتحمسين ذوي الرأي الحاد الذين يبعدون المذاهبَ عن الفقهاء القدماء.
وبهذا كانت إيران المعمل الأول لتطبيق ذلك، وكان البرنامج هو العودة للماضي، وكان السادات يقول في نفس الوقت(ضرورة الحفاظ على أخلاق القرية)، مثلما يرفض العديد من رجال الدين في السعودية الاكتشافات الفضائية والعادات الجديدة.
لم يزد برنامج المحافظين في إيران عن إبقاءِ العلاقات الإقطاعية مهيمنة على الفلاحين والنساء والعقول والثقافة بالقهر، وهو برنامجٌ يستجيبُ لأهواء الكثير من الذكور والبيروقراطيين والرأسماليين، لكن ذلك لا ينقل المجتمع للماضي ويظلله بأجنحة الملائكة، ولا يلغي الصراعات الطبقية، لكنه يفرض عليه هيمنةً بوليسية عسكرية طاغية، تمنعُ زيادةَ أجور العمال وتطور النساء الاجتماعي السياسي، وملاحقة الفساد، مما يجعل المحافظين يزدادون شراسةً في عسكرة المجتمع وزيادة جرعات غيبياته، وهذه أيضاً لا تحل التناقضات المحتدمة، فتنتقل أوهامُ الرسالة التي يحملونها للعالم وصراعاته والمنطقة.
إنهم يجابهون يومياً الحداثة والعلمانية والديمقراطية، عبر الفضائيات والموضات والسلع والكتب والسفر وغيرها، وتتحول تلك الأساسيات لمطالب لقوى الجمهور المحروم والمستغَّل والمقيد، وفي مثل حالة إسرائيل تبقى فزاعة العرب لعدم حل إشكال النزيف اليومي وتحقيق الحلم اليهودي، وفي إيران تتوجه الطبقة الحاكمة لتصدير الأزمة للخارج، تغدو لها رسالة وهي تحريك الشيعة سياسياً، وتأزيم الدول الأخرى، وخلق حالات من الإثارة والحركة والمذهبية السياسية الساخنة المتوترة بغرضِ إشغالِ الرأي العام الداخلي، فلا تكفي حتى المواد التراثية التي تحاصرُ المواطنَ يومياً، ولكن هذه تتحول إلى صراعات سياسية وإنفجارات إجتماعية وحروب طاحنة.
والدول الأخرى جاهزة بمشكلاتها العميقة التي لا تُحل، وبأهاليها المعذبين، ولكن في العراق والخليج تغدو هذه الحواف القريبة من إيران مشتعلة يوماً بعد يوم، حسب ضخامة تناقاضاتها وكثافة بشرها ومدى حماقات أدواتها السياسية.
وهكذا عبر عقود من(الثورة) الإيرانية أسرع الملايين للذهاب للآخرة، وتفجرت حروبٌ في الخليج، وما زالت الأخطارُ تحدقُ بالمنطقة وفيها الكثير من الجمر الملتهب والحطب اليابس.
لماذا اختلف التطور السياسي في شمال أفريقيا عن المشرق العربي الإسلامي؟ لماذا قدم الشمال تجارب تحولية ديمقراطية بنائية محدودة العنف، في حين عجز المشرق عن ذلك؟
تعودُ الأسبابُ لتنامي السياسة الديمقراطية العلمانية مع تنزيه المذاهب والأديان عن العمليات السياسية.
تونس لها تجربة تحديثية طويلة ولكن مصر بقيتْ فيها الأحزابُ التقليدية والدينية تؤزم التطور وتفككُ صفوفَ المصريين، حتى نأي الشبابُ وطرحوا سياسةً وطنية تغييرية تشمل جميع المواطنين، وطرحوها بشكل يلائم غايتها أي بأسلوب سلمي توحيدي فحققوا الانجاز.
لكن الشباب بحركاتهم الجديدة الغضة لا يدركون جذورَ الدول والجماعات الدينية والحكومية ومناوراتها، وعمليات إلتفافها، الأمر الذي يبقي التجربة مفتوحة للدرس والقراءة.
