الأرشيف الشهري: ماي 2021

عبدالله خليفة ‏‏‏‏‏‏كاتب وروائي

تطور الأنواع الأدبية العربية

تمثلُ الأنواعُ الأدبيةُ قضايا جوهرية في الأدب، فهي تعبرُ عن قدراتِ شعبٍ أو أمةٍ ما على التطور الثقافي على مدى قرون، فليستْ هي بناءاتٌ شكلانيةٌ ترصفُ الكلام وتجمعُ المعاني في (قوالب) لكنها تعبيرٌ عن قدراتِ المبدعين والنقاد على الحراكِ التحويلي لمجتمعاتهم، أي على مدى تمكنهم من إقامة علاقاتٍ عميقةٍ مع البشر وجذورهم الدينية والثقافية والاجتماعية وتغييرها تبعاً لخُطى التقدم، ومجابهة قوى التخلف والإستغلال والتهميش للناس، وتصعيد القدرات على الحوار والبحث والتجديد.

أي هو التحولُ من هيمنةِ الصوتِ الواحد إلى تعدديةِ الأصوات، ومن سيادةِ الأنا المركزيةِ الاجتماعية إلى تنوع الأفراد وقدرتهم على الحوار والنقد والتغيير.

وإذا كانت صناعةُ الأنواعِ الأدبية تخضعُ للأفعال الحرة للمبدعين فإنها لا تستطيع أن تقفزَ على الظروف الموضوعية للواقع والناس. وهيمنةُ نوعٍ أو وجود كافة الأنواع هي قضيةٌ مركبةٌ من الذاتي والموضوعي، من سيطرةِ قيودٍ تعبيرية قَبْليةٍ ومن مساهماتٍ تحريرية لنزع تلك القيود. من آفاق مرصودة سلفاً نتاج سابقين ومن قدرة المعاصرين على تغييرها تبعاً لتطور الحياة والمساهمة في تغييرها.

والمبدعون يظهرون في شروط سابقة على إبداعهم، إنها تقيدهم وتجعلهم يعيدون إنتاج الماضي الثقافي أو يضيفون عليه بعض الإضافات اليسيرة والمهمة غير التحويلية الواسعة.

ومن هنا فظهور الشعراء في عالم العرب الجاهلي يختلف عن ظروف أخرى تالية حين حدثت نهضة، فسيطرةُ الصحراءِ والحياةِ الرعوية، هي غيرُ ظهورِ المدنِ وميلادِ دولةٍ واسعةٍ تختلطُ فيها الشعوب.

لكن إن تبقى الهياكلُ الإبداعيةُ الجاهلية في عمقِ المدن وتسيطرَ على الإنتاج فهي أيضاً هيمنة قَبْلية قَبَلية مستمرة.

وقد طُرحتْ بقوةٍ مسألةُ قصورِ الأنواعِ الأدبية على نوعٍ واحد بشكلٍ كبيرٍ هو النوع الشعري، ضمور النوعين الآخرين وهم النوع الملحمي والدرامي، وهي قضية ليست تجريدية بل قضية تاريخية وإجتماعية وفكرية طويلة ومعقدة.

يمثل النقدُ الثقافي عموماً قوةَ تفكيرٍ كبيرة غدتْ شيئاً فشيئاً معطلة، وكان يمكن أن ترفدَ الأدبَ والثقافةَ عموماً بطاقاتِها لكي يزدادَ الأدبُ والثقافةُ تأثيراً في الواقع لكن النقد توقف عن هذه العملية الضرورية، فما هي الأسباب؟

كان من الضروري لهذه القضية أن تُحلل بعمق ويُرى على ضوئها تخلفُ وجمودُ الأبنية الاجتماعية- الثقافية العربية، وهذا لا يمكن أن يكون بدون نقد فلسفي له شروط كبرى، أن أي أن يقوم على فلسفة تقرأُ الثقافةَ في ضوء البنى الاجتماعية وسيرورتها التاريخية.

هذا كان يمكن أن يحدث في الثقافة العربية الحديثة ويتم قراءة الأنواع وجمودها في العصر العربي القديم وأسباب تشكلها في العصر الحديث.

يقول ناقدٌ عربيٌ كبيرٌ هو إحسان عباس الذي استفاد كثيراً من (النقد الأمريكي والنقد النفسي لدى فرويد والأسطوري لدى كارل يونغ) يقول بأن الاقتراضَ الشديد من الغرب على هذا النحو (يجعل الدارس يقع في وهم فكري مزدوج: يتكشفُ الأولُ في إغفالِ التاريخ الثقافي العربي، ويتجلى الوهمُ الثاني في جهلِ التاريخ الكوني للآخر).. وهو أمرٌ في رأيهِ يقودُ إلى (التبعية الثقافية أو يفضي إلى المحاكاة الصماء)،1.

يتحسسُ الباحثون العربُ الإشكاليةَ المركبةَ في تبعيةِ ثقافتنا للعصر الوسيط ببنائه الإقطاعي، المستمر حتى الآن، وتبعيتها كذلك لما يُطلق عليه بعضهم (الآخر)، وهذا التعبير تجريدٌ آخر معاكس للماضي، فلا يقولون بأن الآخرَ هو النظام الغربي الرأسمالي.

لكن التعميم على الجهتين يقودُ إلى سلسلةٍ طويلة من الأخطاء، لأن ثقافتنا العربية القديمة مرت بعدةِ أطوار وأبنية، ولكلٍ منها واقعٌ خاص، وكانت تعيشُ تطورات ومراحل كبيرة، فالتعميمُ المنطلقُ منها، خاصة حين يساوونه بـ(الشخصية العربية) أو بـ(الذات العربية)، يقودُ إلى كوارث تحليلية.

فالشعرُ الجاهلي لا يُعرف لماذا صار بهذا الشكل ومن أين جاء وما هي علاقاتهُ بالمكوناتِ الفكريةِ والفنية السابقة، والقرآن لماذا هو بهذه اللغةِ والتراكيب والأخطر ما هو دورهُ في عمليةِ الثقافةِ التحولية، ولماذا استمرتْ القصيدةُ المتناقضةُ البناء التقريرية حتى اليوم؟ ولماذا الغيابُ للبناءِ المسرحي في الثقافة والبناء الدرامي في الشعر وغياب الملحمة؟

دخلَ النقدُ العربي القديمُ في جوانبِ المحدودِ كالصورِ الجزئية والأغراض وأشكال البلاغة، ثم وجدَ نفسَهُ في العصر الحديث أمام مدارس أوربية كبيرة، فلم تسعفهُ أدواتُ النقد العربي القديم، ليس فقط لضخامةِ الإنجازاتِ الغربية التي تشكلتْ خلال قرون النهضة والثورة الصناعية والعصر الحديث، بل لأن واقعَهُ العربي المتعدد راح هو الآخر يتغير ويصارع، فبدأت الآدابُ والفنونُ العربية في الازدهار في واقع متخلف اجتماعياً!

وككلِ نتاجِنا وسياستنا وقع بين دكتاتوريتين؛ دكتاتورية الماضي المبهمة والمتجسدة في البناء الثقافي، وفي دكتاتورية الحداثة الغربية، التي تفرضُ نفسها عبر أنماطٍ سائدةٍ قوية فتشلُ الوعي العربي عن أن يكون وعياً عربياً ديمقراطياً.

وكي نعرف إننا واقعون بين دكتاتوريتين ثقافيتين، يحتاجُ ذلك إلى فحصٍ على مستوى الماضي ومستوى الحاضر، أي القيام بنقدٍ مزودجٍ على ضفتي الزمان والمكان.

حين نقرأ فقط القصيدة الجاهلية سوف نقول لماذا الانحباس في الشكل المضطرب الممزق الانعكاسي المباشر؟ أي لماذا عجز العربُ عن إنتاج شعر أكثر تطوراً من هذا؟

وهو أمرٌ لا يتضحُ إلا في قراءةِ السياق التاريخي، بكون القصيدة العربية الجاهلية هي نتاجُ شعبٍ محبوس ممزق في هذه الصحارى الهائلة المجدبة، وبإدراكِ إن هذا الجنسَ الأدبي (الشعر الجاهلي) هو أرفعُ ما أنتجهُ هذا الشعب بعد انحباسهِ وتقطع صلاتهِ بالشمالِ، السامي، لغةً ومكاناً وتلاقحاً واسعاً، وهو أمرٌ يربطنا بتدهور الأنواع الأدبية والفنية في الشمال (العراق، وسوريا، ومصر)، فلا بد أن نقرأ فضاءَ الآداب والفنون في الحضاراتِ القديمةِ التي عجزتْ عن تنامي التطور فيها، وعن نمو أنواع: الملحمة وبالتالي النقد وغياب المسرح.

وبهذا كان النتاجُ الثقافي العربي الجاهلي هو وليدُ ظروفِ العزلةِ والتخلف المزدوج، فالاستبدادُ الطويلُ الذي أصابَ الحضارات القديمة والذي كانت إحدى سماته تحجر الآداب، انتقلَ بقوةٍ مضاعفةٍ للجاهليين، ومع ذلك قاموا في تلك العزلةِ النسبيةِ بإنتاجٍ ثقافي يعكس ظروفهم ويعكس كذلك حريتهم البدوية.

بين الغنى الثقافي الذي فجرتهُ ثورة الإسلام وبين الأشكالِ الأدبيةِ والفنية المتيبسةِ التي سادت طوال العصر الأموي، ثم تقطعتْ بفعلِ المدنية العباسية النسبية، عواملٌ من الصراع والتداخل، فقد أضفى الفهمُ الدينيُّ المحافظُ على منتجاتِ الثقافةِ المختلفة عواملَ كبيرةً من الكبح.

فقد قام بأسلمة الشعر الجاهلي، محوراً العديد من الأسماء الدينية والأفكار الوثنية، ثم جعلَ المبنى الفضفاض للقصيدة الجاهلية نموذجاً يُحتذى، وجَمدَّ الأنواعَ الأدبية كما كان متبعاً سابقاً، فغدتْ الفنونُ التجسيديةُ محرمةً كذلك.

ثم حين تطورت الآدابُ والفنونُ في العصر العباسي في المدن النهضوية المؤقتة، فإن تغيراتٍ جذريةً في الأنواعِ الأدبية لم تعدْ ممكنة، وإذا حدثتْ تطوراتٌ كما في الرسم وظهور القصة والمقامة واتساع النقد وتشكل الفلسفة، فإنها تغدو محاطةً بدكتاتوريةِ الماضي الثقافية، ودكتاتورية الحاضر الأموي ــ العباسي الجارية.

وهكذا فإن الضرورةَ تتكشفُ هنا، فالعربُ ورثةُ الدكتاتورياتِ المشرقية القديمة، فهم إذ ينقطعون عن نتاجِ الحضاراتِ المشرقية القديمة الغني في زمنِ التطورات الحضارية الخصوبية، ليس بسبب فقدان اللغات القديمة فحسب، بل كذلك رفضاً للتعرف عليها بإعتبارها وثنية، مثلما يكيفون النتاجَ المترجم اليوناني والهندي حسب وعيهم الديني التوحيدي التجريدي وتبعاً لحاجاتهم في هذا المجتمع النهضوي المتوجه للاختناق بفعل دكتاتوريات السلطات والجماعات السياسية ــ المذهبية المختلفة.

إن النقدَ هو الآخر يتعرضُ لهذا الحصارِ فيحافظُ على شكلانيتهِ العامة، بتقزمِ الأنواعِ الأدبية والفنيةِ فيه، ثم يجمدُ تطورَ القصيدةِ بإبقاءِ مبناها العامِ المضطربِ المحدود، الذي لا يغتني إلا بفعلِ نقدهِ للواقع، وتداخلهِ مع الأنواعِ الأخرى كالدراما والقصة، وهو أمرٌ غيرُ ممكنٍ إلا بشكل تعليمي ساذج.

ليست هذه الأنواعُ الثلاثةُ؛ النوعُ القصصيُّ، والنوعُ الدرامي، والنوعُ الشعري، أنواعاً منفصلةً فحسب، بل هي أنواعٌ متداخلةٌ كذلك، فهي تغذي بعضَها البعض، وعدم وجودها في واقع ما، دليل على مشكلات ثقافية وديمقراطية عميقة فيه.

إن عجزَ النقدِ العربي القديم عن كشف ذلك، هو بسببِ ذلك الغياب الديمقراطي في السياسةِ والثقافة ولظهورِ الدول الإقطاعية المركزية أو المنفصلة، وهو أمرٌ قطعتهُ التجربةُ الغربيةُ حين تم الإحتكاكُ بها في بضعةِ عقود، فتم ذلك من خلال السيطرة الأجنبية.

إن النموَ الداخليَّ العربيَّ لم يكن حراً، فلم ينتجْ الأنواعَ السابقةَ الذكر بانفصالِها وتداخلِها المركب، ولم تتحْ تجربتهُ المقموعةُ خلال تلك القرون، التي لم تزدهرْ بالحريةِ الواسعة أن يصنعَ تلك الأنواع بتلاقحِها وتنوعها، ففوجئ وهو ينمو داخلَ الحياة الحديثة الغربية التي دخلتْ حياتَهُ بقوة في عقودِ الليبرالية، أن تاريخـَهُ الثقافي ناقصٌ ومتخلفٌ في أنواعٍ معينة، فراحَ يستكملُ النقص.

