دعْ الإنسانَ حراً
يتصور بعض المتشددين دينياً أن التحديثيين يؤيدون نشر الموبقات والإدمان والدعارة وغيرها من الكبائر، ولهذا يستميتون قتالاً ضدهم.
إنهم لا يتصورون أبداً إن هذه الأعمال كريهة وتُقاوم من قبل هؤلاء المؤيديون للحداثة.
يتصورون التحديث بأنه فتح البوابات لهذا السيل العرم من الشر وإنه القبول بهتك الأعراض ونشر المحرمات!
إن التحديثيين الحقيقيين المناضلين لشعوب عربية وإسلامية حرة متقدمة هم بخلاف ذلك تماماً.
ولهذا تغدو للمحافظين الشعائرَ فيصلاً بين الحق والباطل.
ولهذا تغدو أسهل الحلول لهم هي المنع والبتر والقضاء الشكلي على الموبقات والآثام!
الكائن الإنساني لديهم عجينة صناعية يتم هرسها منذ الطفولة بالعصا والأوامر فإن لم تفلح فبالزنزانات فإن لم ترض الشعوب فبالأحكام العرفية والدساتير المفصلة حسب العصا، وإن لم ترض فبعزلها عن العالم ووضعها في قمقم، ولهذا يقولون أحسن الدواء هو الكي.
العصف بالموبقات هنا مثل عصف عصابات بول بوت بالعناصر الرأسمالية الشريرة، وكانت قد تبعت في ذلك جبابرةً أنزلوا الجيوشَ لسحق العناصر الرأسمالية الاستغلالية ومحوها من الجنان حتى لو تضاءل البشر من على وجه البسيطة!
وكان في التراث العربي الإسلامي كثيرون من إمتشقوا السلاحَ لبتر الخطايا وسحق أصحاب الرذيلة، وكان الخوارجُ والعتاة يرهفون الأسماع لكي يئدوا أي نغمةٍ طربية تخرجُ من وراء جدران بيت، ويقطعوا حناجر من يحتفل ويمرح!
ولكنهم أين ذهبوا؟
التحديثيون الاسلاميون العرب الأوائل كانوا يصنعون المعرفةَ ويعادون الشر والفساد والموبقات، فلا تناقض بين الاثنين بل هما متكاملان لا ينفصمان.
فالرذائلُ تأتي من الفقر والجهل، وحين يفصل الديني المحافظ النصوصي بين تنامي الخير والفضيلة وبين عدم إنتشار الغنى والثقافة بين الفقراء والعاملين، يعلق دعوته في فراغٍ لا تتمسكُ بشيءٍ ولا تقفُ على قاعدة صلبة.
وكأن الخيرَ حسب خطاباته الدائمة في الفراغ الاجتماعي تأتي من الكلام، وكلما أكثر من الكلام أمطرتْ السماءُ فضيلةً!
وكأنه لا صلةَ بين الأجور المنخفضة والمساكن الرثة والأولاد الهائمين على وجهوهم بين الخرائب والإبر، وبين الفضائل المبتغاة الممتنعة عليهم.
وكأنه لا صلةَ بين يُولدون وفي أفواههم ملاعق من ذهبٍ وهذا الموتُ السريري البيروقراطي وهذا الرفاه الباذخ المُفسد للعقول ولزوال الإراداتِ والمواهب والبحث عن المتع الشريرة!
وكأن الخيرَ يمكن غرسه عبر شاشات التلفاز ومكبرات الخطب، وإنه يمكن إجبار هذا الكائن البشري الحر على أن يتبع روشتةً صادرةً من صيدلية واحدة متنفذة، وأن يَدهس نوازعه الشريرة ويقتل مشاعره وأهواءه المختلفة بالأوامر الصادرة من مركز كلي متحكم.
وهذا محال، فالحريةُ الفردية هي هواء البشر حتى لو أطبقتْ القيودُ على أجسادهم وأرواحهم، ولكن الحرية تتحول خراباً مع غياب الثقافة وعدم تغيير حال المجتمع الفقير المعدم الذي يتفجر بظرفه وينحرف نحو الكثير من المشكلات، كما أن الحرية موجودة بقوة في المجتمع الغني المادي لكن الذي يتلاعب بالأموال ولا يمتلك خططاً إجتماعية لتطوير غناه الروحي.