أما المشرق بؤرة المذاهب والأديان المتعددة المتصارعة، فقدت تغلغلت فيه ولاياتُ الفقيه وهي أشكالٌ سياسية مذهبية دكتاتورية، لتكريس أنظمة محافظة تفكيكية للمسلمين والمواطنين، وغدا العراق المختبر الأول الدامي لهذه السياسات، فقد قامت السياسة المذهبية الإيرانية بجر المنطقة المشرقية الخليجية لأتونها، مما إستدعى ولايات فقهيه سنية باطشة لتمزق جثث المواطنين الأبرياء في مسالخ واسعة. وتغلغلتْ هذه الأفكار التفتيتية في دول وأحزاب أُعتبرت (علمانية) وبهذا فإن أزمة العودة للوراء التاريخي جرّت شعوباً كبيرة في المشرق، في حين تمكنتْ شمالُ أفريقيا العربية من توقيفِ هذا المسلسل.
تتوسع على نحو خطير هذه السياسات في منطقة الخليج، وبخلاف التراكم الثقافي الديمقراطي العلماني الذي غرستهُ حركاتُ الشباب التونسية المصرية زرعت الحركاتُ المذهبية في منطقة الخليج والعراق التمزيقَ الواسع، سواءً كان ظاهراً يشتعل ناراً أم كان متوارياً.
هنا يمكن أن تتلاقى أكبر الحركات المذهبية السياسية إتساعاً وتطرفاً، تغذيها عملية تفتت العراق، وكذلك فإن المجتمعين الكبيريين السعودية وإيران المنتجين لهذه الحركات المذهبية المُسيّسة عبر عقود، يمكن أن يقتربا من مواجهة خطيرة. إن أكبر مواجهة مذهبية سياسية يمكن أن تنتج من هذا التنامي للوعي الديني المحافظ بمختلف أشكاله المتجه لحافة البركان، وهو الذي عجزَ عن نسخ الماضي الوردي، ورفض مواكبة الحداثة السياسية الاجتماعية معاً.
وفي قرب هذا الكم الهائل من الحطب اليابس فإن تحريك العامة المأزومين في معيشتهم هو عودُ الثقاب، وهكذا تُنتجُ ظاهرةٌ معاكسةٌ حين يتم توظيف ثورات التوحيد لإنتاج حركات التفكيك، ويتم الابتعاد عن خلق التراكم الديمقراطي الوطني في مصر وتونس وزحزحة المذهبية السياسية فيهما، إلى إشاعة المذهبية السياسية وجر العامة البسطاء إلى أتونِها في الخليج والعراق.
وإذا كان المجتمع السعودي في حالةِ دفاعٍ عن النفس فإنه لم يخلق التراكمات الديمقراطية العلمانية وإصلاح أوضاع الطبقات الشعبية، وتطوير أوضاع النساء، وخلق العدالة بين الطبقات والمناطق وتطوير الفئات الوسطى الحداثية للمراكز القيادية بشكل يواكب الزمن، وهو ما تستثمرهُ مذهبيةٌ سياسية مضادة وتشتغلُ عليه سياسياً.
إن جمهورية إيران بحاجة للمحافظة على شعوبها وإنجازاتها، ولهذا تتطلب الأمورُ الانتقال من حكومة المذهبية السياسية إلى حكومة التوحيدية الإسلامية، الأمر الذي يعني أن تساعد الدولة مختلف القوميات والمذاهب، وتشكل سياسة دعم لكل الفقراء والعاملين المواطنين، وهو التوجه الذي يمهد للانتقال للدولة الديمقراطية العلمانية حيث تغدو الدولة مُنتخَّبة من قبل التيارت السياسية وليس للمذهبية وللقومية المُفتتِّة لوحدة الدولة المركزية وهي إتجاهات ستفجرُ هذه الوحدةَ مع إستمرار الكبت.
وهذا ينطبق على السعودية كذلك، أي أنه نتظرها القيام بنفس الإجراءات عبر الإصلاح المتأني.
مقاربة الدولتين الكبيرتين للتوحيدية ومن ثم الانتقال للديمقراطية العلمانية هي أمور صعبة ولاشك ، وتتطلب مراحل إنتقالية، يزدهر فيها التغيير والإصلاح لطبقات الشعب الفقيرة والمناطق المحرومة، وتنتشر فيها ثقافة التوحيد، وتجاوز التعصب والتفيت، للانتقال إلى مصاف الأمم المتقدمة والمعايير الدولية في الوجود السياسي.