ليس العربُ كلُهم منتجين ثقافيين، فالمنتجون هم أفرادٌ وجماعاتٌ من الفئات الوسطى، التي يتيحُ معاشُها أن تشتغلَ في الثقافة، وهي موزعةٌ بين الدكتاتوريتين: دكتاتورية الماضي، ودكتاتورية الحاضر، فالليبرالية العربية لم تتطور وجاءت الحكوماتُ الشمولية فكبحت التطور، لكن بعض نتاجات الثقافة خلق تطوراته الخاصة المعبرة عن حياة الناس وطموحهم للتغيير.

  هناك عباراتٌ هامةٌ لبعضِ النقاد والباحثين العرب حول تطور الأنواع الأدبية العربية تعبرُ عن إشكالياتٍ متعددةٍ تتعلقُ بتطورِ هذه الأنواع في الحياة العربية، وذلك بفهمِ هذه الأنواعِ عبرَ التاريخِ العربي والعالمي.

يقول الدكتور شوقي ضيف:

(إن الغربيين عنوا في بلاغتِهم بدراسةِ الأساليب والفنون الأدبية، بينما لم يكد يعني بهذه الجوانب أسلافنا، إذ صبوا عنايتهم على الكلمة والجملة والصورة)،2.

ويَضيفُ:

(ولو أن شعراءنا نظموا في أساليب جديدة كأسلوب الشعر القصصي أو المسرحي، أو لو أنهم نوعوا في شعرهم الوجداني الغنائي فأخرجوه من صورته الفردية الذاتية إلى صورة موضوعية واسعة صوروا فيها مجتمعاتهم ونفوس من حولهم لاختلفت أساليب الشعر اختلافاً واضحاً)،3.

وهو يعتبرُ بأن المقامات وهو الفن النثري الجديد (سرعان ما تجمد وفقد كل حيوية، إذ حمله أصحابه من صناعة السجع اللفظية ما قضي عليه قضاءً تاماً)،4.

إن تعبيراتٍ مثل (إن الغربيين اعتنوا في كتاباتهم)، (ولو أن شعراءنا)، تعبرُ عن عدمِ قراءةٍ تاريخيةٍ وموضوعية واسعة لأنواع الأدب، فهل كانت الأنواعُ الأدبيةُ المكوَّنةُ عربياً بفعل ذاتي فردي محض، أم كانت لها سببيات أخرى موضوعية كذلك، فتشابكُ الذاتي والموضوعي في نسيج ظلَّ غائباً في كثير من الأحيان.

وكما أن التاريخَ الثقافي العربي بهذه التصوراتِ فقدَ سيرورتَهُ الكامنةَ المشكلةَ له، كذلك فإن التاريخَ الثقافي الغربي غدا هو الآخر نتاجَ إبداعٍ ذاتي صرفٍ لم تتكون له شروطٌ موضوعيةٌ أهلت لتطوراته تلك.

فتغدو السيرورةُ التاريخيةُ الثقافيةُ في الجانبين العربي والغربي، غيرَ معروفةِ المسار، وإن عدمَ رؤيةِ المسارين المختلفين هو ذاته نتاج رؤية واحدة، حيث تنمو الثقافة في هذه الرؤية بدون شروط موضوعية، فيكفي حسن النوايا لكي يُصحَّح المسارَ الخاطئ الذي لم يصل للنموذج.

وتتوجه كتاباتُ الباحثين والنقادِ العربِ إلى تلمسِ هذه السببيات المتوارية، والتي تتحسسُها بعفويةٍ في بادئ الأمر ثم تتحولُ إلى جهودٍ للمقارنة ولتلمسِ ما تحت الظاهرات المرئية.

كان من العبارات الأدبية الغربية، تلك الآراء التي قدمها فيكتور هيجو في مقدمةِ مسرحيةِ كرومويل؛ (وخلاصتها أن الأدبَ قد تقلبَ مع البشرية في ثلاثة أطوار، فالشعر الغنائي كان في العصر البدائي، والملحمي في العصر القديم، والدرامي في العصور الحديثة)، وعلى هذا يكون ثمة مساران متساوقان، حيث الأدب يقطعُ المسار ذاته الذي يقطعهُ المجتمعُ الذي ينشأ فيه. ومن هنا فإن القولَ بخلو الأدب من الشكل الملحمي والدرامي يعني أن المجتمع العربي وقف عند الطور البدائي الأول من أطوار التمدن البشري.

إن مسألةَ أخطاءِ المفاهيم وقراءة التطور الثقافي العالمي سوف لن تغدو في العصر العربي الحديث عربيةً محضة، بل سوف تتشابكُ مع قراءاتٍ نتجت في بلدان أخرى كفرنسا هنا، ومع شاعر وروائي فرنسي كبير هو هيجو، كانت لديه رؤية خاصة ذاتية لتطور الأنواع الأدبية، لكن هذا التصور سوف يُرحّلُ للبلدانِ العربية وينتشرُ بين مثقفيها وسوف يدرسون على ضوءِ تلك الجملِ تطورَ ثقافتهم.

فهيجو في التصور يقدمُ آراءً ذاتيةً غيرَ مدروسةٍ لتاريخ الأدب العالمي، فهو يقدمُ تصوراً للشعر في الواقع وليس الأدب عامة، أي لنوعٍ فيه وليس لكل الأنواع، ثم إنه يؤرخُ لهذا النوعِ بشكلٍ خاطئ كذلك، فالجنسُ الشعري الملحمي هو الأول والسابق، وبعد ذلك تمخضَّ الجنسان الآخران؛ الدرامي والغنائي، لكن في تطور مجتمع خاص هو المجتمع اليوناني، فليس هو تطور الأنواع الأدبية البشرية كلها، وليس هو تطورها في كل بلد أوربي كذلك.

إن مسارات الأنواعِ الأدبية مختلفةٌ متغايرةٌ بين مجتمعٍ وآخر وفي مراحل هذا المجتمع نفسه.

ثم نأتي لكلمات أخرى عامة كذلك هي أن المؤلفين العرب قد (انتهوا جميعاً إلى أن الأدب العربي قد وقف عند الشكل الأول)، فهنا جملة من الأخطاء، فالأمرُ لا يتعلق بـ(الشكل) بل بـ(الجنس الأدبي) أي الشعر وضروبه، وفي حين أن المقصودَ هو (الأنواع الأدبية) وليس الأجناس، أي إن المقصود مناقشة الأنواع كالشعر والقص والمسرح.

وبهذا فإن العبارةَ المنقولةَ عن هيجو المتعلقةَ بتطورِ الأجناسِ الشعريةِ تغدو عربياً مناقشة للأنواع، وتـُعَّمم بشرياً وعربياً، ومن ثم يُقال بأن العربَ وقفوا عند النوع الأول وهو النوع الغنائي ولم يتطور مجتمعهم.

وبطبيعة الوعي الأوربي المركزي السائد فإن ذلك يُربط بطبيعة (العقل الشرقي)، كما حدثَ في مسألةِ قراءةِ الفلسفةِ وتطورِها العربي، وهذا يغدو تتويجاً لغيابِ القراءةِ التاريخية والتي تبدأ من هيجو حسب مناقشة الفقرة السابقة، الذي قدمَ ترتيباً تعميمياً غيرَ دقيق عن الجنس الشعري، وغدا لدى بعض الباحثين العرب تعميماً نوعياً إنسانياً فشملَ الأدبَ العربي بأنواعه والمجتمع كذلك.

انتجَ سليمان البستاني وروحي الخالدي أفكاراً في بدءِ التحديثِ العربي عن الأنواعِ والأشكال الأدبية، فيها ذات الإشكاليات، فالبستاني يقول في مقدمتهِ لترجمةِ الإلياذة بأن: (العرب قسموا الشعر إلى أبواب منها الغزل والمديح والهجاء والرثاء ونحو ذلك، ومثل ذلك موجود في شعر جميع الأمم، ولكن الأفرنج يحصرون أبواب الشعر جميعاً في بابين: الشعر القصصي (إيبك) والشعر الموسيقي (ليريك): ذلك أنه لا بد للشعر من أن يرمي إلى أحد أمرين: إما بسط أحوال العالم بمظاهره البارزة وإما التعبير عن شعائر (مشاعر) النفس الخافية عن الأبصار وإبراز التصورات الكامنة في الصدور.. فالشاعر القصصي بهذا الاعتبار يعبر عن شعائر غيره والشاعر الموسيقي إنما يعبر عن شعائر نفسه)5.

يحددُ سليمان البستاني قضيةَ الأنواع الأدبية في الشعر ويضعهُ في خطين بطريقةِ أما وأما، وهو منهجٌ تقطيعيٌّ منذ البداية، فأما أن يكون الشعر موجهاً للخارج فيغدو قصصياً وأما أن يتوجه للداخل فيغدو موسيقياً، وهذه التفرقة هي قراءةٌ أولى لمسألةِ الأنواع لكنها دخلت في الأجناس، فالشعرُ جنسٌ من ضمن نوع، والقصة جنسٌ من نوع آخر، وحين يقول البستاني بأن الأوربيين عرفوا هذين (النوعين) فهو يتحدث عن المرحلة الإغريقية والمرحلة المعاصرة، فهو يقصد كما نفهم المسألة الآن بأن الجنسين دخلا النوع الشعري، وعبر ذلك تشكل في الرافدِ الأول وهو الملحمة، وفي الرافد الثاني تشكلت القصيدة الغنائية، حيث إختصتْ الملحمةُ بالتعبيرِ الاجتماعي الواسع، وبتجسيدِ الحياة، وليس أنها لم تهتم بالذات والمشاعر، في حين أن الجنسَ الغنائي تخصصَّ في التعبيرِ عن الذات، وهذا لا يعني عدم تواجد الحياة الموضوعية وتأثيراتها فيه.

ولكن الملحمةَ الإغريقيةَ تشكلتْ شعراً، وهي ليست ذاتَ صياغةٍ نثرية، وبطبيعة الحال فإن القصيدةَ الغنائيةَ هي كذلك، ولهذا فإن وصفَ الجنس الغنائيِّ بالموسيقى هو وصفٌ غيرُ متكامل.

ويقولُ شكري عياد: (ويظهر في هذا البحث بأن البستاني ميال إلى القول بأن العرب في جاهليتهم لم يكونوا مختلفين اختلافاً أساسياً عن غيرهم من الأمم القديمة كاليونان والرومان والهنود)،6.

إن ما وصل إلينا لحد الآن من التراث العربي كما قلنا لا يعطينا دليلاً في هذا، ولا يمنع كذلك أن يكون للعرب ملاحم لم تصل إلينا.

ويضيفُ شكري عياد بناءً على قراءتهِ لمقدمةِ البستاني السابقةِ الذكر: (ويذهب أنهم عرفوا القصص أيضاً، ويستدل بأيام العرب مثل قصة حرب البسوس، ولا يستبعد أنها كانت في الأصل ملحمة ففقدت أجزاءً منها وتفرق ما بقي)،7.

هنا يتضحُ بأن البستاني يتوجهُ للملحمةِ وهي المكتوبةُ شعراً بطبيعةِ الحال، ولكنه يصفُ فترةً لم تظهرْ مثل هذه الملاحم فيها، بل ظهرتْ القصائدُ الغنائيةُ (التي يسميها الموسيقية)، وهي سائدةٌ بشكلٍ كلي، وهو الأمر الذي يدعو للتحليل، عبر الحفر في هذه القصائد وكشف إذا ما كان لها علاقة بالملحمة أم لا، وهو ما سنقومُ بهِ لاحقاً.

ثمة إدراك بكون النوعين الشعري والنثري العربيين في بدءِ تكونهما قد تشكلا بلا مساواة كمية، فالشعرُ هائلُ المساحة بينما النثر محدود، ولكننا ليس لدينا سوى ما حفظتهُ الذاكرةُ العربية بعد قرون من تشكل النوعين، ولدينا هذا الترتيب المُقر السائد بكون الشعر الغنائي العربي هو الأسبق وهو الكم الهائل المحفوظ، وفي خضم ذلك يُقال بأن الشعرَ ديوان العرب.

فهل يعني ذلك إن الشعرَ الملحمي لم يكن موجوداً لدى العرب أو أنه كان ثم اختفى؟

وبطبيعة الحال فإن المقاربةَ لتكوّن القبائل العربية وظهور لغاتها الموحدة أصبحت كلاسيكية وتم الاتفاق بشكلٍ عام على أن الشعر الغنائي هذا له من العمر مائتا سنة قبل الإسلام على الأكثر، وأما ما قبل ذلك فمجهول، وهذا الزمان التقريبي هو الزمان التقريبي لتكون التوحد القبائلي الكبير بين قبائل عدنان من جهة، وقبائل قحطان من جهة أخرى، ثم التقارب القبائلي بينها.

وعبرَ هذه اللغاتِ ــ اللهجاتِ ثم عبرَ اللغةِ الواحدة تشكلَّ هذا الشعر والنثر، وبين النوعين وحدةٌ ما، هي سيطرةُ الموسيقى فيهما، وهو الأمرُ الذي لعبَ دوره في عملية الحفظ.

إضافة إلى ذلك فنحن نقرأ النوعين عبر الرواية الدينية الإسلامية، التي حورت بعض الألفاظ وغيرت في الصياغات وربما أخفت ونحت أشياء عدة بسبب عدم تطابق هذه القصائد أو المقطوعات مع العقلية الدينية السائدة، ولكن نحن لسنا بصدد قراءة المنحول أو الصحيح بل قراءة تطور الأنواع بذات المادة المقدمة والمُعترَّف بصحتها العامة، وقد قادت عملياتُ التغييرِ والنحلِ في الشعرِ الجاهلي بعضَ النقادِ القدامي والمعاصرين إلى التشكيك الجزئي فيه كابن سلام الجمحي، وإلى التشكيك العام كما يفعل طه حسين في كتابهِ الشعر الجاهلي ثم في كتاب الأدب الجاهلي .