التحديثيون من يصارع الجانبين وتوجيه الأحول نحو الرفاه المادي والروحي، وهذه لا تأتي بدون معرفة جذور المشكلات و«الخطايا» وأسباب الانحرافات، والطبيب النفسي يصغي للمريض للوصول إلى جذور مرضه، فلماذا لا يعرف المربي الروحي المشكلات الغائرة وراء الأدمان والشرور؟ بل أن يصير جزءً من كتائب المناضلين لتغيير الأكواخ والمستشفيات البيروقراطية الخاسرة غير المعالجة أو المستشفيات الباذحة المعالجة الاستغلالية، والمدارس التي لا تدرس وتربي والمصانع التي تسرح العمال؟
إن التيارات السياسية والفكرية يمكن أن تلعب أدواراً مساندةً لبعضها البعض في التحويل الاجتماعي، فالمدنُ تُختطفُ شيئاً فشيئاً، فنحن جزءٌ تابع في العالم، ولسنا في كوكبٍ خاص مستقل، وبدون تعاون التيارات الدينية العقلانية والتحديثية وعملها معاً ضد ظاهرات الاستبداد والفساد والشر تتجه الظروف والأحداث للمزيد من الكوارث والموبقات!
إن مقاومةَ المحافظين للتحديث والديمقراطية والحرية هو بخلافِ أهدافهم زيادةٌ للشرورِ وتكسيرٌ لإراداتِ العقول للوقوف ضد طوفان الغرب بجانبهِ السلبي ولعدم الاستفادة من جانبه الايجابي، وترك الشباب بلا سلاح يواجهون به الاغترابَ والأدمان والتسطيح والتخريب والعهر وتضييعَ ثروات الأسرِ والأمةِ في ملذاتٍ فارغة وأهواء عابرة وأمراض متجذرة!
دعْ الإنسانَ حراً ومسئولاً عن حريته ودعْ الحياة حرة وقاوم الشرور.
الموقف الجوهري
يمثل الموقف من مساندة الفقراء سياسياً واقتصادياً جوهر المواقف النضالية عبر العصور . فلكون الفقراء والعمال والعبيد والفلاحين يتحملون عبء الإنتاج، ولا يحصلون إلا على النزر اليسير لما يسد رمقهم ويجعلهم يواصلون حمل عجلة الإنتاج الدائرة دوماً، يغدون هم أساس المواقف النضالية الاجتماعية، ومن يقترب من الدفاع عنهم يغدو هو داخل تيارات التغيير والتقدم.
فهكذا كان الأنبياء والأئمة والمناضلون عبر العصور، فهم قوى التغيير والدفاع عن هؤلاء المنتجين، ومن هنا يتلاقى المناضلون عبر العصور رغم اختلاف طرق التفكير، وأنماط الإنتاج، وأشكال التعبير، ومن هنا يصم المتجبرون من يقف مع الفقراء والمعوزين بنعوت التحقير، كقول كطغاة قريش عن المسلمين الأوائل بأنهم كانوا مع الدهماء وأراذل الناس، ومع ذلك وقف المسلمون معهم، فمالوا عن سنن قريش، واقتربوا من المنتجين ودافعوا عنهم ! والآن حين يقف المعارضون المعاصرون مع هؤلاء الفقراء والعمال، وهم لا يختلفون كثيراً عن بلال الحبشي وعمار بن ياسر وصهيب الرومي، يوصمون بما وُصم به المسلمون الأوائل، لأن هؤلاء الواصمون ابتعدوا عن الفقراء وامتلأت جيوبهم، وغيروا مواقفهم .
إن الغنى والفقر عمليات موضوعية في التطور الاقتصادي والاجتماعي، وهي عمليات ضرورية تقود إلى انتقالات كبرى للمجتمع، على صعيد التطور الاجتماعي والثقافي والسياسي، فلا يحدث أن يصير جميع الناس أغنياء، لأن ذلك مستحيل في أساليب الإنتاج القائمة على الملكية الفردية .