إن قوى التغيير في هذه المجتمعات لم تشتغل وتراكم ثقافة التحديث المشار إليها، وتجري نحو اللحظات السياسية القريبة والعفوية، منجرةً لسطوح الظاهرات والتغييرات عبر إرادات شمولية فتعمق الأزمات بدلاً من أن تستبصرُ عروقَها الداخلية في باطن الأراضي الاجتماعية، ويبدأ ذلك من فهم تكوّنِ الأممِ الإسلامية وتواريخِها وتحولاتها، في ظل تحولات البشرية، ومسارات مراحلها، فالتحولُ من الإقطاع إلى الرأسمالية، الذي يخضُ هذه الأمم لابد من إستبصاره في هذه الخطوط العريضة لسير البشرية، وتأسيس مراحله وتطوير شعوبه وإعادادها لعواصفه وتجديداته الانتاجية والثقافية.
وهذه الأمور كلها ستجعل الديمقراطية ووالحداثة والمذاهب والأديان تزدهرُ على أسس جديدة.

لينين في محكمةِ التاريخ

لينين في محكمةِ التاريخ

إنتقلتُ في علاقتي بلينين من المحبة إلى العداء، ثم إلى القراءة الموضوعية دون محبة أو عداء، أي إلى قراءة تحليلية أتجنب أن تكون ذاتية.
ظللَّ هذا الرجلُ مرحلةَ شبابنا، وكان معبوداً، وتدمر في تواريخ لاحقة حتى غدا مرفوضاً ملعوناً، لكنه صعد بشكل آخر حين تنامت القراءة الأعمق للتاريخ.
لينين دكتاتور، وكرسَّ نفسه لكي يكون ديكتاتوراً، وهذا لم يخفهِ، لكنه دمجَ دكتاتوريتَهُ الشخصيةَ الحزبية بالطبقة العاملة، بإدخال دكتاتوريته الشخصية الحزبية فيها.
العمالُ غير قادرين على المشاركة في السياسة فكيف أن يكونوا قادة دولة كبرى؟!
العمال لكي يكونوا قادة دولة يحتاجون لعشرات السنين وربما لمئات السنين، فكيف يحدث ذلك؟ المثقف التقدمي يتكلمُ نيابةً عن العمال، إنه يختزلهم في شخصه المنتفخ سياسياً بشكل متصاعد تاريخي، أي مع تطور حركته السياسية التي تُصعدُ دكتاتوريتها ودياكتاتوريته بين العمال والجمهور وكلما تغلغلت زادت البرامج شمولية وضخامة في التغيير.
هذه إزاحةٌ من برجوازي صغير لذاتهِ الطبقية الغامضة، المترددة بين الاشتراكية الديمقراطية والاستبداد الشرقي، والعمال يكونون مادة خاماً غير معبرة ولا مهيمنة.
البرجوازية الصغيرة بإحدى فئاتها وهي البلاشفة تتكلم عنها وتتداخل معها، وتصعدُ نفراً منها، كأدواتٍ لها. فالعمالُ لا يعبرون عن أنفسهم بل يُعبرُ عنهم.
هنا حدسٌ تاريخي وتحليل موضوعي من لينين، ومقاربة للعالم الشرقي الذي ينتمي إليه، وهو عالم إستبدادي لم يعرف التغيير عبر الورود.
إن التغيير في الشرق يتم عبر القوة ومن ليس لديه قوة لا يستطيع أن يغير، لينين يعيش وضع الشرق الاستبدادي ويتكلم من خلاله، فهو قد عبر منذ البداية عن هدفه الدكتاتوري وطريقه الديكتاتوري، ولم يقل عن الانتخابات الحرة والديمقراطية الغربية، بل قال أنا السلطة وأنا النظام.
الشرقيون في تحولاتهم عبر الماضي إعتمدوا على العنف، ومن لم تحمهِ قبيلةٌ وينهض على أكتاف مقاتليها أو من لم يجد قوة تنضم إليه لا مستقبلَ له في السلطان والتغيير على مدى قرون!
المسيح وغاندي لم يعتمدا على العنف بل على الأفكار والمحبة وفي المضمون حركا الجماهير الشعبية عبر نضالات سلمية عازلة للطبقات الحاكمة بحيث تمكنا من هزيمتها. وقد كان تولستوي الروائي الروسي الكبير هو معلمُ غاندي، لكن لينين في كتابته عن تولستوي لم يأبه بمسألة اللاعنف، وتغاضى عنها، وركزَ على الصراعات الاجتماعية وأن تولستوي المسالم لم يدخلْ الثورةَ في رواياته ولم يحول الفلاحين إلى ثوريين وإنه ركز على مسائل الضمير والأخلاق والتغيير الروحي وكان هذا نقص في رؤيته حسب قراءة لينين. وقد كان تولستوي يهدف بشكل أساسي إلى عدم إدخال العنف في نضالات شخوصه وعوالمه، بل ركز على النضالات السلمية، والمحبة، وعلى(البعث الروحي) وهذه إعتبرها لينين ثغرات في وعي تولستوي وليست ثغرات في وعيه هو!