يقول ابن سلام الجمحي حول الشعر الجاهلي:

(.. جاء الإسلامُ فتشاغلت عنه العربُ وتشاغلوا بالجهاد وغزو فارس والروم ولهتْ عن الشعر وروايتهِ فلما كثرَ الإسلام وجاءتْ الفتوحُ واطمأنتْ العربُ بالأمصار راجعوا رواية الشعر فلم يؤولوا إلى ديوانٍ مدونٍ ولا كتابٍ مكتوبٍ وألفوا ذلك وقد هلك من العرب من هلك بالموت والقتل فحفظوا أقل ذلك وذهبَ عليهم منه كثيرٌ وقد كان عند النعمان بن المنذر منه ديوان فيه أشعار الفحول وما مدح هو وأهل بيته به صار ذلك إلى بني مروان أو صار منه. قال يونس بن حبيب قال أبو عمرو بن العلاء ما انتهى إليكم مما قالت العرب إلا أقله ولو جاءكم وافراً لجاءكم علمٌ وشعرٌ كثير)،8.

هذه العبارة هي التي ارتكز عليها طه حسين في دحض أغلبية الشعر والنثر الجاهليين، لكن بعد فترة من الفحص قام بها باحثون تم التأكد من صحة الكثير من هذا الشعر، وتم كشف أجزاء منحولة، ولكن الفجوات في بناء القصائد الطوال خاصة وإزالة الجوانب الدينية الوثنية هي قضايا لم تـُحسم بعد.

وبهذا فإن القراءةَ التي نقومُ بها لهذا الشعر والنثر ترتكز على ما اتفق عليه وصحت نسبته إلى الشعراء والقوالين.

إن ضخامةَ الشعر الغنائي أمرٌ لا يستطيع أحدٌ أن يلغيه أو يحوره، وهو الشعر الذي تكون في فضاء هذا التوحد الاجتماعي للقبائل العربية وهي تظهرُ على مسرح التاريخ.

أما ما قبله فمجهول، ولهذا فإن التساؤلات هنا تتوجه هل نستطيع أن نعمم ونقول بأن الثقافة العربية لم تعرف الملاحم الشعرية، وهل يمكن لمثل هذه القبائل التي تشكلت خلال آلاف السنين أن تعبر عنها هذه الفترة الأخيرة فقط التي وقف الوعي الوسيط الديني المحافظ والوعي المعاصر المتعدد الرؤى عندها عاجزين عن الولوج لما ورائها بحثاً موضوعياً؟

كذلك فإنه لا بد من حسم موضوع (العقل العربي) والعقل السامي الذي لا يعرفُ الملاحمَ عبر قراءة التواشج الثقافي مع حضارة وادي الرافدين التي هي حضارة قريبة ومؤثرة على التطور الاجتماعي العربي عامة، فهذه الحضارة الرافدية عرفتْ الملاحمَ الشعرية والقصص ولكن الملاحم ليست هي ملاحم قصصية صراعية جماعية واسعة، بل هي أقربُ للقصةِ الشعرية الفردية المطولةِ كملحمةِ جلجامش، وبهذا فإنها لم تستطع أن تشكلَ ملحميةً واسعةً قادرة على تحليل شبكة من الشخوص وعلى قراءة الواقع بالتالي، وعلى طرح نماذج خصبة منوعة، وقد تمكن الإغريق من خلقها بسبب ترافد الماضي (البربري) الديمقراطي مع ثقافة المدن الحرة التي ترتبتْ على طبيعة الجزر، المتعددة، وعلى نمط التجارة الفردية الواسعة، في حين كانت الثقافة البدائية شبه الديمقراطية في وادي الرافدين والوادي المصري قد تم كتم أنفاسها مع تشكل الدول الاستبدادية الكبيرة.

ومع هذا فإن هذه المخاضات والانجازات للشعوب في منطقة الشمال لم تصل إلى عرب الجزيرة إلا عبر بعض الومضات التي نفثتها الأديان.

________________________

تبعية العلمانيين للدينيين ــ جذورها ونتائجها

تعتبر العلمانية الديمقراطية العربية المعاصرة هي الصيغة السياسية العامة لخلق الهياكل السياسية لتجاوز وضع الأمة العربية التابع للعصور الوسطى التقليدية، حيث غرقت البلدان العربية القديمة في التمزق الطائفي وتكونت فسيفساء سهل ابتلاعها من قبل الدول الغازية المختلفة، سواء كانت الدولة العثمانية باسم الدين أو الدول الغربية باسم الاستعمار.

ويعبر القرن العشرين عن الصعود الكبير  للعلمانية في وجه الشبكات الإقطاعية الطائفية القديمة في شتى جوانب الحياة، فالتعليم الكتاتيبى أخلى المكان للتعليم النظامي، وبالتالي أمكن تغلغل جوانب من العلوم في الوعي الشعبي، مثلما بدأ القضاء على الشعوذة والسحر في العلاج ونشوء شبكة من المستشفيات، وخرجت النساء من البيوت والاعتقال القديم، ودخلن الحياة العملية والإنتاجية، وانتشرت وسائل الثقافة الحديثة من صحف وكتب وأشكال ثقافية معاصرة كالرواية والمسرح والفنون التشكيلية، مما جعل وسائل التأثير الدينية بمحتواها المضاد للتحديث تتراجع إلى خلفية المسرح.

بل أخذت القوى الدينية ذاتها تستعير الأفكار العلمانية الحديثة، وما التنظيمات الدينية سوى أشكال من الاقتباس من النزعات القومية والفاشية الحديثة وقد لبست قوالب من التراث المقطوع عن مضامينه التقدمية العربية القديمة.

وتغلغل شيءٌ من الوعي العلماني في الحياة الاجتماعية، عبر تحرر المرأة وتغيير بعض القوانين المضادة للمساواة، ولكن ذلك لم ينتشر بقوة في الميدان الاجتماعي الأسري العربي، حيث تبقى الأسرة الحصن الأخير للأبوية والتقليدية، وانتشرت قوانين جديدة للأحوال الشخصية تطورت في بلدان إلى الذروة كتونس، لكن الرجعية الدينية بثقلها النكوري والسياسي الكبير عرقلت التطور في هذا الميدان الحساس والهام فتغلبت القوى التقليدية في بلدان أساسية كمصر والعراق فعرقلت تطور الحرية العربية.

صاحب هذا التطور العلماني على المستوى الثقافي والاجتماعي تطور سياسي كبير، حيث تمكنت القوى العلمانية ممثلة في أحزاب الفئات الوسطى من تحقيق انتصارات تحررية كتفجر الثورات في مصر والعراق وسوريا وتونس والمغرب على الاحتلالات الأجنبية في النصف الأول من القرن العشرين.

وقد قاد ذلك كله القوى الاستعمارية لتقوية الشبكات الطائفية وفتح المجال لنموها وتطورها، فبرزت في الثلاثينيات الأحزاب الدينية، وتم تحويل الدين كبعبع لمهاجمة القوى الوطنية والتقدمية العربية، فكانت تقوية الشبكات الطائفية كالوهابية والسنوسية والاخوان وإعادة ضخ الأموال في المؤسسات الطائفية التي أقفرت في سنوات النضال الوطني والقومي التحرري، وتم التركيز على بعث الهياكل النصوصية العتيقة وسجن العقل العربي في تضادات العصور الوسطى، كالتركيز على الحلال والحرام، وعلى نشر الخرافات وإلغاء العلاقات العقلانية والسببية، والهجوم على الأشكال الحديثة في الثقافة كمهاجمة الشعر الحديث، والحداثة بشتى صورها.

وقد أمكن للاستعمار والصهيونية والرجعية العربية من محاصرة العلمانية العربية عبر الهجوم على الاتحاد السوفيتي ومحاصرته ومهاجمة التجارب الوطنية والتحررية في مختلف بقاع الأرض، وقد كان لهذه التجارب مجموعات من الأخطاء سهلت القضاء عليها ثم ساد التفرد الغربي الاستعماري في كل الكرة الأرضية.

ولا شك أن الأنظمة التحررية العربية قد ارتكبت العديد من الأخطاء الكبيرة التي سهلت للقوى الطائفية الرجعية من استلام زمام المبادرة، والانتشار، فقد كانت هذه التجارب الوطنية غير علمانية بشكل جذري، فهي قد رفضت التجارب العلمانية السابقة والتى كانت أكثر جذرية منها في رفض الجماعات الطائفية وأفكارها، واعتمدت الأساليب الدكتاتورية في الحكم، ورفضت مواصلة جهود التنويريين العرب السابقين كطه حسين وسلامة موسى ولويس عوض الخ.. في الثقافة والسنهوري في القانون، وشبلي شميل في نظرية التطور، وجمدت عملية تحرير المرأة، وأوقفت محوالأمية ومقاومة الخرافات والأساطير، وغيبت الحرية الشخصية الفردية وخاصة في المجال العقلي التحرري، ونشرت عقلية القطيع وأحزاب الحكومة المصفقة لكل أمر.

تتضح طبيعة الأحزاب العلمانية التحررية القومية التي انهارت في نضالها العلماني، بعد وصولها لغنائم الحكم، في تجارب مصر والعراق وسوريا بالأخص.

فبينما كان بورقيبة يواصل عملية تحرير المرأة التونسية وخلق شفافية سياسية وفكرية مع الشعب، كانت هذه الأنظمة تغرق في الفساد والرجعية الفكرية، فلا تجد سوى أن تمد أيديها للقوى الطائفية وفكرها العتيق. فكانت تعيد تقوية المؤسسات الدينية بذلك الفهم الطائفي، فنجد مؤسسة مثل الأزهر بدلاً من قيامها بثورة في الفهم العقلاني للإسلام تعيد ضخ القوة في الوعي النصوصي والمحافظ، ولم يكن ثمة نظام قومي تحرري لم يضطلع بمهمة بعث الهياكل الطائفية واستغلالها ضد التقدميين والعلمانيين العرب والمسلمين، عبر تشكيل مؤسسات دينية كبرى والصرف عليها بالملايين.

وإن تتحول هذه القوى القومية إلى جماعات منتفعة شمولية فإنها تواصل اعتقال الجمهور العربي بمختلف أديانه، وعلى الإبقاء على الهياكل الاجتماعية والثقافية المتخلفة، وينعكس هذا على استغلالها للدين في الحياة السياسية بعد أن أفلست في فكرها العلماني المزعوم.

فنجد النظام العراقي والذي كان يفرق في مجموعة من التناقضات يعود لاستغلال آيات القرآن استغلالاً كاريكاتيرياً، أو استخدام المصطلحات والرموز التراثية بصورة تكشف مدى التهلهل في هذا الوعي «العلماني»، ويقوم النظام بعقد مؤتمرات للأحزاب القومية والدينية تردد هذه الآيات فيها، ويتم اعتقال الشعب في زنازين من الأمية والتخلف العلمي والعسكري.

ومع تفاقم أزمات الأنظمة المرتدة عن العلمانية والحرية القومية، فإنها تنقل هذه الأزمة للجماعات التابعة لها، والمتاثرة بها، والتي تنعم بـ«مساعداتها» في بقية الأقطار العربية، فتتدهور الشعارات السطحية العلمانية فيها، ولا تجد مقاومة فكرية عميقة داخلها لهجوم الطائفية على قياداتها وأعضائها. فهذه الجماعات تعاني مثل الأنظمة القومية من غياب الديمقراطية فيها، الأمر الذي يقودها إلى تخلف ثقافي، تكون علاماته تدهور الوعي العلماني داخلها، وتبعيتها السياسية ومن ثم الفكرية للجماعات الطائفية.

فالجماعات العلمانية التي كان يُنتظر تحرر نسائها وأفرادها يعود الوعي الرجعي إلى صفوفها، بعدم تقوية وتنمية الثقافة التقدمية في شتى مجالات الوعي،حيث يتطلب الوعي السياسي إجابات على كثير من الأسئلة المعقدة التي تُطرح في شتى جوانب الحياة الاجتماعية. مثلما يعجز هؤلاء القادة والأفراد عن التطور بوعيهم وأسرهم وكياناتهم في سلم الحداثة.

ولكن إذا كانت الأنظمة البعثية والتيارات القومية تواجه الاستعمار والصهيونية بتلك الأسلحة الفكرية والاجتماعية العتيقة، وتدخل المعارك ضد الاستعمار بتلك الهياكل الرثة من الجيوش والأفكار، فإن الجماعات التابعة لها، والمتأثرة بها، أو الجماعات الدينية التي اصطفت معها، تقوم بالدفاع عنها بذات الأساليب والأفكار وترديد تلك الجمل المنتزعة من التراث الدينى، الأمر الذي يعبر عن سقوط وعى كامل من الأبنية شبه العقلانية والتى تدخل الخرافة من أبوابها الواسعة. أي إن انتهازية القيادات في هذه الانظمة والجماعات بعد أن غرقت في عوالم الشمولية والاستبداد، أخذت الظلامية الفكرية تزحف فى قنواتها السياسية التى تهيمن عليها بالحديد والنار أو بالدجل السياسى، وتتكون العقلية الانتهازية التي تستغل الكتب المقدسة والتراث، لمصالح ومآرب نفعية ولمعارك فاشلة.

إن قواعد هذه الأنظمة أو الجماعات السياسية التي كانت علمانية، والتي تبدأ في الغرق في ثقافة الجهل والتجهيل، والانتهازية والوصولية، تكون مستعدة لجميع الخطوات السياسية المغامرة ولتأييد الأنظمة الفاشية، بعد أن تم الحجر على عقولها.