ولكن الحركات السياسية غالباً ما تضلل جمهورها زاعمةً أنها سوف تحقق الثروة للجميع، وتحقق العدالة للجميع، وهذه شعارات خيالية في ظل مستويات التطور الاقتصادية السابقة والراهنة. ورغم أن هذه الحركات تتحول من مساندة الفقراء بأسلوبها الخيالي السابق ذكره، فإنها تصر أنها تمثل الفقراء بعد أن راحت تصعد في سلم التطور الاقتصادي، ويتغير دخل أفرادها، ويرتفعون من الفقر إلى الغنى !
فتظل الشعارات اليسارية والنضالية مستمرة في حين تكون مياهٌ أخرى قد جرت في قنوات الحركة، وهكذا فإن الحركات الدينية الإسلامية قد تغيرت لغتها السياسية بعد الفتوح، وتراكم الأموال في أيدي قيادييها، وتحول الحزب الشيوعي السوفيتي إلى مؤسسة حاكمة مالكة لأغلبية الدخل القومي بدلاً من أن يكون المدافع عن العمال، وصار الحزب الشيوعي الصيني منتجاً للمليونيرات، وغدت الأحزاب الليبرالية الغربية غير مدافعة كثيراً عن الحريات بعد تراكم ثروات المستعمرات والعالم الثالث في خزائنها !
وانقسمت الحركات الدينية في العالم الإسلامي إلى أجنحة متضادة فبعضها اغتنى ووصل إلى الثروة، والبعض الآخر ظل مُهمشاً متدني الدخل، فراح يطرح خطابات قتالية لمزيد من الاتباع والثروات . وهكذا فإن ظهور تيارات منتفعة في الأحزاب هو أمر حتمي، وتقود هذه التيارات إلى القبول بمستوى التطور السياسي المتدني، وتتشوش الرؤية على التيارات الأخرى المدافعة عن الفقراء، خاصة إذا تم سد أفواهها بمكاسب ذاتية أو بتجهيل، بحيث تعجز تنظيمياً عن رفع صوتها وتشكيل تيارات مستقلة . والقوى الغنية والانتهازية عادة لا تريد طرح وجهها الاجتماعي بوضوح، ولا تقوم بتحويل استثماراتها عادة التي تشكلت وسط الأحزاب الثورية، مؤكدةً استمرار خطها النضالي، في حين أنها تفقد صلاتها بهذا الخط السياسي المعارض الذي تمثله، وهنا تقوده لأضرار فادحة بدلاً من أن تنسحب وتشكل خطها الخاص .
الهام حرمة أموال الناس
لا يهم بأي شكل تفكر فالمهم ما هو مضمون فكرك. إذا كنت مذهبياً أو علمانياً أو رجلاً أم امرأة، عقائدياً أم متحللاً من العقائد، فالمهم هو أن تكون مع إرادة الناس لكي تكون أموالهم لهم. لايهم إذا كانت المرأة محجبة أم غير محجبة، قارئة أم راقصة، فالمهم أن تناضل من أجل الدفاع عن حقوق الناس وتناضل لتطور الأمانة ورد الحقوق لأصحابها!
لا يهمنا المعمم إذا كان قد فتح عينيه الكبيرتين تجاه قضايا الطلاق والإرث وأغمضهما عن سرقة القطاع العام، وابتلاع الأراضي ودفن المصائد والتهام أموال اليتامى!
لا يتساءل العرب والمسلمون والصائبة واليهود والمسيحيون والمجوس وعبدة النار عن العقائد بل عن الأموال كيف سُرقت والجواري كيف سُلبت والخزائن كيف نـُهبت والمزارع كيف جُففت وحولت إلى قصور والحقول كيف شـُفطت فأزهرت أولاداً وبنات من عصي وجرائم وسرقات في المدن!
لا يتساءل الناس كيف تصلي ولمن تولي وجهك بل كيف يقبل ضميرك أن تصمت على نهب حقوق الناس، وكيف لا ترد الأموال التي سرقتها، ولا تناضل ضد الضرائب الباهظة التي أثقلت كواهل الناس وأكتاف العاملين وحولتهم إلى جذوع نخيل خاوية من الأمانة والصدق فباعوا أنفسهم لمن يدفع..