وبين مسارِ هند غاندي المتحولة من نموذجهِ وبين مسار روسيا العنيف مفارقاتٌ هائلة، فقد وصلتْ الهندُ لنفس مسار روسيا بدون كل تلك المذابح اللينينية والستالينية وبدم مائة مليون قتيل، بل من خلال مغزل وعنزة!
لكن روسيا كانت قائدةً للتحول الشرقي عامة، فبدون روسيا السوفيتية يصعبُ وجود وإنتصار الهند الغاندية.
روسيا قامت بدور القيادة التحررية لعالم الشرق، فإذا كانت اليابان عملت لذاتها الخاصة الأنانية وبكم هائل من الدماء، فروسيا عملت لنفسِها وللشرق والعالم المستعبد، وهي تقدمُ نموذجاً دكتاتورياً مليئاً بالتجاوزات والجرائم!
لم يستطع لينين أن يكون إشتراكياً ديمقراطياً، فالاشتراكية الديمقراطية صالحةٌ للغرب، لدولٍ راحتْ تتطورُ في رأسمالية حديثة خلال خمسة قرون وأكثر، لدولٍ فيها صناديق الاقتراع والحريات الفكرية والسياسية والحب في الشوارع، فيما عاشتْ روسيا في إستبدادٍ مطلق، فلم يعرف الروسُ صناديقَ الانتخاب، ولم يعرفوا النقابات والأحزاب العلنية، فكيف يؤيدون الاشتراكيةَ الديمقراطية؟
في روسيا مائة مليون فلاح أمي فقير حينذاك، فكيف يظهر التنويرُ وتصعدُ الديمقراطيةُ فيها؟!
هنا تنجح الدكتاتورية مثلما نجحت في بلدان أخرى لها نفس السمات كما سوف يتفجر ويتألم القرن العشرون الشرقي!
عمل لينين على تجذير الاشتراكية الدكتاتورية، وهزيمة الاشتراكية الديمقراطية، وعلى تصعيد رأسمالية الدولة وعلى الدولة القومية الروسية.
منذ البداية في(ما العمل) أكدَ ضرورة وجود حزب دكتاتوري، يعمل على إسقاط النظام وإحلال الاشتراكية فيه. وإنقسم الاشتراكيون تبعاً لذلك، بين إشتراكيي التعددية والتغيير التدريجي الديمقراطي وبين الفصيل البلشفي الدكتاتوري الذي يقوم بالتحولات النهضوية بشكلِ دولةٍ جبارة تقع كل الخيوط في يديها.
الشرقيون إلى زمنٍ طويل أقربُ للبلشفية منهم للديمقراطية، لأنهم دكتاتوريون محافظون، وذكوريون إستبداديون، ويريدون التحولات بسرعة ومن خلال (القداسة) التي تحقق التحولات السريعة القافزة المتلاحمة لهم، دون أن يقوموا بتحولات في شخوصهم وعائلاتهم ويغلغلوا الديمقراطية في أوضاعهم ونفوسهم وحياتهم الشخصية.
وقد تمكن لينين بعبقرية من فهم المجتمع ومن وضع برنامجه موضع التطبيق وغيرَّ روسيا والعالم وفي بلد هائل وعالم شرقي نائم، وأمام وفي مواجهة قوى إستعمارية هائلة ذات قدرات عسكرية عالمية مخيفة تدخلت وحاولت الوصول إليه ولكنه هزمها!
سبب إنقلاب لينين على الحكومة الديمقراطية وقتذاك الكثير من المآسي للشعب ولكنه حقق نهضة هائلة.
كان تصعيده للصراع ضد حكومة أتاحت الأحزاب والانتخابات لكونِ برنامجه من البداية ينادي بإبعاد البرجوازية عن السلطة، وحين جاءتْ سنةُ التحولِ في 1917 سّرع من الدعوة لتحقيق مطالب شعبية ملتهبة، وعزلَ البرجوازيةَ عبر التحالف مع الفلاحين، وكان قبلاً لا يؤيد إعطاء الأرض للفلاحين لكنه في خضم الصراع ومن أجل تفكيك الخصوم وضرب بؤرتهم جذب الحزبَ الثوري الشعبي ذا الأغلبية وتبنى برنامجه وأضافه في لعبته السياسية، فحقق البلاشفة الأغلبية لأنفسهم وجاءت الملايين لتأييده، فهذا الإجراء حقق قاعدة هائلة في بلد يحكمهُ على الأرض الفلاحون.
