الراوي في عالم محمد عبدالملك القصصي

توطئة

تحاول هذه الدراسة أن تطرح شيئاً جديداً على صعيد دراسة القصة القصيرة في البحرين والأدب العربي عموماً، عبر دراسة محور فني معين كجزء من دراسة العالم القصصي، وهذا المحور هو محور الراوي، أي كيف يتحول الكاتب القاص إلى راوٍ، أو مسجل للوقابع والشخوص، وما هي علاقة عملية رويه  بالأجزاء الأخرى من القصة لديه.

لا شك إن وجود الراوي المستمر يعتبر ثيمة فنية ليست في قصص محمد عبد الملك المدروسة هنا فحسب، بل في كل قصة تعتمد على موضوعة التسجيل والأرشفة الاجتماعية، ولا شك إن كثرتها واستمرارها تعبر هي الآخرى عن جوانب دلالية عديدة.

وهذا التعبير قد خص جنساً قصصياً محدداً «وهو القصة القصيرة»، وهو أمرٌ ذو دلالة تعبر عن حداثة نشأة القصة القصيرة في الأدب العربي بالبحرين والجزيرة العربية.

وقد ذكر الناقد المصري أحمد محمد عطية:

«نشر محمد عبدالملك أولى قصصه بعنوان «رحلة الصقور» بجريدة «الأضواء» البحرينية في أخر مارس 1967، ولكنه لم يضمها لمجموعته القصصية الأولى «موت صاحب العربة» أو لأي من مجموعاته التالية»1.

إن ظهور القصة القصيرة الجديدة في البحرين في نهاية الستينيات، يعبر عن البداية الشاقة لهذا الفن في المنطقة، وحتى التاريخ السابق للقصة القصيرة لم يؤد إلى تجذرها ورسوخها كجنس أدبي ذي أهمية كبيرة في عالم الأدب المعاصر.

ومن هنا يغدو محور الراوي وسيطرته ذي دلالة على الصراع بين عملية تجذر هذا الجنس واستقلاله الفني، أو عدم ترسخه وتشابكه مع أنواع أدبية وكتابية أخرى، كالتحقيق الاجتماعي أو التسجيل الثقافي أو الريبورتاج الشخصي.

وتعبر هذه اللحظة الفنية وديمومتها عن هذا التداخل بين المستويين التعبيريين، وهو أمر قد نجده يتكرر في الآداب القصصية التسجيلية، والتي قد تنزل أحياناً إلى كتابة الحوار باللهجات العامية كتعبير «صادق» عن الواقعية، مما يعبر عن حاجة الوعي المبسط هنا في خلق مثل هذه التسجيلية، رغم أن أقساماً من الصحافة قد اختصت بمثل هذه العملية التصويرية. في حين إن الأدب القصصي يتوجه إلى طبقات تعبيرية أكثر تركيباً وعمقاً.

أي أن مسألة الراوي في هذا التاريخ الفني تختلف عن حضورها في سياقات تعبيرية تاريخية أخرى، فلحظتنا التي نرصدها تتشكل في بواكير حركة قصصية، في منطقة بكر بالقصة القصيرة الحديثة، رغم تاريخها السامق في أنوع الأدب الأخرى، ومن هنا تعبر مسألة الراوي عن جوانب من التسجيلية، بل لدى محمد عبدالملك تتشكل كبنية فنية تبدأ من التسجيل المحدود، الذي يتطابق والقضايا الاجتماعية والسياسية المباشرة، وبالجوانب المتجاوزة في القص الحديث2، إلى جوانب عميقة وقضايا نفسية وفكرية مركبة، وهو أمر يوجه مثل هذا المحور إلى أبعاد جديدة.

لكن الدراسة لا تدرس محور الراوي إلا بتداخله وصراعه مع محور آخر؛ هو المحور القريب من القصة الحديثة، فتقوم بعرض موادهما القصصية المختلفة، وتحللهما عبر المجموعات التي أصدرها الكاتب.

وسنجد خلال هذه المجموعات موضوعات كثيرة، ورؤى متعددة فيها، حسب تطور الكاتب واختلاف وجهات نظره، وبالتالي فإن محور الراوي ومحور القصة الفنية يتداخلان وتاريخ البلد المصَّور، فكما أن البلد وضع بتاريخه الثقافي الخاص إمكانية تشكل مثل هذا الأسلوب، فإن هذا الأسلوب يقوم باكتشافه ويتطور هو نفسه عبر التغلغل فيه.

إن الأسلوبين ليسا فنيين بشكل مطلق، كما أن موضوعاتهما وتبدلاتها، ليستا فنية بشكل مطلق، فالأسلوبان مرتبطان بنظرة الكاتب التي هي جزء من الوعي الثقافي والإيديولوجي العام، وهذا الوعي جزء من وعي الفئات الوسطى وحركتها السياسية والاجتماعية في بنية اجتماعية ذات مسار تاريخي خاص بها، وعام مرتبط يتطور الأمة العربية، وكل هذا يتجسد في الأبنية القصصية وأساليبها.

وكما أن الأسلوبين مرتبطان بالإنتاج المادي والثقافي، فلهما أيضاً ارتباط بالقارئ، فدرجة تطور القراء ومستوياتهم تؤثر أيضاً على تطور أو جمود الأساليب الفنية.

وسنقوم في الكتاب النقدي بعرض القصص وموادها، بحيث يتاح القارئ أجواءها وصورها ومواقفها، كما نقوم بتحليلها بشكل ملموس متنام عبر الفصول، بحيث تتكشف له الموضوعات والثيمات والمحاور والدلالات جميعاً.

إن اختيارنا لهذا الكاتب ولهذه القضايا الفنية هي عملية حفر مغايرة للمناهج النقدية التي لا تولي تشكل #المدرسة_الواقعية أهمية كبيرة، نظراً لارتباط هذه المدرسة بقضايا الحرية الاجتماعية وتصوير حياة الناس في ظل أنظمة شمولية، تعمل على تغريب المدارس الأدبية والفنية، أو تسطيحها، بحيث لا يتم تشكل حفر معرفي وفني في هياكلها.

 نشأت #القصة_القصيرة_في_البحرين والخليج العربي في الأربعينيات والخمسينيات حين ظهرت الصحافة التي ارتبطت بدورها بعملية التغيير السياسي والاجتماعي المتشكل ببطء في المنطقة.

لقد كان ظهور القصة القصيرة صعباً رغم تشكلها في الأقطار العربية الأخرى، وحين بدأ كبار المثقفين البحرينيين بالإنتاج الفكري والإبداعي، اختاروا الشعر والمقالة السياسية.

فإبراهيم العريض الذي بدأت ممارسته الإبداعية تتشكل منذ أوائل الثلاثينات، توجه للشعر، والمسرحية والملحمة الشعرية، وفي كل نتاجه الشعري هذا كانت القصة داخلة في نسيجه، دون أن تتجسد بنوعها المستقل.

كذلك برزت في صحافة الخليج النادرة وقتذاك ترجمات من القصص العالمية خاصة في جريدة البحرين «1939 ـ 1945»، وظهرت فيها قصص محلية كانت تتخفى تحت أسماء مستعارة، وكانت قصصاً قليلة.

ويعبر توجه كبار الكتاب للشعر، وتواري قصاصين وراء الأسماء المستعارة، عن القيمة السلبية لفن القصة، رغم وجوده الكثيف في القرآن والكتب الدينية عامة.

لكن عبر تدفق الوعي والنهضة المستمرة في البحرين أخذت مكانة القصة تتسع، ففي مجلة «صوت البحرين» التي ظهرت في أواخر الأربعينيات، ظهرت أسماء حقيقية كرست جزءً من نشاطها كله أو جزءً رئيسياً منه من أجل فن القصة.

كان أبرز الكتاب هما #أحمد_كمال و #علي_سيار اللذان استمرا في إنتاج القصة القصيرة لبضع سنوات، ولكنهما تركاها أيضاً، وكرسا نفسيهما للصحافة، وواصل علي سيار علاقته بالقصة في البحرين عبر جريدة «القافلة» التي كتب فيها قصصاً قصيرة جداً، ثم تركها للمقالة، ليعود إلى القصة القصيرة أثناء وجوده في الكويت، حيث صاغ مجموعته القصصية الوحيدة ونشرها في البحرين سنة 1975 عن دار الغد.

يعود ضعف فن القصة في البحرين والخليج وقتذاك إلى تأخر النهضة عن الدخول إلى الجزيرة العربية، أسوة ببقية الدول العربية، التي بدأت العملية الإبداعية منذ أوائل القرن العشرين بصورة فنية.

كذلك فإن الميراث التقليدي الذكوري السائد نظر إلى فن القصة بصورة متدنية، وحين بدأت المؤثرات الفكرية والفنية بالتوغل في المنطقة فإن قصص المنفلوطي وميلودراما السينما المصرية كانت هي المنتشرة في الذهن الثقافي العام.