وعلينا أن نقرأ العلة الأولى في رؤوس هذه الأنظمة والجماعات التي تلاعبت بالدين وحولته إلى مطايا لاستغلالها، مستثمرة كل الجوانب الرديئة من التراث، زاعمة أنها عودة للإسلام.

فمن هناك من العواصم العربية تم التداخل بين الدين والهياكل السياسية الدكتاتورية، وليس التدهور السياسي في هذه الدول والجماعات، سوى انعكاس لانهيار مشروعها النهضوي التحرري، والتحامها بالطبقات الإقطاعية والبيروقراطية القديمة، وبرؤساء القبائل وبزعماء الطوائف والكيانات العتيقة المختلفة. وبالتالي قامت ببعث الموروث الطائفي والمحافظ.

ففي الوقت التي شاركت هذه الرؤوس في سرقة الدم العربي من عروق العاملين فلا مكان للعلمانية والتقدمية لديها.

كانت تقوية القوى الاستعمارية والرجعية العربية والصهيونية للشبكات الطائفية العامل الرئيسى فى صعودها في العقود الأخيرة من القرن العشرين، غير أن الشبكات الطائفية تجاوزت الخط الأحمر غير المسموح بتجاوزه، وتوهمت بقدرتها على وراثة النفوذ والحكم في المنطقة.

إن التشكيلة الإقطاعية/ المذهبية التي كانت تحاول بعثها، كان لا بد أن تؤدي إلى بعث كل الأسس غير الحديثة الميتة، وأن تصعد الشبكات الطائفية بكل اختلافاتها وأحكامها الراجعة إلى ما قبل العصر الحديث، والتي شجع الاستعمار بقاءها في الأنظمة التابعة لكن العلمانيين التابعين لهذا البعث الطائفي، بعد أن فشلوا في البعث القومي، لم يروا سوى الاختلاف والصدام بين هذه الشبكات الطائفية والسلطات والاستعمار.

أي لم يقوموا بقراءة جذور هذه التكوينات الطائفية، وخطورة نموها على الفكر العقلاني والحريات الاجتماعية المختلفة، ولم يروا سوى طابع الاختلاف بينها وبين السلطات والاستعمار، وهكذا قاموا بعزل القضية السياسية عن أبعادها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وسمحوا لأنفسهم بالتعاون بل التبعية السياسية للشبكات الطائفية. بدلاً من تشكيل تحالف ديمقراطي علماني إسلامي نهضوي يهزم مشروع البعث الطائفي.

نتائج ذلك كانت خطيرة على حياة المسلمين والمسيحيين العرب وعلى تطور الوعي والحريات لهم، في إيران وجهت السواطير لقطع رؤوس التقدميين والعلماء والوطنيين، والحركات النسائية والديمقراطية المختلفة، وتم إعادة قوانين رجعية، دون أن يحدث تغيير في حياة الجمهور بل عادت الأشكال المتخلفة من حكم الإقطاعيين الطائفي والسياسي.

وقاد تدهور الدولة الديمقراطية والعلمانية في مصر إلى كوارث ومذابح وتم إعادة مصر إلى الوراء على الأصعدة كافة.

لكن العديد من المجموعات العلمانية الانتهازية لم تقطع عملية التبعية للشبكات الطائفية، رغم كل هذه الشواهد والأحداث الفظيعة، وتعود هذه إلى محدودية النظرة السياسية، وقراءتها للقريب دون البعيد، واعتمادها على الحماس الشعبي المتخلف، وهو أمر غير ثابت، وعجزها عن النظر بشكل مركب لعمليات الإصلاح والصراعين السياسى والاجتماعى، وعلى إقامة تحالفات ديمقراطية واسعة، وتشبثها بسيطرتها الشللية، وهذه كلها أمور تؤدي إلى تدهورها السياسي والفكري على المدى البعيد.

ويرجع ذلك ايضا لتخاذل القوى العلمانية الجادة في النضال، وضعف وعيها في قراءة جذور الشبكات الطائفية، وأهمية تفكيكها وتغيير قواعدها الشعبية بخطاب يجمع النضال الإصلاحي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي في حزمة واحدة.

فهي كذلك ترى النضال ينحصر في المجال السياسي، وغالبا ما تتخبط بين الاتجاهات الحديثة والطائفية، عاجزة عن شق الطريق الرئيسي للحداثة والنضال الوطني والقومي بمحدودية فهمها لكل هذه الجوانب المترابطة.

كما لا تعارض الدول الطائفية في سماحها بتشكيل الشبكات السياسية الطائفية التي تمثل خطورة على السلامة الوطنية، نظرا لقيام هذه الدول باللعب على الورقة الطائفية واستخدامها في تفكيك صفوف المعارضة ولا تؤدي عملية استخدام هذه الورقة لتفتيت صفوف المعارضة فحسب بل إلى هدم الكيانات الوطنية كما سيحدث في العقود التالية وإلى حدوث مذابح وكوارث كبيرة.

كذلك فإن القوى العلمانية الجادة ليس لديها وعي بموروثها ولا تفرق بين القوى الطائفية السياسية والمذاهب الشعبية الموروثة، بين الشبكات الطائفية المسيسة والإسلام، نظرا لغياب قراءتها لتاريخها الوطني والديني.

تتطلب عملية فك الارتباط بين العلمانيين والطائفيين الكثير من الجهود والصبر السياسي والتثقيف، فعلى العلمانية يتوقف مستقبل العرب والمسلمين في العقود القادمة.

جذور العنف في الحياة العربية المعاصرة

جذور العنف في الحياة العربية المعاصرة

[نحو موقف علماني عربي شامل]

يطرح المسار العربي الراهن، بكل ضجيجه الدموي العنيف، وخاصة في منحدراته العميقة المعتمة: عن ذبح للبشر، وتدمير العمران، وتشكيل الجماعات والدول #الطائفية، وصنع الخنادق العربية والإسلامية المتقابلة المسلّحة، ووضع الملايين تحت الإقامة الجبرية في قفص السيد المطلق المتجدد أبداً، ضرورة تشكيل مواقف عربية عميقة وجريئة و#ديمقراطية #علمانية تعيد رؤية #تاريخ #الأمة_العربية بشكل جديد وجذري ليصل النقد والتغيير إلى #جذور_العنف المتكلّس في تاريخنا وأبنيتنا #المادية والروحية. إنه في هذا العصر الذي أدار ظهره للمنحوتات الحجرية المؤبدة للقمع الشامل، تتراءى ضرورة المعرفة الحقيقية، كمحاولة أولية وهامة لوقف مسلسل الدم والانهيار، ولوقف سير العربة العربية نحو هاوية الطائفية والتخلّف.

 

انه الزمن العالمي الذي وضع كل شيء تحت مجهر وتلسكوب العين #الإنسانية الفاحصة، وصنع الوعي ثورات وأجهزة تعيد تشكك النسيج الاجتماعي والجسدي والفكري.

فآن لنا نحن العرب أن ندخل العصر بقوة، وأن نعرّي كل شريط الاعتقال الطويل للشعوب، الذي كان مسلسلات كابوسية لتشويه وتقزيم إرادتنا وأرواحنا، وحبسنا في زنازين الحكم الشامل، الذي لم يدع حلماً من وعينا وجسدنا إلاّ قيّده.

آن لنا أن نقول أيها الحكم الفرعوني الطويل، لقد أتخمنا بجبروتك وتسلطك على نسائنا وأطفالنا وأغانينا وفرحنا، آن لنا أن نعرّيك ونهدمك. ليس في هذا المسرح الأرضي المنكوب سوى الإنسان العربي قمّة المخلوقات، صانع القيود الحديدية والغيبية، وهو الذي يشكلها وينفيها.

لم نعد الآن قادرين، وأشلاء الضحايا تقطر فوق رؤوسنا رعباً وأسئلة، وتصنع المذاهب المفخّخة أنقاض دولة وتعدّنا لحروب أهلية طويلة ومريرة، ان نتجاهل آلاف السنوات من الحكم العنفي الشامل، حيث طبقة صغيرة ترث الامتيازات والخيرات، وتقيم تركيبة اجتماعية متحجّرة، يقف على قمتها السيد الرجل المطلق، وتجعل الحكام آلهة والمحكومين عبيداّ، والذَكَر سيداً ابدياً، والأنثى جارية مولّدة، والملاك الكبار يتوارثون الأرض والبشر.

اتّسم تكوّن الدولة #الإسلامية الأول بالسيطرة على #الطبقات المختلفة عبر #وعي واحد شامل. ولكن ذلك لم يكن لاّ مؤقتاً، حيث راحت التناقضات #الاجتماعية تتفجّر، وخاصة مع #حروب_الردّة ثم #حروب_الفتوح التي أغدقت على #الارستقراطية القرشية والعربية خيرات #البلدان_المفتوحة، وأدى هذا إلى احتدام الصراعات، مرة بقتل الخليفة عمر بن الخطاب ومرة ثانية بقتل عثمان بن عفان، ثم بالحرب مع أو ضد علي بن أبي طالب، ومن هنا توسّعت الخلافات والصراعات الطبقية التي تمؤهت من خلال #الوعي_الديني، الذي تحول إلى #وعي_مذهبي.

لقد حاول عمر بن الخطاب أن يقيم توازناً اجتماعياً، وأن يوزع غنائم البلدان المستغلة بشكلٍ متساوٍ على الفاتحين #العرب، إلاّ ان التناقضات العميقة فجرت الصراعات الدموية وطلعت الأرستقراطية #العربية الباذخة لتشكل ملكاً عضوضاً جيرّ مختلف المفردات #الفكرية والأدوات السياسية لحكمه الطويل.

لقد قام النظام الإقطاعي – العبودي بعد سيطرته على ملكية الأرض والفلاحين، بتفصيل بدلة دينية ــ مذهبية على مقاس امتيازاته ومصالحهم مواصلاً إستلام ملكية البشر، من اسلافه الفراعنة والأكاسرة والقياصرة، محافظاً على التركيبة السياسية الاجتماعية المتحجّرة: سيطرة مطلقة للحكام، سيطرة شاملة للذكور، استغلال لا يرحم للمزارعين والعبيد (1).

لقد انجرّت القوى المعارضة، بحكم شروط الوعي والوجود الاجتماعي إلى استخدام ذات العباءة الدينية في تبرير اختلافها وصراعها مع الحكم الديني والمذهبي المركزي، فابتكرت مذاهبها الأخرى، لتعكس مصالح جهاتها وأممها وجماعاتها، ورغم أنها لوّحت بالعدالة وتحقيق المساواة،وخدمة المناطق والأقاليم المختلفة وحققت إنجازات ملموسة وقتية في سبيل ذلك، إلا أن الأغنياء الكبار والمتسلّطين ما لبثوا أن سيطروا على شبكة إنتاج المذاهب كذلك، وضخّوا السلطة والثروة إلى خزائنهم، فغدت الحروب المذهبية الدامية المستمرة تعبيراً عن حروب اجتماعية يتم إخفاؤها، ولا تجد الأدوات السلمية والقانونية لكي تظهر وتتبلور وتحل.

إن المعارضين العرب بلجوئهم إلى #الدين وتفسيره مذهبياّ خسروا عملية التغيير العميقة الشاملة ودمّروا الدولة التي أرادوا إنقاذها.

لقد غدا الكفاح من أجل العدل والمساواة ملتبساً بالخلاف #الطائفي الفقهي، وصار انفصالياّ، مناطقياً، مما أدّى إلى تمزيق الدولة العربية ــ الإسلامية، وتحطيم بناها الاقتصادية وشبكتها الاتصالية المادية والفكرية.

لم تكتف الطبقات المهيمنة في كل المذاهب المنقسمة المتعادية، وعبر كل الأبنية الاجتماعية في حركتها التاريخية، بأدوات القمع العادية، وعنف الشرطة والجيوش والسجون وفرض الجزية والخراج، بل جعله من المذهب الديني قمعاً وسيطرة، عبر إزاحة ما هو انساني، ومراكمة ما هو شعائري وعبادي شكلي.

لقد تمّ التركيز على ما هو حزين ويائس ومجمّد لانطلاقة الروح والجسد والفرح ونزع علاقات #التضامن و#الكفاح بين العرب، وتغييب لما هو مساواتي بين #الرجل و#المرأة، وبين الأمم، وبجلّ ما هو تراتبي وشوفيني وذكوري مسيطر.

ويحاول المنقبون المعاصرون في مناجم الماضي، أن يروا بعض البصيص في كفاح العرب عبر قراءة بذور النور العقلانية المنتجة في حقول اللاهوت.

لقد حاولت #الأمم_الإسلامية عبر الأوعية المذهبية ان تتحرر، وكانت الفرق الدينية تحاول بأدوات الفكر الديني الخروج من سطوة المذهب المركزي المسيطر، وحاول #الفلاسفة المتنوّرون أن يزحزحوا تلك المركزية الشمولية #المذهبية #الإقطاعية، عبر تخفيف مراكزها ومن أجل تعدّد أقطابها، ومن أجل وعي موضوعي بقوانين المادة والطبيعة، فكان كل هذا النشاط العظيم كفاحاً داخل الممر المعتم، ونضالاً ضد #الأساطير بأدوات أسطورية، وصراعاً ضد الظالمين بحديد قيودهم، وجاء المتصوّفة ليسبحوا في البحر حتى قاعه المعتم، ،فكافحوا العقل المذهبي الرسمي الشمولي الظاهر، بلا #عقلانية #باطنية، فسيفسائية، أسلمت #الوطن_العربي في خاتمة المطاف إلى سلطات #الدراويش والدولة العلية المعلولة.