لكن البرنامج البلشفي ليس هو هذا، وهو برنامجٌ عامٌ مجرد في بداياته، ويتوجه نحو ضرب العلاقات الرأسمالية الخاصة بشكل أساسي، بتأميم المصانع، وبهذا فإن البلاشفة أسسوا جيشاً كبيراً ومخابرات قوية، وراحوا يصفون الخصوم الخطرين، ثم ينقلبون على الحلفاء، فالحزبُ الشعبي حاول أن يعري هذه الدكتاتورية التي هي ليست دكتاتورية العمال، بل دكتاتورية البلاشفة، فكانت ضربة الحزب العنيفة حين أعلن بعضٌ بحارتهِ وعماله التمرد وتحول لغبار بشري!
تكوين سلطة بلا جذور، وعبر إجراءات إجتماعية وتشكيل أجهزة عسكرية وإستخباراتية عملاقة، أتاح صد المعارضين والقوى المتدخلة الأجنبية على التراب السوفيتي، وكان المتصور إنها بإمكانياتها العالمية قادرة على سحق هذا النظام الغض المحاصر، لكن تلك الأجهزة وإجراءتها التحولية لمصلحة الغالبية الشعبية، وعمل إنضباط هائل ومصادرة أية حبة قمح زائدة عن إستهلاك الفلاحين، أدت لتماسك النظام وإنتصاره وحدوث قمع رهيب وضحايا ومجاعة.
لكن هذا الرجل صاحب المشروع الدكتاتوري النهضوي مرهف لشعيرات التحول، فحين رأى تجاوز المرحلة السابقة وكم الدمار والتخلف والضحايا، تبدل عن هدفه في إزالة الطبقات، وتحول بنفسه لرئيس نظام رأسمالية الدولة.
ومنذ البداية كان مدركاً لطبيعة النظام الذي يؤسسه، قال في سنة 1918 في اللجنة المركزية: إننا نبني اليوم رأسماليةَ الدولة فعلينا أن نطبق وسائل المراقبة التي تسعملها الطبقاتُ الرأسمالية). وبعد ذلك في 1921 تحول هذا إلى نظام وعادت بعض الطبقات القديمة المالكة، ومضى المجتمع في تطور إقتصادي مع بقاء الأجهزة العسكرية والأمنية المتصاعدة النفوذ، وذابت قوى المعارضة أو أُذيبت، وإنتشرت معسكرات العمل الأجباري والمنافي وتحضرت البلاد لدكتاتورية أسوأ من دكتاتورية لينين.
إن مشروع الاشتراكية في إجراءات لينين قبل موته لم يزل قائماً، ولم تُعرف تصوراته للمستقبل، وماذا كان ينوي لو كان حياً، فهذه القطاعات الاقتصادية العامة والخاصة، وبقاء الملكيات الصغيرة الفلاحية الهائلة، كان لا بد من تغييرها ونشؤ الملكيات العامة والتعاونية في كل الاقتصاد حسب التصور المفترض، وكان المكتب السياسي به قيادات مثقفة كبيرة، وكانت قادرة على متابعة فكره وتطبيقه بمرونة.
لكن الدكتاتورية المؤسَّسة بأجهزتها وبزخمها العامي وجدت في ستالين رمزها، وهو رجل داهية إستطاع الوصول لهذه الأجهزة، وقد حذر لينين المؤتمرَ العام للحزب من خطورة هذا الرجل، وبضرروة تقليص صلاحياته.
هذا الجانب ينقلنا لطبيعة الدكتاتورية التي أسسها، فهي دكتاتورية عنيفة لها أخطاء وتجاوزات كبيرة، لكن تستند على تطور المشروع بشكل ذكي، وقد نوّهَ بقياداتٍ أخرى غير ستالين، ولكن الهيمنة البوليسية صعدت داخل الحزب، وكرست الدكتاتور الأكبر.
وهذا جزء من طبيعة النظام وتاريخه وإمتداداته في العامة، وتصعيد الانتهازيين وطلاب المكاسب، وتحنيط اللغة الجدلية التاريخية تدريجياً وتحولها لقوالب، وشمولية كلية، وهذا يؤدي لغياب الغنى والتنوع وتمركز السلطة أكثر فأكثر.
