المخادعون

في مصر يُسمى الفهلوي في الجزيرة العربية يُسمى العيار. يمكن أن نصادفه في الحياة الشعبية كإنسانٍ عامي له قدرة على التلون والخداع الساذجين البسيطين، لكن في الحياة الفكرية والسياسية فإنه يضعُ طبقاتٍ مركبةً من المظاهر لكنها لا تستطيع أن تموه شخصَه لأن الانتهازي واضح الملامح غير متجذرٍ في الناس والمبادئ.
انتصار هذه الشخصية العامة في الحياة العربية يعبرُ عن غياب مواقف الطبقاتِ الكبرى الصانعة للتقدم، فلم تستطع القوى التحويلية أن تصنعَ حفرياتٍ أخلاقيةً وفكرية وسياسية صلبة، ولهذا فإن قادةً سرعان ما يتحولون من يسار متطرف إلى يمين متطرف. من تكريس مبادئ الحداثة والعلمنة والديمقراطية إلى تكريس التقليدية والطائفية والاستبداد، أو دحر مبادئ الليبرالية والاستقلال إلى السير مع القوى السائدة.
هذه الهشاشة في المواقف والشخوص تستدعي الحفر المعرفي في طبيعة هذا النموذج ولماذا يستطيع أن يستمر في التقلب واستغلال اللحظات السياسية والأجهزة والتيارات وأن يحيط نفسه بمجموعةٍ أو مجموعات حسب المواقع والظروف.
المبادئ الفكرية الكبيرة كالمادية والمثالية، والماركسية والليبرالية، والوطنية والقومية، لا وجودَ لها في هذه الكائنات التي تعيش على سطوح الوزارات والسفارات والتقلبات والقوى المؤثرة المفيدة ذاتياً، التي تستغلُ عطايا وفوائدَ مرحلية لا تتجذر في تجربةِ شعب من أجل الحرية، أو تجربة حزب من أجل صناعة فكر ومواقف، ولكن بقاء هؤلاء في مجموعات يشير إلى تأصل الفساد الفكري الأخلاقي.
والشعوب العربية تعيش في مفارق طرق حادة مخيفة وأية شعرة فكرية سياسية تدفعها لمواقف خطرة، فتريد حسماً في الانتماء للتغيير والتقدم فكيف حين تتلاعب هذه الشخوص الفقاقيع في مصير تيار سياسي أو شعب أو دولة؟
كيف يمكن التقلب بين الوطنية إلى المحافظة الطائفية وإستغلال دين جماعة للصعود الذاتي؟
إنه تاريخٌ متجذر من (العيارة)، كان العيارون في الزمن العباسي شطاراً ومدافعين عن الكرامة والناس، كانوا ينفصلون عن الغَمر العادي ويؤكدون ذواتاً مستقلة وشخصيات رفيعة، في حين أن معاصريهم إندسوا في التيارات المضيئة من أجل علاقات بسفارات وعطايا دول وخربوا الأزهار النضالية التي تتعب الشعوبُ في إنتاجها من أراضي السبخ والصبار.
إن الانقلابات الحادة من اليسار إلى الطائفية لا معقولة، مثلما تحول الليبرالي إلى تأييد الاستبداد ومسايرة المناقصات المفيدة في الصعود التجاري السياسي كارثة، واستمرار الديني في خداع الناس باسم الإسلام لكي يصعد تجارياً وسياسياً بدلاً أن يحارب أخلاقياً الشرورَ كارثةً وخيمة.
هنا الكتابة وتسجيل المواقف العميقة معيارا، فالجمل المائعة تاريخياً وعدم كتابة البحوث الكاشف لمختلف الظروف تلاعباً.
التدمير في المبادئ والحياة الفكرية والأخلاقية له عواقب أكبر من الأزمات الاقتصادية وخسائر الطوفان، هو هدم للحياة الاجتماعية والسياسية، وتقطيع لشرايين الجماعات.
الشبكة الجماهيرية الشعبية هي المسؤولة عن استمرار هذه النماذج، هي تشاطرها في بعض جوانبها، وتصمت عن أخطائها، أو تعيش لامبالاة تجاه قضايا الوطن والشعب دون أن ترفع صوتها وتوقف السلبيات بشراً وظاهرات.

أضف تعليق