ومن هنا كان الوعي الفكري الذي يرفد هذه العملية الإبداعية المتعثرة هو وعي إصلاحي خطابي يركز على إصلاح العائلة، باعتبارها هي بؤرة الإصلاح الاجتماعي المنشود. وهذه العائلة بطبيعة الحال تظهر كنسيج جديد في محيط قبلي، وهذا التضاد والتجاوز هو أقصى ما استطاعت القصة القصيرة طرحه من مضمون اجتماعي. أي أن مفردات الواقع الموضوعية كالشعب والحداثة والطبقات والاستعمار، لم يكن من الممكن وصولها إلى هذا «القالب» التعبيري.

 إن هؤلاء الكتاب القليلين المنبثقين من الفئات الوسطى المتعلمة، كانوا أقرب لـ«الحداثة»، ولهذا لكي يطرحوا خطاباً فنياً «هادفاً» كان لا بد لهم من التوجه لتغيير المجتمع، ولا يمكن في نظرهم تغيير المجتمع دون إصلاح العائلة، التي هي البؤرة في عملية الإصلاح المنشودة، ولهذا كانت العائلة ومشكلاتها هي الموضع الفني السائد.

وبطبيعة الحال كان هذا يترافق وظهور العائلة الصغيرة، المنسلخة من القبيلة، ومن البيوت الكبيرة، وكان هذا شكلاً لتعي الفئات الوسطى وجودها المميز المنسلخ من الحياة التقليدية.

إن المجتمع الإقطاعي المحلي يقوم على هيمنة شكل القبيلة على الحياة الاجتماعية، ولقد كانت القبيلة هي التكوين القرابي المفيد والفاعل في عمليات تشكل المدن والقرى في بدئها، وكانت عمليات الإنتاج في البحر والريف تتم على هذا الأساس العائلي الكبير، ولكن هذا التكون القبلي أصبح معيقاً للتطور مع ظهور المدن ونموها، وتشكل المصالح المتضادة بين البحارة والفلاحين من جهة، والربابنة والطواشين «تجار اللؤلؤ» والشيوخ، من جهة أخرى.

ومع نمو التجارة وظهور التكوينات الاقتصادية والاجتماعية الجديدة، بدأت الفئات الوسطى المدنية في طرح ضرورة التجديد في الحياة، وفي كل مستوى من مستويات البنية الاجتماعية كان هناك شكل من التفكير، وهذه العملية استغرقت عقود الثلاثينيات والأربعينيات والخمسينيات، حيث بدأت بصورة أدبية وفنية، بطرح الأنواع الفنية والأدبية الحديثة، وتوجت بالتيارات الفكرية والسياسية.

إن النمطين الأساسيين من وعي الفئات الوسطى البحرينية والعربية، فكلها يعكس درجات من منظومة اقتصادية اجتماعية كبرى، هما الوعي التابع للغرب، والوعي التابع للإقطاع السياسي والمذهبي.

ومن هنا كان وعي الفئات البحرينية في ذلك الزمن من تطورها، يطرح الجمع بين الغرب والإسلام، وهو شكل من الوعي النهضوي الأولي الذي كان مصاحباً للنهضة العربية الأولي، عبر الأفغاني ومحمد عبده وكذلك عبر #فرح_أنطون و #سلامة_موسى.

وفي المستوى الإبداعي فإن مثل هذا الوعي لم يستطع سوى أن يشكل بدايات الأنواع الأدبية، وفي الموضوع كان موضوع الأسرة ومشكلاتها هو البارز كما قلنا في القصة القصيرة، وقد أُخذت الأسرة كمفتاح لمعالجة المشكلات، بزحزحة التقليد ولتكوين جمهور فكري للفئات الوسطى المشتغلة بالعمل الفكري والسياسي الجنيني.

لقد ظهرت الأسرة الحديثة كشكل اجتماعي يعكس التطورات الحديثة في الحياة، وكانت هي البديل لهيمنة الإقطاع والعائلة ذات النمط الأبوي، وعبر العائلة الحديثة وقيمها يمكن تغلغل المفاهيم الحديثة من مساواة وتعاون والجمع بين التقاليد الإسلامية «السمحة» والعصر، وكذلك قيم الحب بين الرجل والمرأة، وإنجاب أطفال متعلمين، وبالتالي فتح الباب لقيم النهضة المختلفة.

وتغدو كل الظواهر الاجتماعية المعيقة لوجود مثل هذه الأسرة الحديثة ظواهر سلبية، ابتداءً من الخرافات والدجل إلى المهور المرتفعة واستهتار الأب: الرمز الاجتماعي للأبوية المريضة.

وبطبيعة الحال فإن الوعي القصصي والفني عموماً يأخذ هذه الأسرة كشكل مطلق، خارج البنية الاجتماعية، رغم تحسسه أحياناً لعلائقها، فيغدو إصلاحها هو إصلاح المجتمع وتغييره.

وثمة عشرات التجسيدات لهذا الموضوع، وثمة شكلان أساسيان لها، والأول أن تكون الأسرة في مرحلة الكمون، والثاني أن تكون في لحظة الوجود الحقيقي.

فقد نجد شاباً أرغم على الزواج من أخرى لا يريدهاً فتغدو الحبكة القصصية قائمة على إثبات فشل هذا الإرغام.

أو أن نجد أسرة سعيدة ولكن تنشأ عراقيل تمنع استمرار سعادتها فتهدمها، وتغدو الحبكة إثبات الحصاد الأليم لهذا التفكك الأسري وتحطيم الخلية الأساسية للمجتمع دعامة النهضة.

في قصة «جناية أب» لأحمد سلمان كمال نجد الشخصية الحورية وهو الابن يرى أمه وأخته الصغيرة تنتقلان إلى بيعت من بيوت السعف السائدة وقتذاك، كمساكن للأغلبية العاملة، بعد أن طلق أبوه أمه، ولكن الولد لم يكن يعرف حينئذ معنى الطلاق، ويظل مع أمه وأخته، إلى أن يكبرا، فينتزعهما الأب من أمهما ليجعلهما يعيشان الذل والعذاب في خدمة زوجته الجديدة التي تؤذيهما كثيراً بل أنهما يتحملان المرض وغياب التعليم، من أجل مواصلة العريش، وحين تتوفى أمهما يحرمان حتى من الذهاب إلى جنازتها  وحينئذ يهرب الابن من بيت والده ليتلقفه الشارع. وحين يعمل عملاً شاقا لا يلبث أن بصاب بعاهة تلزمه الفراش فيضطر للاستجداء لكنه يواجه سخرية الناس، وتدفعه كل هذه الظروف الاجتماعية أخيراً إلى السرقة، أما أخته فقد اندفعت نحو «الرذيلة» كي تتمكن من مجابهة قسوة الحياة بمفردها.

وفي قصة «المجنونة» لنفس المؤلف يرغم الأهل المرأة على الزواج من رجل كبير السن لا تحبه، لأنهم أرادوا استغلال الرجل، والأهل عائلة متواضعة الحال، ينتهزون فرصة تقدم الشيخ الثري لخطبة ابنتهم، من أجل الخروج من وضعهم الصعب. ولكن ما أن يقوموا بهذا العمل حتى تتدافع الكوارث عليهم وعلى المرأة بوجه خاص، فقد ذهب جمالها وتصاب بالسأم من هذه الحياة ثم تنجب وتشيخ بصورة مبكرة وفظيعة وتتوفى عنها أمها ثم أبوها ويمرض زوجها فتزداد حياتها مرارة حتى تُصاب بالجنون لتندفع في فورة غضب نحو زوجها فتقتله وتظل هائمة ليرعاها أحد أقربائها وسرعان ما تقتل نفسها كذلك.

إن الكاتب في القصتين لم يختار لحظة محددة من حياة شخصياته، بل قام بسرد تاريخها كله، وهو تاريخ يبدأ من لحظة الطلاق أو الزواج. في القصة الأولى التي تبدأ بالطلاق فإن المآسي العديدة تتدافع على الشخصيات دون أن تدع لها مجالاً للتشكل الفني الموضوعي، فلا تتجذر في مكان أو زمان، كذلك فإن بنيتها النفسية الداخلية لا تتشكل، وتغدو المواقف القصصية مفروضة عليها من الخارج، فتصير تكوينات القصة لا تنمو من بناء موضوعي، بل بإرادة المؤلف.

وتؤكد القصة الثانية ذات الطريقة الفنية، ويُلاحظ هنا التعبير عن مواقع الأحداث بالشكل الميلودرامي العنيف، حيث تصح القصة القصيرة قالباً من الوقائع القاسية المفروضة من الخارج دون أن يكون للشخصيات والبناء واللغة، دور في تكوين مقاومة ما.

ونجد هذه الطريقة التعبيرية لا تنطبق على القصة القصيرة البحرينية بل على الكويتية أيضاً، بسبب مستوى التطور الاجتماعي المتقارب.

