الأرشيف الشهري: جانفي 2021

اليسارُ الديمقراطي واليسارُ المغامر

على طريق المهرجان لــ 15 فبراير

ظهرت خلافاتٌ عميقةٌ على صعيد وعي اليسار المحلي للمسائل المحورية في التطور السياسي، وهي جزءٌ من الصراعاتِ الفكرية والسياسية لليسار في العالم العربي حول المواقف من الدين، والاشتراكية، والرأسمالية، والغرب، أي على فهم قضايا التشكيلات الكبرى في حياة البشرية خاصةً تداخل وتباين تشكيلات الإقطاع والرأسمالية والاشتراكية، وكيف تجسد ذلك في التاريخ العربي الإسلامي، وفي الزمنِ الراهن والإشكاليات التي حدثتْ عبرَ الصراعِ بين القومياتِ الرئيسية في المنطقة.

لقد كانت هيمنتْ الجماعاتُ الطائفيةُ السياسية على الجمهور المتخلف الوعي عاملاً رئيسياً في إرباكِ الجماعاتِ اليسارية التي كانت تتخذ رؤى شبه واضحة (لكنها جامدة نصوصية)، أي غير جدلية تركيبية في المرحلة السابقة، وتكونت في حضن رأسمالياتِ الدول الشمولية (الإشتراكية) والقومية.

وهذا الحضن كما لعب دوراً في تصعيدِ دور القطاعات العامة والتحرر والنهضة الشرقية العالمية لعب دوراً في صنع رؤى فكرية سياسية محدودة جامدة، راحتْ تتهاوى جوانبٌ كبيرة منها بسببِ عدم النقد وغياب الديمقراطية على مستويات الدول الاشتراكية والأحزاب.

وبالتالي جاءت التحولاتُ في أشكال الدول الرأسمالية الحكومية (الإشتراكية) وتصاعد الدول والحركات الدينية (الإسلامية) لتعرض إتجاهات اليسار لمخاضٍ عسير.

وكلُ بلدٍ عربي أو إسلامي دخلتْ فيه المؤثراتُ المناطقيةُ والدولية حسب بنيتهِ الاجتماعية وصراعاتها وتطوراتها، وإنعكست المؤثراتُ على وعي قوى اليسار المختلفة، وجاءت الرياحُ لتضربَ قوى صلبة أو هشة، ففي التنظيماتِ ذاتها تواريخٌ لما هو وطني عالمي، ولما هو مواقفٌ إجتماعية صلبةٌ إنغرستْ فيها، أو لأخطاء تصاعدتْ في أجسامها، فنشأت مواقفٌ عقلانية تتصف بالتجريبية غالباً، وأما مواقف مغامرة خطرة.

وكان حالتنا في البحرين سيئة بشكل كبير، فهشاشةُ اليسارِ بينة، وتبعيتهُ للقوى الطائفية اليمينية كانت قد تكونت منذ التسعينيات، وكانت القوى الطائفيةُ السياسيةُ لا تخفي تبعيتها للمشروع الدكتاتوري الإيراني بتلاوينه التي برز منها مشروعُ الحكم خاصة، وقامت الجماعات في البحرين بمغامرات خطرة على كل صعيد.

لهذا كان تتبريراتُ هذه القوى (اليسارية) لكل الأخطاء التي تسميها وسائل النضال من حرائق وتخريب مدعاة للفزع السياسي، فقد إنهارت البنيةُ العقلانيةُ الوطنية المكِّونة لهذا الجنين اليساري، وتسوقُ دائماً الشعارات بشكلٍ نفعي، مفصولٍ عن أية قراءات تحليلية للواقع وللقوى السياسية الاجتماعية في البلد والمنطقة، ولمضامين هذه المواقف وعلاقاتها، عبر فصم علاقات القوى الطائفية البحرينية بشبكاتها في الخارج، والمنظومات الإيديولوجية التي تشتركُ فيها، وقطع العلاقات بين ما حدث في إيران من نشؤ دكتاتورية رجعية ومولوداتها الشبحية التي تغلغلتْ في بعض السكان البحرينيين وإستغلت معاناتهم وحركتْ غرائزهم ووجهتهم للفوضى وفرض أجندتها السياسية المتقلبة غير المحددة الثابتة، مثلما أتضح أخطار تلك الدكتاتورية بشكل خطير في المنطقة والعالم.

وجاء عهدُ التغييراتِ السياسية في البحرين في أوائل القرن الواحد والعشرين وفتحَ السجونَ وأطلق سراح كلَ هؤلاء الذين قاموا بتلك الأفعال السابقة الذكر، وظهرت التنظيماتُ السريةُ علنية، وغدت لديها منشوراتها وشاركت في الانتخابات وغير ذلك من مظاهر العملية السياسية المتعددة وكل هذا في غضون عقد.

أجبرتْ التغييراتُ السياسيةُ العديدَ من القوى السياسية على تبدل أفكارها الفوقية، وتوجه بعض القادة السياسيين للتعبير عن أفكار إصلاحية ولتنمية العملية السياسية والابتعاد عن أفكار المغامرة السابقة.

لكن هذه التغييرات في لغةِ الخطابات السياسية لم تكن عميقة، ولم تتوجه لقراءةِ إشكاليةِ الماركسية كما حدثت في العقود السابقة، وكيف يمكن إنتاج رؤى تحولية ديمقراطية جديدة منها على صعيد التشكيلات وفرز العلاقات بين الإقطاع والرأسمالية خاصة، وإعادة النظر فيما سُمي بالتجاررب الإشتراكية، وإتخاد مواقف جديدة من التنظيماتِ التي نشأتْ في المنظومة الإقطاعية العربية الإسلامية، وهي كلها أمورٌ من الصعب القيام بها على مستوى القيادات الخطابية السابقة، التي غرقتْ في بحر التغييرات وأعمالها الإدارية وإعادة تأسيس الجماعات.

حتى على مستوى المهمات الفكرية العميقة لم يكن ثمة وقت لها لو كانت هناك الأدوات التحليلية، لأن القوى الطائفية السياسية والجماعات المغامرة التي إلتصقت بها لم تتركْ للبلدِ فرصةً للتنفس السياسي، نازلة بقوة ومرة أخرى للشوارع مزايدةٍ على التغييرات ورافعة سقفها لأعلى، بشكلٍ مثير مستفز وبشكل يومي وعبر إستخدام الشباب الريفي الذي ليس له تجارب سياسية وإجتماعية عميقة خاصة!

لا شك إن المشكلات والقضايا التي يُنتظر حلها في بلدنا البحرين كثيرة، وقد تحركت عجلةُ التغيير وتساهم قوى جديدة بشكل مستمر في هذه العملية، لكن من جهة أخرى فإن الأوضاع الاقتصادية معقولة، وينتظر زيادة تغييرها بشكلٍ مضطرد، ونحتاج لعقليات سياسية تحليلية تحدد المشكلات وسبل إصلاحها، لمراكمة تحولات جديدة. فالحديثُ عن الأخطاء بشكلٍ أيديولوجي مؤدلج عام غير مفيد، بل ومضر، فأخطاء مثل ضعف الخدمات الطبية العامة ينبغي تحديدها بشكل واضح وكيفية تطويرها، بدلاً من الجمل العامة عن التدهور والخراب فيها!، أو تلك العبارات العامة عن سرقة الشواطئ فيجب تحديد ذلك والبرهنة عليه قانونياً والعمل لتغييره عبر السبل الديمقراطية المشروعة. فلا أحد يقبل بالأخطاء ولكن بأي شكل نناضل ضدها؟!

لم تشتغل قوى المعارضة على عملية التراكم الديمقراطية بواقعية، وقد جعلتنا طرقها نخسرُ الكثيرَ على مدى السنوات السابقة رغم إنها سنوات تحولات هامة لشعبنا!

وكما قلنا فإن القوى الاجتماعية السياسية الريفية هي إحدى المشكلات الرئيسية لهذه المعارضة بسبب تخلف وعيها، ومحاولاتها للقفزات وفرض نفسها بالقوة، ويبقى اليمين المذهبي المحافظ القائد لها، ذا مواقف غامضة يتبدل مع تحولات السياسات الإيرانية، ففي الزمنُ الإصلاحي المشترك لرفسنجاني وخاتمي نشأت إمكانيات للمشاركة في العملية السياسية التحولية في البحرين، ولكن مع تصاعد قوى التطرف الإيرانية عبر الحرس الثوري توجهت العملية للصدام المتصاعد والمغامرات الخطرة على مستوى بلدنا الذي أُتخد كحقل تجارب رهيبة.

هناك خطوطٌ متداخلة غريبة غامضة ترى في المشترك السياسي والتناغم الشمولي، إن البحر الإيراني السياسي يلقي بظلالهِ على الجزر البحرينية بقوة، ويتم تشغيل عوامٌ للحدة السياسية ولأجندات معينة أساسها الصدام.

ولم يكن مشروعُ الدولة التحولي في البحرين بغافل عن ذلك، وعرضه للتحولات وفتحه البرلمان والنقابات والجماعات السياسية هو جزء لخلق علاقات بحرينية سياسية جديدة، كان يمكن تطويرها بشكل ديمقراطي برلماني صبور، وبشكل إصلاحات إقتصادية بشكل إجتماعي باحث جدي عن الأخطاء وتغييرها، ولكن القوى المناوئة للتحول الديمقراطي الوطني المشترك كانت تجد لها أسباباً للمزايدة وإستغلال أشياء عديدة للتفجير، بحيث كنا نركض من إطفاء حريق لإطفاء حريق آخر!

وكما أوضحنا فإن (اليسار) في البحرين كان في حالة إعادة تأثيث لوجوده السياسي، خاصة الفريق المعتدل ولكن الفريقَ المغامرَ أسرع لمواصلةِ تأجيجِ المعارك السياسية مع ذات القوى المذهبية.

حالاتُ المزايدةِ لم تكن تَخفى على أحد، ولكن تبقى الأسباب متعددة وبعضها مجهول حتى يكشفهُ المستقبل، والأهم الواضح فيها هو رغبة هذا اليسار الصغير المحدود في علاقته بالناس أن ينتفخَ سياسياً، وأن يأخذ مساحةً لم تعدْ له، بسبب دورهِ في هدم التشكيلات السياسية الوطنية عبر مغامراتٍ سابقة، ولعدم إنتاج أي ثقافة ديمقراطية عقلانية تتغلغلُ في صفوفه أو في صفوف الناس، ومن هنا كانت شعاراته الحادة وإستعراضاته وإستغلاله لنفس الشباب الريفي قليل الوعي والتجربة السياسية وشحنه بالانفعالات الحادة.

المزايدة والجملة الثورية المنتفخة بالغرور كانت هي أهم واجهة له في السياسة، وكانت له دراسات وثقافة مهمة ومناضلون عديدون ولكنه لم يركز عليها ويطورها، فالصبر السياسي لديه محدود.

فكانت المقاطعة الحادة بمظاهراتها وصخبها ثم كانت المشاركة بغياب الكراسي فيها، في حين أن القوى المذهبية السياسية هي التي أتيحت لها ملء الساحة دون أن تغير بوصة من واقع الجماهير العطشى، فكان ذلك مؤثراً على جذور اليسار المغامر اليابسة وشحنه بإنفعالات جديدة ظهرت في المغامرة الأخيرة هذا العام.

لم يعد ثمة يسار متماسك مؤثر في الحقيقة، فقد نضبت قوى البرجوازية الصغيرة اليسارية، ولم تنشأ برجوازية تحديثية ديمقراطية، وملأت القوى الدينيةُ الساحةَ وهي قوى ليست تحديثية، وذات جذور ماضوية، فلم تستطع توحيد الشعب أو توحيد السياسات الوطنية، وتطوير الإصلاح ولهذا ليس ثمة سوى الصبر السياسي ومراكمة التحولات الديمقراطية وتحفيز قوى الحداثة وعلى درس الظروف والقضايا ومشكلات الجمهور وعرضها وتنمية وعي ديمقراطي مستنير، وخاصة في تصعيد دور الشباب والنساء وإصلاح الريف من مشكلاته المزمنة.

اليسار الذي كان حقيقياً لم  تكن قيادته في مستوى المهمات المركبة للمرحلة الراهنة، ويكفي لتاريخها إنها أنشأت القوى السياسية ومشت في مرحلة طويلة صعبة كلها أزمات، ولكنها لم تورث قيادات شابة في مستوى المهمام المركبة للمرحلة، وهذه القيادات لم تطور وعيها بأدوات التحليل الجديدة في الماركسية والقومية والحداثة.

فوقفتْ صماءَ تجاه المرحلة التسعينية وما جرى فيها من أخطاء سياسية وفكرية، وكان هذا واضحاً في مواقفها من المعسكر (الإشتراكي) وعدم صعودها لمستوى الأحزاب اليسارية التي إعادت النظر في هذا المعسكر، أو تأييدها الصامت لـ(لليسار)المتخاذل المتواطئ مع الطائفية في لبنان وسوريا على سبيل المثال.

غيابُ هذه العقليةِ القوية التحليلية الناقدة للإرث الإستبدادي في اليسار، تظهرُ في حالةِ جمودٍ سياسية في وعي هذا (اليسار)، ففي الزمن التحولي الأول لاحظنا محاولة التميز عن اليسار المغامر، لكن هذه المحاولة لم تتصاعد ولم تتوجه لتطوير قوى اليسار عامة بل توجهت للمظاهر الخارجية بدلاً من الدرس والدخول في الناس، ثم إنزلقتْ لنفس موقف اليسار المغامر وخطأه الفادح الذي توج دوره السلبي، لكون المواقف الفكرية لمشروع اليسار العقلاني المُجهَّض غير متبلورة على أصعدة كثيرة فجاءت المواقفُ السياسيةُ تصطفُ في خاتمة المطاف مع المغامرين الطائفيين والقوميين.

اليسارُ مصطلحٌ غربي، يعبرُ عن التيارات داخل أروقة البرلمانات، ثم تحول إلى مصطلحٍ يعبرُ عن الاتجاهات الاجتماعية السياسية عالمياً. وبهذا فإن اليسار كقوى إجتماعية ضاغطة من أجل التغييرات لمصالح الأكثرية الشعبية يمكن أن يضم قوى متعددة حسب البُنى الاجتماعية وحراك قواها المنتجة في كل فترة تاريخية.

ولهذا فإن يسارنا يفترضُ أن يرتبطَ بتحولاتِ القوى المنتجة، وقد كانت في سنوات (50- 80) من القرن العشرين قد تشكلت قوى عاملة يدوية وطنية غالبة وتكون يسارنُا الوطني بالتناغم معها وعمل بكفاءة ضمن الحدود المتاحة له، وأوصلَ البلدَ للحظاتٍ تاريخية معروفة.

وهذه القوى العاملة تغيرت تغيراً كبيراً منذ ذلك الحين، وأدت التدفقات المالية الكبيرة على البُنية الاجتماعية لتغدو الطبقة العاملة بحرينية- أجنبية، بدون تناسب، وتظل رغم هذا التداخل الصعب والتغييرات الكبيرة بها قادرة على أن تطور نفسها وأن تساهم في التحول الوطني، ولم يتح لليسار في التحولات الديمقراطية أن يواصل تنفيذَ إستراتجيته الأولية البسيطة التي طرحها في بدء زمن التغييرات، بأن يشارك في عملية التحولات الإصلاحية بسبب إعتماده على الخطابات السياسية من مقره، ولم يكن هذا الطابع الفكري كافياً، فقد كان إرتباطه بالعمال ودرس أحوالهم ومساعدة تطوره الاقتصادي الاجتماعي الثقافي هو جوهر دوره المنتظر.

هذه العملية لم تحدث بشكل كبير، وأثرت الأحداثُ السياسية والصراعات الكلامية في جر هذا اليسار إلى صف اليسار المغامر والجماعات الطائفية المرتبطة بالتحركات الأجنبية في بعض المواقع الخطرة.

ضخامةُ البنية الاجتماعية للعمال المواطنين والأجانب التي لم يعد أي جسم سياسي قادر على التأثير العقلاني النقابي السياسي عليها ككل، وصعوبة التأثير فيها بأشكالٍ ديمقراطية، أتاحت للقوى السياسية غير العمالية والمرتبطة بفئاتٍ وسطى نحبوية أن تهيمن على الحركة النقابية. في حين أن أقساماً من العمال الأجانب حصلوا على قيادات مؤثرة عقلانية ناضلت معهم بشكل قانوني لتحسين أحوال بعض القطاعات ونجحت في ذلك.

إن تداخلَ اليسارِ المغامر والقوى المذهبية السياسية مزيجٌ معبرٌ عن النفعيةِ الذاتية وإلغاء مصالح الطبقة العاملة وتطوير أوضاعها، وقد كسرَ ذلك التأثيرَ القوي لليسار العقلاني في السبعينيات من القرن الماضي حين تحدث التحركاتُ النقابية والسياسية بشكلٍ مبرمج وبدون عنف وتخريب.

في حين أن الوقت الراهن يوضح تأثير القوتين السياسيتين السابقتي الذكر في حرفِ نضال العمال، عبر ربطهِ بمغامراتهما السياسية الخطيرة على الوطن والمنطقة.

هنا نجدُ الفئاتَ العماليةَ المكَّونةَ بشكلٍ كبير من قوى الريف ليست لديها أي تجربة نقابية وأي عمق سياسي، وتعيشُ في حالاتٍ من القلق الاجتماعي والتأزم المعيشي والتخلف التعليمي، وهي التي يَسهُل إصطيادها من قبل قوى البرجوازية الصغيرة اليسارية والدينية اليمينية المتطرفة، ولهذا نجدُ الهروبَ الواسع من حلِ مشكلات العمال الاقتصادية والعملية والتركيز على الصخب السياسي، فبالإضافة إلى تطلب ذلك درساً لمشكلات العمال وصبراً على متابعة أوضاعهم المختلفة وطول نَفسٍ في تغييرها، فإن جماعات الجمل الثورية غير الواقعية، لا يمكن أن يعملوا مع الطبقة العاملة بشكل حقيقي مستمر، وهم مشغولون بتفجير النظام أو بالقفز على الحياة السياسية المنفتحة.

مساران لا يلتقيان؛ طبقةٌ عاملةٌ تحتاجُ لحل مشكلاتها العملية والمعيشية، تُجمدُّ مطالبها، وتُرحلُ نحو المغامرات السياسية. فتبقى المشكلاتُ الجوهريةُ والعاديةُ للعمال البحرينيين خاصة كما هي، فيما تزدادُ مشكلاتُهم عبر المغامرات السياسية وما يحدثُ فيها من خسائر إقتصاديةٍ وإغلاق مؤسسات وتدهور لأجورٍ وغلاء.

وهذا ليس تحاملاً على أخوتنا وأخواتنا في الهيئات السياسية والنقابية بقدر ما هو رصد لما جرى ويجري، وكون خلفياتهما السياسية المتشنجة لعبت دوراً كبيراً في عرقلةِ تطور حياة العمال كما في عرقلة تطور الشعب ككل.

لقد رصدنا تلك الخلفيات المتشنجة في مجالات سياسية ولكن هنا يتوضحُ تأثيرَها على حياة العمال، أي على طبقةٍ مؤثرة في تطور وعي اليسار بدرجة خاصة، فهي حاضنته الكبيرة.

ولكن كيف يكون الدينيون حاضنين لهموم العمال وللوعي اليساري معاً؟ هذا ممكن إذا تخلوا عن الرغبة في الهيمنة على المجتمع وسوقهِ لما يريدون من مخططاتٍ جاهزة ولا تطور وضع العمال، ومن أهداف سياسية غير منبثقة من علاقاتهم الاجتماعية الوطنية ويفرضونها بالقوة، وكأنهم يريدون نقل نموذجهم الريفي إلى المدن، حيث يقومون بنشرِ دكتاتورية كبيرة على القرى والنساء والعقول والحريات.

مثل هذا الوعي لا يتماشى مع حياة الطبقة العاملة، الطبقة الحديثة، المرتبطة بأكثر العلاقات الاجتماعية إنسانية، كما أنه موقف إستعلائي لا يدرس حياة الشغيلة ويطورها في ظروفها الحقيقية، بل لديه موديله الجاهز عليها، يجرُهَا إلى الشوارع والسجون والغازات والرصاص والمقابر ليحقق دولة الهيمنة المذهبية غير المتوافقة مع مصالح الكادحين. أهذا نموذج يعملُ من أجله العمال؟!

إذن لا بد من نقد الذات المتعالية والتواضع في طرح البرامج، وتطوير حياة الناس الحقيقية لا الوهمية، ومشاركة بقية القوى السياسية والاجتماعية في العمل المشترك لحل مشكلات البلد وليس لجلب مشكلات للبلد.

إن تحالفَ المذهبيين السياسيين اليمينيين واليسار المغامر هو تحالفٌ غيرُ مبدأي، فلا يستندُ على أسس فكرية وسياسية موضوعية مشتركة معبرة عن أهداف شعبية حقيقية، فالأولون يمثلون اليمين المتطرف والآخرون يمثلون اليسار المتطرف، فكيف يمكن ترتيب مبادئ سياسية موحَّدة بين الأثنين؟

نقول (اليمين المتطرف) لكونهم لا يستندون على قوى إجتماعية من الطبقة الوسطى، فالتكوينُ الأصلي ضائعٌ في ملامح مستوردة محافظة إيرانية، لم تُغربلْ وتُنقد وتتشكلْ بحرينياً على أساس إجتماعي واضح عقلاني من تاريخنا الوطني.

وهو الأمرُ الذي يجرُّ هذا التكوينَ المحلي لبرنامج يميني متطرفٍ تفرضهُ الأجنداتُ الإيرانيةُ المبحرةُ في محيطٍ عاصف، عبرَ علاقةِ ولاية الفقيه وحكم العسكر المتصاعد.

ومن هنا فهذا التحالفُ يمثلُ عصاباً إجتماعياً سياسياً، أي هو جنونٌ سياسي لا يتعقلن سياسياً، وبالتالي يبقى السؤالُ ماهو الحل؟ ليس ثمة سوى هزيمته السياسية، والهزيمةُ ذاتُ شروطٍ مناطقية عالمية ومحلية متداخلة، أي هي نتاجُ أعمالٍ تجري على صعيد المنطقة وعلى صعيد بلدنا. ثمة أشياء خارجنا لا نستطيع أن نغيرها وثمة أشياء داخلية نستطيعُ أن نؤثرَ فيها.

إن التحولَ الداخلي يتطلبُ صعودَ قوى الحداثة الوطنية وخاصة قوى الطبقة الوسطى والعمال. ودون نمو هاتين القوتين على الصعيد السياسي الاجتماعي لا يمكن أن يتم تفكيك الجنون السياسي، وإرجاعه إلى حيثيثاتٍ إقتصاديةٍ وإجتماعية وفكرية محددة، يمكن درسها وتغييرها.

إن تصدعَ اليسار البحريني هو شيءٌ واضح، ولكنه لم يمت، ولهذا يبقى مهماً في إعادة نموه بشكلٍ جديد يعيدُ وعياً ديمقراطياً في العمال، ولحمةً وطنية وثقافةً حداثية عقلانية، ويغدو مُراقِباً لجنوح التحولات الرأسمالية نحو الأهداف الذاتية المحضة.

إن الطبقة الوسطى يغدو تطورها محورياً، وأساس صعود الديمقراطية المستقبلية المتكاملة، ولكن الاقتصاد الحر مطلوب والهيمنات مرفوضة، فكيف تتشكل الدوافع الداخلية في الطبقة من أجل أن تجعل الاقتصاد الوطني وطنياً بشكل متصاعد؟ إنها ترفضُ القيودَ على إستيراد العمال الأجانب، وكلُ رأسمالي يشتغلُ في نطاقه الخاص، لا يدري باللوحة العامة، أي بالمشكلات والأخطار والظروف المتباينة، فكل ما يهمه هو نمو أرباحه، فكيف سيساهم في العملية الديمقراطية الوطنية المتصاعدة وهي أساس نمو متجره ليكون مصنعاً، وأساس نمو البحرين لتكون مدينة حرة كبرى مستقلة في إتحاد إقتصادي عربي خليجي عالمي؟ إنه فقط مشغول بحسابه اليومي وأرباحه الصغيرة، فلا بد له من كيان سياسي معبر عن هذا التحول لبرجوزاية وطنية خليجية عربية لها سوق عملاق.

أي تطور حديث لا بد له من هذا الجدل بين عمال وطنيين وطبقة وسطى وطنية يتعاونان على مشروع مشترك، يختلفان في بعض الجوانب، لكنهما يتحدان في الحفاظ على الخريطة الوطنية.

إن وجودَ مرضٍ واسعِ الانتشار دليل على غياب الصحة السياسية الاجتماعية، وإذا كان التطرف في المذهبية واليسار شائعاً، فهذا لغيابِ يمين وطني يستثمر بشكل عقلاني، ويسار ديمقراطي يحللُ وينقد ويتجاوز أمراض الطفولة اليسارية.

إن الجمهور الذي يؤيد التطرف هو جمهور ضائع إجتماعياً، وهو من جذورِ فلاحين مُقتَّلعين من تاريخهم الريفي المتماسك، وهو شباب طموح ضعيف الإمكانيات التقنية والفكرية، وهو نساء محرومات في البيوت لا يجدن فرص التفتح والأعمال وغير هذا من فئات تجمع الأحباطُ والجمود وقلة الوعي فيها.

إن كسب هذا الجمهور وتوعية الشباب المتحمس الفاقد للوعي السياسي العميق، يمكن أن تقوم به القوتان السياسيتان الاجتماعيتان السابقتا الذكر، كلٌ في موقعه، حيث تتبلوران على صعيد تنظيم للطبقة الوسطى على طريقة الوفد المصري الليبرالي العلماني الديمقراطي، وعلى صعيد نمو يسار ديمقراطي يعيدُ النظرَ في الشموليات المختلفة التي أُسرَ في أيديولوجياتها، وبهذا يقومان بتفكيك العقد العصابية الاجتماعية السياسية للمرض الطفولي في كل من المدينة والقرية، وهذا يتطلب زمناً سياسياً طويلاً لكن بعض خطواته الآنية ممكنة واتضحت في تصاعد عمل فئات وسطى للاستقلال الفكري السياسي التحديثي والتوحيد وتصعيد الرقابة البرلمانية وفي ديمقراطية النقابات وغير ذلك من مهام، لكن الطريق طويل.

والأمور تغدو أخطر مع التقاعس والجمود فثمة خلايا فاشية قد تنمو من هذا العصاب الاجتماعي وهي تتلاقح عبر الإعصار الإيراني وما فيه من كوارث وحروب على صعيد المنطقة.

البناء الفلسفي في أولاد حارتنا

الفصــل الخامـس

البناء الفلسفي في أولاد حارتنا

رواية «أولاد حارتنا» هي رواية ذات إشكاليات كبيرة، لكونها تتحدث عن قصص الأديان السماوية في المنطقة، وهي قد جاءت ككتابة في مرحلة الرواية الاجتماعية فعكست مستواها الفكري، وما فيه من تناقضات استطاع الكاتب تجاوزها في أعمال أخرى تالية تناولت الإرثَ الروحي العظيم في المنطقة بدون التجسيد المباشر للانبياء.

يقدم لنا راوي رواية «أولاد حارتنا» افتتاحية يبررُ فيها الكتاب، فهو مسجلٌ لروايات الرواة، المتداولة في القهوة بهذه الحارة.

فهنا جسمٌ اجتماعي معاصرٌ صغيرٌ ملموس هو الحارة والقهوة والبيتُ الكبيرُ والساكن الذي فيه «الجبلاوي» والأوقاف المترتبة على تاريخ البيت.

«كلما ضاق أحدٌ بحالهِ، أو ناء بظلمٍ أو سؤ معاملة، أشار إلى البيت الكبير على رأس الحارة من ناصيتها المتصلة بالصحراء وقال في حسرة: هذا بيتُ جدنا، جميعنا من صلبه، ونحن مستحقو أوقافه، فلماذا نجوعُ ونضام ؟!»،(1).

نلاحظ هنا إن «الكلية» الوطنية غدت ذات جذور ماضوية، فكلمات مثل «الجميع»، ونحن، هي كلها تستكملُ التعبيرَ عن الضمير الوطني، وإن تجلى ذلك في تاريخ المنطقة العام، ومن هنا فهو يقولُ لاحقاً: «وحارتنا أصل مصر أم الدنيا، عاش فيها وحده وهي خلاء خرب» فتغدو الأنا الوطنية أصلاً للبشرية والوجود كذلك.

إن الراوي منذ البداية يخلقُ هذه الأزدواجية، بين البناء الاجتماعي المعاصر حيث البيت الذي تشكلَّ في الخلاء، وبين المنظومات الدينية السائدة في المنطقة.

إن البناءَ الاجتماعي المعاصر من قهوةٍ وحارةٍ وفتوات وأشياء هو علاقاتٌ اجتماعية موضوعية تعودُ إلى حقبة القرون الوسطى، حيث بعدُ لم تتفككْ بتحولات عصرية، فهي بناءٌ عبودي ــ إقطاعي لم يتحدثْ، وهذا البناءُ يفرضُ أشياءه ومواده الخاصة به. فهو الديكورُ الذي ستمثلُ فيه سيرَ أديانِ المنطقة وقد عُبِّر عنها بطريقة الحكواتي.

في حين أن المقصودَ بالروي ليس هذا البناء الاجتماعي العائد لحقبةٍ معينة، بل الوعي الديني الذي تشكل في هذا المنطقة خلال أكثر من ثلاثة آلاف سنة.

ولكن هذا الوعي الديني لا يُعرض كمقولاتٍ وآراء بل يُعرض كقصصٍ أو حكايات وهي حكايات داخل بناء مصري اجتماعي يعودُ للقرنين الماضيين.

وبهذا فإن الرواي راح يجسدُ المفاهيمَ الدينية الكبرى بأشياءٍ وعلاقات تعودُ لزمن آخر ومكان آخر، فمفهوم الإله الواحد جسده بـ«الجبلاوي»، والسماء التي تحكمُ الأرضَ جسدها بـ«الخلاء».

فالبيتُ الكبيرُ الذي يرمزُ كذلك للسماء، «على رأس الحارة، من ناصيتها المتصلة بالصحراء»، هو تلك السماء الدينية المسيطرة على الأرض الشرقية، المهيمنة على ناصيتها، والتي عبرها تتشكلُ الحقبُ والصراعات وتوزع الثرواتُ وهي التي تشكلت عموماً في الصحراء ففاضت على وادي مصر!

فيقوم الراوي ــ المؤلفُ بالتركيز في المبنى الفكري الديني بجعلهِ متشيئاً في ركائز صغيرةٍ محددةٍ هي: الجبلاوي، والبيت الكبير، والحديقة ــ الجنة، والمجلد الكبير ــ اللوح المحفوظ الخ..

وهو يجسدُ هذه الركائزَ من الإرث وتصويره، لكنه لا يسميها باسمائها الحقيقية المقدسة بل باسماء يخترعها ويحيلها إلى قصصٍ تبدو كأنها لا تمتُ إلى ذلك الأصل، لكنه يقصد أن يعنيها أيضاً عبر ذلك الديكور المحلي الذي اخترعهُ لها والتي أعطته أياه الحاراتُ المصرية في القرن التاسع عشر خاصة!

ومفهومُ الإله الواحد المجسد والمركز هنا هو خلاصة رأي المؤلف في فهم أديان المنطقة وتطورها، فهو إذ يجسد الجبلاوي كشخصيةٍ معبرةٍ عن مفهوم الإله الواحد، لا يهتم باختلافات ومفاهيم الأديان المتعددة، بل هو يستخلصُ ما هو جوهري داخل وعيه الديني، فيتناولُ الخطوطَ العريضةَ في هذه الأديان، وعلاقتها بالأرض، والمعاني الأساسية لظهورها وعلاقاتها بالسكان، لكن ليس في تاريخها الحقيقي بل في تاريخ القرن التاسع عشر المصري وقد صارت تلك الأديان «حكايات» وأمثولات وليست تاريخاً حقيقياً وليست تجسيدات حقيقية بل إشارات وعظات الخ..

وهو يحيلُ بعدئذٍ الأنبياءَ إلى «أولاد حارتنا» باعتبارهم قادة التحول في المنطقة، فيضفي عليهم هذا الدور ويصفهم ب «الأمجاد»، أما مفهوم الإله الواحد فيشخصنه بـ«الجبلاوي».

وهذه الشخصنة للإله هي التي تحير العقول:

«عمّر فوق ما يطمع إنسان أو يتصور حتى ضرب المثل بطول عمره. وأعتزل في بيتهِ لكبرهِ منذ عهد بعيد.. وقصة اعتزاله وكبره مما يحير العقول، ولعل الخيال أو الأغراض قد اشتركت في إنشائها»،(2).

فشخصنة فكرة الإله تقودهُ إلى سلسلة من المتناقضات، إنه يحيلُ الشخص هنا إلى فكرة الإله الواحد، فيضفي إشكاليات أخرى فكرية واجتماعية على هذا المفهوم.

إن التناقض بين فكرة الإله وشخصنتها تضعُ الراوي – المؤلف في تناقضات بلا حل.

«هو صاحب أوقافها وكل قائم فوق أرضها والاحكار المحيطة بها في الخلاء».

إنه يحول فكرة الإله الواحد إلى شخصٍ يتسمُ بالضخامة والصلابة فهو يستخدمُ مصطلح الجبلاوي القادمة من جبل، مما يحيلهُ إلى مفاهيم الإلوهية القديمة، إي مفاهيم إله التجسد والمكان والمحسوس وبهذا يعودُ إلى مفاهيم ما قبل الفلسفة. وحين يتحول مفهومُ الإلهِ إلى المادةِ يعاني المفهومُ من إشكالاتها التحولية ومن حيزها الخ..

لقد عاد إلى مفاهيم ما قبل الفلسفة القديمة، فحولها إلى تجسيدات تماثل التشيؤ القديم وفهم المذاهب «الحشوية» في الفكر الإسلامي التي تضعُ الإلهَ في حيز وبإعتباره جزءً من المادة، ففكرة الإله تغدو شخصاً، والركائز الغيبية من عرش وكتاب محفوظ وجنة ونار تتحول إلى بيت الخلاء والحديقة والكتاب في الغرفة والنزول من السماوات يصيرُ طرداً من البيت الكبير الخ..

وهكذا بدلاً من أن يجردَّ ويكشف سببيات الأديان بمفاهيم راح يجسدها ويصورها كما كانت بالوعي الديني ما قبل الفلسفي وبلغة تمويهية، تحيلُ تاريخَ الأديان الغني إلى حركات في حارة تعودُ لزمنٍ مختلف. فيدخلُ قاموسَ الحارة المصرية بتواريخ الأديان المغاير، لكنه يحاولُ أن يطابقَ بين الأثنين، بين تاريخ الأديان ومسرح الحارة المصرية التاريخي الحديث.

وبطبيعة الحال هناك مشابهات وتداخلات، فجسمُ التطور الاجتماعي التقليدي كما كان يحتضرُ في القرن التاسع عشر، كانت به بعض السمات والمظاهر المشابهة للقديم، فأستل من هذه السمات جسوراً لربطها بتاريخ الأديان.

 لكن تجسيده لفكرة الإله عبر شخصنته كـ«فتوة» يتضاد مع اتساعها وتاريخها الغني ومع تطور الحركة الفكرية الحديثة التحويلية، وهذا أيضاً ما يُطرح كذلك على شخوص أبطال الحارة هذه وهم رموز الأنبياء العظام.

يبدو إن مصادر نجيب محفوظ في التأريخ الفني للأديان تعتمدُ بشكلٍ كبير على العهدين القديم والجديد، فالتوراة حين تجسدُ تاريخَ الدين اليهودي تربطه بفهمها للإله كشخصٍ مجسد، وعالمُ الغيب تحليهُ إلى ما يشبه الحديقة السرمدية الكاملة بالجمال والسعادة، وتــُظهر خلق الإنسان كعملية صنع فخاري، وتــُحيل مفهوم الشيطان كذلك إلى كائنٍ ناري، يتمردُ على الإله الخ..

ولهذا حين يظهرُ الجبلاوي في أولِ مشهدٍ من جزءِ أدهم، يظهرُ بنفسِ التشكيل التوراتي القصصي التجسيدي لمفهوم الإله، فهو شخص داخل حيز:

«ضجت الحديقة بالحياة والغناء على حين ساد الصمت بالبهو. وخيل إلى الأخوة إن فتوة الخلاء قد نسيهم، وهو يبدو بطولهِ وعرضهِ خلقاً فوق الآدميين كأنما من كوكبٍ هبط»،(3).

إن التماثلات بين الجنة التوراتية كحديقةٍ غناء، يحافظُ عليها الساردُ وينقلُ حيثياتها، لكنه ينتقلُ فجأة إلى تعبير «فتوة الخلاء»، فيأخذُ من قاموس الحارة المصرية مفهوم الفتوة كترميزٍ للسلطة الكونية، ويضيفُ إليه تعبيرَ «الخلاء»، وهو تعبيرٌ يراوحُ بين الكونِ والبرية، فالخلاءُ يصلحُ أن يكونَ تعبيراً عن الفضاء، وعن الصحراء معاً، لكن تعبير الفتوة لم يُستخدم إلا لكي يتماشى مع كون الحارة المصرية هي المسرح الذي يجري عليه التمثيل الرمزي لتطور الأديان. وليس للتحقير والتقليل.

ويدعوه التجسيد الذي انساقَ إليه أن يُضخِّم من هذه السلطة الكونية وقد تمظهرتْ كائناً بشرياً:

«وما يقلقهم إلا أنه جبار في البيت كما هو جبارٌ في الخلاء وإنهم حياله لا شيء»،  (4).

هكذا يبدأ التناوسُ والتراوحُ والتداخل بين المصدر التوراتي والمصدر الشعبي المصري، فالإلهُ في التوراة يقول للملائكة بأنه سوف يخلقُ كائناً خاصاً، لكن الرواية المصرية تجعلُ الجبلاوي يتحدثُ عن «الوقف».

«أرى من المستحسن أن يقوم غيري بإدارة الوقف»،(5).

والوقف هو تعبيرٌ وعلاقة اجتماعية إسلامية، أي أمر يعودُ إلى التاريخ المصري الإسلامي، فتم إدخالهُ في التاريخ الديني القديم كتعبيرٍ عن الأملاك العامة، وعن مصير الأرض والبشرية عموماً، وهو موتيفٌ قصدَ منه الراوي أن يتجنبَ مسألة الخلق الإلهي لآدم، فقفز إلى قضيةٍ اجتماعية ستكونُ هي القضية المركزية للرواية ككل، وهي مسألة المصالح العامة للجمهور، فأخرجَ الصراعَ من الغيبي إلى الصراع الاجتماعي، كفعله في الرواية عموماً.

ولهذا قفز إلى الصراع بين أدهم وأدريس، بين آدم وأبليس، حين جعل الجبلاوي يقررُ أن أدهم هو من سيقومُ بإدارة الوقف، وبهذا فقد أعطى الإنسان مسألة إدارة مصيره حسب الرواية المحفوظية، وليس الشيطان أدريس الذي سيغدو تجسيداً للشر داخل التاريخ البشري.

وهنا تغدو الأنسنة مغايرة للتاريخ الديني التقليدي، فأدريس الذي يغدو بشرياً متصَّوراً يغدو جزءً من التاريخ البشري وليس من التاريخ الغيبي، فهو يسكرُ ويتشاجرُ بذاته، مع قيامهِ بمهمات أبليس الأخرى مثل التفريق بين الناس وزرع الشر والشكوك وجر أدهم إلى طريق الغواية والضلال. لكن الراوي يتخلصُ منه لأن غيبيته ستكونُ مثقلة على مسار الرواية الاجتماعي، فيموت خالقاً سلالة بشرية شريرة، فكأن الشر يظهر من جهة أخرى ذا أصل غيبي كالخير، ولكن الشر يظهر بصورة نادرة كجانب غيبي، ففي صفحة 403 فقط يتذكر الراوي الأصل الأدريسي أو الأبليسي للشر: «يا سلالة الخيانة ويا لصوص البشر. منذ أطلق ادريس ضحكته الباردة وانتم تتوارثون الجريمة وتغرقون الحارة في بحر الظلمات».

إن اعتبار الخير أو الشر من مصدر غيبي يتبدى كذلك في هشاشة علاقة الوعي أو العواطف بالبناء الاجتماعي، الذي يتكون بلا قوانين أو سببات مستقلة.

ويخلق محفوظ تضادات بين أدهم وأدريس بتشكيلات بشرية اجتماعية بدلاً من التضادات العنصرية، كعنصري النار والطين، بذكر إن أدهم جاءَ من أم سوداء عادية، بخلاف أم أدريس البيضاء، وهو استغلال موتيفات اجتماعية حديثة بدلاً من موتيفات القدامى ذات المصدر التقني.

ثم تجري الرواية المحفوظية على غرار الرواية التوراتية، فأدهم يعيشُ حراً سعيداً في الجنة، فتظهرُ زوجته المقبلة ويحاولُ الراوي عقدَ صلة بين الرواية التوراتية وبين روايته حول هذه المرأة الزوجة:

«بدا الظل الجديد كأنما يخرجُ من موضع ضلوعه. والتفت فرأى فتاة سمراء.. »،(6).

أن بقية «الأخوة» يبقون بغير ذرية في حين أن أدهم هو الخالق للذرية مع أدريس، وذلك لأن الأخوة مصابون بالعقم!

هكذا يقومُ الراوي بمتابعة الرواية التوراتية حرفياً في مواضع عامة مجسداً إياها على ذلك المسرح، ويختلفُ معها حين تتقاطعُ مع روايته، لكنه لا يستطيع الضبط الكامل بين الرواية التوراتية وبين الرواية الترميزية الخاصة التي يخلقها.

فأدهم يقومُ بالعمل حتى وهو في الجنة مسئولاً عن الوقف وهو جانبٌ يعبرُ عن اختلاف كبير بينه وبين الرواية الأصلية، فآدم فيها لم يكن يعملُ  فجاء العملُ بعد نفيه من الجنة، فهو ضريبة لعنة، جاءت بعد الأكل من الشجرة المحرمة، في حين أن العملَ في رواية محفوظ كان قبل وبعد الطرد، لأن البيت الكبير الذي زعم إنه يمثل السماء، لم يستطع أن يكون كذلك، فهو ذو علاقة بالأرض لأنه جزءٌ من الأرض وجزءٌ من العمل، فراح المؤلفُ يقطعُ علاقته الضرورية والحتمية بما حوله وبجذوره، لكي يلائم ذلك الرمز.

من هنا يغدو الخروج من البيت الكبير غير السقوط من الجنة حسب الرواية التوارتية، فالخروج من البيت الكبير هو خروج من عمل سهل وإداري إلى عمل يدوي، ومن منزل مرفه إلى الخلاء، فلا يغدو كالسقوط المصَّور دينياً.

كذلك فإن خروجَ أدهم ليس كسقوط آدم، حيث يخرج أدهم والوجود البشري كثيف حوله، فلا يغدو هو أبو البشر، كما أن الأرض المسكونة العامرة تجعلُ من وجوده المقطوع بلا دلالات المعاناة الابتدائية المصَّورة عبر التوراة. فكان بإمكانهِ أن يستعينَ بما هو موجودٌ من منازل وأشياء وسلعٍ، في حين كانت الأرضُ مجردة خالية أمام آدم. فلا تغدو معاناة أدهم التي يصورها محفوظ بعد ذلك مُبرَّرة فنياً، فهنا تعجزُ الرواية المحفوظية عن مجاراة الأصل، لكونها قامت بنسخٍ فوتغرافي للأصل، قاطعة بعض الجوانب، واضعة إياها على خلفية ليست من صلبها.

فأميمة تستخدمُ الداية أثناء الولادة، وأدهم يستخدم عربة لكي يعمل، ويتعامل مع سوق جاهزة عامرة بالسلع، وهو أمرٌ يعبر عن تاريخ بشري طويل ومثقل بالانجازات الحضارية، لكن الرواية الأصلية ترفضُ وجودَ إنجازات سابقة، وتجعل أدم وحواء يواجهان الطبيعة البكر، فليس ثمة حديد ولا عربات ولا أسواق، ومن هنا تغدو معاناتهما مبرَّرة، أما معاناة بطلي محفوظ فغير مبررة.

إن نقل محفوظ الحكاية من عصر إلى عصر، هو نقلٌ لا تاريخي، أي هو أدلجة فنية.

هذا ما يجري لقصة قدري وهمام «قابيل وهابيل» فهما يظهران بسرعةٍ بعد الخروج من البيت الكبير، ويظهران بتكوينين متضادين، دون وجود أي جذور لهما، سوى نفسيات متبلورة على الخير أو الشر، مع أدهم أو مع أبليس، وهذا تكوين غير جدلي سيكون من أساسيات منهجه.

لكنه باختزاله وسرده الممتع يدخل جوانب حسية مشهدية وحوارات درامية مصعدة للأحداث.

وكما قلنا فعدم تبلور وغنى قابيل وهابيل المحفوظيين، تعود إلى كونهما تخطيطات مجردة كصدى للأصل، في حين كانت شخصيتا قابيل وهابيل تعبران عن الصراع العميق والواسع بين الرعاة والمزارعين، فليسا هما مجرد شخصين.

إن نجيب محفوظ في تصويره للشخصيات والأحداث التاريخية يعتمد على ما يراه في الحارة المصرية، فيضفي هذا التصوير الذي يعيشه أجواءَ حية على القصة الدينية لكنه يسلبها أجواءها القديمة الحقيقية.

«وكان طابع حارتنا ــ كحالها اليوم ــ الزحام والضجيج. الأطفالُ الحفاة أشباه العرايا يلعبون في كل ركن، ويملأون الجو بصراخهم والأرض بقاذوراتهم. وتكتظ مداخل البيوت بالنساء، هذه تخرط الملوخية، وتلك تقشر البصل..».

إن هذه الحيوية المستمدة من المشاهد اليومية للحارة، تعقبها عملياتُ تغلغلٍ في الحدث ــ البؤرة، وإضفاء لغة سردية دقيقة وسريعة وجميلة داخل هذه التغلغلات في الحدث ــ البؤرة، مع جعل المشهديات محسوسة بربطها بالزمان والمكان.

«ولم تفلح زفرات الخريف الرطيبة في تلطيف هذا الجو المشحون بالنوايا الدموية فهتف زقلط…»،(7).

وإذا كان لم يوجدْ جسمٌ للحارة في زمن أدهم فإن هذا الجسمَ تواجد الآن مع القسم  المعنون بـ«جبل»، وهكذا فقد كانت البشرية موجودة في خلفية مسرح أدهم، رغم أن أسرة أدهم هي البشرية الحقيقية حسب الرواية، والآن تصبح الحارة هي الممثلة للمنطقة العربية فعلاً وتغدو الحارة كذلك هي نسل أدهم وهو أمر متضاد.

وهذه العملية التخطيطية الترميزية تتوالى الآن بخطوط مقاربة للأصل التوراتي، وهو ما يمثل من جهة أخرى تضاداً مع تاريخ الحارة المصرية الموغلة في القدم والتي هي أعطت اليهودَ تاريخـَهم الديني بشكل أولي واساسي.

فقد صار «اليهود» هم أول من بدأ التاريخ الديني حسب رواية «أولاد حارتنا»،(8) ويتم ذلك في المسرح الديكوري للحارة، وقد صارت فيها قهوات وأحياء، معبرة عن شعوب وقبائل بشكل اختزالي وامض. فحي «آل حمدان» يرمز لليهود العائشين في مصر، ولكنهم يظهرون بشكلٍ مطلق، وكتاريخ للوعي المشخصن في الزعيم والنبي موسى الذي يظهر باسم «جبل». ولعل الاسم ناتج من علاقة النبي موسى بالجبل السيناوي الذي دار حوله سفر الخروج.

إن البشرية أصبح لها تاريخ سابق، والحارة هي هذا التاريخ وهي كذلك تاريخ المنطقة العربية عامة والمصرية خاصة، ولكن الطابع الاختزالي يحيلُ التاريخَ إلى وقف وفتوات وعامة وتقلب للزمن والأحوال.

فكيف ظهرت الانقسامات الاجتماعية وغدا هناك صراع؟

«ولما اغلق الأب بابه واعتزل الدنيا احتذى الناظر مثاله الطيب حيناً، ثم لعب الطمع بقلبه فنزع إلى الأستئثار بالريع. بدأ بالمغالطة في الحساب والتقتير في الأرزاق ثم قبض يده قبضاً مطمئناً إلى حماية فتوة الحارة الذي اشتراه»،(9).

عبر تعبير «الوقف» يغيبُ الإنتاجُ، فالوقفُ رمزٌ للأملاك الموقوفة لعمل الخير، لكنه لا يظهر مصدره وتاريخه، بل يبدو كثروةٍ مقطوعةٍ عن جذورها، وكشيء مُعطى مسبقاً. من هنا فهذا التعبير المتجوهر خارج عن صراعات التشكيلات الاقتصادية، وبالتالي لا تظهرُ قوى اجتماعية متصارعة حسب تطور الإنتاج، لكن يظهر التاريخُ كصراعٍ بين الكل الاجتماعي وبين «الناظر» و«الفتوات» وهم أجسام اجتماعية هشة وبلا جذور.

يغدو الناظر والفتوات الجسم الاجتماعي الأعلى، المستغل للوقف، وتظهر عملية النزاع حين تتغير رغبات الناظر، وهذا أمرٌ سنجدهُ يتكررُ ليس مع جبل بل مع رفاعة الذي يرمز لزمن المسيح عليه السلام، وقاسم الذي يرمز للنبي محمد صلى الله عليه وسلم، فالاسماءُ تتغير ويتبدل النظارُ ولكن علاقة استغلال الوقف هي الباقية، ويتبدل الفتوات ولكن الفتونة تبقى مستمرة، ومقطوعة حين يثور أهلُ الحي المظلوم، فيحصلون على شيءٍ من الوقف، لينهض بعد ذلك حيٌ آخر لم يعط شيئاً من الوقف.

وهذا يتفق مع شيءٍ موضوعي من تاريخ المشرق هو سيطرةُ الدولِ على الثروة، فتقطعُ سيطرتــَها الثورةُ، لكن الثورة تأتي بدولٍ أخرى توزعُ الأموالَ العامة بشكلٍ جيد حيناً ثم تظهرُ طبقة تسيطر على الدول أداة الإنتاج الرئيسية وتوزعها عليها.

لكن الحكي في الرواية يحيلُ الطبقة المسيطرة إلى مجموعة أفراد فوقية بدون جذور، ولهذا فهي سرعان ما يــُـقضى عليها، لأنها أقرب أن تكونَ إدارةً بلا انغراس في الحارة.

ولكن هذا التمثلَ للتاريخ هو تمثلٌ اختزالي تجريدي أكثر منه تمثلاً واقعياً موضوعياً، فعلائقُ القبائل اليهودية المهاجرة إلى مصر ثم ذهابها إلى فلسطين وطرد أهلها، عملية أكثر تعقيداً من حركة شخص اسمه جبل وهروبه بسبب قتله لأحد أفراد الفتوة وتعلمه فنون السحر وكيفية إخراج الثعابين ثم عودته إلى الحارة وصراعه مع ناظر الوقف وعصابته وانتصاره بهجوم الأهالي بالطوب والعصي.

إن هذا الاختزال يضفرهُ محفوظ بلوحات شيقة وتحولات درامية في الشخوص محاولاً التقارب مع الأصل، لكن القبائل اليهودية لم تكن ذات جذر في الحارة المصرية، وبقاؤها في الحارة نفسها، يشيرُ إلى أن الحارة لم تعد هي مصر كما قال لنا الراوي في البداية، بل هي ترميزٌ لتطور الوعي الديني.

إن هذه الاختزالات والتناقضات تشير إلى فقر المنهج الفني التجريدي الاختزالي في كشف الحالة الواقعية المركبة، ومن هنا كذلك حين يتحول المسيح عليه السلام إلى حاوٍ آخر يخرج العفاريت من الأجساد، بهدف ملء الأرواح بالقيم الإيجابية، فتصبح المسألة شبه كاريكاتيرية.

إن مستوى قراءة محفوظ للأديان في تلك الفترة الخمسينية أو الستينية تنعكسُ على كيفية نظرهِ إلى الأنبياء، فنجد إن رفاعة تنعكس عليه رؤية إسلامية ــ كاثولكية فهو بلا ولادة عجائبية بل نتاج طبيعي لأبيه النجار وله سيرة إنسانية طبيعية بلا خوارق، لكنه من جهة أخرى بعيد عن الممارسة الجنسية الطبيعية، فيظهر بشكل زهدي منقطع كلياً عن الطبيعة.

وحتى معجزاته تتحول إلى عمل اجتماعي معرفي فهو يقوم بإخراج العفاريت من الأرواح، لكن باعتبار العفاريت قوى عصبية مرضية وعادات اجتماعية متكلسة، فهنا يضفي محفوظ على رفاعة وكل الأنبياء في الحقيقة طابعاً فكرياً اجتماعياً موضوعياً، فهم بالحقيقة بدون خوارق، وحتى الجانب الخارق الرمزي المتمثل بالعلاقة بالبيت الكبير الرامز للسماء، يغدو اجتماعياً، لكون البيت جزء من الأرض كما يبدو من مسار الرواية والأحداث، فلم يستطع أن يخلق منه قيمة غيبية ماورائية، ولهذا حين يأتي عرفة بعد ذلك ممثلاً للعلم الذي يكتسحُ هذا البناء الغيبي المفترض، يغدو ذلك متناقضاً، لأن البناء الذي صوره محفوظ كان بناءاً غير غيبي، فمالداعي للثورة عليه من قبل عرفة ــ العلم؟

هنا نجد أنفسنا أمام البناء الاجتماعي المصَّور بشكل اجتماعي عادي بدون خوارق، فهي أحياء تطالب بالوقف المستولى عليه من قبل الناظر والفتوات، وتغدو الرواية فصولاً لشخصيات متعددة تطالب وتحقق هذه العملية، بصور إنسانية اجتماعية واضحة وغير غيبية، إلا من علاقات وامضة بالجبلاوي، فتغدو الرواية تقارير عن الاجتماعي السطحي والمحدود، وليس غوصاً في هذه البنى الدينية المعقدة والمركبة، فهي أرشيف حكائي مُبسّط للدوران حول الاجتماعي ذاك.

كما أن الاجتماعي السطحي هذا مكرر بشكل مستمر، فالشخصيات المحورية تتكرر عملياتها السياسية التحولية، مع تباين أدوات بسيطة، فجبل يعتمد على القوة ورفاعة يعتمد على الحب، وقاسم يعتمد على القوة، وداخل أجسام هذه القصص هناك لمسات شخصية متنوعة مستقاة من تاريخ الأنبياء، وهذه اللمسات جوهرية غالباً من حياتهم الشخصية الحقيقية.

لكن ضخامة هذه المادة وتكرارها وتوجهها نحو الاجتماعي المحدود والمغامرات العسكرية حيث معارك الفتوات، لم يجعل منها تاريخاً للأديان في المنطقة كما أراد المؤلف، فهي تغيب عن جوهر هذه العمليات الفكرية الكبرى، عن كونها ثورات روحية وفكرية، فتغدو تسطيحاً لها.

والتسطيح يبدو كذلك من جانب تصوير هذه الرموز المقدسة فوق مسرح ذي ديكورات مبتذلة للحارة المصرية، حيث غرز الحشاشين والأغاني والنكات الخ.. وهذه جوانب كلها غيبت الطابع الفكري العميق للرواية، وحولتها إلى ما يشبه الفيلم الميلودرامي المطول.

إن المؤلف يشير إلى تباين مستويات التطور بكلمات مبسطة كأن يصف العرب بما أطلق عليهم بأنهم حي «الجرابيع» وهو اصطلاح لتحديد البداوة، لكن هذا الاصطلاح لم يستطع أن ينفذ إلى الدين ويكشف دوره فيه.

وهكذا فإن هذه التبسيطية الروائية التجريدية سوف تعطينا لوحة كاريكاتيرية عن الأديان وليس الأديان نفسها.

يمثل عرفة حسب تلك التخطيطية الروائية مسألة العلم والمعرفة، وهو يأتي إلى الحارة متجهاً إلى حي رفاعة، الذي يعبر حسب رموز الرواية عن العالم المسيحي الغربي، رغم إنه في المشرق العربي!

«فاشارت المرأة إلى ربع في حي رفاعة وقالت ــ هناك بدروم، خلا مذ ماتت ساكنته حرقاً يرحمها الله! »، (10).

إن سكن عرفة في الحي المسيحي المرمز يدل على أن الراوي يدرك كون الثورة العلمية والصناعية تمت في أوربا، ثم يجسدُ عرفة وأخاه حنش بشكل تخطيطي كالسابق، فهو له علاقة بالتجريب والاكتشاف الصناعي ويسميه السحر، وبدأ يمارسُ أعماله هذه المركزة على صنعِ قنابل زجاجية، فتغدو بمثابةَ نفيٍّ للعصي التي يستخدمها الفتوات، فيتركز التحديث والانقلاب الصناعي في مسألة القوة العسكرية، وهكذا فإن العملية الاختزالية تتواصل في رمزية عرفة.

وهو يساير خطوات الأنبياء برفض الفقر وتحكم الناظر والفتوات ويريد الازدهار والغنى للناس، لكنه انتهازيٌ وتقنيٌ منسلخٌ عن الإرث الديني، فهو يقول عن أهالي الحارة الجبلاوية:

«كل واحد يفاخر برجله بغباء وعمى، يفاخرون برجال لم يبق منهم إلا أسماؤهم، ولا يحاولون قط أن يجاوزوا الفخر الكاذب بخطوة واحدة! أولاد كلب جبناء.»،(11).

إن وعي عرفة ولغته التعبيرية توضح إن هذا العلم التقني ليس هو طريقة وعي علمي، فتغدو الأديان كما صورها الراوي ــ المؤلف، تخطيطات اجتماعية غير ذات جذور عميقة في الوعي والسلوك والاقتصاد، فهي ليست بنية لديه، وهكذا عبر عدة زجاجات حارقة تستبدلُ النبوتَ، ويمكن إقامة تحول وأزدهار، وهي لغة تتماشى مع وعي سلامة موسى بإمكانية إزالة الأديان عبر العلم والتقنية.

بطبيعة هذا الوعي الفني لا يمكن تشكيل بنية معمقة، فـتــُستعاد البنية السابقة بطرقها الترميزية التجريدية وذلك بتشكيل المرأة كرمز للأرض، فعرفة يحب عواطف التي يقتلُ أحدُ الفتوات أباها، وهي تقبلُ بالزواج من عرفة ثم تعارضه حين يكون مجرد أداة في آلة الناظر الاستغلالي، وحين يخونها ويخون مثله.

كما تــُستعاد أيضاً صراعات الفتوات كرمز لصراع الأديان، وترتفع ممارسة عرفة التقنية بحيث يتمكن من صنع زجاجات كثيرة مدمرة، ولكن هذه التقنية تقع تحكم الناظر الذي يرمز هنا لتحكم الدول الغربية في العلم وتوظيفه لاستغلالها وهيمنتها، فتحول من رمز للإقطاع للرأسمالية!

ويتم انتقال عرفة للعيش قرب منزل الناظر، وتتم إبادة الفتوات ويتم أسر العلم، ويعيش عرفة التناقض بين انتمائه للناس وبين السيطرة عليه من قبل الناظر، فيخون الأخير ويعود للجمهور لكنه يــُـقتل ويذوبُ حنش أخوه في هذا الجمهور وعداً وأملاً بأن العلم سوف يتجاوز الأديان ويعود منتصراً ملغياً التخلف والظلم.

«المهم إن الناس عرفوا الرجل، وما كان ينشدهُ من وراء سحره للحارة من حياة عجيبة كالأحلام الساحرة. ووقعت الحقيقة من انفسهم موقع العجب فاكبروا ذكراه ورفعوا اسمه حتى فوق جبل ورفاعة وقاسم»،(12).

بطبيعة الحال إن هذا الرفع لم يتم بل أن الأديان استعادت نفوذها بشكل أكبر في المشرق خاصة، وهذا الحلم التفاؤلي مرتبط بالنزعة العلمية التقنية التي كانت مدرسة سلامة موسى ولويس عوض تعتقد بانتصارها الوشيك، لكن محفوظ حاول أن يخلق وحدة بين الأديان والمدرسة العلمية التقنية تلك، والتي كانت ضعيفة في دراسة الــُبنى الاجتاعية العربية الإسلامية.

لقد تجاوز محفوظ تلك المدرسة بمحاولةِ تغلغلهِ في الإرثِ الديني وإقامة صلة معه، لكن من خلال منهج عدم التغلغل في جذور الأديان، ومن خلال رؤية تضاد شبه مطلق بين الأديان والعلم، وليس بإقامة صلة بين الوعي الديني الديمقراطي والوعي العلمي الديمقراطي، فهما وجهان لعملة واحدة، بشكلٍ تاريخي نسبي.

أما الوعي الديني الدكتاتوري والوعي العلمي الدكتاتوري فكل منهما يمثل إجتثاثاً للآخر بدون إمكانية لتحقيق الاجتثاث، لكن في بداية النهضة العربية الحديثة كان الوعي النخبوي العلموي يعيشُ على تلك التناقضات المطلقة بدون وعي جدلي يتعمقُ البنى والتداخلات بينها.

ولهذا فرواية «أولاد حارتنا» تمثل هذه العلموية التي تشربت روحاً ديمقراطية شعبية، فكشفت طبيعة الأديان كثورات، بعملية تحليلية فنية اختزالية، كما قرأت ثورة العلوم بذات الطريقة، وكان إنتاج هذه الرؤية داخل مبنى الرواية يمثل إشكالية بتجسيد الرموز المقدسة في مثل هذا الأطار، لكن كانت تلك خطوة على طريق نجيب محفوظ الطويل في تحليل الواقع فنياً وعبر التجريب والبحث المشروعين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

هوامش الفصل  الخامس

(1): رواية أولاد حارتنا، دار الآداب ، ط 9، ص 5.

(2)المصدر السابق، 5.

(3) المصدر السابق ص 11.

(4): المصدر السابق، ص 11.

(5): المصدر السابق ص 12.

(6):  المصدر السابق،  ص 115.

(7) المصدر السابق، ص 144.

(8): (هذا التأريخ التوراتي عن الألوهية سوف يستبدله محفوظ بعرض آخر في رواية (العائش في الحقيقة) التي سوف تصدر بعد عقدين من السنوات.

(9) أولا حارتنا، ص 116 – 117.

