لولا تخاذل الحداثيين ما جاء الطائفيون

الآن يظهرُ لنا (الأبطال) يعلموننا الوطنيةَ والكفاحَ وكيف يجب أن نرصَ الصفوف ونمتشق أسلحة النضال!

العدو سهل هو الطائفيون المهزومون، إذن طاح الجمل، وكثرت السكاكين!

وكلها كلمات عامة مطاطة لا تجسم عدواً، ولا تشخصُ مرضاً، ولا تحددُ علاقات إجتماعيةً وسياسيةً سلبيةً يجب تجاوزها.

وربما صارتْ تمثيليات هزلية، ونحن نحب أن نضحك ونهزأ لا أن نُعالجَ ونرصد المستقبل الخطر.

كلها ضربٌ في الميت.

وهو ــ أي الميت ــ بفضل هذه اللكمات الموجهة في الهواء سينهضُ من قبرهِ ثانيةً ويقوم بمغامرات جديدة.

لكن أين كان هؤلاء الأبطال عندما كان الطائفيون يشكلون ثقافتهم ويتغلغلون في الأحياء، ويسممون الثقافة، ويجرثمون التنظيمات السياسية التي بذلنا أعمارنا على تصعيدها من خلايا صغيرة في الأزقة حتى صارتْ وَرقاً متخاذلاً في عواصم المنافي؟

كان الجدلُ الأولُ في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، – وما أبعد المسافة الزمنية عن ذلك الآن!- يدور في مسألة الطائفية، وكان المنشورُ(الثوري) يقولُ أن الطائفيةَ حُسمتْ وإنتهت من البحرين، فلنلتفت إلى قضايا أخرى.

ولكننا لم نوقف النقاش، كان الوعي الساذجُ السائد يسطحُ الكثير من الأشياء، فالاستعانةُ بالموادِ الدينية الطافحة على جسم الحياة تجري بسهولة، وليس ثمة نقد للوزارات التي راحت توظف جزءً من طائفة ووزارة أخرى توظف جزءً من طائفة أخرى، بشكل غريب.

والمعاملات والمشروعات مختلفة بين بلدة وبلدة وبين قرية وقرية.

كانت الاختلافات والتوازنات والتداخلات بين أشكال الوعي الطائفي كلها تدفع بإتجاه ثنائية الطائفتين وإبراز الوعي السياسي المذهبي لهما.

كان الوعي الوطني يُهمش، لكن كان لا بد من النضال في سبيل ذلك، وجعل مختلف أشكال الوعي من مسرح وتشكيل ومقالة وكتابة فكرية تساهم في تحليل الطائفية ونقدها مثل كافة المشكلات.

الصحافة تناقش بتحقيقاتها على الأغلب مشكلات الأحياء وقضايا التعليم والإسكان والعمل وغيرها، وليس قضايا البنية العميقة، وحتى هذه القضايا لا تُربط بقضايا البنية الاجتماعية، والمسرح غارق في التجريبية، والأمكنة الغرائبية والأبطال الغامضون المهشمون المهَّمشون ولا تحليل للقضايا أو عرض مشكلات الناس بوضوح وبمتعة تبين للمشاهدين جذورَ مشكلاتهم. ومسلسلات التلفزيون غريبة وتُقطع إذا حاولت أن تناقش الأعماق.

الأدب يمضي نحو عوالمه الغامضة الخاصة. الفكر مهتم بقضايا الأمة العربية والخصام بين العروبة والإسلام وما إلى ذلك من قضايا عامة خارجية.

وتم إختراق التنظيمات السياسية وجرت التحالفات مع القوى الدينية المحافظة، وهي تنمو تحت مظلة أجنبية خطرة ذات مشروعات مغامرة كذلك.

إتسعتْ الغربةُ وصار البناءُ الاجتماعي الاقتصادي تسيره قوانين الربح، والمؤثرون في الريف يتركون الأحوالَ الاجتماعية على بركات القدر والصناديق المسيسة والمشروع الديني المغاير، والمؤثرون في المدينة يفضلون الأيدي العاملة الرخيصة.

وتحدث إختلالاتٌ عميقةٌ في البنية الاجتماعية، وأجيال جديدة عديدة تظهر تحاول أن تدخل في السوق الذي لم يعد وطنياً فقط بل خليجياً عولمياً كذلك، تتحكم فيه أسعار العالم.

وصارت الأجيال الجديدةُ تحت هيمنة الشعارات الطائفية، المنتجة في الخارج لعقود، وبالتالي صار الصراع مناطقياً، وحل المشكلات يحتاج إلى سنوات طويلة في ظل تسييس وطني ديمقراطي، لكن التسييس السائد غير ذلك.

أجيال الشباب في الريف هي الأكثر معاناة وغربة لكنها لم تجد الأصوات الحداثية والوطنية التي تثقفها وتنقلها من خطاب طائفي إلى خطاب وطني، وهي تعيش حياة مليئة بالتناقضات، وتتصور الحداثة والتحولات الاقتصادية مؤامرة عليها، وفعل غربي ومحلي شرير!

و(التثقيف) عندما يجري في الريف عبر حشود، لا يكون فيه تأصيل عميق أو فكر ذو قيمة، وإصطياد المجموعات بهذه الطريقة وشحنها أمر ميسور، مع إستخدام المقدس.

إن تتبع قضايا الشباب ومشكلاتهم، وحلها، ومقاربتهم للأفكار الجديدة في العالم، لم تمت بل هي متجددة، ولكن المشكلة هي الصراع الحاد معهم، بدلاً من فهمهم وجذبهم.

كما أن قضايا التطور الاجتماعي ومشكلاته مترابطة وطنياً، وحلها عبر حل مشكلات الشعب ككل، وليس حل مشكلات منطقة أو طائفة مفصولة.

أضف تعليق