فنجد في قصة «ظلام» التي كتبها #فهد_الدويري و #حمد_الرجيب بصورة مشتركة نفس القسمات القصصية البحرينية، فهي تقدم لنا شخصيتين «رجل وامرأة» هاربتين من المجتمع، تجمعهما القصة في مغارة مماثلة لظلمة أعماقهما المنهارة. وندرك بأن المرأة قد مزقت طفلها الوحيد! أشلاء ورمتها انتقاماً من أهلها الذين أرغموها على الزواج من رجل كبير السن لكي يرثوا أمواله عن طريق ذلك الطفل، أما الرجل فهو أيضاً كان هارباً من أهله بعد أن أرادوا تزويجه من امرأة تحقق لهم طموحاتهم في النسب والمال.

نجد هنا تخففاً من سلسلة المصائب والكوارث التي اعتاد أحمد كمال حشدها في كل قصة من قصصه، بل شيئاً من التقنية الفنية التي وحدت شخصيتين في مغارة ذات شعاع رمزي واضح، ولكنها أيضاً اعتمدت على نفس النسق من الميلودراما الحدثية المرعبة خصوصاً في قتل الأم لطفلها.

إن القصة هنا تلغي الحدث الموضوعي وبناء الشخصية ورسم الوسط والنسيج العضوي، معتمدة على توصيل فكرتها الأخلاقية الوعظية بالأحداث والشخوص العنيفة المتقلبة، وعبر لغة زاعقة تترافق ومثل هذا النسيج.

ولم يستمر هؤلاء الكتاب في إنتاج القصة القصيرة بل سرعان ما توقفوا، ولكن مثل هذا النمط القصصي استمر بعد ذلك في النتاج غير الفني للقصة وفي بعض المسرحيات والتمثيليات الإذاعية والتلفزيونية، بل لقد عاد لدى قسم من الشباب في أواخر القرن العشرين الذي لم يتابع تطورات القصة الفنية.

بينما اعتمدت طريقة أحمد كمال على المبالغات الميلودرامية ومشاعر الشخصية المغرقة في الحزن المعتم، فإن علي سيار استند على #ميلودراما أقرب للحياة، وفي أحيان عدة على ملامح تقترب من الواقعية.

وقد تجاوزت مجموعته «السيد» المستوى الذي وصل إليه فن القصة القصيرة وقتذاك، ولكن المجموعة عكست كذلك الحدود التي لم يستطع ذلك الفن تجاوزها.

تبدأ القصة بعد أن يُسجن بطلها الشاب. إنه يجلس في الزنزانة مُسترجعاً شريط حياته القصير بشكل مكثف وسريع، ملتقطاً أهم الحطات فيه، وهذه العملية الاسترجاعية رغم الرسم المسبق لها، إلا أنها أكثر حيوية ومعقولية من كهف الدويري والرجيب، والراوي يزعم في البدء إنه يبدأ شريط الذكريات في عيد الأم، ويصادف ذلك إن يوم عيد الأم هو يوم عيد ميلاده، والقاص يهدف من وراء هذه المصادفات العطف على الطفل السابق، اليتيم حالياً، والمسجون كذلك، والمحروم من الأم ومن العيد ومن الحرية!

تبدأ القصة في استرجاع خيوط «المأساة» من تطليق أبيه لأمه، أي أن تفكك العائلة هو باب المصائب التي ستتوالى بعدئذٍ. إن أباه يستدعي أمه فجأة، ويتضح للابن الصغير إن لهجة أبيه تنذر بالخطر، وفعلاً يحدث الانفصال ويتجه الصبي مع أمه إلى بيت الجدة.

ولا نجد هنا أي تفصيل هام عن الأب، وسرعان ما تنقطع علاقته بولده، ولا نجد هنا أي أثر للنفقة الشرعية الدينية، وتواصل الشخصية سرد حكايتها، فهي تندفع للعمل مساعدة لأمها، التي تشتغل ليل نهار، ويجد الصبي عملاً عند إحدى الأسر الغنية التي تفصله عندما وصل سن السادسة عشرة سنة خوفاً على بناتها، وأخيراً يقع في براثن تاجر يتظاهر بالطيبة وسوء الحال، لكي يحوله إلى مهرب محترف، فيقع في يد الشرطة.

 إن القصة مصاغة بعين الراوي، الذي ليس هو المؤلف، ويتيح ضمير المتكلم جعل الشخصية هي التي تفعل وتعبر، مما يجعلها أقرب للصدق، ولكن هذا الروي البسيط تكرس عبر السرد فقط، ولم يتضفر وأشكال أخرى من التعبير كالحوار. ومع ذلك فهذه درجة من الموضوعية الفنية لم نبلغها سابقاً.

 لقد بدأنا من الأسرة باعتبارها الخلية الأساسية للمجتمع، وكان مرض هذه الخلية هو بسبب   استبداد الرجل/الأب وتطليقه للأم. ويقدم المؤلف صورة مغايرة لاستبداد الرجل، حين يصور كيف عملت المرأة الأم بدأب وتضحية من أجل تنشئة ولدها، ولكنها مع ذلك لم تستطع أن تخلق إنساناً ناضمجاً، ويعود هذا الشرخ أيضاً لـ«عادات» المجتمع، كما حدث للشاب في الأسرة الغنية، وبالتالي كانت هناك مشكلات اجتماعية وراء سقوط الشخصية.

بعد هذا فإن علي سيار حاول أن يتجاوز المستوى الفني للقصة الخمسينية، وقد كتب العديد من القصص ذات البناء الفني الذي يقترب من القصة الحديثة.

فنجد قصة مثل «المعركة» من مجموعة «السيد» تصور شخصية ربان سفينة هو بومحمد، يظل يردد عبارة «بوسعود كذاب.. سفينتي لم تغرق»، طوال سنوات تمتد من 1935 إلى 1964 حيث يموت.

والقاص يتتبع أسباب جنونه في حدث واحد هو بنية القصة، فقد كان بومحمد يتحدى بوسعود الربان الآخر، ويصمم على جلب لؤلؤة أكبر من تلك التى جلبها منافسه، وفجأة يرى سفينة بوسعود قادمة نحوه وتكاد تسبقه، فيعلن الاستنفار في سفينته مؤيداً بحماس بحارته، وينطلق متحدياً الربان الآخر في سباق جنوني، ولم تكن هناك ريح، لذا رفع الربانان الشراعين الكبيرين، ولكن فجأة أيضاً تهب ريح قوية فتندفع السفينتان بعنف. ويصر بومحمد على مواصلة الاندفاع رغم تحذيرات البحارة الذين يشتبكون معه ويكتفونه بعد أن يصر على جنونه، وفي خضم العاصفة والصرع فإن السفينة تغرق. إن موت مجموعة من البحارة وغرق السفينة وفشل تحديه تجعل بومحمد في حالة الجنون الطويلة تلك.

تقوم الحكاية على سرد حدث صغير بشكل متدرج ومشوق، والقاص يدخلنا هذا الحدث بضربات سريعة، رابطاً بين نفسية بومحمد ووصف الطبيعة والسفينة، عبر حالة التهيج والإثارة التي تنتقل من الذات إلى الخارج. وتنتقل عدوى الحالة النفسية إلى الحدث فيظهر الربان المنافس، فيشتعل الحدث القصصي عنفاً وهياجاً.

ويُلاحظ هنا كيف انتقلت القصة هذه إلى وقائع الصراع البحري، متخلية عن الموضوع شبه الوحيد للقصة السائدة، وهو موضوع الأسرة، مجسدة صراعاً اجتماعياً رغم طابعه الفردي الاستثنائي. وإذ يعتمد القاص هنا على وقائع حقيقية، فإن ذلك يعبر عن الطابع الصحفي القصصي الذي راح يكتب به، مما فتح للقصة ميدان الوقائع اليومية والأحداث الحقيقية. وسوف يواصل علي سيار هذه العملية القصصية مطبقاً إياها على التحقيقات والقص السياسي والاجتماعي، دون أن يعتني باللغة الجمالية الفنية القصصية. إن هذه العملية راحت تضع حداً للقص الميلودرامي.

وقد طرحت قصص هذه المرحلة بقوة مسألة «الواقعية»، فكيف نظر أدباء ومثقفو هذه الفترة للقصص وطبيعتها؟

نجد إن أغلب لافتات القصص تدعي الانتساب إلى الواقع فنقرأ من هذه اللافتات:

«قصص من الواقع» أو «من مآسي الحياة» و«من القصص الواقعي».

 ويصر فهد الدويري القاص الكويتي في تلك الفترة على فهمه ذاك للواقعية قائلاً:

«تسألني متى حدثت وقائع هذه القصة؟ حسناً، إني لا أعلم متى حدثت يا سيدي، ولو لم أكن أقتطف ما أقصه عليك من صلب الواقع ولب الحقيقة لحددت لك تاريخها باليوم والشهر والسنة كما يفعل كتاب القصة الذين يختلقون قصصهم اختلاقاً، ويلفقون الوقائع، وتاريخ وقوعها ليوهموا القراء بأنها حقيقة واقعة»‹3›.