المشروعُ في النهاية ظهر عبر مضمون المجتمع ومرحليتهِ التاريخية، فرأسمالية الدولة تتوسع على حساب الطبقات المنتجة، فتم عّصر الفلاحين والعمال وإنتزاع رأس المال منهم، وتحويله للصناعات والعلوم وتغدو الدولةُ أكثر فأكثر ذاتَ مضمون رأسمالي داخلي، بشكلٍ إشتراكي زائف، حتى يصل المضمون لتجليه الكامل عبر إعادة البناء، ويقوم بالتخلص من النفقات المكلفة ومن المعسكر الاشتراكي والحركة الشيوعية(الأممية الثالثة)التي تبخرت ومن مساعدات حركات التحرر ويصدرُ السلاحَ السلعة الوحيدة التي تمكن منها ويبحث بكل قوة عن النقد.
كان لينين دكتاتوراً ولكن ليس من خلال رؤية ذاتية، بل من أجل نظام آمن بتشكله عبر إجراءاته، لكن ستالين كان ذاتياً، أسقط شكوكه وكراهيته وتخلفه الفكري على إدارته، فأضاف الكثيرَ من القمع بلا مبرر.
قال أحدُ الرأسماليين المثقفين الروس في أثناء تلك التحولات العاصفة: إن لينين يقوم بإنشاء رأسمالية متطورة وبوسائل دكتاتورية وهو أمرٌ نعجزُ عنه نحن.

بروليتاريا رثةٌ: برجوازيةٌ ضعيفة

تترابط طبقتا الانتاج الحديث البرجوازية والعمال في بناءٍ اقتصادي اجتماعي متداخل، ورغم أن الطبقة المالكة لوسائل الانتاج تعمل على تخفيض الأجور بشكل دائم، والأخرى على رفعها، إلا أن الصراع والتعاون يتطلب النمو المشترك في ظروف كل من الطبقتين ودون ذلك يعني بقاء أساليب ما قبل الرأسمالية متغلغلة مؤثرة معيدةً التاريخ إلى الوراء.
لقد بينت التجارب الغربية الترابط الوثيق بين المكونين رغم التباين الكبير في مستويات المعيشة، وبقاء فرص المغامرات الاقتصادية لدى المالكين. لكنهم لا يستطيعون السيطرة الكلية على البناء الاقتصادي.
فعلى مسار تطورهما الذي يتحدد بمدى تقدم وسائل الانتاج والعلوم ومستوى الحياة الاجتماعية تتقدم عملياتُ تغيير التخلف وازدهار نمو الطبقات المختلفة.
ولم يستطع العالم العربي خلال القرن الماضي أن يتقدم في هذا الأسلوب عميقاً، لدور الفئات الصغيرة والعليا الارستقراطية كذلك في عرقلة تنامي هذا التطور واتخاذها الدور الوسيط المتذبذب، وفتحها المجالات للأشكال ما قبل الرأسمالية وغير المنتجة في التنامي وعدم قراءاتها للواقع الموضوعي.
لهذا نلاحظ الطبيعة الاجتماعية الاقتصادية الضعيفة للطبقتين المنتجتين، فقد انتشرت فئات العمال المتدنية الأجور، وسادت مصانع العمالة غير الكثيفة في القطاعات الخاصة، ومصانع المواد الخام المُهيمَن عليها حكومياً والمؤدية للرأسمالية الحكومية وهيمنة البيروقراطية وهروب الفوائض للخارج.
فقامت هذه القوى باستقدام العمال الريفيين من الداخل والخارج، للحفاظ على أجور متدنية، وينعكس ذلك أيضاً في معيشة العمال حيث المساكن الصغيرة أو الجماعية الرثة، واستمرار العائلة الممتدة، وعمل النساء المنزلي الواسع، وتصاعد ظاهرات الهجرة، وتوجه الفوائض الاقتصادية نحو الأشكال الرأسمالية غير الانتاجية للحصول على الأرباح السريعة، وهذه الأشكال لا تحتاج لعمال متطورين، وكذلك استمرت هيمنة العمل اليدوي معبرة تخلف قوى الانتاج، مما يؤدي إلى استمرار البنية الاقتصادية الاجتماعية المتدنية.