وعندها بدأ #رجال_الدين النهضويون المسلمون والعرب في #القرن_التاسع_عشر كفاحهم المتصدّي للسيطرة الأجنبية المحدقة وللتخلّف المزمن، جعل كثير منهم الدين مرة أخرى أساساً لعملها السياسى. ومنذ ذلك الحين وُضع الأساس الحديث لمشكلاتنا الراهنة.

إن شعارات #النهضة ومقاومة #الاستبداد والدعوة للحكم البرلماني واصلاح التعليم ونشر المعارف الخ .. كانت خطوات إيجابية في سبيل النهوض العام للأمة العربية غير المستقلة والمتداخلة مع بقية الأمم الإسلامية، ولكن بقيت الشعارات الدينية ــ النهضوية غير مدركة لطبيعة الجسم السياسي الديني المحافظ الكبير الذي راحت تستثير نشاطه، ليغرقها في النهاية بشبكته الطائفية الواسعة، وبجذوره الممتدة قروناً مديدة.

إن الأفكار الحالمة لم تكن على دراية بحجم وعمق التركيبة الاجتماعية السياسية الفكرية المحافظة، والتى راحت تستعيد سطوتها على الحياة العربية، عبر تغذية القرى الاستعمارية لها والتي وجدت فيها أرضية أساسية لتمزيق الأمة العربية والتي تم تفتيتها سياسية وادارياً، وغذيت تنوّعاتها الإقطاعية والعشائرية والمذهبية والمناطقية، وتم ربط اقتصادها المنتج للمواد الخام بالدول المسيطرة وهمّشت قواها الاقتصادية والثقافية التصنيعية. ورفضت قوى علمانية تنويرية صغيرة مسار الانبعاث الديني ــ القومي المتضافر، طارحة استيراد النموذج الحداثي الغربي، ولكن ظلّت طاقاتها العقلية الهامة والمفيدة، معتمدة على تشكيل الإنتاج الثقافي، غير المترابط مع الوعي السياسي وإنتاج الممارسة الثورية(2). ولقد تلاقح هذان الاتجاهان الرئيسيان في بعض الخطوط الصغيرة العابرة. حين استعارات بعض القوى القومية بعض الجوانب #العلمانية، وبشكل محدود. ونظراً لانعزالية الاتجاه الثقافي العلماني عن الممارسة الكفاحية #الوطنية، بدا وكأنه مرتبط بالسلطات الأجنبية، ونموذج لتبعية فكرية للغرب.

إن الاتجاه #القومي الديني في عملية تغلغله بين #الجمهور_العربي، أعتمد النفعية والعفوية، ووجد أن استغلاله لمشاعر المؤمنين، وتنشيطه لبعض المفاهيم الدينية والشعائرية قد وسّع شعبيته، مما أدّى إلى إحجامه عن تعميق الوعي العلماني في صفوفه، وتركيزه على الجانب الديني. ولا شك أن تسييس الإسلام بشكل وطني وقومي قد أدى الى توحيد بعض #الشعوب_العربية ضد #الاستعمار، وعبّر عن #علمانية محدودة، وبيّن أن البعد عن الشبكة الاجتماعية المحافظة، هو بذور لنمو #ديمقراطي هام، ولكنه نمو لم يكتمل، ليس لأن تلك الشبكة ذات قرون من التأهيل في البنى الموضوعية والذهنية للعرب فحسب، بل لأن القوى التحديثية العربية لم تواصل مهماتها العصرية، وعجزت عن تغيير نظم الامتيازات، وكانت هي جزء من القوى المستغلة للجماهير، ووجدت أن من مصلحتها الإبقاء على الوعي المحافظ تثبيتاً لنفوذها.

كما أن القوى الاستعمارية والعربية التابعة واصلت تعميق وتعزيز دور المؤسسات المذهبية، فكانت تركيبة التخلف شرطاً من شروط ديمومة النهب الاجنبى والداخلي.

إن القوى الحديثة النامية حينذاك، بتركيبتها الإقطاعية والبرجوازية المتداخلة، لم يكن من برنامجها إنتاج أدوات نظرية وسياسية لبناء مجتمعات ديمقراطية علمانية. وقد وجدت مصلحة في إبقاء التركيبة القروسطية. مع إجراء إصلاحات اجتماعية وسياسية مهمّة عليها، وكان إغفالها لأفكار #المتنوّرين_العرب العلمانيين، خاصة في مسائل #فصل_الدين_عن_السياسة_و_الدولة، تعبيراً عن وشائجها القرابية مع تلك التركيبة المتخلفة.

أن عجز الطبقات الرأسمالية ـــ الإقطاعية عن قيادة معركة الاستقلال الاقتصادي والسياسي وتحقيق «العدل»، ،قد هيّأ الفرص لبروز القوى الاجتماعية الوسطى والصغيرة للتصدّي لهذه المهمة، ولاستقطاب الحماس وتوظيف المعاناة #الجماهيرية لأجل تشكيل خطوط سياسية نظرية تسريعية وشمولية نتجاوز #الليبرالية والتحديث الديمقراطى.

وإذا كان ذلك لم يتبلور بصورة سريعة عند القوى القومية واليسارية، واحتاج لسنوات أخرى ليتشكل بصورة أحزاب قومية ويسارية شمولية، فان #الأصوليين_الإسلاميين كانوا أسرع في التقاط المنحى الفاشي الذي كان مخيّماً على العالم. إن رفض الأصوليين الإسلاميين لاتجاه الليبرالية الإسلامية الذي تشكل لدى #الأفغاني وكوكبته، والذي شرع لحرية الاختلاف والتعدّد، وأسبقية #العقل على #النص، بدأ يتصاعد ويتبلور لديهم حين رأوا التحديث الرأسمالي يقوم بهدم جوانب من التركيبة #الإقطاعية المسيطرة على المسلمين. ويزعزع بعض أشكال وجودها بمظاهر #الحداثة المنتشرة وعبر الدعوات الرافضة للخلافة وبأفكار #فصل_الدين عن المؤسسات السياسية.

وقد كانت الأشكال المذهبية ــ السياسية تعبير عن التركيبة الاجتماعية التي صار الغرب الرأسمالي نفياً لها، بنموذجه التحويلي للإقطاع المسيحي، وفصله عن للدولة، وبإلغائه للطبقات الإقطاعية المتحكّمة في #ملكية_الأرض والبشر والعقل. ولم يكن الغرب نفياً نظرياً لتلك التركيبة، بل كان تدخّلاً عملياً لوضع حدّ لأكثر أشكالها تطرّفاً كملكية الرقيق والاتجار به والسخرة، وقد وضع تلك الحداثة الجزئية رهن التجسيد الملموس، تمريراً لتغلغل امتيازاته.

وحين تشكّلت ونمت #البرجوازيات_العربية ــ الاقناعية في حضن هذا التحويل التابع، قامت بانجازات نهضوية مهمّة، وكان الإسلام الليبرالي شكلاً لنموها وتجليها، لكن تلك البرجوازيات كانت ضعيفة التكوين الصناعي. ذات جذور إقطاعية واسعة، فدخلت في علاقة تناغم مع البنية المحافظة العتيقة(3). إنها لم تستطع إنجاز المجتمع الليبرالي بشكل شامل. فإن الثنائية الصراعية بين الإقطاع والرأسمالية كانت في عميق وجودها، كانت جزءاً من امتيازاتها وأفكارها. ولقد غدت الحداثة الرأسمالية هى هذه الأحزاب والدساتير والكيانات الجديدة، ولكن الجسم الإقطاعي بقى هو الملكية الواسعة للأرض وللفلاحين وللنساء وللأفكار وللحياة الشعبية. 

كان للتغيير الليبرالي العلماني الواسع يتطلب تحويلاً صناعياً ــ علمياً ــ اجتماعياً، لم تستطع نصف الرأسمالية هذه أن تحققه، أو أن يسمح لها الاستعمار المسيطر أن تحققه.

ومن هنا تزايد التناقض بين التكوين الحديث الليبرالي غير الواقف على قاعدة صناعية ــ اجتماعية قوية، والحياة الشعبية المستغلة وغدا النموذج الليبرالي فاقداً لمعقوليته السياسية مع تزايد الصراع. وقد جاءت الحرب العالمية الثانية لتُسرّع في ذلك، فصارت الأفكار الشمولية الدينية أو فيما بعد القومية ـ واليسارية هي المستقطبة لقطاعات الرأي العام المؤثر.

إن ردود الفعل الأصولية الأولى ضد الحداثة المقتحمة المترافقة مع غزو استعماري، كما تمظهرات في #الوهابية و#السنوسية الخ… ارتدت طابعاً وطنياً مقاوماً، ولكن ذلك المظهر عبّر عن مضمون إقطاعي. يهيمن بقوة على البنى الاجتماعية ويمنع تحديثها إلا في سياق تعزيز سيطرته المتشددة. إن ردود الفعل هذه، والتى كانت في مناطق صحراوية وريفية عربية شديدة التخلّف، عبّرت عن الوعي الاقطاعي المذهبي التقليدي للإسلام، الذي ظلّ مسيطراً بشكل كلّي على الجمهور، مانعاً إياه من أي بصيص حضاري في تلك المناطق المحبوسة بالسيوف والرمال.

لقد أعطى مثل هذا الوعي للإسلام في مراكزه البدوية الحصينة، موديله القمعي والمتخلف إلى الوعي الأصولي المسيّس للإسلام المستيقظ في المدن العربية، والذي أفاق على دوي المارشات العسكرية الفاشية، وحرب الرأسمالية اللاعقلانية الهمجية ضد الرأسمالية الديمقراطية ليأخذ الأزياء الموحدة والطوابير العسكرية وسلطة الدكتاتور المطلق وإرادة القوة، مدمجاً معها سيادة النص الحرفي على التأويل الإنساني، معتبراً المرحلة الإقطاعية العتيقة نموذجه الأمثل.

وستعبر القسمات الأصولية الأولى حينئذ عن المسار المعاكس للعصر الديمقراطى، فعلى هذا ‏الوعى أن يدافع عن تركيبة اجتماعية منهارة، وأن يحتفظ بابنيتها السياسية والاجتماعية والفكرية مع القبول بأجزاء أساسية من العلاقات الرأسمالية الاقتصادية، وإضفاء طابع ديني شكلي على الأجزاء الأخرى.

إن ما أكدته المرحلة #الليبرالية_العربية من سيادة للامة، وقدرة الشعب على اعادة النظر في مجمل البنية الاجتماعية المتوارثة وعصرنة ودمقرطة كافة القوانين والعادات والأفكار العتيقة يتم منعه ايديولوجياً لتقف الأصولية ضد حكم الشعب. ومن أجل استمرار البنية التقليدية في المرحلة الرأسمالية.

لقد تمّ رفع مصالح الأرستقراطية الذكورية المتزمّتة، الاجتماعية والطبقية، إلى مصاف المقدّس والأزلي، والذي لا يجوز لنهضة العرب الجديدة أن تمسها وتعيد النظر بها. إن مرحلة التداخل والتعايش بين النظام التقليدي والنظام الرأسمالي قد وصلت هنا إلى نقطة الافتراق، وتم وضع العصر الحديث، عبر الوهم الأيديولوجي، بشكل مضاد كلياً للمرحلة القديمة والتي ينبغي استعادتها بالقوة(4).

إن أساس المشروع يعتمد على حكم الإرهاب الشامل. وذلك بتحويل هذا الفهم المضاد للعقل وتطوير الحياة. إلى دكتاتورية واسعة كلّية تعتقل الأفراد والجماعات في مختلف تجليات وجودهم الملابسية والديكورية والفكرية. إن هذا الأسلوب الدكتاتوري: يستهدف جعل التركيبة الاجتماعية المحافظة خارج العقل والزمن. متّحدة كلياً بالغيب، ومصانة بعنف شامل.

ومع هذا فسنجد هذه الرؤية نفسها في تناقض مزمن بين إعادة تفسير الدين رأسمالياً، وبين الحفاظ على التركيبة التقليدية. إن التفسير الرأسمالي يقود الى اعادة بلورة بعض المفاهيم بشكل حديث، في حين أن الحفاظ على التركيبة يؤدي إلى العنف والتشدد. إنها لا تستطيع أن تتخلى عن أسسها #الايديولوجية الشمولية #الإقطاعية، لكنها تضطر لرسملة العديد من تصورّاتها، في حين أن بعض القطاعات القاعدية التي استثارها هذا الخطاب العنفي المضاد للحداثة تقوم بإنتاج شعارات أكثر تطرفاً وعداء للحداثة فتصير أكثر عنفاً وإرهاياً.

إن الموديل الحديث من #السلفية الذي أُنتج في #مصر، سيتأثر وينمو بالتطورات المحافظة في بقية الدول العربية والإسلامية. كما انه سيغذّي مناطق أخرى بذات الأيديولوجية الشمولية الدينية وبتناقضاتها المختلفة.

كانت البرجوازيات العربية تعمل بعد انهيار #الدولة_العثمانية واستعمار الدول العربية للخروج من علاقات الإنتاج الإقطاعية المسيطرة في القرون السابقة طالعة من #ملكية_الأرض والعقار نحو المتجر والمصنع، ومن انتاج الناس الديني إلى إنتاج العقل التابع والمؤول للدين.