يتصور هؤلاء الكتاب إن نقل الوقائع الحرفية من الحياة هي الواقعية، وكلما طابقت الأصل كلما كانت أقرب إلى الصدق والنموذج الخارجي، ورغم أنهم يصيغون هذه الوقائع الحقيقية صياغة تُبعد بها كثيراً حتى عن الأصل الذي يتوخون مطابقته.

إنهم يقومون بتسجيلية معينة لوقائع الحياة، وقد تقطعت صور هذه التسجيلية وحُلقت في معمار ميلودرامي، حافل بالتقرير والنصائح والإرشاد، ولكن هذا المعمار ليس مهماً بقدر ما هو قريب من تسجيل الحالة.

وكانت هذه العملية تمثل شعوراً طاغياً لدى كتاب المرحلة التي حاولت أن تتجاوز الأشكال الرومانتيكية السابقة، فهذه التسجيلية الميلودرامية كانت مفيدة في آنها للدخول في حياة الخليج والجزيرة العربية.

فقسمٌ هام من الشعر الذي كتبه أمثال #إبراهيم_العريض و #أحمد_محمد_الخليفة وغيرهما كان يصف طبيعة مليئة بالجبال والأنهار غير الموجودة في البيئة، ويشكل إنساناً وهمياً، فلا نجد أثراً للعلاقات الاجتماعية الحقيقية في الواقع.‹4›.

هذه الرومانتيكية صنعت أدباً «خيالياً» ومتناقضاً مع ما يراه الكتاب التسجيليون، الذي يدعون إلى تصوير الواقع.

ومن هنا كان التركيز على الحياة #الواقعية وتوجيه الأنظار نحو نقد «الأمراض» الاجتماعية، وكانت هذه الدعوة على سذاجتها أول خطوة لإقامة صلة بالبُنى الاجتماعية. وقد رأينا كيف كانت هذه الأدلجة تتصل بنقد العائلة المفككة وبالتالي وضعت القصة القصيرة على طريق تحليل الحياة الطويل.

كان أولئك الكتاب يصورون أدبهم بأنه الواقعي، في مقابل #الأدب_الخيالي، فالواقعي لديهم في تضاد كلي مع الخيال، وهو يقوم بالتطابق مع الوقائع، رغم إن هذه الوقائع التي يصورونها هي وقائع مفصولة عن السيرورة الاجتماعية وقوانين البنية الاجتماعية، وهي عبارة عن مقولات أخلاقية. يسقطونها على هذه الوقائع.

ومن هنا عجزوا عن مواكبة تطور الحياة والقصة معاً، حيث أن فهمهم ذلك للفصل بين الوقائع والخيال، بين المواد الحقيقية التي تنتجها الحياة، واكتشاف أبعادها المتوارية، بين التصوير الموضوعي والذاتية الجمالية، إن عجزهم ذاك قد ألصقهم بمواد حسية ووقائع جزئية لم يفهموا صلاتها بجذورها وبعوالمها المركبة، كما أن الأدلجة الأخلاقية «المثالية» والنزعة الميلودرامية تحول تلك الوقائع التي تكون حقيقية، إلى أشياء مضادة للحقيقة الفنية.

وكان موقفهم الفني ذاك يتجلى في نوعية الشخوص ومواقفها فهي شخصيات تنهمر عليها الكوارث فتحطمها تحطيماً دون أن تقدر على فعل شيء، مما يعبر عن شخوص غير فنية، مثل كافة المفردات الأخرى كالزمان والمكان والحدث التي يرتكز عليها النوع القصصي.

كان الأمر يتطلب إذن مستوى فنياً وفكرياً جديداً في تحليل الحياة والفن، موقفاً تركيبياً يقوم على رصد الوقائع والظاهرات وعلى اكتشاف خيوطها الدقيقة وفعل الإنسان فيها، وبالتالي تكوين مفردة فنية قصصية مختلفة.

وهذا ما أخذت الحياة الثقافية في عقد الستينيات تستوعبه في الخليج، على أثر الاحتكاك الأعمق بالحياة الإبداعية العربية والعالمية، فظهرت في البحرين موجة قصصية وشعرية مختلفة، يعتبر محمد عبدالملك المرصود في هذا الكتاب، أحد أفرادها.

وإن الانتقال من البنية الفنية السابقة، إلى البنية الحديثة للقصة القصيرة والرواية، كان يحتاج إلى زمن أدبي واجتماعي، ولهذا فإن التداخل بين البنيتين كان ضرورياً، وخروج القصة الفنية المكتملة الناجزة هو أمر غير ممكن، دون الحلقات الوسيطة.

ولهذا فإن الدراسة عن القاص #محمد_عبدالملك تتجه إلى محور أساسي وشامل كذلك، فمحور الراوي يتناول عملية التصوير التسجيلي للحياة وللواقع والنماذج، وهو يعني حرفياً وجود القاص المسجل للحياة وجزئياتها، مما يقود إلى التقاط مظاهر من الحياة، يقترب بها من فن الفوتوغرافيا، ومع تقديرنا لهذا الفن التصويري، لكنها مفردة ضرورية لتوضيح طابع التسجيلية للوقائع، في عمل الراوي، حيث تتطلب عمليات القصة إعادة النظر في هذه الوقائع، واكتشاف خيوط تطور الواقع.

وفي سؤال للقاص محمد عبدالملك عن من هو الراوي الشاهد المستمر في بعض قصصه، فيقول:

«الراوي، في قصصي هو أنا في الواقع من خلال مشاهداتي وأحاسيسي»، ويضيف حول الحارة التي يقوم بتصويرها:

«كنت أعيش في حارة شعبية مليئة بالنماذج الشعبية، وكنت أعرفها تمام المعرفة، أي أعرف تفاصيل حياتها، لذلك كان تأثري بها شديداً، وكانت هذه النماذج متوهجة لأنها كانت موجودة في فترة متوهجة أيضاً، والان أفتقد هذه النماذج..»5.

إن هذه العمليات الفنية المتداخلة بين القص التسجيلي والقص الواقعي ستكون من المحاور الأساسية في هذا الكتاب، والذي يكون أسلوب الراوي وجهه الفني والتعبيري.

من أبرز المهتمين بالجربة القصصية القصيرة في بداياتها الدكتور إبراهيم عبدالله غلوم الذي درس المجموعات القصصية الأولى لمحمد عبدالملك، وهو يعرض الخطوط العريضة لهذه التجربة قائلاً:

 «لقد اتجه محمد عبدالملك إلى تحليل الظواهر الأساسية في التطور الاجتماعي، فنظر فيه إلى الإنسان باعتباره وحدة متحركة مع ذلك التطور لأنه لا ينفصل عن البيئة وظروفها..» «كما تكون شخصياته نمادج لهذا الظرف، أو الواقع الموضوعي الذي يتمثل في حياتها.»6.

ويدرك الباحث إن مسألة التحليل لدى القاص ترتبط بمشكلات فنية كقوله:

«وينطبق ذلك على تصوير محمد عبدالملك للنماذج البشرية بتفاصيل تصدر غالباً من الواقع الخارجي، حيث نجد أنها كلما اقتربت من الكشف والإفصاح عن براثن المجتمع الرأسمالي أصبحت قيمتها الفنية ألصق وألزم برصانة التصوير الواقعي، وبتجسيد النظرة التقدمية أمام مظاهر الوجود الاجتماعي. بينما حين تبتعد عن ذلك الكشف والإفصاح تتضاءل قيمتها بل إنها تصبح فتوغرافية الإدراك، تمتد لما هو عشوائي وما هو أساسي على حد سواء.. الأمر الذي يباعد بينها وبين عملية الإبداع في فن #القصة_القصيرة.»‹7›.

لقد كتب الباحث #إبراهيم_غلوم هذه الدراسة في بدايات القصة القصيرة الحديثة، ولهذا فإن مفاهيم عديدة لدى الباحث تكون قد تغيرت، ولكن إذا أخذنا بعض هذه المقولات وقمنا بتحليلها فسوف تضيء لنا جانباً من عالم القاص، فقد ارتبطت القصة لدي عبدالملك بكشف هذا الواقع، لكن عبر المفاهيم #الأيديولوجية السائدة في تلك اللحظة المبكرة من الوعي الفني، أي بغلبة مفاهيم الانعكاس، وبتداخل القصة القصيرة وكتابة الريبورتاج والمقالة، ولهذا فإن مفاهيم مثل الواقعية و #الواقعية_الاشتراكية تصبح محل شك وإعادة نظر.

