الأفكار والتقدم

إن السببيات شاملةٌ واحدةٌ لكلِ فكرةٍ كبيرة؛ للأديان والمذاهب والمدارس الفكرية، وتتلخصُ في مدى قدرة الفكرة في نموها الايجابي على أن تكون مرشدةً للتقدم الإنساني، وفي جانبها السلبي حين تعوق هذا التقدم وتكرسُ نفسَها لوقفه والأسوأ لمحاربته.
في صدام الأماميات والحنبلية في بغداد أواخر العصر العباسي الثاني، يتشكل قوسا القوميتين المحافظتين الفارسية والعربية البدوية الصحراوية.
الأولى تستعين بثقافة اللاعقل، بهيمنة النجوم والكواكب المتحدة بالأرواح وقوى البشرية المفارقة التي غدت مهيمنة من السماء، وبطقوس الزراعة القديمة، عبر ثقافة الندب وتعذيب الذات، والثانية تستعينُ بحرفية النصوص المقدسة الكلية، حيث كل حرفٍ حتى لو إمتلأ بالخرافة يغدو حقيقة.
كانت الثقافة الإسلامية أمام منحيين كبيرين متضادين.
لم تستطع ثقافة العقل والعلوم والنقد أن تخترق الحجب المعتمة، وثمة مستويان إجتماعيان يصطدمان:
الملاكُ الكبارُ في فارس يستعيدون السيطرةَ على الأراضي، ويتغلغلون في الخلافة العربية: بني بويه المؤثرون هم رموزُ هذه المرحلة.
البدو والأعراب الذين ملأوا المدينة العاصمة يجدون أنفسهم امام سيطرات غير عربية: فارسية وتركية، وخاصة الفرس الذين يصارعونهم كثيراً على حدود الأرض وهم أصحاب السلطان.
تنفجر الحنبليةُ بكراهية شديدة للعقلانية وللتحليل والفلسفة، ويصرخ قائلهم:(من تنمطق فقد تزندق!). والمفكرون الفرس يوغلون في الماورائيات، ويعودون لتقاليد الشعوب القديمة في كسر الجدران بين الحس والغيب. وتتدفق الصوفياتُ كشكلٍ بارزٍ للاعقلانية وتحلُ الأرواح الغيبية في الأجسام البشرية المحدودة وتصعد نحو السماء للذوبان في المطلق!
في المدارس اللاعقلانية وقتذاك هجومٌ سياسي على العروبة وجسدِها الاجتماعي الملموس وهو هؤلاء البدو الذين لم يستطيعوا أن يتطوروا ولم يستوعبوا الفلسفة العربية في جنونها المتصاعد.
ولهذا هم يستعيدون الأحكامَ المبسطة للشريعة؛ إستخدام الحدود وتطبيقها الصارم والعودة للتقاليد البدوية، وعدم الاجتهاد والتحليل، ومقاومة الغزاة المختلفين مع الملة، وضد أي أناس يدخلون الأفكار (المنحلة) و(الفاسدة).
هنا يحدث الافتراقُ بين الجزيرة العربية وفارس. بين الحنابلةِ والشيعة.
ولكنهم جميعاً يتفقون على الأحكام الحرفية الحدودية فيما يتعلق بقطع إيدي اللصوص البسطاء وترك الحرامية الكبار الذين يملكون الإقطاعيات الواسعة ويشنون الحروب.
كلُ فكرة تتجمدُ عن خلقِ التقدم تركزُ على الأشكال، والكلية الصارمة، وأن لا ثمة تناقض وتعدد في مبناها، وأنها كانت ولا تزال هي نفسها منذ أن ظهرتْ حتى يوم القيامة، وتجعلُ أتباعَها يعيشون في أشكالِها العبادية بصرامة، وترفضُ الاجتهادَ والممكنَ والاحتمالات والسيرورة والتغير، أي تخاف أن يتوجه أتباعها للتحللِ من قيودها الصارمة، والاجتهاد في تفسيراتها، وتبصر التقدمَ الذي يجيءُ من جهات أخرى، ودرسه ورؤية مدى الاستفادة منه.
الفكرةُ في طورِها الأولِ حين تكون مناضلةً لتغيير أحوال الناس لا تكون مثل هذا، لا بد لها من قيود ما، وضبط للاتباع بأشكال، لكنها تكون متفائلة، فرحة، منفتحة، لأن الانتصارات والممكنات القادمة التحولية تجعلها ثوريةً فاعلة في عالمها وتقدم لجماعتها عيشاً جديداً متطوراً، فترفض التطرفَ وتحب الحلول الوسط والاجتهادات التي توسعُ ذلك التقدم.
الفكرة حين تصبح زنزانةً تجعل مبادئها شكلية، تناور عن المضمون والاحتمال والممكن والاجتهاد والانفتاح على الآخرين والاستفادة من إيجابياتهم، تخافُ من التقدم، وتغذي التعصب، والعداوة.
الفكرة حين تصبح إمتيازات للبعض، وإستغلالاً وطنياً أو عالمياً تبتعد عن كشف الحقائق، ودرس الظروف العامة بموضوعية، وتنزلق نحو دهاليز غريبة، فتضخم جزئيات لدرجة تحويلها لجبال، وتنفخُ من شخصيات مريضة لأنها تغذيها بالوجود، وسواء كانت الفكرة هي الوجودية أو الماركسية أو المذهبية الدينية أو الليبرالية، وتغدو قوى المصلحة القديمة دائماً معرقلة لتطور ذات الفكرة.
الليبرالية تغدو دعوة للحرية في المشروع الخاص، لكن مع خنق المشروع الخاص العالمي الغربي لتطور الكرة الأرضية المتنوع تغدو الليبرالية فكرة واحدة ومشروعاً خاصاً فوضوياً مسيطراً رافضاً للمشروع العام التخطيطي المنسجم مع التقدم.
الماركسية تغدو أداة للحرية وحقوق العاملين ثم تغدو زنزانة لهم حين تصيرُ بيروقراطية إستغلالية.
الفكرة تغدو متطورة حين تكون على علاقة وثيقة ديمقراطية بالناس، تتغذى من أسئلتهم ونقدهم، وتوسع من فهمها لتكتشف جوانب جديدة من التقدم الذي لا يتوقف.

أضف تعليق