كما أن سيادة هذه الأشكال من الرأسمالية غير المنتجة يزعزعُ الأشكالَ المنتجة، فتتدهور المُلكية الزراعية الانتاجية، عبر تحويل الأراضي الزراعية للبناء، وتنهار الحِرف، وتتدهور أسعارُ المواد الزراعية عامة، مما يدهور حياة الأرياف ويُحدث هجرات إلى المدن، وخلق عروض واسعة من القوى العاملة الرخيصة، الأمر الذي يؤدي إلى مزيد من تدهور أسلوب إنتاج المواد الخام الراهن.
سيادةُ العمال الزراعيين والمهاجرين والعاطلين والاعتماد على المواد الخام المركزية، يضعفُ الرساميلَ الاقتصادية الصناعية والمنتجة، ويخلق فوضى اجتماعية فكرية سياسية في المجتمعات تتصاعدُ على مر السنين، بأشكالٍ غير ملاحظة بدقة عبر بقاء مستويات الأجور المحدودة والعيش الضيق وضعف التعليم والأمية وتدهور الثقافة العقلانية.
الجمهورُ العامل المتخلف المنهمر على المدن ينقل مستويات وعيه وعاداته مما يؤدي إلى الارتداد التاريخي إلى الوراء، وهو أمرٌ يتداخل مع تدهور الوعي الديني وتصاعد الخطابات النصوصية غير العقلانية والطائفية، عبر المؤسسات العبادية المتاحة والمتداخلة مع الكثافة البشرية المأزومة.
فيما تُحاصرُ البرجوازية الخاصة الصناعية، ويغدو الرأسمال الصناعي في المستويات الدنيا من أشكالِ رأس المال، حيث تتغلب الأشكال المالية والعقارية والتجارية، وهي أشكالٌ لا تتجذر في الأرض، وليس فيها نسبة المخاطرة والتعامل مع مواد الجغرافيا المحلية وكنوز الأرض والبحر وتصعيد الاكتشاف لها وتنمية عناصرها والارتباط الوثيق القوي بالعلوم الوطنية.
كذلك فإن الشكلَ الصناعي الخاص من رأس المال يغدو مُحاصَراً من القوى الرأسمالية العالمية الكبرى التي تدفقُ منتجاتِها المختلفة، المتطورة، وتقيمُ التحالفات مع الأشكال الأخرى من رأس المال، وتستوعب فوائضها لبلدانها.
لهذا تغدو الرأسماليات الحكومية المنتجة للمواد الخام هي الشكلُ التابعُ للرأسماليات العالمية غير المُنافس، وغير المؤدي إلى تحولات صناعية كبرى تقوم بإستيعاب العمال الكثيرين الضائعين في الأسواق، مما يعمق الأزمات الاقتصادية الاجتماعية مع تدفق المواليد الذين يتكاثرون خاصة في الأرياف والبوادي، وهي أمور تتواكب مع تدهور الوعي الجماهيري.
مع الغياب الواسع للبرجوازية الصناعية والعمال الصناعيين، وتدهور أشكال الوعي الاجتماعي، يتوسع حضور القوى السياسية غير المعتمدة على العلوم وقراءات الواقع ورؤية التطور الموضوعي المأزوم وتصويبه، فتظهر المشروعاتُ السياسية التجريبية ومشروعاتُ التبعية، ومشروعات الرأسماليات الحكومية البيروقراطية المتدهورة المؤدية إلى تفاقم الأزمات العامة.

عبـــــــدالله خلــــــــيفة: بروليتاريا رثةٌ: برجوازيةٌ ضعيفة

البرجوازية الصغيرة والقفز إلى الثروات

بعد سقوط الاتحاد السوفيتي أصبح من المتعذر إقامة أنظمة تسيطر عليها البرجوازيات الصغيرة لتقيم أنظمة رأسمالية حكومية، حيث كان آخرها الفاقع هو النظام الإيراني.
أعطى النموذج السوفيتي إمكانية لذلك حتى في اليمن والحبشة، لقدرة حراك هذه الفئات وتخلف الشرق، ولإقامة نهضات سريعة غالباً ما تنتهي بكوارث.