فنستطيع أن نقول إن أعمال عبدالملك في هذه المرحلة تنطبق عليها مواصفات التشكيل الأولي للواقعية، حيث يغلب أحياناً لدى الكاتب «التصوير الخارجي» والذي غالباً ما يرصد الظواهر الاقتصادية والاجتماعية الفاقعة، وكذلك أيضاً مسار الطبقات الفقيرة، ونمو مسار الصرع الاجتماعي والوطني.

إن الواقعية باكتشافها للقوانين الموضوعية للتطور الاجتماعي والروحي، تغدو عملية عسيرة في قصص تتوجه إلى التصوير الاجتماعي العام المنمط، وفي مجتمع تقليدي، أي يمتاز بهيمنة الإقطاع السياسي والديني، ولهذا فإن أوصافاً مثل المجتمع الرأسمالي والبرجوازي ينبغي أن تؤخذ بحذر شديد8.

ولهذا فإن فاعلية محمد عبدالملك القصصية تندرج في إطار فاعلية الفئات الوسطى ومحاولاتها للصراع ضد المجتمع التقليدي، وهو مجتمع تقليدي تتغلغل فيه علاقات رأسمالية كبيرة دون أن يتحول إلى مجتمع حديث بشكل شامل.

ولهذا فإن القاص وهو يسجل معاناة الطبقات الشعبية يرصد آليات النظام التقليدي التابع وهو يغدو رأسمالياً، فيدمر المهن القديمة المرتبطة بالاقتصاد القديم، اقتصاد الغوص والحرف، ويشكل فئات تجارية مستوردة، وينمو جهاز الدولة المالكة الأكبر لوسائل الإنتاج، شركة البترول خاصة، مما يعطي الإقطاع السياسي الحاكم موارد مالية كبيرة للسيطرة على البنية الاجتماعية، وعدم جعلها ديمقراطية في كافة مستوياتها، ولكون الإقطاع السياسي يهيمن عبر واجهة مذهب ديني، فتتشكل المعارضة عبر واجهة مذهب ديني آخر، مما يعبر عن إشكالية المجتمع التقليدي وأزمة تحوله إلى الرأسمالية الحديثة.

 إن هذا الوعي الفكري المكتشف أخيراً ليس هو الوعي الفكري الذي يظلل التجربة الفنية في بدايتها، حيث كانت تقفز الشعارات الكبيرة، وهو أمر سنجده يتمظهر في القصص ونقد القصص كما لدى الناقد إبراهيم غلوم، ولهذا فإن الناقد يقيم تجربة عبدالملك القصصية في خانة «الواقعية النقدية»، وليس #الواقعية_الاشتراكية، فيقول «ومن خلال ذلك اكتسبت تلك النماذج دلالتها الثورية لأنها وإن لم تبلغ ملتقى التصور الاشتراكي فإنها تؤكد دوماً رغبتها في التغيير والتحرر..»‹9›.

إن التحديدات الحامة للتطور الاجتماعي باعتبار المجتمع رأسمالياً ناجزاً، يتمظهر في الوعي النقدي بعدم دراسة نشوء الواقعية بصورة دقيقة، فتقفز التوصيفات النقدية إلى الأسماء الكبيرة المؤدلجة، في حين إن كلمة «الواقعية» بحاجة ذاتها إلى البحث واكتشاف سماتها في القصص.

ومن هنا فإن الوعي النقدي إبراهيم غلوم يكتشف التضادات الأسلوبية العامة في القصص، من حيث انقسامها إلى قصص تصويرية تسجيلية، وإلى قصص فنية، وكون الأولى ترتبط

غالباً بالعامة، والقصص الأخرى بالمثقفين10، ولكن هذا الانقسام في الشخوص يعكس انقساماً في الأسلوب القصصي، وانقساماً في الرؤية الإبداعية كذلك، وهذا ما نقوم بتحليله في هذه الدراسة.

وترتبط هذه العملية الفنية الداخلية بتطورات اجتماعية وفكرية خارجية، ولهذا فإن السمات «الواقعية» ونموها أو تراخيها سترتبط بعمليات التحليل للحياة وللنماذج، أي بعرض هذه المفردات الفنية في منهج يكشف جذورها أو يغيّب هذه الجذور والفاعلية.

________________________

‹1›: أحمد محمد عطية، كلمات من جزائر اللؤلؤ، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1988، ص 37.

‹2›: «كما تغص بعض قصص مجموعة عبدالملك الأولى بالسرد التقريري والوصف الخارجي والشخصيات المسطحة، غير أنها تجمع بين واقعية الحدث والتعبير عن الشخصيات المعذبة والمطحونة..»، «كما ترد في بعض قصصه الأولى تعليقات الكاتب المباشرة وتدخل الراوي بالتعقيب على الأحداث أو الحوار..»، «المصدر السابق، ص37».

  ‹3›: إبراهيم عبدالله غلوم، القصة القصيرة في الخليج: الكويت والبحرين، ص 223، منشورات مركز دراسات الخليج العربي، جامعة البصرة.

‹4›: #علوي_الهاشمي، ما #قالته_النخلة_للبحر، دار الحرية للطباعة، بغداد، ص 352 ــ 354.

 ‹5›: من حوار مسجل مع القاص محمد عبدالملك.

 ‹6›: القصة القصيرة في الخليج العربي، ط 2، 2000، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ص 594.

    ‹7›: المصدر السابق، ص 597.

‹8›: يقول إبراهيم غلوم عن شخصيات الكاتب: ففي حياتها تنطبع ردود فعل بشعة لقوانين المجتمع البرجوازي..، ص601، المرجع السابق.

 ‹9›: المصدر السابق، ص 618.

 ‹10›: تنقسم دراسة إبراهيم غلوم عن محمد عبدالملك إلى فصلين يعرض أحدهما نمادجه العامة، ويعرض الثاني نماذجه من المثقفين، ولهذا فإن الباحث يقول: أن النماذج التقليدية المجهدة في قصص محمد عبدالملك لا تستوعب موقف البطل الثوري بقدر ما تستوعب موقف الإحتجاج والنقد للواقع فحسب، ص611 .

الفصـل الأول

ملامح عامة لتطور القصة القصيرة في البحرين

   في كتاب إبراهيم عبدالله غلوم «القصة القصيرة في الخليج العربي الكويت والبحرين»، راجع الطبعة الثانية الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر 2000، هناك ذلك البحث التفصيلي الذي يقدم الكثير من المواد  الاجتماعية والفنية لأي دراسة تعميمية جمالية بشأن بواكير تشكل القصة القصيرة بل والوعي القصصي، الروائي ضمناً.

تتطلب المادة الكبيرة التي يقدمها الكتاب للباحثين القادمين، والشباب خاصة، ليس فقط عدم الرجوع لكل تلك الأكداس من الصحف والمجلات القديمة التي اهترأت أوراقها أو ضاعت، وإلى الكتب والقصص التي توارت واختفت من على الخريطة الأدبية، بل كذلك بضرورة تضفير تلك المادة عبر أبحاث جديدة في ميدان القصة القصيرة، تجمع ما بين الحس الاجتماعي الفني للباحث إبراهيم غلوم والمناهج النقدية الجديدة.  

  المادة القديمة الضخمة التي يقدمها الباحث تقود لا محالة إلى رفدها بالمواد القصصية الكبيرة والواسعة التي تشكلت بعد هذا الكتاب «الموسوعة»، وهى مواد من الاتساع والكثرة بحيث إن الحديث عن بلدين هما الكويت والبحرين كرائدين في عالم القصة في الجزيرة العربية، أصبح متجاوزاً بشكل كبير، كذلك من الضروري إعادة درس تلك الأحكام التي كنا نطلقها بسهولة عن «المدرسة» الأدبية القصصية كالحديث عن رومانسية منجزة وواقعية منجزة، بل وعندما نتخطى المادة المتواضعة بين أيدينا مطلقين عليها أسماء مدارس ذات تاريخ ثقافي وإبداعي عميق.

فمن الضروري إعادة درس تلك المادة مع إبداء كل الحماس الأكاديمى الذي كرسه الباحث إبراهيم غلوم في جمع وعرض ونقد المادة، والدرس ليس درساً يلغي ذلك العرض «البيئى والاجتماعي»، كما يفعل الطلاب الباحثون الجدد حين يغرقون أبحاثهم في مصطلحات مستوردة تواً من أحدث القواميس والمحاضرات الشكلانية في الأدب. فغالبا ما تطفو هذه المصطلحات طفواً على أجساد النصوص، دون أن تشكل أي علاقة حميمية بها، ولهذا فـإن درس كتاب «القصة القصيرة..» المذكور، يعطي القارئ والدارس فرصة لرؤية التحام المنهج بالمادة الاجتماعية والقصصية، دون أن تجور المناهج على المادة الفنية، بل تأتى أغلب الأحكام النقدية من عملية غربلة واسعة للمادة القصصية، وهي تنمو بها وتتعالق معها.