لقد تنامت شعارات #التحرر_الوطنى وتحققت تعددية سياسية وتشكلت حريات اجتماعية مهمة، لكن النظام التابع ذي البنية الرأسمالية الضعيفة والعلاقات الإقطاعية المتحكمة في أغلبية الأرض الزراعية والمستوى الأكبر من البنية الاجتماعية ــ الذهنية، عجز عن الرسملة والدمقرطة الواسعة للحياة. ولقد تشكّلت قوى قومية ووطنية ضد تلك الأبنية الرأسمالية ووجهت قواها وخططها لإلغاء تلك الأنظمة إلغاءً عسكرياً عنفياً.

لقد اعتمدت القوى القومية والشيوعية على التسريع الكبير للتطور وسلق المراحل، وتجاوز التكوينات الرأسمالية الليبرالية الجنينية التى تشكلت بصعوبة على مدى قرن #النهضة السابق. ولم يكن لدى هذه القوى تصور واضح لطبيعة البنى الاجتماعية المراد تشكيلها معتمدة على بعض المطالب الاجتماعية والسياسية لقطاعات من الجماهير، وعبر تسييس نخب معينة مثقّفة وشعبية، ودفعها في صراع طويل، للإطاحة بالتحالف الرأسمالي الإقطاعي المهيمن. 

إن الرافد القومي من الحركة الاجتماعية العربية اعتمد على توجيه النخب السياسية ــ العسكرية نحو انبعاث الأمة واستعادة نهضتها ووحدتها معتمداً على الترابط بين القومية والدين، باعتباره حلقة أساسية في ذلك النهوض(5). إن الأمة في هذا الوعي تغدو جوهراً مفارقاً للتاريخ، مثلها مثل الأمة لدى #الأصوليين. وهو جوهر غير مرتبط بسيرورة اجتماعية وتاريخية محددة، وعبر تكوينات اجتماعية متناقضة، لم يأخذ هذا الوعي أن القبائل العربية ووحدتها كانت شكلاً جنينياً لتكوّن #الأمة_العربية، وهي وحدة دينية قبائلية تمت بسرعة، واندمجت بعملية فتوح واستيلاء على أراضٍ عربية أخرى تحررت، وعلى أمم مختلفة تعرّبت، وعلى أراضي أمم غير عربية ظلت تابعة.

وعبر هذا التداخل والتناقض بين الأمر قامت الأمة العربية، ولمصلحة الأرستقراطية العربية، بقيادة واستغلال بقية للأمم التابعة التي ولدت وتبنَّت وطوّرت في كفاحها ضد التبعية الإقطاعية العربية المركزية افكاراً ومذاهب مستقلة مضادة للدولة، فظهر الصراع القومي والاجتماعي عبر أشكال دينية، فككت الدولة العربية الواسعة.

إن الأمة العربية باستيلائها على أراضي الأمم الأخرى عبر الدين، أعطت الأمم الاخرى فرص الاستيلاء على أراضيها بنفس الدين. وإذا كانت فتوح الأمة العربية، قد جاءت في أزمنة وأوضاع كان النظام الإقطاعي العالمي في بدء تشكّله، فإن الأمم البدوية الطَرَفية التي استولت على الأرض العربية بعد قرون، جاءت في مرحلة الإنهاك النهائى للنظام الإقطاعي الإسلامي المركزي وفي بدء تحول قسم من البشرية الى العصر الرأسمالي. إذا كانت الأمة العربية قد أسهمت في إثراء تطور الأمم الأخرى غير العربية عبر نقلها الى مراحل أعلى، مثلما استفادت هي من تجربة الأمة الفارسية التى تطورت بالاحتكاك معها، فإن الأمم البدوية قد حافظت على أسوأ أشكال النظام الإقطاعي، عبر تحويله إلى إقطاع عسكري.

ولم تفهم الحركة القومية في بدء تشكلها إن الدولة الشمولية السابقة قد قضت على إمكانية نمو البرجوازية العربية النهضوية إبان العصر العباسي، التى أنهكت وسحقت داخل الأقبية الاقتصادية السياسية الفكرية للنظام القروسطي وأن استعادة الدول العربية الإسلامية القديمة، لا يؤدي إلا لتشكيل نظام استبدادي نصف رأسمالي نصف قطاعي، يعيد إنتاج الهياكل الطائفية و#الدكتاتورية العتيقة الرابضة في البنى الاجتماعية التقليدية التي لم تتمقرط عبر البنية الرأسمالية الليبرالية. إن النزعات القومية بعدم نقدها #العصر_الوسيط نقداً ديمقراطياً علمانياً حاسماً وعميقاً، احتفظت بالتركيبة التقليدية المحافظة، ودمجها في رؤيتها القومية الانبعاثية التى ازدحمت بالمفردات #الرومانتيكية، التي تخفي التناقضات الاجتماعية. في سبيل تشكيلة قومية صلبة وعنيفة. 

إن استلهامات القومية من الوعي الالمانى القومي، تعبّر عن إعادة إنتاج تجربة الأمة الألمانية الممزقة قبل وحدة القرن 19، من خلال الأداة #البسماركية العسكرية. ثم امتداداتها #الهتلرية في القرن العشرين، داخل تجرية الأمة العربية الممزقة، والمُراد توحيدها وتطويرها عبر التسريع العنيف. ويمثل ذلك رفضاً للتطور الرأسمالي الليبرالي، والغاء للتطور الموضوعي للحياة العربية، والقفز عليه بإرادة نخبوية، عبر نشاط الحزب الطليعي الرافض للتضادات الاجتماعية والموحد لها بإرادة شمولية قوية. وقد تجسّد هذا بتوجّهها إلى المؤسسات العسكرية وجعلها القوة المهيمنة على الواقع، فأعادت إنتاج النظام الشمولي بتركيبة جديدة، تتجمع فيها علاقات رأسمالية نامية وعلاقات اقطاعية.

وكما رفضت الاتجاهات القومية المرحلية الرأسمالية الديمقراطية في التطور العربي، ومثلما فعلت الأصولية الدينية برفضها جوانب أساسية من هذه المرحلة، كذلك فإن التيارات الشيوعية قامت بالقفز فوق التشكيلة الرأسمالية. لقد غدت الرأسمالية. في وعي «الماركسية ــ اللينينية» طريقاً مسدوداً يجب تجاوزه، عبر الانتقال إلى #الاشتراكية. لقد كانت #الماركسية العربية تستورد الخطوط العامة للتفكير من خارج الوضع الموضوعي للامة العربية. فلم تتوجّه هذه الأحزاب إلى التعاون الاستراتيجي مع البرجوازيات العربية لأجل تشكيل أنظمة ديمقراطية علمانية، تحقق عملية الثورة الوطنية الديمقراطية، بل قامت بالقفز على الشروط #المادية والذاتية، في كفاح يتسم يحرق المراحل، واعتماد الارادية الثورية الذاتية المليئة بالتضحية غير الصبورة، وكان من جراء هذا إقامة أحزاب شمولية ذكورية، تسيطر فيها إرادات الزعماء المطلقي الصلاحية، وتستغل كافة الشعارات المادية والدينية لتحقيق عملية التسريع الثوري التي نتجه إلى دولة شمولية بالضرورة.

إن الجذر الديني يغور في الشعارات #الشيوعية العربية، عبر تشكيل دعي غيبي مستقبلي، تتحقق فية الجنّة الشيوعية الخالية من الطبقات، في الغد المبهم والكلي غير المنظور للإنسانية، فتتم التضحية بالاجيال الحاضرة ويتم العجز عن حل المشكلات العميقة الراهنة، عبر قفزة تسريعية نحو الغد. ويبدو الطابع الديني في الشعارات الشيوعية كذلك عبر النظرة التقديسية لوطن الاشتراكية الأول وللمكتب الشيوعية، وعدم القدرة على معالجة فصل الدين عن السياسة والدولة.

لقد تحققت نتائج مهمة من هذه التجارب القومية والشيوعية عبر نهوض القوى الشعبية وتشكلت تجارب اجتماعية مهمة؛ إلا أن معاندة الواقع الموضوعي، والقفز على التطور الرأسمالي، دمّرت في النهاية الكثير من المكتسبات الكفاحية التي تحققت على مدى عقود سابقة. إن التجربة القومية والشيوعية في استلهامها التجارب الفاشية أو الشيوعية، ونقل نموذج حكم الحزب الواحد، وفرض قيادته على المجتمع؛ وإبعاد القوى البرجوازية العربية، ساهمت في إشاعة مناخ شمولي، وألغت الجوانب الليبرالية والديمقراطية التي تحققت في الحياة العربية.

لقد تحولت النقابات والجمعيات والثقافة إلى أدوات للحزب الواحد، بدلاً من أن تخدم طبقاتها وفئاتها، وتنمي تطورها العصري. وفي سبيل تحقيق هيمنتها تصارعت الاتجاهات القومية والشيوعية بضراوة في الواقع العربي، من أجل الوصول أو البقاء في الحكم؛ وفي سبيل ذلك ألغت أسس الدولة العصرية. إن الاستخدام النفعي الانتقائي للشعارات القومية والدينية والشيوعية في عجينة شمولية، قد حافظ على البنى التقليدية الأساسية: سيطرة الدولة المطلقة ــ سيطرة الدين التقليدي على الوعي والحياة ــ سيطرة الذكور واضطهاد #النساء ‏ــ سيطرة الأغنياء المتحكّمين في أجهزة الدولة وذهاب الفائض الاقتصادي إليهم ‏ــ سيطرة #القبلية و#العشائرية والطائفية الخ…

إن استمرار بقايا المرحلة الإقطاعية في تجارب #الأحزاب القومية والماركسية؛ بعدم كفاحها من أجل الدمقرطة الشاملة للمجتمعات العربية، وترسيخ التطور الرأسمالي بكافة جوانبه، قد جعلها موضوعياً تواصل إبقاء مجتمع الاستبداد الشرقي، مشكّلة قشرة «تقدمية» فوقية تآكلت هي الأخرى.

بدء من الخمسينيات، من #القرن_العشرين بدأت إجراءات إصلاحية ضد الإقطاع في مجال #الملكية_الزراعية بعدد من الدول العربية والإسلامية، ورغم أنها إصلاحات لتحديد حجم الملكية الكبيرة، ومن أجل إدخال تطور رأسمالي في #الأرياف، إلا أن هذه الإجراءات أثارت #الحركات_الدينية المدافعة عن #الإقطاع؛ وبدأت تعيد تنظيم صفوفها وبرامجها، منتقلة إلى الرد الاستراتيجي الشامل ضد الإصلاحات الرأسمالية على صعيد الملكية وبعض الجوانب الاجتماعية(6). كذلك فإن بعض دول #الجزيرة_العربية لعبت دوراً كبيراً في الدفاع عن النظام الإقطاعي، وللوقوف بوجه التطورات التحولية الإصلاحية.

ورغم أن الزراعة محدودة في منطقة الجزيرة العربية، إلا أن سيطرة الدولة على القطاع البترولي أعطى للأسر الحاكمة إمكانيات مالية كبيرة، وامتدادات واسعة في قطاعات #العقار والتجارة و#رأس_المال_المالي والخدمات. لكن هذا النمو الرأسمالي القاعدي الواسع، غير التصنيعي بدرجة كبيرة، لم يخلخل التركيبة الإقطاعية على مستوى البناء الاجتماعي والأيديولوجي والسياسي، ويلعب «الدين» هنا، المفصّل على مقاس هذه السيطرة؛ دوراً محورياً في إخفاء التناقضات وتوحيد الشعب بالقوة.

كذلك جاءت #حركة_التحرر_العربية حينذاك، لتشكّل تضاداً سياسياً وفكرياً حاداً مع هذه الأنظمة. ورغم التباينات السياسية والاقتصادية والفكرية بين النظم العربية المختلفة وقتذاك، إلا أن ثمة تشابهات هامة بينها، فالدولة كانت استبدادية شمولية في مختلف تجلياتها الوطنية أو التابعة، ويلعب المصدر التشريعي الديني، بدرجات متفاوتة، مرتكزاً أساسياً في تشكيل الوعي العام والحكم. أي أن الدول العربية المختلفة حافظت على بنى إقطاعية قوية في أنظمتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وقد يصل ذلك إلى تحول البلد إلى قلعة يحكمها ملك مطلق، يصادر المجلات والأفكار الجديدة، أو إلى جمهورية تسمح بجوانب من الحداثة لكنها لا تصل إلى العظم الاجتماعي للنظام(7).

ورغم أن التحديث الرأسمالي كان يجري على الجانبين التابع والوطني، إلا أن الرسملة لم تقم بإعادة تشكيل الأبنية الاجتماعية، وبناء صناعة واسعة في هذه الأنظمة، وظل فائض كبير فيها موجه للاستهلاك الترفي ولصناديق النقد الغربية. وكان النمو الرأسمالي يقترب من البنى التقليدية السياسية والاجتماعية، عبر تفكيك #الأسر_الأبوية الكبيرة والقبائل، وتحررت أقسام من نساء المدن، طرحت قضية المساواة المرأة بالرجل في كافة شؤون الحياة، وصارت مسألة تحرير المرأة قضية محورية لإحداث تحول نوعي عميق في العلاقات الاقتصادية والاجتماعية.

وفي هذه الحقبة وصل مشروع رأسمالية الدولة الوطنية إلى الأزمة العميقة، بسبب عدم تجذّر التطور الرأسمالي الشامل وانسداده، وسيطرة الدولة الدكتاتورية على الفائض الاقتصادي وإهداره، وقادت التحوّلات الاقتصادية وهبوط أسعار المواد الخام الزراعية إلى تضخّم المدن المهاجرين الريفيين المقتلعين من أراضيهم وعوالمهم. وتواكب تآكل الأبنية الفكرية والسياسية للجماعات القومية والشيوعية مع وصول نموذج التسريع الشمولي الحداثي إلى مأزقه الاقتصادي والسياسي، وأدت الصراعات الجانبية ‏ والحروب والمغامرات العسكرية أدوارها الأخيرة في تقويض هذه البنى.