(10): المصدر السابق، ص 451.

(11): المصدر السابق، ص 457.

(12): المصدر السابق، ص 552.

https://g.co/kgs/rNahSK

عبـــــــدالله خلــــــــيفة : حـــوارات

حوارات عبـــــــدالله خلــــــــيفة في كتابه الملعون الصادر بعد وفاته (الملعون سيرة وحـــوارات وما كتب عنه، 2016.)

أدب السجون

• كيف تحصلون على أدوات الكتابة . .

ــ كانت عملية الحصول على أدوات الكتابة في غاية الصعوبة خاصة فيما يتعلق بالأقلام، فالأقلام نادرة وشحيحة جداً، في حين أن الأوراق أكثر سهولة، فهي تظهر من علب صابون (التايد) لكن المسحوق الإيراني في ذلك الوقت(درايا) ، منذ اواسط السبعينيات حتى بداية الثمانينيات ، كان الأكثر كرماً في تحول أغلفته إلى الورق، فحين تنقع هذه الأغلفة بالماء ثم تجففها تتحول أجزائها الداخلية المتعددة إلى دفتر كامل من الممكن أن تكتب عليه قصة قصيرة كاملة!

لكن مسألة الأقلام كانت عويصة وظلت تعرقل عملنا الكتابي، ومن الممكن التغلب عليها بمساعدة شرطي أو سجين، وقد قمتُ في سجن (جدا) بتعليم بعض السجناء القراءة والكتابة، فكان أجري هو الحصول على بعض هذه الأقلام التي تتحول إلى كنزٍ ثمين، فأنت تخبئها في علب معجون الحلاقة أو علب الصابون الناعم، وقد يتحول قلم الرصاص إلى طول أصبع، فتضعه في غصن شجرة، وحينئذٍ بإمكانك أن تكتب به!

لكن مشكلة الأقلام ظلت على مدى أعوام السجن مرهقة للجماعة وكأنها قضية وطنية كبيرة، حتى قمنا بحل بعض إشكالياتها في سجن (سافرة) حيث كنا نبدل أقلام الناشف التي تعطينا إياها إدارة سجن سافرة الممتلئة حتى نهاياتها بأقلام ناشف أخرى، تكاد أن تكون فارغة من الحبر، فيأتي العريفُ الأردنيُ صارخاً (أين الكلمات) ويلفظها بطريقة لهجته التي تـُضخم الكاف، فهو لا يقصد الكلمات بل القلمات!

ولم تنفرج أزمة القلمات حتى خرجنا واستعملنا الآلات الطابعة ثم الكمبيوتر لكن ظل قلم الرصاص هو الأثير، وصارت عقدة فكلما رأيتُ قلم رصاص سرقته، حتى راحت تتجمع لدي بشكل هائل دون أن أكتب بها!

• هل هناك بعض الممنوعات . . .

ــ الحياة في السجن كلها ممنوعات ، فلا أحدٌ يسمح لك بالكتابة ، التي هي نشاط غير قانوني ، لأنهم عزلوك لكي يمنعوك من الكتابة والتأثير الفكري والسياسي، فلا بد وقتذاك أن تتحايل على هذه القيود ، فتكتب وراء الجدران وبعيداً عن عيون الحراس، وتخبئ ما تكتبه تحت الفراش ، أو بين اللعب ، أو في أمكنة أكثر غورا ، وأن تجعل الأوراق أقل حجماً بشكل مستمر ، وأن تخبئها بين ثيابك في لحظات المداهمة وأن تحتفظ بنسخ ، وأن تستغل الرسائل الموجهة للأهل لكي تنسخ هذه الأعمال وترسلها للخارج تحت عيون الرقيب نفسه .

• ما انواع الكتابة . .

ــ كنت دائماً ولا أزال القصة القصيرة ، والرواية ، والمقالات ، والبحوث، منذ أن كنتُ طالباً في المرحلة الثانوية وفي معهد المعلمين ، وفي السجن واصلتُ نفسَ الأنواع الأدبية والفكرية ، لكن أصبح لظروف السجن تأثيرها من حيث صعوبة الكتابة ، وصعوبة كتابة البحوث خاصة ، ولكن انفتح مجال القصة القصيرة أكثر ، لأن نفس السجن نفـَسٌ سريع ، متوتر ، وهو كذلك مطول ، لأنه يتيح لك (التنقيح) عشرات المرات ، فليس أمامك جريدة تسرع بإعطائها قصصك ، وأمامك كذلك وقت طويل منذ أن تشرب الشاي الأحمر الكريه حتى تأكل وجبة المساء التي تأتي في العصر ، ولهذا فإن خيال الكتابة يتطور ، وتدخل معهد التشكيل المعمق للنص !

• هل يمكن للسجين أن يكتب عما يدور في الخارج .. .

ــ الكتابة حرة في السجن أكثر من خارجه ، لأنك تستطيع أن تكتبَ ما تشاء فأنت محبوس أصلاً وغير معرض للعقوبة رغم أنني عوقبت عن الكتابة داخل السجن. ولكن عموماً أنت في الكتابة عموماً تلغي الجدران ، والحواجز وتكتب بحرية ، لأنك تكتب من أجل أن تغير ، لكن حياة السجن الداخلية تعطيك مادة خصبة ، فأنت تقابل مجرمين عتاة ، فهذا قتل ولداً وذاك سرق خزنة وهرب بها ، وثالث اغتصب وقتل من أغتصبه ، وتجد هؤلاء يعيشون بهدوء ويأكلون ويمتمعون بالحياة ، وكأنهم قتلوا عصافير أو قططاً ، وكذلك تجد أن المعتقلين السياسيين بشخوصهم ونماذجهم الكثيرة يعطونك مادة للكتابة ويجعلونك تحلل الواقع بدرجة أكثر عمقاً مما كنت ترى سابقاً.

• ماذا أضافت تجربة السجن إلى تجربتكم ….

ــ تجربة السجن مريرة ، انقطاع عن الأهل والناس ، وعن الحرية ، وعن النشاط ، وعن الأكل اللذيذ ، وعن النساء ، فهي أما أن تصلبك أكثر أو تحطمك ، وقد استفدت من كل تجربة مريرة ، وبدلاً من أن أضيع وقتي ، كنتُ أتعلم أي شيء ممكن ، أقرأ أي كتاب موجود ، أي ورقة عن الأدوية أو السحر أو العلوم أو الدين ، استمع للقصص والدروس والتجارب ، أتعلم من أصدقائي وأعلم ، أكتب بشكل مستمر ، تجارب كثيرة كتبتها ، وضاع الكثيرمنها ، لكنها صقلت قدراتي في هذا المجال .

• عندما تكتبون هل كان لأحبابكم . . . .

ــ بطبيعة الحال فأنت جزءٌ من أهلك ، وكانت أمي قد ماتت في الشهور الأولى من سجني ، وكتبت قصصاً عديدة عنها ، وكذلك أهلي ، وحيِّ ، حيث استلهمت حكايات منطقتنا (القضيبية والحورة ورأس رمان ) وظهرت في روايات عدة : أغنية الماء والنار ، والضباب ، والينابيع الخ.. وتأخذ العلاقات الأسرية مكانة والعلاقة العاطفية مكانة ، فالمرأة لها من وجودك في السجن نصيب ، وكانت لي علاقة عاطفية بامرأة ، ويحدث مزيح مركب بين كل ذلك، فالكتابة ليست تسجيلاً بل إعادة تركيب لعناصر كثيرة .

• هل للعلاقة الجنسية . . .

ــ ليس هناك أخطر من الجنس بعد السياسة ، فالحنين للمرأة يأخذ من وقتك الكثير ، وتتشوه بدون العلاقة الصحية بالمرأة ، وتصبح حياتك الجنسية غير سليمة حتى يكتب لك الله الفرج من الظلم والكبت والوحدة الشقية ومعاركة الفراش في الليل ، حتى تصيبك هلوسة جنسية ، وتزداد أحلامك البيضاء ، ولعلها رحمة حتى تفرغ شحناتك حينما يستمر السجن سنوات كثيرة !

كتبت أعمالي الأولي داخل السجن السياسي

ــ أمنية طلعت

ــ الأهرام العربي

عبدالله خليفة واحد من المبدعين المميزين في مملكة البحرين‏,‏ فهو يكتب القصة والرواية‏,‏ إضافة إلي الدراسات النقدية الأدبية والمقال الصحفي‏,‏له العديد من الأعمال المميزة التي يسهم بها في إثراء الحركة الأدبية بالبحرين وإنضاجها حتي تتحول البحرين إلي منتج أدبي حقيقي ومميز في المنطقة العربية سواء هي أم منطقة الخليج بشكل عام‏…..‏وعبدالله خليفة واحد من مثقفي البحرين المناضلين من أجل وضع أسس الديمقراطية وإعلان دستور وطني هناك‏,‏ وذاق مرارة السجن السياسي عقب إلغاء المجلس الوطني البحريني في منتصف سبعينيات القرن الماضي‏.‏

وفي واحدة من زياراته المتعددة إلي دبي جلست إليه في محاولة للاقتراب منه والتحدث معه حول أعماله وإسهاماته الأدبية ورؤيته النقدية لإبداع الخليج‏,‏ سألته في البداية عن سبب ندرة الأسماء الخليجية المنتشرة عربيا في مجال القصة والرواية مما يؤدي بطبيعة الحال إلي قلة الأعمال الخليجية فقال‏:‏

ــ الحقيقة أن الرواية في الجزيرة العربية والخليج عمرها قصير نسبيا ولا يتعدي الثلاثة عقود وهذه فترة غير كافية كي تنضج وتنتشر‏,‏ فمثلا خلال القرن العشرين لم تنتج الجزيرة العربية والخليج أكثر من خمسين رواية والسعودية مثلا وهي بلد ضخم وكبير جدا لم تنتج منذ منتصف القرن الماضي سوي روايتين علي الأكثر‏,‏ لكن بعد منتصف القرن العشرين ومع الثورة والتطور الاجتماعي والثقافي بدأت الأجيال الجديدة تنتقل من القصة القصيرة إلي الرواية لأنه حتي في البدايات الأولي معظم الأعمال الأدبية كانت متجهة نحو القصة القصيرة لأن الرواية تحتاج إلي تراكم القصة القصيرة ذاتها فنيا وإلي اكتشاف الواقع بشكل عميق وإلي التطور الشكلي ونموه وهذا لا يجري إلا من خلال الاحتكاك العميق بالرواية العربية والعالمية وهذا ما جعله يتطلب فترة زمنية طويلة‏.‏

‏•‏ طبعا أنت لا تحسب عبدالرحمن منيف ضمن ما ذكرت؟

ــ عبدالرحمن منيف انتقل من الجزيرة العربية ليعيش في المناطق الشمالية بسوريا والعراق وهذه أماكن ذات ثروة ثقافية عميقة وقديمة ولاحظي أنه حتي في تطور الإسلام والثقافة العربية القديمة ظهر الإسلام في شبه الجزيرة العربية لكنه لم يتجذر فيها أو يكون مؤسساته الثقافية والحضارية وإنما انتقل إلي الشمال في العراق وسوريا والمشرق في مصر وهذه المناطق هي التي كونت الثروة المعرفية والثقافية بينما عادت الجزيرة إلي حياتها الصحراوية‏,‏ هذه الحياة وقلة المدن وتباعدها وعدم وجود تطور اقتصادي عميق في تلك السنوات ما كان ليؤدي إلي تطور ثقافي كبير جدا في العصر الحديث‏,‏ بدأ هذا التطور نتيجة للنمو الاقتصادي الجديد بسبب ظهور النفط‏,‏ عبدالرحمن منيف تواجد في المناطق العربية الأخري واستطاع أن يتغلغل في بيئتها الثقافية والفنية وأن يكون جزءا منها‏,‏ والملاحظ على كتابة منيف عن التكوينات الخليجية الجزيرية على أنها نظرة من الخارج مثل مدن الملح التي يكتبها كموجود في سوريا أو العراق ويكتب معتمدا علي مذكرات الإنجليز وغيرها إضافة إلي ذكرياته هو نفسه في المنطقة والتي لم تمتد طويلا‏,‏ وهناك أمر مهم أيضا أحب أن أشير إليه أنه لو كان يعيش في الداخل ما استطاع أن يكتب رواية بهذا الشكل لأنها موجهة بشكل أساسي للأسرة الحاكمة‏.‏

‏•‏ هل تريد أن تقول إن منطقة الخليج تربة غير صالحة للشكل الروائي الإبداعي؟

ــ لا ولكن نظرا لأنها لم تكن متجذرة في التربة الثقافية ليس لها تاريخ كبير مثل البلاد العربية الأخرى وإن كان النفط والنمو الاقتصادي أدي إلي تسارع نموها وإن كان ذلك قد أدي إلي ظهور سلبيات مثل سهولة تسمية أي نثر رواية وطباعتها لتوفر المال‏,‏ كذلك استغل الكثيرون قدراتهم المادية للترويج لأسمائهم في الوطن العربي في حين لم يتمكن آخرون ممن لا يمتلكون المال‏,‏ لتبقي المواهب الحقيقية مدفونة في الداخل لتحفر بهدوء‏,‏ وخاصة أن المنطقة لم تكن كلها معرضة للثراء‏,‏ فهناك أجزاء شديدة الفقر وهناك العديد من الكتاب الحقيقيين زج بهم في السجون مثلما حدث لدينا في البحرين حيث لدينا تجربة مريرة في الحياة السياسية وأغلب النتاج الشعري والقصصي البحريني مكتوب داخل السجون فكيف يروج نفسه كي ينتشر‏.‏

‏•‏ وهل كتب عبدالله خليفة أدبه في السجون أيضا ؟

ــ بالطبع كتبت جزءا منه وليس كله في السجن‏,‏ فلدي شهادة روائية كتبتها داخل السجن حيث مررنا في البحرين بصراعات سياسية حادة منذ السبعينات وكان لدينا مجلس وطني ونقابات ومحاولة جادة للإصلاح السياسي لكن الحكومة قامت بحل المجلس الوطني عام ‏1975‏ واعتقل على إثر ذلك الكثير من الكتاب والمناضلين وكنت أنا واحدا منهم حيث ظللت بالسجن حتي الثمانينيات‏,‏ لكن ما أحب أن أؤكد عليه أن وجودي في السجن لم يكن شرطا لخروج إبداعي بشكل جيد‏,‏ فالمكان ليس له علاقة بجودة وشكل الإبداع وإنما المهم أن يكتب الأدب بلغة فنية تراعي المعمار الروائي أو القصصي وكون الرواية كتبت في السجون لا يعطيها ذلك أي أهمية فنية أو مكانة روحية غير التي تتوافر للعمل المكتوب خارج السجون‏,‏ لكن الكتاب في السجون تصادفهم عقبات كثيرة تجعل من قدرتهم علي إنجاز عمل أدبي داخل السجن انتصارا كبيرا على واقع مأساوي‏.‏

‏•‏‏ ما الأعمال التي كتبتها داخل السجن؟

ــ كتبت ثلاثة أعمال في هذه الفترة الأول اسمه اللآلئ ومجموعة قصصية ثم رواية باسم القرصان والمدينة‏,‏ وتشكل هذه الأعمال بداياتي الأدبية حيث كتبتها في السبعينات وحتي تخرج من السجن وتعبر الجدران حفظتها داخل أنابيب معجون الحلاقة ليأخذها صديق ويطبعها بعد ذلك‏.‏

‏•‏‏‏ هناك ملاحظة مأخوذة علي الإبداع القصصي الخليجي وهي أنه لا يخرج عن إطار التراث والغوص وصيد اللؤلؤ‏…‏ألا توجد مواضيع أخري؟

ــ الرواية لابد أن تغترف من الواقع‏,‏ فمثلما قام نجيب محفوظ بتحليل الحارة المصرية‏,‏ يقوم كتاب الخليج بتحليل مجتمعهم وأرضهم والمهن التي امتهنوا بها مثل الغوص والصيد‏,‏ وكما تعذب فلاحو مصر في الأرض وعانوا من سيطرة الإقطاعيين‏,‏ تعذب الخليجيون في البحر من سيطرة الربابنة والنواخذة‏,‏ فكان مثلا الربان يربط الصياد الذي يعترض عليه في الصاري وإذا مرض صياد لا يصرف له أجر وإذا مات تشردت بعده عائلته وهكذا‏,‏ لقد كانت تلك المرحلة من المراحل القاسية على الناس التي خلقت قصص كفاح وبطولات وأنا أعتقد أن هذه المرحلة كانت أفضل من الوقت الحالي حيث يتولى الخليجيون الإدارات وينتفخون ويتعالون على العاملين من الجنسيات الأخري‏,‏ إذن التجذر في شخوص المنطقة والتعرف عليهم وتحويلهم إلي روايات وأيضا استغلالها للترميز على الوضع الراهن أمر مطلوب‏,‏ المهم أن لا يقوم الكاتب بالبكاء الرومانسي على الماضي والنظر له على أنه النقاء والصفاء والخالي من السلبيات‏,‏ يجب النظر للماضي ودراسته بذكاء وبشكل موضوعي ونرى إلي ماذا أدي ثم تحليل الواقع المعاصر بجميع جوانبه‏.‏

•‏ نعود إليك‏..‏ هل بدأت بالقصة القصيرة أم بالرواية؟

ــ بالقصة القصيرة فـفي المناطق التي لا يوجد بها تراث قصصي غني معاصر متجذر تكون البداية دوما مع القصة‏,‏ فنحن عندما بدانا في الستينيات والسبعينيات كتابة القصة‏,‏ كانت هناك بلدان في المنطقة العربية تكتب هذا اللون الأدبي منذ قرن مضي وعندها منجز إبداعي وثقافي راق يمكن لأي أديب جديد أن يستند إليه أما في الخليج فليس لدينا هذا التراكم المنجز لمدة قرن لذا بدأنا بكتابة القصة القصيرة لأنه لم تكن هناك روايات منجزة في المنطقة‏,‏ بالطبع كانت هناك محاولات لكتابة الرواية لكنها خرجت مفككة ذات بنية ضعيفة وظهرت في شكل تربوي إصلاحي متعال على المجتمع‏,‏ لكن نحن بدأنا في الستينيات والسبعينات بالحفر الموضوعي في الحياة واكتشاف النماذج على حقيقتها وتحويل القصص القصيرة بشكل تدريجي إلي رواية‏,‏ عموما الكتابة الأدبية كلها واحدة ولكنها أجناس مختلفة وليس معني هذا أن تحول كاتب القصة القصيرة للرواية أمر طبيعي فمن الممكن أن لا يكتب الأديب سوي لون واحد طوال حياته ويمكن أن يعزف على اللونين‏.‏

‏• أنت تكتب في النقد الإبداعي أيضا فهل يؤثر الجانب النقدي داخلك علي الإبداعي؟

ــ عندما أكتب إبداعا أدبيا لا أنظر إلي أي مقاييس إبداعية مسبقة أو أي نظريات أفصل عليها قصة ولكن أنا لدي نظرة شخصية للأدب بشكل عام‏,‏ نظرة تنطلق من المدرسة الواقعية وتطوراتها ومدارسها كلها‏,‏ في البداية اخترتها بشكل انعكاسي مباشر ومع تطور التجربة أخذت الواقعية بشكل أعمق أنمو من خلالها‏.‏

‏•‏ وما نظرتك المستقبلية للكتابة الإبداعية في الخليج‏..‏ هل ستشهد تطورا لتشكل تيارا خاصا في الخريطة الإبداعية العربية؟

ــ ما يحدث أن الشباب في الخليج لديهم سيولة نقدية تشجعهم على التسرع بالنشر دون أن يكون إنتاجا إبداعيا حقيقيا ودون الرجوع إلي النقاد والمراجعين‏,‏ ففي السعودية هناك إنتاج أدبي هائل لكنه للأسف غير مميز‏,‏ فهم لا يتجذرون في قراءة مجتمعهم ولا يقرأون تراثهم بشكل عميق ولا يطلعون على الإرث الأدبي والروائي العالمي والعربي‏,‏ وبالتالي لا يتشربون النوع الأدبي روحيا وفنيا وتتحول العملية الإبداعية لمجرد صفقات تجارية حتي يتم الترويج لهم في الخارج ولينتشروا في البلدان العربية الأخرى‏,‏ لذا أحذر من هذا وأنصح بالتعب على الإبداع والعمل الجاد لامتلاك الأدوات الإبداعية قبل التفكير في النشر والانتشار‏..‏ عموما الرواية لدينا تنمو وإن كان بشكل حذر على أيدي روادها مثل إسماعيل فهد إسماعيل في الكويت وهناك كتاب سعوديون لديهم تجارب مهمة وإن كانت الإشكالات الفكرية في هذا البلد تمنعهم من التطور الفكري مما يؤدي إلى أن يظلوا يعيدون إنتاج أنفسهم‏ .

تجـربـة السجـن أفهمتنـي البـشـــر

جيهان محمود

الأهرام العربي

     عبد الله خليفة كاتب بحريني كبير مارس الأشكال الإبداعية والصحفية كافة‏,‏ وذاق تجربة السجن‏,‏ التي لم تمنعه من الكتابة‏,‏ وهو في سبيل إنجاز مشروع للرواية التاريخية‏,‏ يختلف كثيرا عما كتب في هذا الاتجاه‏,‏ وكانت روايته عمر بن الخطاب شهيدا علامة في هذا الطريق .

‏• تمارس كتابة أكثر من نوع أدبي‏..‏ ألا يأتي هذا علي حساب القيمة؟

ــ العملية تاريخية بسبب عملي بالصحافة‏,‏ فكنت أقوم بعرض الكتب وتحليلها سواء كانت قصة أم رواية أم في النقد والفكر علي مدي ثلاثين عاما وأكثر‏,‏ ما أدي إلي تشربي بكل هذه الأنواع الإبداعية خصوصا أنها متداخلة‏,‏ لكني بدأت الكتابة بالقصة القصيرة منذ نهاية السبعينيات وواصلت الكتابة فيها‏,‏ وفي النصف الثاني من السبعينيات وأوائل الثمانينيات حاولت أن أتجذر في الرواية‏,‏ وجاءت فترة التسعينيات لأتعمق في الواقع العربي الإسلامي بحيث أفهم تطور التاريخ وأكتب الرواية التاريخية التي هي جزء من الرواية المعاصرة‏.‏

 ‏• ماذا فعلت بك تجربة السجن‏..‏ كإنسان ومبدع؟

ــ تجربة السجن خصبة بالنسبة لي رغم أنها عنيفة ومؤلمة من حيث الاقتراب العميق من الإنسان‏,‏ بحيث تعيش مع بشر بشكل يومي وتتعرف علي خبايا أنفسهم‏,‏ ومن هنا أعطتني هذه الفترة فكرة كبيرة لفهم البشر‏,‏ كما جعلتني أقرأ كثيرا من المجلدات في شتي أنواع المعارف‏,‏ وأصبحت تجربتي أميل إلي السرد الواقعي المباشر‏.‏

•‏ هل أصبحت الرواية ديوان العرب؟

ــ كان الشعر هو الفن الأول عند العرب قديما‏,‏ لأن معظمه كان مدحا للملوك والقوي السائدة‏,‏ حيث يرتزق الشعراء منه‏,‏ في العصر الحديث أصبحت الرواية تستولي علي المشهد الثقافي وبقي الشعر‏,‏ لكنه لم يستطع أن يعبر إلي نقد الحياة أو يغوص في جوانبها‏,‏ بعد أن أزاحته الرواية للمرتبة الثانية‏.‏

‏•‏ وكيف تكون الحركة الأدبية والنقدية في البحرين؟

ــ الحركة الأدبية والنقدية في البحرين متطورة ووثابة باستمرار وهناك عشرات الكتب التي تصدر كل عدة أشهر في مختلف جوانب الأدب والنقد خلال الثلاثين سنة السابقة‏,‏ وحدث تطور كبير في البنية الإبداعية‏,‏ بحيث إنها استطاعت أن تجمع بين تجربتها المحلية وإنجازات الأدب العربي في الأقطار الأخرى‏,‏ وظهرت رموز استطاعت أن تصل إلي مستوي العديد من الدول العربية سواء علي مستوي الشعر أم الدراسة الفكرية والنقدية‏,‏ ولكن هناك إشكاليات حدثت في العقود الأخيرة بسبب عمليات القهر السياسي والإغراء المادي‏.‏

‏•‏ وماذا عن تجربتك مع رواية عمر بن الخطاب شهيدا؟

ــ هذه الرواية جاءت ضمن سلسلة عن الشخصيات الإسلامية الكبيرة بعد تلك القراءات التي توجهت إلي فحص التراث العربي‏, ‏فرواية‏  “عمر بن الخطاب شهيدا‏” هي تجربة أولي في الرواية التاريخية وهي صعبة‏,‏ واعتمدت فيها علي المصادر التاريخية دون الخروج عن تفاصيلها وكتبتها بأسلوب أدبي‏,‏ لأن الرواية تبجل شخصية عمر بن الخطاب وتظهره بطلا تاريخيا‏.‏

‏•‏ وهل توجد حدود أو خطوط حمراء للمبدع يجب عليه ألا يتخطاها؟

ــ الأدب العربي خاض مسألة الكتابة عن رموز الإسلام‏,‏ فكتب توفيق الحكيم عن “محمد‏” صلي الله عليه وسلم‏,‏ وهناك كتاب آخرون وكذلك أفلام تناولت الصحابة وظهر بعضهم فيها مثل‏ “بلال‏”,‏ والقضية هل المقصود الإساءة إلي هذه الرموز أم تقديمها في شكل جيد؟ ‏‏

• هل هناك قيود علي النشر والإبداع في البحرين؟

ــ القيود الموجودة في كل بلد هي عدم التطرق للرموز‏,‏ وأجهزة الإعلام والصحافة تتجنب التوجه إلي تحليل عميق للسلطة والنظام عموما‏,‏ فتجدين أن صحافتنا سطحية بشكل عام وتفتقد العمق فيلجأ بعض الشباب إلي المواقع الإلكترونية ويقومون بكتابة المقالات الجادة التي تقوم الحكومة بإغلاقها‏,‏ ولا توجد لدينا صحافة خاصة بل صحافة قريبة من الحكومة أو معبرة عن رسالتها‏.‏ ‏

• نشأت في المملكة العربية السعودية‏..‏ فما تأثير ذلك عليك كمبدع؟

ــ أنتقل بين البحرين والسعودية‏,‏ وعشت طفولتي في مدينة ‏”الخبر” ولي أقارب بها وهي ذات بيوت صغيرة وراءها رمال لا أول لها ولا آخر‏,‏ وتقوم الرمال من فترة إلي أخري بالهجوم علي هذه البيوت حتي تكاد تطمسها‏,‏ فأخذت هذه المشاهد تجذبني للبحث في هذه الصحراء وأدبها‏,‏ ففي العديد من القصص القصيرة أو معظم الروايات أهتم بالصحراء كمشهد مكاني وهناك قصة قصيرة لي عن رجلين أحدهما باحث عن الآثار والآخر صعلوك يقوم باختطاف التمثال الذي عثر عليه الأثاري ومشهد الصحراء يحيط بهما‏.‏ ‏

•‏ بماذا أثرت الكتابة في الصحافة عليك كمبدع؟

ــ الصحافة كانت طريق العيش الوحيد‏,‏ حيث كنت أعمل مدرسا ثم طردت من التدريس بسبب الخلاف علي المناهج‏,‏ فلجأت إلي الصحافة وكانت الكتابات الصحفية أشبه ببلع‏ “الجوارب‏” فقد كنت أعمل في التحقيقات‏,‏ وهي تقتل الكاتب ولكنها طريقة للعيش كنت أحاول إجراء التحقيقات التي تتناول حياة الناس الفقراء والكادحين‏,‏ وأقترب منهم لمعرفة تفاصيل مشاكلهم ومحاولة فهم نفسيتهم ومعاناتهم‏ .‏

أسئلة الأستاذة فاطمة المحسن الكاتبة العراقية

      الكاتب والروائي عبدالله خليفة لك رصيد اللآلئ وكلماتك جمعت الرمل والياسمين كقرصان تدخل مدينة الحرف وتبعثر إبداعك في يوم قائظ تصدح فيه أغنية الماء والنار كامرأة يلفها الضباب أو هي سهرة لنشيد البحر حين يعانق الينابيع لتتركنا في دهشة الساحر بين هذا الإنتاج …

• حدثنا عن تجربتك؟

ــ هي تجربة طويلة توجهت لجوانب عديدة من الكتابة ، سواء في مجال القصة القصيرة ، أو مجال الرواية ، أو مجال الدراسات الأدبية والفكرية . وفي كل هذه الجوانب المنوعة اهتممت بالإنسان والحياة وفهمها ومشاركة القراء في هذه العملية وتطويرها على مدى السنوات الأربعين السابقة ، وعبر تطوير الأدوات حسب جهدي ونظرتي .

• هناك علاقة قوية جمعت الكتاب في جيلكم بالوطن حتى أصبحنا لا نميز السياسي من الكاتب؟

ــ لا يوجد كتاب لا يشكلون علاقة بالوطن ، في كل الأجيال ، ولكن تتنوع هذه العلاقة بينهم حسب مواقفهم الفكرية ، فهناك كتاب تغدو علاقتهم بالوطن نفعية أو استثمارية وربما هامشية ، وقد يبدأون علاقة نضالية ثم تتبخر مواقفهم ، وتغدو (الأنا) هي التي تظهر كأنا مركزية مهيمنة وينكمش العالمُ من حولهم . وآخرون يظلون مكافحين ، فتغدو السياسة معياراً ووجهاً من وجوه العلاقة بالوطن والمواقف منه ،ولهذا تتنوع ارتباطات الكتاب بالسياسة والأحزاب . والكاتب الذي لا يشكل له موقفاً سياسياً يعني بأنه في حالة غموض اجتماعي .هناك كتاب مواقفهم مائعة لأنهم يقيمون علاقات متضادة بين القوى الاجتماعية ، و ثمة كتاب انحازوا للسلطة وآخرون للقوى الشعبية . فتعبر المواقف الفنية – الفكرية المتداخلة عن جذور ما مختلفة .

• أصبحت الثقافة تعني الوطن ، والوطن رديف الثقافة ، كيف تفسر هذا الوضع ؟

ــ الوطن كيانٌ مختلفٌ عن الثقافة ، فهو جسمٌ تاريخي ومادي واجتماعي ، بينما الثقافة هي شكلٌ من أشكال الوعي الإنساني ، ولهذا تكون لدينا ثقافات متعددة ، بعضها يكون تحليلاً وتجسيداً وسيرورة مع الوطن ، وبعضها مغترب عن الوطن ، وبعضها مستغل مستنزف للوطن ، وبعضها قادم من الخارج وطفيلي وبعضها قادم من الخارج وإنساني . . هي مسألة معقدة ومركبة وتحتاج لتحليلات معمقة في كل جانب!

• هل دور الكاتب والمبدع تعرية الواقع وتغييره ، وهل نستطيع أن نحدد وظيفة أو هدفاً معيناً وراء الكتابة الأبداعية ؟

ــ (الواقع ) كلمة كبيرة ، ومسألة تغييره هذه تحتاج إلى حشود وجهود بشرية متنوعة وتاريخية ، أي أن التغيير يتشكلُ عبر أجيال ومراحل ، وبالتالي فإن الأدب النضالي يساهم في هذه العملية المركبة الطويلة تاريخياً ، بقدرته على أكتشاف هذا الواقع ، واستثمار أدوات فنية متعددة وغنية ، وكلما التحم الأدب بالعملية النضالية العامة للناس ، كلما كان أقدر على فهم الواقع ونقده ، وخاصة وهو يتوجه لعقول ونفوس البشر ، ويشكل علاقة حميمة باقية معهم ، لأن أدباً كثيراً يكون له دور نقدي ما في مراحل يتساقطُ في مراحل أخرى، وثمة أدب لم يكن له دور في مراحل ، يتصاعد دوره في مراحل جديدة ، فالعلاقة بين الأدب والواقع والتغيير تخضع لمستويات مركبة من التداخل والتقاطع والتباين.

• يرى البعض أن هناك قوالب وأركاناً ثابتة للتعبير تحدد شكل الكتابة الأدبية لا يحق للمبدع أن يكسرها تحت دعوى الإبداع . ما رأيكم في هذا القول؟

ــ هناك أنواع أدبية كبرى كالنوع القصصي، والنوع الشعري ، والنوع الدرامي ، وهذه الأنواع لها سمات وخصائص عامة ، أكتسبتها عبر القرون ، وطنياً وإنسانياً ، وبالتالي فإن المبدع في أي نوعٍ منها لا بد له أن يتجذر في سماتها ويتشرب روحها ، وهناك عمليات درس وعلوم لذلك ، لكن الإبداع من جهة أخرى لا يتوقف ، والإضافاتُ تحدثُ بشكلٍ مستمر من خلال التجارب الأدبية المتنوعة ، في كل هذه الأنواع ، وتحدث تداخلات وعلائق مشتركة . فالقاص لا يستطيع أن يخرجَ من تشكيلِ الحدث والشخصية لأنهما جوهريان في هذا النوع ، لكن تأتي إضافاته في أسلوبه واختياراته للشخوص والأحداث وزوايا تشكيلها..

• هل يمتلك الكاتب العربي اليوم خصوصية في الكتابة بعيداً عن الموروث وتأثيرات الثقافة ؟

ــ الموروث هو جزءٌ من الكتابة ، فاللغة الأدبية كائنٌ تاريخي ، وأي لفظ له سيرورة طويلة ، وأي نوع له تجربته الخصوصية ، فالكاتب يقفُ عليها حين يبدأ ، لكن خصوصية الكتابة عملية راجعة للكاتب نفسه ، أي كيف يستفيد ويستثمر الموروث ويطوعه لعصره ولغته الخاصة به ، وليس الأمر يتعلقُ بموروثهِ القومي فقط بل الأمر يتعداه للموروث الإنساني الواسع. . فنحن ورثنا قصة معينة من القدماء لكن على ضوء العصر طوعناها شكلاً ومضموناً لعمليات جديدة . ويظل التراث القومي معيناً لا ينضب للإبداع والتأثر والتجاوز ، مثل الثقافة العالمية كذلك .

• للرواية اليوم أهمية جوهرية مؤثرة في زمننا الإبداعي حتى أن البعضَ أطلق عليه زمن الرواية ، فما رأيك في الجيل الجديد والحامل لتصورات مغايرة في الكتابة والنقد الروائي ؟

 ــ كلُ نوع أدبي يحملُ أهمية جوهرية ، فلا يوجد نوع مختص بدم أزرق . لقد كان النوع القصصي ذا قيمة كبيرة للبشرية دائماً ، ولكن ما حدث في العصر الحديث أن النوع القصصي تداخل مع وعي جديد ، وعي قراءة الحياة بشكل موضوعي ، فراح يتغلغلُ تحليلياً في مشكلات الإنسان ، عبر أساليب فنية كثيرة ، وعبر بنيته الفنية التي أتاحت له هذا التغلغل ، وهذا الجانب جعل الرواية تغدو شريكة فكر ومتعة ، كما أن النوع القصصي توسع بشكل هائل في الدراما التلفزيونية وفي الفيلم الخ.. وهذا كله جعل إنتاج الرواية يتعاظم بشكل لم يسبق له مثيل . وحول الجيل الجديد وكتابته للرواية فقد سبق لي أن كتبت عن أعمال الجيل الجديد في مجلة (كلمات ) وفي الصحافة العربية ، وهو بحث عن الرواية في الجزيرة العربية ، وقد لاحظت أن بعض الشباب يتوجه نحو نسخ التجربة العربية في خارج الجزيرة ، والبعض يتوجه للإثارة والكتابة عن موضوعات حساسة دون بناء محكم، والنادر من يتجه للحفر في الواقع وللتعب في صياغة المعمار الفني . لحسن الحظ بعض كتابنا الشباب البحريني صار يتوجه للحياة الشعبية ويغرفُ منها موضوعاته وهذا ما جعل مثل هذه النماذج النادرة للأسف تحقق عملية نمو للرواية المحلية خاصة لدى فريد رمضان وجمال الخياط . الأول لجأ في روايته الأخيرة (السوافح . . ماء النعيم) إلى بذور البناء الملحمي ، حيث نجد اتساع الشبكة الشخوصية التي تتراوح من العراق إلى البحرين، في نسيج متنامٍ يجمع هذه الشخصيات الشعبية ويكشفُ صراعاتها ونفسياتها المتضادة. فريد لديه الأسلوب الواقعي (المحفوظي) الذي يشكل بنية موضوعية وينميها في التضاريس الاجتماعية اليومية ، بينما جمال يتوجه نحو المنولوجات الداخلية للشخصيات ، ويطلق طاقتها على الذكرى والتأمل والصراع ، فتأتي التضاريس من دواخل هذه الشخوص المتشظية . بطبيعة الحال الكاتب يصنعُ بناءه عبر سنوات طويلة ، فما لدى الشباب الآن بذور قابلة للنمو في اتجاهات شتى لأن الزمن الكتابي يضيف إليها .

• الرواية هي عالمٌ حافلٌ بالصراع والمتناقضات : فكيف ننظر للسيرة الذاتية من هذا المنظور ؟ وهي التي تمثل مفردة من مفردات عديدة للرواية ؟ وماذا أضافت السيرة للمنجز السردي للرواية ؟ – ولماذا يلجأ الكاتب لكتابة التاريخ الذاتي ؟

ــ هذه الأسئلة الفرعية كلها في الواقع تدور في سؤال واحد هو ما علاقة الرواية بالسيرة الشخصية ؟ لا يوجد روائي لا يجعل سيرته مصدراً أساسياً لأعماله الروائية . إننا نجد إن روائياً بحاراً يكتب روايات عن الحيتان وصيدها . نجد روائياً آخر عاش حياة طويلة من التشرد فتغدو العديد من رواياته مشاهد من الترحال ومعاناة أهل القاع . هناك روائيون آخرون يحجبون حيواتهم الشخصية لأنها عادية ليس فيها ما هو مثير روائياً . فالسيرة مصدر للرواية لكنها ليست رواية ، فهي مادة خام ، ومرتبطة بحيثيات الحياة المباشرة اليومية، في حين أن الرواية تنزع للارتفاع عن هذه المباشرة ، لأنها غوص إلى الأعمق ، ولكن الغوص يعتمد على الأدوات الفكرية – الفنية للكاتب المتداخلة ، فالبعض لا يستطيع أن يرتفع عن سيرته لأنه لا يمتلك قدرة تعميم فنية . ثمة كتاب كبار نجد أن سيرهم لا تقل قيمة عن رواياتهم ، مثلما فعل نيكوس كازانتزاكيس في (تقرير إلى غريكو ) ، فجمع بين قدرة روائية كبيرة و سيرة ذاتية نارية ، لأن نيكوس عاش حياة فكرية خصبة وتجربة اجتماعية ثرة (وطنية – صوفية ) ، فتبدو سيرته ورواياته مثل أساطير الأغريق مواطنيه . ويبدو لي هنا أن حياة الروائي غدت أكبر من رواياته التخيلية ، فتغدو الحياة أكثر روعة وعمقاً من تلك ، ربما بسبب طابع أستثنائي فيها وامتلائها بالمغامرات والأحداث الجسام وبطريقة الكاتب الفذة في عرضها . أما حين تكون حياة الروائي عادية مثل نجيب محفوظ فإنه لا يستطيع أن يكتبها إلا كظلال ونفحات كما فعل في( أصداء السيرة الذاتية ).

• نهتم كثيراً بقراءة الرواية المترجمة، كما اهتم الغرب بقراءة الأدب العربي القديم ((ألف ليلة وليلة مثلاً)) – هل يقرأ الغرب النتاج الأدبي الحالي؟ وهل هناك معوقات لوصول الأدب العربي للغرب؟

ــ إن الغرب يقرأ بعض الأعمال العربية المشهورة وبالتالي لا يستطيع قراءة الرواية العربية الواسعة الضخمة . وهي عادة تــُترجم لعلاقات خاصة أو لدور البلد وأهميته في المنطقة ، أي هي نتاج عوامل سياسية غالباً ، لكن الغربلة الفنية تستغرقُ قروناً ، وهذا ما حدث حتى للرواية الغربية نفسها في بلدانها ، فلكي تصبح رواية (دون كيشوت) مَعلمَاً روائياً ريادياً احتاجت إلى ثلاثة قرون . وغالباً ما تأخذ العوامل الثانوية دورها في الاتصال الثقافي بين الأمم ، فنجد بعض الروايات تــُترجم بكثرة ، نظراً لعدم إطلاع المترجمين على حشود الروايات العربية ، أو لأنها تتكلم عن الغرب ، ولا يحدث حتى في النقد العربي ذلك التمييز العميق ، والنقاد والمترجمون مهتمون بعوامل الوطنية والصداقة والحزبية وغيرها من العوامل الجانبية في الأدب ، ولكن الزمن ينفي ويغربل هذه العوامل ، وتتوجه عمليات الأصطفاء التاريخي إلى ترشيح أعمال بعينها وتصعدُها عبر الأجيال . نجد (والتر سكوت) الروائي البريطاني لم تكن روايته التاريخية تمثل في نظر معاصريه سوى مغامرات فجة ، لكن النقاد الكبار وجدوا فيها بعد حقبة طويلة أنها ذات سمات إبداعية عبقرية ! ( راجعي بهذا الصدد كتاب الرواية التاريخية لجورج لوكاش ) .

• ما تصورك الشخصي لكتابة الرواية اليوم ؟

ــ غدت الرواية بالنسبة لي أهم جانب كتابي ، فهي تعيشُ في البؤرة ، وحتى كتابة الأبحاث كانت غالباً للبحث عن جوانب جديدة تحفرُ في الرواية ، فقد أردتُ أن أكتبَ روايات عن التاريخ العربي قبل عقد فرحتُ أدرس جوانب من التراث ، جعلتني أصنع كتاباً حولها . وحين أنهيت هذا الكتاب المؤلف من أربعة أجزاء توجهت ثانية لتلك الروايات التاريخية ولكن الفرق كبير بين تخطيطات ما قبل الدراسة وما بعدها ، فقد وقفتُ على قواعد من فهم موضوعي للأجواء الروائية ، فكتبتُ بعدها عن الشهداء الكبار في الإسلام والذين يمثل عصرهم أكثر العصور دراماتيكية ، وعصر الانتقال من الحلم الجماعي إلى التفكك والمآسي . . هكذا تغدو الرواية مدار الحياة الكتابية . .

 • ماذا يعني لك كل :

• اليوم العالمي للشعر ؟

ــ اليوم العالمي للشعر هو تذكير بالجمال والفتنة والدهشة في زمن مضاد ، يحاول تكريس القبح ، وهو نوع من المقاومة المتوهجة . .

• تكريم أسرة الأدباء كل عام بعض أعضائها.

ــ هو احتفاء بالنتاج وليس اهتماماً شخصياً ، لأن ما يهمنا هو تكريس البناء الثقافي الفاعل والمغير للحياة ، ويغدو الاحتفاء بالنتاج خلق مشاركة جماهيرية وعمليات نقد وتحليل ، وما يمكن أن يثري الحياة الأدبية عامة .

• تكريمك هذا العام.

ــ كما قلت لكِ هي عملية اهتمام بالإنتاج الوطني وترسيخه ودعوة المنتجين الثقافيين للمزيد من العمل .

• نتاج جيل الشباب في الأسرة ..

ــ نتاج جيل الشباب هو أعمال جديدة وبحث مختلف في زمن مختلف ، والخوف أن يكرر هذا الجيل الأشكال الخارجية للجيل السابق بدلاً من أن يبحث عن صوته الخاص ، ويحفر في واقعه الذي اختلف عن واقع الأجيال الماضية.

• القصة والرواية في البحرين ..

ــ القصة والرواية في البحرين في حالة إنتاج مستمرة ، وثمة نقلة نوعية فيها عن بلدان المنطقة الأخرى ، لأن قضايانا وصراعاتنا أكثر تبلوراً ، وغدت عملية إصدار الرواية تتم على مستوى جيلين بل ربما ثلاثة ، مما يعبر عن تجاوز الرواية مرحلة التقطع والندرة وعدم وضوح السمات .

• لجؤك إلى الكتابة الفلسفية ..

ــ هي كما قلتُ لك هي عملية حفر في جذور الواقع والثقافة ، وهذه ربما حتى تؤدي بالنقد للفلسفة كما اهتممت في كتابي الأخير (نجيب محفوظ من الرواية التاريخية إلى الرواية الفلسفية) بجوانب الوعي الفلسفي لدى الروائي الراحل ، دون أن تتحول الدراسة إلى بحث في المقولات فنحن كروائيين نركز على إبداع الصورة أكثر من البحث في المفاهيم المجردة .

الهروب إلى الماضي  في الكتابات الخليجية يعكس ضعفاً في مواجهة الواقع

حوار: أنور الخطيب

       الأديب البحريني عبدالله خليفة.. قلمٌ روائي متميز له مشروعه الإبداعي الملتصق، فكرة ولغة، بهموم واقعه الخليجي والعربي . بدأ كاتباً للقصة القصيرة ثم انتقل إلى عالم أرحب في الرواية فاصدر روايات: اللآلئ، الهيرات، أغنية الماء والنار، وامرأة. ويعمل الآن على رواية جديدة تصب في هاجس تغيير الواقع وملامسة معطياته.

شارك الروائي عبدالله خليفة في الملتقى الثالث للكتابات القصصية والروائية في الإمارات الذي عقد في الثاني من فبراير الجاري وقدم بحثاً حول الملامح المشتركة في الكتابة الروائية بين الكويت والإمارات. على هامش الملتقى كان لنا معه الحوار التالي:

• كيف كانت بدايات تعاملك مع الفن القصصي.. وما هي مسوغات الانتقال إلى الرواية ـ ثم ماذا حققت من خلال أعمالك على مستوى رؤيتك الإبداعية؟

ــ نحن في البحرين، أبناء جيل واحد هو جيل الستينات، نشأ هذا الجيل من ذاكرة الخمسينات الوطنية في البحرين وإرهاصات التحول الاجتماعي التي كانت زاخرة وقوية في المجتمع الصغير حيث كان هناك قطاع كبير من الناس الذين يعيشون في مستوى اجتماعي منخفض ـ وهناك الإدارة البريطانية التي تتحكم في البلد والخليج العربي ككل، وكانت مدينة المنامة مليئة بالأكواخ إلا من بعض البيوت من الطين. كان هذا في بداية الخمسينات ـ وحدثت موجة حرائق لتغيير هذه المدينة الفقيرة ـ نحن أبناء هذا المناخ الاجتماعي السياسي الفكري ـ وظهرت القصة القصيرة على نار هذه المدينة المتغيرة والتحولات التي كانت تدب في المجتمع ـ لم يكن هناك لشعب البحرين والخليج عموماً تقاليد قصصية وفنية عريقة وراسخة بل التماعات فنية قصصية متعددة متناثرة في الخليج الواسع، في البحرين نجد محطات صغيرة للقصة القصيرة في الأربعينات والخمسينات، ثم حدث انقطاع. وجيل الستينات الذي ظهر حاول أن يعبر عن فراغ فني محلي، ومن خلال موضوعاته المحلية التي كانت شبه مباشرة أثناء ظهوره الأول، كانت مشكلات الحياة الفقيرة وأزمات الإنسان في المجتمع تشده أكثر من جانب آخر ـ وبدأ جيلٌ من القصاصين يكتب في هذه الناحية ـ مثل محمد عبدالملك وأمين صالح وحلف أحمد خلف وأنا وغيرنا من كتاب القصة القصيرة المباشرة التي تهتم بالترميزات التراثية وأدوات الفلكلور المحلي والاستعانة بالأساطير وأحياناً الاستعانة بمناخ القصيدة من كثافة وصورة مجازية، هذه القصة القصيرة بدأت تتعمق عندما نضج هذا الجيل، وتبلور فنياً وتشابكت علاقاته بالثقافة العربية والعالمية، هناك دور أساسي لهذه الثقافات في رفد نتاجنا مثلما هو الحال لأقطار عديدة.

انتقلت القصة القصيرة إلى مرحلة فنية أخرى تهتم بجوانب هي الآن روحية وفلسفية وسياسية وتكشف لقطات وجوانب معينة ظلت باستمرار قاصرة عن استيعاب رافد الثقافة المتنامي وتحولات الواقع المطرد من جهة أخرى ـ إذا كان من البدء ـ كانت المدينة مجموعة من الأكواخ والبيوت الصغيرة في مدن صغيرة ـ حدثت ثورة اقتصادية وانشئت مدن عديدة وبنوك وشركات واستلابات وجوانب كثيرة من التحولات النفسية.

إذ كانت في البداية لا توجد مستشفيات أعصاب، الآن كثرت مستشفيات الأعصاب فأصبحت القضايا الروحية والفلسفية ما بين الإنسان والعالم، بين تضخم جهاز الدولة وانسحاق الفرد، بين الاقتحام الأجنبي الواسع والتقزم الوطني والقومي؛ هذه الجوانب كلها أصبحت مطروحة على صعيد القصة التي لم تستوعبها بالكامل، فبدأت الرواية  تحاول أن تستوعب هذه الأسئلة المتعددة والكبيرة.

فظهرت في بداية الثمانينات رواية البحرين مثل رواية [ الجذوة] لمحمد عبدالملك وحاولت الرواية أن تصور التحولات في مرحلة الستينات، لكن تداخلت فيها الأزمنة والشخصيات بحيث كان من الصعب بلورة الهيكل العام للرواية. قصة أمين صالح [أغنية ألف صاد الأولى] عبارة عن أغنية ومونولوج عنيف لوعي باطني. هناك روايات أخرى مثل رواية [الحصار] لفوزية رشيد اتجهت للتعبير عن حالة اجتماعية وسياسية من خلال شبكة من الشخوص المتعددة. أنا كتبت في هذا السياق واهتممت بتبلور وتحليل هذا الواقع من زمن الغوص، فصدرت لي روايات ثلاث عن هذا العالم، الأولى هي اللآلئ، وتتحدث عن ربان وسفينة وتيه لمجموعة من البحارة، وتتكشف العديد من التناقضات والصراعات بين الشخصيات. فترمز لصراعات قديمة وأخرى حديثة أو تتكئ على صراعات قديمة وترمز لصراعات حديثة. وبعد رواية اللآلئ صدرت رواية [الهيرات].

 وبشكل عام فإن العمليات الأولى للرواية عندنا يسود فيها نوع من التداخل الشديد أحياناً، فلا تعرف كيف تضبط ظهور الشخصيات وتبلور الأحداث ووصولها إلى القارئ، بحيث تنتقل له الدلالات. فيما بعد طلعت روايات حول مجتمع البحرين الحديث؛ مثل رواية [أغنية الماء والنار]، هذه الرواية تتحدث عن حرق مجموعة كبيرة من الأكواخ في مدينة المنامة. هذه الحادثة تحولت إلى رواية ليس تركيزاً على الحدث الاجتماعي أو الاقتصادي أو التاريخي للظاهرة، ولكن نمذجة للشخصيات. فالشخصية المحورية هي التي أتغلغل فيها وهي شخصية رجل يحاول أن يطمح للثراء وتجره سيدة غنية إلى حرق الأكواخ. ثم كتبت بعذلك رواية [امرأة] ثم رواية [الضباب]، ولدي مجموعات قصصية قصيرة مثل [الرمل والياسمين] و[يوم قائظ] و[لحن الشتاء].

• يلاحظ من خلال رواية [الضباب] انك تتحدث في صلب الغيير الحديث ولكن هذا لم يمنعك أن تطلق شخصياتك للبحر، وكأن البحر هو الأول والأخير، فهل هذا يعتبر حنيناً إلى الماضي كما يُشاع، أم أن البحر هو جذور تنطلق منها لمعالجة الحاضر؟

ــ بالنسبة لشخصية الضباب المحورية، إنها شخصية لا تحن إلى الماضي أو البحر وانما تهرب إلى البحر كشكل من أشكال الابتعاد عن المدينة التي حاصرته . البطل كان كاتباً ورجلاً ملء العين والبصر، فإذا به يتحول فجأة إلى فار، هذا المسخ والضغط الهائل التي تشنه آلة الدولة عندما تتحول إلى شيء ضخم يحطم الإنسان. خذها في أي بقعة من العالم، عندما يتعملق جهاز الدولة والقوى الخارجية على حساب الفرد وتعبيره ورؤيته وكلمته الخاصة المستقلة عن هذه الأجهزة هنا يتم تدمير هذا الإنسان، وهو حاول الاحتفاظ ببذرة من النقاء وببذرة من المقاومة وهي شخصية أخرى في ذاته. ومن هنا، البحر هو هروب بالنسبة لهذا الرجل، ودلالة البحر في أدبي الخاص شيء ترى فيه الكثير من الدلالات والتباينات لأن البحر هو جزء من الكوخ والبيت والنافذة، وهذا التشابك والتضافر بين البحر والبر، قضية جغرافية لها أبعاد إبداعية من حيث تحول البحر إلى رمز وإلى شخصية داخل الأحداث والحياة القصصية، فتجد الكثيرين يحولون البحر كجزء طبيعي جغرافي أو كدلالة كما تفعل أحياناً سلمى مطر سيف في قصتها[عندما تجعل سلطان والبحر يتداخلان]، والبحر يتحول إلى جنية تفترس سلطان الذي يحاول أن يحطم الجنية. ولكن لا يستطيع. إنه جدلية الشرطي والمقاومة، جدلية جهاز الدولة والرمز المخضر دائماً.

• في رواية [الضباب]، صحيح، هناك هروب إلى البحر ولكني لاحظت أيضاً حنيناً إليه من خلال الحنين إلى الجد وكلامه وجلساته وهناك نقطة أخرى بعض الكتاب لديهم حنني إلى الحياة القديمة رغم انهم لم يعيشوا تلك المرحلة، كيف ترى هذه الإشكالية؟

ــ هذه العملية تتعلق بتطور الخليج الخاص، تمثل الحياة القديمة، حيث الأسرة الجماعية، والوحدة المباشرة مع الطبيعة حيث كان المجتمع طفلاً على سرير الطبيعة مواعينه وإداوته من النخلة والبحر، وهذا المجتمع كالمجتمع الإغريقي عندما كان قريباً من الطبيعة وله أساطيره، فالمجتمع العربي قبل التحول الرأسمالي الواسع النطاق، هناك وحدة تتشكل، وحدة تناغمية بين البشر والطبيعة، بين البشر من حيث الترابط والأسرة الكبيرة، إذا مرض شخصٌ يلاقي اهتماماً من الجميع، الناس يبنون بيوتهم بشكل مشترك، وهذه العملية عندما تصطدم بالتطور الرأسمالي والمصالح المتباينة ولغة المصالح وتتفكك هذه الأسرة الكبيرة ويحترق سرير الحياة الشعبية البسيطة، هناك يحدث صدام بين الوعي والواقع الحديث ويحن (الإنسان) بالتالي لنموذج الحياة القديم ويجد فيه محاولة تآلفية مفقودة، مع المجتمع (الحديث). هذا الحنين يتحول أحياناً إلى حنين رومانسي فارغ فاشل، وأحياناً إلى نوع من كشف الحاضر، إذا استطاع الكاتب أن يدمج بين هذا الحنين وبين اكتشاف الواقع وإمكانيات المستقبل، لأنه لا يستطيع إعادة الوحدة القديمة في المجتمع الإغريقي، عندما بنيت الأسواق انتهت أسطورة هوميروس، وبالتالي كان من الصعب استعادة الحلم الطفولي الأسطوري.

وعندما خرج المجتمع الأوربي من الغابات والزراعة واصطدم بالقطار (التجاري) تشكلت الرومانسية حنيناً وعودة إلى الريف الجميل، تلك البقعة غير المدنسة. أحياناً عندما يفشل الوعي الفني في تحليل الحاضر وكشف تناقضاته، وبالتالي تجسيد ترميزات تشكيلية خاصة، يلجأ على تسهيل وتسطيح عملية العودة إلى الماضي. عندما استطاع نجيب محفوظ التغلغل في المدينة المصرية وكشف بانوراما وملحمية المدينة، استطاع أن يجسد ملحمية التطور العربي.

• قلت في بداية السؤال السابق أن بطل [الضباب] لجأ إلى الجد العجوز، لجأ إلى الأسرة والحلم القديم، كشكل من الحنين الرومانسي، فأنا أقول أن الجد ـ في هذه الرواية ـ يتعلق بهذه الهروبية. ليس الاصطدام مع القوى السلبية في المجتمع ولكن الهروب إلى مزارات رمزية وتجد أشكالها كثيرة في الوعي الإنساني، هذا الهروب للمزارات النفسية الميثولوجية الطبيعية هي عبارة عن ضعف الإنسان في مواجهة الواقع واكتشاف موقع خاص في حياته، هذه العملية واسعة الانتشار في الكتابة الخليجية والفن الخليجي، تجدها في التصوير الطبيعي للبيوت القديمة والأغاني التراثية.

ــ هذا يتعلق بمستوى تطور الوعي في المنطقة، وهو وعي بسيط، له من التطور عقد أو عقدين أو ثلاثة عقود، لم يكتمل نموه الطبيعي، واصطدم بمتحولات الثروة الكبيرة فتم تسطيحه بشكل آخر. من هنا صارت عملية الركون إلى هذا التبسيط وهذه الرؤية. اعتقد أن هناك محاولات قليلة تخترق أجواء هذه العملية لدى فنانين محددين بندرة. الفنان الواعي للحياة يتغلغل إلى القشرة التحتية للنفس البشرية ولتطور المجتمع. هذه عملية نادرة وصعبة جداً في مناخ موضوعي خاص يختلف عن مناخ آخر في بلدان عربية متعددة، حيث انقطعت الصلة بين المجتمع والطبيعة البكر.

• حسب رأيك متى للكاتب الخليجي الانتقال إلى المدينة، مع انك انتقلت في رواية [الضباب] إلى المدينة وشوارعها ومحاكمها وبيوتها.. متى يمكن الانتقال محلياً إلى المدينة كما ترى في روايات عالمية وعربية؟

ــ إذا استطاع أن يطور وعيه الفني وأن يكشف الشبكة المعقدة للحياة، نحن لا نزال على ضفاف تحليل الحياة الخليجية. هناك طبعاً محاولات كبيرة في الرواية الخليجية أو في الروايات التي كُتبت عن الخليج، مثل رواية [مدن الملح] لعبد الرحمن منيف، والمكونة من خمسة أجزاء، تكلمت عن صيرورة منطقة شبه الجزيرة العربية وبعض المدن النفطية وحاولت أن تمسح التطور الإنساني الاقتصادي التحويلي، وبشكل نثري سردي طويل جداً مليء بالعشرات من الشخصيات. وهذه ملحمية الرواية التسجيلية العربية عندما تسيطر على مجموعة من تواريخ المدن وتمحورها من خلال مجموعة من الأسر الأساسية وتكشف هذا التطور الواسع الذي يمكن أن تغلب عليه رؤية مستوى معين من القوى التحتية وتشعباتها، ولكن حتى هذا الجزء الكبير (لاحظ خمسة مجلدات كبيرة) لكي تكشف شيء في الخليج. يتصور البعض إن الجزيرة العربية والخليج منطقة محدودة وفقيرة ومليئة ببعض المدن الصغيرة والبرية، وبالتالي هي منطقة مسطحة نفسياً وفكرياً، وبالتالي إبداعياً. الأمر في الحقيقة ليس كذلك لأن منطقة الخليج هي قلب العروبة والكثير من الطبقات النفسية العربية متواجدة في هذه المنطقة. عندما تحفر قليلاً في العراق تجد تمثالاً من دلمون أو من عهد الآشوريين، في وقت تقوم بالمرور عليها بالسيارة الحديثة. إنها منطقة تحمل زخماً أسطورياً وتاريخياً عميقاً. ونجد إن الكتابات لا تزال على سطح العملية وتحتاج إلى تطور حضاري لكي تتبلور بنية ذهنية متطورة، قد تتجاوز ظروفنا الموضوعية والذاتية في بعض الأفراد، ولكن عموم الناس والكتاب من الصعب أن يقوموا بعملية الاختراق الواسع.

• سؤال أخير؛ ماذا بعد [الضباب] على صعيد معنى الكلمة وعلى صعيد مشروعك الروائي؟

ــ نحن نخترق الضباب. بالنسبة لمشروعي الروائي، هناك رواية جديدة، حتى الآن لم أصل إلى إنجازها بشكل كامل وتتعلق بهذا الهاجس الذي طرحناه سابقاً، هاجس منطقة الخليج، بين ثروة ضخمة ومحاولات تغيير مضنية. وحلم التغيير أين يوجد الآن؟ بعد أن سقطت أحلام التغيير ونماذجه في العالم ككل؟ ماذا يبقى، الأزمة تتكاثف على الإنسان من كل جانب، لم يبق إلا نموذج واحد للتطور الحضاري، هل يمكن أن تواجد نموذج آخر؟ هناك نموذج تفاوت الثروة والحظوظ، نموذج اللاعدالة، نموذج التناقضات الإقليمية والعالمية، الشمال والجنوب، الشرق والغرب، قضايا العالم الثالث، وقضية فلسطين تبقى معلقة دائماً، جرحٌ ينزف بينما تحل مشكلات أخرى.

هذه الرواية تحاول أن تطرح كل هذه الأسئلة بالنسبة لمنطقة الخليج

هذه الرواية تحاول أن تطرح كل هذه الأسئلة بالنسبة لمنطقة الخليج

حوار أجراه الباحث المغربي: أحمد شراك

• على صعيد سوسيولوجيا الكتابة والنشر، يُلاحظ المتتبع لإصداراتك القصصية والروائية، بأنها صدرت خارج الوطن ـ البحرين ـ وبشكل خاص في لبنان وسورية والإمارات. فهل يعود الأمر إلى إستراتيجية خاصة في النشر؟ إلى الانتشار باعتبار دمشق وبيروت، عواصم النشر والثقافة؟ إلى انحسار دائرة النشر في المنامة؟

ــ إن ذلك يعود بكل بساطة إلى سيرة حياتي الكتابية. فأول كتاب صدر لي سنة 1975، وأنا قابع في السجن، فلم أحصل على نسخة واحدة منه، وحين خرجت في الثمانينيات من ذلك التنور، لم استطع أن أجد شيئاً منه.

وفي سنوات السجن قمتُ بكتابة قصصي ورواياتي الأولى، التي حاولت نشرها بعد خروجي. إن إمكانية العزلة تعطيك قدرة على الإنشاء الشعري، ولكنها لا تملأ يديك بالمال أو الشهرة، فتحاول أن تسوق كتبك ودمك عند دكاكين لا تعبأ بروحك.