كان ذلك النظام رافعة لنهوض وتسريع التطور، ولكن الافتراق بين مصالح الفئات الحاكمة التي أستأثرت بالثروات، وحدوث الانفصال بين البرجوازية البيروقراطية والعمال، أدى إلى إنكسار أهم رؤية لعبت دوراً تحويلياً في القرن العشرين وهي الماركسية، التي تفتت بسبب هذه المصالح الذاتية للطبقات الحاكمة في هذه البلدان، بحيث غدتْ عاكسةً للمصالح القومية العليا في هذه البلدان وتغيبتْ قراءتُها للقوانين الاجتماعية الموضوعية والدفاع عن العاملين، وتنوعت حسب الخياطات الخاصة لكل دولة وجماعة وظروف بحيث فقدت في هذه التطبيقات قدرة إكتشاف القوانين الموضوعية للتطور الاجتماعي.
لكن حدث في خلال ذلك كله صعود حركات التحرر الوطني وحطمت التبعية المباشرة، وأمكن لكثير من البلدان أن تتطور بأشكال مستقلة.
إن الضخ الإيديولوجي العاطفي وفرضها بأشكال دكتاتورية كل هذا جعل من الأفكار الموضوعية حطاماً، ومهد لصعود الأفكار الخيالية والقومية العتيقة، بل وحتى التصورات السحرية الخرافية لإدارة دول من العالم الثالث تمتلك أسلحة هائلة، بحيث إنتقلنا من التطبيقات الميكانيكية والانتهازية الفكرية إلى الدجل الطائفي نظراً لعدم وجود بُنى عقلية جماهيرية موضوعية تحديثية.
هذا الأمر ينعكس بقوة الآن على إستخدام الإسلام في التحولات العربية، فتحدت نفس الأدلجة، ويتم إستغلال المذاهب وتعبئتها بأشكالٍ عاطفيةٍ حادة من أجل الثروات، لكون الفاعل الأساسي لا يزال الفئات البرجوازية الصغيرة الفاقدة للرأسمال سوى رأس المال الكلام والتلاعب على حبال الطبقات والمذاهب.
قامت الثوراتُ العربية على تقدير الديمقراطية والشفافية والصحافة الحرة وهي جوانب أساسية لمنع ذلك المنزلق الذي سد وحجَّم الماركسية، لكن ثمة مخاطر لا تزال كبيرة فالجماهير العربية ليست ذات ثقافة ديمقراطية متأصلة، والمنظمات السياسية تشتغلُ على الأفكار المذهبية المحافظة غير الديمقراطية وتحولها إلى أدواتٍ للوثوبِ للسلطات والمنافع، وتستغلُ التخلفَ في الفئات الريفية والنساء والمهمشين والهياكل النقابية الجامدة أو النفعية البيروقراطية والأحزاب المتكلسة ونخب عبادات الأفراد.
إن التبلور الطبقي كما هو في الغرب ووجود المؤسسات العريقة وفصل الدين عن الدولة كل هذا أتاح تطور الديمقراطية الطويل في الغرب، أما في الشرق فإن حراك البرجوازيات الصغيرة للتلاعب بالأيديولوجيات والمذاهب، ثم التكالب على الثروات وسد منافذ التحول السياسي، مما عرقل التنمية وفجر صراعات دامية، حيث قامت حتى إعادات البناء في بعض الأنظمة كالعراق وإفغانستان بسرقة مليارات من الدولارات.
لم يعد نظام البرجوازية الصغيرة حتى إستنساخاته في مصر يوليو واليمن وموزمبيق وكوبا وغيرها قادراً على البقاء أو قادراً على ظهور نسخ جديدة، لكن المذهبيين السياسين في العالم العربي قادرين على إيجاده عبر مرتكزات إيديولوجية مختلفة، فيظهر الاستبداد وتراكم الثروة لدى الفئات الحاكمة عبر تخريجات فقهية، ويحتاج الأمر لمراقبة هذه التجربة ومدى قدرتها على تجاوز نسخ الشموليات الشرقية والاعتراف بديمقراطية حقيقية وتعددية سياسية وفكرية.
إن إنهيار الأشكال الشمولية للاشتراكية من جهةٍ، وتصاعد المذهبيات المحافظة من جهةٍ أخرى، هي قضيةٌ واحدة ذات وجهين، تعبرُ عن عن إنتقائية وإنتهازية البرجوازية الصغيرة، ولهذا فإن دخولنا إلى مرحلة إحتراق جديدة باسم الدين بعد أن كانت باسم الإشتراكية، يدعونا لرفض الشكلين معاً، فلا يخدعنا نزع القبعة ولبس العمامة، وإعادة إنتاج الدكتاتوريات بيافطات مختلفة شكلاً.

عبـــــــدالله خلــــــــيفة : البرجوازية الصغيرة والقفز إلى الثروات