في كل الأديان والعقائد والملل هناك محاكمة للضمير، لكن الضمائر نامت على وسائد الحرير والبقشيش والعملات والعمولات، فلم يعد المؤمنون يخافون من اليوم الآخر، ولم يعد المناضلون يهابون نقد الخلايا الماركسية النائمة، فابتكر العصر المحاكم وحقوق الإنسان والديمقراطية لكي يجر اللصوص من كل الطبقات والأديان والمذاهب إلى قفص الاتهام، فلم يعد مهماً من تكون بل ماذا تفعل!
لم يعد أحدٌ في العالم السياسي يهتم بأسئلة ما هو دينك ومذهبك وحزبك واتجاهك الفكري، بل بما هو موقفك من المال العام، وكيف يناضل الدينيون من أجل استرجاع المال العام، وكيف يراقب العلمانيون مصادر رزق الناس المنهوبة من قوى اللصوص وقطاع الطرق. لقد كرست المبادئ الشريفة من كل المذاهب والأديان والأفكار المعاصرة التنافس لصالح إعطاء الفقراء والمحرومين أنصبتهم من الدواء، فماذا نفعل بكل مبادئ الحزب التقدمي العظيمة وهو لا يناضل في الحياة العملية من أجل دواء رخيص وتغيير لوضع المستشفيات التجارية الماصة لدم الجرحى والمتألمين، ولوضع المستشفيات الحكومية البيروقراطية التي هي قصور في الهواء بعيدة عن توصيل الإبرة العلاجية للمحتاج من ألم السرطان والقرحة؟
ماذا نفعل بكل مبادئ الدينيين وهي لا تفكر في عذابات المعذبين، ولا تعرف الأزقة الفقيرة إلا في مواعيد الانتخابات وتغيير إدارات الجماعات المتنفذة ؟
والمهم لديها هو مراضاة الأغنياء والمتنفذين والاستفادة منهم، لهذا قل الزهاد فيهم وكثرت الكروش السياسية المنتفخة وصار النضال لتعدد النساء الزوجات هو النضال الأكثر حمية لديهم؟ ومن هنا كثرت خلافات السياسيين وتعددت تياراتهم وجماعاتهم لأنهم لا يفكرون سوى في أنفسهم وامتيازاتهم وكيف يهبرون من لحم الشعب مثل المتسلطين والاستغلاليين!
قال السلف الصالح قديماً: في العمل من أجل الحق والدفاع عن مال الأمة فليتنافس المتنافسون، لكن الواقع كان يقود السياسيين دوماً إلى التنافس على غنائم الحكم والعظام الملقاة من السلطان!
قانون الإنتاج المطلق
لا يكون الإنتاج الروحي إلا من أجل الناس، وبؤرتهم وقلبهم أصحاب العمل والإنتاج، قوى المعاناة والعطاء.
الفئات المنتجة للثقافة هي فئات وسيطة، لديها بعض الغنى المادي وبعض الغنى الثقافي، وتنمو حسب توجهها للناس، وتضحيتها بغناها الشخصي، لأجل أن تزدهر السعادة والغنى عند الأكثرية المنتجة.
وحتى حين كان المثقف ساحراً في العصور البدائية قبل التاريخ كان يشتغلُ من أجل الصيادين، فيرقص ويغني ويقص من أجل أن يزداد الصيد ويتكاثر الإنتاج ويعم الفرح.
وحين دبت الخلافاتُ بين الناس، وصار العبيدُ والأحرار، والفقراء والأغنياء، ظل قانون الإنتاج الثقافي هو نفسه. هل ينتمي المنتج الثقافي للمنتجين، والمعذبَّين، وللأغلبية المنتجة؟
لكن كان أغلبية المنتجين الثقافيين عبيداً في الروح، يوجهون إنتاجهم لمصلحة الأقلية، وبقي الإنتاج الذي انتمى للناس، وذاب إنتاج النفاق والاستعراض. لقد ظل مكتوباً كذكرى مؤسفة على هدر بعض الناس طاقاتهم من أجل النقود، لا من أجل سموهم الروحي.