إن المنامة بخيلة على أبنائها دائماً، سواء بالنشر أم بالمال أم بالشهرة، ولهذا فإن المطابع تتخصص في الكتب التجارية وملصقات الراقصات ودفاتر البنوك، أما الكتاب الإبداعي فطباعته تعادل شراء سيارة [جديدة]!

وهكذا فقد ذهبتُ كغيري من الكتاب البحرينيين إلى دور النشر العربية، ونحن البحرينيين ـ بروليتاريا الخليج العربي ـ بحثنا عمن ينشر لنا مجاناً، وقد وجدنا في اتحاد الكتاب العرب بدمشق، ورئيسه علي عقلة عرسان، الرجل القومي الحقيقي، ضالتنا. لقد أصدر لنا الاتحاد العديد من الكتب، وقد طبع لي مجموعة قصصية وروايتين، ورغم إن الاتحاد لا يشارك في المعارض، وتقبع الكتب في صالته تنتظر بصبر طويل المشترين، فإنه قدم لنا الخدمة النبيلة الأولى الكبيرة.

وبعد ذلك كان علي الاعتماد على نفسي في النشر، بعد أن عملت في الصحافة. ومن المؤكد إن سوريا ولبنان يمثلان رئتين مهمتين للنشر العربي، فرخص الطباعة ودقتها وجمالها وانتشارها لا يمكن مقارنته بمكان آخر. رغم إن دكاكين الجزارة الثقافية هذه تستلم لحمك ودراهمك بكل برود وأنانية.

وهناك نقطة ضوء في الخليج، فاتحاد كتاب وأدباء الإمارات يحاول أن يشكل جزيرة يسبح إليها المؤلفون هاربين من بحر التماسيح الطباعية، وتاركين أشلاءهم ودماءهم وراءهم.

• إن المتتبع لتجربتك الروائية على الخصوص ، يلاحظ ـ على صعيد العناوين، بأن رواياتك تتكون، في الأغلب، على صعيد عناوينها من كلمة واحدة أو اثنتين، وهذه الكلمات/العناوين ، كلمات عادية تحمل شحنة لغوية مباشرة، إلا أن النصوص التي تحتويها تتسم بالتجريب من جهة وتعتمد على لغة رمزية شعرية مكثفة من جهة أخرى، وتأسيساً على هاته الإشارة، هل هناك وعي مسبق في اختيار هاته العناوين؟ أم أن الأمر يعود إلى الصدفة؟؟ بعبارة أخرى هل هناك استراتيجية ما، للعنونة بالنسبة لعبدالله خليفة؟

ــ هذه ملاحظة دقيقة، فعناوين مثل [لحن الشتاء]، و[اللآلئ] و[الرمل والياسمين] و[امرأة] و[الضباب] و[سهرة] و[الينابيع]، هي ومضات ما من ذلك العالم القصصي والروائي، ومحاولة لتركيز اللوحة في بؤرة أساسية، ولكن العناوين في رأيي لا تشير إلى دلالة أيديولوجية محددة. إنها لا تهتفُ وتصطخبُ باتجاه معين.

فـ[اللآلئ] كلمة تشير إلى جانب أساسي في البناء والحدث، فسفينة الغوص التي تاهت في البحر، قام الربان فيها بالاستحواذ على منتوج البحارة وهو اللؤلؤ، ولعل الذهن الذي شرد نحو صيغة التأنيث [اللآلئ] هو تعبير عن انحباس ذكوري في البحر حيث لا نساء، وفي السجن أيضاً! وتدور الرواية في رحلة تيه البحارة وصراعات حول النجاة واخفاء المحصول الخ …

 [الضباب] رواية تدور حول [حشاش] راهن، ومنتمٍ سابق، والحدث هو رحلة الخروج الدامي من هذا التيه. لقد جاء العنوان من داخل عملية التشكيل. تركيزٌ له وبلورة. ليس شكلاً مسبقاً بل نتاجاً له.

[الينابيع] كذلك هو ومضة لاكتشاف الخطوط العريضة لمواقف الشخوص والأحداث والتطور، حيث يشير ليس إلى مناطق تدفق الماء التي حفلت بها البلد، بل أيضاً إلى مواقع تدفق الضوء والألم والحب والمواقف.

هل الوضوح في العناوين يعاكس البُنى الفنية التجريبية والشعرية؟ أتصور إن البنى رغم تدفقها وتكثفها، تحمل سياقات واضحة بشكل ما.

• ألاحظ تواصلاً بين القصة والرواية في كتابتك الرواية، يكسوه نفسٌ شعري، وهذا أمر عادي باعتبار تداخل الأجناس وتواصلها، إلا أن الانطباع الذي قد يخرج به قارئ أول بالنسبة لرواياتك هو إنها مجموعة من القصص أو تراكم قصي قصصي يحكمه نفس طويل؟ ومهما كانت انطباعات التلقي، كيف يتصور عبدالله خليفة كتابة الرواية ككيمياء إبداعي؟

ــ قد يكون هذا حكماً جزئياً، أو هو قراءة لعناصر معينة في التجربة. هناك بعض الملاحظات التي أقرأها: كقول أحدهم إن قصصي القصيرة روايات مكثفة ورواياتي قصص مطولة. في الواقع، إنني لا أرى الحدث القصصي إلا باعتباره كياناً واسعاً مترابطاً، يمتد إلى جزئيات الواقع والطبيعة، أي إنه يكون تجربة عميقة مثقلة بأشياء المكان وبملامح البشر الروحية وصراعاتهم الاجتماعية، وبشرائط الطبيعة المتغلغلة في المكان والإنسان.

في البدء، كانت القصة القصيرة بالنسبة إليّ ومضة سريعة جداً، ثم راحت تمتلئ وتتشبع بضراوة البنى والأشياء. إن هذا يرتبط بتطور الرؤية والتجربة.

لهذا تأتي الرواية كتتويج لاكتشاف اللحظة الإنسانية في جذورها وسيرورتها، في تشابك الحدث بأغصان الظروف وسكاكينها، وبارتباط الداخل بانفجارات الصراع.

إن حدثاً [عابراً] كما في رواية [مريم لا تعرف الحداد] وهو دهس امرأة غنية لصبي امرأة فقيرة في إحدى القرى، يثير دوامة من الأحداث المرتدة إلى الماضي والنازفة في المستقبل، ويضع خرائط القرية المدهوسة بالتحولات الصراعية موضع الرصد الشعري.

منذ حادث الدهس ودفاع ريم الضاري عن أبنها حتى محاولة قتل جنينها لم استطع أن ألغي حدثاً جزئياً أو جملة.

إن البنائية المتآزرة، سواء على مستوى عناصر السرد أو تشكيل الشخوص والأحداث والدلالات، هي شيء لا يمكن التخلي عنه، إذا أردنا صياغة رواية معاصرة، أما إذا تحولت إلى هياكل عظمية متجاورة، فهي تتقهقر إلى القص الطويل القديم، وتلك بنية توافقت مع حياة مفككة، ونمط اجتماعي عتيق، سواء على صعيد التآزر البنائي أو على صعيد الدلالة.

• هناك مسافة (لا تـُعبر) بين عبدالله خليفة الصحافي وعبدالله خليفة المبدع، إن على صعيد اللغة وإن على صعيد الأسلوب.. فهل لم يكن ممكناً الاستفادة من الكتابة الصحفية في إضاءات كثير من النصوص التي تَّهْربُ إلى الرمزية وتكثيف اللغة بشكل واضح؟ وبعبارة أخرى ما علاقة الصحافة بالإبداع في نظرك؟

ــ بالتأكيد على القاص أو الروائي أن يخاف من لغة الصحافة: لغة العرض المباشر والتقارير ومتابعة الأحداث السريعة، لأنه يحاول أن يمسكَ الأشياءَ الجوهرية العميقة في هذه المجريات اليومية النابضة كذلك بالألوان والمذاقات المختلفة والتلاشي.

ولقد أدخلت مثل هذه اللغة العرضية والملموسة إلى كتابتي، وبشكلٍ ليس محدداً، ولكن من أجل أن تكون جزءً من مادة الحياة، وأن تـُحور وتعدل لتتناسب ومجريات العرض الفني.

إن العديد من النصوص هي مضاءة بذلك، ويعتبرني بعضُ النقاد من الكتاب الواقعيين التقليديين، بعكس ما تشير إليه، وفي الواقع إن مثل هذه الإشكالية المزدوجة ناتجة عن رؤية جانب واحد من الكتابة.

فرصد الواقع بطريقة تسجيلية في مشاهد معينة هو أمر مطلوب لإحداث الإيهام ورصد العالم بشكل موضوعي، وقد كتبت بهذه الطريقة [الصحفية]- وأسمح لي أن أقول إنه لا يوجد أسلوب بهذا الاسم – ولكن أن يستولي الأسلوب الرصدي “التقريري” على الكتابة الفنية فهو يقطع أجنحتها ويطفئ بصيرتها، فليس الهدف من الكتابة القصصية عموماً التحليق عن الإنسان، بل اكتشاف الهيكل العظمي لتخلف الأمة وتعريته وعرضه للنور والنار.

ولهذا فإن الكتابة لا بد أن تزاوج بين مسألتين متضادتين، الرصد الموضوعي للعالم، وعدم الانحباس بين ملابساته الجزئية وأحجاره الجانبية.

والكتابة العربية عموماً ضائعة بين التحليق بعيداً عن الواقع، أو الانحشار بين غيرانه، وليس لدينا ذلك التضفير بين الاكتشافات العميقة للواقع، وتكوين اللغة الإبداعية ذات الطبقات الترميزية، إلا فيما ندر.

إن عدم قدرتنا على كشف الهياكل المتعفنة للعلاقات الاجتماعية -الروحية، يكمنُ في الوقوف عند الظاهر والاكتفاء بالرصد الصحفي، أو على العكس الغياب في الترميز والتعميم.

إن تضفير هذين الجانبين يعتمد على مواصلة رقابة الواقع التي تتيحها مواد الصحافة وأساليبها، وعدم الاكتفاء بموادها، والأمر يتوقف على الممارسة الكفاحية في تصوري، وليس الموقف التأملي المنعزل.

إنك تستفيد من مواد الحياة وعروضها الكرنفالية البائسة أو العظيمة. وتصل إلى القوى الميتة التي تُمسك برقابنا وأنفاسنا منذ بدء النهضة، وتعرض الأمر في مشرحة الرواية.

ومن المؤكد إن ذلك سيثير تناقضات أسلوبية كالغموض والترميز والشعرية الواسعة، أو العودة للنثر اليومي، لكن تقوم رحلة الرواية على الجمع بين الماء والنار، بين التغلغل في الجوهري وعرض المباشر، بين الشعرية والنثرية، بين الجوهرية والفوتوغرافية، بين الغموض والوضوح الخ…

• في روايتك الأخيرة [الينابيع] التي ظهر منها الجزء الأول الموسوم بـ[الصوت]، أريد أن أسألك هل هناك ضرورة/ ضرورات تيمائية (باعتبار الرواية تاريخية) تفرض جمالية خاصة ونوعاً خاصاً في الكتابة الروائي، وعلى رأسه هذا النفس الطويل والمتعدد (رواية في أجزاء)؟

ــ الضرورة تعود إلى الكاتب ومشروعه.

أن (ينهي) عملية التحليل الفنية الواسع لبلده، تطوراتها وتناقضاتها وبشرها.

أن يوهج ما يحاول التاريخ الزائف وحديد الواقع، أن ينفيانه.

أن يضيء كل تلك الكفاحات البسيطة، وذلك العذاب الطويل الغارق في النسيان والغياب.

أن يجعل أولئك البشر المجهولين في الأزقة وتحت عربات الزمن وفي آبار النفط المشتعلة، باقين، مضيئين عبر الزمن. أن يجسد أصابع الإنسان الباقية فوق البحر لتحل كل الألغاز المطروحة من قبل الضواري.

أن يعيدَ ترميم سيولة التاريخ والثمار، حيث شكلت أهرامات من الرؤوس المقطوعة والمنازل القميئة والأرواح المتقزمة، جهة العماليق المنقرضين، وأكداس النقد والأبنية الشاهقة والنفوس الزجاجية، جهة العماليق المسيطرين.

لكل شعب ملحمته، إعصاره الخاص، الذي اندفع فيه ليقاوم الأصنام والرؤوس المتوحدة ومصائد البشر. وهذا مشروع لملحمة، صورة كبيرة واسعة لرجال ونساء أعادوا صياغة التاريخ والإنسان.

الضرورة تعود إلى حلم الكاتب.

أن يجعل من رمل التاريخ لغة شعرية ولوحة تشكيلية لتصادم الينابيع القصوى للخير والشر، لتصادم القوى الكبرى، أن يرتفع عن المادة الخام للتاريخ، وللصحافة، للواقع، ليرى الشلالات الدفينة لتكون الأفكار العظيمة والنفوس النبيلة.

• إذا كان عبدالله خليفة لا يصدر رواياته ومجاميعه القصصية في داخل البحرين، فإن البحرين مع ذلك تشكل هاجساً حقيقياً في كتابته خاصة على صعيد التفضية والفضاء، حيث يحرص ـ وبقوة ـ على هذا الانتماء.. ويحاول أن يكون صوتاً لهذا البلد الشقيق، الذي بدأ يشهد تململاً حقيقياً على صعيد الكتابة والإبداع، وعلى صعيد الفعل الثقافي والمبادرات الثقافية.. فأين يضع عبدالله خليفة نفسه داخل هذا المشهد: البحرين الروائية بشكل مخصوص؟؟

ــ البحرين تشكل إحدى المُسرعات الحضارية في منطقة الخليج والجزيرة العربية، وعلى الرغم من صغرها، وربما بفضله، فقد تكونت تجربة نهضوية منذ أواخر القرن الماضي، ولعبت طليعية البحرين في الاقتصاد، سواء باعتبارها بؤرة في إنتاج اللؤلؤ وتشكيل التجارة، ثم باعتبارها أول بلد تدفق النفط فيه، في تسارع الإنتاج الثقافي وتكوين التيارات الفكرية ـ الفنية.

وبدأت القصة القصيرة منذ الأربعينيات، وانهمرت بغزارة وبحداثة في السبعينيات، ثم تحولت إلى الرواية في الثمانينيات. والنتاج الروائي قليل ولي أكبر حصة فيه [تسع روايات من ست عشرة رواية].

والواقع، إن البحرين ليس فيها تململ على صعيد الكتاب، بل يوجد فيها نشاطٌ غزير وطويل عبر نصف القرن التالي، فثمة عشرات المجموعات القصصية وعشرات الدواوين ومئات المسرحيات وكتب الأطفال والدراسات الفكرية، ولدينا رواد في الشعر والفكر السياسي وغير هذا كثير، وكل ذلك في شعب أقل من ربع مليون!

وساهمتُ في هذا الزخم منذ أواخر الستينيات بمئات القصص والمقالات والدراسات الفكرية والنقدية، وقد ظهرتْ في القصة القصيرة التي اشتغلتُ عليها عدة اتجاهات، أهمها الاتجاه الواقعي، والاتجاه التجريبي، اللذان تصارعا وتمازجا واختلفا، ومثلت الرواية امتداد هذا الصراع والتحول.

وقد عملتُ ضمن الاتجاه الواقعي، بتطوراته واخفاقاته وتحولاته المختلفة. الآن صعدنا فوق هذه التضاريس المحدودة مستثمرين دلالاتها الإيجابية.

• فيما يخص علاقة الثقافي بالسياسي، كيف ينظر عبدالله خليفة إلى المشهد السياسي في البحرين أيضاً؟ هل هناك تغير في الرؤية؟ هل هناك مصالحة مشاكسة؟ خاصة وأن روايتك الأولى [اللآلئ] عبرت بشكل رمزي عن مرحلة الخيمة المظلمة!؟

ــ المشهد السياسي في البحرين معتم، فمنذ حل المجلس المنتخب سنة 1975، وكنا ضحايا لذلك العنف، ونحن في حالة طوارئ دائمة. ورغم إن البلد عرفت تطورات اقتصادية كبيرة مع ارتفاع أسعار النفط، وشهدت البنية الاجتماعية ازدهاراً واسعاً، إلا أن الاحتكار السياسي وغياب التعددية أدى إلى تضاؤل احتواء الدولة للمجتمع ودخول البلد في حالة عجز مالي وسياسي متفاقم.

في حالة الطوارئ الممتدة ثلاثة عقود ركزت الدولة على اجتثاث التيارات الحديثة العلمانية، مما وسع وانهض الحركات الأصولية، وهذا أدى إلى نزاع دامٍ على مدى الأربع سنوات الماضية وخسارة مئات الملايين من الدولارات وعشرات القتلى وآلاف الموقوفين الخ..

ولا يبدو أن في الأفق رؤية سياسية تصالحية ناضجة تستوعب هذه الخناجر الدامية وتُدخل المجتمع في مجرى ديمقراطي.

• سؤال أخير في نص هذا الحوار يتعلق بالمغرب السياسي والثقافي في آن، فما علاقات عبدالله خليفة مع المغرب الثقافي خاصة الروائي منه إبداعاً ونقداً؟ وعلاقته مع المغرب السياسي، خاصة تجربة التناوب السياسي التي يشهدها المغرب بعد تشكيل حكومة التناوب من طرف المعارضة بزعامة اليوسفي الكاتب الأول لحزب الاتحاد الاشتراكي والوزير الأول في الحكومة المغربية الحالية؟

ــ المغرب نموذج مبهر للعرب. شيء متألق مختلف يلمع أمام القافلة العربية الصحراوية الطويلة، يحدوها للتوغل في العالم المتمدن الحديث، وعبور محيط الظلمات والطائفيات والإقطاعيات.

وكان انتصار أصدقائنا التقدميين المغاربة في الانتخابات التشريعية وتشكيلهم وعملهم لتحويل المغرب لصالح القوى الشعبية، مبعث اعتزاز وفخر هائل في الجزيرة العربية، وقد كُتبت العديد من المقالات التي أطرت هذه التجربة العظيمة، ومثلت أول تجربة تداولية عربية.

ونحن نتمنى على الأخوة المغاربة الديمقراطيين رص الصفوف، والتعاون العميق الموحد للمزيد من التأثير في الواقع.

أما الأدب المغربي والرواية المغربية فهما مدرستان لنا. نحن نتعلم من أدباء المغرب وروائييها الكبار. لقد العديد من الروايات المغربية الكلاسيكية والجديدة وتتبع بعض الكتب النقدية التي ترصد هذه التجربة ككتاب الناقد نجيب العوفي عن المقص المغربي، وكانت لنا لقاءات مع أدباء المغرب في مؤتمرات الأدباء العرب، ونحن فخورون بإنتاج أشقائنا المبدعين المغاربة، سواء على مستوى الأدب أم على مستوى السياسة والواقع.

عبدالله خليفة: المغامرات اللغوية أبعدت القارئ عن الرواية

عبدالله خليفة كاتب بحريني صاحب عدد من المجموعات القصصية المتميزة التي بدأ نشرها منذ منتصف السبعينات بمجموعة لحن الشتاء ثم توالت مجموعاته الرمل والياسمين ويوم قائظ ودهشة الساحر وجنون النخيل.

ودخل خليفة حقل الرواية بصدور روايته اللآلئ في بداية الثمانينات ثم توالت رواياته: القرصان والمدينة والضباب ورأس الحسين وعمر بن الخطاب شهيدًا والتماثيل كما كتب العديد من الدراسات النقدية والفكرية. وبمناسبة صدور عمله الجديد التماثيل كان هذا الحوار معه:

صدرت لك حديثا رواية التماثيل ماذا عن الخطوط العريضة لهذه الرواية؟

التماثيل رواية من روايات الحياة الاجتماعية المعاصرة وليست تاريخية، وهي تتناول الفترة الحالية في البحرين وتدور حول شخصيتين متناقضتين، الأولى بسيطة ومتفتحة وخيرة ولكنها ساذجة، والثانية شخصية ذكية وشريرة، وتصطدمان مع بعضهما بعضا حيث يقوم الرجل الشرير باستغلال الرجل الطيب في أعمال يتورط على أثرها في العديد من التجارب إلى أن دخل السجن وهناك تعلم الساذج كيفية التعامل مع الأشرار، بعد لقائه بأحد المناضلين الريفيين الذي يقوم بحراسة كنوز التراث التي هي التماثيل.

شخصيات الرواية حلمية أم واقعية؟

هناك صبغة تجمع بين الحدث اليومي الحقيقي من خلال شخصيتي حارس التماثيل، والساذج الشرير وهي ترميزات لأنماط بشرية وقوى متصارعة في الفكر والموقف والفن الآن بعدما كتبت مجموعة كبيرة من القصص والروايات لم أعد أكتب ما هو تسجيلي فوتوغرافي، لكنه يستفيد من المادة الحياتية ويتغلغل فيها ويضعها في صيغ ترميزية.

ما سر تحولك من الكتابة التاريخية إلى الكتابة الواقعية؟

كنت دائما مهتما بجذور الحالات القصصية والروائية كجذور بلدي والحالات الشخصية والفنية وصيرورة الشخصيات كما في روايات اللآلئ، وهي عملية مهمة لكشف تطور الشخصيات وإبراز تناقضاتها وجذورها الروحية، هذا المنهج دفعني إلى دراسة التاريخ الإسلامي بعد تخرجي من قسم اللغة العربية في معهد المعلمين، واصلت الكتابة الأدبية بهدف البحث في جذور الإسلام والأمة العربية، وأصدرت كتابا من أربعة أجزاء حول تطور الوعي العربي الفكر الفلسفي.

هل تربط الرواية بالتاريخ لتعيد التعبير عما قاله التاريخ بلغة أخرى أم التعبير عما لا يقوله التاريخ؟

لم أكتب الرواية بشكل تسجيلي تاريخي وتوثيقي دراسي وإنما بشكل روائي، أستخدم أسلوبا شعريا ولغة مرنة بحيث لم أتوقف عند التيمات التاريخية والتقارير المتيبسة للسرد القديم، حيث تتداخل الضمائر وينمو السرد عائدا للماضي ومتوجها للحاضر وتتشكل شبكة من الشخصيات مثل عمر في رواية رأس الحسين في المدينة وهو يجابه الاستغلاليين ويساعد الفقراء.

ما حجم ودور الخيال في هذه الروايات التاريخية؟

حجم الخيال يبقى محدودا لأنه توجد لديك مادة لا يجوز تحريفها أو تشويهها ودور الكاتب هو إضفاء عوامل التشويق على هذه المشاهد مثل الصراعات الحربية.

كيف تتقاطع كمثقف مع المفاهيم التجديدية للغة؟

الأسلوب الحديث بمغامراته اللغوية وسرده المنقطع واستخدام المونولوجات أو المشاهد المسرحية أو تعددية الأصوات هذا كله مطلوب لكن ينبغي أن يؤخذ بحذر وتوظيف حقيقي، لأن هناك هوة كبيرة بين الكاتب والقارئ، هذه الهوة تشكلت بسبب المغامرة المتطرفة في اللغة، حيث أصبح الكتاب الأدبي منبوذا وغير مقروء، ونحن نحاول أن نجمع بين تطوير اللغة واكتشاف مستويات غنية فيها وفي نفس الوقت نسعى لخلق لغة اتصال مع الجمهور.

ما الهموم التي تشغل الكاتب البحريني؟

هي نفس الهموم في الأقطار العربية الأخرى لا تختلف مثل قضايا الحرية والتنمية والفقر والغنى التي أشتغل عليها منذ أربعين عاما، واشتغل عليها قبلنا كتاب كبار، ولكن مهمتي في الرواية أو القصة تحويل هذه القضايا الكبرى إلى تيمات قصصية.

برأيك متى ينتهي الروائي كروائي؟

عندما يستنفد تجربته ولا يستطيع أن يستكشف عالمه ويقدم تحليلات إبداعية مهمة فيه وعندما يكرر نفسه ويعيش على ذات الموضوعات والأساليب.

أين موقع المرأة في كتاباتك؟

المرأة دائما ملازمة لي في كتاباتي خاصة في الرواية، نجد العديد من الأشكال كانوا نساء مثل بطلة روايتي امرأة التي تقود عملية التغيير في القرية، وتكتشف خيانة زوجها السياسية.

أين أنت من المشهد الثقافي البحريني؟

كنت في قلب المشهد طيلة أربعين عاما وكتبت مختلف الأنواع الأدبية والدراسات النقدية والفكرية وأخوض المعارك الفكرية من أجل تجذير هذا الأدب ودفعه نحو آفاق أخرى جديدة.

أسئلة حوار الصحفية والكاتبة الجزائرية

• اكتشفك القارئ الجزائري من خلال روايتك الأخيرة «رأس الحسين» كيف تقدم نفسك لهذا القارئ ؟

ــ كنتُ قد شاركتُ في مؤتمر الأدباء العرب في الجزائر سنة 1975 وكنتُ شاباً غضاً وقتذاك ، وكان المؤتمر يضم أدباء وشعراء كباراً ، وفي المؤتمر قدمتُ بحثاً بعنوان (تطور القصة القصيرة) ، ومنذ تلك السنة انقطعت صلتي المباشرة بالجزائر وبالعالم الخارجي بعد الأحداث السياسية في بلدي.

لقد كنتُ أكتب في مجال القصة القصيرة والرواية والبحث ولم يتح لي النشر بسبب سنوات السجن سوى في الثمانينيات فنشرتُ عدة مجموعات قصصية عبر دور النشر اللبنانية والمصرية خاصة ، وكذلك كتبتُ مجموعة من الروايات. وتستطيعين أن تقولي إنني أكثر الكتاب في البحرين والخليج كتابة للرواية منذ البداية ، كما اهتممت بالنقد والأبحاث عبر الحفر في تاريخ المنطقة سواء بالكتابة عن الأنواع الأدبية والفنية البحرينية أم بالكتابة عن تطور الرواية في الجزيرة العربية والعالم العربي عموماً. فلي تحت الطبع كتاب عن الروائي العربي الراحل نجيب محفوظ بعنوان (نجيب محفوظ من الرواية التاريخية إلى الرواية الفلسفية).

وفي العقد الأخير أهتممت بالكتابة عن التراث العربي الإسلامي الذي كان لي به اهتمام مبكر، فصدرت لي ثلاثة مجلدات ، أي ثلاثة أجزاء ، تبحث فيه تحت أسم (الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الإسلامية) بدار المؤسسة العربية للدراسات والنشر ببيروت بين سنتي 2004 و 2005 ، وهذا هو المدخل الذي قادني لكتابة روايات عن التاريخ العربي الإسلامي ، فرواية (رأس الحسين) المنشورة عن طريق منشورات الاختلاف والدار العربية للعلوم ، هي ثمرة لهذا الاطلاع وهي جزءٌ من سلسلة روايات بهذا الصدد ، أنجزت منها رواية أخرى هي (عمر بن الخطاب شهيداً).

• في هذه الرواية تعيد الاشتغال على احدي ماسي التاريخ الإسلامي ما هي قصة هذا النص بالذات ؟

ــ قصة هذا النص الروائي تتعلق بجانبين هما العمل في الرواية التاريخية وإضفاء لمسات جديدة فيها ، والجانب الثاني الكتابة عن شهداء الإسلام الكبار . لقد رأيتُ بأن كتابة الرواية المعاصرة تغدو محلية أكثر فأكثر ، وغالباً ما يعزف عنها القارئ العربي ، خاصةً إذا غاصت في محلية شديدة ، ومن هنا تكتسب الروايات ذات البعد العربي العام أهميتها .

كما أن الرواية العربية التاريخية لم تتطرق إلا بشكلٍ نادر لبؤر التاريخ العربي الإسلامي ، ولهذا فإن كتابة روايات عن صدر الإسلام هي ذات أهمية كبيرة ، لأن هذه المرحلة خطيرة ومؤسسة ، كما أنها خلقت خلافات كبيرة بين العرب والمسلمين ، ولهذا كان لا بد من أضواء موضوعية عنها ، تراعي الحقيقة قدر الإمكان ، وتــُكتب بصورة فنية .

ويهمني في مثل هذه الأعمال خاصة الجانب الروائي فالدخول الفني الموضوعي في مثل هذه البؤر التاريخية أمر شائك ، وقد أقتصر الأمر على بعض الاجتهادات الفنية السابقة التقليدية والتي أعطتنا في الواقع حصيلة بحثية وفنية أولى ، خاصة أعمال طه حسين ، لكنها كانت ذات منظورات رومانسية ، ولم تستطع أن تكشف صراعات المادة التاريخية وجذورها ، لأن الرواية العربية التاريخية وقفت فوق قراءة محدودة للتاريخ وللإسلام عموماً ، ولكن عمليات التغلغل الأخيرة في التراث كدست مادة ورؤى جديدة ، فأصبحنا ننظر للتاريخ بأنه ليس فقط مآثر أفراد ولكنه حصيلة كذلك لفعل شعبي عميق ، وإن الفردي لا ينفصل عن العام ، وإن أخطاء المرحلة التأسيسية لا تلغي إنجازاتها التحويلية النهضوية العظيمة، وأن الماضي الخلاق يحتاج لقراءات نقدية موضوعية تثريه ، والقارئ العربي بدأ يتعرف على هذا الوعي الجديد من خلال الأبحاث ومن خلال الرواية التي لها مساحة أوسع.

وإذا كان أمين معلوف يتحدث عن تاريخ الشرق القديم في نقاط مضيئة فيه ، فإن تاريخ الإسلام التأسيسي أكثر صعوبة في التوغل به وعرض هذه النقاط المضيئة ، وبدون الإساءة للرموز بل إظهار جوهرها النضالي الإنساني .

• بدأت شاعرا و انتهيت روائيا كيف اختصرت المسافة إبداعيا ؟

ــ ثمة لبس هنا ، لعله اختلاط للأسماء ، فهناك العديد من لقب (خليفة) في البحرين والخليج بل ربما عندكم حتى في الجزائر حيث يوجد مؤلف مقارب لأسمي !

فأنا لم أكتب الشعر بل كانت تجربتي كلها في القصة والرواية والبحث ، لكن الشعر ليس نظماً بل لغة تعبيرية مكثفة عميقة ، تسري في الرواية والقصة .

• ظهرت مؤخرا بعض الروايات التي تطرح مشاكل الأقليات ألا تعتقد أن الأوضاع السياسية للعالم العربي كان لها دورا في ظهور هذا النوع من الروايات ؟

ــ الرواية تتغلغل في مشكلات الأقليات والأكثرية ، لأنها تعنى بالإنسان بأي صورة تشكل، لكن الرواية كنوع أدبي له علاقة وثيقة بالصراعات الاجتماعية فيتواشج مع صعود كافة القوى التي تريد أن تعبر عن نفسها ، ومن هنا هذا الكم الواسع من الإنتاج الروائي الذي يكتبه المؤلفون ، وبطبيعة الحال فإن المضطهَّدين يتوجهون بشكل أكبر وأعمق للتعبير عن جماعاتهم ومناطقهم وشعوبهم ، ولكن مستوى ذلك يتعلق بالشروط الفنية . إنه كلما زاد اضطهاد جماعة زادت قدرتها على التعبير ، وكثيراً ما نجد قوى النخبة المسترخية اجتماعياً قليلة بل ونادرة الإنتاج ، لكن من الممكن أن يظهر فيها مبدعٌ متميزٌ يكشف تعسفها وأمراضها . ولهذا تلاحظي كيف تصاعد إبداع المرأة العربية الروائي حيث تعبر عن استبداد طويل للرجال وعن معاناة هائلة . لكن أي رواية فيها مستوى فني كبير ؟ هذا هو المهم .

• يقال أن زمن الشعر قد انتهى، كشاعر هل ما زلت تؤمن أن الشعر ديوان العرب ؟

ــ زمن الشعر لم ينتهِ ولكن الشعر العربي في أغلبه أختار الاغتراب عن تحليل وكشف الحياة العربية ، فدخل لعبة الأشكال الخاوية ، أو أنحصر في الذات المغلقة ، وهي عملية حاولت تقليد شعر الغرب الأسطوري وشديد الحداثة ، لكن بدون جذور عربية وإسلامية ومسيحية الخ . . فالشاعر تضخمت أناه ، ونجد ذلك خاصة في الشعراء الذين أنفصلوا عن معارك مجتمعاتهم ، فصار شعرهم منحوتات لغوية يابسة ، فقدت علاقتها بالجذور والملموس والحي واليومي ، وأتجه آخرون لما أسموه الشعر اليومي فكان نثراً تصويرياً جزئياً لم يقدر على التغلغل في الجوهري إلا من جمع بين اللقطة والحياة ، بين الذات والصراع الاجتماعي .

ومن هنا حلت الرواية مكان سيادة الشعر ، خاصة أن أنواعها المقاربة كالمسلسل التلفزيوني والفيلم الخ انتشرت بشكل جماهيري ، وإن كانت هذه المقاربات الفنية تتجه للتسطيح وتغدو بمثابة الحكواتي القديم في صورة عصرية ، فهي تغدو من قبيل التسالي ، فلا تتجه للروايات الكبرى والمهمة في صناعتها الفنية ، تلك الروايات التي تعالج القضايا المحورية في المجتمعات العربية .

• في وراية رأس الحسين تعمدت أن تترك النهاية مفتوحة نوعا ما هل يمكن أن يحيل هذا لقراءة مختلفة لمر حلة تاريخية حرجة في التاريخ الإسلامي .

ــ نهاية رواية (رأس الحسين) معتمدة على عدم انتهاء الصراع التاريخي المحدد في تلك الحقبة إلى نتيجة بين التيارين المتصارعين ، تيار العامة والناس وتيار سلطة الأقلية ، فكانت ثمة أسس جديدة تتشكل في الإمبراطورية الإسلامية ، حيث عجزت عائلات الحجاز الأرستقراطية عن قيادة جمهور العامة نحو تحقيق المـُثــُل الإسلامية المتجسدة في زمن الثورة المحمدية ، ولهذا بدأت تظهر قوى الإصلاح داخل المدن وبصورة فكرية عقلية كالقدرية والمعتزلة والحنفية الخ. .

كانت معركة الحسين معركة مجموعة طليعية صغيرة في زمن تضخم الدولة الباطشة ، ولهذا كما قرأتِ بذكاء إن النهاية ظلت مفتوحة بسبب تلك الأسباب الموضوعية وإن كانت المعركة خميرة لتحول جديد .

• يعاني المشرق العربي من قطيعة ثقافية مع المغرب العربي ماهي الأسباب في رأيك .

ــ أن الصلات الثقافية بين الأقطار العربية عموماً ضعيفة ، لكن هذه العلاقات تنمو عبر وسائل الاتصال والنشر المختلفة ، كذلك العلاقات بين المشرق والمغرب العربيين في تطور مستمر ، خاصة بين النخب الفكرية والثقافية أما الجمهور العربي فهو أمي بأغلبيته فلا يدخل في علاقة ثقافية في بلده أو مع البلدان الأخرى .

من الضروري هنا القيام بعمليات نشر مشتركة ، وقيام علاقات قوية بين الاتحادات الأدبية ، نحن في أسرة الأدباء والكتاب في البحرين نقيم علاقات مع أتحاد الأدباء العرب في سوريا والأردن ، ولكن لم تتوفر القدرات لمثل هذه الأنشطة مع الجزائر أو تونس ، في حين أن الجهات الرسمية تقتصر على العلاقة مع المغرب الذي يقيم علاقات مع جهات حكومية ثقافية تتم فيها إستضافة وجوه معينة دائماً .

• تميزت منذ سنة 2006 بـ انفجار في الأقلام النسوية خاصة في السعودية هل يعني هذا إيذانا بتراجع سلطة الرجال إبداعيا ؟

ــ كثرت الكتابة الروائية النسائية في السعودية مؤخراً لأسباب اجتماعية أكثر منها أدبية جمالية ، فهناك كبت كبير لحرية المرأة فحتى حرية السياقة ممنوعة! ولا تزال المناهج الدراسية تعود لقرون مضت، ورغم حشود النساء المتعلمات إلا أن أوضاعهن صعبة جداً. هذا ما جعل بعض الفتيات يكتبن الرواية للتعبير عن هذا الكبت والحرمان ، لكن الرواية الفنية تتطور ببطء في السعودية ، فالكتاب المتميزون قلة قليلة وإنتاجهم الجيد محدود ، لكن الرواية كتسجيل صحفي وتحقيقات اجتماعية لها طابع القص هذه عملية تظل سطحية و(فضائحية)، بمعنى إنها تتوجه للإثارة ، وليس لتحليل المجتمع وظواهره . لي دراسة حول الرواية في منطقة الجزيرة العربية عموماً ، لم تظهر ككتاب بعد ، وجدتُ فيها إن البلدان – المدن كالكويت والبحرين و(مكة في السابق) بدأت فيها عمليات الرواية وتطورت فيها ، أما الأقسام البدوية فقد جاءت متأخرة وتضخم إنتاجها في الآونة الأخيرة بدون عمق كبير .

• أنت كروائي بحريني كيف تختصر واقع الرواية هناك للقاري الجزائري ؟.

ــ واقع الرواية عموماً ينمو بشكل كبير ، وهي تتجه لعمليات تصوير وتسجيل وتكوين ملاحم للبلدان المختلفة ، ونستطيع أن نقول بأنه يوجد فيها أعمق الحوارات الفكرية والفلسفية والاجتماعية ، فالروائيون يناقشون مسائل بالغة العمق بدءً من التطور الاجتماعي البسيط حتى قضايا الدين والمصير ، فإذا أخذنا روايات واسيني الأعرج مثلاً نجده يناقش تطور الجزائر خلال القرن الماضي كله ، ويغوص في معاركها السياسية والفكرية بشاعرية وعنفوان محتدم ، وبتقنيات خاصة مبتكرة ، ومثل هذه الرواية تعبر عن تلك الأعماق المتوارية من التسجيلات اليومية العابرة .

ومن الصعب جداً تلخيص الرواية حتى عند كاتب واحد فما بالك بتلخيصه بشكل عام ، فهي عموماً ملحمة العصر الحديث .

• ما الوقت المناسب الذي تختارونه للكتابة ، وكم ساعة تكتبون يوميا ؟

ــ كنتُ أكتب منذ كنتُ طالباً ثم مدرساً، في أواخر الستينيات من القرن العشرين، وحينئذ لم تكن للكتابة وقت وطقوس، لأن الوقت الأصلي للكتابة كما تكرس لدي لم يكن موجوداً، فأن تكونَ مدرساً فإن الصباحَ يتمُ إختطافه منك، وتلعب ضجة الطلبة دورها في القضاء على أي مناخ إبداعي تال.

لكنني مع هذا كنت أكتبُ قصصاً قصيرة وبعض المقالات في الليل، في أجواء مشتتة ، التعليم ، العمل السياسي ، القراءة ، مسارات تشدني في إتجاهات متعددة.

كانت سنوات السبعينيات تجري بهذا المناخ، وقد دخلت الأعتقال السياسي منذ 1975 أغسطس، وخرجت في بداية الثمانينيات، وبالتأكيد فإن طقوسَ الكتابةِ في السجن صعبة، لكنها كرستْ كتابةً صباحية، حيث الفراغ الطويل والمزاج المفتوح، لكن الأمرَ يعتمدُ على وجودِ القراطيس من ورقِ السجائر ومن قلمٍ رصاص قصير صعب المنال، ولم يوجد الشاي وكان هذا عاملاً مُحبِطاً للكتابة.

كتبتُ في هذا المناخ مجموعةً قصصية واحدة (الرمل والياسمين)، وعدة روايات قصيرة: اللآلئ، الهيرات، القرصان والمدينة، والعديد من المقالات والتعليقات على ما يُكتب في السجن والعالم الخارجي، إضافة لمشروعات روائية وقصصية كثيرة ذهبتْ في ظروف حملات التفتيش وعدم القبول من المؤلف نفسه!

لا بد لك في هذه الأحوال من قدرةٍ على الاحتفاظ بما تكتب، ولهذا فإن أمكنةً سريةً لا بد أن تكون موجودةً جاهزةً بعد إنجاز المسودة كقعرِ حقيبةٍ، أو داخل معاجين الحلاقة!

بعد الخروج من السجن لم يكن ثمة عمل، وعدتُ لبيتِ أبي القديم، ولم يكن ثمة مكان هادئ، وتغير الجو كثيراً، لكن تحولت غرفتي القديمة إلى ساحة قتال لإخراج المسودات الغائرة في المعاجين، لتبدأ عمليات التنقيح والتبييض.

أخذ الصباحُ مكانتَهُ مجدداً، وتوفر الشاي والورق والأقلام لكن لم يتوفر الهدوء، فلا بد من البحث عن عمل، وتغير البيت، وتغير الحي، لكنني تمكنتُ من نشرِ ما كتبتهُ في مرحلة السجن بمساعدة أصدقاء سواءً في التنظيم السياسي أم من قبل اتحاد الكتاب العرب بدمشق.

وقد تعودت أن أحول ساعات الصباح الأولى إلى ساعات كتابة للأدب أو الفكر عامة، وبشكل مستمر ومنضبط على مر السنوات، ولكن هذا يتوقف على الفكرة الموجودة والمزاج، وبضرورة الوحدة والعزلة في المكان الذي يوفر الهدوء والتركيز، ولكنني لا أكتب كثيراً كل يوم، فربما فصلاً أو صفحة، أو حتى فقرة صغيرة، لكن الكم الكتابي يتراكم على مدى الأيام، وهذا يجعل الذات في جدل يومي مع المادة ومعالجتها.

• ما المكان الملائم لكم والذي تفضلونه أثناء الكتابة ، وهل تغير المكان يؤثر على الرغبة في الكتابة ؟

ــ كما قلت لك سابقاً بأن ثمة علاقة مفروضة على المكان، أحياناً تكون لديك زنزانة في سجون متعددة، بعضها شرح وبعضها مقبض جداً، لكن المكان الذي تواجد عبر الاختيار هو جو الغرفة المغلقة، أو الصالة حين تكون في شقة زواج، ونفس الصباح حيث تذهب الزوجة للعمل، وتبقى وحدك، لكن مع تواجد الآخرين والضجيج تستحيل الكتابة، إلا في حالة السجن حين يصمت رفاق الزنزانة نهاراً وينشغلون بأعمالهم من تشكيل حرف أو كتابة أو قراءة، لكنك لا تنتج بنفس مستوى العزلة الحرة.

• هل تكتبون بالحاسوب أم بالقلم ؟

ــ علمتني الظروفُ أن أكتبَ بكلِ شيء، بأي مادةٍ تنهمرُ على الورق الأبيض أو على الشاشة، كان الجنون يتملكني وأنا أبحثُ عن قلم لدى المسجونين بأحكامٍ الذين أعلمهم القراءة فيهدونني قلماً طويلاً أشبه بمعجزة. ثم كتبتُ كثيراً بالأقلام المتعددة بعد ذلك، وكنت قبل السجن قد أشتريتُ آلةَ طباعة كتبتُ عليها، فأشتريتُ أخرى بعد أن تم إلقاء تلك الآلة في البحر خوفاً!

الآلة الكاتبة الجديدة أخذت معي سنوات، تنقلتُ بها من الشقةِ الصغيرة حتى غرفة فوق السطوح على بناية، وقد تحملتْ عدةَ مجلداتٍ من الرواياتِ وعدةَ مجلاتٍ من الأبحاث فتصدعتْ، وكانت نهايتها هناك، أصبحت رثة، ضعيفة الطبع، وهنا بدأت العلاقة مع الكمبيوتر، كانت هذه الآلة تحفة وثراءاً وحفظاً جباراً، لكن البدايات كانت مروعة!

أخطاءٌ في الحفظ فضاعتْ فصولٌ وقصصٌ، وأخذت سنوات عدة وأنا أتعلم وأتغلغل في السيطرة على هذه الآلة، وعشتُ مع عدة أجهزة ثابتة أصيبتْ بالإجهاد وتغلغلتْ فيها الفيروساتُ بسببِ جمعي للكثير من المعلومات من مختلف المواقع، فأنا كاتب عمود يومي كذلك في جريدة أخبار الخليج وعبر عدة سنوات ولا بد لي من الاطلاع المستمر ونقل المعلومات والدخول في مختلف المواقع، حتى أصبح المحمول رفيق الدرب!

• إذا كنتم تكتبون بالقلم ، فهل هناك أقلام أو أوراق معينة تساعدكم على الإلهام الكتابي؟

ــ لا أعترفُ بالإلهامِ الكتابي أو بأشياء مميزة سحرية للكتابة، والكتابةُ هي متعةٌ وجمالٌ ومعاناة وتضحية وحرفة لها قوانين إبداعية وعدة شغل، والآن أصبح المحمول أفضل صفحة بيضاء أخطُ عليها، وأصبحتْ العودةُ للقلم الناشف والحبر أو حتى قلم الرصاص الصديق الوفي لسنواتِ غيرَ ممكنةٍ بسبب هذه الآلة الجميلة الفذة!

• هل هناك مشروب معين أو موسيقى معينة أو عادة ما تساعدكم على تدفق الكتابة ؟

ــ أهم ظرف وطقس للكتابة هو المزاج الهادئ ووجود تراكم روحي من الأيام السابقة وشحنات متصاعدة من الصور والمشاعر والأفكار ، ومن حالة الخلق الساخنة المحبة للناس والتغيير ، والرغبة في الإضافة شيء للحياة ، ونقد أشياء معتمة، والأمل بصعود أشياء جميلة ، وهي كلها تتمظهرُ في حالاتٍ ، وشخوص ، وثيمات معينة تنمو في هذا الاشتباك الخلاق ، تظهر على الشاشة العقلية ، وتقوم الكتابة بإستخراجها من تلك الحالة الضبابية ، من ذلك الكمون الداخلي.

الشاي يتلون أثناء العمر ، يغدو الأحمرُ صعباً ، يصير الأبيض أفضل ، القهوة تأتي في أحيانٍ نادرة ، الأمر يتطلب التركيز وإقتناص تلك اللحظات من التجلي والهدوء والتركيز ومدى سلاسة المادة وإنفتاحها على حياةٍ متوهجة ومقاربتها للصراع الحميم المتوتر وقدرتها أن تكون مقنعة معقولة.

• رواية [عمر بن الخطاب شهيدا] كم من الوقت استغرق كتابتها ، وهل صَاحَبها طقوس معينة ؟

ــ روايةُ (عمر بن الخطاب شهيداً) جاءتْ في خضمِ قراءات وكتاباتي عن التاريخ العربي الإسلامي ، فنحن نلاحظُ غربةَ الروايةِ عن الواقعِ والقراء ، فقبلها إنفجرتْ في نفسي صورةُ الحسين الشهيد وكنت قرأتُ عنه سابقاً من موادٍ شتى، فخطرتْ لي بعد ذلك وبزمنٍ طويل من تلك القراءات فكرةُ الكتابةِ عن الرأسِ لوحده، الرأس كشخصيةٍ فنيةٍ مستقلة، كفنتازيا إجتماعية تجمع المواد التاريخية والخيال والصراعات غير المعقولة في التاريخ العربي الإسلامي.

وهكذا جاءتْ روايةُ (رأس الحسين) وصدرتْ عن الدار العربية للعلوم ببيروت.

حققتْ الروايةُ شيئاً من الاهتمام والإثارة على المستوى العربي الواسع.

جاءتْ روايةُ عمرُ بن الخطاب شهيداً في مسارٍ آخر، متجاورٍ مع الرواية السابقة، عبر ثيمتي الشهادة والبطولة، وبأداة الكتابةِ عن البطولةِ ببساطةٍ وعقلانيةٍ وبدون غيبيات، وبتحويلِ الشخصياتِ التاريخية الكبيرة إلى شخصياتٍ بشرية تقومُ بالفعلُ المثير المضحي من خلال العادي، وبالتجربة، ومن مواد الأرض الواقعية.

ولا تستمر الرواية عادة لدي فترة طويلة، فالمعدل هو أربعة شهور، إلا الروايات الطويلة، الممتدة في أجيال، والزمنية فيها بسبب العادة السابقة الذكر وهي الكتابة الصباحية اليومية، التي تخلق تراكمات. القراءاتُ الطويلةُ السابقة في التاريخ والتراث تهيءُ لك الجو، وربما ترجعُ لحيثياتٍ يومية كثيرة، لكن الكتابة الفنية تنمو بنفسها وبالاعتماد على أدواتها.

• هل حدث أن أعدتم كتابة عمل ما لمجرد أنه لم يعجبكم ؟

ــ كما قلت لك بأنني تخليت عن روايات عدة كتبتها في السجن، مثل (الدرويش والذئاب) بعد الإفراج لم تعجبني الغرائبية الشديدة فيها، التي شكلتْ في ذهني بُعداً عن المعقولية الفنية، فأحببت أن أكتبَ بشكل قريب للحياة، وللصدق، وأن تتنفس هذه المخلوقات الخيالية في العالم، وتصيرُ جزءً منه، وتشاركُ في أحداثهِ وتضيفُ لفهمه لآخرين قادمين.

هناك الكثيرُ من القصصِ القصيرة التي نُشرتْ في الجرائد ولم تظهرْ في مجموعة قصصية ولدي مجموعات قصصية لم تنشر حتى الآن في كتب وروايات جديدة كذلك رهن الأدراج، وعملية حذف النتاج هذا أشبه بالنقد والنقد الذاتي، فالكتب تمثل درجة أعلى من الكتابة، خطوة نحو تبلور الرؤية، نحو تشكيل الموقف من الحياة، وتصيرُ الكتاباتُ التي نُشرت في الجرائد ولم تجمع كأنها مسودات، أو حوار مع الناس.

(القرصان والمدينة) روايةٌ كتبتُها في السجن ومضتْ عبرَ معجونِ الحلاقة وبُيضتْ أثناء الخروج من المعتقل، ووقعتْ في إشكاليةِ الصياغة المضطربة، أثناء نشرها لدى دار الفارابي في أوائل الثمانينيات من القرن العشرين، ولكن في طبعة الأعمال الروائية لدى المؤسسة العربية للدراسات والنشر (2004) – راجع Google Book Result – أدخلتُ عليها بعضَ التغييراتِ الهامةِ لإلغاءِ ذلك التشوش الذي حدثَ من تداخل الفصول والشخصيات، فهي روايةٌ غرائبيةٌ، ذاتُ سردٍ غنائي، وفيها شخصياتٌ متعددةٌ راوية.

• هل تتصارع أكثر من فكرة في ذهنكم أثناء كتابة عمل ما ؟

ــ بطبيعةِ الحالِ الكتابةُ مثلَ الحياة تقومُ على الصراع، فحين كنا في البداياتِ وأنت تعرفُ طبيعةَ المجتمعاتِ العربيةِ في الخليج وبساطتَها الشديدةَ، كان الصراعُ مبسَّطاً، بين الخير والشر، بين الوطنِ والقوى الخارجية، بين الذات والواقع، بين الفكرة والعالم، وتقود خبرةُ الحياة ورؤيةُ الشخوصِ والتقلب بين النيران والجليد، إلى أن تظهرَ أفكارٌ متضادة، وشخصياتٌٌ متناقضة، وكنا نرى بأن القوى المناضلة لها الإنتصار التاريخي، ثم رأينا تناقضاتها، وسذاجة تصوراتها، وتقلباتها الشديدة، ونحن جزء منها سلباً وإيجاباً، لكن مسافة المعرفة، والغوص في تحليلات الواقع وإنجازات حركة التغيير في العالم، تجعلك تنفصلُ عن هذه المادة، والأبطالُ الخارقون يتحولون بعد ذلك إلى موادٍ إنسانية، إلى تناقضاتٍ ملموسة، والفكرُ التقدمي يمتزجُ بالواقع العربي الإسلامي، والبداوةُ المنفيةُ من الكتابةِ تغدو بؤرتها، والجزيرةُ العربيةُ تحل محل الغرائبيات الغربية، وتتشبعُ المادةُ أكثر فأكثر بالحياة، التي لا تنفي الغرابة واللامعقول كذلك، وتصبحُ حياةُ الروائي مثلي شخصيةَ الذي يحملُ الغربَ في الشرق، والذي يُشّرحُ الواقعَ لا الذي يحملُ الإيديولوجية، وبالتالي فإن مساحات من الصراعات تتشكلُ في إثناء هذه السيرورة الكتابة.

• ماذا تشعرون أثناء الكتابة ؟ صراع ؟ أزمة ؟ دوامة ؟ أم يبدو الأمر طبيعيا لكم ؟

ــ أشعر أثناء الكتابة بالفرح والسعادة، لا يوجد هناك ألم أو تعذيب ذات ، حينما تكون هذه اللحظة أتدفق في العمل، وحينما لا تتكون لا أجبرُ نفسي على الكتابةِ أو على الاستمرار فيها، فشيءٌ قليل وبضعُ صفحاتٍ أو بضعةُ أسطرٍ أفضل من كتابة كثيرة مليئة بالجبر والأسى.

لأنني حينما أنهي الكتابة الأدبية أشتغل في الكتابة الصحفية أو الفكرية، أو لا أعمل.

لا توجد أزمة أو اضطراب لأن الكتاب يبحث عن الأزمات والاضطرابات ويفحصها ويعقلنها ويجسدها.

الرواية موقف فني تنمي الوعي والسمو الأخلاقي

حاوره: فيصل عبد الحسن

     عبدالله خليفة ، الروائي الأول في دولة البحرين وهي حقيقة معروفة ولا يختلف عليها اثنان من المهتمين بالأدب البحريني، هو مزيج ثقافات قديمة وحديثة ، ونتاج واقع عربي بكل ملابساته، السياسية والثقافية والاجتماعية ، في كتاباته العديدة في المقالة والقصة القصيرة والرواية تجد التماعات الثقافة الموسوعية ، والهضم الإيجابي للفكر العربي منذ ثورات القرامطة، وحتى يومنا هذا، هو في حقيقة الأمر العديد من الفنانين في فنان واحد، ومن يطلع على تجربته الأدبية والثقافية يعيد كل حساباته بشأن واقع الروائي الذي يجب أن يتحدر من مجتمع متعدد الفئات ومتشابك العلاقات مع عمق تاريخي وجغرافي واسع ، فالروائي البحريني يكتب عن مجتمع ـ البحرين ـ الذي لا يمثل طول البلاد بكاملها سوى ساعتين بالسيارة، كما يقول عبدالله خليفة، حيث تقطع البلاد من جنوبها إلى شمالها ، والبلاد عبارة عن مدينة كبيرة وريف موزع على جزر عديدة ، ولكن هذه الجزر احتضنت ثورات القرامطة ، والعديد من حركات الخوارج، فحملت في رحمها تكوينات تاريخية بالغة العمق والتأثير بالحاضر ، والروائي عبدالله خليفة منذ السبعينيات بدأ رحلته مع الأدب بمجموعة قصصية أولى أسمها  [لحن الشتاء] ثم جاءت مرحلة السجن بسبب الرأي التي امتدت لست سنوات وبعدها نشر مجموعته الثانية [الرمل والياسمين] عام 1982، ثم رواية [الهيرات] بمعنى المغاصات، وثم [يوم قائظ، قصص قصيرة] ورواية [أغنية الماء والنار] ورواية [القرصان والمدينة ] ورواية [نشيد البحر] ومجاميع قصصية: [سهرة]، [دهشة الساحر] و[جنون النخيل]، التقته الزمان وكان هذا الحوار:

• يتبادر سؤال منذ البداية، إن البحرين دولة صغيرة وعدد نفوسها محدود، والرواية كما نعرف تحتاج إلى عوالم متشابكة، تاريخ عريض، جغرافيا فسيحة، تفاعلات اجتماعية ونفسية، فكيف تمكنت من كتابة الرواية؟

ــ إن تطور الرواية ونشؤها لا يرجعان إلى أسباب جغرافية وسكانية بالدرجة الأولى، فمصدر الرواية هو التطور الثقافي والفني لمجتمع ما، والذي يتشكل في مدى من التفتح والازدهار الاجتماعي.

وقد مثلت البحرين مدينة متفتحة في عالم صحراوي وبحري قاسٍ، فأخذت تغزل من خيوط التأثيرات الإبداعية، العربية والعالمية، ومن معاناتها العميقة، ابحاثها الروحية المتغلغلة في شبكة اجتماعية مختلفة وهي لديها تاريخا الثر الخاص، الممتد من انتفاضة القرامطة الذين شكلوا أول جمهورية عربية اشتراكية، حتى أزمنة الاسترقاق البحرية والعبودية الأجنبية، من هنا لن تجد أي تيار فكري وسياسي عربي يخلو من ممثليه لدينا، ولن تمر مدرسة أدبية وفنية في العالم دون أن تعطي نتاجاً ما في البحرين، بل إن البحرين تعتبر بؤرة المشكلات والتيارات في الجزيرة العربية، وهي المدينة التي تصنع فيها الخميرة الفكرية والسياسية لشبه الجزيرة لسنوات عديدة سابقة.

وبهذا كله، فإن الرواية قد تأخر ظهورها في البلد، وكانت ثمة عوامل موضوعية وفكرية عديدة أهلتها لصنع الرواية ولكن تكاسل المبدعين وابتعادهم عن الإنتاج الروائي واقتصارهم على كتابة القصة القصيرة جعل ظهورها يتأخر، ولهذا فإنني وجدت كتابتي المستمرة للقصة القصيرة تؤهلني لكتابة الرواية، وتشكيل رواية عربية في الخليج، وليست الرواية تحولاً كمياً في القصة القصيرة، بل هي موقف فني انعطافي كبير، تحدث خلاله انكشافات موسعة في روح ووعي الإنسان ومحيطه.

إن كثرة الأحداث الاجتماعية والسياسية التي مرت بها البحرين هي مخزن دائم للكتابة الروائية، فالتغيرات والثورات والتحولات ليست قليلة، ولكن القضية هي الخروج من السطح الخارجي للحياة السياسية واكتشاف الجوانب العميقة للتطور الروحي والنفسي، بمعنى تمُثل ما هو إنساني في ما هو محلي، وما هو جمالي في ما هو اجتماعي.

• أنت الروائي الوحيد في البحرين، هل هناك غيرك و مازال في بداية الطريق؟

ــ أنا الروائي الأكثر إنتاجاً في البحرين، لكن لستُ الوحيد، هناك أسماء أخرى: محمد عبدالملك وأمين صالح وفوزية رشيد وفريد رمضان، ولكل منهم رواية أو أكثر، وهم في طريقهم لمواصلة هذا الإنتاج.

• إذن لنتعرف على بدايات الروائي عبدالله خليفة..

ــ ولدتُ سنة 1948 بالمنامة عاصمة البحرين، والبلد المكونة من جزر متعددة ، متلاصقة نسبياً، هي عبارة عن مدينة كبيرة تجاورها ضواح وريف وبرية صغيرة، حيث يمكنك قطعها بالسيارة من الشمال إلى الجنوب ـ إذا سُمح لك! ـ بساعة أو ساعتين.

في زمن مولدي كانت أكواخ السعف تملأ المدن والريف، كان وقتئذٍ عصر الغوص، حيث ينزل الرجال في أعماق البحر لاستخراج اللؤلؤ واقتناص قطراته الثمينة، قد شارف على الموت، ووصل عهد الآلة، ومصنع النفط وراحت التجارة تكتسح الحياة، وقد ارتبطت البحرين بمسارات الثقافة العربية دائماً، حيث راحت هذه تستجيب للتطورات الاجتماعية الداخلية، وتشكل مجمل الممارسات السياسية الإبداعية، وقد راح الأدب منذ الأربعينيات يتعلم أسس الأنواع الأدبية والفنية بصعوبة شديدة، نظراً لصغر البلد وقلة السكان واتساع الأمية وغياب التقاليد الثقافية العميقة.

وقد جئتُ في هذا المناخ الجغرافي والأدبي ومنذ أوائل الستينيات جمعت بالكتابة في مجالات القصة القصيرة والنقد الأدبي والمقالة، وقد استطعت عبر السنوات الأولى تشكيل مجموعة قصصية أولى هي [لحن الشتاء] توجهت فيها لتعبير عن قضايا اجتماعية وسياسية ساخنة، بكثافة، وصراخ وغضب!

وفي منتصف العقد، في آب [أغسطس] 1975، حدث انعطاف سياسي حاد، وحل البرلمان، وتم اعتقال مجموعات كبيرة من المثقفين، كنت من ضمنهم، حتى سنة 1981، وفي عقد السبعينيات اشتغلت على القصة القصيرة وتحويلها من خطاب فكري إلى نسيج فني، وشكلت مجموعة قصصية ثانية بعنوان [الرمل والياسمين] اتحاد الكتاب العرب سنة 1982، وفي ذات العقد السبعيني، بظروفه الصعبة وأدواته الكتابية الشحيحة، شكلت أول رواية لي بعنوان [اللآلئ] وهي تروي رحلة غوص مدمرة، لمجموعة من رجال البحر الضائعين في الصحراء بعد تحطم سفينتهم، وفي عقد الثمانينيات اشتغلت على أعمال قصصية وروائية عديدة وهي [الهيرات] بمعنى المغاصات و[أغنية الماء والنار] و[القرصان والمدينة] و[نشيد البحر] وهي روايات، و[يوم قائظ] و[سهرة] و[دهشة الساحر] و[جنون النخيل]، وهي مجموعات قصصية، كما ترافق ذلك بأبحاث وقراءات أدبية تقدمت ببعضها إلى مؤتمرات الأدباء العرب أو مؤتمرات الأدباء الإقليمية في المنطقة.

• ما هي تأثيرات الكتاب العرب والأجانب على نتاجك الأدبي؟

ــ إضافة إلى القصص البوليسية التي تأثر بها العديد من الكتب فإنني غرقت في قراءة دستويفسكي، ولا زال أعتبره معلماً فنياً وروحياً، مؤسساً لطريق السمو الروحي، ولكن عبر مُـثُل مختلفة. أعتقد إن الرواية المثيرة على صعيد الحبكة، المسبوكة في توهج حدثي وشخصاني، والمثيرة على صعيد التشكيل الروحي، هي من اختصاص وتأثير هذا الكاتب، والذي يدعمه الشكل الملحمي عند تولستوي، والمحفور في التضاريس الاجتماعية لدى بلزاك وأميل زولا ونجيب محفوظ، حيث الرواية العالمية، الدرامية، والملحمية   لتمثلها في واقعنا العربي وهنا تجسيد يكمن في السيرورة القومية الخاصة بنا.