وفي هذه الأثناء كان النموذج المحافظ يتصاعد في الحياة السياسية والفكرية العربية، عبر استمرار العلاقات الإقطاعية في #الريف، ونقص قوانين #الإصلاح_الزراعي المطبقة سابقاً، و تصاعد دور بعض دول النفط المحافظة في السياسة العربية، وغذى صرفها الأموال الهائلة على تنامي #الجماعات_الأصولية، وكذلك بسبب تفجر الثورة في #إيران وسيطرة قوى #الإقطاع_الديني على مسارها السياسي، ومساعدة الاستعمار الأمريكي والرجعية الدينية لتسلم قوى الإقطاع المذهبي السلطة في أفغانستان، إن كل ذلك قد جعل عودة المد المحافظ اليميني يغذي الاندفاع الأكثر صوب الماضي، فالتسريع هذه المرة نحو الخلف لا للأمام.

لقد استطاع المد اليميني المحافظ أن يشكّل هجوماً عاماً واسعاً على قوى الحداثة العربية لمنع تنامي عمليات التطور الرأسمالي والديمقراطي في الأبنية الاجتماعية والسياسية. وتعيش أقوى وأغلب قوى هذا اليمين على علاقات ما قبل التطور الرأسمالي، إما باقتطاع مباشر من أرزاق وأموال المؤمنين بها، وإما باستخدام جهاز الدولة لسرقة #المال_العام، وقد يتداخل هذان الأسلوبان في العديد من التجارب والأوضاع. وجاءت هذه الأموال الكثيرة لتدعم الجماعات الدينية، وشركاتها المالية.

لقد تبادلت الرأسمالية المتخلّفة، على مستوى العلاقات الاقتصادية، والإقطاع، على مستوى الحياة الاجتماعية والوعي، تداخلهما ووحدتهما. فسيطرة المصدر الإقطاعي على هذا المال، يجعل المحافظة على ينابيعه، السلطوية والفقهية ضرورة أساسية، لإعادة إنتاجه المستمر. كما إن توسّع السيطرة الدينية على المنتمين لهذه الطوائف التابعة، يغدو مصدر أرباح مستمرة. من هنا يغدو الحفاظ على التركيبة الاجتماعية والسياسية المحافظة ضرورة‏ لاستمرار الاستغلال الموسع للجماهير.

إن تشجيع بعض الأنظمة العربية والإسلامية للجماعات الأصولية، دفع وعي المنطقة للارتداد السريع نحو الماضي، لتطبيق النموذج المثالي «النقي» وأدى إلى إبراز آليات المنظومة الإقطاعية العتيقة، عبر تشكل الفرق المذهبية، وأفكارها التي تواصل التشدد مع تنامي عملية التطور الرأسمالي، وبدء تفكك الدول الوطنية دينياً، وتدفق العنف بكل أشكاله.

تعود بنى العنف العربية المعاصرة بجذورها العميقة إلى تكوينات الدولة الإقطاعية العربية ــ الإسلامية، حيث تم بناء واستمرار الدولة، أو معارضتها، عبر العنف. وإذا كان العرب قد عرفوا العنف على أساس صراع القبائل على الموارد، فإنهم واصلوه عبر أشكال الصراع السياسي في العهد الإسلامي. وتشكّلت سياسة القوى المسيطرة عبر حروب الفتوح، واستثمار غلال وخزائن البلدان المفتوحة، ثم لمواصلة تحصيل الخراج، وجلب العبيد والجواري، ولتحطيم قوى المعارضة الدينية غير المركزية، وللسيطرة على القوى الشعبية.

وقد تم استخدام مختلف وسائل العنف للحفاظ على الامتيازات في الملكية والحكم والاستثمار. فكانت أشكال التعذيب وأدواته كثيرة كالجّلد والرّجم وقطع اليد وقطع الأيدي والأرجل معاً والصلب وقطع الرؤوس والأوصال والسلخ والإعدام حرقاً والتشميس وقرض اللحم وإخراج الروح من دبر وقلع الأظافر والتعذيب الجنسي الخ..(8). لقد استخدمت هذه الوسائل كافة القوى السياسية الحاكمة والمحكومة؛ بحيث إن المناخ العنفي القهري شكّل جذور الحياة السياسية والاجتماعية العربية المعاصرة.

وحين جاء الاستعمار كان عنفاً ساحقاً ضد الحياة العربية، وقام بتشكيل سلطاته عبر العنف، ورد عليه العرب بكفاح وطني وقومي واسع، عبر حروب التحرير والثورات.

وحين تشكلت بعض الأبنية الرأسمالية الملكية الليبرالية قامت بإرساء بعض أسس دولة القانون الحديثة، وتم استبدال أشكال العنف القروسطية البشعة بعقوبات معاصرة وأشكال حديثة. إلا أن هذه الإشكال المتحضّرة نسبياً، لم تستطع أن تعالج جذور العنف والتفاوتات الطبقية الصارخة في البنى الاجتماعية. فالعنف ضد الطبقات الشعبية والنساء والأقليات القومية والمذاهب غير الرسمية استمر بقوة.

وفي فترة صعود التيارات القومية ‏ اليسارية اعتمد العنف كسياسة منظّمة لانتزاع الحكم وتثبيته. كانت القوى القومية سبّاقة في الوثوب إلى الحكم عبر الانقلابات العسكرية، وتشكّلت كإرادة شمولية قهرية ضد المسار الديمقراطي السلمي وقد أُعتمدت لغة الثنائية المطلقة في تبرير هذا العنف. فهناك معسكران: معسكر العملاء، ومعسكر الوطنيين. فمهما كانت بعض الجوانب الديمقراطية في أنظمة التبعية فهي عميلة وشريرة. ومهما كانت الأنظمة العسكرية شمولية وقهرية فهي وطنية طيبة. 

وهذه الثنائية الإطلاقية ستستمر مع الجماعات الشيوعية، حيث المعسكرين المتقابلين: معسكر البروليتاريا، ومعسكر البرجوازية.

ولن يكون ثمة جديد في ثنائية الدينيين المطلقة حيث معسكر المؤمنين يقابل معسكر الكفار.

إن هذا الوعي التضادي، المُشكّل على أساس جذور دينية، حيث التفاوت المطلق بين «الإله» و«الشيطان»، يغدو العالم فيه بلونين لا ثالث لهما، ولا بد أن يسلّم الخصم في الجهة المضادة تسليماً أو يُلغى جسداً.

لقد استخدمت الأنظمة والجماعات الحديثة المختلفة العنف ضد بعضها البعض عبر هذه المناظير الضيقة، ملغية الهوامش البسيطة لعصر النهضة، ومزيحة مفردات دولة القانون، مدمرة بعضها البعض، ومحجمة بنية التحديث الرهيفة العربية.

ولقد وقفت الأصولية فوق هذا #التراث_العربي القديم والمعاصر الحافل بالعنف، وأطلقت أدواته إلى أقصى حد ممكن، وهو عنف يستند في نظرها إلى امتلاكها الحقيقة المطلقة، ولديها النصوص الواضحة التي تدعوها للفعل وتحقيق نموذجها وسيطرتها. فلقد تشكّلت في مناخ جعلت فيه قادة التحول التحرري العربي كفاراً، وصورت فيه كل مسار الأمة البطيء الصعب والطالع من أغلالها القروسطية، ومستنقعات التعذيب والجلد والرجم، باعتباره هو الكارثة، وكوّنت لها نموذجاً خيالياً من الماضي، هو عصر صدر الإسلام، انتفت منه المشكلات والصراعات والمظالم. وهو نموذج تّم تقديسه لقرون طويلة، ومُنع النظر العقلي فيه لدى كل التيارات العربية. فتربّت هذه الجماعات على عنف يومي ضد الحداثة والتطور والديمقراطية، وصار النموذج الماضي معدّاً للتطبيق الحرفي بالقوة في كل مكان. وشجعت الأموال والمناخات المحافظة والارتدادات عن التحديث، هذه الجماعات التي تحوّلت إلى عصابات مسلحة للانقضاض على حاضر ومستقبل الأمة.

لقد كان العنف بتجميع السلاح والإرهاب هو خطوات عادية في سيرورة أي جماعة أصولية. إن الأصولية نظام شامل للعنف. عنف ضد الحداثة. عنف ضد المرأة وتحررها. عنف ضد الفنون. عنف ضد الشعوب وتقدمها. عنف مدمر مجاني. عنف طائفي تعصّبي. عنف لعرقلة المسار التحديثي والانتقال إلى المجتمع الرأسمالي بكل مستوياته.

«11»

فقدت البرجوازية العربية تصف التحديثية، نصف العلمانية، زخمها الاقتصادي والفكري والسياسي، وجاءت قوى اجتماعية بعد الحرب  العالمية الثانية من البرجوازية المتوسطة والصغيرة، لتواصل عملية التجديد بأدواتها العسكرية، وقد انهار عملها التغييري واتضحت الأزمة بقوة في بداية السبعينات. ومنذ ذلك الوقت بدأت القطاعات ما قبل الرأسمالية ودول النفط والفئات البرجوازية الكبيرة القديمة والجديدة، بتشكيل الواقع العربي. أما بقية الأنظمة العسكرية فقد تحوّلت إلى أنظمة ‏استبدادية فاسدة، وبدأت تعاني من مجموعة من  الأزمات العميقة الشاملة، فتراكم العجز المالي بسبب سرقة المال العام، وبتفجر الحروب مع الجيران أو بسبب الصراعات الداخلية.

‏وجاء انهيار #الاتحاد_السوفيتي و#المعسكر_الاشتراكي ليعمّق أزمة هذه الأنظمة، والجماعات المؤيدة أو التابعة لها. فهذه الأنظمة والجماعات لم تستطع أن تستوعب النموذج التحولي الديمقراطي الرأسمالي في دول المعسكر الاشتراكي، لتنتقل إلى رأسمالية ديمقراطية. فأسس الدولة الاقتصادية – الاجتماعية العربية لم تزل بعد أسس نصف إقطاعية ــ نصف رأسمالية. ولم تصل إلى مستوى الدول الاشتراكية السابقة، التي أعادت تشكيل بناها في ظل تسريع رأسمالية الدولة الخاص بها.

وعلى العكس فإن معظم دول رأسمالية الدولة العربية «الوطنية» أوصلت مجتمعاتها إلى إعادة بعث للهياكل التقليدية والطائفية والقبلية، وأدى نمو دول النفط في الجزيرة العربية وخارجها إلى تشجيع نموذج رأسمالية الدولة الشمولية ذات الأجزاء الإقطاعية. وعبّر كل هذا عن عدم قدرة الأمة العربية، بهياكلها الإنتاجية ــ الاجتماعية ‏ــ السياسية ‏ــ‏ الأيديولوجية للانتقال إلى المرحلة الرأسمالية الصرفة.

إن الأنظمة العربية المختلفة بعجزها عن تغيير السوق الوطنية، تغييراً رأسمالياً شاملاً، عبر الإلغاء الشامل الإقطاع سواء في ملكية الأرض أم في ملكية النساء أم في الأفكار والنظم السياسية والحقوقية، هيأت الشروط الموضوعية والذاتية لصعود قوى اليمين المتطرّف بطرق الفاشية، لاستلام السلطات في أغلب الدول العربية.

وفي هذا المناخ التحولي الانهياري، اتضح عجز الأدوات السياسية العربية الوطنية والتقدمية، عن #المراجعة العميقة لأدواتها الفكرية والسياسية، وعدم مقاومتها لمسار الارتداد الرهيب في #الوعي والحياة.   

إنها عبر ميراث الدكتاتورية الضارب في وعيها وعملها، لا توجه الكفاح إلى بؤرة المرحلة وقضيتها المحورية. فالكفاح  ضد الدكتاتورية، مهما كانت مدنية أم دينية، في السلطة أم خارج السلطة، في الحكم أم في المعارضة، هو الكفاح المحوري الذي يُبعد القوى الوطنية العربية عن الانتهازية والانتقائية والعفوية.

إن الكفاح من أجل الديمقراطية، هو كفاح ضد الجماعات الأصولية والسلطات الشمولية معاً، وهو كفاح لتحرير القوى الشعبية من كافة أشكال الهيمنة.

إن الدول الدكتاتورية والجماعات الفاشية وأوهام الشعب وسيطرة الذكور المطلقة على النساء، وتذليل المنظمات السياسية والجماهيرية لمصلحة الأنظمة الدكتاتورية، الخ .. كلها ينبغي أن تُواجَه بنضال ديمقراطي واسع وعميق ومتنوع. إن الكفاح من أجل الديمقراطية هو كفاح من أجل العلمنة كذلك، ففصل الدين عن السياسة المعارضة والحاكمة، هو مقرطة سياسية واجتماعية عميقة، وحين يتم الفصل بين هذين الجانبين يتحوّل الكفاح الديمقراطي إلى شعارات سياسية انتهازية.

«12»

يطرح الواقع العربي الراهن أفقاً عاماً عريضاً لحل المشكلات العميقة المتراكمة عبر الحقب السابقة، وعبر التقارب بين مختلف القوى الليبرالية والديمقراطية، المهدّدة من قبل الأصوليات الدينية، والمجمدة أو المضروبة من قبل الأنظمة الحاكمة. إن الأهداف العامة هي استعادة مطالب التطور الديمقراطي العربي، التي تم القفز عليها عبر مراحل التسريع الأمامية السابقة، أو المواجهة من قبل مشاريع التسريع الماضوية الدموية الراهنة، وهي #تحرير_المرأة، وتحرير الدولة عن الدين، وتحرير الدين من سيطرة الإقطاع، وتشكيل وتعميق الحريات وتجذير المسار الصناعي الوطني والعربي الخ ..

