
تدهور وعي بعض المثقفين وتحولهم لعاميين لا ينفصل عن ضعف التوجهات التحديثية وإستسلامها لهجوم الدينيين الطائفيين، فسقوط الوعي النقدي العلماني المستقل لا ينفصل عن مظاهر الطائفية العسكرية المتصاعدة وغرق المشرق خاصة في الحروب وفي غياب السياسة القومية والسياسة التقدمية الحازمتين في وجه الخراب.
آراء بعض المثقفين لا تستطيع أن تميزها عن آراء العاميين الغارقين في التخلف والطائفية، فضحالتها واضحة، فالمعسكران الطائفيان السني والشيعي اللذان يقودان المشرق للهلاك سيطرا على المشهد المرعب.
تحللت الثقافةُ من عمقها ووطنيتها، ومن يقاوم الطائفيةَ صار هو نفسه طائفياً، لا يستخدم أدوات التحليل الوطنية الديمقراطية العلمانية، وينأى عن الانزلاق بل يكرسه معلياً جهة أخرى لا تختلف في جوهرها عن الجهة المنقودة.
هذا التدهور كان يُلاحظ منذ سنوات عديدة، فالوعي الديني المحافظ إنتصر على الوعي الوطني وعلى الوعي الديني العقلاني المحدود، فأموال النفط وتشجيع الحركات السياسية الطائفية أغرقت المنطقة وخلقت من الانتهازية حالةً عامة، وتواكبت هذه مع تراجع الجماعات الثقافية والسياسية عن المبدأية والخطوط الوطنية التي كانت قريبة منها.
لهذا فإن الكاتب التحديثي السابق خفتت ملامحه وضاع وجهه في الصراع بين الحداثة والتخلف، بين العلمانية والطائفية، فتخرج الأعمال الفكرية والثقافية في عوالم ضبابية، لا تشتغل على حفريات نقدية إجتماعية وسياسية، ويوضع كاتب مسرحي مهرج لا عمق نقدياً في أعماله ولا تشغله هموم واقعية ووطنية تحولية في مستوى موليير المسرحي الفرنسي الرائد في نقد الشخصيات المريضة إجتماعياً.
حين طفت المصالح الخاصة وأهتم المثقفون بذواتهم ومصالحهم الشخصية وذابت الارتباطات السياسية والفكرية النضالية تساوت القامات الرفيعة والهابطة، ويخرج علينا مثقفون عاشوا في عسل السلطات العربية ليأيدوا الثورات العربية بعد أن أحتموا بأموال المعاش الثرة.
ولهذا فإن الأقزام انتشروا وضيعوا المؤسسات الأدبية والثقافية والسياسية الوطنية بعد أن تم شقها وبيعها مثل بيع القطاعات العامة المفككة.
ولم تجد الأجيالُ الجديدة من تركن إليه وتحتمي بمظلته لكي تدافع عن أوضاعها المادية والثقافية، ولم تعد المطبوعة قيمةً في مضمونها بل في مدى خراب ذمة المؤلف وتخليه عن القيم الوطنية الرفيعة ولهذا لجأت هذه الأجيال الجديدة لمن يُظهرها على المسرح أياً كان وعيه وهدفه، وهذا ليس مبرراً للسقوط ولكنه شرح للتهافت المنتشر.
تدهور وعي بعض المثقفين يحولهم لعاميين، لكنهم عاميون فقدوا الارتباط بالأرض والقيم، عاميون ليس مثل أولئك الذين صنعوا وشاركوا في الثورات العربية الجديدة، بل عاميون منسلخون من قيمها يبحثون عن منافعهم الخاصة، يجعلون الكلمة والكتاب والشريط في خدمة من يدفع.
عاميون تتساقط أوراقهم الفكرية والثقافية والسياسية ويعودون للوراء وليس ثمة سوى البئر الكبيرة، بئر المحافظة والقومية الشوفينية والطائفية العسكرية تستقبلهم ويشتغلون فيها.
كيف يمكن بعد عقود من التجربة أن يتساوى مثقف كبير مع مراهق صغير، وتزول الفوارق والتراكمات والتجارب إذا لم تكن المواقف قد بُليت والشُعل قد إنطفأت والروح المتوهجة قد خبت؟