• هل حقاً إن عصرنا هو عصر الرواية؟

ــ هو عصر الرواية بامتياز، لكون هذا النوع لفني بؤرة لكافة الأنواع الأدبية الفنية الأخرى، إن فنون المسرح والتلفزيون والسينما، صارت تعتمد عليه، وغدا هذا النوع مرناً وقادراً على استيعاب مختلف تجليات الوعي والمعاناة عبر أشكال ممتعة وتحليلية تكشف مختلف مصائر الأفراد هي طريقة مثيرة للتفكير الخاص والعام، والتمثل المجازي والتسييس المباشر الخ..

وللأسف فإن بروز هذا النوع لا يعني أن يتم إهمال الأنواع الأخرى، وخاصة الشعر، ولكن لكون الكثير من الشعر دخل النفق التجريب الشكلي، والانقطاع عن سيرورات الحياة، فإن الرواية حاولت أن تتصدى لما عجز الشعر عنه، أو لتخلي الشعر عن مهمته الإبداعية المتفجرة الكاشفة.

قبل رحيله، عبدالله خليفة: الثقافة الحقيقية لا تخاف من تحليل الحياة بمشرط حاد

الغموض الإبداعي عزل للشكل عن المضمون، وللكاتب عن المجتمع

حاوره – كمال الذيب:

      قضى الروائي والكاتب الصحفي البحريني المعروف عبدالله خليفة أكثر من 30 سنة يكتب في الصحافة الثقافية، وأكثر من 15 سنة مشرفا على الصفحات الثقافية، شاركته خلال الخمس سنوات الأولى في اصدار الملحق الثقافي في أخبار الخليج، محررا ومقدما للإصدارات الابداعية، البحرينية وشاركته أزمة هذه الصفحات وتقلباتها بين امزجة رؤساء التحرير، وكيف كان الجميع يضحي بالثقافة عند أول أزمة او ضائقة مالية تمس الصحيفة، لقد كانت الصفحات الثقافية جزءا من الظاهرة الثقافية، يعوزها كل شيء تقريبا، بالرغم من توافر الطاقات البشرية والإبداعية المتميزة. هذا النقص في الإمكانيات كان مرده بالدرجة الأولى إلى أن الكائن الثقافي منبوذ من كل الفئات والطبقات الاجتماعية.

هذا الموضوع كنت قد ناقشته مع القاص عبدالله خليفه قبل رحيله، عندما عقدت العزم على اجراء مسائلات مع عدد من الكتاب والمثقفين والفنانين البحرينيين المميزين، لتضمينها في إصدار حول الثقافة في البحرين، وكان عبدالله في مقدمة هؤلاء، إلا أن الاجل المحتوم وافاه قبل اصدار هذا الكتاب الذي ما يزال منذ اكثر من عام ونصف تحت الطبع، ولذلك عزمت على نشر جانب من هذه المحاورة حول أوضاع الصحافة الثقافية وتحولاتها واشكالاتها في البحرين، بما تسمح به المساحة المتاحة.

قلت لعبدالله: وكيف تقيم وضع الصفحات الثقافية وأنت أحد المشرفين عليها؟ وكيف انعكس الوضع الثقافي الراهن في تقديرك على مستوى الصفحات الثقافية؟

ــ الحديث عن الوضع الثقافي الراهن في البحرين والحالة الثقافية العامة وانعكاساتها على الصفحات الثقافية موضوع متشعب. إن علينا أولاً أن نقرأ الحالة الروحية في الثقافة، لقد كانت الحالة الثقافية في الستينات وبداية السبعينات صاخبة وقوية وحيّة، حيث كان توجه الأدب والثقافة نحو العمل الجريء، وكانت النصوص تصدر عن روح وثّابة شجاعة، لا تخاف من تحليل الحياة بمشرط حاد.

ورغم أولية التجربة للجيل الشاب حينذاك، إلا أن ذلك الجيل كان قوياً جريئاً، يهز الحياة، ولا يخاف من عرض المشكلات والنقد، وكان الكثيرون يكتبون، ويبدعون، وينتقدون أنفسهم، وكانت الصحافة الأدبية تنشر ما يكتبونه فوراً، وكان يحصل على صداه. كانت القصص والقصائد تُناقش وتحلل في جلسات أدبية شخصية، وكان القراء على صلة بهذا النتاج. أذكر كيف كانت ندوات عديدة لأسرة الأدباء والكتّاب تُقام في أندية المنامة والمحرق المتعددة، داخل قاعات صغيرة، وترى حشوداً من الناس في هذه الغرف والقاعات مستمتعين بالحوار والنقد.

وغالباً ما توضع الكتابات الجديدة على محك هذه اللقاءات، كانت قصصنا تُقرأ في ندوة، ويحدث حوار مفتوح لها، وأحياناً بدون أي إعداد مسبق، ولكن النقاش يفيض، والكاتب يحس أنه جزء من حياة، وجزء من بشر يقرأون، وليس حاله مثل الآن، يضاجع الأوراق فحسب التي لا تلد سوى الصمت. وكان رؤساء التحرير، من أمثال محمود المردي، وعلي سيار، وعبدالله المدني، أناساً مثقفين وأدباء، يتذوقون الكتابة الإبداعية، ولهم مشاركات فيها، وكانت تحدث حوارات مع الكتّاب من قبل رؤساء التحرير، هؤلاء الذين يناقشوننا في قصصنا، ويدعوننا للوضوح، وصياغة قصة أكثر تماسكاً، وعدم التركيز دائماً على السياسة.

لقد كانت أسرة الأدباء والكتّاب منفتحة، تعددية، ذات مناخ ديمقراطي، وليس ثمة أي قطب يذوب فيه كل الأقطاب الأخرى، أو شلة تستولي على النشر وترتيب الندوات، كنّا أشبه بالجوالين والكشافة، ننتقل من نادٍ إلى ناد، ومن أمسية إلى ندوة، ونتحاور بقسوة أحياناً، ونكتب بضراوة وكثرة على مختلف الجبهات والصفحات. لم يكن الهدف من الكتابة الحصول على نقود أو شهرة بإحداث الفعل الثقافي التنويري. وكانت الندوات العامة التي تحدث في قاعة الأندية مليئة بالجمهور المتعطش إلى المعرفة، حيث كان الكتاب والصحيفة والندوة هي وسائل الإعلام القوية. لكن كل هذا تغيّر اليوم، وجاء مناخ ثقافي مختلف، عبر حدوث التغيرات الاقتصادية الاجتماعية الكبيرة.

فالمدن صارت مليئة بالأجانب، وعزلت الأندية عن دورها الثقافي، وصارت محتكرة من قبل إدارات من أناس بعيدين عن الثقافة، ولذلك لا يقودها الأدباء والمفكرون، لقد عزلوها عن مناخها الفكري، وركزوا على الرياضة مما أدى إلى جعل الشباب بلا خلفية ثقافية. وأتذكر أن النادي الذي كان في منطقتنا، كان شعلة من النشاط الأدبي والفني، فيه فرقة مسرحية، وفرقة موسيقية، ومجلات حائطية، ومجلة مطبوعة، وكان يصنع العديد من الهواة في الثقافة، ويستضيف ندوات عديدة، ولكن عندما جاء أعداء الثقافة طردوا الفرق المسرحية والموسيقية، حتى أن أدوات الفرقة الموسيقية كانت تُرمى في الشارع، وهذا ما حدث في الكثير من مجالات الوعي، لقد بدأ مدٌّ رجعي معادٍ للثقافة.

وهكذا أصبحت قوة الثقافة الوطنية «مخترقة» على كافة الجبهات، لقد كان العدو يطلع من صفوفنا، فظهرت نغمة «الشكلانية» الواسعة، ودعت الكتّاب للتخلي عن «الكلمة من أجل الإنسان» وصار الغموض لغة تفجيرية تؤدي إلى عزل الشكل عن المضمون، والكاتب عن المجتمع، وتؤدي إلى الغرق في متاهات تجريدية ولغزية تُدمّر الأدب من الداخل.

ولقد فقدنا كتّاباً كثيرين بسبب هذه الطريقة، لأن مبادئ الوعي المضيء والوطني، واعتبار الكاتب قوة تغيير روحية في المجتمع، تضيع، ويتحول الكاتب إلى مهووس بذاته، وتشرخه أحلام جنون العظمة والتعملق الفارغ. ومن جانب آخر، فإن مشكلات الحياة الحادة المتفجرة مثل الصعوبة المادية تؤدي إلى فقدان البقية الباقية من الكتّاب.

ولهذا فإن الواقع الفكري يتهشم ويتقزم، وتروح وتذهب عن الكاتب الهام والجريء فلا تجده، لقد ندر مثل الجن، وكأن الحياة الثقافية التي كانت تندفع مثل القطار في السابق أصبحت مثل سيارة مثقوبة الإطارين، ومع ذلك فإن سائقها يحاول السير بين الرمال والحصى. ولا شك أنك تدرك اليوم الفروق الكبيرة بين الصفحات الثقافية خلال الفترة من 1965-1975 والصفحات الثقافية في الثمانينات، حين كان النشر صعباً، كانت القصص والقصائد تفيض بالمعاني العميقة، وترتبط بهموم الناس، هذه القصص والقصائد يصعب نشرها في الصفحات الثقافية الآن.

إن هذا هو الأمر المثير للغرابة والحزن، فلن تجد في جرائدنا اليوم أي قصص وقصائد ملفتة، وجريئة ومثيرة للقلق والغضب، ولهذا فإن المبتدئين يحصلون على فرصتهم في نشر محاولاتهم الأولى في صفحات القراء فقط. وإن الأوضاع العامة تنعكس بقوة على الحياة الثقافية، فليس هناك احترام للاستقلالية الإبداعية وأهمية مستويات الثقافة المستقلة في البنية الاجتماعية. كما أن أدوات الإعلام الجماهيرية مثل التلفزيون والصحافة هي التي تلعب دورها في غسل أدمغة الناس، إنه الغسيل الإعلامي اليومي الذي يطحن الإرادة والوعي الناقد، ويحولهما إلى مسايرات جزئية وانطباعية ومحدودة لما يجري، إن الناس يعيشون في بناء إعلامي زائف، كرّسه النشاط الإعلامي اليومي الكاذب. فمشكلات الناس الجوهرية يجري تغييبها إعلامياً من قبل الإعلاميين أنفسهم، وإحلال مشكلات أخرى جزئية ومحدودة مكانها.

لقد كانت الصفحات الثقافية أحد المتنفسات والرئات النظيفة للوعي والمجتمع، ولكن تم الإجهاز عليها، فما ينشر من كتابات وأعمال اليوم بائس إلى أقصى درجة. وحتى مساحة الكتابة الأدبية قلّت، في حين تمددت مساحات الشعر النبطي، والدعاية، وقضايا «النجوم» المنطفئة، والكتابات السهلة المسطحة التافهة المنافقة.

إن وسائل الإعلام الجماهيرية، خاصةً التلفزيون، تقود عملية غسيل الأدمغة، وتضع الناس في أحلام وردية، ومشكلات جزئية بسرعة وخفة، ويتم التوجه إلى تغريب المواطن، وتسطيح وعيه.

ولكن هناك جوانب إيجابية في هذه الثقافة، حيث أن الأقلام الجيدة منتشرة في الصحافة، ويوجد العديد من الكتّاب الذين يعالجون قضايا الحياة، والسياسة، والثقافة من منطلقات إيجابية.

إن سيطرة وسائل الإعلام الجماهيرية قد قادت إلى تهميش الأدب والجماعات الحديثة، وأبرزت القوى العتيقة والطائفية، فلم يعد للناس منابر وأصوات مدافعة عن مشاكلهم، فلجأوا إلى المنابر الدينية، واتسعت الظاهرة الدينية لهذه الأسباب بالدرجة الأولى، في حين لم تستطع القوى الحديثة، الليبرالية والديمقراطية أن تظهر من خلال التلفزيون، فقدراتنا على صياغة فن جماهيري سواءً كان مسرحياً أو درامياً ضاعت لأسباب كثيرة، مثل عدم جديّة المسرحيين في التطور، والبحث الفني، وضآلة الإمكانيات المادية، والرقابة التي جمّدت الفنون الجماهيرية البحرينية عموماً، ولهذا عندما صغنا بعض الأعمال الدرامية التلفزيونية كانت أشبه ب «الفضيحة» مثل: «أم هلال في القاهرة»، في حين نجحت الأعمال التي التزمت بالجدية والنص الأدبي المعقول، واعتمدت على طاقة الشباب الوفيرة، هكذا مثلاً تألقت الكتابة الجميلة مع الوعي التنويري الجاد مع المواهب الشبابية، مع تنوّع العطاءات والطاقات الإبداعية، ليكون العمل الفني الدرامي أفضل من عشرين كتاب تنويري، لماذا؟ لأن المسلسل الدرامي له حضوره الجماهيري الواسع، فكيف سيكون الأمر لو تضافرت طاقات الكتابة المتنوعة داخل هذا الجهاز التلفزيوني الخطير، وأتيحت الفرص لمختلف الأقلام والأجيال الفاعلة التنويرية؟ لقد كان مسلسل «العائلة» المصري أهم من ألف كتاب عربي، فلماذا لا يحدث تعاون خلاق لإنتاج أمثال هذا المسلسل في خليجنا، حسب قدراتنا، ومشاكلنا؟ إن ما تحتاجه هو الثقافة البحرينية الحديثة «الديمقراطية» هو أن تتاح لها الفرص في مختلف وسائل الإعلام الجماهيرية، وأن يتعلم الكتّاب استخدامها، وتطوير أعمالهم الإبداعية في مختلف الجهات.

قلت لعبدالله: الصفحات الثقافية تبدو مشوهة في إطار ما ينبغي أن نقوم به من دور في الساحة الثقافية، فهي منزوعة الوظيفة تعيش في حالة من الهلامية الرخوة بلا عظام، فما الحل من وجهة نظرك لتستقيم هذه الصفحات؟

ــ ما لم تصبح الثقافة ضرورة فلن تنمو لها عظام، ولن تتحول إلى مشروع. وهذا شأن كل الصفحات الثقافية فهذه الصفحات بلا رؤية وبلا استراتيجية. وإذا أريد للثقافة أن تكون مشروعاً، فإن الصفحات الثقافية يمكن أن تكون جزءاً من هذا المشروع، المطلوب هو أن تتحول الصفحات الثقافية إلى جزء من رؤية ثقافية وفكرية تخدم حركة التاريخ…

أما والثقافة مهمشة في واقعنا العربي، فستظل الصفحات الثقافية مجرد ورقة توت نغطي بها عوراتنا لنقول إننا نهتم بالثقافة. وتطوير الصفحات الثقافية يجب ان يتصل بتطوير الثقافة نفسها، وتطوير الثقافة يجب ان يرتبط بقانون الفعل الثقافي، لا بد من وجهة نظري أن تتحول الصفحات الثقافية إلى شريحة من الواقع الثقافي، يقودها ويكتبها وينشطها شعراء وقاصون ونقاد ومفكرون، ولا بد أن يكون في كل صحيفة قسم ثقافي ينخرط فيه عدد من المتحاورين والمثقفين والمبدعين والمفكرين.

أسئلة موجهة إلى الروائي والباحث عبدالله خليفة

حاوره: فهد حسين

أولاً : محور المدخل العام لفهم الرواية:

• من المتعارف عليه ، بل من البديهيات أن المبدع حين يبدع عملاً وينغمس في إنتاجه يسعى جاهداً إلى معرفة أبعاد هذا النوع الإبداعي . وأنت بوصفك روائياً، فما مفهومك إلى الرواية ؟

 ــ مفهومي للرواية بأنها جنس قصصي ملحمي ، بمعنى إنها بناء واسع وعميق، يقوم باستيعاب الكل الاجتماعي في لحظة تاريخية معينة مفصلية . وكلما توغلت الرواية في جنسها كلما غدت ملحمية ، أي قائمة على صراع كبير ، وهذا المعنى تجده لدى جورج لوكاش خاصة في كتابه (معنى الواقعية المعاصرة ) وأعتقد أن هذا المفهوم قريب إلى فهمي وتجربتي .

• الرواية نص مفتوح كأي نص إبداعي أو معرفي آخر ، فأين تضع المتلقي الذي يتلقى عملك الروائي حينما تشرع في كتابة الرواية ؟

ــ كلمة (النص المفتوح) غير مفهومة بالنسبة إلي ، فالأدب بطبيعة نصوصه أنها مفتوحة غير مغلقة ، ولكن في علم الأجناس الأدبية ، نحن نتجاوز مثل هذه التعريفات الأولية ، فالرواية جنسٌ قصصي له قوانينه التشكيلية الخاصة به ، فإذا دخلتْ الأجناسُ القصصية الأخرى الزميلة له كالحكاية والأمثولة واللغز والقصة القصيرة فيجب أن تخضع لامتداده وجريانه الواسع وأن تذوب في كيانه. وليس أن تحتفظ بكينونتها الخاصة المستقلة .

ولهذا فهو مفتوحٌ عبر مثلَ هذا البناء ، وحين يتوجه القارئُ إليه تكون تلك مسئوليته ، أي مسؤولية القراءة المتعددة الأبعاد . وبالنسبة لي فأنا كان لدي عدم اهتمام بالقارئ في بادئ التجربة ، حيث كانت حالة التجربة (الوجود في السجن ) لا تسمح بها ، ولكن بعد مرور عقد أو أكثر صار هناك وضع خاص داخلي للقارئ ، فهو لا يحدد التجربة ولكن يكون رفيقاً في رحلتها ، فله عين متوارية عليها ، والقارئ يعبر هنا عن الإنسان الذي تريد أن توصل إليه عملك، وتحاول التأثير فيه ما أمكن لوجهة نظرك وبنائك !

•  كل إنسان يحمل بين دفتي معرفته وثقافته البعد الأيديولوجي سواء أظهره أم أخفاه ، وأنت حينما تكتب الرواية فهل تنطلق من أطر أبستمولوجيـة أو أيديولوجية ، أو تكتب بحسب قراءتك إلى الواقع بعيداً عن هذا وذاك ؟ أي إذا كان الروائي محكوماً بأيدلوجيا معينة ، وتشكل هذه الأيديولوجيا إحدى روافده الفكرية التي يرتكز عليها ، فهل الروائي هنا يقدم بعض التنازلات الفنية من أجل تضمين عمله بعض أفكار الأيديولوجيا إلى المتلقي ؟

ــ يتحدد الأمر هنا بطبيعة الفكرة المهيمنة على الكاتب . أنا هنا لا أسميها إيديولوجية ، بقدر ما أسميها نظرة (أي يختلطُ فيها الوهمُ والعلمُ) . وهذه النظرة مسألة فكرية واجتماعية ونفسية متداخلة ومركبة الأبعاد ، فالعديد من الناس لديهم فكر ماركسي مثلاً لكن ما هي هذه الماركسية ؟ ومدى فهمه لها ؟

ولكن في الكتابة والكتابة الروائية خصوصاً ليس ثمة قالب أيديولوجي مسبق ، فالكتابة لتجربتك ستقودك إلى دروب تكسرُ القوالبَ ، فأي دعاية سوف تنقرض، وستجد أنك تكتب ما يحدث فعلاً ، وتصور الناس بما هم فيه حقيقةً ، ولكن من خلال المنظار التقدمي الذي تطالع به أنت الحياة ، فستجد إن الانكسارات ليست نهائية ، والقوى الأخلاقية والفكرية في الإنسان أقوى من المكاسب المادية . ولكن حين تبتعد عن ذلك ، وتشجع الهزائم ، واليأس ، فسوف تبتعد عن ملحمية الرواية التي تتطلب صراع المجموعات الواسع العميق وصدق العرض !

• تقول الدراسات السردية أن الرواية ولدت من رحم الملحمة ، وجاء القصة القصيرة بعد ولادة الرواية ، غير أن القصة في البحرين هي التي أنجبت الرواية ، وخصوصاً عند كتاب السبعينيات حتى وقتنا الحاضر ، فما الأسباب وراء هذه المعادلة المعكوسة.

ــ يجب أن نبتعد عن التعميمات الفنية الفكرية ، فالتاريخ الفني الإنساني واسع المجال ، فقد تكون الولاداتُ التاريخية في خلال القرون عبرَ القارات كما تفضلت بالقول ، ولكن بعد انتشار الرواية والقصة القصيرة كجنسين أدبيين متداخلين ومتكاملين عالميين ، لم يعد بالإمكان الحديث لدى الشعوب الأخرى التي جاءت بعد التجربة الأوربية ، عن هذا التوالد السابق والميكانيكي .

ولهذا فإن نشأة القصة أو الرواية بتقاطعاتها وتداخلاتها لم تعد تمثل تناقضاً ، أو أنه من اللازم والحتمي أن تقوم بمماثلة التجربة الأوربية ، فغدت النشأة هنا مرتبطة بتجربة الشعب ، أو بتجربة أدبائه ومدى قوة ظروفهم الطباعية والثقافية في العالم المعاصر التحديثي المفتوح ، فعدم وجود جرائد ودور نشر محلية ، جعل جنس الشعر هو المسيطر ، كمجتمع شفاهي ، ومع تجربة الكُتاب  وتطورها ، بدأ الجنسُ الصغير في الظهور .

في حين أن التجربة العربية ومع وجود صحف  ومجلات في القرن التاسع عشر ، ورغبة الناشرين في جذب القراء اهتموا بالرواية المسلسلة وهكذا بدأت الرواية العربية !

ثانياً : محور تقنيات العمل الروائي

• عندما تشكل المكان فهل تبني خريطة مكانية للشخوص ، وحركتها ، أو تترك الشخصية تحدد مسارها البنائي ؟ بمعنى هل تتدخـل بوصفك كاتباً في بنـاء الشخصية بعد رسمها في أثناء نمو الحدث ؟

ــ تظهر الشخصيةُ والحدث والمكان والزمان في تشكيلة شبه واحدة ، فالعناصر الذاتية (شخوص + أحداث) مترابطة والعناصر الموضوعية (المكان + الزمان + البنية الموضوعية الاجتماعية) .

أن الشخصية لا تظهر لوحدها في فراغ ، فلا بد أن تكون معها مشكلتها ، أو قضيتها ، وهكذا تبدأ في الظهور والتخلق ، فإذا كانت مثل شخصية الربان في رواية (اللآلئ) ، كشخصية محورية مهيمنة ، فهذه الشخصية تظهر في البحر ، بطبيعة المسألة المحورية داخل العمل ، كرجل عنيد وأناني واستغلالي وتحديثي ومغامر ، له نظرة خاصة في القفال (الرجوع للساحل) وهذا ما يسبب كارثة السفينة ، وهنا كما تلاحظ فإن الشخصية والحدث والمكان والزمان والبنية الموضوعية: (علاقات الطبقات وصراعها) ، ستكون مترابطة أشد الترابط ، ولكن يأتي نمو العمل لكي يوسع ويعمق هذه العناصر حسب نظرة الكاتب وكيفية تطويره للصراع . فالسفينة تقودها العاصفة للبر ، والجزيرة البرية هي مكان خامل يتيح للشخصيات الحضور المسرحي والدرامي الكاشف لها .

هذه العمليةُ سوف تطورُ الشخصيات وتنميها داخلَ بوتقة الصراع ، وإذا فرضتَ تصوراً أولياً مسيطراً فإنه يضعف نمو الشخصيات ، فشخصية الربان كانت في البداية شخصية تقليدية لكنها أصبحت غير تقليدية فهو ربان ذو طبيعة شعرية وهذا كسبهُ من نمو العملية الروائية .

•  للمكان فعل رئيس لرسم الشخصيات ، ونمو الأحداث المتنوعة والمختلفة ، فهل يعني المكان الذي تأخذه له علاقة اتصالية بالهوية والانتماء والتفاعل الثقافي والإنساني ؟

ــ  كما قلتُ سابقاً وأضيفُ هنا ، بأن المكان والزمان هما شكلان لوجود المادة، وفي الرواية هما شكلان لوجود (المادة الاجتماعية) ، باعتبارها هي الأساسُ الموضوعي لتكون الأحداث والشخوص .

فالشاطئ في زمن الغوص ليس هو نفس الشاطئ في زمن المدينة التجارية الحديثة ، والقرية في زمن الغوص غيرها في زمن التحديث . الشاطئ في زمن الغوص له طابعه البنائي الخاص: (أكواخ ، مزابل ، ألسنة حجرية كموانئ الخ ..) ، ولهذا فإن الزمان يصبحُ مختلفاً ، فساعة البحار بطيئة طويلة، وزمنه راكد ، في حين أن زمن المدينة التجارية سريع ، والساعةُ بيوم من حياة البحار . ولهذا فإن الشخوص يتأثرون بهذا المناخ الموضوعي . وحركة القارب الزمنية هي غيرها حركته في زمن الآلة فالأشياء يصيرُ لها طبيعة خاصة الخ ..

ومن هنا يأخذُ المكانُ دورَهُ الكبير في وضع الأساس للأحداث والشخوص ، فالأكواخ تضع علامات مختلفة عن غيرها ، وحين تحترقُ كما في (أغنية الماء والنار)  تكوّنُ بيئةً جديدة لروايات أخرى (الضباب ، الأقلف الخ..) وتطورات المكان هي تحول الأبنية وطبيعة الشواطئ ، وبناء الحارات ، هذه كلها تخلقُ أجواءً جديدة: مؤثرات ثقافية مختلفة ، أبطالاً من نوع مختلف ، حركة صراع سريعة  الخ ..

تغير المكان مقدمة لتغيرات فكرية ثقافية هائلة ، وفي الزمن الراهن ففي بناية واحدة تجد عدة قوميات وأديان وتداخلات وصراعات .

• حين تشكل المكان وتخطط لأزمنة الأحداث أين تقف أنت من هذا العمل ؟ هل خلف العمل تراقب أحداثه ونموها ؟ أو تتمركز فيه ؟ ولماذا ؟

ــ الفكرة الأساسية التي ظهرت تكونُ جزءً من نفسك ونظرتك وتجربتك ، وبالتالي فإنها تتطور بك ، ولكنك لا بد أن تجعلها تتشبع بغيرك ، بالحياة ، بالآخرين . وأن المؤلف ليس مراقباً بل مشاركاً ، بل صانعاً ولكنه ليس صنعاً آلياً ، فهو يشتغل من وراء الستار ، ولهذا أنت لا تتمركز فيه كدكتاتور ، بل تجعله ذا قوانين مستقلة عنك ، وينمو حسب مادته ، أي حسبَ ما أعطيتَ هذه المخلوقات من حرية  ومن وجود وتابعت تطوراتها ، وفتحت لها هذه الأبواب، أي كديمقراطي ..

• ما العلاقة التي تربط الكاتب بالشخصية الروائية ؟

ــ  إنها علاقة حب واحتفاء بهذه المخلوقات التي بدأت تتشكل ، وحين تكتمل تنفصل عنك ، وتغدو لها حياة مختلفة لدي القراء والكتاب والنقاد . وكلما كبرت سعدت أنت بنموها وانتشارها .

• أيهما أجدى في العمل الروائي أن يكون الكاتب هو السارد نفسه أم يكون واحداً من داخل العمل ؟ أم من الأفضل تعدد السرّاد ومستوياتهم ؟

ــ البناء الفني الموضوعي والتجربة سيفرضان طبيعة السرد ، فالسرد يمثل الحميمية الأسلوبية التي تتيحُ تطور العمل ، فكلما كان السردُ أكثر حرارةً وقوة كلما كان نمو الرواية أفضل .

    ولهذا هناك سردٌ يدمرُ الروايةَ وسرد آخر يشعلها . ولا يهم هنا كثرة أو تعدد السراد أو الساردين ، و(القالب) المنتشر هو السرد بضمير الغائب ، أي استخدام ضمير ؛ (هو) لأنه سرد يبدو حيادياً ، إخبارياً موضوعياً ، بعكس حين تقول (أنا) . أي حين تكتب بضمير المتكلم ، وفي السيرة الذاتية لا يجوز السرد إلا بضمير المتكلم . رغم قيام بعضهم بتنويع حتى هذا النوع .

أو السرد بضمير المخاطب فهو أسوأ في رأيي .

أما تنويع السرد وضمائره فلا يخرج عن هذا الطابع  الأساسي .

• في أي عمل سردي يبرز الزمان في صور متعدد ، فهناك الزمن الطولي والزمن العرض ، وهناك الزمن الأسطوري ، والزمن التاريخي ، وغيرها من الأزمنة التي تعطي العمل بعداً فنياً ، ولكن أي الأزمنـة منتشرة في الرواية البحرينية ؟ ورأيك في تعدد الأزمنة في العمل نفسه ؟

ــ كما قلتُ لك فإن الزمان هو مظهر أو شكل لتجلي المادة ، فسوف يتحكم كيفية عرض المادة الفنية الاجتماعية ، فإذا كانت طبيعة الصراع ممتدة بشكل ليس فيه عودة للماضي ، فسوف يتغلب طابع السرد الراهن والدراما المباشرة والحوارات بين الشخوص ، أما إذا كان الزمن السردي يجمع بين الماضي والحاضر فإن الزمن فيه عودة للوراء (فلاش باك) ، من أجل عرض الشخوص في سيرورتها التاريخية ، وغالباً ما يحدث في الرواية ذلك ، فكل زمن هو زمن تاريخي ، بمعنى أنه يجري داخل الحياة ، وهو كالزمن الموضوعي ، بما أن طابع المادة هو (الحركة) والجريان إلى الأمام وعدم التوقف ، فزمن الرواية الأساسي هو زمن الحركة إلى الأمام ، والعودة للخلف هي للمزيد من التقدم للإمام ، بالتالي فإن الحركة الاسترجاعية تستهدفُ المزيد من الكشف الروائي للشخوص وللأحداث وللمكان .

ويختلف الروائيون في طبيعة الاسترجاع وأحجام العلاقة بين الماضي والحاضر والأهداف الفنية لهذه العملية .

• كيف يتشكل المكان والزمان في عملك الروائي ؟

ــ كما قلتُ آنفاً فإن المكان والزمان يخضعان للمادة ، فأنت حين تتصور (أحمد ناصر) في رواية (الضباب) ، فسوف يخضعُ عرضُ المكان والزمان لطبيعةِ الأحداث ولطبيعة الشخصية المحورية هذه .

فهو نجده في بداية الرواية في (حفرة) مغطى بالأعشاب وورق الشجر ويدخنُ الحشيشَ ، إنه فاقد (للمكان: البيت الآمن ، الزوجة ، الأبناء ..) وفاقد للزمان (الذاكرة ، القدرة على العيش في زمنه السابق واستعادته ..) ، ويقوم الحدثُ الروائي عبر اتهامه بالاغتصاب للفتاة التي أنقذها بتحريك المكان حيث يوضع في السجن ، وتحريك الزمان عبر استعادته الصعبة الطويلة لذاكرته ، وهي أمور كلها تتنامى حين يقرر بأنه لم يكن مغتصباً ، وأنه إنسان أخلاقي . . هنا تتشكل  وتنمو عملية السرد بهذا الطريق .

وكل رواية تخضعُ لظروفها هذه ، وتجعل المفردات الموضوعية من زمان ومكان وأجواء وحركة قصصية تابعة لها .

• ما أجدى التقنيات السردية حتى يستطيع الروائي إيصال فكرته ؟

ــ تقنية العرض الموضوعي تغدو أفضل التقنيات في تشكيل وعرض المادة ، وهي تعتمدُ على ما يُسمى (المشهدية) أي أن تكون الشخصيات والحدث و المكان والزمان مجسدة أمام عين القارئ في مشاهد ، وبالتالي يتحولُ القارئُ إلى مشارك ومتابع ومستمتع بهذه العملية التي تجري أمامه .

وأقوى البُنى المشهدية لا تستطيع أن تتخلى عن تضمين بنى مشهدية أخرى ، لكن قوة الرواية تكمن في تصعيد تلك البنية المشهدية المحورية الأولى وجعلها مسار الرواية ، كرواية (الجريمة والعقاب) ، حيث يغدو مشهد البطل راسكو لنيكوف وهو يخرج من غرفته في بداية الرواية هو المتواصل .

• للراوي مهام كثيرة ومتعددة ، وقد ذكر فريدمان : أن هناك المعرفة المطلقة للراوي ، والمعرفة المحايدة لـه ، والأنا الشاهـد ، والأنا المشارك ، والمعرفة الأحادية والنمط الدرامي ، ولكن أين يكمن الراوي عندك وما مميزاته ؟ أي هـل يأخذ ميزة من هذه الميزات ؟ وكيـف يوظفها في الرواية ؟

ــ المعرفة النسبية للراوي ، فمهما كانت معرفة المؤلف بشخوصه وأحداثه فهو  لا يصطنعها اصطناعاً ، فهو يتعرف على شخصياته وتنمو عبر مشهدية العرض ، ولا يوجد راوٍ لا يلم إلماماً كبيراً بذلك ، لكنه يتحول إلى شاهد على تطوراتها ، حيث هي تأخذ من مواقعها الاجتماعية والنفسية الموضوعية ، وتقوم الوضعيةُ الأساسيةُ في كل الرواية البشرية (والمسرحية كذلك) على (وجود بطل إشكالي في مجتمع منحط أو مجتمع سلبي) حسب تعريف غولدمان الشهير والقاطع تاريخياً ، فهذا البطل الإشكالي هو الذي يحرك فاعلية الكشف والصراع مع أو ضد المجتمع السلبي ، ولا يفعل الروائيون سوى ترك هذا البطل يصارع أو يكشف أو يتكشف ، وبهذا فإنهم غير محايدين في العرض ، بل يستهدفون غايات تتبع مستوى تطورهم الفني ورؤاهم الفكرية .

• هناك صيغ للخطاب الروائي ، حيث المستوى الأول ويكمن في مراقبة الراوي ، والمستوى الثاني الذي يأخذ جزءاً من المراقبة ، والمستوى الثالث الذي يخلو من المراقبة ، ومن هنا نرغب في معرفة نوع الخطاب الروائي الذي تقدمه للمتلقي ؟

ــ لا يوجد شيء أسمه يخلو من المراقبة ، فالراوي هو المؤلف مستتراً وراء الرواة ، فمهما فعل الكاتب لا يستطيع أن يفلت من صيغة الراوي – المؤلف ، ولكن هناك مسافة موضوعية بينه وبين الشخوص ، مثلما قلنا سابقاً ، ولكن الموضوع هنا اتخذ بدلاً من الشخوص كلمات مثل الراوي ، وقد يتطابق الراوي مع المؤلف ، وقد يقدم المؤلف الراوي كشكل  مناور للعملية الفنية، فهو يعرضه ليكشفه أو ينقده ، أو يجعله كاميرا له ليكشف أشياء معينة .

وعملية الراوي التي قدمتها خضعت للتجربة فأنت ترى في (اللآلئ) أسلوب الروي المتعدد الضمائر ، لكنه كله يتبع البطل المحوري (الربان السابق الذكر) وهنا تغدو عملية الروي صعبة ، ثم فيما بعد في التجارب الأخرى تغدو عملية الروي محددة ومتنامية في ضمير الغائب أساساً ، وإتاحة فرصة لوجهات نظر أخرى تتكلم من خلال أصواتها .

• من صيغ الخطاب الروائي : التقرير ، المذكرات ، الرسائل ، اليوميات وغيرها التي تستخدم في الرواية ، أيهما تفضل استخدامه ؟ ولِمَ ؟ أم أنك تبتعد عن هذه الخطابات وتنشئ لعمل خطاباً خاصاً ، وكيف يتم ذلك ؟

ــ أصبحت هذه الوسائل حيلاً قديمة ، ففي رواية القرن التاسع عشر الأوربية كثرت روايات الرسائل والمذكرات واليوميات ، وكلها تحمل نفس الخصائص الموضوعية ، لكن رواية القرن العشرين اعتمدت كثيراً على خلق البنى المشهدية الموضوعية ، تحريراً للشخوص من هيمنة صوت المؤلف المسيطر.

أما اللجؤ للتقارير والدراسات وتضمينها للعمل الروائي فهو يعني عجز الأسلوب الروائي عن تطوير شخصياته وتحويلها إلى شخصيات درامية ، فتغدو شخصيات تسجيلية ، تاريخية حقيقية ، مثل (مدن الملح) فهي عن شخصيات حقيقية ، واعتمد المؤلف على التقارير والكتب والمصادر ، بحيث ارتهن إلى تسجيلية واسعة ، فنجد شخصيات الأمراء والموظفين طاغية بينما شخصيات الناس العاديين مفقودة .

أنا افضل الفصل بين الجانبين : التوثيقي والتعبيري ، فجانب الدراسة له بناؤه الخاص ، وجانب الرواية له بناؤه الخاص ، أما الخلط بين الجانبين فيضعف الجانبين ، فتكون أمامك دراسة ناقصة، ورواية غير مكتملة .

• حين يقدم الروائي على كتابة الرواية يضع في اعتباره القارئ الضمني أو القارئ المضمر ، فهل تضع في حسابك هذا القارئ ؟ هل هو قارئ مثقف واع ؟ هل هو قارئ تمليه عليك مضامين الرواية ؟ هل هو قارئ مراقب عليك ؟ إذن كيف ترسمه حين تشرع في الكتابة ؟

ــ كما قلتُ سابقاً فإن صعودَ القارئ العام في نفس المؤلف هو عملية تاريخية ، أي له علاقة بمشروعه ووسطه ، فحين يكتبُ بأسلوب المونولوج الحر الكامل والتداعيات المتداخلة ، فإنه لن يجد القارئ المتابع ، خاصة في الحياة العربية ، وقد قامت الرواية العالمية بذلك حين ظهر فرويد بنظريته عن اللاوعي في أوائل القرن الماضي ، فراحت نماذجٌ من الرواية الأوربية تطبق الغوص في اللاوعي عبر ذات التشظي .

لكن أغلب الروايات المعاصرة تقوم على أسلوب يغوص في اللاوعي ولكن مع عرضه بشكل موضوعي ، وهذا يعني الاهتمام بالقارئ الوسطي ، القارئ المثقف ، الذي سيكونُ شاهداً ، ولعب انتصارُ الضمير الغائب والبُنى المشهدية والواقعية في خلق تيار عالمي بهذا الخصوص سواء قرأت رواية يابانية أو أمريكة أو بحرينية !

• يقال هناك زمن الحدث في الواقع المعيش ، وزمن الحدث داخل العمل الروائي ، وزمن الكتابة الروائية ، وزمن القراءة . فأين يكمن دورك في كل هذه الأزمنة الأربعة ؟

ــ هذه الأزمنة الأربعة تعكسُ عملياتُ تطور العمل الروائي من كونه أحداثاً حقيقية وقعت في الواقع في زمن سابق ، وبين تحول هذه العملياتِ التاريخية السابقة إلى مشروع روائي يبدأ الروائي في خلقه عبر استعادة الأحداث السابقة (أو اللاحقة في الرواية العلمية) ، وهو حر في كيفية عرض زمنية الماضي ، فيمكنه أن يربطها بالحاضر أو يجمدها داخل زمنها ، وحين تطبعُ الروايةُ فإن لها زمنية القراءة الخاص بها ، سواء قرأها قارئ واحد أو الملايين ، ولكن هذه القراءات تجري عبر الزمن وعبر إدراك الناس أن الرواية تحوي شيئاً مهماً خاصاً بهم .

ثالثاً : محور اللغة :

• يقول باختين أحد منظري الرواية العالمية : “إذا لم يعرف الروائي كيف يرتقي باللغة إلى مستوى الوعي ، ولم يستمع إلى الثنائية الصوتية العفوية ، وإلى الحوار الداخلي للكلمة ، فإنه لن يفهم ولن يحقق الإمكانات الحقيقية للرواية” .

فماذا يعني باختين بقوله : الارتقاء باللغة الروائية إلى مستوى الوعي ؟

وماذا يقصد بالثنائية الصوتية ؟

وماذا يرمي بالحوار الداخلي للكلمة ؟

ــ يعتمد باختين في نظريته للرواية على مسألة تعددية الأصوات ، أي أن تكون الأصوات الروائية معبرة عن تعددية فكرية وشخصية حقيقية ، وهو يقول ذلك في زمن سيطرة (الستالينية) ، ولهذا فإن كافة تعبيراته ومصطلحاته تتوجه إلى هذه القضية المحورية لديه كما أظن ، فالوعي لديه هو أصوات ، وهو يعتقد بأن دستويفسكي متعدد الأصوات ، حيث يجعلُ اللغةَ الروائية تعكسُ رؤى الأبطال ، بشكل دقيق . فلا بد هنا من أن ترتقي اللغة الروائية إلى مستوى الوعي سواء على مستوى وعي المؤلف أو على مستوى وعي الشخوص أو على مستوى تعدد الأصوات في اللغة : لغة دارجة ، لغة فصيحة ، فحين يعبر عامل عامي بلغة شعرية تغدو هذه إشكالية فنية . فلا بد أن تكون ثمة خطابات في وعي الرواة والشخوص : خطاب فلسفي لدى مثقف ، أرجوزة لدى فلاح ، حلم لدى طفل الخ ..

• يحاول الشاعر أن يبتعد عن المفردة بدلالتها المعجمية كلما أمكن ذلك ، وهذا قد يختلف عما يحاوله الروائي ، فهل الروائي يتأمل في المفردة معجمياً ودلالياً ؟ وهل يسعى لأن يعطي هذه المفردة دلالة أخرى ؟ وكيف يتم هذا ؟

ــ للكلمة وجود داخل السياق الخاص ، وهذا يعتمد كيف تظهر هذه الكلمةُ في السياق الروائي ، داخل السرد ، أم داخل الحوار ، أم في المونولوج الخ .. هناك أناس يجلبون مفردات من القواميس مباشرة ويضعونها في الرواية على لسان الأبطال أو في السرد ، وهي كلمات ثقيلة ، (كما في رواية الفارس الغريب..) ، لكن الكلمات في الرواية تعتمد على النمو الطبيعي العفوي في اللغة اكثر منها الانتزاع القاموسي ، ولهذا تغدو الكلمة القاموسية نابية هنا ، وكلما كانت اللكمة مصطلحية وقاموسية ونظرية وأيديولوجية كلما أثقلت الرواية !

• حينما تكتب رواية لابد من تفكير في لغتها المتداولة بين الشخوص ، فأية لغة تفضل التعامل بها في عملك الروائي ؟ وهل تفرق في استخدام اللغة حين ترسم الشخصية ؟ أي أيهما يفرض اللغة أنت بوصفك روائياً أم الشخصية بوصفها عنصراً من عناصر العمل ؟

ــ كلما كانت اللغة عفوية وطبيعية وجميلة ومعبرة عن مستويات الشخوص كان ذلك أفضل ، ولهذا فإن السردَ بلسانِ المثقف حين ينزل إلى تصوير حوارات شعبية يجب أن يتخلى عن التقعيد اللغوي والصرامة الأسلوبية للمثقفين ، ويحوي تلوينات العامة ، وحين يذهب للمثقفين الإيديولوجيين فلا بد أن يعكس طرقهم في الحوار الخ..

• في أي عمل إبداعي تبرز الضمائر : ضمير الغائب ، ضمير المخاطب ، ضمير المتكلم ، فأي الضمائر تتعامل في السرد والوصف والحوار ؟

ــ هذه السؤال أجبنا عليه سابقاً .

• في الخطاب الروائي هنـاك تباين بين لغة الوصف ولغة الحوار ولغـة السرد، فإلى إي حد وفق الروائي البحريني في هذه المعرفة المتباينة ؟

ــ يعتمد العمل الروائي هنا على الكل ، أي على بناء الرواية ، فتجد رواية  لفريد رمضان تركز على المقاطع المشهدية الكبرى ، حيث تتفتت الشخصيات والأحداث في وحدات سردية متقطعة ، أي في راويته عن المقبرة (راجع عدد كلمات 21 الخاص بالرواية البحرينية ..) ، ويلعب السردُ الثيمة الأساسية ، أحياناً هو مسقطٌ  كما في بداية الرواية أو هو (عفوي وطبيعي) كما في بقية النص .

أو في رواية جمال الخياط حيث لم تلعب أي من هذه الوحدات دوراً مركزياً طاغياً بحيث تغدو سمة معروفة له.

ولكي تلعب هذه السمات أدوارها ينبغي أن نعرف ما إذا كان الروائي غاص في فضح وكشف وتعرية المجتمع !

• في العمل الروائي يتعامل الروائي بلغة مباشرة ، ولغة غير مباشرة ، فمتى يقبل الروائي اللغة المباشرة ، ومتى يرفضها ؟

ــ حين يكون التعبير العفوي عن الشخوص ، وحين تجري الحوارات وعمليات التصوير الوصفية للأشياء ، ولكن اللغة المباشرة في التعبير عن أهداف الشخصيات وحركية السرد وغاياته تكون مرفوضة .

رابعاً : محور المرأة :

• قلما تجد رواية تخلو من شخصية المرأة ، ولكن تختلف وظيفتها من عمل لآخر بحسب ما يرسمه الكاتب ، فهل حضورها في عملك حضور وظيفي تقتضيه تقنيات السرد أم أنه حضور تكويني ضروري لخلق البناء العام للرواية؟

ــ كما أن تكوينات الرواية تخضع لطبيعة المؤلف وإستراتيجيته كذلك فإن حضور الشخصيات وأعدادها وجنسها يخضع لهذه العملية ، والعملية لا تعود لطبيعة الحرمان الجنسي أو الشبع أو للموقف من المرأة. بل تخضع للرؤية العامة للمؤلف .

في رواية (اللآلئ) هناك الحضور الكثيف للرجال بطبيعة المهنة البحرية ، مثلما نحن كسجناء رجال ، لكن حضور المرأة حضور ورائي ، أي حضور من وراء الستار ، حضور في الذكرى والحلم بجسد المرأة .

لكن في رواية (امرأة) تفرض المرأة حضورها الطاغي لطبيعة الحدث في موت الصبي العائد لهذه المرأة ، أي أن تكون شخصية الأم هي الطاغية ، وبما أن المرأة الأخرى هي المتسببة في موت الصبي فإن الرواية هي صراع بين امرأتين وتجد بعد هذا تضادات الرواية :

❖ المرأة الولاّدة / الأم / الحقول / النضال / النخلة / الشعر / الزهد / الجمال / الثورة

❖ المرأة  القتل / المتعالية / العقم / التملك / الجدب للأرض / اللهو / التسلط .

• يقال أن جسد المرأة ليس رخيصاً ولا شريراً ولا مغرياً فسيولوجياً ، ولكن احتياجات الثقافة الذكورية هي التي أوجدت هذا الإغراء ، بحيث وضعت جسد المرأة طيّعاً مسالماً ضعيفاً . فهل توافق على هذا القول ، وكيف تجسد المرأة في عملك ؟

ــ في الرواية السابقة الذكر المرأة الضعيفة تقود الرجال وتشكل عاصفةً في القرية النائمة ، مصعدة معركة النخيل الميتة ، وهذا لا يعني فقدانها للأنوثة والحب والولادة والليونة الجسدية . كذلك فإن موقفها يعود لعلاقتها بزوجها المنتمي السابق والمنهار حالياً ، ولهذا تشكل نفياً لكل السلبيات في القرية الميتة.

هناك عشرات النساء في رواياتي وكل منهن له حكاية وطبيعة ، وكل هذا يعتمد على سياق هؤلاء النسوة : بنات شيوخ ، مغنيات ، مومسات ، ربات بيوت خاضعات ، صديقات محبات لأزواجهن ، رموز للحب أو للفقد أو للأمومة الضائعة الخ ..

أو مشاركات في الأحداث ، أو سلبيات ، عرضيات ، أو يهيمن على الحياة ، رموز كبرى للأمومة الخ ..

• في الرواية بشكل عام أدوار متعددة للمرأة ، فهناك المرأة الأم / المناضلة / الفتاة المتحررة الداعية للتغيير السياسي أو الاجتماعي / المرأة المومس / المرأة الغنية / الفقيرة ….. وغيرها من هذه الصور . فما هي علامات شخصية المرأة التي تحب أن تكون موجودة في أعمالك ؟

ــ لا توجد صورة مطلوبة سلفاً بل هي تتشكل ضمن معطيات المادة الفنية ، فقد تظهر المرأة كحاجة أو كهدف مراد تشكيله اجتماعياً وكنموذج مرغوب إيجاده، لكن العملية تخضع للفحص الموضوعي في الحياة.

وكيف يرى المؤلف – الذكر أمه وأخته وحبيبته ومدى ديمقراطيته معهن أو مدى تسلطه عليهن !

• هناك فرق في المصطلح حين نقول ونقصد المرأة ، الأنوثة التي تقابل الذكورة ، والنساء التي تقابل الرجال . فمتى تتعامل مع شخصية المرأة بوصفها أنثى أي النظر إلى كونهـا عنصراً مثيـراً للجنس والرغبـات الجنسية ، ومتى تتعامل معها بوصفها امرأة ؟

ــ هذه خصائص متعددة للمرأة ، وفي العمل الروائي يخضع ذلك لطبيعة الرجال وتطورهم الجنسي والفكري والاجتماعي ، فإذا كان الشخص مستبداً ذكورياً لن يرى المرأة إلا كجسد وحضن لإنتاج الأولاد .

أنا كمؤلف مختلف عن شخصياتي فأنا لا أسقط عليها رغباتي .

• في الرواية قد يظهر الحب أو الكره أو التعاطف أو غير هذا وذاك بين الرجل والمرأة ، فما العلاقـة التي تحاول أن تبنيها في عملك بينهما ، ووفـق أي المعايير ؟ هل هناك معاييـر اجتماعية أو ثقافية أو سياسيـة أو أيديولوجية أو ماذا ؟

ــ حسب العلاقة بينهما داخل الزمان والمكان والظروف وفي أجواء الرغبات والوعي .  لا شك أن هناك رغبة كما قلت لنمذجة وتصعيد نموذج إنساني ، لكن ذلك مرتبط بالموضوعية وبالظروف والمعايير هي معايير الحب والصداقة والتكافؤ والنضال .

• مهما حاول الرجل الوقوف بجانب المرأة ، ويسعى إلى تحررها ، يظل الهاجس أنها في مأساة وحرمان اجتماعي وعاطفي . كيف استطاع الروائي البحريني مناقشة هذه القضية ؟

ــ لقد ناقشتها سابقاً و أضيف هنا بأنه وهو يناضل لتغيير وضع الفقراء والعاملين فإنه لا بد أن ينظر للمرأة بشكل خاص فهي جزء من القوى المنتجة المحرومة وسيئة الظروف .

خامساً : محور المحلية والتراث

• عادة ينطلق الكاتب في أعماله الإبداعية من معاناة محلية أو من خلال ظروف معينة يحاول سبر أغوارها ، ولكن عن طريق المحلية . فهل الأعمال الروائية البحرينية تعالج قضايانا المحلية الماضية والراهنة ؟ وهل يطرح ما يستشرفه من رؤية تجاه المحلية في العمل والواقع ؟

ــ بالتأكيد ، فإن الظروف المحلية كلها التي وردت في حوارنا السابق كلها تنطلق من الوضع البحريني – الخليجي – العربي – الإسلامي – الإنساني ، وكلما حفر الكاتب في المحلية يتكشف له العمق الإنساني المتواري تحت التراب والمدافن وفي الحياة اليومية : فمن البحرين نجد التاريخ الإسلامي وبالتالي قضايا الدين والتراث ، فكيف يلعب الدين دوراً أساسياً في تشكل الوعي ولماذا ؟ وهذه الأسئلة نجدها عند الأوربي والأفريقي الخ .. في قصة بسيطة عن (الأصنام) التي تكتشف في أرض باربار يمكنك أن تعبر عن الصراع بين الغرب والشرق ، وبين الإسلام كمفهوم تقليدي والإسلام كمفهوم إنساني (راجع هنا قصة الأصنام ، ص 17 من مجموعة (دهشة الساحر) ، هذه (الأصنام) سوف تثير شهوة الخارج على القانون الخارجي المعاصر ، والباحث الأوربي المسالم كما في قصة أخرى.. (راجع (قصة الرمل والحجر) من مجموعة (سهرة) . ص: 85 .

المحلية – العالمية هي متعلقة بالتحليل وعمقه ومدى حفره في المادة المعرفية و التاريخية .

• للعمل الروائي مميزات في ضوء المحلية ، فما مميزات الرواية البحرينية وهي تستقي من منبع المحلية ؟

ــ إنها تستقي تاريخه وتاريخه هي جذوره وتحولات بشره التي تفهم في ضوء وعي عالمي ديمقراطي تحديثي ، فترتبط بالعروبة والإسلام والإنسانية الخ ..

حين تحفر في الوضع والتقاليد والنماذج والثقافة تشكل محلاً قديماً – جديداً ، إنها تساهم بزحزحة نماذج وقوالب فكر وأشكال ثقافة متيبسة ، وبهذا تلبس أزياءها الوطنية ، ومميزاتها هي مميزات بلدها ومنطقتها ، ولكن عليها أن تتسع كماً وتتوغل كيفاً ، فلا تكفي بضع روايات لتشكل مساراً !

• بما أن المحلية عنصراً مهماً (؟) في الكثير من أعمال الروائيين البحرينيين، فكيف يتشكل خصائص المكان وملامح الشخصية الآتية من المحلية التي تغترف منها ؟

ــ الظروف الموضوعية من بحر وبر وزراعة وتاريخ خاص وبلد بسمات معينة وهو صغير المساحة ومكثف الروح وبه صراعات سياسية واجتماعية مستمرة عبر العصور ، تخلق كلها سمات خاصة ، وحتى الآن فهذه {المحلية} في حالة سيولة وتشكل ، فتجد ملامح الانفتاح بسبب الطابع البحري والتجاري وليس البدوي ، وتجد حضور المرأة وتجد العمل اليدوي بخلاف البداوة أو النفطية البذخية ، وتجد السمات الإنسانية من مقاومة وانهيار واستغلال ومشاركة وتيارات حديثة الخ  ..

هذه كلها انعكست في الرواية .

• من خلال المتابعة للمنتج الروائي البحريني هناك الكثير من القضايا التي تكاد تتشابه في بعض الأعمال وتتكرر . فأين هي القضايا المحلية التي انفردت بها دون غيرك ؟ وأيها تكررت ؟

ــ انفردتُ بسبر أغوار المجتمع بتاريخه المعاصر حتى اللحظات الزمنية الراهنة أي عبر متابعة شخصية متنوعة ، تشكلت هنا في الرواية .

وتشابه القضايا ليس مهماً ، فقد عالجت القصص السابقة موضوع الغوص ، وتجد لدى فؤاد عبيد كتاباً (قصصياً) عن الغوص ولكن عن أدواتها ولا علاقة له بالقص .

القضية الأساسية كيف تصنع من الموضوع روايةً ، وهنا زوايا الرؤية والالتقاط وطبيعة الوعي المجسد والأدوات الفنية والفكرية الحديثة المستخدمة ، تلعب الدور الحاسم في تمييز كاتب عن آخر .

• هل الروائي البحريني مهووس بقضايا مجتمعه ؟ وإلى أي مدى استطاعت الرواية البحرينية نقل ملامح الواقع الاجتماعي والسياسي؟

ــ سبق أن عالجنا ذلك ، ولكن الكاتب البحريني ليس مهووساً بمجتمعه بل أقل من مهووس إنه على حافة المجتمع .

• التاريخ والتراث عنصران رئيسان لأي مادة روائية ، وحين تأخذهما في عملك ، فهل يكونان ساكنين جامدين أو تعيد صياغتهما ومعطياتهما ؟ وكيف يتم ذلك ؟

ــ سبق الإجابة على ذلك .

• ألا تعتقد أن الروائي حين يتكئ على التراث والتاريخ يتحول من روائي منتج لنص إبداعي إلى مؤرخ وكاتب تاريخ ؟ فما تفسيرك لهذا ؟

ــ التراث والتاريخ هو واقع سابق ، مثلما أن الحاضر الراهن سيكون تراثاً وتاريخاً سابقاً ، وسيطلق علينا بعد قرن كتاب البحرين التراثيين الحديثين !

إن الكتاب الذين يكتبون رواية تاريخية هم أيضاً كتاب مبدعون ، ويقال ذلك أحياناً للتقليل من كتاب ومن عطائهم . أقرأ كتاب الرواية التاريخية لجورج لوكاش فهو مدرسة في ذلك .

إن تحول الروائي لكاتب تاريخ أو مؤرخ هو حين يترك أدوات التشكيل الروائي ويعتمد على التقارير والشهادات والمصادر ، ويترك النسيج القصصي والحبكة والبؤرة المشهدية الخ .. أما إذا اعتمد عليها فإن الأمر يعود لمدى قدرته الفنية وعمقه وحيويته الإبداعية .

• تغترف الرواية البحرينية من التاريخ والتراث السياسي أو الفلكلوري المرفولوجي ، فما مدى فائدة هذا الاغتراف ، وأثره على الرواية ؟

ــ هذا ضروري جداً ، فهو يجعل الكاتب يتابع مواداً خاماً مهمة وكثيرة ، وسوف تثري خياله وعلمه الروائي ، وكثيراً ما لعبت لي كتبٌ تاريخية أو بحثية قواعد لانطلاق الخيال الروائي لي ، مثل كتب الغوص البحثية لعبدالله خليفة الشملان أو (..) (أظنه سعد مرزوق ؟) شملان الكويت ولديه عدة كتب حول الغوص، فهو يعطيك المادة الموضوعية لمشهدية عالمك .

بالنسبة للنفط والبحث فيه هناك مواد كذلك استفدتُ منها ورجعتُ لذكريات العمال القدامى كذلك وكتب فلكلورية .

سادساً : الرؤية والتأمل:

• من خلال متابعتك للمنتج الروائي المحلي والإقليمي والعربي والدولي ، كيف تصنف الرواية البحرينية ؟

ــ ينبغي أن يكون بدل كيف (أين تصنف الرواية) .

الرواية البحرينية هي رواية بكر ، من فتية الرواية العربية التي هي رواية فتية عالمياً ، وقد صرنا في زخم الرواية عربياً عموماً . وأحياناً نتقدم على العديدين . فالأمر ليس بالكم .

يحدونا لهذا الحكم كون تجربة بلدنا السياسية الاجتماعية خصبة عربياً وعالمياً وفريدة بعناصرها ودورها وموقعها ، فهي تتشرب وتغتني بسبب طابع الانفتاح المستمر .

لكن ليس ثمة اهتمام بها ، بسبب فقر المثقفين وعدم وجود مصادر مالية تغذي وتنشر هذه الرواية ، في دولة الإمارات هناك عشر روايات ، والقيمة الفنية متفاوتة فيها ، ولكن توجد هناك أكثر من عشرة كتب نقدية حولها!

• الرواج والانتشار للمنتج الإبداعي عملية مهمة بالنسبة للمبدع ، ولكن العمل الأدبي بأجناسه وأنواعه لا يحظى بالرواج والانتشار ، فماذا يعنى هذا إلى الكاتب ؟ وهل هناك أزمـة ثقافة أو أزمـة قراءة أو أزمـة متعلم .. الخ؟

ــ إن الأدب في البحرين كان يحارب لسنوات طويلة من الدولة ، فكيف يتم ترويجه ؟ كان الظهور على التلفزيون من الممنوعات ، إضافة إلى عدم وجود عادة القراءة الواسعة لدى العرب ذوي الأمية الواسعة ، إضافة لفقر البحرين وانعدام دور النشر المهمة وصغر السوق ، وكل هذه العوامل صحرت البلد ثقافياً وأنضبته..

ويعتمد ذلك أيضا على حجم الشعب وثقافته ودور القوى السياسية وكلها لدينا في حالة تقزم !

• هل يصل بالروائي أن يرسم شخصياته ، ويتعلق بها في أثناء الكتابة ، وسرعان ما يلبث أن يكون شبيهاً بها أو إحداها ؟

ــ الروائي أكبر من شخصياته فهو نبع لوجودها ولكن بعض الشخصيات التي خلقها تعايشه وتعيش فيه ، وعلى مستوى الفعل لديه يقوم بتجاوز شخصياته وخلق شخصيات أفضل منها ، وهكذا دواليك . .

بعض الكتاب العرب مأسورون في محدودية البطل لأنهم لا يتطورون ، لا ينتقلون من الاجتماع إلى الفلسفة ، فتبقى تصوراتهم ونضالاتهم صغيرة جزئية، فيظهر أبطالهم على بهذا المقدار الصغير .

• يقال الإبداع ليس إدهاش المتلقي ، وإنما هو التجسيد الصادق والحقيقة والعفوية في الكلمة . أين يقف الروائي البحريني من هذا القول ؟

ــ لا بد أن يدهش الإبداع المتلقي  ، لا بد أن يجعله في حالة استمتاع وتغير واكتشاف . لكن هذا لا يتناقض مع الصدق والبحث عن الحقيقة ، والجانبان مكتملان ، صناعة الفن وصناعة الصدق.

• البعض يقول: لـيس هناك كتابة قديمة وأخرى جديدة ، ولكن هنـاك إضاءات جديدة في صلب هذا النوع أو ذاك ، فما نوع هذه الإضاءات التي قدمها الروائي البحريني للرواية البحرينية ؟

ــ لا تزال في طور التشكل والإضافة .

في قطر ظهرت 3 أو أربع روايات وكتبت ناقدة ميلاد الرواية القطرية . ونحن بعد أربعين سنة لا نزال مهمشين نقدياً وإعلاميا .

•  قيل أن الأدب الواقعي هو الأدب الأكثر انتشـاراً ، ويقوم بدغدغة الفئـة الأوسع في المجتمع ، أي أنه أدب القاعدة الشعبية أو هو الأدب الذي يتطرق إلى معالجة الهامش من المجتمع . إلى أي مدى يتوافق هذا الرأي والرواية البحرينية ؟

ــ ظهرت الرواية العربية في البحرين متجهة إلى الواقعية وقد جرى نضال كبير لتثبيت أسس الواقعية في مواجهة الفوتوغرافية والفنتازية الشكلية وغيرهما ، لكن من دون التخلي عن السمات الفنية الإبداعية ، والتألق والاستقلالية الفنية .

لكن مسألة القواعد الشعبية مسألة مختلفة ، لأن قواعد القراءة قليلة ، كذلك فإن طبيعة التوصيل والنشر كانت محدودة ، فلا توجد هناك شعبية للرواية ، أي لم تصبح رقماً تداولياً مهماً .

• من المعروف أن النقد له دور بارز وفاعل في عملية الإنتاج الإبداعي . فأين يقف النقد البحريني إن كان هناك نقد تجاه الرواية ؟

ــ النقد قليل الحضور ، بسب أن النقد القصصي كانت له طبيعة دراسية مهنية ، أكثر من أن يكون مشروعاً نقدياً محتفياً بالقصة والرواية .

إبراهيم غلوم هو مشروع الناقد الشامل ، المثقف صاحب الرؤية والبحث في مختلف الأشكال وصار المسرح والتراث البحريني شاغليه ، فترك النقد الروائي القصصي .