وهنا يشكل هذا الكتاب كيفية صناعة الأبحاث الفدائية في زمن بدء صناعة الأدب والنقد، فوراءه مغامرات سفر وحياة وأكثر من نصف قرن من حياة متوارية عميقة للخليج العربي وهو يتشكل إبداعياً واجتماعياً.

لا شك إن المقدمات الاجتماعية مطولة وكبيرة، فهناك عمليات تتبع للنهضة في البحرين والكويت في شتى مناحي الحياة الاجتماعية والفكرية النهضوية، ومن هنا فإن الكتابات النقدية الجديدة ليست بحاجة إلى مثل هذه العودة للخلفيات، خاصة إن الكتاب يقوم ببناء جسر بين المواد الاجتماعية الأولية والبناء القصصي الأولي، فكل من الطرفين لم يستقل استقلالاً نوعياً بعد، وهو يجسد المرحلة الانتقالية للقصة القصيرة و«الرواية» في تشكلها وتكونها النوعي.

والكتاب يحمل في عظمه الفكري هذه الطبيعة الانتقالية للوعي النقدي وهو يكون أدواته من رحم البحث الاجتماعي، ولكن ضخامة الاجتماعي لا تدعونا إلى إلغائه، ليس في هذا المتن، ولا في المشروعات المنتظرة في درس البُنى القصصية، فتحويل القصص إلى بنى رمزية مقطوعة السياق البشري والاجتماعي، يؤدي إلى الشكل المضاد من عملية الدرس النقدي، أي إلى الانقطاع الكلي للبُنى الفنية عن جذورها.

إن الاجتماعي في الكتاب يأتي على هيئتين: مقدمات لا صلة عضوية لها بالمتن القصصي المدروس، فالحديث عن تطور الصحافة وبدء النضال أجل حرية المرأة، وكيف ظهر التعليم والنوادي والجمعيات الثقافية من ص 71 وحتى 83، والمجلد الكامل عن دور الصحافة المحلية من ص 95  وحتى ص 127، إن هذه كلها لها وشائج اجتماعية بالقصة القصيرة كمؤثرات مسبقة على تشكلها، غير أنها بعدُ لا تمثل شيئاً عضوياً فنياً داخل القصة.

 أي أن هذا هو المستوى الاجتماعي من التطور، وهو يمكن أن يرفد القصة أو يرفد المسرح، أو حتى الوعي السياسي، لكن لا علاقة مباشرة له بالقصة، فكل هذه الظروف تهيئ المناخ لتشكل القصة، غير أنها لا تخلقها.

إن تشكل القصة يأتي من درس عملية الآداب والفنون ونموها، أي كيفية ظهور وتجسد الوعي الإبداعي، وظاهراته، ومميزاته.

وفي تلك البواكير التي يدرسها الكتاب كانت العملية عند الكاتب الواحد غير مضطردة بحيث تتحول القصة القصيرة لديه إلى ظاهرة يمكن أن تمتلك خصائص فنية راسخة خاصة في الجيل الأول التائه الملامح بين أسمائه الحقيقية والمستعارة، ولهذا علينا أن نمحص الأحكام النقدية هنا، كالأحكام الصادرة عن الريادة، وأن نتساءل نقدياً هل هذه قصص حقاً؟

والهيئة الثانية التي يدخل عبرها «الاجتماعي» هي في تحليل القصص من الداخل ورؤية قضاياها الاجتماعية، أي تلك المادة الاجتماعية المباشرة التى تتعالق معها القصة القصيرة كقضايا الأسرة بدرجة أساسية، ولا يعبر ذلك إلا عن جانب الموضوع لا المضمون. أي أن المضمون برتبط بالرؤى الفكرية، وهي التي كان ينبغي أن تكون بؤرة الدرس التمهيدي.

صحيح إن الموضوعات تتشابك الأهداف، فبحث قضايا الأسرة وإعانة الأغنياء للفقراء وأهمية دعم المجتمع للفرد، ترتبط بالوعي الفكري للقصاصين، إلا أن الموضوعات تنتمي إلى مستوى آخر من التحليل النقدي. ومن هنا نكتشف إن تحليل الوعي الفكري/ الفني هو مدخلنا الأقرب إلى القصة.

 فنحن لا نبحث كيف ظهرت عوامل النهضة في الخليج كإنشاء المدارس والصحافة الخ.. بل نقرأ كيف رأت القصة القصيرة هذا العالم بعدستها الفنية اللاصقة في هذه المرحلة؟

ولكن حتى هذا يبقى مدخلاً، لأنه في الميدان الإيديولوجي المحض، فإن قراءة البُنى الفنية الداخلية للقصة القصيرة يتطلب درس هياكلها التعبيرية، أي كيف توجهت إلى هذا المنحى، أي كيف كانت أقرب إلى المواعظ والمقالات، أي أن ندرس كيفية نشوء التصوير، وإزاحته للتقرير.

ونحن نلاحظ لدى إبراهيم غلوم هذا الخط البياني المتجه لظهور القصة، كنوع فني مستقل، ولكن يظل الدرس في جانب تحليل الهياكل الفنية العامة، بموضوعاتها وببعض أشكالها من خلال رؤية معينة، أي أن الهياكل الفنية العامة كانت بحاجة إلى اكتشاف بناها الخاصة، وهي العملية التحليلية التى تقود إلى العلم، أي إلى اكتشاف السببيات والقوانين الداخلية للبُنى.

بطبيعة الحال فإن ضخامة الكتاب ورغبته في الموسوعية والتأريخ الشامل لظاهرة تكون القصة، وضعت المقدمات لمثل هذا الدخول، فكأن إبراهيم غلوم كان فريقاً بحثياً كاملاً يضع للأجيال القارئة والناقدة القادمة الفرشة الأساسية لدرس القصة في البحرين والكويت‹1›.  

يحتاج التاريخ الأدبي المعاصر في البحرين والخليج عموماً إلى مراجعات نقدية عميقة، وكما تابعنا كتاب إبراهيم عبدالله غلوم، فقد رأينا بكارة المتابعة النقدية والتاريخية الواسعة لجنس أدبي واحد هو القصة القصيرة، في بلدين عربيين في الخليج، والكتاب يقدم للباحثين إمكانيات المراجعة والإضافة والتطوير، بعد أن وضع أساساً نقدياً وتجميعياً كبيراً لذلك.

وكما قلنا آنفاً، فإن مراجعة المصطلحات هي بداية العلم النقدي هنا، فكلمات أعلام مثل: #الرومانسية، والواقعية، والواقعية الاشتراكية، هي برسم الدرس والفحص، فهذه المصطلحات الكبيرة تقفز بنا إلى تخوم لم تُبلع، أو ربما هي من قبيل الإسقاطات الإيديولوجية، أو المقارنات غير الدقيقة، فحين يقول الباحث:

«إن القصة الرومانسية القصيرة في الخليج العربي تنهج على يد جيلها الأول نحو الإعلاء من شأن الفرد، فهي عندما تقف مع النماذج البشرية الساقطة لا تتركها من غير أن تردد أحزانها وتبحث عن الدوافع الإنسانية والاجتماعية في سقوطها، والمرأة حين تسقط لا تكون مثاراً للاشمئزاز كما هو معهود. لأنها تفعل ذلك من أجل مجابهة أثقال الحياة وقسوتها تماماً كما تفعل بعض ساقطات نجيب محفوظ ، ومحمود تيمور»‹2›.

وبالفعل فإن القصة القصيرة، بل كل القصة في تاريخها الطويل، تقف مع الفرد وتتابع سقوطه ونهوضه، والباحث بعد قليل من الفقرة السابقة يقدم لنا قصة «طواها النسيان» لموزة الزائد، تكون فيه المرأة ضحية لثري من الأثرياء، يعتدي عليها، فتنجب منه ولداً يطردها من البيت لتعيش مع جدتها، وعندما يكبر ولدها تلازمه عقدة نفسية حول كونه لقيطاً، فلا يستطيع الزواج وينتحر فتكتب أمه رسالة إلى الثري الذي اعتدى عليها منذ سنوات. وحين تصل الرسالة يجهد نفسه كثيراً حتى يتذكر صاحبتها التي طواها النسيان، ويقهقه ساخراً‹3›.

أننا هنا بحاجة أولاً لمعرفة مدى كون هذه القصة قصة قصيرة ، حيث أن النص النقدي ساق موضوع القصة، لا شكلها الفني، فمع تقديرنا الكبير لكون امرأة بحرينية في ذلك الزمان المبكر تكتب أدباً قصصياً، إلا أن العرض لم يدخل بنية القصة التعبيرية، لنرى مدى اقتراب المحاولة من تقنية القصة القصيرة، ولعلها وصلت إلى ذلك ولعلها لم تصل.