أنظرْ يا من غيبت نفسك في طوفان الأشياء كيف أن كلمات التوراة والأنجيل جسدت معاناة أنبياء هربوا من الإستغلال وعسف الدول إلى الصحارى كي ينشئوا دولاً حرة، فتسامت كلماتهم وتواريخهم وتوحدوا مع السعادة العميقة والصلبان والزنزانات.
ولعلك لم تقرأ جيداً القرآن وهو كلماتٌ عن نبي رفض أن يخدم الملأ الاستغلالي وفضلَّ أن يكون مع العبيد والفقراء وغيّرَ التاريخ.
لعلكَ يا منْ غيبتَ نفسك وراء الأشياء تظن إن حمايتك من قبل أصحاب النفوذ سوف تعلي كلماتك الباهتة، أو لأنك مررت بتجربة سجن عاصفة وألم كبيرة سوف يحميك هذا الجبل الطيب من طوفان زحفك نحو المعدن الأصفر، فالناس تعرف استمرار مقاومتك لا تاريخك ذلك وتخليك عن أصلك الطيب.
ومهما جئتَ بأصولٍ حاكمةٍ أو أسرةٍ كريمة أو إنتماء لحزبٍ مناضل قدم الشهداءَ الكثيرين، ومهما كان أقرباؤك وأئمتك من جهابذة في الدين والتاريخ، فإن مقياسك هو شخصك ومدى إنتاجك المضيء ونقدك للأشياء السيئة والظاهرات المخربة للإنتاج وحقوق الأغلبية من العاملين.
لا تقل أسرتي وحزبي وأئمتي وقادتي، بل قل ما هو عملي وموقفي الناقد ودفاعي عن شعبي وكفاحي ضد الأخطاء.
والأديب ليست كلماته بمعزل عن قانون الإنتاج المطلق هذا، الذي يتساوى فيه الأنبياء العظام والشعراء الصعاليك، وهو ميزان الحق، فيظن أنه له فترة يجاهد ويتعذب لكي ينير ثم تأتي له فترة خاصة يتكاسل ويبحث عن المناصب ويغدو رئيس جريدة النفاق.
ميزانك هو كلمتك، مدى تحول قصصك وأشعارك ومسرحياتك ونقدك إلى كشافات تفضح مستنقعات الفساد، لا تقلْ إنني أديب ناشىء أبحث عن سبل التعبير والعيارة، ليشتد عودك وتنضم إلى الحرامية، بل أغمسْ مدادك في معاناة البشر ولا تستجدي الشهرة والمال.
لكن الكثيرين اتخذوا الكلمات مطايا، وهدايا، وضحايا، وقادة الفكر وعباقرة الكلمة غدوا مثالاً سيئاً للنشء، وهذا يحدث كثيراً في التاريخ، عندما تقبضُ الطبقة المسيطرة على الكثير من المال فتستطيع أن ترشو بكثرة، لكن ذلك مؤقت، لأن وفرة المال على هذا النحو لا تدوم، بل تدوم حين تستمع هذه الطبقة للنقاد، وترهفُ جميعُ آذانِها للضربات الكلامية والأدبية والعلمية التي توجه لتبذيرها وفسادها وحينئذ تطور سيطرتها وإنتاجها المشرف على الأفلاس بفضل جوقات النفاق والبذخ.
المال اليوم عندك وغداً عند غيرك ، فتذهب للاستلاف، فلماذا تبيع ماء وجهك وكنت عزيزاً، ولا تحفظ كرامتك وهي من كرامة الأمة والناس؟
لا تقل أصلي وفصلي وحزبي وجماعتي، بل قل هي كلمة الحق أوجهها ضد كل مخطئ ومستغل ومبذر، أرفع بها من يسمو إلى المعالي، وأعصف من خلالها بكل من أهدر ثروة الأمة ونشر الأرهاب وغزا الأخوة والجيران ووسع الاستبداد.
كلمتي هي مع الحق والحقيقة، لا مع الخزائن.