أنا كتبتُ عن الرواية في الخليج بشكل واسع بسبب طلب من مؤتمرات نقدية للكتابة عن الرواية في الخليج ، وتعرضت لبعض النماذج البحرينية ، لكن ليس من شغلي ذلك . فقرأت الكثير من النماذج الروائية في المنطقة وصارت لدي دراية بها ، ولعلي غدوت المتخصص في الرواية بالمنطقة وبأسمائها ومميزاتها .

فهد حسين له نقد موضوعي وقراءات تتطور بشكل مستمر وحس أخوي مع الجميع وهذا يبشر بالخير ، واهتماماته بالرواية والقصة تجعله في رأيي الناقد الروائي المنتظر للبحرين والمنطقة .

• الكاتب يحتاج إلى الحرية في الكتابة ، والحرية في الأدوات والوسائل ، ولكن ما الذي يحد من الكاتب ويكون رقيباً على نتاجه الإبداعي سواء في صياغة الأفكار أو نقل المشاعر أو طرح الرؤية ؟

ــ لا رقيب على الكاتب الحر ، في السجن كتبتُ داخل قفص على أوراق الصابون والمحارم ، لا يتسلل السوس إلى عظام الكاتب إلا من داخله وحين تهاوي أفكاره وتساقط مواقفه وإيمانه بعدالة قضيته .

• إذا آمنا أن العمل الإبداعي هو نوع متمرد على الشكل واللغة والرؤية أيضاً ، فهل نجح الكاتب البحريني في تمرده هذا ؟

ــ إذا كانت روايتي تنامُ في معاجين الحلاقة ثم تظهر بعد ذلك للنشر ، ثم أواصل حفر الواقع وكشف وتعريته فهذا ليس فعل تمرد ولكن فعل نضال ، التمرد مؤقت سريع ، عاطفي ، أما النضال فمختلف . فهو يعتمد على قراءة العلوم : الطبيعية والاجتماعية . بالنسبة للكتاب الآخرين أسألهم . فلا أستطيع أن أجيب عنهم .

• من الملاحظ أن الناقد حين يكتب نقداً ولم يعجب المبدع يتهمه بعدم المعرفة أو الجهل ، وإذا أعجب بالنقد يثني عليه ويمدحه ، فما الخيط الرفيع بين المبدع والناقد ؟ ولم هذه الحساسية الكتابية بينهما ؟

ــ على الناقد أن يكون صبوراً في السير في تضاريس الكثبان للروايات والقصص ، وأن يدرك الخلفيات المركبة للنصوص ، وأن يأتيها برفق وحنان وموضوعية وأمانة ، فكلما كان رفيقاً كلما فهم النصوص أكثر واستطاع أن يقترب من أعماق الكتاب ، ولابد أن يفهم ظروف النص والكاتب حين ينقد ، حتى يكون صديقاً للكاتب والنص ، وحينذاك فإنه سيصل إلى استنتاجات مهمة ويفيد الكاتب ويحوز على تقديره حتى لو كان جارحاً في بعض المقاطع وقاسياً، فالموضوعية أفضل صديق للروائيين .

• بوصفك أحد المثقفين في هذا البلد المعطاء ، والمتابع للمشهد الثقافي البحريني ، فمن يصنع هذا المشهد ؟ الجهاز الرسمي المتمثل في إدارة الثقافة والتراث الوطني ؟ أم مؤسسات المجتمع المدني ؟ وكيف تقيمون هذا المشهد ؟

ــ يصنع المشهد الثقافي الكتاب والمبدعون بدرجة أساسية ، فالمهم في البداية هو الإنتاج والخلق ، أما التوزيع والعرض والتسجيل ، فهذه جوانب يمكن أن يقوم بها أناس وجهات مختلفة .

• الكاتب والمبدع البحريني هل يقوم بتثقيف السياسة أم تسييس الثقافة ؟

ــ حسب طبيعة وتوجه هذا المثقف ، بالنسبة لي أقوم بالمهمتين ، جعل السياسة تفهم الثقافة بكل أبعادها ؛ الأدبية ، والتراثية ، وكذلك بجعل المبدعين يفهمون السياسة ، ولا يتخوفون من المشاركة فيها وفي فهمها .

المحن مؤذيةٌ وصعبة، وهي قد تكسرُ البشرَ وخاصة المبدعين والمثقفين!

حاوره : علي الستراوي

عبدالله خليفة روائيٌّ وباحثٌ بحريني، بلغَ من العمر ستة وستين عاماً، بدأ حياته الإبداعية منذ أواخرِ الستينيات من القرن الماضي عبر المساهمةِ بإنتاجِ القصة القصيرة، ثم أنعطف إلى الروايةِ التي كرس فيها جهوده، وتداخلَ معها بكتابةِ الأبحاث فأصدرَ مجموعةً من الإصدارات عن التراث العربي الفكري والرواية العربية، وهذا الحوار هو آخر حوار أجري معه قبل أن يغادر دنيانا، وفي سياق الحوار نرى هذا المشوار المتعدد الجوانب وقسماته المميزة.

• عبدالله خليفة مشوارُ مثقفٍ تجاوز الأربعين عاماً في الكتابة ومازال في جرابه الكثير من العطاء، فكيف لعبد الله أن يقربنَا من كلِ هذه المحطات التي بدأتْ بالقصة القصيرة حتى وصلت لكلِ أنواع الكتابةِ الثقافية، ومازالت مشتعلة؟

ــ عاشت الكتابةُ لدي كنضالٍ فكري سياسي، فالقصصُ القصيرةُ التي كتبتُها بدايةً كانت طلقات، ثم تغيرتْ إلى نيران تجربةٍ طويلة، فعشتُ في مختلف المحن، بدءًا من العمل السياسي، والسجن، والبطالة، والعمل الصحفي اليومي الصعب. وتوجهتُ لقراءةِ تطور بلدي عبر هذه التجارب، فقرأتُ تاريخَه، وحياة منطقته، وإرثه الفكري، وصراعاته، فأنشأتُ أعمالاً عديدة يحكم عليها النقاد والقراء.

• يقول الروائي العربي حنا مينا (من عاش في فرنِ المحنة لقادر على تجسيد المعاناة)، ماذا يعني لكَ أدب المحنة؟

ــ المحن مؤذيةٌ وصعبة، وهي قد تكسرُ البشرَ وخاصة المبدعين والمثقفين، والكاتبُ حين يحولها إلى تجربةٍ مشعةٍ فإن ذلك يعتمدُ على نفسيتهِ وصلابتها وتطور موقفه، فقد تؤدي المحنةُ إلى نضجه، وقد تؤدي حياة الراحة إلى تآكله الروحي، وهذا يعتمد على العناصر الفكرية المقاوِمة التي شكلها في نفسه، وتنامت عبر التحليل الموضوعي التحويلي للواقع ومساهمته فيه.

• لك جهدٌ كبيرٌ في البحثِ الفلسفي والعطاء الأدبي والفكري، وقد أشعلتَ النارَ، أمام كل هذا التنوع، هناك من خالفك الرأي وآخرون وقفوا معك، فبماذا تردُّ عليهم؟

ــ مع تدهورِ الوعي الفكري العربي السياسي وخاصة تجاه مسائل التراث والواقع الراهن، كان لا بد من ظهور مساهماتٍ تحللُ الجذورَ العربية وتطوراتِها عبر العصور، وقد وجدتُ أن العديدَ من القراءات للماضي لم تكن دقيقة، فساهمتُ في قراءةِ التراث بحسب طاقتي، كذلك قمتُ بقراءاتٍ للرواية العربية، وربطتها بالقضايا المعاصرة وبتطور الثقافة، وهناك من الأدباء من لم تعجبهُ عمليةَ المزاوجةِ بين الإبداع والنقد والفكر، فيريدُ للأدباء أن يقفوا عند حدودهم ولا يتعدوها للنقد والفلسفة، فهم يشعرون بشيءٍ من الغيرة لهذا ويعيشون ضيقَ الآفاق. والواقع أن أي نقد يُوجه للكاتب هو نقدٌ مفيد وخاصة إذا كان موضوعياً وإذا لم يكن موضوعياً يعطيه فكرةً عن مستوى النقد وطبيعة كُتابه.

• يعتبرك الكثيرون من الكتاب وأنا واحد منهم أنك واحد من أهم كتاب المشاريع الفكرية والأدبية والتي تطورت لتكتبَ روايات عن التاريخ العربي بدت مغايرةً ومثيرة، كرواياتك: عمر بن الخطاب شهيداً، ورواية علي بن أبي طالب شهيداً، وعثمان بن عفان شهيداً، فكيف تنظرُ للشهادةِ من موقعٍ فكري؟ وألا يعني أن تصنيفك لكلِ هؤلاء الصحابة بأنهم شهداء مبالغاً فيه؟

ــ هذه من البؤر الفكريةُ الاجتماعية المرتبطة بالصراعاتِ السياسية وصراعات الأمم الإسلامية الراهنة، وهي صراعاتٌ مبالغٌ فيها، وخطرة على تطورها، فكلُ الصحابة الذين ناضلوا في تاريخ الإسلام ذوو مكانة عالية، ويُعتبر قتلهم جريمة، ويجب أن نتحدَ كلنا في هذا الموقف، وحين يرتكب المسئول أخطاءً فلا يجب أن يُعاقب بالتآمرِ والقتل بل بالتصحيح البناء. وأهمية مثل هذه الروايات والكتب الفكرية المحولة للوعي السائد الطائفي جديرة بالاهتمام لا بمنع الكتب ومصادرتها والتجني عليها بدلاً من قراءتها ونقدها وتصويبها إذا كانت فيها أخطاء! 

• يعتبرك الكثيرون بأنك حاد نقدياً وقاس في تعاملك مع الأدب والتاريخ السياسي، فهل أنت كما يقولون؟

ــ الكُتابُ لا تعجبهم عادة الانتقادات التحليلية التي تكشف قضايا وأشكال إبداعاتهم، وخاصة حين تكشف التناقضات والمشكلات فيها، ولكن التحليلات للأدب لا تجري بصفةٍ شخصية فحسب بل لكون هذه النتاجات ثمارا للوعي والحياة العامة، والعديد من الكتاب لا يحبون مثل هذه اللغة النقدية ويريدون نقاداً يفصلون لهم بدلات خاصة على مقاسهم، ولهذا تجد أنهم يعطون كتبَهم لنقدها من قبل أصدقاء، وهذه مشكلة تبين تفاقم الذاتية لدينا.

• في محطات تجربتك العمرية الكثير من المشكلات وبدأت بكتابة القصة القصيرة حتى إنتاج روايات كبيرة بأجزاء، فكبرت فلسفتك الحياتية وكلفتك الكثير من المعاناة، فهل أنت سعيد لما أنجزته؟ وبماذا تحلم؟

ــ التجارب والمعاناة والانجازات تترافق، فأدواتُ الكشف النقدي للواقع لا تُسعد جهات عديدة، وأنت لا بد أن تتحمل مسئولية كلماتك ومواقفك. ولا شك أنني سعيد بما عملته، فهو الجانب الباقي من شخصي، وأحلمُ بكتابةِ المزيد وتأصيل مواقف فكرية وسياسية أكثر عمقاً وإضاءة، وكتابة ملاحم.

• التحولاتُ في الرواية العربية مشروعٌ متكامل في بُعدِ عبدالله خليفة الثقافي فكيف لكَ أن تأخذنا إليه؟

ــ الروايةُ العربيةُ بحرٌ كبير ومن الصعب التعبير المُعّمم عنه، ولكن الرواية العربية توجهتْ للمزيد من التغلغل في البُنى الاجتماعية العربية على مر القرن العشرين، وقد غدت أكثر خصباً بالتلاقح مع الموروث، لكنها لا تزالُ غيرَ عميقة في تحليلاتها الفنية العميقة للصراعات الاجتماعية النموذجية الهائلة الجارية، فالكثيرون يتوجهون للجانبي واليومي العابر وتصبحُ تحليلات الصراعات الكبرى المشكلة بفنيةٍ رائعة ونمذجة محدودة. إن التصادمات المحورية، واكتشاف الهياكل الصراعية وتجسيدها في نماذج مبهرة لا تزال غير متوفرة بشكل واضح واسع.

• (الأدبُ البحريني: الرؤيةُ والتحولات) هي عنوانٌ لورقة قدمتها ضمن فاعليات المكتب الدائم لاتحاد الكتاب العرب، بما اعتبره البعضُ بأنك تهاجم الكتابَ الروائيين العرب، فبماذا ترد عليهم؟

ــ هنا سوء فهمٍ في السؤال، فالنقادُ الذين كتبوا عن الروايةِ البحرينية في هذا المؤتمر تباينوا في مستوى كتاباتِهم، فهناك الناقدُ النادر الذي عكفَ على معالجةِ الهياكل الفنية والموضوعات والمضامين بشكلٍ نقدي متداخل وعميق، وهناك من ركز على الموضوعاتِ منفصلةً عن الأشكال والبنى التعبيرية، وهذه سلبيةٌ طالما نجدُهَا في نقدِ المؤتمرات الأدبية العربية. وأنا قمتُ بتحليل هذه العملية القاصرة، وطرح ما هو ناقص فيها.

• تجمعُ في كتابتكَ بين السياسة والأدب، فكيف ترى كلاً منهما على حدةٍ؟

ــ طبيعةُ العملِ الصحفي والدورِ السياسي تجعلكَ تهتمُّ بموادِ الحياةِ المباشرة وصراعاتها اليومية، وهي تدخلُ الكاتبَ في المباشر والحياتي اليومي الصارخ وأحياناً الفظ، الذي قد ينزعُ قراءتَك العميقةَ والبعيدة، ولكنه دائماً يجذركَ في الحياة، يُدخلكَ في المعاناة الشعبية والمناورات العليا للقوى السياسية، فالذي يتحول إلى صحفي ويدع اهتماماته الأدبية والإبداعية يتخصص في جوانب أخرى، وقد يفقدُ جوانبَه العميقة، والكاتبُ المزدهرُ بتحليل الواقع وقراءة المستقبل يجمع بين الجانبين؛ عينٌ على المادة اليومية وعدم السقوط في رمالها، وعينٌ على قوانين الحياة وسببيات الوجود، ولذا يُضفرُ بين الحياتي الفظِ والنثري وبين الجمالي.

• روايتك ما قبل الأخيرة (عنترة يعود للجزيرةِ)، أثارت الكثيرَ من اللغط بين المثقفين، وأنت قلتَ عنها في جريدة الحياة (لم تكن تعنيني حكاية النفط، إنه دفاع عن المعقولات التي تختصر الرواية في المنحى). قربنا من هذا المفهوم؟

ــ هذا كان جزءًا من الحوار حول المباشر والاتجاهات العميقة في الحياة، فالتركيزُ على التحولات الاقتصادية الاجتماعية النفطية كانت مرحلةً في الرواية العربية استنزفتْ نفسها، وجاء زمنٌ أدبي للعميق ولما بعد المباشر، وبطبيعة الحال هذه مسألة صعبة، فالرواية دائماً تغرقُ في المباشر، والآن لدينا موجة مباشرة في الخليج عن الحياةِ اليومية والجنسِ والبذخ الزائف، ونحن بحاجة إلى التجاوز والتغلغل في ظاهرات الحياة المركبة، وحاولتُ في رواية (عنترة يعودُ للجزيرة) طرح ما هو تراثي وواقعي عبر رؤية البطولة.

• أصواتٌ ضعيفةٌ اعتلتْ الساحةَ الثقافية الصحفية، توزعت بين المحلي والخليجي والعربي في ظل عروضٍ هشة لا ترتقي إلى الثقافة بعمق، فصفق لها من صفق وهاجمها من اختلف معها، فهل أنت من هؤلاء؟

ــ السياسة الثقافية للصحف والمجلات هي جزءٌ من وضعها السياسي والاقتصادي، فهي إذا كانت رسمية تضعُ خطوطاً حمراء عديدة على موادها وخاصة موادها الفكرية والأدبية التحليلية الناقدة، وهي هنا بحاجة إلى مثقفين إداريين تابعين، يرتبون الموادَ بحسب القرارات العليا، ولهذا فإن العديد من المجلات تنحى هذا المنحى، وترى ضخامة المواد في الخليج والمنطقة العربية التي ينتجها المبدعون بشكل يومي، ولكن هذه الصحافة لا تقربُ هذه الموادَ من أوراقِها الأنيقة عادة. والصحافة ذات المنحى الاقتصادي التي يديرها تجارٌ تقلل من الجانب الثقافي وتحجّم من المكافآت وربما كذلك تخفف من النقد السياسي، والجانبان الناشران هنا يعتمدان على ضعف الديمقراطية وحرية الرأي في المنطقة وغياب الصحافة الحرة الواسعة المقتدرة.

• أزمةُ طباعةِ الكِتاب أزمة أوجعت الكثيرين من المبدعين، ولا تزال هذه الأزمة توجع الكُتاب، بماذا تنصح دور النشر، وبماذا تقترح لحل أزمة النشر؟

ــ هذا جانبٌ آخر من مشكلاتِ الواقع الثقافي وهو مترابط به، فالكتّابُ هم مبدعون أحرارٌ يشكلون أعمالهم وفق رؤاهم، لا وفق رؤى الدول، ودور النشر الرسمية، ووزاراتُ الثقافة تشترط تخفيف الأظافر الحادة للأعمال الأدبية والفنية، أو إزالتها كلياً، فيما لدى المبدعين خيارات متعددة أخرى. ومن لديهم إمكانيات مالية يقدرون على الطباعة المكلفة فيهدرون أجزاءَ من حياتهم ومواردهم على الطباعة والنشر، وهذه مأساة إن لم تكن كارثة، تعبرُ عن واقع مرعب. ويعبرُ هذا كذلك عن ضعف الاتحادات الأدبية وعدم قدرتها على العمل من أجل تغيير ظروف المبدعين نظراً لكون بعضها أو كلها أجزاء من المؤسسات الرسمية أو الجماعات الشمولية المختلفة. المسألة مرتبطة كذلك بتطورات الديمقراطية والحريات والتحضر في المجتمعات العربية.

• بين الشعرِ واللوحة الفنية والكتابة السرديةِ حبلٌ يشد الأنواعَ الفنية والأدبية لبعضها البعض، فكيف للمبدع أن يفصلَ كلَ لون عن الآخر، وماذا يعني هذا الاختلاف في ظل مملكة الشعر؟

ــ الأنواعُ الفنية والأدبية لها خصائصٌ محددة مستقلة وخصائص مشتركة، بحسب موادها وأدوات تعبيرها وقسماتها الداخلية التي نشأت بها تاريخياً. وهي يمكن أن تَستثمرَ هذه الأدوات بحسب تطورها، فالقصةُ يمكن أن تَدخلها خصائصٌ من الشعر، كسماتِ التوهج والموسيقى والغوص في الأعماق بدون نثر جانبي متخثر، لا أن تتحول إلى فوضى تعبيرية، فهي تستثمرُ الشعرَ لتتطور المادة الحدثية والشخوص والشكل الفني، والقصيدةُ يمكن أن تستفيدَ من القصة عبر بروز هياكل دقيقة مرهفة تمسكُ الجزئيات الشديدةَ التناثر وتحفرُ عبرها في الحياة والوجود. الغوصُ في الحياةِ ورؤية العميق المذهل فيها يمكن أن يُشعرا القصة والقصيدة معاً.

• المرأةُ ماذا تعني لك؟

ــ هي الاكتمالُ الآخر للوجود البشري الذكوري. هي مُصعِّدةُ العواطف والسمو والجذور. الحب يخلق تطورات كبيرة في أعماق الإنسان، هو شكل القمة للتضحية.

حوار مع الكاتب عبدالله خليفة المؤلف الجيّد عاجز عن الوصول الى الناس

حوار مع الكاتب عبدالله خليفة: المؤلف الجيّد عاجز عن الوصول الى الناس

مجلة «الجديد» التابعة للحزب الشيوعي الإسرائيلي، تنقل مقابلة لعبدالله خليفة نشرت اصلاً في مجلة «اليوم السابع» سنة 1988.
The Palestinian Museum Digital Archive – أرشيف المتحف الفلسطيني الرقمي: العدد الثاني عشر من مجلة الجديد، كانون الأول 1988.

يعتبر الكاتب البحريني عبدالله خليفة، من ذلك الرعيل الذي ظهر منذ أواسط السبعينات، وسط زخم أدبي بحريني متميز شهد ظهور أسماء عديدة على الساحة العربية، وهو كاتب قصة ورواية ونقد، صدرت له روايات عديدة ومجموعات قصصية، ويستعد حالياً لإصدار كتب أخرى.
في البحرين التقى به يوسف مكي، مكاتب «اليوم السابع» وطرح عليه أسئلة عديدة تنشرها «الجديد» فيما يلي لإطلاع القراء على هذا الكاتب وتجربته الأدبية:
بدأت بكتابات القصة القصيرة وانتهيت إلى كتابة الرواية منذ بداية الثمانينات، لماذا هذا التحول؟
في البداية أود ان اقول ان القصة القصيرة التي كتبتها كانت تتسم بالبحث الشمولي في الحياة والواقع، إذ أنها تتطلب تكثيفاً وتركيزاً على اللحظة النفسية أو الاجتماعية المحددة. ولكن كانت القصة التي اكتبها تهتم بهذا التركيز وترفض بعض جوانب الواقع، وتكشف اللحظة النفسية في ارتباطها بجوانب أعمق في الحياة. وقد دفعتني هذه المسألة الى الاهتمام بتوسيع هذه اللحظة وتعميق اللحظة القصصية وبالتالي ربطها بدلالات اجتماعية وتاريخية أعمق. فعلى سبيل المثال كتبت في بداية حياتي الأدبية قصة تتحدث عن مغني البحر، عن شخص في سفينة الغوص يغني ويطرب البحارة ويدفعهم لمزيد من العمل والإنتاج. هذه القصة مكثفة تهتم بلحظة نفسية مكثفة جدا، ولكن عندما ازددت معرفة وازددت عمقاً وفهماً للحياة والإنسان أخذت هذه اللحظة تتسع فلم اكتف بمغني البحر وحده في مشكلته الجزئية، وإنما صار هناك اهتمام بمرحلة الغوص واهتمام بتحليل هذه المرحلة بنماذجها المتعددة والاتجاه الى ربطها بجذورها التاريخية والاجتماعية فغدت اللحظة الصغيرة في القصة القصيرة نوعاً من الملحمة المكثفة التي تهتم بصراع هؤلاء البشر في لحظة زمنية عميقة المحتوى.
والملاحظ أنه كثيراً ما يبدأ القصاصون بالقصة القصيرة وتتعمق رؤاهم ومعرفتهم ثم يتجهون الى الأنواع الأدبية الأكثر إطالة وتوسعاً لتعميق القضايا التي كانوا يطرحونها. فعلى سبيل المثال «تشيخوف» بدأ بالقصة القصيرة ثم اتجه الى الرواية والمسرحية على وجه التحديد لأن اللحظات القصصية القصيرة المكثفة التي كان يكتبها كان بحاجة الى تعميقها أكثر. وهذا ما حدث بالنسبة لعدد من القصاصين العرب والعالميين.

هل يعني ذلك التحول الانتقال من حدث فردي تتناوله القصة القصيرة الى حدث اجتماعي متمثل في الغوص وصراع الأفراد. وبالتالي لا بد من تناوله في رواية؟
القضية ليست هكذا بالتحديد وإن القصة القصيرة هي لحظة مكثفة موجزة تتناول خيطاً ما من هذا الإنسان أو من هذه الحادثة. هذا الخيط من الممكن أن يطرح بأشكال متعددة عن كل مناحي الحياة ولا بد من ربط النواحي التراثية النفسية والناحية الاجتماعية. والقصة القصيرة لا بد أن تربط بين هذين الجانبين. ولكنك وانت تكتب القصة القصيرة تكتشف باستمرار جوانب عديدة في الحياة الاجتماعية وفي هذه الحالة تلح عليك الأنواع الأدبية الأخرى لكي تستوعب المشكلات والأجزاء الكبيرة في الواقع والجوانب الروحية. والملاحظ هنا في البحرين إن التطور الأدبي كان مهتماً بالقصة القصيرة والشعر باعتبارها يمثلان نوعين يعبران عن مستوى وعي المبدعين الشباب، ولم يكن حينها يوجد لدينا تراث محلي من نوع الرواية وبالتالي كان لا بد إذ تكون القصة القصيرة في مجتمع ما زال في بداية انفتاحه على العالم ومن خلال ملاحقة التطورات الأدبية الجديدة في العالم العربي، وبعد سنوات من الخبرة والتطور، كانت هناك مسائل كثيرة ومستجدة تنمو في الحياة. وقد كنا فى حاجة الى تطوير الأدب والأدوات الخاصة به وفي ظل وضعية المجتمع بشكل عام كان لا بد أن تكون الأمور مرتبطة بالقصة القصيرة ومن ثم الانتقال الى نوع جديد وهو الرواية أو المسرحية.


الوقت المناسب


هل يعني ذلك أن التحول من القصة القصيرة إلى الرواية جاء في وقته المناسب؟
اعتقد ذلك، خاصة أنني كتبت عدداً من القصص القصيرة، حوالي مجموعتين وقصصاً أخرى، وفي مرحلة السجن حدثت عملية اختمار فكري وأدبي وتأملات طويلة تم تحويلها الى رواية. إلا أن المسألة في حقيقة الأمر كانت عضوية. وهذه العضوية تنطبق على كتابة أي نوع من الأنواع الأدبية. ومن ثم يبدأ الوعي باكتشاف عملية الخلق الروائي بشكل أعمق. وكما ذكرت فإن القصة القصيرة المكثفة تكون البداية ثم الرواية بهدف تعميق الوعي الفني الموجود عند الكاتب، وهذا ما تعجز عنه القصة القصيرة وتستوعبه الرواية. وفي هذه الحالة يشعر الكاتب بأنه قام بكتابة ما لديه أو ما يعانيه ويختمر داخله. فرواية «اللآلئ» كانت عبارة عن تأملات طويلة في حياة الوطن وتعمق في كشف الأشياء والبحث عن المصائر التاريخية للأشياء والأفراد (الإنسان) كما أن الرواية تبحث الأسئلة الكبرى في الحياة. وهنا تأتي الرواية للإجابة عن هذه الأسئلة.
ذكرت أن الرواية بمعنى ما تحاول الإجابة عن الأسئلة الكبرى للمجتمع الذي تصدر عنه. والملاحظ ان روايتك الاولى تتناول فترة الغوص وهى فترة ما قبل النفط. هل هذه الرواية تجيب عن الأسئلة الكبرى للماضي أو عن الأسئلة الكبرى للمرحلة المعاصرة؟
ـ سؤال جميل – تناول الماضي هو دائماً تناول للحاضر. لا يوجد بحث أو كتابة تهتم بالماضي بصفته المجردة. والنقاش في الماضي ليس نقاشاً في الماضي وإنما في الحاضر ولأجل الحاضر.
وبالتالي فهو نقاش في الحاضر وصراعاته. وهذا ينطبق على الرواية. وعندما يكتب روائي عن فترة ماضية، ويكتشف هذه الفترة وتناقضاتها وأعماقها من نماذج بشرية تعيش فيها والقضايا والأسئلة المهمة التى تؤرق هذه الفترة عندما يتحدث عن ذلك فهو إنما يناقش مسائل عصره بالتحديد. وعندما لا تكون هناك مناقشة لقضايا العصر الملحة، يكون العمل الأدبى لا قيمة له.
وهنا بطبيعة الحال لدينا الرواية، لأنه لا بد أن يكون ذلك العمل الأدبي شرارة تصب في هذا الصراع العام. ولا بد أن يكون قوة مضيئة في التحولات التي تجري في وقتها. فإذا ما سحبنا هذا المفهوم النظري على التجربة الملموسة، نجد بأن رواية «اللآلئ» هي اكتشاف للصراع بين الربان «النوخذة»، وهو الرجل الذي يتحكم في مصائر البحارة ويقودهم كما يحلو له ويستولي على تعبهم بهذه السيطرة وما يترتب عليها من نتائج نفسية، فيما نجد لدى البحارة تنامي الوعي بالرفض والتذمر وتنامي قدرتهم للتصدي لهذه السيطرة التي تقودهم الى الدمار. كما نلاحظ أن النوخذة يمثل الصراعات التي كانت موجودة ولا زالت موجودة وتتمثل في موقف طبقة معينة (القديمة) من التطور الرأسمالي. فالنوخذة كان يرغب في الاستفادة من اللآلئ للابتعاد عن البحر لتأسيس مؤسسة حديثة مرتبطة بالأحداث المستجدة في المجتمع.

الماضي والحاضر

إذا كان ذلك صحيحاً من الناحية النظرية. ما مدى انطباق ذلك على الرواية، خاصة اذا عرفنا ان فترة الغوص هي فترة قائمة بذاتها إلى حد كبير وفترة المجتمع الحديث هي الأخرى قائمة بذاتها، حيث أن الأولى قائمة على أساس علاقة السخرة والعبودية والفترة المعاصرة قائمة على أساس علاقات الإنتاج الرأسمالية، الا يعني ذلك اسقاطاً للماضي على الحاضر؟
أعتقد أن الفترتين الماضية والمعاصرة في البحرين وفي منطقة الخليج عموماً هما لحظتان في تطور واحد وفي تشكيلة اقتصادية اجتماعية واحدة وهما ليستا مبتورتين عن بعضهما البعض وإنما متداخلتان. أما بالنسبة للفن فان له قوانينه الخاصة غير المقطوعة عن القوانين العامة لتطور الحياة فالفن يمكن أن يناقش أي شيء يمكن ان يناقش المستقبل أو أن يكتب روايات خيالية ويمكن ان يكتب عن عصر الكهوف. ولكن المسألة هي في كيفية مناقشة أي موضوع وبطريقة تضيء الحياة المعاصرة. وهنا عندما نناقش الماضي بموضوعيته فإننا بطريقة ما نثير ذات الأسئلة وذات الموقف في الحياة المعاصرة. وبالتالي بالنسبة الي ككاتب لا يمكن أن أفهم الماضي إلا على ضوء قوانينه ولكن بارتباطه بالحاضر.
ألا يعني هذا أن لفترة الغوص مشكلاتها الخاصة وللفترة المعاصرة النفطية مشكلاتها الخاصة التي تختلف عن الفترة السابقة؟
كما قلت فإن الفترتين متداخلتان إلا أنها متباينتان اذ ان الحقبة النفطية تشكل انعطافاً في التطور الاجتماعي وتشكل لحظة تاريخية واجتماعية مختلفة عن السابق لكنها ليست مقطوعة عن الماضي. هذه اللحظة لها سماتها الخاصة. والرواية لا تهتم بالقضايا الجزئية التكتيكية، وإما بالقضايا الكبيرة في التاريخ والكاتب يتناول القضايا الكبيرة مثل قضية التطور الاجتماعي إلى أين؟ مثلا…
يقول جورج لوكاش «الرواية هي ملحمة بورجوازية» أو ملحمة المجتمع البرجوازي إلى أي مدى ينطبق هذا الكلام على الرواية في البحرين على الرغم من عمرها القصير نسبيا؟
بالنسبة للتعريف القائل بأن الرواية ملحمة البرجوازية أعتقد أنه يعني أنها ارتبطت بنشوء الطبقة البرجوازية. أما في الدول النامية فالأمر يختلف. فقد نشأت الرواية باعتبارها رواية وطنية. أي أنها تحاول ان تجسد ملامح شعب وطموحاته وحركته وتاريخه فهي بهذا المعنى ملحمة وطنية وتركز على الجوانب الديمقراطية بالمعنى البرجوازي. والرواية العربية وكذلك في بقية دول العالم الثالث ارتبطت بالتخلص من الاستعمار والتصدي له. وهذا ينطبق على البحرين والخليج بوجه عام. فقد نشأت الرواية كمحاولة لاكتشاف هذه الناحية مثل رواية «الشاهندة» في الإمارات وكذلك بعض الروايات التي تناولت تطور المدينة في الخليج من قرية صيادين الى مدينة كبيرة الى مدينة استهلاكية نفطية. ولكن المسألة أيضاً تتعلق بمدى رؤية الكاتب وقدرته على الربط بين هذه التحولات في المجتمع والشخصيات والأحداث في الرواية. في البحرين كان يوجد اهتمام بمعالجة رواية «الحصار» لفوزية رشيد والتي تناولت حقبة السبعينات وتتحدث عن مجموعة من المناضلين من أجل التغيير داخل وخارج السجن. وهذا في رأي محاولة لاكتشاف الواقع من خلال نمو الرواية واستبصار القضايا الاساسية وكذلك بالنسبة للادوات الفنية فهي ما زالت في البداية.
نلاحظ ذلك من خلال بعض الروايات التي تتسم بالشعرية المكثفة جدا والغموض والتجريبية. فمثلاً نجد رواية امين صالح «اغنية ا – ص الاولى» تتجه اتجاهاً سريالياً، وهناك نماذج كثيرة.

من البحرين الى الخليج

ماهو موقع الرواية في البحرين بين الأدب العربي في الخليج، خصوصاً وان هناك كتاب روايات امثال اسماعيل فهد اسماعيل وليلى العثمان في الكويت؟
يمثل كل من اسماعيل فهد اسماعيل وليلى العثمان نضجا قصصيا مهما في الكويت والمنطقة.
ولاسماعيل العديد من الإبداعات الروائية والنقدية والقصصية وتمثل إضافة مهمة. الا ان اغلب رواياته تناقش قضايا عربية شمولية أكثر منها محلية، كتطور المجتمع العراقي. ورباعيته اهتمت بالتاريخ العراقي في حين أن رواية «النيل يجري شمالا» تناقش فترة حكم مصر ايام نابليون. أما ليلى العثمان فقد اهتمت بقضايا المجتمع في الخليج ولديها روايتان تعالجان الحياة في الكويت ماضياً وحاضراً لماذا ذلك؟ لأن الجيل الحالي لا بد وأن يعالج الماضي باعتبار ان اقدامه ما زالت قائمة في الفترة السابقة. أما في بقية الخليج فيوجد تطورات خاصة في الإمارات العربية المتحدة التي فيها محاولات وكتابات قصصية وروائية تبشر بكثير من العطاء. ولدينا كتاب مثل علي أبوالريش ومحمد الحربي. (أنظر الدراسة المطولة عن الرواية بين الإمارات والكويت لـ عبدالله خليفة) أما في البحرين فهي تمتاز باهتمامها بالبناء الفني المتماسك وبالقضايا العميقة للتطور الاجتماعي خاصة بالصراعات الطبقية وهذا الاهتمام أيضاً يتعلق بالفكر والتطور الإبداعي وهو نتاج التطور الخاص بالبنية الاجتماعية. ومن هنا جاءت القصة القصيرة وخاصة الرواية زاخرة بهذه الصراعات وذات بعد طوري ربما أكثر من بعض الدول العربية في الخليج.

ذكرت أن الرواية في طور التكوين، أين موقع النقد في الرواية؟
من المعروف أن النقد قد سبق الرواية ولدينا العديد من الكتابات والمحاولات النقدية السابقة على الرواية التي حاولت أن تؤصل التطور القصصي والفكري في البحرين مثل كتاب الدكتور إبراهيم عبدالله غلوم حول القصة القصيرة في الكويت والبحرين، لدينا أيضاً كتابات علوي الهاشمي وخاصة في مجال الشعر في كتابه ما قالته النخلة للبحر. ولدينا كتاب آخرون أمثال يوسف الحمدان في مجال النقد المسرحي ويوسف يتيم.
وقد لعب النقد دوراً تحفيزياً في نمو العمل الإبداعي. وما كتبه ابراهيم غلوم بالنسبة للقصة القصيرة هو محاولة فيها الكثير من الجوانب المفيدة والمضيئة للتطور التاريخي للقصة في الخليج والبحرين وهذه المحاولات حاولت أن تربط حلقات متعددة في الأربعينات والخمسينات والستينات، وادت الى الاهتمام بكتابة القصة القصيرة.
والملاحظ أن الرواية نمت عبر كتاب القصة القصيرة هذا فضلا عن اختلافها عن النقد الأدبي، لأن لها مسارها الخاص وعندما نلاحظ قصص الستينات نجد أنها اهتمت بجوانب عديدة ومهمة خاصة ما كتبه القاص محمد عبدالملك في مجموعتيه «نحن نحب الشمس» و«موت صاحب العربة» حيث نلاحظ قصصاً قصيرة بانورامية تتناول نماذج مختلفة من المهشمين والمحطمين من البشر ومحاولات الناس لتغيير هذا الواقع.
وعلى أعتاب هذه القصص القصيرة ظهرت الرواية، وفي مجال النقد يمكننا ملاحظة أنه قد لعب دورا كبيرا في اكتشاف لحظات تطور القصة. وفي هذا السياق وجد بعض الكتاب الذين كانوا ضد الكتابات النقدية الواقعية الموجودة على الساحة في البحرين. وينظر الى الكتابات التي تتسم بالشكلانية المفصولة عن هموم الانسان احياناً باعتبارها إنجازاً كبيراً.
ومن هنا فإن عدم وجود نقد واقعي يستطيع ان يكتشف الأدب في تطوره الفني والاجتماعي أوجد ثغرة وبالتالي تكرس لدينا نقد يهتم بالجوانب الفنية المفصولة عن الحياة كما أن هذه المحاولات النقدية غير دقيقة. وقد ادى ذلك الى نوع من الاهتمام بالكتاب الآخرين والى محاولة اكتشاف جوانب عديدة أخرى من العملية الإبداعية والأدبية فعندما يرى الناقد ابراهيم غلوم بأن «كتابات القاص محمد عبدالملك هي واقعية نقدية لكنه يبتعد عن الواقعية النقدية في «قوس قزح» يخطىء لأن هذه القصة هي في رأيي أكثر اقتراباً من الواقعية من القصص الأخرى. والمعروف ان هذه القصة قد ترجمت الى الفرنسية.

باعتبارك ناقداً أيضاً، يلاحظ ان الحياة الثقافية في البحرين تعج بالكثير من المستويات الابداعية، ضمن هذه المستويات يوجد تباينات في المنظور وفي وجهات النظر ما هو تقييمك للحركة الثقافية البحرينية بشكل عام؟
الحركة الثقافية فى البحرين على مدى 20 سنة الأخيرة توزعت بين فترتين زمنيتين: فترة الستينات الأولى أو فترة الأزمة الاجتماعية، حيث كانت الأوضاع أكثر إحتداماً بالصراعات الاجتماعية. وكانت الثقافة والحركة الأدبية خصوصاً جزءاً من هذه الحركة الاجتماعية الضاغطة والمهتمة بتغيير الحياة. فالحركة الأدبية انبثقت آنذاك من الصراعات التي كانت قائمة وعبرت مختلف المستويات الابداعية عن هذا الصراع، والقصة القصيرة والشعر والمسرحية كانت تمثل أكثر أشكال الأدب حضوراً خلال هذه الفترة كما كانت تمثل وعياً طليعياً بالنسبة للمجتمع حينذاك.
ثم جاءت المرحلة اللاحقة (النفطية). في ظل هذه الوضعية نمت الفئات الوسطى وازدادت العمالة الأجنبية وقلت الأيدي العاملة الوطنية في القطاعات الإنتاجية وظهرت الطفيلية، ونزعة التسلط. وكل ذلك انعكس على الحركة الثقافية والادبية، لذلك نلاحظ القليل من الأدب الذي يحاول أن يضيء للناس ويطور أدواته الفنية، في الوقت الذي يوجد قسم آخر من الأدب يتقوقع في شرنقته مهتما بالغرائبية أو بجوانب معينة فنية مبتورة عن الواقع و الجوانب الجوهرية في الحياة.
وهذا يعنى تهميشاً للأدب كما أن هناك اعمالاً فنية أخرى ذات إسفاف مهتمة بجوانب هامشية. وحقيقة الأمر أن التطور الفني والادبي يواجه مأزقاً ويعود إلى ظهور الطفيلية ارتفاع المداخيل الفردية الذي أدى إلى ابتعاد كثير من الجمهور عن الثقافة والأدب، والاتجاه الى الفنون السوقية والمبتذلة وهنا نواجه مشكلة علاقة الأدب بالجمهور اضافة الى ذلك أدت هذه الحالة إلى خلل في العلاقة بين الكتاب والجمهور.

الواقع وانعكاسه

يقال ان الثقافة انعكاس للواقع، إلى أي مدى يمكن اعتبار ذلك الانعكاس صحيحاً للثقافة عموماً والأدب خصوصاً؟
لا بد من الاشارة الى ان مفهوم الانعكاس يفهم أحياناً بشكل خاطئ وعلى أنه انعكاس مرآوي. والمشكلات التي تعبر عن التخلف ليس من الضروري أن تنعكس في الثقافة. ولربما يكون الأدب أكثر تقدماً من الواقع فعلى سبيل المثال نجد أن روسيا القيصرية كانت أكثر تخلفاً مقارنة بالدول الاوروبية الرأسمالية الا انها من الناحية الثقافية والادبية كانت أكثر تقدماً من بقية الدول وخاصة في مجال الأدب الواقعي والإنساني الذي اتسم بقدرة كبيرة على التحرر الروحي. وهذا معناه أن الناس فى فترة معينة وفي غمرة المشكلات الكبرى وفى فترات التمزق يتطلعون إلى آفاق أبعد ويتجاوزون الأنظمة القائمة التي تعيق تطلعاتهم وتقدمهم الثقافي والروحي، وهنا بالضبط يلعب الأدب دوره في عملية التجاوز وينسف الأنظمة الاجتماعية المتخلفة ويصل بالناس إلى آفاق أكثر تقدماً ورحابة ويهيئهم لتغييرات روحية ثقافية واجتماعية.
هل بإمكان الأدب أن يحدث تغييرات سياسية جذرية؟
بالطبع لا. الأدب غير قادر على ذلك ولكنه قادر على أن يحضر تحضيراً عميقاً لروحية الإنسان من أجل التغيير بمعنى أنه يهيئ الأرضية لارتباطه بالاجابة عن الأسئلة الكبرى. وعندما يتأثر الناس بهذا الأدب الحقيقي يتحول هذا التأثير إلى قوة جماهيرية تساهم في تغيير الحياة.
والأدب هو رافد من روافد الحقيقة التي تمهد للتغير فمثلا شكسبير لم يحطم نظاماً اجتماعياً ولكن مسرحياته بقيت زادا مهما للبشرية تنهل منه بسبب معالجاته للقضايا الكبرى لدى الإنسان.
وفي البحرين أو الخليج نجد أن الأدب الذي يساهم في التحولات غير موجود. الا ان هناك بذورا أو جوانب مهمة تؤثر على فئات من الناس وفي مدى السنوات القادمة سوف تتسع عملية التأثير أما في لحظتنا الراهنة فنلاحظ أن الموجات الارتدادية والسلفية والمتخلفة هي التي تحاول أن تظهر على السطح وان تعرقل النمو الروحي والتطور الاجتماعي. وهذا ما نشاهده من انحسار للأدب وظهور حوانيت صغيرة تدعي الأدب وعدم اهتمام وسائل الإعلام بالأدب حقى ان الكتّاب يعانون من صعوبات الحصول على لقمة العيش وكذلك المثقفون.

ولكن الفترات الصعبة التي تمر بها الشعوب كثيراً ما تكون دافعاً لظهور كتاب عظماء لماذا لا يوجد لدينا كذلك؟
لا شك أن كبار الكتَّاب يحتاجون الى مواهب كبيرة وان التطور الاجتماعي يساهم في ظهور مثل هذه المواهب كما أن المواهب الكبيرة ليست منفصلة عن التطور الاجتماعي ومثال على ذلك أن الكاتب الروسي دوستويفسكي لم يكن بالامكان ان يظهر في القرن 18 ولكنه ظهر في القرن 19 وهذا يعود لأسباب تطورية اقتصادية واجتماعية وثقافية تراكمت لتهيئة الجو المناسب لظهور مثل هذه الموهة لابداع الروائع التي ابدعها. وينطبق نفس الأمر على شكسبير، الشروط الموضوعية تلعب دوراً لخلق مثل هؤلاء الكتاب بالإضافة إلى الجوانب التراثية المتمثلة في الأبعاد النفسية والقدرات والجوانب الفكرية. اما في الخليج فإن التطور التاريخي لا يتجاوز 20 أو 30 سنة فقبل عشرين سنة كان التخلف يضرب بجذوره عميقاً في المجتمع، الأمية، الأكواخ، الفقر، المرض، في ظل هذه الوضعية كيف يمكن أن يظهر كاتب عظيم؟ ومع ذلك نجد الجانب الآخر إن البحرين، وخلال عشرين سنة، استطاعت أن تقوم بنهضة أدبية وفنية كبيرة وانطلاقاً من الصفر الى القصة القصيرة الى القصيدة الحديثة والروايات المتعددة.
حتى اننا وجدنا انفسنا ننافس بعض الدول العربية كاليمن أو الاردن وعلى الرغم من صغر حجم البحرين سكاناً ومساحة، يظهر لدينا شعراء وقصاصون مهمون على مستوى الوطن العربي. وان نخلق مسرحاً ونقداً ورواية في ظل هذه الظروف الصعبة، انجاز هام جدا الا أنه لا يكفي. كما أن غير المنشور من الابداعات كثير فلديّ مثلا روايتان غير منشورتين ومجموعة قصصية غير منشورة وكتابان نقديان غير منشورين. وهذا يعود للظروف المحيطة في منطقة اتجهت للبذخ والترف والابتعاد عن الثقافة وأيضا الى صعوبة حياة الأدباء والأدب.

هل الأدب الجيد هو بالضرورة أدب جماهيري؟
ليس بالضرورة لأنه في فترة محددة لا يستطيع الأديب أن يكون جاهيرياً. وهذا مرتبط بعادات المتلقين والقراء وربما لأنهم يتجهون لأنواع فنية اخرى قد تكون مبتذلة. والكاتب الجيد لا يستطيع الوصول الى هؤلاء الناس. اضافة الى ذلك هناك قدرة الكاتب على توصيل ادبه. إذ يوجد كتاب يستطيعون بأدبهم العميق أن يكونوا جماهيريين ومن هؤلاء حنا مينة بسبب قدرته على التوصيل وتجسيد رواياته بطرق مقبولة من الجمهور.
وفي جانب آخر نجد كتاب مرموقين لكنهم يفتقرون للجماهيرية وهذا يعود الى طريقة تجسيدهم لابداعاتهم. فمثلاً ماياكوفسكي في الثلاثينات لم يكن جماهيرياً. والمعروف أن أذواق الجمهور حينذاك كانت من نمط جمالي معين. ومع تطور الابداع والذوق الجمالي اتسع بالتالي تذوق ماياكوفسكي. الجماهيرية ليست بالضرورة مقياساً للجودة، فالقصة البوليسية من أكثر الروايات رواجاً. الا ان الاديب الجيد هو من يحاول ان يوفق بين المضمون العميق لما يكتب وبين الشكل المعبر والموصل ولا يوجد تناقض بين جماهيرية الأدب وجودته.

ما المقصود بالجمهور؟
يتحدد الجمهور كما يتحدد الأدب بارتباطه بالتطور التاريخي والاجتماعي وإلى أي درجة من التطور وصل هذا المجتمع. وما هي درجة الأمية إضافة إلى التربية الجمالية للناس ضمن المجتمع وكذلك درجة الوعي ودرجة الصراعات وقضايا النضال السياسى، كل هذه الأمور تؤثر بهذا القدر أو ذاك على خلق جماهير الشعر.
ما هو جديدك القادم؟
كما قلت لك لديّ روايتان ومجموعة قصصية ومسرحية وكتابان نقديان أحدهما يتناول كاتباً محدداً إو يعالج تطوره الابداعي وقضاياه وبشكل مكثف ويربطه بمختلف جوانب الحياة اجتماعياً وثقافياً. وكل هذه الكتب جاهزة للنشر…

الجيل القديم لا يواكب المرحلة الجديدة

حاوره: جعفر الديري

على هامش العرض المسرحي الذي تقدم به مسرح الجزيرة في عرضه لمسرحية «السادة النواب» التقت «الوسط» بالكاتب والناقد البحريني عبدالله خليفة عضو لجنة تحكيم الأعمال المسرحية في حديث عن المسرح البحريني والتصورات والطرح الجديد الذي تقدمه المؤسسات والمسارح الأهلية…

هذه المسرحيات التي تعرض ضمن نطاق المؤسسات الخاصة والمسارح الأهلية هل تختلف عن تلك التي تعرض ضمن نطاق حكومي سواء في تجربتنا نحن في البحرين أو على مستوى الخليج العربي؟

ذلك راجع الى النص والعرض، بمعنى هل يتجه النص والعرض الى قضايا عميقة، هل يقدم تقنيات جديدة هل هو على مستوى متطور، فكل هذه الجوانب هي التي تبين مدى جودة أو سوء العرض، اذ ان هناك مقاييس عامة فنية فكرية هي التي تحدد ذلك وليس طبيعة المنتج سواء كان شركة خاصة أو حكومية أو كان فرقة هواة أو أية مجموعة تقوم بالعمل، فالمهم كيفية بناء العمل وتجسيد الدلالات الفكرية والفنية على الخشبة ومستوى أداء الممثلين فيما يطرحون وما يحشدون من أحلام الناس.

ولكن ألا يمكن أن يشكل غياب الدعم المالي بالنسبة إلى المؤسسات الخاصة أو المسارح الأهلية عائقا أمام الانتاج المسرحي الجيد؟

لا تشكل الموازنة عائقا حقيقيا أمام أي مبدع يريد أن يجسد ما يختلج في نفسه سواء كان مؤلفا أو كاتبا مسرحيا أو كان رساما أو ممارسا لأي شكل من أشكال الابداع، فالمهم ماذا يدور في داخله وماذا يريد أن يجسد ومن ثم يستطيع أن يتغلب على العقبات كافة. ولكن الحافز الروحي العميق بعرض قضايا الحياة والناس تلاشت عند الكثير من الفنانين والمجموعات المهتمة بالشأن الفني، اذ يهتمون بشكل أساسي بمسائل الأرباح والشهرة، ولكن مسائل العرض الجميل والتأثير في الحياة مفقودة عند الفنانين عموماً، وعلى ذلك لو توافرت لديهم هذه القوة الروحية والفكرية لكان بامكانهم التغلب على أية عقبة، خذ مثلا السينما الايرانية فهي في بلد فقير جدا ولكن هذا البلد الفقير يفوز بجوائز سينمائية عالمية مع أنه ليست لديه امكانات مادية أو تقنية حتى، ولكن النخب الفنية في مجموعات بسيطة من الفنانين العاملين في مجال السينما يحترقون من أجل فنهم ويقرأون ويتابعون ويضحون بالكثير لكي يؤسسوا فنا سينمائيا جميلا، ولكنك تلاحظ أن الفن السينمائي العربي وخصوصا المصري وعلى رغم الامكانات الضخمة من أموال واستوديوهات فإنه ينتج أفلاما في منتهى الرداءة، فالمسألة اذاً ليست مسألة امكانات ولكن مسألة روح ومواقف وتأثير.

ولكن ألا توجد أهمية للمال في العرض المسرحي، فالمسرحية تحتاج الى عدة أمور لتبدو بشكل جيد قادر على استثارة المشاهدين وتشجيعهم؟

اعتراضا على هذا الكلام أقول انه عندما كان البلد فقيرا وكانت المسارح فقيرة والمثقفون فقراء في نهاية الستينات ومطلع السبعينات كان الفنانون ينتجون أعمالا أكثر جمالا وقربا من الناس، وكانوا في خلق مستمر وانتاج مستمر، ولكن عندما زادت أموالهم أصبحت اهتماماتهم مادية وتجارية فتقلص عندهم الدافع الروحي والثقافي لانتاج أعمال ابداعية، فبالتالي أصبحوا عاجزين ليس لضعف الأموال لديهم ولكن بسبب تراجعهم في الاهتمام بالثقافة وتحليل الحياة والاقتراب من الناس والابتعاد عن التغلغل في مشكلات الحياة وقضاياها، فحب التطور والاصلاح هو ما يخلق فنا عظيما. مايكل أنجلو مثلا لم يكن له رصيد في بنك البابا! ولكنه كان يرسم أكثر من اثنتي عشرة ساعة يومياً وهو متعلق بسقف الكنيسة، فهي عملية تضحية أساسا، ولكن الآن قلّت هذه التضحية. وهذا شأن لا يتعلق بالفن والمسرح فقط ولكنه شأن الثقافة عموماً، فاذا قمت بالتضحية من أجل الثقافة تهون كل الأشياء وتكون لديك قدرة على الانتاج. ولكن الآن تغير الأمر فلم تعد لدى الفنان القدرة على اعادة خلق الحياة ولم تعد لديه قدرة على خلق نماذج مشوهة في الحياة وتعريتها بحيث تعطي الجمهور دفعة جديدة، اذ نلاحظ مع تحولات ومحاولات الحريات المطروحة في الثقافة والحياة السياسية أنهم (أي الفنانين) غير قادرين على نقد أي شيء في الحياة على رغم أنهم كانوا يقولون ان الرقابة كانت السبب في منعهم من عرض مشكلات الناس، فالمشكلة اذاً داخلية لديهم أكثر منها قضايا خارجية تتمثل في الموازنة أو الرقابة أو هيمنة الدولة.

الصورة التي حفظها تاريخ المسرح العالمي «لموليير» وجريانه وراء تأسيس المسرح وعروضه المسرحية التي كان يدور بها من مكان الى آخر هل هي صورة لا تتوافر لدينا أبدا، بمعنى أن المخلصين الذين يعتد بهم تلاشوا تماما؟

هناك مخلصون طبعا وهناك قلة من المستميتين في الانتاج الفني والمسرحي بأشكال بطولية أحيانا وهو أمر لا ينكر، ولكن يتم التوجه دائما ناحية توجهات معينة من الفنون الصعبة والغرائبية أو غير الشعبية. وموليير كان يحاول أن يمزج بين تقنيات الفن الجديد والوصول للناس اذ ان عملية المزج هذه هي التي تنقذ المسرح على مستوى تطور التقنيات الفنية وعلى مستوى تطوره كمسرح يعتمد على التذاكر. ولكن هنا في البحرين أصبح المسرح لا يعتمد على التذاكر لأنه لا يتجه الى الناس ولا يقوم بعرض جوانب معينة جماهيرية تجذب الناس، فبعض المسرحيين يقومون أحيانا بعمليات استخفافية بعقول الناس فهم يعرضون نماذج ليست نقدية جميلة وانما كاريكاتيرية ويتجهون الى الاسفاف على أساس أنه أسهل طريقة للشعبية ولكن هذا في حقيقة الأمر يعتبر إضرارا بالشعبية ذلك أن الشعب ليس غبيا بحيث أنه يقبل بأي طرح، فالشعب يريد أن تطرح نماذج شعبية ناقدة للحياة وتعطي متعة معينة، فحتى على مستوى المسرح في الخليج مثلا دولة الكويت استطاعت أن تخلق مسرحا جماهيريا ومتعة فنية لذلك وفرت الجانب النقدي في الحياة الاجتماعية وجانب المتعة، فأنت عندما تقوم بالاهتمام بالجوانب الفنية وتقطعها عن مجمل العملية الفنية، فإن ذلك سيؤدي الى ضمور المسرح، فالمسرح لا يعتمد فقط على الأدوات الفنية بل على المناقشة مع الناس، وما يجري الآن هو محاولة احتضان من قبل المؤسسات الحكومية لمسرح غير قادر على الصمود أو على الاعتماد على نفسه بشكل حقيقي.

فهل تجد أن المسارح البحرينية مبالغة في تصوير المشكلات التي تعترضها؟

الكلام عن هذه المشكلات ما هو الا تبرير لمشكلات فكرية وابداعية تعاني منها المجموعات الفنية، ففي بداية المسرح في البحرين كانت المسرحيات تعرض في أماكن متعددة وبسيطة جدا في عروض معقولة، فهل كانت الموازنة في ذلك الوقت كبيرة؟! اذاً لا توجد عوائق حقيقية تواجه الفنان وهو يستطيع أن يقدم الجيد، فلو كانت هناك مجموعات مسرحية فكرية مرتبطة بالأحزاب التقدمية أو مرتبطة بالجمعيات المناضلة في البحرين لأمكن ايجاد مسرح بحريني شعبي حقيقي، لكن الكثير من الفنانين غير مرتبطين بالحركات المعارضة التقدمية أو الديمقراطية فهم يعيشون في عزلة، لكن الفنون الآن تتطلب مسائل أخرى واجتهادات مختلفة، والبحرين اليوم في مخاض ويمكن في السنوات الأخيرة أن تخرج من الحركات الاجتماعية الأخرى مسارح جديدة وامكانات جديدة اذ اصبح الجيل القديم غير قادر على متابعة المرحلة الجديدة التي يمر بها البلد والعالم عموما.

 

إشكالية البحر والواقع 

ــ اشكالية البحر في أدب عبدالله خليفة، وتوتر هذه العلاقة بين انسان الجزيرة والبحر كما طرحتْ في روايتك ‹اللآلي›، كيف تقرأها لنا؟

إشكالية البحر والواقع

إن البحر شكلَّ خلفيةَ القصة القصيرة في البحرين والخليج العربي ، فمنذ بدأت هذه القصةُ فإن أقدامَها الصغيرة كانت تخوضُ في المياه وفي المصائد المليئة بالخناجر والشباك، وبهذا كانت الرواية ابنة البحر والغوص ، الذي راحت تنزع أرديته وهي تدخلُ في العصر .

حين كنا أولاداً كانت عباءة الغوص الرمادية المزدانة بالقواقع والشوك والمحار والدماء تنفضُ أشباحها على خيالاتنا الصغيرة ، فنروح نسبحُ فيها فناً ، ونشكلُ أوجاعَ ذلك الإنسان السابق عبر القصة والرواية ، وهكذا تشكلت أولى الروايات البحرينية وهي تمزج بين معاناة بحارتنا وبين عذاباتنا كشباب يتفتح على العمل النضالي الوطني ، وحين كتبتُ ( اللآلىء ) في إحدى الزنازين ، حاولتُ أن أستخدم أحدث القتنيات الفنية وهي عملية المنولوج المطول للربان الذي كان يقودُ الغاصة في رحلة التيه والعذاب والصراع ، تجنباً لأسلوب العرض الواقعي التسجيلي المبسط ، وهكذا فإن البحر والسجن والتأمل والصراع ولدوا تجربة الرواية ، فالبحرهو تاريخ المنطقة وتراثها وليس هو المياه والجزر والينابيع فقط ، هو الماضي التقليدي القريب ، الذي لا يزال ينزف في أجسادنا وكلماتنا . .

إنه الربان غير التقليدي ، واللغة والمكان والتراث كانت تحاول أن تتحدث وتغدو عصرية متحررة ، مثل البلد مثل أجسامنا المحصورة في صناديق سافرة . .

ــ كونك مشروع ثقافي ، فكيف تنظر الى مستوى الثقافة الخليجية ، وكيف لك أن تقرأها على مستوى الرواية ؟

رواية الخليج

غدت اهتماماتي كثيرة ، ومنها عملية النظرِ إلى النوع الروائي وهو يتشكلُ في الجزيرةِ العربية والخليج ، وقد جرى هذا الاهتمام عبر القراءة الحرة أولاً ثم عبر طلبات تقدمت بها منتدياتٌ وندواتٌ لعرضِ تجربة المنطقة ، في هذا النوع الإبداعي الذي راح ينمو بسرعةٍ كبيرة ، فقدمتُ دراسات كانت عملية تتبع مستمرة على مدى العقدين السابقين لنشوء وتطور الرواية في المنطقة ، كانت الدراسات تتجه نحو مواقع روائية وتجارب روائية محددة ، عبر التركيز على عمل روائي أو مجموعة من الروايات لكاتب واحد ، وبعدها غدت دراسة واسعة لتجارب كثيرة .

وهذه العملية قادتني إلى استنتاجات ، هي بمثابة اكتشافات للنصوص وللواقع الذي ظهرت فيه ، فكانت هناك بنيتان للرواية ؛ بنية ما قبل الرواية ، وبنية الراوية ، وبنية (ما قبل الرواية) هي بنية منتشرة سائدة تتمثل في تشكيلات قصصية مهلهلة لا ترتكز على محاور بنائية قوية ، ولا على نماذج ولا على أحداث جوهرية مغروزة في الواقع ، بل تستند على مغامرات تطفح على الأشياء والعلاقات ، وبنية الرواية المضادة والمتنامية بخلاف تلك الأشكال الخاوية ، وهي ترتكز على مدى تقدم الوعي الفني الواقعي ، وفهمه لتطور التاريخ والإنسان، ولهذا فإننا نجد في رواية الخليج الحقيقية المحاولات الأولى العميقة لدرس وتفحص الحياة الاجتماعية وكيفية سيرورة المشاعر والأفكار ، لكن هذه الوراية الجادة لا تلاقي رواجاً لأسباب كثيرة ، حيث يقبل الشباب خاصةً على رواية التسلية . .

إنني أجد في بعض كتابات الشباب في السعودية وعمان محاولات جريئة لاختراق شبكة العلاقات المستورة بأشكال كثيرة من النفاق والبهرجة والخداع ، فتجد كتابات تنفذ إلى صراعات الفقر والغنى ، الفساد وقوته وانتشاره والأنتماء وضعفه ، وندرة نماذح المقاومة في واقع رث متخلف أمي . .

ــ إن حضور التاريخ في أعمالك يشكل ذاكرة وطنية ، فكيف ينظر الآخرون اليها ، وهل أوقعك هذا التاريخ في صدام مع السلطة والآخرين ؟

التاريخ في الرواية

تغدو الرواية روايةً تاريخية حين تتوجه إلى مساحة زمنية سابقة وتعرضها بأساليبها المختلفة .

كنتُ قبل أيام أقرأ كتاب جورج لوكاش (الرواية التاريخية) بعد أن كنتُ قرأته سابقاً ، لكنني رحتُ أقرأه في هذا الوقت وأتتبع عملية رصده للرواية التاريخية عالمياً ، في القراءة الأولى كنتُ أتفق معه كثيراً ، في القراءة الثانية صرتُ أختلف معه كثيراً !