تعطينا مادة الموضوع المقدمة في هذا العرض النقدي للباحث، سمات رومانسية حقاً، كشخصية الفرد الضحية المتجهة إلى الانهيار والسقوط، والمعذبة، والحزينة، وهي سمات أدب رومانسى أكيد، وكذلك ثيمة المرأة الساقطة الضحية، وثيمة الرسالة التي ترسل من الضحية إلى الحبيب «الجلاد»، ولنتذكر هنا قصة ستيفان زفايج «والتي اُقتبست عربياً بشكل كبير وحُولت إلى فيلم: رسالة من امرأة مجهولة»، فهذه عاصر رومانسية حقاً، ولكن إلى أي مدى تشكلت أدباً قصصياً، فذلك أمر يرجع للنص الذي عُرض علينا موضوعه فحسب.

ولهذا حين تُقارن مثل هذه الكتابات البحرينية والكويتية المبكرة بأدب نجيب محفوظ ومحمود تيمور، فقط لتشابه الموضوعات، فإن الأمر يحتاج إلى أدلة وحيثيات نصوصية دقيقة.

إن مصطلح الرومانسية مصطلح متقلقل هنا، وغير مُثبت، والباحث نفسه يدرك ذلك فيقول: «ويكشف لنا نهج القصة الرومانسية القصيرة في الخليج العربي في تصويره للمجتمع عن أسلوب ميلودرامي فيه كثير من سمات التكلف والاصطناع للحدث، ولكنه يظل رغم ذلك يحتفظ بإيقاعات حزينة صادقة..»‹4›.

إن التكلف والاصطناع لا يشكلان فقط الحدث بل الشخصية كذلك والموقف، والوسط، لأن الحدث المصطنع، يعني أن الناشئ وهو يحاول تقليد القصة المنتشرة في الأفلام وفي أدب المنفلوطي، يطيح بسمات القصة بعناصرها الموضوعية من حدث وشخوص ووسط، أي أنه يلغي شروط تشكلها، مدفوعاً بمشاعر ساخنة للإصلاح، بدلاً من أن يعي ويكرس أصولها وقوانينها الفنية الخاصة، أي أن الإيديولوجيا والمواقف المسبقة تغيرُ على شروط الفن، فلا تجعله يتكون، ويغرس سماته في التربة الاجتماعية، وبالتالي فإن القصة التي لم، تتشكل كقصة لا تستطيع بطبيعة الحال أن تكون مدرسة أسمها المدرسة الرومانسية أو المدرسة الواقعية، فالأمر يحتاج هنا إلى تراكم للعناصر الفنية لكي تتشكل قصة أولاً، وبدون هذا التراكم يستحيل أن تحدث انعطافة نسميها تكون القصة القصيرة.

ولهذا لا ينبغي أن نستعجل في إطلاق التسميات والمصطلحات، فالأمر هنا أقرب إلى البحث عن القصة القصيرة وليس القصة القصيرة الرومانسية.

وقد يقال هنا بأن ثمة تداخلاً بين القصة والرومانسية، تقوم فيها الرومانسية بإلغاء السمات الموضوعية في الجنس الأدبي، تحيل فيها البُنى القصصية إلى هذيان عاطفى أو تدفقات روحية، كما سيحدث فيما بعد لدى #محمد_الماجد و#فرحان_الفرحان الخ..، ويمكن أن يـُطرح من الأدب العربي الحديث مثال #جبران_خليل_جبران في هذا الصدد.

ومن المواد التي يقدمها كتاب إبراهيم غلوم، ومن متابعة نتاج محمد الماجد، فإن الكاتب الراحل الماجد، كانت تعوزه إمكانية تشكيل قصة قصيرة في الواقع أكثر من أن يكون كاتباً قصصياً رومانسياً، فعناصره القصصية مفككة وغير متراكمة، أى أن شخوصه وأحداثه وأبنيته التعبيرية لا تحصل على مصداقية متنامية تؤهلها للارتقاء إلى فن القصة القصيرة، فهو يُسقط حالته النفسية على البناء الفني فيطيح ببنيته التعبيرية الخاصة المستقلة ومن هنا ليست ثمة مسافة فى تعبيره بين المقالة والقصة، فيعيد النتاج إلى مرحلة ما قبل القص.

وجبران خليل جبران، أو الكاتب العالمي الكبير #فيكتور_هيـجو، رغم مشاعرهما الرومانسية المتقدة، إلا أنهما حين يكتبان قصتيهما الرومانسيتين يصيغانها بشروط القصة، رغم الفروق بينهما، فهيجو يشكل ملاحم رومانتيكية كبرى في الأدب القصصي الحديث، فهما يلتزمان ببناء القصة حينما يكتبان قصة، ورغم أنهما «يسقطان» مشاعرهما على البناء لكن من خلال قوانين الفن، فالقصة تتطلب مثلاً بناء أحداث شخوص وأوساط متداخلة، لكنها لا تشترط أن يكون الحدث غير عنيف أو عير فنتازي أو غير عاطفي متوهج، فهذا الأمر يخضع لرؤية الكاتب وتجربته وأدواته.

هنا كنا بحاجة إلى معرفة تراكم العناصر القصصية في القصة ومدى صراعها مع العناصر اللاقصصية، أي مع العناصر الأيديولوجية والفكرية المسبقة، ومدى الاقتراب من عناصر القصة الفنية، وبالتالى مدى التزام الرومانسية المناطقية، إذا كان ثمة شيء يمكن أن يسمى كذلك، بهذه الصفات الموضوعية للفن القصصي، وبهذا نبعد النقد عن القوالب، ونقترب من التحليل الموضوعي للمادة الحقيقية.

أي أن نبحث هل استطاع قاص رومانسي أن يجمع الجانبين، عبر درس أبنيته الفنية لا موضوعاتها فحسب، أم أن الأمر لا يعدو أن يكون ردود فعل للأفلام العربية والقصص العاطفية الرائجة؟

ولا بد أن نقرأ ماذا بقى من هذه القصص، أي كيف تكرس في المجموعات القصصية، التي هي تجسيد التراكم الفني عبر الزمن.

يعطينا كتاب الدكتور إبراهيم عبدالله غلوم مادة أخرى حول تشكل الواقعية في الكويت والبحرين، وقد رأينا سابقاً إن ملامح الرومانسية المفترضة لم تكن قوية بما فيه الكفاية لتقدم لنا أدلة عن تشكل تيار قصصي رومانسي، وقد راحت المشاعر الرومانسية تفرض ذواتها على فن القصة القصيرة الوليد، حيث إن هذه المشاعر في زمن المخاض الأدبي والفكري في المنطقة أطاحت بأسس الفن القصصي، وما يقدمه الكتاب من مواد عن هذه البدايات تثبت أن الرومانسية التي أزهرت في الأدب العربي منذ بداية القرن العشرين، في لبنان ومصر خاصة، جاءت إلى الجزيرة العربية وهي تتحول بشكل «تقليدي/ حديث» في الأبنية الاقتصادية والاجتماعية، وتنمو بشكل مضطرب في ثقافتها وأنواعها الأدبية، لكن الرومانسية العربية في هذه الأثناء كانت قد فقدت زخمها، ولم تعد من أسماء رنانة لديها سوى جبران خليل جبران والمنفلوطي وهما اللذان استمر تأثيرهما إلى وقت لاحق، لكن تداخلت الرومانسية بالقص الحديث لدى #عبدالحليم_عبدالله و#يوسف_السباعي وإ#حسان-عبدالقدوس في مرحلة لاحقة بالنسبة لوعي الخليج والجزيرة العربية.

 ولهذا كانت هذه «الرومانسية» في الأدب العربي في الخليج لم تأخذ حظها من الحضور والتأثير، بل كانت تأثيرات الأفلام العربية «المصرية» أقوى من النصوص الإبداعية، إضافة إلى أن تخلف الجزيرة العربية عن بقية المناطق العربية يرجع لعوامل موضوعية كبيرة كضخامة الصحراء وغياب المدن المؤثرة، وقلة السكان الخ..

ولهذا فإن القصة تأثرت بحبكات الأفلام وما يسود فيها من كثرة الأحداث وضخامتها والتي تتركز عادة على فرد أو أسرة مقطوعي السياق التاريخي والاجتماعي، وكل هذه الأحداث الكبيرة من قتل ومطاردات وتحولات مفاجئة الخ.. تتشكل بصورة خارجية فوق ذوات الشخوص والأمكنة فهي قوالب يصطنعها المؤلفون فوق جسم القصة الهش. ومن حيث الدلالات فإن هذه الأبنية الفنية لا تستكشف أية سببيات اجتماعية موضوعية، أي أنها لم تكن قادرة على تجسيد قوانين القصة وقوانين التطور الاجتماعي. والجانبان ملتحمان، ولهذا حين تبدأ عمليات هذا الاستكشاف المتضافر تقترب القصة من الفن والواقع معاً.