إن الخط الأساسى لهذا المسار العربى المتلوّن حسب مستويات تطور البنى الاجتماعية، هو في تشكيل تحالفات ديمقراطية واسعة، تعزل القوى الدكتاتورية وتهزمها.

إن الدول والجماعات السياسية نصف الدينية والتي تريد مقاومة التيارات المتشددة، الداعية إلى أقصى تطبيق حرفي للدين، وأوسع اعتقال للإنسان، تجابه بالمزيد من المشكلات وفقدان المصداقية، كما تؤدي عملية الاستغلال البرجماتي للدين إلى إعطاء فرصة لمزيد من نمو التيارات الأصولية.

إن السلطات العربية التي تقاوم الجماعات الدينية من خلال الدين، تتجه إلى الحقل الأيديولوجي للجماعات المتطرفة، وتنزلق تحت ذات المظلة الفكرية، عبر تنامي لغة المزايدة حول الدين وتمثيل المؤمنين. إن هذا الإنزلاق من قبل الأنظمة الرأسمالية العربية المتخلفة، يشبه انزلاق الجماعات الحديثة السابقة نحو الشبكة القعرية العميقة للإقطاع؛ ولهذا فإن الأنظمة العربية تقوم بتقويض أساسها الفكري الهش، وحينئذ فإن المعركة تنتقل إلى مسألة السيطرة على الحكم(9).

إن السلطات العربية بتعبيرها عن قوى برجوازية كبيرة أو برجوازية عسكرية بيروقراطية وعن ملاّك الأرض الكبار، تعبّر عن استمرار التركيبة المزدوجة بين الإقطاع والرأسمالية؛ وبين العصر الوسيط والعصر الحديث، فتضع كل قدم في عصر، مواصلة رحلة الانشراخ العربية.

إن هذه الازدواجية هي المدمرة، فلا بد من اقتلاع جذور الإقطاع الاقتصادية والاجتماعية وفصل السياسة عن الدين، وتحرير الدين من الاحتكار الإقطاعي القروسطي له، وتشجيع برجزة الإسلام، والقيام بإصلاحات عميقة في التركيبة الاجتماعية التقليدية، عبر المساواة بين الرجل والمرأة، وجعل الدولة لا دينية، ومساواة كافة المواطنين أمامها.  وإن ذلك لا يتشكّل دون نضال واسع من قبل القوى الحديثة العربية الديمقراطية، وهي تقوم بتجديد نفسها  ديمقراطياً، وعلمانياً وتوجيه القوى الشعبية والبرجوازية الصناعية خاصة، والنساء والمثقفين.

إن إعادة ترتيب الأولويات السياسية والاجتماعية يبقى ضرورياً لمواجهة انتكاسة التطور، فلم يعد أساساً تحرير الشغيلة، بل تحسين ظروفهم وتطورهم الفكري والسياسي، وغدا تحرير المرأة والدين والعقل ركيزة أساسية لإعادة تشكيل البنى. وإن التعاون الواسع بين العمال والبرجوازية الصناعية، سيغدو مهمّاً لتشكيل قوة مشتركة تؤسس رأسمالية حديثة، ولا يجب أن يتوجّه النضال المطلبي وتطوير حياة العمال إلى تجاوز الرأسمالية.

إن توسع الأشكال الطفيلية من #رأس_المال، وتفاقم السياسة الليبرالية الجديدة الموجهة ضد الشغيلة، وتدفق الشركات المتعددة للنجنسية وعمليات القفز فوق الأطر الوطنية والقومية كلها مشكلات كبيرة، ولكنها لا تقود بالضرورة إلى تجاوز للرأسمالية بصيغ متسرعة، بل إن تدعيم رأسماليات عربية صناعية ــ‏ زراعية ‏ــ‏ علمية هو الأمر الذي يضع القواعد المالية لتغيير التراكيب التقليدية المحافظة في المجتمعات. إن الدفاع عن الطبقات الشعبية ومصالحها في الحياة والتقدم،  يترافق مع الكفاح من أجل الديمقراطية والعلمنة. عبر الصراع ضد مختلف تجليات الاستبداد القديمة والحديثة.

خلاصة

حين بدأ أنهيار الدولة العثمانية، وتغلغل الرأسمال والسيطرة الأوروبية، بدأ النظام الإقطاعي العربي المجزأ في الانهيار التدريجي البطيء، عبر مستويات عدة، وعبر مناطق وبلدان وأزمنة متفاوتة. لقد كانت المراكز المدنية الأساسية هي البقع الأولى في هذا الخروج الحديث، ثم تبعتها الأقاليم القريبة في الأرياف والمناطق الصحراوية، التي جاءت كحلقات أخيرة من الانهيار الإقطاعي والنمو الرأسمالي، وعبر فترة زمنية امتدت من أوائل القرن التاسع عشر حتى أواخر القرن العشرين. ولكن الانهيار الكلي على مستوى الملكية وعلى مستوى البنى الاجتماعية والسياسية لم يتم حسمه حتى هذه السنوات الأخيرة من القرن العشرين، ويبدو أنه بحاجة إلى عقود أخرى من القرن الواحد والعشرين.

لقد حدث تباين وتداخل بين بنيتين متصارعتين مختلفتين: بنية تقليدية آفلة لها كل مفرداتها الاقتصادية والاجتماعية والأيديولوجية، والتي لم تُخترق إلا في جوانب معينة، وخاصة في الاقتصاد. وقد عبّرت عن هذه البنية الأصوليات الدينية المختلفة وثمة بنية رأسمالية حديثة تنامت عبر جوانب عدة، ولكنها لم تحسم انتصارها الكلي على البنية القديمة. وعبّرت عنها مختلف التيارات السياسية الحديثة.

وكما إن البنية الاجتماعية القديمة راحت تتخلخل وتتساقط أجزاء منها، فإن مفرداتها الفكرية والسياسية راحت تتآكل هي الأخرى، بفعل تيارات التحديث المتتالية، التى تكوّنت كحلقات مرتبطة بنمو الجماعات وصراعاتها، وبتشكل قاعدتها الاقتصادية غير الحاسمة. ومع تعرّض النظام التقليدي للانهيار التدريجي، بدأت قواه بمقاومة واسعة؛ تجسّدت بإحياء وتنشيط الهياكل العبادية والمؤسسات ‏الدينية والقبلية.

وبدأت الاحتجاجات الأولى ضد الإجراءات الاجتماعية الحديثة المتخذة ضد الإقطاع الزراعي والأسري، تتحول إلى منظومة أيديولوجية – سياسية، تختبيء وراء المقولات الدينية المقدسة لدى المؤمنين بها، وتستثيرها بقوة سيطرة على الناس ووقفاً لمسار التحول الديمقراطي ولتحلل سيطرتها على شبكاتها الطائفية ــ البشرية. 

وراح الاختيار الحاسم بين بنية تقليدية وبنية رأسمالية صاعدة يتحول إلى مجابهة عميقة وواسعة ودامية، وكلما ازداد التطور الرأسمالي عمقاً ازدادت نزعات الارتداد والمقاومة، خاصة مع تفاقم المشكلات المترتبة على التطور الرأسمالي الدولتي البيروقراطي الفاسد أو الرأسمالي الفوضوي.

لقد قاد الكفاح ضد الرأسمالية والحداثة إلى عصاب فكري وسياسي، مع تشكّل الحركات الأصولية، التي وضعت التركيبة القديمة المحافظة في مجابهة لا تقبل المساومة ضد التركيبة الحديثة، محوّلة المجابهة إلى حرب أهلية عربية حقيقية أو مضمرة.

أما أشكال التداخل والتلاقح المختلفة التي أيّدتها وكرّستها معظم الاتجاهات السياسية العربية بين الإقطاع والرأسمالية، خاصة مع تعثّر هذه الرأسمالية ومشكلاتها الكثيرة المؤلمة، فقد غدت لا مبدأية ولا أخلاقية ولا عملية. وإن أشكال التلاحقات بين العصرين وبين البنيتين، غير المبدئية والثقافية، قد عرتها الأصولية بقوة شديدة مركزة على تهافتها. جاعلة من هذه المبدئية الارتدادية الظلامية قوة حماسية كبرى، ونشيداً عسكرياً قروسطياً لاحتلال المدن المتذبذبة.

إن ارتباط النمو الرأسمالي بسيطرة الدولة الشمولية سواء كانت وطنية أم تابعة، قد أوقف التطور وعرقله بسبب الفساد وتحجيم الرأسمالية الصناعية، وضرب الحريات المختلفة.  وجاء تصاعد دور بعض دول الخليج العربية، وإيران، عبر رأسمالية الدولة الغنية المحافظة؛ ليعزز الارتداد الماضوي، ثم وصلت الرأسماليات العربية الدولتية غير الديمقراطية والهجينة إلى أزمة واسعة مع بداية التسعينيات.

لقد وجدت الجماعات الأصولية في هذا المناخ المحافظ والمأزوم رأسمالياً وحداثياً. العاجز عن خلق الرأسمالية مع ادعائه الانتساب إليها، القدرة على الادعاء بأنها مؤهلة لإنقاذ الأمة. إن سيطرة الدول على أجزاء مهمة من الاقتصاد، وضعف مستوى البنى الصناعية – العلمية، وسيطرة القطاعات الزراعية والرعوية والحرفية «وهي القاعدة المادية للماضي» وتوجّه الرأسمالية العربية نحو القطاعات المالية والتجارية وإرسال الفوائض المالية الهائلة إلى الغرب واستنزافها بشتي الأشكال، وعبر الأزمات العسكرية والاقتصادية، وتضارب التيارات الحديثة العربية، إن هذا جعل إمكانية تشكيل أنظمة شمولية باسم الدين أمراً فعلياً. إن ذلك يفتح الباب لحمامات دم غزيرة، ويؤدي لانهيارات الوحدات الوطنية وتفجر الحروب المذهبية.

إن المبدأية والتماسك الفكري والأخلاقي غدت أساسية في الصراع ضد التيارات السياسية التى تستغل الدين لأهداف أنانية ومتخلفة؛ ولم يعد من المقبول التلاعب بمشاعر المؤمنين عبر انتهازية وانتقائية المواقف، وبعدم كشف الحقائق الموضوعية عن التاريخ والواقع لهم؛ استخراجاً لعلمانية شعبية كامنة صارعت كثيراً لوقف تقدم الهيمنة الدينية الإقطاعية الشاملة على كل شعرة من جلودهم.

إن تكوين البنى الحديثة الديمقراطية صار هو الخط الاستراتيجي الذي يشكل العمود الفقري لتحالف. علماني عربي واسع النطاق، يستهدف وقف تقدم الشموليات الإرهابية الجديدة، وهزيمتها.

إن وطناً كبيراً ينتظر جهوداً جريئة وكبيرة لكي يطلع من مستنقع الدم المعد بجهل وقسوة. 

إن نظرة نقدية عميقة، علمانية أصبحت ضرورة لإعادة تشكيل وعينا بالتاريخ وبالواقع المعاصر.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) (أن.. غياب الملكية الخاصة للأرض، واحتكار الدولة، أي قمتها، لريع الأرض، والاستئثار بالفائض الاقتصادي، ووضع الأسس الراسخة للاستبداد السياسي، ووضع في أيدي الحكام وسائل إضافية للقمع والطغيان) #عبدالله_حنا (النهضة والاستبداد) ص 31، دار الأهالي، دمشق الطبعة الاولى.

– راجع: #سوسيولوجيا_الفكر_العربي #محمود_اسماعيل الجزءان الثاني والثالث.

(2) #رفعت_السعيد (حسن البنّا)، دار الثقافة الجديدة. مصر، ص 13 ـ 50، الطبعة الخامسة.

(3) (ارتفع نصيب الرأسماليين المصريين في الشركات. حيث بلغ في منتصف الثلاثينيات 47% مقابل 53% للأجانب، ونظراً لتخوفهم من إيداع تراكمات أموالهم في المصارف، فقد اتجهوا الى توجيهها لشراء أراض زراعية بالريف)، د. #محمد_حافظ_ذياب: «سيد قطب: الخطاب والأيديولوجيا» ص 26، دار الطليعة، بيروت، الطبعة الاولى.

(4) المصدر السابق. الفصل الثاني ص  79 – 109.

(5) «الفكر العربي وصراع الأضداد»، د. محمد جابر الأنصاري ص 363- 441، المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت. الطبعة الأولى.

(6) «المادية والفكر الديني المعاصر»؛ #فالح_عبدالجبار، ص 192: مركز الأبحاث والدراسات الاشتراكية؛ بيروت.

(7) المرجع السابق ص 210.

(8) «فصول من تاريخ الإسلام السياسي»: #هادي_العلوي، ص 285 مركز الأبحاث والدراسات الاشتراكية بيروت، الطبعة الأولى.

(9) «هم يعارضون المجتمع المدني، هم يواجهون كل ما بنته مصر عبر قرن ونصف القرن من الزمان من دستور وقانون وضعي، وفكر ليبرالي، وحريات وديمقراطية نسعى كي تكتمل، هم ضد العقل والعلم والثقافة وحرية الرأي، هم ضد الفن والأدب والموسيقى، وكل ما أبدع المصريون طوال تاريخهم الحديث» د. رفعت السيد: «الإرهاب إسلام أم تأسلم» ص 262، دار سينا للنشر.