لكن هناك حكمٌ لديه يظل هاماً وهو أن الرواية سواء كانت اجتماعية معاصرة أم رواية تاريخية ، ينبغي أن تكون ممتعة ، غنية بقدرتها على تحليل وتجسيد الإنسان والحياة والتاريخ ، لكن هناك النموذج المبسط في رواية (والتر سكوت) البريطاني ، والنموذج العميق عند تولستوي مثلاً . لكن النموذجين يحافظان على بنية روائية ممتعة وغنية . لكن العديد من الروايات التي يعرضها لوكاش في كتابه لأسماء لامعة ليست بمثل ذلك الوهج المفترض كمدحه لمسرحيات جوركي مثلاً أوتنقيصه من أهمية زولا . .

ولكن الرواية التاريخية عربياً لم تكن بذلك الغنى العالمي رغم ضخامة التاريخ العربي . لقد قمتُ بدرسِ هذه الرواية لدى جورجي زيدان ونجيب محفوظ ، في دراسة لم تنشر في كتاب ، فكانت استنتاجاتي أن الرواية العربية التاريخية تحتاج إلى أعمال كبرى ، ولهذا عكفتُ على قراءة التاريخ والفكر العربيين ، من أجل أن أحضر نفسي لكتابة رواية تاريخية كذلك . .

وقد كانت الرواية التي كتبناها عن الماضي الخليجي القريب أشبه ما تكون برواية تاريخية ، لكنها رواية اجتماعية معاصرة في ظني. فهي تعرضُ وتنقد وتكشف نسيجاً اجتماعياً لا نزال نعايشه ، رغم أنه صار من التاريخ ، فلا توجد في الواقع سدود بين الرواية التاريخية والرواية الاجتماعية ، لكن الرواية التاريخية تتعلق بالتاريخ المنتهي ، في العصور السابقة .

ولهذا فأنا بدأت بالنوعين الممزوجين رواية اجتماعية ترتكزُ على التاريخ ، ورواية تاريخية ذات قراءة اجتماعية ، لكن التاريخ ليس هو التاريخ الفعلي المتحقق فقط ، أي الذي حدث فعلاً ، بل هناك كذلك التاريخ الذي لم يحدث ، وهو الجانب الذاتي المنسوج داخل ذلك التاريخ الفعلي ، ليس بغرض العرض المدرسي كما يفعل جورجي زيدان ، بل بغرض تحليل وتجسيد رؤية معينة للتاريخ وللحاضر كذلك . وبهذا تغدو الرواية عرضاً درامياً لإشكاليات الإنسان والسلطة والحقيقة الخ . .

ولهذا فإن الرواية حين تكون موضوعية غير متحاملة على الشخوص التاريخية الحقيقية ، فإنها لا تسبب مشكلات مع الناس ، أي حين تكون صدقاً وحتى لو كان جارحاً فهو مشرط تحليل وتشخيص . .

وعلى هذا الدرب كتبتُ (الينابيع) بثلاثة أجزاء لم تنشر مكتملة، وروايتين تاريخيتين (رأس الحسين) و(عمر بن الخطاب شهيداً ) لم تنشر كذلك حتى الآن .

  1. المقالات العامة
  2. جذور_الرأسمالية_عند_العرب
  3. عبدالله_خليفة القرامطة .. الجذور التاريخية
  4. عبدالله_خليفة : كائنات مستأنسة
  5. عبدالله_خليفة : ما هو حبل الله؟
  6. عبدالله_خليفة : إنساننا البسيط المتواضع
  7. عبدالله_خليفة : إيران بين الحصارِ والتراث
  8. عبدالله_خليفة : الدولةُ والدكتاتوريةُ الروسية
  9. عبدالله_خليفة : الرقص ودلالاته الاجتماعية
  10. عبدالله_خليفة : حلقي مليءٌ بالنارِ على وطني
  11. عبدالله_خليفة وداعاً صديق الياسمين
  12. عبدالله_خليفة وطنيون لا طائفيين
  13. عبدالله_خليفة إعادة إنتاج العفاريت
  14. عبدالله_خليفة الماركسية الأديان
  15. عبدالله_خليفة الإنتاجُ الفكري وضياعُهُ
  16. عبدالله_خليفة الانتهازيون والفوضويون
  17. عبدالله_خليفة تلاقي المستغِلين فوقَ التضاريس
  18. عبدالله_خليفة عدم التطور الفكري وأسبابه
  19. عبدالله_خليفة: تطورات الرأسمالية الحكومية الروسية
  20. (علمية) فيورباخ وتوابعهُ
  21. ‏‏‏‏‏‏مكونان لا يلتقيان
  22. ‏‏عبـــــــدالله خلــــــــيفة: أفــق ـ مقالات 2008
  23. ‏‏عبـــــــدالله خلــــــــيفة: قراءة جديدة لظاهرات الوعي العربي
  24. ‏‏عبـــــــدالله خلــــــــيفة: بلزاك: الروايةُ والثورةُ
  25. ‏‏عبـــــــدالله خلــــــــيفة: تنوير وتحديث نجيب محفوظ
  26. ‏‏عبـــــــدالله خلــــــــيفة: دوستويفسكي: الروايةُ والاضطهادُ
  27. ‏‏عبـــــــدالله خلــــــــيفة: صراع الطوائف أم صراع الطبقات؟
  28. 𝓐𝖇𝖉𝖚𝖑𝖑𝖆 𝓚𝖍𝖆𝖑𝖎𝖋𝖆 𝓦𝖗𝖎𝖙𝖊𝖗 𝒶𝓃𝒹 𝓝𝖔𝖛𝖊𝖑𝖎𝖘𝖙
  29. في الأزمة الفكرية التقدمية: عبـــــــدالله خلــــــــيفة
  30. قناةُ الجزيرةِ وتزييفُ الوعي العربي
  31. قد بيان الحداثة لــ أدونيس
  32. قصة الأطفال عند إبراهيم بشمي
  33. قصص من دلمون
  34. كتاب ايديولوجي لعبدالله خليفة
  35. كريستين هانا
  36. لينين في محكمةِ التاريخ
  37. لينين ومغامرة الاشتراكية
  38. من أفكار الجاحظ الاجتماعية والفلسفية
  39. من ذكرتنا الوطنية عبدالله خليفة
  40. موقع عبـــــــدالله خلــــــــيفة على You Tube
  41. ماجستير الأدب البحريني ـ آثار عبدالله خليفة
  42. ماركس الرمزي وشبحية دريدا
  43. مبارك الخاطر: الباحث الأمين المسؤول عن بقاء الضوء في الماضي
  44. محمود أمين العالم والتغيير
  45. محمد أمين محمدي : كتب – عبدالله خليفة
  46. مراجعة للعنف الديني
  47. مراجعةٌ للعنفِ الديني
  48. مستويات السرد .. الدلالة والسياق عبـــــــدالله خلــــــــيفة
  49. مسرحية وطن الطائر
  50. مسرحية الأطفال عند علي الشرقاوي
  51. نموذجانِ مأزومان
  52. نحن حبات البذار
  53. نحن حبات البذار عبدالله خليفة
  54. هل حقاَ رحل صاحب القلب الأبيض؟
  55. وهي قد تكسرُ البشرَ وخاصة المبدعين والمثقفين!
  56. وعي محمود إسماعيل
  57. وعي الظاهر والباطن
  58. وعبادةُ النصوص
  59. يوسف يتيم : دراسة تطبيقية لرواية الجذوة على ضوء المنهج الواقعي
  60. يحيى حقي: كتب – عبدالله خليفة
  61. أيوب الإنسان: عبـــــــدالله خلــــــــيفة
  62. أخوان الصفا
  63. أدب السجون: إجابة على أسئلة جريدة الوطن
  64. أدب الطفل في البحرين
  65. أزمة اليسار
  66. أسلوب القصة عند الجاحظ في (البخلاء)
  67. أسلوب الإنتاج الكولونيالي أو رأس المال الحـكومـي الشـــــــــرقي
  68. أسباب الانتهازية في اليسار
  69. إنتاجُ وعيٍ نفعي مُسيَّس
  70. إحترام تاريخ اليسار – كتب: عبدالله خليفة
  71. الفكرة ونارها: عبـــــــدالله خلــــــــيفة
  72. القائد والمناضل عبـــــــدالله خلـــــيفة ‏‏‏‏‏‏ مفكراً وأديباً وروائياً بحرانياً
  73. الكلمة من أجل الإنسان
  74. الليبرالية في البحرين
  75. المفكر اللبناني كريم مروة
  76. المنبتون من الثقافة الوطنية
  77. المذاهب الإسلامية والتغيير كتب: عبـدالله خلــيفة
  78. المرأة والإسلام
  79. الولادة العسيرة لليسار الديمقراطي الشرقي
  80. الوعي والمادة
  81. الوعي الجدلي في رسالة الغفران لأبي العلاء المعري
  82. اليسار في البحرين
  83. اليسار في البحرين والانتهازية
  84. اليسار والميراث الديني
  85. اليسار البحريني يخسر «عفيفه الأخضر»
  86. الأعمال الصحفية الكاملة. أفـــــق، 2024
  87. الإسلام السياسي كمصطلح غربي
  88. الانتهازية الفكرية عبـــــــدالله خلــــــــيفة
  89. الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الاسلامية.
  90. البطل الشعبي بين الماضي والحاضر
  91. التحرير تبقى عاليا ومضية كتب عبدالله خليفة
  92. التضحوي والاستغلالي
  93. التطور الفلسفي العربي الحديث المبكر .. عبــدالله خلــيفة
  94. الحدثُ الأوكراني ودلالاتُهُ الديمقراطية
  95. الحربائيون
  96. الرواية الخليجية لم تتجذر في الأرض بعد
  97. السودان بحاجة إلى الديمقراطية والسلام
  98. الساقطون واللاقطون ــ كتب : عبـــــــدالله خلـــــــيفة
  99. الصحراويون والزرع
  100. الطبقة العاملة الهندية في البحرين
  101. العناصر الفكرية في الشيوعية العربية
  102. انتصار للطبقة العاملة في العالم بتنصيب الرئيس لولا دي سيلفا رئيسا للبرازيل
  103. اتحاد الكتاب العرب في سورية| ينعي الأديب البحريني عبـــــــدالله خلــــــــيفة ‏‏‏‏‏‏
  104. بيع كتب ومؤلفات عبـــــــدالله خلــــــــيفة
  105. تكويناتُ الطبقةِ العاملةِ البحرينية : عبـــــــدالله خلــــــــيفة
  106. تناقضات الماركسية – اللينينية
  107. تآكل التحديثيين ونتائجه
  108. تجاوز الشللية والقرابية ــ كتب: عبـــــــدالله خلـــــــيفة
  109. تحدياتُ الحداثة في الوعي الديني
  110. تحدياتُ العلمانية البحرينية
  111. تداخلات جبهة التحرير والمنبر الديمقراطي – كتب: عبدالله خليفة
  112. تعريف العلمانية
  113. تعريف العلمانية عبدالله خليفة
  114. ثقافة الانتهازية: كتب – عبـــــــدالله خلــــــــيفة
  115. جمعية التجديد الإسلامية
  116. جورج لوكاش … تحطيم العقل !
  117. جبهة التحرير الوطني البحرينية باقية والمنبر التقدمي شكلٌ مؤقت وعابر
  118. جذور الرأسمالية عند العرب
  119. حكمٌ دستوري وإلهٌ عادلٌ
  120. حوار مع الكاتب عبدالله خليفة: المؤلف الجيّد عاجز عن الوصول الى الناس
  121. حوار مع عبدالله خليفة
  122. حوار المفكر العلماني صادق جلال العظم
  123. رفاق الطريق
  124. رفعت السعيد والسرد السياسي
  125. روسيا ودعم الدكتاتوريات
  126. روسيا الدكتاتورية
  127. رأس المـــال الحـكومــــي الشـــرقي ــ أو أسلوب الإنتاج الكولونيالي
  128. سردية الانكسار والانتصار في رواية  «التماثيل»: عبدالله خليفة
  129. صراع الطوائف والطبقات في فلسطين : كتب-عبدالله خليفة
  130. ضيعة الكتب ضيعة كبيرة. أصدقاء الكاتب لا يعرفون عناوين كتبه.
  131. طفوليةُ الكلمةِ الحارقة
  132. طفوليةُ الكلمةِ الحارقة : عبدالله خليفة
  133. ظهور المادية الجدلية: كتب- عبدالله خليفة
  134. علي الشرقاوي
  135. عودةُ الحداثيين لطوائفهم
  136. عبـــــــدالله خلــــــــيفة
  137. عبـــــــدالله خلــــــــيفة .. الفكرُ المصري ودورُهُ التاريخي
  138. عبـــــــدالله خلــــــــيفة : «الكلمة من أجل الإنسان»
  139. عبـــــــدالله خلــــــــيفة : في الأزمة الفكرية التقدمية
  140. عبـــــــدالله خلــــــــيفة : فيلم الشاب كارل ماركس
  141. عبـــــــدالله خلــــــــيفة : فالح عبدالجبار
  142. عبـــــــدالله خلــــــــيفة : فصيلٌ جديدٌ لا يعترفُ بالحداثة وقوانينها
  143. عبـــــــدالله خلــــــــيفة : قانون الإنتاج المطلق
  144. عبـــــــدالله خلــــــــيفة : كلمة من أجل الكاتب
  145. عبـــــــدالله خلــــــــيفة : كاتب أدبيات النضال
  146. عبـــــــدالله خلــــــــيفة : لماذا يموتُ الشعرُ؟!
  147. عبـــــــدالله خلــــــــيفة : لولا تخاذل الحداثيين ما جاء الطائفيون
  148. عبـــــــدالله خلــــــــيفة : لويس أرمسترونغ ــ موسيقى الحياة الوردية
  149. عبدالله خليفة: ملاحظات حول مجموعة ــ الفراشات لأمين صالح
  150. عبـــــــدالله خلــــــــيفة : من أفكار الجاحظ الاجتماعية والفلسفية
  151. عبـــــــدالله خلــــــــيفة : من ذاكرتنا الوطنية
  152. عبـــــــدالله خلــــــــيفة : منعطفٌ تاريخي للعرب ‏‏
  153. عبـــــــدالله خلــــــــيفة : ميراث شمولي
  154. عبـــــــدالله خلــــــــيفة : نقادٌ مذعورون
  155. عبدالله خليفة: نجيب محفوظ من الرواية التاريخية إلى الرواية الفلسفية
  156. عبـــــــدالله خلــــــــيفة : نضال النساء في البحرين
  157. عبـــــــدالله خلــــــــيفة : و(الفولاذ) بعناه!
  158. عبـــــــدالله خلــــــــيفة : وردة الشهيد
  159. عبـــــــدالله خلــــــــيفة : أفـــق ـ مقالات 2010
  160. عبـــــــدالله خلــــــــيفة : أن تكتب الأدب في السجن
  161. عبـــــــدالله خلــــــــيفة: أسباب تمكن الحركات الطائفية من الاختراق
  162. عبـــــــدالله خلــــــــيفة : أشكال الوعي في البنية العربية التقليدية
  163. عبـــــــدالله خلــــــــيفة : إنّهُ المثقفُ العضوي!
  164. عبدالله خليفة: إعادة تشكيل الأسطورة الشعبية في ساعة ظهور الأرواح
  165. عبـــــــدالله خلــــــــيفة : الفقه والدكتاتورية المنزلية
  166. عبـــــــدالله خلــــــــيفة : الفنون في الأديان
  167. عبـــــــدالله خلــــــــيفة : القصة القصيرة الطلقة
  168. عبـــــــدالله خلــــــــيفة : الكلمة من أجل الإنسان ــ كارل ماركس
  169. عبـــــــدالله خلــــــــيفة : الكائنُ الذي فقدَ ذاته
  170. عبـــــــدالله خلــــــــيفة : الكتابة وظروفها إجابة على أسئلة
  171. عبدالله خليفة: المناضل والأديب والإنسان ــ تقديم المحامي عبدالوهاب أمين
  172. عبـــــــدالله خلــــــــيفة : المنبتون من الثقافة الوطنية
  173. عبـــــــدالله خلــــــــيفة : المثقفون العاميون
  174. عبدالله خلـيفة : المجموعة القصصية ــ ضــــوء المعتــــــــزلة
  175. عبـــــــدالله خلــــــــيفة : المرأة بين السلبية والمبادرة
  176. عبـــــــدالله خلــــــــيفة : النساء وضعف الخبرة السياسية
  177. عبـــــــدالله خلــــــــيفة : اليهودُ من التراث إلى الواقع
  178. عبـــــــدالله خلــــــــيفة : اليسارُ الديمقراطي واليسارُ المغامر
  179. عبـــــــدالله خلــــــــيفة : الأفكار والتقدم
  180. عبـــــــدالله خلــــــــيفة : الأديان والماركسية
  181. عبـــــــدالله خلــــــــيفة : الإصلاحيون الإيرانيون
  182. عبـــــــدالله خلــــــــيفة : البنية والوعي
  183. عبـــــــدالله خلــــــــيفة : البناء الفلسفي في أولاد حارتنا
  184. عبـــــــدالله خلــــــــيفة : البرجوازية والثقافة
  185. عبـــــــدالله خلــــــــيفة : التفككُ الثقافي
  186. عبـــــــدالله خلــــــــيفة : التبعية للدينيين
  187. عبـــــــدالله خلــــــــيفة : الثقافة والمثقفون البحرينيون
  188. عبـــــــدالله خلــــــــيفة : الثلاثة الكبار
  189. عبـــــــدالله خلــــــــيفة : الثورية الزائفة لمحطة الجزيرة
  190. عبـــــــدالله خلــــــــيفة : الحداثة مشروعان فقط
  191. عبـــــــدالله خلــــــــيفة : الدكتور عبدالهادي خلف مناضل أم ساحر؟
  192. عبـــــــدالله خلــــــــيفة : الدين والفلسفة عند ابن رشد
  193. عبـــــــدالله خلــــــــيفة : الرموزُ الدينيةُ والأساطير
  194. عبـــــــدالله خلــــــــيفة : الرهان على القلم
  195. عبـــــــدالله خلــــــــيفة : الراوي في عالم محمد عبدالملك القصصي
  196. عبـــــــدالله خلــــــيفة: الساقطون واللاقطون ــ المنبر اللاتقدمي مثالاً
  197. عبـــــــدالله خلــــــــيفة : الشاعر الكبير يوسف حسن و زهرة الغسق
  198. عبـــــــدالله خلــــــــيفة : العقل والحريــــــــــــة
  199. عبـــــــدالله خلــــــــيفة : العلوم والإنتاج والفلسفة
  200. عبـــــــدالله خلــــــــيفة : العمل والعمال والمصنع
  201. عبـــــــدالله خلــــــــيفة : العناصر الفكرية في الشيوعية العربية
  202. عبـــــــدالله خلــــــــيفة : العائلة والديمقراطية
  203. عبـــــــدالله خلــــــــيفة : تنوير نجيب محفوظ
  204. عبـــــــدالله خلــــــــيفة : تآكل الماركسية أم الماركسيين؟
  205. عبـــــــدالله خلــــــــيفة : تآكلُ الماركسيةِ في البحرين
  206. عبـــــــدالله خلــــــــيفة : تسلقُ البرجوازية الصغيرةِ الديني
  207. عبـــــــدالله خلــــــــيفة : تطورٌ حديثٌ حقيقي
  208. عبـــــــدالله خلــــــــيفة : تعدد الزوجات والحرية
  209. عبـــــــدالله خلــــــــيفة : ثقافةُ الديمقراطيةِ المتكسرة
  210. عبـــــــدالله خلــــــــيفة : جورج لوكاش وتحطيم العقل
  211. عبـــــــدالله خلــــــــيفة : جذور العنف في الحياة العربية المعاصرة
  212. عبـــــــدالله خلــــــــيفة : حكاية أديب
  213. عبـــــــدالله خلــــــــيفة: خفوتُ الملاحم
  214. عبـــــــدالله خلــــــــيفة: رموز الأرض
  215. عبـــــــدالله خلــــــــيفة: روحُ الأمة!
  216. : رأس المال الحكومي الشرقي – الطبقة العاملة في البحرين
  217. عبدالله خليفة : شقة راس رمان التي عاش فيها 21 عاماً وتوفى فيها.
  218. عبـــــــدالله خلــــــــيفة: صراع الطوائف والطبقات في فلسطين
  219. عبـــــــدالله خلــــــــيفة: ظهور المادية الجدلية
  220. عبـــــــدالله خلــــــــيفة: علم الحشرات السياسية
  221. عبـــــــدالله خلــــــــيفة: عن الديمقراطية
  222. عبـــــــدالله خلــــــــيفة: عالم قاسم حداد الشـعري
  223. عبـــــــدالله خلــــــــيفة: عبادةُ الشخوص
  224. عبـــــــدالله خلــــــــيفة كيف تلاشتْ النصوصُ الحكيمة؟
  225. عبـــــــدالله خلــــــــيفة كاتب وروائي
  226. عبـدالله خلـــيفة الأعمال الكاملة القصصية والرواية والتاريخ والنقدية
  227. عبـــــــدالله خلــــــــيفة السيرة الذاتية
  228. عبـــــــدالله خلــــــــيفة: قناةُ الجزيرةِ وتزييفُ الوعي العربي
  229. عبـــــــدالله خلــــــــيفة: كلنا إسلام سياسي!
  230. عبـــــــدالله خلــــــــيفة: لينين في محكمةِ التاريخ
  231. عبـــــــدالله خلــــــــيفة: أفكار سياسية دينية
  232. عبـــــــدالله خلــــــــيفة: ألفُ ليلةٍ وليلة . . السيرة السحرية
  233. عبـــــــدالله خلــــــــيفة: أغلفة الكتب
  234. عبـــــــدالله خلــــــــيفة: النظر بموضوعية في تاريخ الإنسان
  235. عبـــــــدالله خلــــــــيفة: الوعي الديني والبنية الاجتماعية
  236. عبـــــــدالله خلــــــــيفة: الأيديولوجيات العربية والعلم
  237. عبـــــــدالله خلــــــــيفة: الأزمة العقلية للثورة
  238. عبـــــــدالله خلــــــــيفة: الانتماءُ والغربةُ
  239. عبـــــــدالله خلــــــــيفة: الباحث عن أفق تنويري عربي
  240. عبـدالله خليفة: البحرين جزيرةُ الحريةِ الغامضةِ في العصر القديم
  241. عبـــــــدالله خلــــــــيفة: الخيال والواقع في الأديان
  242. عبـــــــدالله خلــــــــيفة: الرمزيةُ وأهميتُها
  243. عبـــــــدالله خلــــــــيفة: العصبيةُ والعمرانُ
  244. عبـــــــدالله خلــــــــيفة: بؤرةُ الوهمِ قديماً وحديثاً
  245. عبـــــــدالله خلــــــــيفة: بروليتاريا رثةٌ: برجوازيةٌ ضعيفة
  246. عبـــــــدالله خلــــــــيفة: تفتيتُ المكونات
  247. عبـــــــدالله خلــــــــيفة: تبعية العلمانيين للدينيين ــ جذورها ونتائجها
  248. عبـــــــدالله خلــــــــيفة: تحليلٌ لكلامٍ مغامر
  249. عبـــــــدالله خلــــــــيفة: تحديث نجيب محفوظ
  250. عبـــــــدالله خلــــــــيفة: تدهور مكانة المرأة واتساع الرقيق
  251. عبـــــــدالله خلــــــــيفة: تركيب حضاري
  252. عبـــــــدالله خلــــــــيفة: تطور الوعي الديني في المشرق القديم
  253. عبـــــــدالله خلــــــــيفة: ثرثرةُ الوعيِّ اليومي
  254. عبـــــــدالله خلــــــــيفة: حريات النساء مقياس للديمقراطية
  255. عبـــــــدالله خلــــــــيفة: دعْ الإنسانَ حراً
  256. عبـــــــدالله خلــــــــيفة: رؤيتان للدين
  257. عبـــــــدالله خلــــــــيفة: سبينوزا والعقل
  258. عبـــــــدالله خلــــــــيفة: سذاجةٌ سياسيةٌ
  259. عبـــــــدالله خلــــــــيفة(تفتيتُ المكونات)
  260. عبـــــــدالله خلـــــــيفة : مسيرة نوال السعداوي
  261. عبـــــدالله خلــــــــيفة : اليسارُ والتكويناتُ الاجتماعية الدينية
  262. عبــداللـه خلـــــيفة . . الأقلف والبحث عن الذات
  263. عبــدالله خلـــــيفة .. مقاربة الشعر الجاهلي
  264. عبــدالله خلـــــيفة : قراءة لــ طه حسين
  265. عبــدالله خلـــــيفة : قراءة لـــ إسماعيل مظهر 
  266. عبــدالله خلـــــيفة : وعي النهضة لدى الطهطاوي
  267. عبــدالله خلـــــيفة : وعي النهضة عند سلامة موسى
  268. عبــدالله خلـــــيفة: إبراهيم العُريّض ــ الشعر وقضيته
  269. عبــدالله خلـــــيفة: المثقف العربي بين الحرية والاستبداد
  270. عبـدالله خلــيفة: عرضٌ ونقدٌ عن أعماله
  271. عبد الله خليفة: كانت الكلمات عاجزة عن البوح
  272. عبدالله خليفة
  273. عبدالله خليفة «الساعةُ آتيةٌ لا ريبَ فيها»
  274. عبدالله خليفة.. كي لا يُدفن مرتين !
  275. عبدالله خليفة : وحدة الماضي والمستقبل
  276. عبدالله خليفة : الاشتراكية والمستقبل
  277. عبدالله خليفة : البحرين في بدء التحديث
  278. عبدالله خليفة : التنوير الاجتماعي عند فرح أنطون
  279. عبدالله خليفة : التنوير الرومانتيكي عند جبران خليل جبران
  280. عبدالله خليفة : العقل والديمقراطية في وعي جورج طرابيشي
  281. عبدالله خليفة : بوخارين ومصير روسيا
  282. عبدالله خليفة : تنوير لويس عوض
  283. عبدالله خليفة : تنوير يعقوب صروف
  284. عبدالله خليفة : صراع اليسار واليمين في الإسلام
  285. عبدالله خليفة : صراع الطوائف أم صراع الطبقات؟
  286. عبدالله خليفة – الأعمال القصصية
  287. عبدالله خليفة – الأعمال القصصية – المجلد السابع
  288. عبدالله خليفة – الأعمال النقدية – المجلد الثامن
  289. عبدالله خليفة – الأعمال التاريخية
  290. عبدالله خليفة – الأعمال الروائية – المجلد السادس
  291. عبدالله خليفة قبل رحيله: المحن مؤذيةٌ وصعبة
  292. عبدالله خليفة كل الأشجار
  293. عبدالله خليفة من أجل الشعب اولا
  294. عبدالله خليفة نفعية في الكتابة
  295. عبدالله خليفة وقضية المرأة في الرواية الخليجية
  296. عبدالله خليفة يكتب عن نجيب محفوظ
  297. عبدالله خليفة أحد أهم الكتاب المخلصين لتجربتهم الفكرية
  298. عبدالله خليفة أزمة اليسار
  299. عبدالله خليفة إشكالية البحر والواقع
  300. عبدالله خليفة المخادعون
  301. عبدالله خليفة الوعيُّ القرآني قفزةٌ نوعي
  302. عبدالله خليفة الأعمال الكاملة
  303. عبدالله خليفة الأعمال الكاملة الروائية والقصصية والتاريخية والنقدية
  304. عبدالله خليفة الأعمال النقدية الكاملة
  305. عبدالله خليفة الأعمال الروائية والقصصية والتاريخية والنقدية الكاملة
  306. عبدالله خليفة الإسلامُ ثورةُ التجار
  307. عبدالله خليفة الجمهورُ و(الغوغاء)
  308. عبدالله خليفة الحلال والحرام في السياسة الراهنة
  309. عبدالله خليفة الرعب من الحب
  310. عبدالله خليفة السحر والدين
  311. عبدالله خليفة العقل والحرية
  312. عبدالله خليفة اسكرايب
  313. عبدالله خليفة جريدة النور
  314. عبدالله خليفة رائد الثقافة التنويرية البحرينية
  315. عبدالله خليفة عن المرأة
  316. عبدالله خليفة.. تحطيم الصورة وتكوينها
  317. عبدالله خليفة… حياته
  318. عبدالله خليفة: في التطورِ العربي العام
  319. عبدالله خليفة: فائض القيمة البحريني
  320. عبدالله خليفة: القحط في زمن النفط
  321. عبدالله خليفة: المسكراتُ وأحوالُ السياسة
  322. عبدالله خليفة: المغامرات اللغوية أبعدت القارئ عن الرواية
  323. عبدالله خليفة: الوعيُّ العربيُّ وتطوراته
  324. عبدالله خليفة: العربُ ونقدُ الواقع
  325. عبدالله خليفة: تنوير تقي البحارنة
  326. عبدالله خليفة: تنوير حسن الجشي
  327. عبدالله خليفة: تناقضات الوعي العربي تاريخياً
  328. عبدالله خليفة: تباين طرقِ التطور العربية
  329. عبدالله خليفة: شيعةُ العربِ ليسوا صفويين
  330. عبدالله خليفة: صراعاتُ الوعي العربي تاريخياً
  331. عبدالله خليفة: ضعفُ العقلِ النقدي
  332. عبدالله خليفة: فائض القيمة والاقتصاد السبعيني
  333. عبدالله خليفة: عبيب «مأكول خيره»..!
  334. عبدالله خليفة: عبدالناصر كإقطاعي
  335. عبدالله_خليفة الثلاثة الكبار
  336. عبدالرحمن بدوي
  1. General articles
  2. The_Roots_of_Capitalism_among_the_Arabs​
  3. Abdullah_Khalifa The_Qarmatians .. Historical Roots
  4. Abdullah_Khalifa : Domesticated Creatures
  5. Abdullah_Khalifa : What is the rope of God?
  6. Abdullah_Khalifa : Our simple, humble man
  7. Abdullah_Khalifa : Iran between siege and heritage
  8. Abdullah_Khalifa : The Russian State and Dictatorship
  9.  Abdullah Khalifa: Dance and its social implications
  10. Abdullah_Khalifa : My throat is filled with fire for my homeland
  11. Abdullah_Khalifa Farewell, friend of jasmine
  12. Abdullah_Khalifa : Patriots, not sectarian
  13. Abdullah_Khalifa Re-producing the Goblins
  14. Abdullah_Khalifa Marxism Religions
  15. Abdullah_Khalifa Intellectual Production and its Loss
  16. Abdullah_Khalifa Opportunists and Anarchists
  17. Abdullah_Khalifa encounters exploiters across the terrain
  18. Abdullah_Khalifa : Lack of intellectual development and its causes
  19.  Abdullah Khalifa: Developments in Russian State Capitalism
  20. ( Scientific) Feuerbach and his followers
  21. Two incompatible components
  22. Abdullah Khalifa: Horizons – Articles 2008
  23. Abdullah Khalifa: A New Reading of the Phenomena of Arab Consciousness
  24. Abdullah Khalifa: Balzac: The Novel and the Revolution
  25. Abdullah Khalifa: Enlightening and Modernizing Naguib Mahfouz
  26. Abdullah Khalifa: Dostoevsky: The Novel and Persecution
  27. Abdullah Khalifa: Sectarian conflict or class conflict?
  28. 𝓐𝖇𝖉𝖚𝖑𝖑𝖆 𝓚𝖍𝖆𝖑𝖎𝖋𝖆 𝓦𝖗𝖎𝖙𝖊𝖗 𝒶𝓃𝒹 𝓝𝖔𝖛𝖊𝖑𝖎𝖘𝖙    
  29. On the progressive intellectual crisis: Abdullah Khalifa
  30. Al Jazeera and the distortion of Arab consciousness
  31. Adonis’s statement on modernity
  32. Children’s stories by Ibrahim Bashmi
  33. Stories from Dilmun
  34. An ideological book by Abdullah Khalifa
  35. Christine Hannah
  36. Lenin in the court of history
  37. Lenin and the Adventure of Socialism
  38. Some of Al-Jahiz’s social and philosophical ideas
  39. Abdullah Khalifa, our national hero.
  40. Abdullah Khalifa’s website YouTube
  41. Master’s Degree in Bahraini Literature – Works of Abdullah Khalifa
  42. Marx’s symbolism and Derrida’s spectral nature
  43. Mubarak Al-Khater: The trustworthy researcher responsible for preserving the light in the past
  44. Mahmoud Amin, the world and change
  45. Mohammed Amin Mohammedi: Written by Abdullah Khalifa
  46. A review of religious violence
  47. A review of religious violence
  48. Levels of Narration: Meaning and Context – Abdullah Khalifa
  49. The Bird’s Homeland play
  50. Children’s play by Ali Sharqawi
  51. Two problematic models
  52. We are the seeds
  53. We are the seeds of Abdullah Khalifa
  54. Has the kind-hearted man truly passed away?
  55. It can break people, especially creative and intellectual individuals.!
  56. Mahmoud Ismail’s awareness
  57. awareness of the apparent and the hidden
  58. And the worship of texts
  59. Youssef Yatim: An Applied Study of the Novel “The Ember” in Light of the Realistic Approach
  60. Yahya Haqqi: Written by Abdullah Khalifa
  61. Job the Human: Abdullah Khalifa
  62. Brethren of Purity
  63. Prison Literature: An Answer to Questions from Al-Watan Newspaper
  64. Children’s literature in Bahrain
  65. The crisis of the left
  66. The storytelling style of Al-Jahiz in (The Misers))
  67. The colonial mode of production or Oriental state capital
  68. Reasons for opportunism on the left
  69. Producing utilitarian, politicized awareness
  70. Respecting the history of the left – Written by: Abdullah Khalifa
  71. The Idea and Its Fire: Abdullah Khalifa
  72. Leader and activist Abdullah Khalifa, a Bahraini thinker, writer, and novelist
  73. The word for humanity
  74. Liberalism in Bahrain
  75. Lebanese thinker Karim Mroue
  76. Rooted in national culture
  77. Islamic Schools of Thought and Change, by Abdullah Khalifa
  78. Women and Islam
  79. The difficult birth of the Eastern democratic left
  80. Consciousness and matter
  81. Dialectical consciousness in Abu al-Ala al-Ma’arri’s Epistle of Forgiveness
  82. The left in Bahrain
  83. The left in Bahrain and opportunism
  84. The Left and the Religious Heritage
  85. Bahraini left loses Afifa Al-Akhdar»
  86. The Complete Journalistic Works. Horizon, 2024
  87. Political Islam as a Western term
  88. Intellectual Opportunism – Abdullah Khalifa
  89. Idealist trends in Arab-Islamic philosophy.
  90. The folk hero between the past and the present
  91. Liberation remains high and bright, wrote Abdullah Khalifa
  92. Sacrificial and exploitative
  93. Early Modern Arab Philosophical Development… Abdullah Khalifa
  94. The Ukrainian event and its democratic implications
  95. chameleons
  96. The Gulf novel has not yet taken root.
  97. Sudan needs democracy and peace.
  98. The Fallen and the Pickers Up – Written by: Abdullah Khalifa
  99. Desert dwellers and agriculture
  100. The Indian working class in Bahrain
  101. Intellectual elements in Arab communism
  102. A victory for the working class worldwide with the inauguration of President Lula da Silva as President of Brazil.
  103. The Arab Writers Union in Syria mourns the passing of Bahraini writer Abdullah Khalifa.
  104. Selling books and writings by Abdullah Khalifa
  105. The Compositions of the Bahraini Working Class: Abdullah Khalifa
  106. Contradictions of Marxism-Leninism
  107. The erosion of modernization and its consequences
  108. Overcoming favoritism and nepotism – Written by: Abdullah Khalifa
  109. Challenges of modernity in religious consciousness
  110. Challenges facing Bahraini secularism
  111. Interventions of the Liberation Front and the Democratic Platform – Written by: Abdullah Khalifa
  112. Definition of secularism
  113. Definition of secularism by Abdullah Khalifa
  114. The Culture of Opportunism: Books – Abdullah Khalifa
  115. Islamic Renewal Society
  116. Georg Lukács… The Destruction of Reason !
  117. The Bahraini National Liberation Front remains, while the Progressive Tribune is a temporary and transient entity.
  118. The roots of capitalism among the Arabs
  119. Constitutional rule and a just God
  120. Interview with writer Abdullah Khalifa: A good author is unable to reach people
  121. Interview with Abdullah Khalifa
  122. Dialogue with secular thinker Sadiq Jalal al-Azm
  123. companions on the road
  124. Rifaat al-Saeed and the political narrative
  125. Russia and its support for dictatorships
  126. Dictatorship Russia
  127. Eastern state capital – or the colonial mode of production
  128. The Narrative of Defeat and Triumph in the Novel “The Statues”: Abdullah Khalifa
  129. Sectarian and class conflict in Palestine: Written by Abdullah Khalifa
  130. The book market is vast. The author’s friends don’t know the titles of his books..
  131. The childishness of the burning word
  132. The childishness of the burning word: Abdullah Khalifa
  133. The Emergence of Dialectical Materialism: Written by Abdullah Khalifa
  134. Ali Al-Sharqawi
  135. The return of modernists to their sects
  136. Abdullah Khalifa
  137. Abdullah Khalifa: Egyptian Thought and its Historical Role
  138. Abdullah Khalifa: “The word is for the sake of humanity.”»
  139. Abdullah Khalifa: On the Progressive Intellectual Crisis
  140. Abdullah Khalifa: The Young Karl Marx Film
  141. Abdullah Khalifa: Faleh Abduljabbar
  142. Abdullah Khalifa: A new faction that does not recognize modernity and its laws
  143. Abdullah Khalifa: The Law of Absolute Production
  144. Abdullah Khalifa: A word for the writer
  145. Abdullah Khalifa: Writer of resistance literature
  146. Abdullah Khalifa: Why does poetry die?!
  147. Abdullah Khalifa: Had it not been for the inaction of the modernists, the sectarianists would not have come.
  148. Abdullah Khalifa: Louis Armstrong – La Vie en Rose
  149. Abdullah Khalifa: Notes on the collection “Butterflies” by Amin Saleh
  150. Abdullah Khalifa: From Al-Jahiz’s social and philosophical ideas
  151. Abdullah Khalifa: From our national memory
  152. Abdullah Khalifa: A historical turning point for the Arabs
  153. Abdullah Khalifa: A Comprehensive Legacy
  154. Abdullah Khalifa: Terrified Critics
  155. Abdullah Khalifa: Naguib Mahfouz: From Historical Novel to Philosophical Novel
  156. Abdullah Khalifa: The Struggle of Women in Bahrain
  157. Abdullah Khalifa: And we sold (steel).!
  158. Abdullah Khalifa: The Martyr’s Rose
  159. Abdullah Khalifa: Horizons – Articles 2010
  160. Abdullah Khalifa: Writing Literature in Prison
  161. Abdullah Khalifa: Reasons for the ability of sectarian movements to infiltrate
  162. Abdullah Khalifa: Forms of Consciousness in the Traditional Arab Structure
  163. Abdullah Khalifa: He is the organic intellectual!
  164. Abdullah Khalifa: Reshaping the popular myth in the hour of the appearance of spirits
  165. Abdullah Khalifa: Jurisprudence and Domestic Dictatorship
  166. Abdullah Khalifa: The Arts in Religions
  167. Abdullah Khalifa: The Short Story Bullet
  168. Abdullah Khalifa: The Word for Man – Karl Marx
  169. Abdullah Khalifa: The being who lost himself
  170. Abdullah Khalifa: Writing and its circumstances: An answer to questions
  171. Abdullah Khalifa: The Fighter, the Writer, and the Human Being – Presented by Lawyer Abdulwahab Amin
  172. Abdullah Khalifa: Those who are uprooted from national culture
  173. Abdullah Khalifa: Popular Intellectuals
  174. Abdullah Khalifa: The Short Story Collection – The Light of the Mu’tazila
  175. Abdullah Khalifa: Women Between Passivity and Initiative
  176. Abdullah Khalifa: Women and the Lack of Political Experience
  177. Abdullah Khalifa: The Jews: From Heritage to Reality
  178. Abdullah Khalifa: The Democratic Left and the Adventurous Left
  179. Abdullah Khalifa: Ideas and Progress
  180. Abdullah Khalifa: Religions and Marxism
  181. Abdullah Khalifa: Iranian Reformists
  182. Abdullah Khalifa: Structure and Awareness
  183. Abdullah Khalifa: The Philosophical Structure in Children of Gebelawi
  184. Abdullah Khalifa: The Bourgeoisie and Culture
  185. Abdullah Khalifa: Cultural Disintegration
  186. Abdullah Khalifa: Subservience to Religious People
  187. Abdullah Khalifa: Bahraini Culture and Intellectuals
  188. Abdullah Khalifa: The Big Three
  189. Abdullah Khalifa: Al Jazeera’s False Revolutionary Appearance
  190. Abdullah Khalifa: Modernity is only two projects
  191. Abdullah Khalifa: Is Dr. Abdulhadi Khalaf a fighter or a magician?
  192. Abdullah Khalifa: Religion and Philosophy in Ibn Rushd
  193. Abdullah Khalifa: Religious Symbols and Myths
  194. Abdullah Khalifa: Betting on the Pen
  195. Abdullah Khalifa: The Narrator in the World of Muhammad Abdul Malik’s Stories
  196. Abdullah Khalifa: The Fallen and the Pickers Up – The Non-Progressive Platform as an Example
  197. Abdullah Khalifa: The great poet Youssef Hassan and the Twilight Flower
  198. Abdullah Khalifa: Reason and Freedom
  199. Abdullah Khalifa: Science, Production, and Philosophy
  200. Abdullah Khalifa: Work, Workers, and the Factory
  201. Abdullah Khalifa: The Intellectual Elements of Arab Communism
  202. Abdullah Khalifa: Family and Democracy
  203. Abdullah Khalifa: Enlightening Naguib Mahfouz
  204. Abdullah Khalifa: Is it Marxism or Marxists that are eroding?
  205. Abdullah Khalifa: The Erosion of Marxism in Bahrain
  206. Abdullah Khalifa: The Climbing of the Religious Petty Bourgeoisie
  207. Abdullah Khalifa: A truly modern development
  208. Abdullah Khalifa: Polygamy and Freedom
  209. Abdullah Khalifa: The Culture of Fractured Democracy
  210. Abdullah Khalifa: Georg Lukács and the Destruction of Reason
  211. Abdullah Khalifa: The Roots of Violence in Contemporary Arab Life
  212. Abdullah Khalifa: The Story of a Writer
  213. Abdullah Khalifa: The Fading of Epics
  214. Abdullah Khalifa: Symbols of the Earth
  215. Abdullah Khalifa: The Spirit of the Nation!
  216. Abdullah Khalifa: Eastern State Capital – The Working Class in Bahrain
  217. Abdullah Khalifa: The Ras Rumman apartment where he lived for 21 years and where he died.
  218. Abdullah Khalifa: The Conflict Between Sects and Classes in Palestine
  219. Abdullah Khalifa: The Emergence of Dialectical Materialism
  220. Abdullah Khalifa: Political Entomology
  221. Abdullah Khalifa: On Democracy
  222. Abdullah Khalifa: The Poetic World of Qasim Haddad
  223. Abdullah Khalifa: The Worship of Individuals
  224. Abdullah Khalifa: How did the wise texts disappear?
  225. Abdullah Khalifa, writer and novelist
  226. Abdullah Khalifa: Complete Works of Short Stories, Novels, History, and Criticism
  227. Abdullah Khalifa’s Biography
  228. Abdullah Khalifa: Al Jazeera Channel and the Distortion of Arab Consciousness
  229. Abdullah Khalifa: We are all political Islam!
  230. Abdullah Khalifa: Lenin in the Court of History
  231. Abdullah Khalifa: Political and Religious Ideas
  232. Abdullah Khalifa: One Thousand and One Nights… The Magical Biography
  233. Abdullah Khalifa: Book Covers
  234. Abdullah Khalifa: Looking objectively at human history
  235. Abdullah Khalifa: Religious Awareness and Social Structure
  236. Abdullah Khalifa: Arab Ideologies and Science
  237. Abdullah Khalifa: The Intellectual Crisis of the Revolution
  238. Abdullah Khalifa: Belonging and Alienation
  239. Abdullah Khalifa: The seeker of an Arab enlightenment horizon
  240. Abdullah Khalifa: Bahrain, the mysterious island of freedom in ancient times
  241. Abdullah Khalifa: Imagination and Reality in Religions
  242. Abdullah Khalifa: Symbolism and its importance
  243. Abdullah Khalifa: Tribalism and Civilization
  244. Abdullah Khalifa: The epicenter of illusion, past and present
  245. Abdullah Khalifa: A ragged proletariat: a weak bourgeoisie
  246. Abdullah Khalifa: Breaking down the components
  247. Abdullah Khalifa: The subservience of secularists to religious figures – its roots and consequences
  248. Abdullah Khalifa: An Analysis of Adventurous Words
  249. Abdullah Khalifa: Naguib Mahfouz Update
  250. Abdullah Khalifa: The decline in the status of women and the expansion of slavery✶
  251. Abdullah Khalifa: A Civilizational Structure
  252. Abdullah Khalifa: The Development of Religious Consciousness in the Ancient East
  253. Abdullah Khalifa: The Chatter of Everyday Consciousness
  254. Abdullah Khalifa: Women’s freedoms are a measure of democracy
  255. Abdullah Khalifa: Let man be free
  256. Abdullah Khalifa: Two Visions of Religion
  257. Abdullah Khalifa: Spinoza and Reason
  258. Abdullah Khalifa: Political naiveté
  259. Abdullah Khalifa [ Crushing the components]】
  260. Abdullah Khalifa: Nawal El Saadawi’s Journey
  261. Abdullah Khalifa: The Left and Socio-Religious Formations
  262. Abdullah Khalifa: The Uncircumcised and the Search for Self
  263. Abdullah Khalifa… An Approach to Pre-Islamic Poetry
  264. Abdullah Khalifa: A Reading of Taha Hussein
  265. Abdullah Khalifa: A reading by Ismail Mazhar 
  266. Abdullah Khalifa: Al-Tahtawi’s Awareness of the Renaissance
  267. Abdullah Khalifa: The Renaissance Consciousness of Salama Moussa
  268. Abdullah Khalifa: Ibrahim Al-Urayyidh – Poetry and its Cause
  269. Abdullah Khalifa: The Arab Intellectual Between Freedom and Tyranny
  270. Abdullah Khalifa: A presentation and critique of his works
  271. Abdullah Khalifa: Words failed to express
  272. Abdullah Khalifa
  273. Abdullah Khalifa: “The Hour is coming, there is no doubt about it.”“
  274. Abdullah Khalifa… so that he is not buried twice !
  275. Abdullah Khalifa: The Unity of the Past and the Future
  276. Abdullah Khalifa: Socialism and the Future
  277. Abdullah Khalifa: Bahrain is beginning modernization
  278. Abdullah Khalifa: Social Enlightenment in Farah Antoun’s Thought
  279. Abdullah Khalifa: Romantic Enlightenment in the Works of Khalil Gibran
  280. Abdullah Khalifa: Reason and Democracy in the Consciousness of George Tarabishi
  281. Abdullah Khalifa: Bukharin and the Fate of Russia
  282. Abdullah Khalifa: Enlightening Louis Awad
  283. Abdullah Khalifa: Enlightening Yaqoub Sarrouf
  284. Abdullah Khalifa: The Left-Right Conflict in Islam
  285. Abdullah Khalifa: Sectarian conflict or class conflict?
  286. Abdullah Khalifa – Short Stories
  287. Abdullah Khalifa – Short Stories – Volume Seven
  288. Abdullah Khalifa – Critical Works – Volume Eight
  289. Abdullah Khalifa – Historical Works
  290. Abdullah Khalifa – Fictional Works – Volume Six
  291. Abdullah Khalifa before his departure: Trials are painful and difficult
  292. Abdullah Khalifa, all the trees
  293. Abdullah Khalifa: For the people first.
  294. Abdullah Khalifa’s pragmatism in writing
  295. Abdullah Khalifa and the issue of women in the Gulf novel
  296. Abdullah Khalifa writes about Naguib Mahfouz
  297. Abdullah Khalifa is one of the most dedicated writers to his intellectual experience.
  298. Abdullah Khalifa: The Crisis of the Left
  299. Abdullah Khalifa: The Problem of the Sea and Reality
  300. Abdullah Khalifa, the deceivers
  301. Abdullah Khalifa: Quranic awareness is a qualitative leap
  302. Abdullah Khalifa’s Complete Works
  303. Abdullah Khalifa: Complete Works of Novels, Short Stories, Historical Works, and Criticism
  304. Abdullah Khalifa’s Complete Critical Works
  305. Abdullah Khalifa: The Complete Works of Novels, Short Stories, Historical Works, and Criticism
  306. Abdullah Khalifa, Islam, the merchants’ revolution
  307. Abdullah Khalifa, the public and (the mob))
  308. Abdullah Khalifa: Halal and Haram in Current Politics
  309. Abdullah Khalifa, the terror of love
  310. Abdullah Khalifa, the magician and the religious scholar
  311. Abdullah Khalifa, the Caliph of Reason and Freedom
  312. Abdullah Khalifa Scribe
  313. Abdullah Khalifa, Al-Nour Newspaper
  314. Abdullah Khalifa, a pioneer of Bahraini enlightenment culture
  315. Abdullah Khalifa on women
  316. Abdullah Khalifa… Deconstructing and Reconstructing the Image
  317. Abdullah Khalifa… His Life
  318. Abdullah Khalifa: On the general Arab development
  319. Abdullah Khalifa: Bahraini Surplus Value
  320. Abdullah Khalifa: Drought in the Time of Oil
  321. Abdullah Khalifa: Intoxicants and Political Affairs
  322. Abdullah Khalifa: Linguistic adventures distanced the reader from the novel.
  323. Abdullah Khalifa: Arab Consciousness and its Developments
  324. Abdullah Khalifa: Arabs and the Critique of Reality
  325. Abdullah Khalifa: Enlightening Taqi Al-Baharna
  326. Abdullah Khalifa: Enlightening Hassan Al-Jishi
  327. Abdullah Khalifa: Contradictions of Arab Consciousness Historically
  328. Abdullah Khalifa: The Divergence of Arab Development Paths
  329. Abdullah Khalifa: Arab Shiites are not Safavids
  330. Abdullah Khalifa: Conflicts of Arab Consciousness Historically
  331. Abdullah Khalifa: Weakness of Critical Thinking
  332. Abdullah Khalifa: Abdullah Khalifa: Surplus Value and the Seventies Economy
  333. Abdullah Khalifa: Abeeb “whose goodness is consumed””..!”
  334. Abdullah Khalifa: Abdel Nasser as a feudal lord
  335. Abdullah Khalifa, the three greats
  336. Abdul Rahman Badawi

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

𝓐𝖇𝖉𝖚𝖑𝖑𝖆 𝓚𝖍𝖆𝖑𝖎𝖋𝖆           

𝓦𝖗𝖎𝖙𝖊𝖗 𝒶𝓃𝒹 𝓝𝖔𝖛𝖊𝖑𝖎𝖘𝖙       

21.10.2014 | 1.3.1948

من مواليد القضيبية – البحرين.

خريج المعهد العالي للمعلمين بمملكة البحرين في سنة 1970، وقد عمل في سلك التدريس حتى سنة 1974.

اعتقل من سنة 1975 إلى 1981.

◇ عمل منذ سنة 1981 في الصحافة الاجتماعية والثقافية في الصحف البحرينية والخليجية، ونشر في العديد من الدوريات العربية.

عضو اتحاد الكتاب العرب بسوريا.

◇ ساهم في مؤتمرات اتحاد الكتاب العرب، وأول مؤتمر أشترك فيه كان سنة 1975 الذي عقد بالجمهورية الجزائرية وقدم فيه بحثاً عن تطور القصة القصيرة في البحرين، وشارك في مؤتمر اتحاد الكتاب العرب بتونس سنة 2002، ببحث تحت عنوان «جذور العنف في الحياة العربية المعاصرة»، وشارك في مؤتمر بجمهورية مصر العربية سنة 2003، وببحث تحت عنوان «المثقف العربي بين الحرية والاستبداد» وذلك باتحاد الكتاب المصريين. والعديد من المؤتمرات الادبية العربية.

◇ منذ سنة 1966 مارس عبــدالله خلــيفة كتابة القصة القصيرة بشكل مكثف وواسع أكثر من بقية الأعمال الأدبية والفكرية التي كان يمازجها مع هذا الإنتاج، حيث ترابطت لديه الكتابة بشتى أنواعها: مقالة، ودراسة، وقصة، ونقد. ومنذ الثمانينيات من القرن الماضي قام بطبع نتاجه القصصي والروائي والفكري في دور النشر العربية المختلفة.

ونتاجه الأدبي والفكري يتنوع على النحو التالي:

القصص القصيرة:

1لحن الشتاء «قصص»، 1975.

«القصص: الغرباء – الملك – هكذا تكلم عبد المولى – الكلاب – اغتيال – حامل البرق – الملاذ – السندباد – لحن الشتاء – الوحل – نجمة الخليج – الطائر – القبر الكبير – الصدى – العين».

2الرمل والياسمين «قصص»، 1982.

«القصص: الفتاة والأمير – علي بابا واللصوص – شجرة الياسمين – العوسج – الوجه – الأرض والسماء – المصباح – نزهة – الصورة – اللقاء – لعبة الرمل– الأحجار – العرائس – الماء والدخان».

3يوم قائظ «قصص»، 1984.

«القصص: الدربأماهأين أنت الخروج – الجد – الجزيرة».

4سهرة «قصص»، 1994.

«القصص:السفرسهرة – قبضة تراب – الطوفان  – الأضواء – ليلة رأس السنة – خميس – هذا الجسد لك – هذا الجسد لي – أنا وأمي – الرمل والحجر».

5دهشة الساحر «قصص»، 1997.

«القصص: طريق النبع – الأصنام – الليل والنهار – الأميرة والصعلوك – الترانيم – دهشة الساحر – الصحراء – الجبل البعيد– الأحفاد – نجمة الصباح».

6جنون النخيل «قصص»، 1998.

«القصص: بعد الانفجار – الموت لأكثر من مرة واحدة! – الأخوان – شهوة الدم – ياقوت – جنون النخيل – النوارس تغادر المدينة –رجب وأمينةعند التلال – الأم والموت – النفق – ميلاد».

7سيد الضريح   «قصص»، 2003.

«القصص: طائران فوق عرش الناروراء الجبال – ثنائية القتل المتخفي – البركان – سيد الضريح – وتر في الليل المقطوع – أطياف – رؤيا – محاكمة على بابا – الحارس».

8الكسيحُ ينهض «قصص» 2017.

«القصص: الشاهدُ.. على اليمين – الكسيحُ ينهض – جزيرة الموتى – مكي الجني – عرضٌ في الظلام – حفار القبور – شراء روح – كابوسليلة صوفية – الخنفساء – بائع الموسيقى– الجنة – الطائر الأصفر – موت سعاد – زينب والعصافير – شريفة والأشباح – موزة والزيت – حمامات فوق سطح قلبي – سقوط اللون – الطريق إلى الحج – حادثة تحت المطر – قمرٌ ولصوص وشحاذون – مقامة التلفزيون – موتٌ في سوق مزدحمٍ – نهاياتُ أغسطس – المغني والأميرة».

9أنطولوجيا الحمير «قصص» 2017.

«القصص: انطولوجيا الحمير – عمران – على أجنحة الرماد – خيمةٌ في الجوار – ناشرٌ ومنشورٌ– شهوة الأرض – إغلاقُ المتحفِ لدواعي الإصلاح – طائرٌ في الدخان – الحيُّ والميت – الأعزلُ في الشركِ – الرادود – تحقيقٌ – المطرُ يموتُ متسولاً – بدون ساقين – عودة الشيخ لرباه – بيت الرماد – صلاةُ الجائع – في غابات الريف – الحية – العـَلـَم – دموعُ البقرة – في الثلاجة – مقامات الشيخ معيوف».

10إنهم يهزون الأرض! «قصص» 2017.

«القصص: رسالةٌ من بـينِ الأظافر – الأسود – عاليةٌ – جلسةٌ سادسةٌ للألمِ – غيابٌ – عودةٌ للمهاجرِ – دائرةُ السعفِ – الضمير – المحارب الذي لم يحارب – الموتُ حُبـَأً – إنهم يهزون الأرض! – حـُلمٌ في الغسق – رحلة الرماد – أعلامٌ على الماء – گبگب الخليج الأخير – المنتمي إلى جبريل – البق – رغيفُ العسلِ والجمر – عوليس أو إدريس – المفازة – قضايا هاشم المختار – أنشودة الصقرغليانُ المياه».

11ضوء المعتزلة «قصص» 2017.

«القصص: ضوء المعتزلة – جزرُ الأقمار السوداء – سيرة شهاب – معصومة وجلنار– سارق الأطفال – شظايا – الترابيون».

12باب البحر «قصص» 2020.

«القصص: وراء البحر.. – كل شيء ليس على ما يرام – قمرٌ فوق دمشق – الحب هو الحب – شجرة في بيت الجيران – المذبحة – إجازة نصف يوم – حادث – البائع والكلب – ماذا تبغين ايتها الكآبة؟ – إمرأة – الربان – إذا أردتَ أن تكونَ حماراً – اللوحة الأخيرة – شاعرُ الصراف الآلي – البيت – حوت – أطروحةٌ – ملكة الشاشة – الغولة – وسواسٌ – مقامة المسرح – إعدام مؤلف – يقظة غريبة».

الأعمال الروائية الكاملة، المجلد الأول: اللآلئ، القرصان والمدينة، الهيرات، أغنية الماء والنار، 2004.

الأعمال القصصية الكاملة، المجلد الثاني: لحن الشتاء، الرمل والياسمين، يوم قائظ، سهرة، دهشة الساحر، جنون النخيل، سيد الضريح، 2021.

الأعمال الروائية الكاملة، المجلد الثالث: مريم لا تعرف الحداد، الضباب، نشيد البحر، الأقلف، الينابيع، 2021.

الأعمال التاريخية الكاملة، المجلد الرابع: محمد ثائراً، عمر بن الخطاب شهيداً، عثمان بن عفان شهيداً، يا علي! أميرُ المؤمنين شهيداً، رأس الحسين، مصرعُ أبي مسلمٍ الخراساني، ضوء المعتزلة، 2021.

الأعمال النقدية الكاملة، المجلد الخامس: تطور الأنواع الأدبية العربية، نجيب محفوظ من الرواية التاريخية إلى الرواية الفلسفية، الراوي في عالم محمد عبدالملك القصصي، عالم قاسم حداد الشعري 2023.

الأعمال الروائية الكاملة، المجلد السادس: ساعة ظهور الأرواح، التماثيل، ذهب مع النفط، عنترة يعودُ الى الجزيرة، عقاب قاتل، اغتصاب كوكب، رسائل جمال عبدالناصر السرية، 2023.

الاعمال القصصية الكاملة، المجلد السابع: إنهم يهزون الأرض! ، 2023.

الأعمال النقدية الكاملة، المجلد الثامن: تجارب روائية من الخليج والجزيرة العربية، عبدالله خليفة: عرضٌ ونقدٌ عن أعماله، حوارات نقدية، 2023.

الأعمال الروائية الكاملة، المجلد التاسع: ألماس والأبنوس، طريق اللؤلؤ، ثمن الروح، ابنُ السيد، بورتريه قصاب، 2023.

الأعمال الروائية الكاملة، المجلد العاشر: خَليجُ الأرواحِ الضَائعةِ، الأرض تحت الأنقاض، حورية البحر، هُدهُد سليمان ، شاعرُ الضياء، 2023.

✾ الأعمال الصحفية الكاملة، المجلد الأول: أفق ـ منشورات: سنوات 2003، 2004.

✾ الأعمال الصحفية الكاملة، المجلد الثاني: أفق ـ منشورات: سنوات 2005، 2006.

✾ الأعمال الصحفية الكاملة، المجلد الثالث: أفق ـ منشورات: سنوات 2007، 2008.

✾ الأعمال الصحفية الكاملة، المجلد الرابع: أفق ـ منشورات: سنوات 2009، 2010.

✾ الأعمال الصحفية الكاملة، المجلد الخامس: أفق ـ منشورات: سنة 2011.

✾ الأعمال الصحفية الكاملة، المجلد السادس: أفق ـ منشورات: سنة 2012. ✾ الأعمال الصحفية الكاملة، المجلد السابع: أفق ـ منشورات: سنوات 2013، 2014.

الأعمال الروائية:

13اللآلئ، 1982.

14القرصان والمدينة، 1982.

15الهيرات، 1983.

16أغنية الماء والنار، 1989.

17مريم لا تعرف الحداد، 1991.

18الضباب، 1994.

19نشيد البحر، 1994.

20الأقلف، 2002.

21ساعة ظهور الأرواح، 2004.

22رأس الحسين، 2006.

23عمر بن الخطاب شهيداً، 2007.

24التماثيل، 2007.

25عثمان بن عفان شهيداً، 2008.

26يا علي! أميرُ المؤمنين شهيداً، 2008.

27محمد ثائراً، 2010.

28ذهب مع النفط، 2010.

29عنترة يعود الى الجزيرة، 2011.

30الينابيع, الطبعة الكاملة، 2012.

31عقاب قاتل، 2014.

32اغتصاب كوكب، 2014.

33رسائل جمال عبدالناصر السرية، 2015.

34ثمن الروح، 2016.

35ألماس والأبنوس، 2016.

36ابنُ السيد، 2016.

37الأرض تحت الأنقاض، 2017.

38حورية البحر، 2017.

39طريق اللؤلؤ، 2017.

40بورتريه قصاب، 2017.

41مصرعُ أبي مسلمٍ الخراساني، 2018.

42شاعرُ الضياء، 2018.

43خَليجُ الأرواحِ الضَائعةِ، 2019.

44هُـدهـُـد سـليمـان، 2019.

الدراسات النقدية والفكرية:

45الراوي في عالم محمد عبد الملك القصصي، 2004.

46الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الإسلامية، صدر الجزء الأول والثاني معاً بمجلد واحد، في ستمائة صفحة، ويعرضُ فيه المقدمات الفكرية والاجتماعية لظهور الإسلام والفلسفة العربية، 2005.

47الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الإسلامية، الجزء الثالث، وهو يتناول تشكل الفلسفة العربية عند أبرز ممثليها من الفارابي حتى ابن رشد 2005.

48الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الإسلامية، الجزء الرابع، تطور الفكر العربي الحديث، وهو يتناول تكون الفلسفة العربية الحديثة في مصر خاصة والبلدان العربية عامة، منذ الإمام محمد عبده وبقية النهضويين والمجددين ووقوفاً عند زكي نجيب محمود ويوسف كرم وغيرهما من منتجي الخطابات الفلسفية العربية المعاصرة، 2015.