ومن هنا فهي عرضة لتأثرات رومانسية وواقعية وكلاسيكية وميلودرامية دون أن تنتمي لأحدها بشكل كامل، ولا تزال هذه الأرض الفنية الرخوة مستمرة حتى يومنا هذا في بعض الأقسام الكتابية كقصص الشباب والمسلسلات الخ .. فالوعي الإبداعي خاصة في الأوقات الأولى لم يكن مستقلاً وذا بنية مهمة.

 وعندما بدأت تأثيرات الواقعية كانت هذه الأخيرة قد رسخت نفسها في بعض جوانب الأدب العربي وخاصة في مصر والعراق والمشرق «الشمالي» خاصة، وقد تسرب التأثير العراقي الأدبي إلى الكويت، وقد كان رائد الرواية الكويتية إسماعيل فهد إسماعيل ذا خلفية عراقية، وكان الحضور العربي عموماً قوياً في الكويت حينئذٍ. وهذا ما أدى إلى أن تبدأ القصة في الكويت في نفض أرديتها الفضفاضة وتُشكل بناءها التعبيري الخاص والمتميز، ومن هنا نجد إن قصة علي سيار القصيرة تتحول أثناء إقامته في الكويت، كما يقول الباحث نفسه.

ولكن علينا أن نُدقق في مصطلح الواقعية كما دققنا في مصطلح الرومانسية كذلك، أي أن نعثر على سماتها كما تشكلت على الأرض، بدون أبنية إيديولوجية مسبقة. ويقول الباحث بأن «الاقتراب من الواقع ومن مشاكله وهمومه اليومية، قد يحسم الطبيعة الخاصة بالواقعية في القصة القصيرة، بحيث لا يصبح هذا الواقع نابعاً من التجربة الشخصية للكاتب، بل أن يكون عالمه الذي يخلقه، ويقيم سماته من خلال مقدرته في التصوير ومقدرته في الرصد لأبعاد المشكلة الاجتماعية القائمة وتحليل حضورها الموضوعي.»‹5›.

بطبيعة الحال هذا يمثل تعريفاً خاصاً للواقعية، فالواقعية واقعيات متعددة، فالتعريف المقدم سابقاً يمكن أن يكون منطبقاً على ما يُسمى في الوعي النقدي الغربي بـ«الواقعية البرجوازية» أي تلك الكتابات القصصية التي تتركز على معالجة قضايا الطبقات الوسطى غربياً، وهي لدينا كما أتصورها تعالج قضايا الفئات الوسطى، حيث إن هذه الفئات تنشأ في مجتمع تقليدي وتستكشف طرقها داخل أبنية العصور الوسطى المستمرة لدينا، أي هي بعدُ لم تستطع أن تشكل عالمها الحديث المُفترض أو الذي انتهى إليه العالم الحديث، خارجنا.

وهذا جانب مفاهيمي مهم لوضع كيفية تشكل أنواعها الأدبية وممارساتها داخل حقول الأجناس والأنواع، ومن هنا فإن التعريف السابق الذكر، يقترب من ممارسة هذه الفئات ووعيها، حيث يبدأ تفكيرها الفنى بمعالجة قضايا اجتماعية بصور واقعية، فالمثقف العاطفي الحاد يخلي السبيل لمثقف ذي معايشة حقيقية للحياة، وهنا تبدأ «القضايا اليومية» حسب تعبير إبراهيم غلوم في التداول داخل أبنيته القصصية كما يفعل #فاضل_خلف و«علي سيار» في الكويت، مثل قضايا البيروقراطية الحكومية والرشاوى والإفلاس التجاري الخ.. وهي موضوعات لم يكن ممكناً طرحها في الأسلوب العاطفي السابق. إن هذه لا تتطلب فقط حرية فكرية وسياسية معينة بل أيضاً فئات وسطى تحتضن هذه العملية الفنية النقدية، سواء عبر الصحف والأجهزة الحديثة الأخرى، أو عبر التداول.

 وهذه تتطلب من الكاتب التخلي عن الفردانية التي دمرت بعض النتاج السابق أو التالي، والقبول بفردية منفتحة على الوسط الاجتماعي، وهو أمر سيؤدي إلى تطور النثر وأنواعه، باتجاه استكشاف الواقع والناس.

لكن كل هذه تتعلق بالموضوعات والمناخات التي تتشكل بها القصة القصيرة، أما الوعي الفني الواقعي المتجسد فيها فهو يعرض تلك الموضوعات كما يفعل فهد الدويري في قصته «الشيخ والعصفور» حيث الأسلوب يقوم بكشف جانبين متداخلين :

«يتصل الأول باستجلاء مظاهر البيئة المحلية وتسجيلها بصورة حية نابضة، تستمد حيويتها ورصانتها الواقعية عبر اتصالها الوثيق بموقع الشخصية، وإيقاع حياتها ودلالات وجودها. ويتصل الثاني بالتوغل الدقيق في تصوير النموذج البشري والدخول إلى جوانبه الإنسانية من خلال أكثر اللحظات شفافية وخصوصية»‹6›.

إن هذه الجوانب المترابطة: البيئة والإنسان والموقف الصغير المضغوط بكثافة

والذي تغوص فيه بنية دلالالية متوارية، يمكن أن يحدد بعض خصائص الطريقة الواقعية في التمثل الأدبي في القصة القصيرة.

ومصطلح «البيئة» هو ذو دلالات طبيعية أكثر منها دلالات اجتماعية، وهو هنا يعبر في هذه التخوم من نشوء الوعي الفني الواقعي في المنطقة، عن النظرة الغائمة للواقع، مركزاً على أشكاله الطبيعية وصلة الإنسان المُبسطة بها، أي أنه يشير إلى مشكلات الإنسان الاقتصادية خاصة، لكن العرض القصصي القصير هنا سيثبت أقدام الإنسان فوق الأرض الموضوعية بشكل ما.

فـ علي سيار في قصته «سأطردك يا عبدالسلام ..» يشكل موقفاً مكثفاً من خلال قيام وكيل وزارة التربية بالتداعي أمام القارئ، وأسلوب التداعي يتم عبر ضمير المتكلم، الذي يتضح من العنوان، ولكن هذا التداعي مرتب ويتشكل بطريقة حرة، أي ليس عبر أبنية مشهدية، بل أن الراوي هو الذي يشكل اللقطات، وهذا يتيح للراوي أن ينتقي من شريط الزمن ما يريد، مثل قوله «قبل ثمان سنوات كنت أنا وعبدالسلام زميلين في مدرسة واحدة ..»‹7›.

طريقة الروي الحرة هذه تجعل الراوي يعرض العلاقة بينه وبين عبدالسلام وكيف كانا زميلين حميمين في مدرسة رغم فارق العمر بينهما، وكذلك الأحلام التي تراودهما بالانتقال في سلم الوظيفة، ودخوله إلى بيت عبدالسلام وتعرفه على أبنته ورغبته في الزواج منها، إن هذا العرض الواقعي المعروض بطريقة الروي الحرة، سرعان ما ينتهي بمفاجأة انقلابية، فالراوي «يتذكر» بأن وزير التربية هو خاله، فيدعوه عبدالسلام إلى استغلال هذه العلاقة القرابية، وبالفعل يتم ذلك عبر الأم. إن التحول هنا يشبه تحولات القصة السحرية ولكن بجعل «الواسطة» تلعب دور الفانوس السحري بتسريع الأحداث وقلب العلاقات وتكوين الثروات، وهو عنصر ميلودرامي هنا، وبالفعل يتم القصد المسبق ويرتفع الراوي، في حين يستمر عبدالسلام في جهوده المضنية بتشكيل الأجيال، ويتوهج العرض عبر قدوم عبدالسلام إلى الراوي الذي «عطف» عليه ونقله إلى الوزارة، فيبدو كشبح متهدم. لكن موقف التضاد المستمر بين الشخصيتين يستمر بل يتفجر، حين يقرر الراوي وكيل الوزارة طرد صديقه عبدالسلام بسبب مشروع تقشف للوزارة.

ولكن المؤلف يحيل هذا التضاد الخصب بين الشخصيتين والاستثمار الفني الكبير الذي كان يمكن أن يتشكل من ذلك، إلى التركيز على الدلالة الاقتصادية المباشرة، عبر قوله «جريمة أن أطرده من فوق مكتبه لأنه يتقاضى كل شهر تسعين ديناراً من الدولة»‹8›. بدلاً من رؤية الأبعاد الروحية والاجتماعية لمثل هذا الموقف المتضاد والغني.

________________________

‹1›: كتاب تطور القصة القصيرة في البحرين والكويت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط  2، 2001.

‹2›: المصدر السابق، ص 232.

‹3›: المصدر السابق، ص 232، 233.

‹4›: المصدر السابق، ص 234.

5›: المصدر السابق، ص 292.

‹6: المصدر السابق، ص 312.

7›: مجموعة «السيد»، دار الغد ، ط 1، 1976، ص 27.

‹8›: المصدر السابق، ص 34.

كتاب: الراوي في عالم محمد عبدالملك القصصي

أضف تعليق