ليست كلمتي مرهونة بمديح النقاد وأن يرضى عني رئيس الجامعة والكلية، فأدبج «الدراسات والأبحاث» كما يشتهي رئيسُ القسم المريض، فأعلي من يرضى عنهم، وأخسفُ الأرضَ بمن يكرههم لكي أحصل على الوظائف والمال، فأي علم هذا الذي يكون ذاتياً وجائراً وغير منصف؟
وكيف تنشأ الحقيقة بين جماعات القول الواحد والصوت الواحد، وجماعات نحن مع الزعيم أينما توجه وكيفما قال؟ وهل تـُدار الأوطان والأحزاب بقول الفرد؟
يتباين الإنتاج الثقافي في كل هذه الأنواع في أشكاله وتعابيره، ويتحد في مضامنيه، وفي عصوره السحيقة والمعاصرة، على بعد المسافات والأشكال والأزمان، فكلمة الحقيقة تشق طرقها بوسائل مختلفة، وهي تنمو من خلال الألم الشعبي، تنور صهر الأشكال ووحدتها وتطورها، وفي الفرح والاسترخاء والغنى ظاهرات مقاربة حين تتصل بذلك الهم الإنساني العميق.
الرهان على القلم
لم تفد الكتاب المراهنة على الحكومات والدينيين، فالكلُ يتاجر بالأوطان والأديان لمصلحة موقوتة، والكل يبيع والبعض مستفيد، والأغلبية خاسرة!
الكل يدعي ولا أثر على الأرض!
ليس للكتاب سوى أقلامهم تنمو قصة ورواية وشعراً ونقداً وثروة للوطن بلا مقابل أو بمقابل ضئيل وغير شفاف!
أعطوا الوطن لكل من يدعي ويبيع، وكل من يزحف على بطنه، ويقبل الأحذية، ويأكل التراب ويلعن الإنسان.
ليس لكم سوى هذا القلم مهما توهمتم التحليق في سماء مجردة، ومهما تباعدتم، وأختلفتم، ليس لكم سوى قطرات من حبر أو من دم.
راهنوا على القلم فهو وحده الباقي
تتحولون إلى عظام وذكريات متعددة التفاسير ولا يبقى سوى قلمكم يقول ما آمنتم به وما ناضلتم لكي يتكرس في الأرض.
ليس لكم سوى أوراق فلا يخلدكم ولدٌ ولا تلد، هذه الحروف التي عانيتم في إنتاجها وتعذبتم في إصدارها هي التي تشرفكم أمام الأجيال المقبلة التي لا تحد ولا تحصى.
فثقوا بالحروف وبالإنسانية المناضلة نحو زمن جديد هو زمنكم، الذي تصيرون فيه ملوكاً متوجين، وحكاماً غير مطلقين، ومربين كباراً للأجيال.
ماذا تفعلون الآن وكيف تمتشقون سلاح الكلمة وتوجهونه للحرامية والمفسدين وتعرون شركات الأستغلال وبنوك النهب العام، ترتفعون في سماء الوطن، وتخلدون في سجلات الأبرار.
القلم ليس له شريك سوى الحقيقة، وليس لطريقه واسطة أو سلطة محابية أو كهنة مطلقين، هو الحربة الموجهة للشر لا تعرف الحلول الوسط أو الشيكات الثمينة.
سلطة القلم سلطة عالمية، تتوحدون مع القلم الأسود والأبيض والأصفر، وكل ألوان الإنسانية المتوحدة في معركة واحدة ضد الحكومات المطلقة وبيع الإنسان كما لو أنه حذاء وضد هذا العداء بين الأمم والأديان والأعراق.
أنتم رموز الإنسانية فلا تنحدروا ولا تساوموا واكتبوا بسلطة الحقيقة وليس بسلطة المال.
توحدوا في هذه المعركة الكونية، وتضامنوا مع اشقائكم المظلومين والمضطهدين في كل قارات الأرض، وضد هذه القوى التي تدهس القصة والقصيدة ولا تحب سوى الإعلان، وأخبار القتل واليأس، ولا تبجل سوى البشاعة.