49نجيب محفوظ من الرواية التاريخية إلى الرواية الفلسفية، 2007.

50– تجارب روائية من الخليج والجزيرة العربية، 2008.

51صراع الطوائف والطبقات في المشرق العربي وإيران، 2016.

52الملعون سيرة وحوارات وما كتب عنه، 2016.

53تطور الأنواع الأدبية العربية: دراسة تحليلية للأنواع من الشعر الجاهلي والقرآن حتى الأدب المعاصر، وهي دراسة مكثفة فكرية تكشف علاقة التداخل بين النصوص العربية والصراع الاجتماعي، 2016.

54رأس المال الحكومي الشرقي: وهي قراءة جديدة للماركسية، تبحثُ أسلوبَ الإنتاجِ الراهن في الشرق عبر نظرة مختلفة، 2016.

55عالم قاسم حداد الشعري، 2019.

56عبـدالله خلــيفة: عرضٌ ونقدٌ عن أعماله، 2019.

57الكلمة من أجل الإنسان، 2020.

58 ـ إضاءة لذاكرة البحرين، 2024.

59 – أيديولوجي  2025.

60 لينين ومغامرة الاشتراكية: وهو كتيب نظري تحليلي لأفكار لينين ولنظريته، 2025.

61 – الكلمة من أجل الإنسان، جزء ثانٍ 2025.

عبــدالله خلــيفة على موقع الحوار المتمدن

http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=436071

عدد إجمالي القراءات: 7,712,539 مليون قارئ.

عدد المقالات المنشورة: 1,218.

عبــدالله خلــيفة على ووردبريس:

https://isaalbuflasablog.wordpress.com

عبــدالله خلــيفة على الفيسبوك:

https://www.facebook.com/abdullakhalifaalbuflasa

عبــدالله خلــيفة على You Tube:

https://www.youtube.com/channel/UCdyc68FyFxWEu1nt9I7K46w

عبــدالله خلــيفة على مدونة بينترست:

عبــدالله خلــيفة على مدونة إنستغرام:

https://www.instagram.com/abdulla_khalifa_albuflasa

البريد الالكتروني لـ عيسا خليفة البوفلاسة للتواصل : 009733336905

isa.albuflasa@gmail.com

isa_albuflasa@yahoo.com

إنّهُ المثقفُ العضوي!


افتحوا له الدروبَ، هذا المناضل قادمٌ من الأرض وعشق التراب، نثرَ دمَهُ للجماهير، وضحى بزهرة شبابه من أجل الشعب!
في الغربةِ وإغراء السفارات والدولارات، تاهت خطواته، وخلطَ بين اليمين واليسار، بين الدين والخرافات السياسية، وكلما زاد العَرقُ الشامي في السهرات ضاعتْ القضية!
تعلم عبدالخالق محجوب الماركسيةَ من جماعات مصرية، وعاد إلى بلاده وذهب إلى عمال السكك الحديدية، انتقى نفراً واعياً محدوداً وقادهم في معمعمان نضال طويل، وطلع منهم الشفيعُ الشيخ قائداً للعمال وتحكم في شرايين الحديد والوعي السوداني، وبينما كانت الجماعاتُ الماركسية المصرية تذوي في المعتقلات وبعدها في الحانات، كانت الجماعات الماركسية السودانية تصنع الثورات!
كلما زادت الروحانية في الفنادق وقطعت الزجاجاتُ العلاقات بالأرض، خفت عقولُ الاجتماعات وسحبت شروط الجماعات المناضلة، وصارت التنظيمات خليطاً وطارت عن مصالح الناس الأرضية الراسخة.
تتكون الجماعاتُ المناضلة من الحكمة والمعاناة الجسورة، يظهر العضو تتويجاً لنفي الصدف والجهل والفوضى، والمصالح الذاتية، وأوضاع الاستغلال القاهرة، يضع حياته في خدمة نضال الأغلبية الشعبية، وعندما تبرزُ تلك المصالحُ الذاتيةُ المتورمةُ في إطار سياسي يضربُ الجمهورَ بأسنانه، يتنحى، ويعود للعادية ومجرى الحياة اليومية الذي تضعف فيه التضحيات من أجل الغير، وتنتشر فيه الأنانية كميكروب فتاك.
لا تستطيع أن تصنع حزباً بخمسين شخصاً مجهولين، بل لا بد أن تبحث عن عقول اكتنزت فيها التضحياتُ الكبار، عن شخوص صارعتْ وسجلت مواقفَها في كل حين وراحت تعري الأخطاءَ وتكشفُ مسارَ الشعوب الصحيح!
عندما تجمعُ نثارَ وبقايا الطوفان وتحشد شخوصاً انقطعت عن التضحية، ولم تفرق بين الجريمة والغنيمة، وعاشت في الوزارات والشركات مسدودة العيون، وانقطعتْ علاقاتُها بالمعرفة الجدلية وكشف تناقضات الحياة والأنظمة، أو اختبأت بعد السجون، فلن يكون الجمعُ حزباً مناضلاً بل صنيعة لشمولي ما، أو راغب في الزعامة، أو دعاية لكائنٍ تلاشت نضاليتُه وقدم طلباً للتقاعد السياسي وأخذ مكافأة نهاية الخدمة، أو صار إطاراً يبحث عن مواد خام لصعوده نحو مصالح جديدة أو سقف عال مريح من الحضور.
يتصلب المثقفُ العضوي في سوريا زمن الغربة في ماركسية لينينية كصخرِ قاسيون، ويعود إلى الخليج فيفقد بعض وزنه الثوري في الكويت، وتبدأ الماركسيةُ في الخلخلة الصحراوية، وخاصة بعد هجوم الطوس الديناري، وفي بلد آخر يتأكد له أهمية الإخوان ودورهم البناء في الاستثمار.
حين أنشأ المهدي بن بركة المناضل المغربي في ستينيات القرن الماضي جماعةً صغيرةً من الرياضيين والعاملين أخذهم في تجارب طويلة كفاحية ساعدوا فيها الفلاحين وتدربوا طويلاً على كشف ملامح الكادحين، وفقدوا فيها كلَ شحمهم المدني وغدوا نواةً لتنظيم القوى الشعبية التنظيم الذي كان رائداً بين القوى السياسية.
حين يتحدثون عن المثقف العضوي تنهمرُ علينا مصطلحات غربية فيتعكزون على الأسماء الكبيرة، قال ماركس وقال هيجل، وقال غرامشي، ولكن أين ما قالوه في أزقة بلدانهم وخرائط العذاب لشعوبهم؟
حين ينساق المثقف مع فئات الشعب المتخلفة، ولا يناضل لأجل حقوقها وتطورها ومعاشها، ويصارع خرافاتها وعنفها وجهلها، يتجاوزه الشعبُ لأن قوى جديدة تظهر وتنزعُ الورقَ الأصفر من شجرة الشعب الخضراء الأبدية، فالشعب يبقى ويتجدد ويلفظ الأعشاب السامة أما المنساقون وراء جهله وفوضاه فيذبلون مع بقاياه وأوهامه.
حُوصر وذبل المثقف العضوي ولكن المثقف الديناري استمر في الحضور يقدم خدماته للقوى التقليدية السياسية والدينية، بحسب اتجاه الرياح، وغدا أكثر اتساعاً وحضوراً ومراكماً للأوراق الصفراء لتسد مجاري المطر والتنوير والتغيير، ذا رهافة شديدة لشعيرات المنافع، فكان ذبول الأحزاب الديمقراطية والتقدمية في العالم العربي مريعاً لعدم تصاعد الثقافة التحويلية وغرسها في كل خلايا الشعوب، حتى غدا المثقف الديناري مطلوباً في أمكنة كثيرة وليطمس حقيقة التحولات ويصنع طاهرات ذاتية ويزيف التاريخ عن تضحيات الناس الجسام!

الدكتور عبدالهادي خلف مناضل أم ساحر؟

26-11-2003

لا أحد يعرف بالضبط من هو الدكتور عبدالهادي خلف، هل هو (ملا) يعيش في السويد أم باحث اجتماعى؟ هل هو دينى أم علمانى؟ يساري أم يميني؟ باحث في علم الاجتماع أم ساحر له بركات وتأتيه الكشوف؟

هل هو بحرينى يعيش في السويد أم سويدي غادر البحرين؟ هل هوعالم الاجتماع الذي لم يكتب شيئاً في علم الاجتماع, أم مناضل الفاكسات الذي يحدد لشعب البحرين كيف يناضل وما هى الخطوات التي عليه اتباعها وإلا أمطره بسيل جديد من الفاكسات التى تكرر أسلوب البيانات المقتضبة الصادرة من عليم خبير لا يُرد قضاؤه؟

إذا كان الدكتورعبدالهادي خلف من القليلين الباقين على أسلوب الخطب والبيانات الموجزة التي تحدد كل شيء، فذلك لأنه لم يكن يناضل أو يبحث خلال العقود الماضية، ولم يعد قادراً على متابعة وتحليل الأوضاع.

في بداية السبعينيات نزل عبدالهادي خلف بمظلة سياسية من السماء حين كانت هناك فترة سياسية نشطة، احتاج الشعب فيها إلى زعماء نشطين لخوض الانتخابات البرلمانية، وكان الزمن زمن اليسار, فتوجه عبدالهادي غير المعروف إلى اليسار فوراً، الذي احتضنه وحشد له الجمهور في الندوات ولصق صوره في الحارات ونشر اسمه بين الأهالي وجمع له الأصوات، واستنكر بشدة مؤامرة طرده من المجلس الوطني، واحتضنه في السجن وقد قاوم عبدالهادي خلف حينذاك مقاومة كبيرة فأضرب عن الطعام مع رفاقه الذين وصلوا إلى حافة الموت.

وبعد ذلك حين خرج من السجن وكانت بعض جوانب الحياة السياسية تتسم بالفوضى والمغامرات والمؤامرات، نصح الدكتور عبدالهادي المناضلين بضرورة الابتعاد عن هذا النهج السياسي المتطرف، وطرح خطاً عقلانياً لنمو النضال الوطني عبر التدرج ومواكبة الإنجازات الديمقراطية الصغيرة لتتحول إلى تغيير كبير مستقبلاً.

ثم توارى في الخارج، ولم نكد نسمع به خلال عقد من السنين، وكنا نتوقع بأنه مشغول بالبحرين بحثاً وتحليلاً، وأن ثمة دراسات كبرى سوف تنهال علينا من هذا الصمت والعزلة والدرس، ولكن شيئاً من ذلك لم يأتِ من جهته الهادئة.

وبعد ذلك حين برزت الحركة الدينية عاد إلى الوجود، وأخذ ذلك الثوب اليساري الفضفاض يتمزق، وتوجه إلى أقصى احتمالات هذه الحركة، رافضاً ذلك الطرح العقلاني الذي كان يطرحه في ومضات من الكلمات، والذي لم يتأصل بحثاً ولا منهجاً.

كان هذا الموقف يعكس ثمرة الغياب عن الدرس الموضوعي للحياة الاجتماعية المحلية والعربية، فالعناصر العلمانية والديمقراطية في خطابه كانت تطفو على وعي هلامي غير محدد وغير متجذر في نظرة أو أرض، ينجذب بدوافع ذاتية نرجسية نحو مغناطيس الحركة الاجتماعية المنتشرة، سواء كانت يساراً أم يميناً، وسواء قادها تقدميون وطنيون أم دينيون مذهبيون، وسواء راكمت إنجازات ديمقراطية وطنية توحيدية للشعب, أم كانت نهجاً طائفياً غير قادر على خلق نضال حقيقي.

ان هذا النهج الذاتي المتضخم لا يمكن أن يتشكل فكراً، لأن الفكر وثمار الوعي المكتوبة والمنجزة، تغدو حفراً في واقع، وارتباطاً بناس، وتكوين علاقات، وبالتالي تغدو مسئولة ومحددة، تزيدها علاقتها بالواقع والبشر مزيداً من التأصل والمسئولية.

كذلك فإن الدراسات التي لم تظهر كان يمكن ان تعرفه بشعب البحرين والمنطقة: أشكال وعيه وتراثه وسبل تطوره، وقوانين تحوله.

إن هذا الجهد الذي لم يُبذل، والعرق الفكري الذي لم يتصبب، واستمرارالرغبة النجومية في الظهور، إن هذه كلها دفعته إلى المنزلق الفكري الخطير السابق ذكره، وهو أن يتحول إلى دكتاتور بحرينى سويدي يحدد سبل التطور عبر جمل مقتضبة وبيانات ينبغى أن تطاع وتنفذ، لا أن يصير دكتوراً يبحث ويغرس مشرطه في الواقع عميقاً، ويكتشف سبل التطور السياسي المعقدة والمركبة، لكن هذه كانت مهمة مستحيلة في وعي لا يريد أن يتعب.

يريد الدكتور عبدالهادي خلف أن يقودنا إلى مهمات كبرى وتحولات ونحن بعد لم نكد نخطو في عملية إعادة الديمقراطية. وإذا لم يتم التوجه إلى هذه المهمات الكبرى الخلافية، فيعني ذلك بأن القوى السياسية الوطنية البحرينية خانت مواقفها وتاريخها.

وهو يصدر أوامره العليا من منتجعه بالسويد لا يعرف كيف تتشكل الجمعيات السياسية، وبأي أحجار صعبة تنمو، وكيف أن الجمعيات مسألة أعضاء واشتراكات بسيطة رمزية لا تدفع، ومقرات مكلفة، وكوادر شبه نادرة في الإعلام والتنظيم والثقافة والطباعة، وهي روابط مع الناس لا تتشكل بسهولة بسبب القيود الكثيرة المفروضة على نموها وتحركاتها.

إضافة إلى هذا النمو العسير للجمعيات الوطنية هناك حشود من الجمعيات المذهبية والعادية والتي لا تعرف ما هي السياسة والوحدة النضالية والعملية السياسية الإصلاحية المتدرجة. وبعضها يشارك الدكتور عبدالهادي خلف في الوعي السحري: كن فيكون، يشاركونه في خلق الديمقراطية المجلوبة على طبق من ذهب، ولا يعنون بها سوى ديمقراطية لهم لا عليهم.

والذي لا يريد عبدالهادي أن يبحثه بعلم الاجتماع المعطل لديه إنه في خلال أربع سنوات من التحولات في البحرين تمت أشياء كثيرة، وبدأ شعب جديد يتشكل، ووعي مختلف ينشأ، ورغم مؤامرات المحافظين ومغامرات المراهقين، والكم الهائل من العصي التي توضع في دولاب الديمقراطية السائر ببطء، فإن تيارات سياسية كثيفة بدأت تتكون وتشكل صلاتها مع الناس، وبدأت النقابات والجمعيات المهنية في الظهور، وجرت الآف الندوات الفكرية والسياسية الخ..

ولا يمكن أن تتطور الديمقراطية إلا من خلال المسارات التي اكتسبتها قانوناً ودستوراً، ولا تصلح إلا بالمزيد من الديمقراطية، ومن خلال المؤسسات لا من خلال المنح، ومن خلال إرادة الناس الموحدة التي تتجلى في وحدتهم وإرادتهم الانتخابية والنضالية المختلفة.

فالتطور والنضال ليسن سحراً بل إرادة جماعية للشعب، الذي يقرر عبر النضال الطويل الأمد، والتصويت، والحوار، والصراع، والنقد، وتشكيل الجمعيات السياسية الموحدة والتكوينات المتطورة، سبل الإصلاح الأكثر عمقاً.

لكن هذا كله يحتاج إلى تراكم خبرة، ونضوج ووعي، لا يتحققان إلا من خلال إرادته الذاتية، وليس من خلال الإرادات الطائفية المتفرقة والمدمرة، بل من خلال إرادة وطنية، تتشكل بالوعي وتتجسد في التصويت، وهذا أمر يحتاج إلى زمن موضوعي، فليس هو بيضة تقلى، أو دكان يُفتح، بل إلى عدة انتخابات بلدية، وعدة انتخابات برلمانية، أي إلى صبر سياسي طويل، وإلى تراكم نضالي شاق، لا يصبر عليه دعاة السلق السياسي ومحبو النجومية والمنتفخون بذواتهم العظيمة!

وما تفعله بيانات عبدالهادي وغيره من عشاق حرق المراحل سوى أن تعطى صورة مشوهة عن النضال الوطني، وتقدم المبررات للمحافظين وكارهي الديمقراطية في البحرين والمنطقة بان البحرينيين مستعجلين جداً وفوضويين ولا يصلحون للعمل الديمقراطي المنظم والصبور.

لم تتحقق الديمقراطية الأوربية خلال أربع سنوات أو عشر أو مائة سنة! بل تشكلت عبر عدة قرون، ولم تحدث من خلال فاكسات بل من خلال دور الناس والمثقفين في الأزقة و عبر الإنتاج الفكري والسياسي الطويل، وعبر تشكل النقابات والأحزاب ونضالها وتغلغلها في عروق الأحياء.

وفي خلال أربع سنوات، هي ومضة في عمر الزمن، تحققت أشياء كثيرة، وانفتحت سبل النضال النقابي والعمالي والاجتماعي المختلفة عبر قنوات شرعية، وفي إطار من المسئولية، ورغم مشكلات الجمهور الحادة فى بعض القطاعات فقد صبر تقديراً منه لأهمية التحولات، مدركاً أهمية الصندوق الانتخابي الذي وُجد وأهمية تطويره عبر الزمن، فعبر الأصوات يمكن تغيير جوانب من الحياة وإحداث التراكم المطلوب، وعبر النقابات المسئولة والجمعيات السياسية المتشكلة تواً، يمكن رسم صورة المستقبل عبر الصراع السياسي المنظم والقانوني.

أما البيانات السحرية والإرادة السامية من قبل بعض المهاجرين السياسيين فهي تعرقل ولا تفيد، تشجع التطرف اليميني ولا تصبر على العظم الرخو للحياة السياسية الوليدة.

لا نريد من هؤلاء سوى العودة إلى أحيائهم الشعبية وممارسة رجيم سياسي بين الناس، للنضال داخل الحارات العتيقة والجديدة، بدلاً من شحم الغربة والاغتراب.

#جذور_الرأسمالية_عند_العرب

رأس المال الحكومي الشرقي

فصل من كتاب: رأس المـــال الحـكومــــي الشـــــــــــــرقي

  لا تسعفنا المصادرُ في الحديث عن وجود أو عدم وجود العمل المأجور ومدى حضوره في العصر الجاهلي والإسلامي الأول، رغم أنها مسهبة في تعداد الثروات الخاصة وظهور القطائع، وهي الشكلُ المبكرُ للإقطاع العربي، وتحدد العلاقات التجارية وطرقها والعلاقات الاجتماعية – السياسية المصاحبة لهذه التجارة، وكذلك تذكرُ الموادَ الأولية العربية والحرفَ المُقامة عليها،  ومن هنا من الصعوبة بمكان معرفة طبيعة رأس المال الجاهلي ــ الإسلامي.

  في البدء لا بد من معرفة المواد الأولية وهي السلع التي سوف تدخل السوق، وقيم هذه السلع، ومن أي عمل بشري أُنتجت، وماذا يحدث لهذه القيم في السوق، والأثمان التي يأخذها الوسطاء، ونوعية هذه السلع وأسباب نموها بهذا الشكل أو ذاك.

  ومن الواضح بأن جغرافيا الجزيرة العربية هائلة، وأن ثمة مناطق زراعية متنوعة متباعدة، كاليمن وعمان والبحرين ويثرب ـــ المدينة، والطائف الخ ، وهذه المناطق تفصلها عن بعضها البعض الصحارى الواسعة، وهي لا بد لها من إقامة علاقة تبادل بينها وبين بعضها البعض ومع العالم القريب كذلك.

  إن الوقائعَ تشيرُ إلى عمليات تبادل تجارية بين هذه المواقع المختلفة، ويعبرُ التبادلُ عن وجود فائض اقتصادي، تمكنت قوى العمل الشعبية القبائلية من إيجاده، فقام وسطاءٌ هم تجار بإرساله للمناطق الأخرى فاغتنوا واغنوا التجار في المدن، ثم كانت مكة هي الوسيطة الكبرى التي نهضت فوق قوى العمل هذه حتى قوة تجارية عالمية.

  كانت هناك مناطق ذات تاريخ قديم في الإنتاج كاليمن، ومن اليمن خرج اليهودُ إلى يثرب وأسسوا فيها الزراعةَ والحرف، كما خرجت قبائلٌ يمينة عديدة إلى يثرب وغيرها من المناطق خاصة شمال الجزيرة العربية، وتعبر قدرات اليهود في يثرب عن تعمق كبير في الجوانب الحرفية.

  كانت سلع اليمن هي مثل: النسيج الفاخر، والذهب، والفضة، والأحجار الكريمة، ومواد التجميل، والتوابل بأنواعه ، والأسلحة وغيرها.    

  إن هذه السلع تدل على تجذر قوى العمل ومهاراتها المتنوعة، وإذ تشير إلى صلات تجارية بالخارج كالهند وأفريقيا، إلا أنها بضائع ومواد خام مستوردة تقوم قوة العمل اليمنية بإعادة تشكيلها ومن ثم تصديرها.

  وتعبر مدينة يثرب عن هذا الطابع اليمني الحرفي المتأصل:

  «أسس اليهود يثرب وعملوا الزراعة والحرف وصناعة السلاح والحدادة والدباغة والنجارة والصرافة وكان العرب يملكون 13 أطماً واليهود خمسين، وكان في المدينة أكثر من 300 صائغ حلي وكلهم من اليهود العرب وثمة حي اسمه حي الصاغة،» المال والهلال ، شاكر النابلسي ،ص 132.

  وكانت المناطق الجزيرية الكبرى الأخرى كعمان والبحرين أقل من اليمن في التطور الحرفي بسبب التكون الحضري البعيد لليمن ومركزية حكمها، وعمان والبحرين تنتجان الموادَ الزراعية غالباً، مع ما يتبع هذه المواد من حرف.

  إن هذا التكون التبادلي بين مناطق الجزيرة العربية كان يتبع الطريق التجارية الدولية أساساً، فهو يضخُ ما يزيد عن حاجتهِ إلى الأسواق الخارجية، فأغلب السلع الاستهلاكية الضرورية كالمواد الغذائية تـُستهلك محلياً، وما يزيد عنها وما يُخصص للبيع والتجارة يتوجه للأسواق المحلية ومن ثم المناطقية، وهي أسواق ثلاث كبيرة هي «عكاظ ومجنة وذو المجاز».

  وتوضحُ طبيعة السلع اليمنية المُصَّدرة غلبة السلع الاستهلاكية البذخية، التي تباع لمركز التصدير ومن ثم تباع خارجياً، في حين يعيش أغلبية المنتجين على السلع الضرورية.

  وبحكم تحول مكة إلى المركزين التجاري والديني معاً، فقد اختلطت السلعُ بالقيم الدينية. كانت المناطق الجزيرية العربية التي تقيم التبادل بينها بحاجة إلى سوق موحد تجري فيه أكبر عمليات التبادل، فكانت مكة التي تحولت من قرية إلى مدينة بفعل الخط التجاري الدولي المار بها، ومن ثم غدت المركز التصديري الرئيسي، فكان المنتجون لكي يستمروا في عيشهم بحاجة إلى تصدير الفائض نحو قبلة مكة التجارية، التي راحت تصير قبلة دينية كذلك ، بحكم إن الشعائرَ الدينية تحمي السلع والنقود الناتجة منها والعمليتان متداخلتان.

  لكن المنتجين لم يفعلوا ذلك مباشرة، بل من خلال الوسطاء التجاريين، الذين كانوا يأخذون تلك السلع ويبيعونها، وفي البدء نيابةً عنهم بحكم النشؤ القبلي، ثم مع استمرار التمايز بين المنتجين والمالكين، انفصلوا وصاروا تجاراً مستقلين.

وتبينُ نشأةُ مدينة مكة هذا النموَ المتمايزَ للفئات التجارية من قلب العلاقات القبلية، ففي البداية نجد أن جد القبيلة «قصي بن كلاب» عنده أغلب وظائفها الدينية والتجارية  مما عبر عن وحدة قبلية كلية في القمة، ثم تنشأ البيوتاتُ التجارية العائلية؛ كأمية وبني مخزوم وبني هاشم الخ .. مثلما تظهر العائلات الغنية والعائلات الفقيرة.

  لكن الفارقَ بين مكة وبقية المناطق إنها غير منتجة لسلعٍ، بل هي تستقبلُ السلعَ وتصدرها، وتحتفظ بجزءٍ ضئيلٍ منها للاستهلاك، فهي بلا جذور حرفية وبلا زراعة، ومن هنا قامتْ بتحويل جزء من رؤوس أموالها لتملك الأراضي في المناطق المجاورة فكانت «الطائف» بستانها، و«جدة» ميناءها فغدت دويلة اقتصادية.

  تعبرُ مكة عن المدينة التجارية الخالصة، التي لم تتطور من داخلها لتكون مدينة تجارة، بل هي قد أسستها الضرورة التبادلية العالمية والمناطقية، ولهذا فإن المناطق الأخرى لم تستطع أن تتطور مثل مكة في نموها الاقتصادي وفي عقليتها التحديثية.

  لقد ساعدها غيابُ الجذور الزراعية والحرفية لكي تكونَ مدينةَ مالٍ وسلعٍ بالدرجة الأولى.

لكنها مع ذلك بحكم خلفيتها الدينية التي رُكبت وتصاعدت بفضل دورها التجاري التوحيدي، فكان هذا الدور يعضد المكانة التجارية ويضفي عليها قداسة، ولكن هي قداسة تجميعية للرموز الدينية مثلما هي تجميع للسلع التجارية.

  ومع ضخامة دور الوسيط بين المنتجين المتوارين، سواء كانوا عرباً أم أجانب، فإن الوسيطَ هو الذي أثرى أكثر من أولئك المنتجين، وتدلنا الأرقامُ التجارية للسلع ولأرباحها عن ضخامة الرأسمال البضائعي الذي يتدفق والذي يتحول من جديد للتجارة، أو يشتري الأرض العقارية، التي كانت محدودة بحكم ضخامة الصحراء.

  ومنذ البداية نلمح هذا التناقض الهام بين كمية النقد الكثيرة المتوفرة وغياب التوظيفات الفاعلة، فيذهب قسمٌ كبير من النقد نحو الاستهلاك البذخي، فيضيع من دورة رأس المال، ولكنه في هذه المرحلة لا يضيع بل يوظف لكن حين ستنشأ أسرٌ حاكمة ويتراكم الفائضُ لديها فسوف يتجه إلى البذخ الخالص.

  كان في جزيرة العرب طريقان للتجارة «أحدهما شرقي يصل عمان بالعراق وينقل بضائع اليمن والهند وفارس براً، ثم يجوز غرب العراق إلى البادية حتى ينتهي به المطاف في أسواق الشام» «والطريق الثاني هو الأهم وهو غربي يصل اليمن بالشام مجتازاً بلاد اليمن والشام ناقلاً أيضاً بضائع اليمن والحبشة والهند إلى الشام وبضائع الشام إلى اليمن حيث تصدر إلى الحبشة والهند عن طريق البحر»، كتاب أسواق العرب، ص9 .

  من المدن التجارية الهامة في العصر القديم «تيماء: المحطة الكبرى العامة شمالي الحجاز مروراً بسلع وبُصرى وتدمر ودمشق».

  «كان للعرب دراية بالملاحة منذ القرن العاشر قبل الميلاد»، «عن تاريخ العرب الأدبي نيكلسون» ويضيف: «وكانت صعوبة الملاحة في البحر الأحمر تجعلهم يفضلون الطريق البري».

  «كانت القوافل تقوم من شبوت في حضرموت وتذهب إلى مأرب عاصمة سبأ ثم تتجه شمالاً إلى مكربة «مكة» وتظل في طريقها من بترا حتى غزة».

  «كان الحميريون هم المسيطرون على التجارة جاعلين العرب الحجازيين عمالاً عندهم حتى قبيل البعثة» السابق ص 11.

  «منذ القرن السادس انتقلت التجارة تدريجياً من اليمنيين إلى قريش».

  قال الألوسي:

  «وأما أهل اليمن وعمان والبحرين وهجر فكانت تجاراتهم كثيرة ومعايشهم وافرة لما في بلادهم من الخصب والذخائر المتنوعة والمعادن الجيدة»، ص 11 «على أن لــ طيئ ومنازلها أواسط نجد شهرة في الاتجار شمالي جزيرة العرب».

  (وقدّر بعضُهم ما يشتريه العالمُ الروماني من طيوبِ بلاد العرب والفرس والصين بقيمة مائة مليون من الدراهم) ص 12.

  وتعبيراً عن التبادل المناطقي الواسع قالوا: (برود اليمن وريط الشام وأردية مصر). ومن أقوالهم: (الطائف مدينة جاهلية قديمة وهي بلد الدباغ يدبغ بها الأهب الطائفية المعروفة). أما (هجر والبحرين فهي متجر التمر الجيد).

  كان التجار يُسمون السماسرة فجاء الإسلامُ بكلمةِ معشر التجار. وهناك اسماء أعجمية وَرَدتْ للعرب تحملُ أسماءَ البضائع: (الصنج والصولجان والفيل والجاموس والمسك وخصوصاً أنواع النسائج كالديباج والاستبرق والابرسيم والطيلسان) السابق ص 18.

  وتعرفنا بعض الكلمات الأعجمية التي عربت وصارت جزءً من التسميات العربية على تغلغل العلاقات البضائعية في الحياة الجاهلية مثل:(ترف وجزية ودرهم وفندق وقارب ولص). سردَ هذه الكلمات بندلي جوزي في بحثه (بعض إصطلاحات يونانية في اللغة العربية) في مجلة مجمع اللغة العربية 3 / 330 نقلاً عن المصدر السابق، ص 19).

  قال معاوية لصوحان صف لي الناس فقال: خلق الناس أخيافاً، فطائفة للعبادة، وطائفة للتجارة، وطائفة خطباء، وطائفة للبأس والنجدة، ورجرجة بين ذلك يكدرون الماء ويغلون السعر ويضيقون الطريق.

  وقد عرف العربُ سندَ الملكية (طابو) والعقود.

  ومن كتاب المحاسن والأضداد نقرأ ( إن العديد من رؤوساء قريش كانوا باعة وحرفيين). وتعددت البيوع عندهم مثل: بيع الغرر، أي بيع ثمر النخل والشجر لمدة عام أو عامين وهو مرفوض دينياً.

  بيع التصرية وهو عدم حلب الناقة لفترة من أجل أن تمتلئ وهو شكل من التحايل.

  البيع الناجز وهو البيع الصحيح يداً بيد.

  (في البدء كانوا يتعاملون بالمقايضة ثم تعاملوا بنقود الروم والفرس، الدنانير والدراهم، ويقدر الدينار بعشرة دراهم، والدرهم يساوي عشرة قروش مصرية (حسب زمن المصدر 1960)

  ويدل هذا على ضعف تطور العلاقات البضاعية ــ النقدية، ثم نموها عبر تنامي إنتاج القبائل عبر مئات السنين، واستمرار سيطرة الفرس والروم السياسية، فكان فائضٌ ما ينتقل من الجزيرة للأمبراطوريتين، ثم غدت نقودهما نقودَ الأمبراطورية الإسلامية التي وورثت الهيكل الاقتصادي ــ السياسي العبودي ــ الإقطاعي دون أن يستطيعَ التراكمُ المالي أن يؤدي إلى المرحلة الرأسمالية.

  وجاء لدى المقريزي إن أول من ضرب السكة عمر بن الخطاب على نقود فارسية مع كلمات عربية إسلامية.

وكان لديهم (المكس) وهو أخذ العشر من بائعي السوق والمكس في اللغة النقص وفي البيع انتقاص الثمن. قال الشاعر:

أفي كل أسواق العراق أتاوة/وفي كل ما باع امرؤ مكس درهم

وحول الاستغلال وتراكم الأموال، جاء في خزانة الأدب (كان أحيحة بن الجلاح كثير المال شحيحاً عليه يبيع بيع الربا في المدينة).

  عُرف بعض الصحابة باستخدام الربا كخالد بن الوليد وعثمان بن عفان وحين جاء الإسلام تركا الربا بطبيعة الحال، وكان الرهن يصل إلى رهن البشر مما يعبر عن كوابح تطور العلاقات البضائعية النقدية وانغمارها بعلاقات العبودية وقتذاك.

  وهناك ربا الأضعاف المذموم بشدة في القرآن ((لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة)) آل عمران 3، وهو أمرٌ يعبرُ عن هدف سياسي هو زعزعة سيطرة القبائل اليهودية على المدينة وعلى العرب وقد أخذ الفقهاءُ هذا الحكم كحكمٍ مطلق وليس نسبياً، ثم جاء فقهاءٌ حاولوا تجاوز هذه الإشكالية عبر ما ُسمي بفقه (الحيل). وهذا كله يبين استمرارية تنامي العلاقات البضائعية النقدية لدى العرب رغم الكوابح الطبيعية الهائلة والشظف والتحكم السياسي الجائر في عصور الدول الاستبدادية.

  لم تستطع العلاقات المالية والبضاعية كشكلٍ أولي من العلاقات الرأسمالية أن تحصل على مساحة أساسية في البناء الاجتماعي العربي الجاهلي، بسبب ضخامة العلاقات الأبوية التي تتمظهرُ في سيطرة شيوخ القبائل على أجسام القبائل في حركاتها الانتقالية المكانية وفي توجههاتها، عبر الحفاظ على البناء الاجتماعي التقليدي القائم على خضوع الفقراء للأغنياء والصغار للكبار والنساء للرجال والعبيد للسادة.

  وهذا كله يؤدي لعدم ظهور وتراكم الرأسمال.

  وتلك سيطرة اجتماعية موجودة في كل القبائل، لكن لم يكن لرؤساء القبائل مركز سياسي ما، فجاءتْ الدولةُ العربية الإسلامية لتضعَ الأسسَ لانتقال سيطرتهم الاجتماعية لتكون سيطرة سياسية بعد هزيمة دولة الجمهورية الشعبية زمن الخلفاء الراشدين.

  وتلك السيطرة الاجتماعية على كل قبيلة منفردة، توحدت بالنظام السياسي الأمبراطوري، الذي كرسَّ سيطرة زعماء القبائل، وأشركهم في المداخيل واستعان بهم في الجيوش والحروب الخ..

  وبهذا فإن العلاقات المالية البضاعية في زمن الجاهلية لم تحصل على بنية اجتماعية مُستوعِبة لها، بسبب ضخامة الصحارى وتشتت القبائل والمدن.

  فبقيت العلاقاتُ الرأسماليةُ الجنينية على ضفاف العلاقات الاجتماعية الأبوية وحين تكونت المدنُ الإسلامية الأولى خاصةً، كالبصرة والكوفة والفسطاط والقيروان وفاس فإنها كانت معسكراتٍ للجيوش، مما جعلها مراكزَ سياسية بدرجة أولى، ثم تحول بعضُها إلى مدنٍ تجارية كبيرة لأسباب خاصة بها كالبصرة التي غدت الميناء الكبير على ضفة الخليج.

أما السيطرة الاقتصادية الكبرى على الثروة والإنتاج فكانت من نصيب نفس تكوين الشيوخ القبليين في زمن الجزيرة الجاهلية، ولكن صارت سيطرتهم مركزةً في أسرة واحدة وفي شخص الخليفة، وغدت الأملاكُ الكبرى الزراعية هي الأساس الاقتصادي للدولة، ومن الخراج و مكوس التجارة تتشكل أغلبية الدخول.

  تغدو الملكية الزراعية الإقطاعية هي ملكية عقارية غير داخلة في التداول البضائعي بشكل عام، لأنها بعضها يُوهب أو يُباع، ولكونها هي مصدر أغلبية الثروة الأساسية فإن (المجتمع) يكون قد أعاق نمو العلاقات البضائعية بطريقة سياسية مخربة على المدى الطويل.

  إن الملكية العقارية الكبرى هي بضاعة في ذاتها لكنها مملوكة للإدارة السياسية فتتجمد وتعرقلُ تطورَ السلع ونموَ رأس المال، وهي كذلك وسيلة من وسائل إنتاج البضائع، عبر تحول مداخيلها عند الأسرة الحاكمة وأسر الكبار عموماً إلى وسيلة اكتناز وبذخ، فتغدو مصدراً لحراك اقتصادي يؤدي مع مرور السنين إلى الأفلاس، لأن المداخيل (أو الجزء الأكبر منها) لا تعود لبنية الإنتاج.

  إن الطبقات والفئات التي تستولي على النصيب الأكبر من الفائض الاقتصادي تدرجهُ في الاستهلاك الشخصي، فسواءٌ كان ذلك لدى الخلفاء وزوجاتهم وابنائهم أم لدى التجار الكبار والقواد وكبار رجال الدين الحكوميين، فإن الفائض لا يعود مرة أخرى لتطوير الإنتاج إلا بنسبة ضئيلة كترميم السدود.

  وسنجد بعض مظاهر تدهور رأس المال التجاري كالهجوم على أموال كبار التجار وقيام هؤلاء بإخفائها تحت الأرض، والسطو على أموال الخلفاء أنفسهم وسرقة مصاغ زوجاتهم، في حين إن الوضع الاقتصادي العام يشير إلى الخروج المستمر للذهب من الديار الإسلامية، وتدهور قيمة العملتين الذهبية والفضية، وتدني وتدهور الحاصلات الزراعية، وجمود الحرف بسبب عدم تغلغل الرأسمال المادي والعلمي بها، فتغدو الحرف عاجزة عن التحول للصناعة، بل تصيرُ مهناً تقليدية يسيطر عليها أسطوات ومعلمون يحولون طرق الإنتاج فيها إلى أسرار، ويحولون الشغيلة إلى تلاميذ. وهذا ما يكون مناسباً في مستوى الثقافة مع الثقافة الصوفية التي تغدو هنا طرق دراويش مخلوطة بسحر وخزعبلات.

هكذا فإن رأس المال يغدو على ضفاف المجتمع الإسلامي، سواء بتدميره على مستوى الطبقة الحاكمة بالبذخ، أو على مستوى الشغيلة بتحجر الإنتاج وتدهوره المستمر.

  ولكن بين التوسع الكبير للإنتاج الزراعي وضخه للموارد في المدن وبين انهياره ثمة قرون من التطور الاقتصادي الذي تظهر فيه إبداعات اجتماعية وثقافية كثيرة.

  ونستطيع أن نرى تبايناً في علاقات الإنتاج والتداول، فثمة علاقات عبودية جزئية وإقطاع سياسي متحكم بشكل عام، وعلاقات رأسمالية غير سائدة تتمركز في التجارة خاصة.

  وإذا حدث تناغمٌ بين الإقطاع السياسي والعلاقات الرأسمالية، بمعنى عدم قيام الإقطاع الحاكم بتضييع الثروة وساهم بفتح المجال لنمو التجارة والحرف، أي بتطوير مصادر الإنتاج، فإن العهدَ يشهد ازدهاراً، كما حدث في بعض فترات الحكم الأموي أيام معاوية وعبدالملك بن مروان، ثم في الدولة العباسية لدى المنصور وهارون الرشيد والمأمون، ولكن مع تفاقم نفقات الحكم والجيش فإن ذلك يؤدي لتدهور مصادر الإنتاج، وقيام فترة الاضطرابات و مجيء الحكام الضعاف وتدهور الثقافة الخ، كما نلحظ ذلك مع حكم المعتصم العسكري البذخي ثم تنامي التدهور في الخلفاء من بعده، وتؤدي الحروب دور المعجل للتفسخ والتجزؤ للأمبراطورية.

  وعلى الرغم من السيطرة العامة لنظام الإقطاع على النظام الاجتماعي الإسلامي إلا أن هذا النظام شهد نمواً كبيراً للرأسمال التجاري لا يصل بطبيعة الظروف السابق شرحها إلى تجاوز ذلك النظام.

وقد أوضحنا كيف إن هذه العلاقات التجارية والمالية ازدهرت بشكل واسع، وعرفت كل أشكال التبادل التجاري والمالي، بين المناطق العربية الإسلامية وبينها وبين العالم.

  وإذا كانت هذه العلاقات لم تصل إلى إزاحة البناء الاقطاعي، أي هيمنة الأسر على المال العام والإنتاج، فإنها نقلتْ جوانبَها المتقدمة إلى القارة التي سوف تتفتح فيها هذه العلاقات التجارية المالية على أوسع مدى وهي القارة الأوربية.

وبعكس الآراء الزاعمة بقيام العرب بخلق التخلف الأوربي فإن المعطيات التاريخية الموضوعية تشير إلى العكس أي قيامهم بخلق أسس النهضة على مستويي الاقتصاد والثقافة.

  وهكذا فإن درجات التطور الرأسمالي العالمي لها حلقات مشتركة من الأدنى إلى الأعلى وبالعكس، فبعد التدهور الاقتصادي الذي جرى في أوربا خلال القرنين السابع والثامن الميلاديين، ظهرت الدويلات الإقطاعية الصغيرة وصارت الكنيسة الكاثوليكية أكبر مالك للأرض الزراعية وتحكمت الجيوش والأنفاق الهائل عليها مما زاد من الضرائب التي أضعفت الإنتاج.

  ووقع الاحتكاك العربي الأوربي الاقتصادي الإيجابي في حوض البحر الأبيض المتوسط، ومن هنا نرى أن المناطق الداخلية والغربية الأوربية عرفت النهضة لاحقاً، وتركزت النهضة في المدن الإيطالية القريبة من الممالك العربية، ورغم إن الرأسمال التجاري الإيطالي تشابك بقوة مع الحملات الصليبية التي استثمرها إلا أنه تنامى أكثر بفضل نمو التجارة السلمية، فسك العملات النقدية الجديدة وأسس الشركات، وغيّر نظامَ الأرقام مدخلاً نظامَ الأرقام العربية وترجم ونقل الكثير من جوانب العلوم الطبيعية والرياضية والفلسفية العربية، وكل هذه الخميرة انتقلت إلى الدول الأوربية في الوسط ثم في الشمال والغرب، والأخيرة هي التي قامت بالثورة الصناعية والرأسمالية الشاملة بفضل ابتعادها عن مركز الإقطاع في روما وازدهارها بالتجارة والاكتشافات الجغرافية.

  بطبيعة الحال فإن قانونَ النمو داخليُّ دائماً لكن المؤثرات الخارجية الإيجابية تسرعُ من الصراعات الداخلية باتجاه التقدم، ولم يستطع الرأسمال الصناعي الظهور في غرب أوربا إلا بتراكمات هائلة أوربية وعالمية، حيث عملت التدفقات النقدية والمعلومات العلمية وحرية بعض المدن على هدم الجدار الكبير بين الحرف والصناعة، أي عبر خلق نظام المحركات في إنتاج السلع: (المانيفكتورة ثم المعامل). وهو أمرٌ عجز عنه العرب للأسباب السابقة الذكر. وبهذا التحول تم ظهور نظام الرأسمالية العالمية ومنشأه أوربا الغربية.

  إن وجود مناطق حرة لظهور الرأسمال الصناعي، حرة من حيث عدم تسلط الحكومات ورجال الدين المحافظين، قد تشكل في المناطق البعيدة عن المركزيات المتشددة، وعبر خلق سوق قومية الخ..

  ولكن مع تحول الرأسمالي الأوربي القاري – العالمي، فإن السيطرة على المواد الخام والأسواق الخارجية صارت معرقلةً لنمو الرأسماليات في الدول المتخلفة، فقام الغربُ بالتحكم في أسواق الدول العربية والإسلامية، مانعاً إياها من العملية التي ساهمتْ هي فيها وأسست تقدمه، أي أنها كونت مرحلة الرأسمال التجاري التأسيسية، فوضع الغربُ الأمبريالي اثناء سيطرته الأولى القيودَ الكثيرة على بقاء الدول العربية والمختلفة عامة في مرحلة الرأسمال التجاري دون المساح لها بالصعود إلى مرحلة الرأسمال الصناعي. فعاش الشكل الأعلى وهو الرأسمال الصناعي (الحر) أكثر من قرن على التحجيم والقيود.

  فحين جاء الاستعمار الغربي لم يعمل على تغيير البناء الإقطاعي الموروث بل حافظ عليه ووطده. بأن جعل الحكام يحصلون على قسم كبير من الثروة من خلال التحكم في أجهزة الدول، وهو الأمر الذي حافظ على البناء الإقطاعي القديم، بكل بنيته الاجتماعية، وكان الحكام هم الغربيون ثم سلموا الحكم للقوى المحلية التي جُيرت لخدمة البناء الاقتصادي التابع.

وهذه العملية الاقتصادية العالمية المتضادة، أي دفع العرب أوربا للتقدم ثم دفعُ الغربِ العربَ للتخلف، تعكس طبيعة النظامين العالميين الإقطاع والرأسمالية، في مرحلة النشأة الأولى العالمية للنظام الحديث، وهي تعكس مستوى قوى الإنتاج على الجانبين، فالنظام الأول العربي يقومُ اقتصادياً على الخراج والمكوس والغزو (وهو شكل من الاستيلاء المباشر على السلع)، في حين يقوم النظام الثاني الغربي على تصدير رأس المال والسيطرة على الأسواق. فكان من الطبيعي أن يحدث تصادمٌ كبيرٌ ومأزقُ بين التشكيلات الاقتصادية البشرية الكبرى.

  وهذه المرحلةُ من العلاقة بين الإقطاع الشرقي والرأسمالية الغربية هي مرحلة أولى لأن مراحل أخرى ستتشكل تبعاً لتبدل قوى الإنتاج الغربية وتطور الدول الشرقية كذلك، فتغدو التشكيلة الرأسمالية عالمية تزيل التشكيلات التي كانت قبلها بشكلٍ تدريجي.

  لقد ابقت الرأسماليةُ الغربية الدولَ العربية في البناء الإقطاعي و(تطوراته) ويظهر ذلك في الحفاظ على طبيعة الحكم السياسي الذي يغدو مالكاً لقسم كبير من الثروة عبر الجهاز الحكومي، وهو الجاب الذي يمثل استمرارية للدول السابقة الأموية والعباسية والطوائف، فهنا لم يحدث قطع بنيوي، ولم تجعل الدول الغربية السيطرة الدول العربية على نموذجها بل أبقتها في الماضي، في ذات التشكيلة الإقطاعية، فصارت التطورات المالية والتجارية القديمة والمحدثة تجري في البناء القديم لأسباب سياسية واقتصادية عميقة.

  يتحدد تاريخ البشرية في القرن العشرين بصراع الرأسماليات الغربية الكبرى القوية برأسماليات الشرق النامية الضعيفة، وقد قُيض لرأسماليات الشرق أن تبرز روسيا كقوة طليعية عالمية لها، وبطبيعة الحال وبسبب مستوى الوعي، أُعتبر ذلك صراعاً بين الرأسمالية والاشتراكية، وأعطى الشكلُ الذي ظهرتْ بهِ الرأسماليةَ في روسيا كشكلٍ رأسمالي حكومي التباساً في فهم العملية التاريخية، لكن كان ذلك إبرازاً لسببية أقوى هو دور الدولة في الشرق الحاسم في عمليات التحول الاقتصادية.

  لقد كان بروز الدولة في هذه العملية التاريخية إستعادةً لهذا الدور القديم الراسخ، ولكن جرى هذه المرة في سبيل إحداث قفزة اقتصادية كبرى، أدت إلى خلق القواعد الرأسمالية الحقيقية للاقتصاد عبر التركيز على الصناعة الثقيلة المحورية في حدوث الانتقال من الإقطاع إلى الرأسمالية، مع يترافقها من عمليات تحديث اجتماعي وثورة ثقافية ومساواة قانونية للنساء بالرجال، وبالتالي قربت هذه العملية التاريخية الكبرى روسيا من مصاف الدول الرأسمالية الكبرى في غضون نصف قرن، إذا تغاضينا عن الحروب التي شُنت على روسيا والمقاطعة الاقتصادية والعلمية، وكان لذلك ثمن باهظ لكن العملية أُنجزت، كما قامت روسيا كذلك بجعل تجربتها عالمية عبر الصين وفيتنام وأوربا الشرقية الخ..

  ثم انضمت دولٌ عربيةٌ إلى هذه التجربة بدون ذلك الحسم السياسي، وهو قوة الدولة في تغيير الهياكل الإقطاعية وإحداث القفزة الكبرى بسحب الفائض الاقتصادي من مسام المجتمع كله وتوجيهه نحو الصناعات الكبيرة والعلوم.

  وإذ استطاعت دول روسيا والصين وشرق أوربا من تحقيق معدلات تنمية غير مسبوقة بشرياً، فإن دول العالم الثالث الأخرى ظلت تراوح في مشكلاتها وتخلفها وتجرجر أذيال الماضي كامعاء لا تـُدفن، لكن ذلك لا يعني عدم حدوث أخطاء كبيرة في التنمية.

  فقد عملت التجربة على تملك كل أشكال الملكية الخاصة دون تفريق ونظرة بعيدة المدى، فصادرت الأملاك الإقطاعية الأسرية والدينية أولاً، ثم الملكيات الصناعية والتجارية ثم توجهت لأملاك الأرض المتوسطين ومن ثم الصغار، مما حول الدولة إلى المالك الوحيد، باعتبار أنها ستكون جسراً نحو الملكية الشيوعية المفترضة، أي أن هذه الملكية العامة ستلغي نفسها، وهو عكس التصور الشيوعي الأصلي الذي يقول بأن الملكيات العامة الناتجة من تطور تقني هائل، لن تحتاج إلى دولة لتشكلها بل أن الدولة نفسها ستذوب وتغدو إدارة الاقتصاد ذاتية من قبل المنتجين وإداراتهم، فيغدو التصور (الإشتراكي) الروسي مطابقاً لرأسمالية قومية، تقوم بتضخيم الدولة وتسريع العملية الاقتصادية، وهو ما قلنا بأنه يتماشى مع الجذور الاستبدادية الشرقية في عملقة الدول وتحكمها، وهذا ما أدى إلى قدرة هائلة على السيطرة على الفوائض الاقتصادية وتوجيهها إلى الصناعة الثقيلة، وعبر تقشف وزهد ثوري خاصة في البداية، وتوسيع المشاركة الشعبية والحزبية إلى اقصى حد في التنمية ومراقبتها، وبدون هذا التلاحم الشعبي والحزبي والقتالية الثورية التي تشكلت خلال هذا الوهم الإيديولوجي بتشكيل الاشتراكية وإذابة الفروق إلى الأبد بين الأغنياء والفقراء، وعدم العودة للاستغلال، ما كان للتضحيات الشعبية أن تتشكل.

  ولكن حدثت المعجزة بشكل آخر وهو انضمام الدول الشرقية الكبرى إلى النادي الرأسمالي الغربي، في حين أن الدول العربية التي ماشت هذا الوهم الإيديولوجي ماشته بكثير من التردد والخوف، فقد عارضت مصادرة الملكية الإقطاعية السياسية والدينية، رغم أنها هي الأخرى كانت تعبيراً عن دكتاتورية شعبية لكن هذه الدكتاتورية لم تلبس ملابس الدكتاتورية الطبقية المفترضة، فهي خائفة من دهسها من قبل هذه الدكتاتورية، وهكذا كان قادة المعسكر (الاشتراكي) قادمين من صفوف العمل السري الطويل ومن الحروب الأهلية ومن بين العمال والفلاحين، لكن قادة (الاشتراكية) العربية كانوا عسكريين بيروقراطيين، فعجزوا عن الحسم مع الملكيات الإقطاعية والإرث الإقطاعي الاجتماعي والديني، فوجهوا ضرباتهم الاقتصادية إلى البرجوازية الصناعية أولاً، في حين تركوا الوسطاء من مقاولين ومن صيارفة ومن ملكيات زراعية كبيرة، وتركوا القوى العمالية الفائضة دون حشدها في قوة العمل الاجتماعية، فاستمرت قوى الهامشيين كالعاطلين واللصوص والشحاذين والمومسات بشكل واسع، وعجزوا عن دمج أكبر قوة مهمشة في الإنتاج الاجتماعي وهي النساء، وكان من ثمار هذه السياسة (الإشتراكية) عدم بناء الصناعة الثقيلة فاستمرت نفس الهياكل الاقتصادية المتخلفة مع بعض التطور في الصناعة المتمثل في بناء بعض مصانع الحديد والصلب وغيرها من المنشآت كمنشآت الري، هي الحدود التي بلغتها مثل هذه التنمية التي رفضت تشكيل الصناعة الثقيلة، بدعوى عدم التضحية بالجيل الراهن، وما لبثت أن تنامت سوسة البيروقراطية والفساد في هذه الملكية العامة نفسها، فقلصت إيجابياتها أو جعلتها في خدمة قوى الطفيلية المتصاعدة.

  وفي حين أن الدول الشرقية (الاشتراكية) قد عانت فيها الصناعة الخفيفة المهلة، وأدت البيروقراطية إلى شلل تقني وإلى العجز عن ملاحقة الثورة المعلوماتية والعلمية، بعكس ما كانت تنادي به الاشتراكية في أدبياتها الأولى، لكن الصناعة الثقيلة قد شكلت، وتغلبت في أحيان عديدة على مستويات بعض الدول الرأسمالية الغربية. أما الدول الاشتراكية العربية فهي ضيعت الصناعتين فلم تجذر صناعة ثقيلة ولا خفيفة، وكان من جراء ذلك ما سُمي بــ(الانفتاح) وهو القضاء على الصناعتين معاً وترك الاستيراد يستولي على السوق الوطنية.

ودليل ذلك يظهر في السلعة، حيث لا توجد سلعة مصنعة عربية هامة، في حين إن الدول الشرقية (الاشتراكية) تمكنت من تصنيع سلع كبيرة رغم أن المواصفات ليس بجودة السلع الغربية تماماً، لكنها في الطريق لكسب معركة الجودة والنوعية.

وهذا يعني أن الطبقة الإدارية التي لبست عباءة الاشتراكية في الشرق إعادت تشكيل قوة العمل البشرية لتلائم الاقتصاد الحديث، وحافظت على خلق سوق وطنية كبيرة محمية، ووجهت الفوائض الاقتصادية نحو معركة التغيير الاقتصادي الحاسم، وغيرت البنية الاجتماعية الشعبية المحافظة التقليدية لتلائم سوق العمل العصري في حين لم تفلح ذات الشريحة في العالم العربي القيام بذلك.

  يقوم المضمون الإقطاعي العربي الموغلُ في القدم بدمغ أية ظاهرة واردة من الخارج، فيحيلها إلى هيكليتهِ ويمتصُ حداثتَها في تخلفه، ورأسامليتها في إقطاعيته.

  فامتيازاتُ النفط وواردته تقسم بين الشركة الغربية والعائلة الحاكمة أو قيادة الحزب أو قيادة الدولة، فبدلاً من أن تكون ملكية النفط إنتاجية خاصة أو تابعة لدولة ديمقراطية، تصبحُ ملكاً لأطراف سياسية متنفذة، تعكس مصالح الطبقة المسيطرة في البلد المعني.

 وفي حين يخصص قسمٌ صغيرٌ للخدمات ومصالح الدولة العامة تقوم ذات القوى المحلية المهيمنة وحلفائها في الإدارة بشفط قسمٍ آخر منه ذلك التقسيم الثنائي؛ غربٌ مستكشفٌ مستورد، وشرقٌ منتجٌ مالك، وهي تسمياتٌ على غير مسمى.

هكذا يقوم الإقطاع بتحويل ملكيةٍ رأسمالية حديثة إلى ملكية إقطاعية أساسية، في موارد الإنتاج الكبرى، ثم تجري كل العمليات الاقتصادية الفوقية بطريقة رأسمالية من تحديد للرأسمال الثابت أو المتغير وأسعار المواد الخام وبيعها، ولكن المضمون الأساسي، وتحديد أساسيات الدخل، تتم من خلال عوامل سياسية مسيطرة على العلاقات الاقتصادية، وهو أمر لا يختلف عما حدث في العصرين الأموي والعباسي.

  وهذا يندرج على الاصطفافات التجارية وطبيعة العائلات التجارية التي تتشكل من خلال قرارات سياسية عليا، عبر تشكل علاقات سياسية معينة بين الطبقة المسيطرة وهذه العائلات  التجارية، فيجري السماح لعائلات معينة أو منع عائلات معينة من التجارة أو من الدخول إلى البلد، أو إعطاء جنسيات معينة حق مزاولة مهن مهمة، كما حدث للعائلات الأوربية المهاجرة في بعض الأقطار العربية ومنحها أمتيازات لا تـُمنح لمهاجرين آخرين.

   وتقوم العائلة المالكة للأرض والعباد أو المكتب السياسي للحزب الحاكم أو هيئة الضباط المتنفذة، بتقريب أو إبعاد الموظفين الكبار وتحديد بناء الوزارات والإدارات تبعاً لمصالحها ونفوذها ومداخيلها.

بل حتى الموظفين الصغار يتأثرون بالسيطرة الإقطاعية على أجهزة الدولة، فهي ترتبُ الدوائرَ لخلق صراعات مذهبية أو دينية أو قومية وتكون خالية من الأفكار المناوئة لها، وتخفض الرواتب هنا من أجل ضبط السيطرة وخلق الفئات الدنيا المحتاجة.

  وإذا كان المضمون الإقطاعي هو المشكل لجوهر الملكية العامة فالطلاء الغربي الخارجي يكون متحداً بذلك المضمون، عبر المظاهر الحديثة والأشكال المحاسبية الغربية، لأن السلعة الخام لن تبقى في البلد المعني، بل سوف تكون من نصيب البلد الغربي، فليس مكان الإنتاج سوى مكان عابر، في حين يكون البلد الغربي الرأسمالي هو المكيف للسلعة من أجل حاجته ومشروعاته وتطوره. فيغدو البلد (المستورد) هو المنتج، ويصير المشتري هو المتحكم في عملية البيع.

  يغدو مكانُ إنتاج السلعة ضمن النظام الإقطاعي المحلي مستهدِفاً لغاياتٍ سياسية بارزة، أهمها استمرار تدفق المادة الخام الثمينة، كمادةٍ خام أو كمادة محوَّلة بعض التحويل، في حين تبقى العمليات التقنية والاقتصادية العميقة من اختصاص البلد المستورد، وهذه التحولات العميقة هي التي تبقي البلدُ المتطور مسيطراً ورأسمالياً في حين تبقى البلدُ المصدرُ إقطاعيةً تابعة.

   وإذا حدثت تطوراتٌ رأسمالية في البلد المصدر فإنها تبقى رأسمالية فوقية أو سطحية لا تصل إلى تصنيع المادة الخام إلى اقصى مدى.

  وليست المادة الخام ثمينةً إلا لظروف اقتصادية تاريخية تتعلق بأهميتها في بلد الاستيراد المُسيطر، وليس في البلد المُصدر، فمن اكتشفها أو زرعها وخلق شبكة إنتاجها المحلية وشبكة توزيعها الدولية هو البلدُ المستورد، لظروف اقتصادية مرحلية تتعلق بتطور قواه المنتجة، ودور السلعة المستوردة البارز في هذا الإنتاج، وحين تُشاع مثل هذه السلعة أو تحل محلها بدائل كالقطن الذي نافسه الحرير والنايلون والقماش العادي، فإن نظام الاستيراد المسيطر يتغير.

  ولا تقتصر قوى نظام المستورد المحلي على الطبقة الإقطاعية المالكة أو المشاركة في الملكية، بل على قوى تقدم مساندة مالية وخدماتية وعملية للمشروع، كالمقاولين الذين يستأجرون عمالاً أو يبيعون مواداً مفيدة للمشروع، أو كالتجار الذين يشترون جزءً من المادة الخام أو المكررة ويوظفونها في السوق المحلية أو يصدرونها للسوق القريبة، ولا بد لهؤلاء أن يكونوا مرضيين عنهم من قبل الطبقة المسيطرة، حيث يمثلون جزءً من الحزام الاجتماعي الحامي للمشروع.

  أما العمال فهم يجلبون بسبب قوة عملهم، التي يخضع تطورها لتطور قوى الإنتاج في المشروع.

  إن السيطرةَ الإقطاعية تصيرُ دائماً هي مضمون الظاهرات الاقتصادية، في حين يغدو الشكلُ رأسمالياً، وهذا التناقضُ هو مشكلُ البضاعةَ الأساسية، التي هي المادة الخام الكبرى التي يقوم عليها الاقتصاد كالفوسفات أو البترول أو القطن، ومن ثم يتغلغلُ في كل ظاهرات الإنتاج والحياة.

  فكما رأينا كيف غدت سلعة البترول وهي البضاعة الأساسية التي  ستحركُ نظامَ الإنتاج برمتهِ متناقضةً بين سيطرة الإدارة السياسية الاستعمارية – المحلية، ذات التوجه السياسي المفروض من أعلى، وبين طبيعة السلعة ذات المعايير الاقتصادية الحديثة المجلوبة من الغرب والمعبرة عن عالم (حر)، فنرى في (البضاعة) صراع التشكيلتين وتباينهما.

فهنا إقطاع وهناك رأسمالية، هنا قديمٌ مهيمن، وهناك حديثٌ براني خارجي، وكما يبدو ذلك في السلعة التي تشكلُها قوةُ العمل فإن قوةَ العمل ذاتها تعيشُ نفس التناقض.

  فقوة العمل المنضمة لأحدث نظام اقتصادي عالمي وقتذاك تكون مُخرجةً من حقولٍ خربة أو كاسدةٍ أو من مغاصاتٍ انتهى زمانها، أو من اقتصاد رعوي ضاق بأهله، أو من ريف متخلف تكنولوجياً واجتماعياً.

  ومن هنا فالعاملُ وهو يبيعُ قوةَ عملهِ يبيعُها في وقتِ كساد أو أزمة أو انهيار أو ضعف، ولهذا فإن المعروضَ من قوة العمل يكون كبيراً، فتتدنى الأجورُ إلى أدنى حالاتها، في سلعةٍ هي ثمينة جداً على المستوى العالمي.

  فالمجتمع المتخلف التابع لا يعرضُ سلعتيهِ: البترولَ والعمالَ، وهو في حالةِ حرية، بل في حالة تبعية، فيعرضهما بأسعار متدنية، سواءً على المستوى السياسي الذي يظهرُ في امتيازات النفط الممنوحة بشكلٍ أسطوري للشركات الأجنبية، أو في حالة أجور العمال التافهة.

  ومن هنا فهو يقدمُ قوةَ العمل وهي في مجتمع تقليدي، مصنوعةً من موادِ عيشهِ البسيطة كالأرز والخبز والأسماك أو العدس والفول، أي كل المواد التي تصنعُ جسمَ العامل بأسعار متدنية جداً.

  مثلما أن أماكنَ سكنهِ هي الأكواخُ والبيوتُ الكبيرة المزدحمة بالأطفال، ذات الإيجارات البسيطة، مثلما أن معرفته معدومة وعقله مشحون بالخرافات، وهو يجلبُ للاقتصاد الحديث ما تعلمهُ من عادات في أعمالٍ سابقة أو من فنون تعايشت واقتصاد مختلف، كما يجلبُ خاصةً أميتَهُ التي تكون بعيدةً جداً عن قراءة اتفاقيات النفط أو كيفية تشغيل الآلات.

وهكذا فإن العاملَ القادمَ لاقتصاد عصري يكون قادماً من اقتصاد إقطاعي ينهار، يعرضُ قوةَ عملِهِ كبضاعةٍ تشكلتْ في اقتصاد تقليدي، ومن هنا يتحدثُ هذا العامل شكلانياً، أي يصيرُ جزءً من عالم الحداثة وهو يحملُ داخلَهُ علاقات المجتمع الإقطاعي وثقافته، فيقوم بتغيير الثوب البحري أو الريفي أو البدوي، ويلبس البنطلون، الذي هو زي موحد سواء في مصر أم بريطانيا، مثلما يلبسُ القميصَ أو يضع النظارة، أو يتعلم بعض جوانب المهنة الحديثة.

وحين يرتقى أكثر يعرف بعض أسرار هذه الآلات الجديدة بعض الشيء، من تشغيل وملحقاته.

  إن التناقض في البضاعة له مستوياتٌ متعددة، ففي البضاعة ذاتها كجسد مادي خالص، وهي هنا تتبدى كشكل سائل، فإنها تبقى في أرضها الذي ظهرت منه بجسدها نفسه أو بعض مشتقاته، في حين أنها تحصل لها تطورات هائلة حين ما تنتقل للعالم الآخر. ففي الإقطاع تظل مادة تشغيل لبعض المحركات أو مادة ثقيلة للشوارع، أما في الغرب المستورد فإنها تظهر بكل تركيباتها وتتشكل عليها مجموعة كبيرة من الصناعات.

  وعلى مستوى آخر فإن هذه المادة حين تتحول إلى رأسمال في البلد المستخرجة منه تتحول إلى مداخيل في اقتصاد إقطاعي، أي تتجه أساساً لخدمة الطبقة الإقطاعية الحاكمة، وإداراتها وجيشها وبوليسها، والجزء الباقي يتوزع بين التجارة وقوة العمل.

  أي أن المداخيل في البلد المصدر تتوجه أغلبها لعمليات اجتماعية وسياسية لا تضيفُ تراكماً نقدياً على البضاعة، بل تصبُ في جهة الاستهلاك الجماعي، خاصة مداخيل الطبقة الحاكمة، في حين إن التجارة توظف بعضه لعمليات استيرادية معاكسة لعملية التصدير، والجزء الأخير الأقل شأناً يظهر كأجور.

  وفي حين تتضاءلُ رأسماليةُ البضاعة المنتجة في البلد المصدر، وتستحيل إلى علاقات إقطاعية اجتماعية وسياسية وثقافية، فإن كل ينابيع رأسمالية البضاعة تظهر حين تصل البلد المستورد، فتظهر مكونات كثيرة لها، كما تتصاعد قيمها بتحولها إلى مواد مصنعة، فتطور السوق الرأسمالية بقوة.

  ويتعاكس التصدير والاستيراد حول البضاعة المركزية، وهي مركزية فقط في حياة البلد المصدر، لكونها مادة خام أولية أو شبه مصنعة تكون أقرب للمواد الزراعية منها للصناعة. 

  سلعة (البترول) سلعة حديثة رغم عفاريت الكيروسين والقار القديمة التي كانت تتراءى لبدو الصحراء ورغم الجمال المنبوذة التي تـُطلى بها.

  فهي سلعة غربية اكتشفها وانتجها الغرب عبر شركاته، فضخم من وجودها ودورها كما يفعل تجاه البضائع العصرية المركزية، كالفوسفات والذهب والفضة وباقي المعادن.

  لم يعرف العالمُ القديمُ السلعة المركزية التي تهيمن على البناء الاقتصادي هيمنةً كبيرةً بهذا الشكل، فهو يعيشُ على سلة كبيرة من البضائع، صحيح إن سلعة الذهب كانت تدوخه إلا أنها تبقى أداة نقد واكتناز.

  إن تشكيلَ البضاعة المركزية في العالم الشرقي هو في حدِ ذاتهِ عمليةٌ جراحية خطيرة تـُعمل لمريض بالجوع ومصاب بكل الأمراض القديمة، لكنها عملية إعاقة أكثر منها عملية علاج، فهي فقط تشفي الطبيب الغربي من نهمه للذهب.     فالبضاعة الرئيسية المركزيةُ تقودُ إلى تورم الجسم، فالمجتمع النفطي يغدو نفطياً، والمجتمع الفوسفاتي يبقى فوسفاتياً، ومجتمع الحرير يبقى حريرياً، ويسيطر الشاي على الهند وسيلان، وتبقى العديد من أقطار أمريكا اللاتينية مصابة باستفحال الموز كبضاعة، وتحاول بريطانيا أن تجعل المجتمع الصيني أفيونياً فلا تقدر وتستطيع أن تجعل المجتمع الأفغاني حشاشاً.

  إن الاستعمار يركز على إنتاجِ سلعةٍ واحدة كبرى في البلد المعني، مثلما يقوم في المصنع بتخصيصِ أصبع واحدة للعامل من أجل العمل تاركاً كل جسده الباقي معطلاً، وكما أنه يجعل العامل معاقاً في مصنعه فإنه يجعل شعوباً كثيرة معاقة عن المشي التاريخي الطبيعي.

  وفي حين إن بضاعة الشاي الهندية تظهر كجزء طبيعي من الزراعة الهندية، مثل الموز في أمريكا الوسطى، لأنها تظهر في شبكة من البضائع القديمة المختلفة، الناتجة من كيان زراعي ومدني له تاريخ هام، إلا أن بضاعة البترول مختلفة فهي تظهر فجأة من باطن الأرض المجدبة وحولها قفار وصحارى واسعة، ومن هنا كان ظهورها وتفجرها يُربط بشكل سحري وأنه جزء من نشاط الجن.

  لقد ظهرت عبر استكشاف غربي، علمي، فهي بضاعةٌ لها علاقة بتطور المحركات والطاقة، وبالبحث الغربي عن مصادرٍ لطاقةِ المصانع والآلات الضامئة أبداً للنار، وجاء هذا النشاط الاستكشافي ككل حركة علمية مرتبطاً بالحاجة الضرورية لقوى الإنتاج، وفي هذا الوقت كان التفسخ يتوالى على الأمبراطورية العثمانية آخر أمبراطورية جمعت المسلمين، فكان تفكيك هذه الأمبراطورية يتناغم مع انفتاح شهية الدول الغربية للاستعمار، ومع ظمأ المصانع لطاقة رخيصة كبيرة، فاشتغلت اليدان السياسية والعلمية على تقديم البلدان شبه الصحراوية و الصحراوية كبضاعة سياسية كبيرة على مائدة جوع العواصم الغربية وآلاتها.

  وهكذا أختلفت بضاعة البترول عن بضاعة الشاي الهندي، فهي بضاعة مرمية في الصحراء البعيدة، لا تربطها وشائج بالمدن، وهناك شيوخ القبائل يمرون ويتغوطون دون أن يعبأوا بهذه الرمال الخالية.

فليس ثمة شبكة تربطها بمدن أو بزراعة، وليس ثمة أحد يملكها، فهي (معجزة).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

عبدالله خليفة: رأس المال الحكومي الشرقي ، منشورات ضفاف , بيروت 2016 .

إبراهيم العُريّض ــ الشعر وقضيته

٢٠١٨١٢٠٣_١٨٤٩٥٩

                     إبراهيم العُريّض

                   ✨ الشعر وقضيته
                    ○ بيان العريض الشعري ودلالاته المضيئة الباقية

  الشاعر والباحث الكبير إبراهيم العريض من الشخصيات القليلة في الجزيرة العربية والخليج الذي استطاع ان يبلور نظرة عميقة في رؤية الشعر وتطوره، حتى ان كتاباته النقدية والشعرية القصصية والملحمية لا تزال تخصب الواقع الثقافي وتحرض العقول على الكشف الادبي والبحث النقدي، خاصة كتابه (الشعر وقضيته في الأدب العربي الحديث). الطبعة الثانية سنة 1974، مطبعة حكومة الكويت.
  الرؤية العربية الرصينة والكلاسيكية عند إبراهيم العريض كانت ضرورية للأجيال الشعرية الشابة في الجزيرة العربية والوطن العربي، لكنها ابتعدت عنها، ولم تتلاقح معها، وتستفيد من اعماقها وخبراتها.
  الشعر لدى إبراهيم العريض كائن ذاتي وموضوعي معا، فهو وليد الذات الشخصية وتجاربها وعطائها، وهو ايضا نتاج الاحوال الاجتماعية والظروف الموضوعية. فالعريض يقوم بخلق جدلية عميقة بين ما هو شخصي وخاص وذاتي، وبين ما هو موضوعي وعام.
فما يصر عليه البعض من ان الانتاج الشعري وليد النبع الداخلي الخاص المحض،   وشكل من تجلياته الغامضة غير المحددة في سياق، هو أمر مرفوض من الاستاذ الناقد، كذلك فان تصور البعض الآخر بأن الشعر والادب عامة، هو انعكاس للظروف الخارجية والعامة، هو أيضا امر غير صحيح.
  والعريض يتغلغل أولا في الاسباب الموضوعية لتكون الشعر، معددا تجلياتها المتعددة، ابتداء من الظواهر الطبيعية المختلفة، التي تترك تأثيراتها المتباينة على نفوس ولغات الشعراء، مرورا بظروف الحياة، حتى الجذر العميق للحياة البشرية المتمثل في (العلاقات الاجتماعية التي عادة تنشأ جيلا بعد جيل بين أفرادهم، ذكورا واناثا وشيوخا وشبابا، وفئات واحزابا، ثم ظلت تتجدد وتتكاثر في المجتمع الواحد، وفي اكثر من مجتمع بين الرؤوس والاتباع، أو الملوك والسوقة، أو السادة والعبيد) ص 452.
  هذه الاسباب الموضوعية هي التي يحددها العريض كأساس مادي لتشكيل الظاهرة الابداعية، الشعرية خاصة، فالانقسامات الجنسية والجيلية والطبقية، هي التي تلعب دورا حاسما في صنع الاساس الموضوعي العام للابداع.
والعريض في بحثه عن الجذور الخلفية للظاهرة الذاتية، يعتبر كافة العوامل السابقة ذات أدوار متساوية في صنع الظاهرة، فالاجيال والانقسام الاجتماعي تظل مؤثرات متكافئة ومتداخلة في تشكيل الأدب، ولا يلعب مؤثر منها دورا حاسما ومطلقا، مقتربا بهذا من نظرية العوامل المتعددة في صنع التاريخ والثقافة.
  ومن خلال هذا الاساس الموضوعي لتشكل الشعر ينطلق العريض الى تاريخية الشعر وتوزعه على الزمن الاجتماعي، محافظا على هذا الهيكل المادي لتكون العملية الابداعية.
  فهو يتبع الانواع الشعرية الثلاثة وهي الملاحم والمسرحيات والأغاني، أي الشعر الملحمي والدرامي والغنائي، في تجليها الاغريقي وخطها العلمي المستمر حتى الآن، معتبرا هذه الانواع أو الاصناف الادبية الرئيسية اساس تكون الظاهرة الشعرية العامة. وهو يرتبها حسب أهميتها ونموها التاريخي كذلك.
فالملاحم والمسرحيات الشعرية هي التي انبعثت أولا، في ظل الاحتفالات الباخوسية واحتفالات الشعوب القديمة بآلهاتها وأعيادها الربيعية والموسمية، ثم انبثق الشعر الغنائي بعدئذ، بعد انفصام المجموعات العشائرية وظهور الملكية الخاصة والشعور بالذات الفردية.
  والعريض لا يقوم بتحليل أسباب تشكل هذه الانواع الشعرية تاريخيا، معيدا اياها الى جذورها الاجتماعية والروحية، لكنه يبحث عن أسباب تشكلها بشكل عام عند الاغريق، ثم تعثر تشكيلها عند الشعوب الاخرى، وخاصة لدى الهنود والفرس.
  وهنا يقف العريض عند الأسباب الروحية في تشكل الشعر، حيث يرجع تطور اليونانيين الابداعي الى «نظرتهم» المؤنسنة للآلهة، وكيف انزلوها الى مصاف البشر، في حين كان عجز الهنود المسرحي يرجع لنظرتهم الصوفية، «وسموهم» بالإنسان الى مصاف الآلهة و«الزفانا»، أي الفناء في الوجود الأكبر.
وهذه الخلاصة هي نظرة مهمة للجانب الروحي وتأثيره الحاسم على الابداع، وان كانت المسألة تعود ايضا الى ظواهر متشابكة وأهمها المستوى الاقتصادي الاجتماعي للشعب الاغريقي، حيث المدن التجارية الحرة الديمقراطية، التي لعبت دورا حاسما في توجيه الارث الثقافي اليوناني، والشرقي القديم، نحو تعددية الاصوات، وتعميق ثقافة الحوار ــ الديالوج، والانسنة وحب الحياة والطبيعة، مما ولد الابعاد الدرامية خاصة.
في حين كان الشعب الهندي يعيش نظام الاستبداد الآسيوي والمشاعة الحرفية المغلقة، فتكون لديه نظام الطبقات المغلق والصوفية، وهي الحرمان المصعد والمتظاهر بالسمو. وهذا جعل نتاجه الشعري دينيا.
ويصل العريض هنا الى خلاصة هامة لافكاره، فيقسم الشعر الى منحيين، هما اللذان يخترقان ويشكلان ظواهره كلها، وهما المنحى «الواقعي» الذي يكون ذات الشاعر وخصوصيته، وهو ما نسميه في الوقت الراهن «الخاص»، وهو الذي يؤسس الشعر الغنائي والذاتي، حين ينطلق الشاعر متغنيا بأفراحه وآلامه، مصورا هذه الذات في تقلباتها وهجائها للآخرين أو مدحها لهم، وهي كلها ظاهرات ذاتية داخلية، لأن الشاعر يصف عواطفه واعجابه بدون تجسيدات موضوعية كأن يمسرحها في نماذج.
وهناك المنحى «المثالي» حين يخرج الشاعر من ذاته فعلا، عبر تقميص وتجسيد ذوات اخرى وشخصيات وأفكار مغايرة. وهو ما نسميه البعد الدرامي والملحمي للشعر، وهو أكبر من صفة «العام» المقابل للخاص. وأقرب تعبير له هو المنحى الموضوعي في الشعر. لأن تعبيري «الواقعي» و«المثالي» أقرب للفلسفة منهما للنقد الأدبي.
وتطور الشعرية لدى الشاعر هو في سيره من الذاتي الى الموضوعي، في نموه من ذاته نحو ذوات أكبر وتجسيدات موضوعية أشمل، كما يرى العريض.
ان الانواع الملحمية والدرامية هي الانضج والأهم شعريا، كما يرى العريض، في حين يبقى النوع الغنائي هو الأقل تطورا، ومن هنا، كما يضيف، نجد عمالقة الشعر الانساني هم صناع الملاحم والمسرحيات كـ هوميروس واسخيلوس وشكسبير وغيرهم. وهذا ما يجعل الشعر العربي ذا مكانة متدنية في الادب العالمي نظرا لسيطرة الغنائية عليه.
ان هذه الرؤية انقلابية في النقد العربي الحديث، فبدلا من أن يغدو الشعر العربي قمة من القمم في العطاء الشعري العالمي، يغدو في مكانة محدودة، نظرا لضعف الألوان والأصوات المتعددة داخله، وصدوره عن عالم صحراوي قليل العمق، مكرور التجربة، يعيد انتاج نفسه عبر الحقب، فلا يصنع ملاحم ولا مسرحيات بل قصيدة تصف وتمدح وتهجو، واذا تطورت في العصر العباسي فذلك عبر ادخال الفلسفة والحكمة داخل هذا الصوت الذاتي المسيطرة.
ويقول العريض هذا المعنى لكي يجنب عمالقة الشعر العربي كالمتنبي وأبي العلاء المعري ذلك الحيز الذي وضعهم فيه التصنيف النقدي الذي شكله.
والعريض مصيب في نظرته العمومية المجردة، فالشعر الغنائي ظل أقل مستوى من الشعر الملحمي والدرامي، نظرا لتأسيس هذين النوعين على بنى واسعة متكاملة تعتمد بنائية الصورة وتشكل النماذج والحبكات القصصية العميقة، التي ظلت تحاور البشر عبر العصور، رغم انطلاقها من ظروف مختلفة.
وعدم قدرة العرب على صياغة النوعين من الادب تعود لطبيعة تطورهم ومرحلتهم التاريخية. فهذان النوعان ارتبطا بالمرحلة الوثنية الطقوسية واحتفالاتها ومدنها وزراعتها، ومن الغريب المستبعد ألا تكون الشعوب العربية قبل الاسلام قد عرفت هذين النوعين، خاصة إذا عرفنا ان الشعوب السامية، الشجرة التي ينتمي اليها العرب، قد عرفت الملاحم الشعرية كملحمة جلجامش وغيرها. ويجوز ان تكون المرحلة الدينية الجديدة قد طمست الآثار الشعرية القديمة المرتبطة بتعددية الآلهة.
وفي وقت كتابة بحث الاستاذ العريض سنة 1954، لم تكن الدراسات الخاصة بوعي الشعري واللغوي والاسطوري قد وصلت الى ما هي علية الآن.
وكما شهد الشعر العربي تطورات جمة في النهضة العباسية، عبر نمو المدن والاحتكاك بالشعوب الاخرى. فانه شهد تطورات أخرى باحتكاكه بالحضارة الغربية ويعتبر العريض، مستشهدا بنازك الملائكة، أن أسباب التطور الشعري تعود إلى التأثر بالحضارات الأكثر تقدما وهذا أمر فيه بعض الصواب ولكن أمر التطور العميق يعود لتغيرات اجتماعية وروحية تجري في الأمة ذاتها يسرعها الاحتكاك الخارجي وينميها.
وهكذا فان الغرب ساهم في خلخلة العمود الشعري العربي. وخلق الأشكال الشعرية الجديدة، غير ان الدلالات والمناخ الفكري يعود للتربية العربية فالتطورات الفكرية المتصاعدة هي التي كسرت شكل القصيدة الكلاسيكية، وأفضت الى الاشكال الجديدة.
ومنذ وقت مبكر حذر العريض من الانطلاقات الفوضوية في شكل القصيدة، مطالبا بالحفاظ على بنية مرنة وكلاسكية، بل ومقدرا حتى قصيدة التفعيلة كما يكتبها نزار قباني، وكان هذا وعيا ناضجا لم تستفد منه الحركة الشعرية في البحرين كثيرا فيما بعد، نتيجة القطيعة بين الاجيال، وعدم أخذ تجربة العريض الغنية بعين الاعتبار.
في مختارات العريض للشعر المرافقة لهذا البحث، يقدم مختلف أنواع القصيدة الحديثة، والعديد من الاصوات الرومانسية والثورية والذاتية، معبرا عن تعددية جميلة ورصينة.
وكل الاصوات المتعددة التي يقدمها العريض كعبدالوهاب البياتي وفدوى طوقان وعلى محمود وايليا أبوماضي وأحمد الصافي والجواهري وعمر أبوريشة ونزار قباني، تؤكد الابعاد المتعددة التي يريدها العريض للصوت الشعري، وهي جزء من نظرته الى الذات الشعرية، حيث يعتبرها متعددة الموجات والمراحل، ولا يمكن سبر أغوارها، فهي لا نهائية التطور.
فالشاعر من الممكن أن يعبر عن اصوات متعددة، ومواقف مختلفة، ويلبس أقنعة كثيرة، وتبقى ذاته مستمرة التشكل، ولهذا فان الصنف الشعري الغنائي، المعبر بجلاء عن الذات، هو النوع المبسط، قليل العمق ومعدوم الاقنعة، في حين ان الصنفين الدرامي والملحمي هما الاقدر على اخفاء ذات الشاعر، واعطاء صوره بقاء وتنوعا، كما يتيحان له البقاء وسط التحولات والتقلبات.
نظرة الاستاذ العريض هنا لم تتوجه الى مسألة تشابك الاصناف الشعرية، حيث انه من الممكن ان تحوي أبعادا درامية وملحمية، والعكس صحيح كذلك.
ومن هذه الزاوية، يمكن رؤية جدلية الاصناف الشعرية، تعبيرا عن جدلية الانواع الادبية كذلك، فالشعر والقصة والمسرحية، يمكنها ان تتصل، محافظة على انواعها المستقلة. وفي النوع الواحد كالشعر، لا توجد حدود كبيرة، رغم أهمية الحفاظ على قانونية الصنف أيضا. فقد خلق احمد شوقي قصائد غنائية شعرية لا دراما شعرية.
وفي تجربة العريض المهتمة بالتشكيل الموضوعي للشعر، أي بتجسيده قصصيا وملحميا، كذلك، الغنائية المتفجرة، المتقطعة، الملتحمة. ومن هنا كان اعتماد العريض على التسلسل المنطقي والزمني والبنائية الصارمة، اقترابا منه لمعمار القصة المتعدد الاقنعة.
هل نقول ان كل ما طرحه العريض عن الشعر وأصنافه وذات الشاعر وأقنعته المختلفة، ليس سوى بيان العريض عن شعره وعالمه الابداعي الواسع؟
أليس كل هذا الوعي عن الآخرين وأفكارهم، سوى تجسيد لصوت العريض ونظراته؟

 القصة الشعرية عند إبراهيم العريض
اشتهر الشاعر إبراهيم العريض كشاعر قصصي كبير، استطاع ان يخلق القصيدة القصصية الرومانسية الطويلة، بعد عمليات خلق شعرية دؤوبة، ان هذا الروح القصصي العالي كان مثار ملاحظة واسعة من قبل العديد من الدارسين والشعراء.
يقول عنها الاستاذ حسن الجشي في مقدمة ديوان العريض:
[ويبدو ان العريض اكتشف نزعة القص عنده من خلال قصيدة «مي» التي كانت تحتل مكانة بارزة في نفسه، ولعل فرحة الاكتشاف هذه هي لتي جعلت هذه القصيدة اثيرة على قلبه، بيد ان الاهم من ذلك انها كما قلنا بداية نقلة جديدة تحول بعدها العريض من القصيدة الغنائية البحتة التي ضاقت بأحاسيسه ورؤاه وخبراته الانسانية الى القصيدة الموضوعية ذات الطول المديد في حركة متطورة . .] ديوان ابراهيم العريض، طبعة دولة الكويت سنة 1979.
ويضيف الاستاذ الجشي داخلا الى نسيج تجربة العريض الشعرية القصصية:
[ان اكثر قصصه . . ذو بنية مركبة ولهذا نجد منه التعميم والبناء العضوي، والتخلص من الخطابة ومن الاسلوب الوعظي الذي يشيع في قصص مطران الشعرية . . وهو في هذا البناء يستخدم الحوار والمناجاة واحياناً المونولوج الداخلي . . ويتميز الرد القصصي عنده بطابع فني غالباً . .].
ويقول عن شعر العريض القصصي الاستاذ غازي القصيبي ما يلي:
[لقد ارادت طبيعة العريض له ان يكون روائيا وأراد هو ان يكون شاعراً فكان لكل منهما ما أراد، واصبح شاعراً روائياً، أو روائيا شاعراً، ان العريض لا يستطيع ان يكتب قصيدة دون ان يحولها الى رواية أو على الاقل اقصوصة] غازي القصيبي، قصائد أعجبتني، دار ثقيف للنشر والتوزيع، 1982، ص 69.
سنأخذ قصيدة «بين عشية وضحاها»، ص 145، من الاعمال الشعرية الكاملة، كمثال تطبيقي لهذا النفس القصصي، الذي لفت الأنظار وسنحاول فض بعض اسرار هذا النص الأدبي، في عملية نموه القصصي، بالدرجة الاولى.
القصيدة تتكون من فقرتين رئيسيتين، حددهما الشاعر برقم (1) و(2)، وبدا ان العنوان ينطبق على تقسيم الفقرتين، فالرقم الأول يقابله «عشية»، والثاني يقابله «ضحاها»، فهاتان الفقرتان الكبيرتان، تقسمان الزمن الى ماض، وحاضر، أو هما تجسدان حكاية، لها أولها، ولها خاتمتها، والفقرة الكبيرة الأولى هي عن الحاضر، الذي ينقلب الى ماض، والحاضر يبقى كنهاية للحكاية، وبين الماضي والحاضر هناك خط الحكاية المضفور من علاقة حب سريعة خاطفة بين فتى صياد وفتاة غنية، في ليلة عاصفة، في بنية اجتماعية متناقضة، لا تسعف الحب ان ينمو ويتشكل، وتؤدي بالحبيب الى الافتراق التام القاطع، ثم التلاقي بعد عشرين سنة، في موقع آخر، لم تتغير فيه البنية الاجتماعية المتناقضة، بل تغيرت احوال الحبيبين، فصار الفتى الصياد الفقير فناناً شهيراً، وصارت الحبيبة زوجة وأماً، وبقى شيء واحد لم يتغير هو ذاتا الحبيبين المفعمتان بحب فاشل.
هذه الحكاية لا يلقيها علينا الشاعر دفعة واحدة، بل هو يرسمها لحظة بلحظة، وينميها عبر الوسطين «الطبيعي» و«الاجتماعي» أي مظاهر الطبيعة وأحوال المجتمع، لكن سرعان ما ينزاح «الاجتماعي»، ليبقى «الطبيعي» مسيطراً على اللوحة، ولهذا فان التنمية الشعرية القصصية، عبر تشكيلها للمناخ المحيط بالشخصيتين، تعطي فرشة موضوعية، الى حد ما. وارضية لتنقل «البطلين»، تفسر بها افعالهما وحياتهما، ولكن نظرا لانزياح «الاجتماعي»، وسيطرة «الطبيعي» فان تلك الارضية تختفي.
في الفقرات الشعرية الصغيرة داخل الفقرة الشعرية الكبيرة، هناك محافظة كمية على عدد الابيات، حيث تبقى بشكل ثابت تسعة ابيات، ما عدا نهاية الفقرة الكبيرة الأولى، حيث يزيد بيتان، وما عدا نهاية الفقرة الكبيرة الثانية حيث ينقص بيتان.
الهندسة البنائية الدقيقة تتشكل منذ ضربات الفرشاة الأولى حيث التصوير للقرية بمناخاتها الطبيعية والاجتماعية، واللقطة الأولى هي لقطة عامة للقرية في شكلها الواسع، الرابض عند البحر، ويبدو واضحا طابع القص الذي يسيطر على العملية الشعرية، يقطعها ويوزعها، لكي ترسم ملامح الاشياء والظاهرات.
على شاطئ البحر في قرية تلـوح بعـزلتهـا الـدائمـة
كأن الدجى لفها بالسكون فما برحت دهرها نائمة
فتصوير المكان المحدود للقرية، سرعان ما يندفع الى رسم زمانها، ليندغم هذا الوقت الليلي، الغروبي، بحياة القرية العميقة، الغائرة وراء الظاهرات المباشرة، فكأن لحظة العزلة المكانية، والانحباس عند البحر، هو اللحظات الدائمة المستمرة لتخلفها، لنومها في الظلام، ومفارقتها «للحضارة» والمدنية.
فيغدو الانحصار المكاني، والظلمة، بوابة سريعة لدخول عالمها الداخلي الحبيس في العصور القديمة.
وليس الانحصار المكاني، إلا تتمة للانحصار الزماني، فالزمن رغم مروره الدائم فوق هذه القرية، إلا انها تبقى خارجة، فهذه الشمس «عروس النهار» تطل عليها، لكنها لا تلبث في جوها إلا «حالمة»، لا مغيرة، وهذا البدر يطبع قبلة طويلة، لكنها لا تؤدي الى خصب وتبديل، فيبقى كل شيء كما كان.
والوصف هنا متسلسل، متتابع، منطقي، تتداخل فيه بكثرة حروف العطف تربط بين الصور المنسابة بتلقائية، وتجمعها في لوحة مكثفة، تصف عالم القرية، حتى تصل في خاتمة الفقرة الصغيرة، الى كشف القوة المضادة لعالم القرية، انه البناء الشامخ المطل عليها.
وفوراً يكشف الشاعر، هذا التناقض الكبير في البنية الاجتماعية، التي يرصد بطله فيها. فهذا البناء:
يقيم به نائب . . أمـره مطاع . . وسطوته غاشمة
فلو ايقظ البحر امواجه لمــرت بــأعتــابــه لاثمــه
ان التداخل بين الاجتماعي والطبيعي يبرز هنا كذلك. فالقرية ليست محصورة في شق مكاني فحسب، بل في زاوية اجتماعية كذلك، فهي تنحشر اسفل هذا البناء الشامخ، وتركع تحت سياط هذا النائب ذي السطوة.
ويواصل الشاعر رصد هذا التناقض، عبر وصف شعور اهل القرية تجاه هذا «النائب»، وحياتهم الصعبة داخل تلك الأكواخ.
المقطع الصغير التالي يتجه لرسم صورة «البطلة»، الشخصية الأنثوية الرئيسية في الحكاية. وهذا الاتجاه الأول والاساسي للتركيز على الشخصية الانثوية ، ليس عفوياً، فهذا جزء من الوعي الرومانسي، النهضوي، تكون المرأة غالباً لدى العريض ينبوع الحب وبؤرة الصدام الدرامي ــ القصصي، وغالباً ما تكون هذه المرأة تعيش في عالم مبهر، غني، مرفه، وأيضاً: شاعري، وطاهر، فهي ليست سوى الجمال والنقاء اجتمعا في الانسان.
إن البطل ذا المنبت الارستقراطي، غالباً ما يكون محور الحكاية، أما البطل الفقير، فهو يخرج عادة من دائرة الوصف القصصي، وهذا يعبر عن حدود النزعة الرومانسية لدى الشاعر في تحليلها للحياة والنموذج الانساني، هذه الصورة الرومانسية لا ينثرها الشاعر في قصيدته، بل هو يخلقها عبر الفعل القصصي، الذي سيبدأ بعد، يتوقف تدفقه، مقطع مقتضب حول الطبيعة، وقد طالعتها هذه المرأة الشابة «الخود». حيث ترى الشمس في حالة عشق للإله، والبحر يصير انثى تلملم اردانها امام النسيم الذكوري، تغدو العلاقة بين النسيم والبحر علاقة حب مطردة وكأنها اشارة لما سوف يجري لاحقاً.
ومرة اخرى يظهر التضفير بين الطبيعي والاجتماعي، ولكن الاجتماعي الآن، هو النفسي المحض، المشاعر والعواطف، وقد انفصلت عن تربتها. يتم التركيز منذ الآن على عواطف المرأة والرجل.
فها هي المرأة ترى قارباً نشطاً يحمل فتية متجهين للصيد، فتعلن التمرد على القصر وتنطلق الى البحر.
مثل هذه الحركة القصصية تبدو غريبة، إبان الثلاثينات من هذا القرن، ولكن الشاعر لا يصف واقعة فعلية جرت في الخليج. أو في الهند، بل هو يشكل علاقة غرامية «خيالية»، استقت من بعض جوانب الواقع، لكن تم تغييرها واطلاقها، عبر هذا الوعي الرومانتيكي.
وتركيز الشاعر القاص على الفتاة، هو لكون المنبت الارستقراطي غير معبأ بمشكلات وتضاريس القرية، كما هو حال الفتى، وسوف يتيح نموذجها السياحة خارج التفاصيل الملموسة للواقع، فالمرأة سرعان ما تحررت من سجن القصر والقرية معاً، وطارت كالحمامة، أو النجمة، وبدا أن كل شيء في الطبيعة يمارس الحب معها، وخاصة هذا النسيم الذكوري الذي يقبلها فيصير ندى.
ولكن هذه اللقطات الجزلة، سرعان ما تتحول الى لقطات عاصفة، فيثور الموج. وينكسر زورقها، فتغدو الطبيعة عاملا داخلاً في الحدث كذلك، ومؤثراً ملموسا في تشكيل العلاقة بين الحبيبين المنتظرين، فتلك الكف التي سارعت لانقاذها من «الغيب» هي لذات الفتى الذي سيكون الحبيب، والتي تتعهدها بالعلاج وتسمعها الانغام الجميلة من عودها.
[ونعجب هنا كيف لم يقم القصر بحملة بحث عن الفتاة الضائعة، وكيف سمحت الظروف المتخلفة القروية لتلك العلاقة بين فتى وفتاة ان تنمو؟ انه الوعي الرومانسي في قطعه للمشاعر من سياقها البيئي، وامتلاك هذه المشاعر لطبيعة القص].
ان العواطف الطاهرة والموسيقى النورانية القادمة من وراء الغيب، كلها تجتمع لخلق العلاقة الغرامية بين البطلين، ويتشكل الحب تلقائيا عفوياً، وكأنه جاء من مصدر نوراني، وليس علاقة انسانية مباشرة.
ان هذه العلاقة الغرامية الرومانسية ــ الصوفية، هي فوق الوقائع المباشرة والملابسات اليومية، ولهذا فان كل التغيرات القادمة والسنين، لن تفعل شيئاً في تغيير «الداخل»، فما الخارج، بتكويناته الاجتماعية ومظاهره، سوى قشرة رقيقة «زائفة».
ولكن ثمة شيئاً ينفجر ويدمر هذه العلاقة، وهو مع ذلك جزء من هذا الخارج «العابر». انه انتماؤها للقصر، وعلية القوم، والاب النائب الشرس، ان التناقض في البنية الاجتماعية، بين القصر والقرية، يعود هنا، بصورة حديثة، مجسدة، عبر التناقض بين الفتى والفتاة.
لِمَ لَمْ يعتبر الفتى هذا التناقض جزءاً من هذه القشور الخارجية، ولم يكتف بالداخل النوراني العميق؟ لم حول هذا التناقض الخارجي الى بتر لهذه العلاقة «المقدسة»؟
ان الفتاة تقر بظلم أبيها، وهي تعود الى بيتها، في منولوج تعليقي على الحدث السابق، ولكنها تصل الى لحظة تنويرية خاصة، ان رد حبيبها على ظلم ابيها هو ظلم ايضاً، ولكن بحقها. إن الحبيب لم يتميز عن الأب، فلم ينسج من سيطرة الخارج، ليسمو فوق التضاريس الاجتماعية، بل انحشر فيها، ولم يرتفع كما ارتفعت هي، فأكتمل حبها وتطهرها.
وغــاظــك ان ابـي ظــالم ألست بظلمك لي صاحبه؟
وبهذه الفقرة انتهى الحاضر، وصار ماضياً، وانتقل الزمن عشرين سنة، تبدلت فيها الاشياء، وهي المظهر، ولم تتبدل القلوب، وهي الجوهر.
وهنا تبدو العلاقة منقطعة، معدومة، بين القرية والقصر، فلم يكن ثمة تفاعل، فالفتاة تنقطع كلية عن الفتى، وتتجه لخدمة زوجها واطفالها، وتنجب طفلة هي نسخة منها. وكأن دورة الحياة الرومانسية تعيد آليتها بشكل دائم عبر هذا التكرار. فأيضا الابنة هي قمة الفتنة والطهر والعذوبة، وهي ايضا ستتجه لرؤية البحار السابق، وقد تحول هنا، بعد دورة الزمن هذه، الى فنان موسيقي كبير.
والشاعر القاص لا يضيع نسجه القصصي هباء، فرغم استطالته في وصف الابنة، إلا انه يستخدمها كصورة من الأم فقط، وكوسيلة لتنمية الحدث القصصي، وبعث المشاعر الداخلية العميقة التي لم تمت، فلقد هصرت سنوات الزواج المرأة، واذبلت ابتساماتها، ولا تشتعل هذه الابتسامة إلا عندما تذكر حبها القديم، والبحار المنقذ، فكأن الزواج هو جزء من الظاهر، والحب هو وحده الفرح الحقيقي المفقود.
وتتجه الأم والابنة الى الحفلة الموسيقية، وتكون ثمة صدفة جديدة في سلسلة المصادفات، أو قمتها، وهي الالتقاء بالبحار السابق، الموسيقي حاليا، وهو يعزف العود ويحرك الجماد.
ان هذه اللقطة الأخيرة، هي قمة كل المشاعر والحدث، فالموسيقي يرى المرأة، ويعرفها بسرعة، فمظاهر العشرين سنة لا تستطيع ان تحجب الجوهر، ويعزف بوله لها، ويندم في غنائه على تضييعه للحب، وتسأل الفتاة امها، عن هذا المغني المعذب، فتخبرها الأم، ببساطة، انه أحبها يوما، وليست كلماته الغزلية، المشبوبة الاداء الآن، سوى كلمات طالعة من قلب اقفر ومات! وتنتهي الحكاية.
وهكذا عندما وصل الفتى البحار، الموسيقي الناضج حاليا، الى ذات الموقف الرومانسي المكتمل، تكون هي قد ابتعدت عنه، رغم ان ذاتها كانت مليئة بحبه.
هذه المفارقات العاطفية سببتها تلك البيئة الاجتماعية المتناقضة، والوعي المندس في شقوقها، لا الطائر المحلق بعيدا عنها، ان الموسيقي الآن قد حل اشكاله الخاص مع البيئة، وارتفع، ولم يعد بحاراً فقيراً، ووصل الى مرتبة الحبيبة الاجتماعية، والآن هو قادر فحسب، على ان يحبها حقا، وان تكون له، ولكنه لم تعد له.
ان التمسك بالبيئة الاجتماعية ومراتبها، هو قشور حسب وعي إبراهيم العريض ورؤيته الرومانسية، سواء كان هذا التمسك سلباً ام ايجاباً، ثورة أو قمعا، وهذا هو سر المأساة. فلو ارتقى البحار في تلك اللحظة القديمة، عن غضبه، وارتقى الى «الجوهر» الانساني، الى النقاء والطهر الروحي، بعيدا عن «مظاهر» الفقر أو الغنى، القرية أو القصر، كما فعلت الفتاة «النقية» لكان سعيدا الآن.
هنا نرى رؤية العريض، التي ترى الصراع الاجتماعي، ولكنها تعتبره من القشور، لأن الجوهر الانساني الخالد يسمو فوقه. ولا يمكن للفنان ان يبقى حبه إلا بالسمو فوق النزاع «العارض»، ولا يحدث الرقي والنور، إلا عبر هذا التجاوز للتضاريس الاجتماعية ولا يمكن للقرية، بالتالي، ان تصعد، للنور، للنهضة، إلا عبر هذا التسامي.
وإذا كانت القرية ككل لم تصعد، فان الفنان ابنها، ارتقى، عبر احدى أدوات النور، وهو الفن، وحين وصل، الى ذات المكانة الاجتماعية، اكتشف، ان كل تلك المستويات المتناقضة، هي مجرد مظاهر، ولكن في اثناء الرحلة، كان قد فقد حبيبته.
ان آلية الوعي الرومانسي تتحكم في البنية الفنية هنا، فالطبيعة قوة اساسية متداخلة ومؤثرة في الاحداث والمشاعر، وتمتلك كينونتها النقية، والمشاعر المرتفعة فوق الزمان والمكان هي القوة المهيمنة في نسيج الحياة، وهي كالمواهب والأفكار من مصدر علوي، والصدف هي التي تلعب الدور الحاسم في تنمية الاحداث، كوجه من اوجه تجلي القدر المهيمن على نسيج العالم.
والشاعر يعتمد في تجسيد هذا الوعي الرومانسي على قوانين نمو الحدث القصصي في جزء من الواقع. فيجسد الجو العام للحكاية، وينمي الحدث، ويرسم الشخصية المحورية، من خلال تصاعد الحدث، لكن هذا الحدث ينسحب تدريجيا من أفقه الاجتماعي، ليجنح في عالم المشاعر، وهي مشاعر شخصية واحدة، اثيرية، حالمة، وليس عبر تعدد المشاعر وتناقضها، وحتى حين يحدث التناقض النفسي يدور في سياق العاطفة الرومانسية وحدها.

 من المعارك الادبية في البحرين
○ إبراهيم العريض في مواجهة كاتب مجهول

مقابلة صغيرة قامت بها مجلة «القافلة» في سنة 1954، بالبحرين مع الاستاذ إبراهيم العريض ادت الى حدوث مناقشة أدبية ساخنة لبعض قضايا الأدب، وطرحت أسئلة جوهرية حول ماهية الأدب وعلاقته بالمجتمع. سوف نقرأ جزءاً من هذه المقابلة، وبالأخص المقاطع التي استدعت الحوار بادئ ذي بدء:
القافلة . . تسأل والأستاذ إبراهيم العريض يجيب:
● أنت ــ وإن تواضعت ــ استاذ روحي لجيل من الشباب البحريني الحي وأديب عالمي . . فما هي النصيحة التي تقدمها للأدباء الناشئين من الجيل الجديد؟
○ نصيحتي للأدباء الناشئين من الجيل الجديد بألا يقطعوا صلتهم بمصادر الثقافة العربية القديمة. فبدونها لا يمكن أن يقوم للعرب كيان قومي. وهلكت أمة لا تاريخ لها. ولست أعني بهذا بأن يعيشوا عالة على عصرهم فان لكل عصر مشاكله الخاصة. والشعب الذي يتنكر لشئون عصره يصبح في حكم الأموات إذ تلفظه الحياة.
ولقد كانت مصيبة الأمة العربية طوال العصور هي في تصور أبنائها انهم يستطيعون ايقاف عجلة الزمن.

■ المثل الأعلى للجمال
● ما هو المثل الأعلى للجمال؟
○ الجمال نسبي. فلا يمكن أن يكون له مثل أعلى. فكل ما هذب ذوقك ووسع احساسك بالحياة وزادك بها على تطاول العمر متعة وسروراً وكان عاملاً على رفع هذه الغشاوة عن عينيك بحيث ترى الدنيا زاهية الالوان لا مجرد سواد أو بياض. كل ذلك بالنسبة اليك والى من لهم علاقة بك هو الجميل.
● يتهمك كثير من المعجبين بك بأنك انطوائي تضن على أبناء مجتمعك بما من الله عليك من شاعرية فذة وتفكر سليم . . لماذا لا تحاضر في الأندية الادبية فترضي المتعطشين الى ادبك؟
○ لا أدري كيف يجتمع الاعجاب والتهمة في آن؟! على ان كلمة «انطوائي» مطاطية تستطيع أن تحملها ما شئت من معنى . . ولن تصل بها الى نتيجة. ولو أردنا التحديد لقلنا ان من الادب ما يعالج مشكلة الفرد في ظروفه الغابرة وهي لا تتجاوز زماناً بعينه في هذا المكان أو ذاك، كالقضايا التي تعرض على المحاكم أو كالوصفة الخاصة التي يصفها الطبيب الى مريض مثلاً تحت العلاج، فهذه لا بد من تغيرها من يوم الى يوم. وكذا أدب الصحافة. ومن الادب ما يتجاوز هذه النظرة الضيقة الى أفق الحياة الأوسع حيث تلبس المشكلة رداءها الانساني وتخرج من نطاق الفردي بحيث يسري حكمها على «الإنسان» في كل زمان ومكان فلا تعود قضية خاصة.
ويضيف الاستاذ العريض:
ولقد كنت دائماً أهتم من الادب بهذا الجانب الذي يرى المشكلة انسانية قبل كل شيء، أي لا تخص زيداً أو عمرواً من الناس فحسب بل تتعداهم الى «الإنسان» الجانب الذي لا يتقيد لذلك في الحكم لها أو عليها بظروفها العابرة التي قد تختلف باختلاف الأحوال. ولعل من هنا فضل القصة ــ عند بعضهم ــ حتى على وقائع الحياة. وصح اعتبارها باباً من أبواب الادب الرفيع اليوم وان كانت محض خيال، وترى لذلك شعري كله قصصاً . . حتى ما دار منه حول مأساة فلسطين.

■ أين الحقيقة؟
ويثير هذا الرأي حفيظة أحد القراء ــ ولا أظنه إلا أحد الكتاب ــ فيكتب في زاوية «آراء حرة» مقالة بعنوان «أين الحقيقة!»:
اريد أن أقول للأستاذ العريض ان هذا الادب الصحافي الذي يعالج هذا المجتمع الصغير. الذي هو جزء من المجتمع الانساني الكبير هو أدب انساني ايضاً، وكذلك أرض الشهداء. أما اخت شيرين وورقة التين وبيني وبينها وزهرات من خميلة الخيام وغيرها فليست أدباً انسانياً وليس الاستاذ العريض أديباً بالمعنى المفهوم، أديباً لا يجده زمان ومكان كطاغور مثلا الذي تغنى ببلاده وصور ريفها ومدنها وعاش وطنه بقراه وسهوله وبساطته وغموضه حياً خالداً في ادبه.
اما ما (يقوله) الاستاذ الفاضل على الادب اليوم من أن القصة تأخذ مجالاً بارزاً فيه ويفضلها بعضهم حتى على وقائع الحياة رغم انها خيال محض (فخطأ) الآن. الأدب اليوم لا يحتضن من القصة إلا ما يصور وقائع الحياة ويعالج المجتمعات الانسانية قبل كل شيء. فـ غوركي وهوارد فاست وتولستوي وغيرهم من أعلام القصة لم يكتبوا خرافات وأساطير خيالية، وإنما كتبوا قصصاً واقعية من صميم الحياة (….) فمن صميم الشعوب اغترف هؤلاء العمالقة أدبهم، من وقائع الحياة، لا الخيال المحض.
هناك تناقضات عديدة بين رأي الاستاذ العريض وذلك الكاتب المجهول. انهما يقفان على طرفي نقيض، ويتقبلان بشكل غير جدلي، الأمر الذي يشير الى وحدة الرؤية رغم الاختلاف.

محاولة للقراءة
سنحاول هنا أن نقرأ الحوار على ضوء وقته.
للعريض تصور خاص ذاتي للجمال وهو ان الجمال ما يجعل عينيك تريان كل شيء زاهياً. ان «الجميل» هنا هو أمر خاص بالفرد، بالذات الخاصة المنعزلة عن الآخر، فكل ما يجعلها تتمتع وتسر كان جميلاً.
لكن لدى الكاتب المجهول ان الجمال هو في رؤية الواقع على مرارته. ان تركيزه «الواقع» و«الحياة» و«الوطن» وان في اكتشافه رغم وجود السوء والقبح والتعاسة فيه، هو الأمر الباعث والخالق للجمال في الادب، هو أمر هام هنا جداً. فالكاتب يريد جر العريض الى مصدر الجمال ومقياسه الحقيقي والموضوعي، وليس الى الذات وأحاسيسها الفردية المنعزلة.
وتتضح شقة الخلاف بين المفهومين عندما يؤكد الاستاذ العريض ان الادب لا يعالج مشكلة الانسان في «ظروفه العابرة» بل يتجاوز المكان والزمان.
أما الكاتب فيرى على العكس ان في الغوص وراء هذه «الظروف العابرة» والاتجاه الى الواقع بكل مظاهره وبشره هو مهمة الادب.
وحقاً كيف يمكن الارتفاع عن «الظروف العابرة»؟ وهل يمكن للأدب أن يكون خارج الزمان والمكان؟
ولم يكن أدب العريض نفسه خارج الزمان والمكان، بل كان داخله، ولكن اتجه الى مناطق بعيدة وأزمان مختلفة، الى «فلسطين» والى «الاندلس» وغابت ملامح البلد، أي البحرين، في زمن العريض ذاته، عن أدبه بشكل واضح.
أي ان الخلاف ليس هو حول الخروج من الزمان والمكان بشكل مطلق، وذلك مستحيل، ولكن الخلاف يتركز على الخروج من زمان ومكان محددين والزمن هو النصف الثاني من القرن العشرين والمكان هو: البحرين.
ان الادب المتواضع المتواجد حينذاك حاول أن يتجه بقوة الى الحياة، وكان أدباً «صحفياً» كما وصفه العريض. لأنه اهتم بالكثير من القضايا «العابرة» فعلاً كتعدد الزوجات، ضرر الطلاق، الشعوذة . . الخ.
ان هذا حقاً لم يتوغل في الحياة، ولم يتجذر فيها بسبب ان الوعي الفني المتشكل حينذاك فحسب لم يكن بعيداً عن «الوعي الصحفي» كانت الرغبة في التأثير السريع، وكذلك عدم التمكن من فهم واستيعاب ادوات الادب والفن، ومناخ الخطابة السائد، من الأسباب التي أدت الى عدم تحول هذا الادب الصحفي الى أدب حقيقي.
ولكن على الرغم من ذلك فلو ان الادب الصحفي قدر له ان ينمو في بيئة صحفية مستمرة، ومناخ مزدهر، لأمكنه فعلاً أن يتجاوز صحفيته وسرعته الى الادب وهذا ما بدأ يتشكل بعد ذلك في مرحلة تالية من نمو الصحافة البحرينية، ولكن مع فارق جوهري هو نمو وعي اجتماعي مختلف.

  تضــاد غير جـدلي
ويتضح التضاد غير الجدلي بين العريض والكاتب المجهول في الحديث عن «الخيال» فالأدب لدى العريض هو خيال محض، فهو يعتبر القصة من أبواب الادب الرفيع وان كانت «محض خيال». وهنا يبدو الخيال في تصوره متعارضاً بشكل مطلق مع الحقيقة والواقع.
أما الكاتب الآخر فيندفع الى الجهة المعاكسة تماماً فيرفض ذلك «لأن الأدب اليوم لا يحتضن من القصة إلا ما يصور وقائع الحياة . .» فيبدو الخيال هنا خارج الادب، فينتمي الكاتب بهذا الى «الوقائع» الى «صميم الحياة» بينما العريض يتوجه كلياً الى «الخيال».
هنا نجد مفهوماً غير حقيقي عن الادب، فالخيال ــ وهو ميزة جوهرية في الابداع ــ يقف على طرف نقيض من التصوير الادبي الذي يجب ان يكون «واقعياً» أي بمعنى أن يسجل ويعكس بشكل حرفي ما يدور في الحياة.
وهذا الرفض للخيال، رغم خطأه الطفولي، مبني على عداء واضح للأدب الذي لا يتجه لاكتشاف الواقع، للأدب المنتمي الى مدرسة «الفن للفن».
نجد أن ثمة نقيضين هنا لا يتآلفان جدلياً: الواقع المباشر والخيال، فالأدباء الحقيقيون في تصور الكاتب المجهول هم المتجهون الى هذا الواقع والمبتعدون عن الخيال، الذي ليس سوى هروب وكلام فارغ. أما في تصور العريض فالأدباء الحقيقيون هم المغمورون بهذا الخيال والمبتعدون عن هذا الواقع المباشر المتغير الزائل الصالح للصحافة.
ان ادب العريض كما لاحظ الكاتب فيه الكثير من تجاهل الواقع المحلي، تجاهل للفقر والعذاب والاضطهاد الاجنبي انطلاق الى قضايا وجدانية شخصية أو اتجاه لأدب يتحدث عن قضايا «قومية». انه أدب يفتقد التماس مع الواقع البحريني، فهو أدب بهذا المعنى، غارق في الخيال، ويسكن «البرج العاجي» ولا ينزل الى السوق والحارات.
في تلك الفترة، أي في سنة 54 وما تلاها، كان ثمة زخم وطني تحرري كبير في البحرين، فقد اندفعت الطبقة الوسطى للصراع المباشر مع الانجليز واستغلت الصحافة والأندية وكافة الاشكال المتوفرة لنشر الوعي واستقطاب الناس لآرائها.
وكان العريض بؤرة أدبية هامة، وشخصية لامعة على المستويين المحلى والعربي، فكان أمر جذبة لهذا الصراع الدائر، والاستفادة من كتاباته وآرائه، مطروحاً بقوة لدى المثقفين البارزين في الطبقة.
وكان هذا الحوار والتعليق ــ الذي يبدو انه من أحد كتاب المجلة نفسها ــ والمناقشات التي تلت هي جزء من عملية التأثير في هذه الشخصية الادبية البارزة.
لكن المسألة كانت أكبر من ذلك. فإبراهيم العريض قد كرس لنفسه منحى مختلفاً، فهو ذو علاقة وثيقة بالوضع السائد، وقد أبعد أدبه بشكل عام عن نقد هذا الوضع، واتجه الى موضوعات بعيدة محافظاً بهذا على استمراريته في الكتابة وعلاقاته معاً.

 الموقــف والظــرف
ان «الظروف العابرة» وهو التعبير الذي ورد في الحوار معه يشير الى هذه الأحداث الصاخبة في الخمسينيات والمشكلات السياسية المتفجرة، وهي قضايا رئيسية وكبيرة ولكنه يعتبرها «عابرة» و«هامشية»، والمهم لديه هو الدخول الى القضايا التي تبقى وتستمر خارج هذه الظروف المتغيرة.
وهذا الرأي غير الجدلي، الذي لا يربط بين الآني والمستقبلي ولا يتصور العلاقة الوثيقة بين المشكلات الحالية ووضع الانسان العميق، يريد في الحقيقة أن يبتعد عن اتخاذ موقف تجاه الواقع.
ان ظروف الخمسينيات لم تكن ظروفاً عابرة، بل كانت صراعاً جوهرياً وأساسياً ليس في البحرين فحسب ولكن على مستوى العالم ان الصراع بين الشعوب والاستعمار هو صراع أساسي وملمح رئيسي من ملامح تاريخ الانسان المعاصر.
انه صراع ملحمي له ظلاله المختلفة، فهو صراع القديم والجديد، الشر والخير، السلبي والايجابي، اللااخلاقي والاخلاقي، السيطرة الاجنبية والتحرر، الاغنياء والفقراء الـخ . . وعلى ذلك فهو مادة هامة جداً للأدب.
ونفس هذا الصراع كتب عنه العريض، ولكن عندما تعلق بفلسطين، أي انه لم يكن ضد الكتابة عن هذا الصراع «العابر» بشكل مطلق!
ان الكاتب المجهول كان يعرف ذلك، وتفريقه بين كتابات العريض المختلفة دليل على ادراكه الصحيح لجوانب أدبه المتناقضة، ومحاولته لتوجيه هذا الادب نحو الواقع المحلي، أي لحل التناقض داخل ذلك الادب!
وهو في طرحه أسماء مثل «غوركي» و«هوارد فاست» و«تولستوي» قد استوعب بحسه ان الادب العميق يستطيع أن يضفر بين المشكلات الآنية وأوضاع الانسان الجوهرية، فليس ثمة تناقض بين تحليل الانسان في واقع محدد، وان يكون الادب باق وخالد. بل على العكس ان تأثير الادب في الاجيال القادمة نتاج ادراكه العميق لمشكلات وقته.
لكن الكاتب المجهول لم يستطيع ان يستوعب ذلك نظرياً، اضافة الى ان الفهم المنتشر للأدب وقتذاك بين طليعة المثقفين هو الادب المتجه لمعالجة قضايا مباشرة. وليس ذلك الادب الواقعي الرفيع كما وصل لدى تولستوي وغوركي.
ان وعي مثقفي الطبقة الوسطى تركز على شحن الناس ببعض القضايا والهموم الساخنة وبشكل قريب من الصحافة وليس الادب. كما لم يكن بإمكانهم التغلغل الى عمق مشكلات المجتمع ونماذجه.
وأسباب هذه الظاهرة ترجع لتاريخية هذا الوعي. فهو وعي لم يكن يقف فوق أرضية صلبة من النهضة التعليمية والثقافية، كما يرجع للطابع «المؤقت» لصراع الطبقة ضد الاستعمار، فهو صراع تريده سريعاً، خفيفاً، يتركز حول بعض المطالب الهامة وليس صراعاً يتجه لتغيير شامل وجذري.
هذا ما يتعلق بالطبقة «الوسطى» القائدة للزخم، أما الناس فكانوا في وضع ثقافي متخلف جداً، ولذا كانت مشاركة المعبرين عن طموحهم في الادب، تكاد أن تكون معدومة.

 التحــديث والتغــريب
من هنا كان العريض غير ملتفت الى هذا النوع من «الشغب» الادبي، فقد عمل من بداية الثلاثينات في نشر وعي مؤمن بالحضارة الغربية وقيمها. وكان التحديث لديه لا يصطدم بذلك التملك الاجنبي، بل على العكس يفترض الصداقة والتعايش معه.
ونجد في المقابلة ايحاء بذلك، فهو بعد أن يوجه نصحه للأدباء الناشئين بعدم قطع صلتهم بمصادر الثقافة العربية القديمة يطالبهم بعدم الوقوف عند تلك المصادر والانقطاع اليها ثم يضيف «ولقد كانت مصيبة الامة العربية طوال العصور هي في تصور أبنائها انهم يستطيعون ايقاف عجلة الزمن».
لقد كان الصراع الفكري وقتذاك يدور بين تيارين فكريين هامين استحوذا على وعي مثقفي الطبقة الوسطى وهما التيار القومي بروافده وبين التيار «التحديثي» الغربي.
وإذا كان التيار الاول هو الذي قاد عملية الانطلاق الوطني وكرس الاهتمام بالتراث بدرجة اساسية فان التيار الآخر كان في موقع الرفض لتلك الانطلاقة والتأكيد على منحى آخر.
فاستعادة المواقع التراثية، أو العودة الى الماضي العربي الزاهر، أو توقف الزمن على حد تعبير العريض، لن يؤدي الى نتيجة حقيقية، فالزمن يندفع باتجاه الغرب، والتماثل معه والذوبان فيه. وهذا هو الحل!
من هنا تصور العريض ان ذلك «الشغب» سيكون «عابراً». وان الطبقة الميسورة «المأزومة قليلاً الآن» والمتمردة ستعود من جديد الى الحضن الدافئ. وهذا ما كان فعلاً فالأغلبية الساحقة من مثقفي البرجوازية البحرينية تركوا تلك القضايا العابرة الساخنة واندمجوا في المناخ العام الدائر حول المركز الغربي. وما عادوا يرددون أسماء تولستوي وغوركي، بل ان الحياة الادبية الجديدة في الستينيات عندما استعادت هذه الاسماء بشكل اكثر نضجاً اثيرت زوابع حولها!

 ســــوء تفـاهـــم
ان اهتمام العريض لم يكن موجهاً لإلغاء «التغريب» بل على العكس كان يؤكده. ولهذا راح يؤكد من بداية الثلاثينيات على قيم «العلم» و«التعلم» و«الفن والأدب الانساني» و«حرية المرأة» و«الحب» و«العقل» و«النهضة» . . وكل هذه هي معايير للطبقة الوسطى «الخالدة» أي ان هذا هو برنامجها عبر كل المراحل والتطورات الآنية.
أما أن تتجه الى أبعد من ذلك فهو أمر «عابر»، نتاج أزمة طارئة، ولحظة صدام لا تلبث أن تزول، وسوء تفاهم «عائلي» ومن ثم تعود الامور الى مجراها الطبيعي.
ان العريض بحسه كان يفهم طبقته التجارية العقارية، التي تعيش بالتوكيلات الاجنبية، وغير الصناعية، وغير الواسعة والمحاطة بأناس أكثر حدة وجذرية منها، لهذا فهم الشاعر الافق البعيد لها.
لقد شارك في أوائل الخمسينيات في كل نهضتها الادبية، بل وكان من الممهدين لمثل هذه النهضة، ولكنه لم يؤيد فورتها الآنية. وبقى «منعزلاً» و«انطوائياً» عن ندواتها وأدبها الصحفي الصاخب السريع، منتظراً انتهاء عاصفتها.
وسرعان ما ارتدت الطبقة الى رؤية واندمجت في المناخ «التحديثي التابع» ولم تعد تطرح بعد ذلك الدرس القوي أي تغيير جذري وصمت كتابها وابتعدت عن الادب الساخن العابر، بل وعن الادب برمته!

 ✨ المثقفون البحرينيون وإبراهيم العُريّض

لسنوات طويلة ظل الأستاذ إبراهيم العريض الشاعر والناقد الوحيد الهام المعروف من البحرين، ولربما من منطقة الخليج والجزيرة كلها، وظل اسمه يتردد في المحافل الادبية والمجلات الثقافية العربية المشهورة، منذ الثلاثينات وحتى الستينيات.
لقد قام العريض بإبداع جوانب جديدة في أدب المنطقة، وواكب نشوء القصيدة الرومانسية واسهم بنصيب وافر من انتاجها، واتجه الى خلق الملحمة الشعرية، ثم ركز، بعد وفرة الإنتاج الشعري والملحمي، على كتابة النقد وتحليل الشعر، بدءا من نظراته النقدية المتفردة إلى أدب المتنبي وانتهاء برؤيته للإنتاجات الشعرية العربية المعاصرة له حينذاك.
والملاحظ في هذا الإنتاج الشعري والنقدي الوفير، قلة الاهتمام برصد الثقافة في المنطقة، وعوالم الحياة فيها.
ان انتاجه الشعري يرتكز على موضوعات تراثية أو عربية بعيدة كقضية فلسطين، وهو نتاج يحوم بعيدا عن مشكلات وطنه وقضاياها، الأمر الذي جعل العريض ظاهرة ملفتة للنظر، ومحل تساؤل وخلاف، من قبل التيارات الادبية التي تشكلت وتغيرت طوال هذه الحقبة المديدة.
لقد كان العريض مثار اعجاب مثقفي الثلاثينات والأربعينات البحرينيين، الذين رأوا عربيا فتيا يقدم من الهند، وهو لا يكاد يفقه من اللغة العربية شيئا، ويقوم بتعلمها واستيعابها والتفوق فيها الى درجة ان يصبح فقيها فيها ومرجعا لشواردها وعوالمها القصية.
ثم لا يكتفي بذلك بل يصبح ضليعا في لغة ثالثة هي الفارسية، اضافة الى عبقريته في اللغة الانجليزية التي ينتج بها شعرا!
ثم يقوم بالتجديد في أنواع الأدب. يؤسس المسرح التاريخي ويشكل القصيدة العاطفية النابعة من الأنا، غير المادحة والمتسولة، التي تعج بظاهرات الطبيعة الحية. ويطور هذه القصيدة الى ان تكون قصة، لها كل خصائص القصة، من شخصيات وأحداث وعقدة ونمو، وتتحول هذه القصة ايضا الى ملحمة، تتطور كثيرا عن أن تكون قصة محدودة لشخصيات مغمورة، بل تكون قصة لقضية كبيرة.
هذا كله جعل المثقفين «البسطاء» حينذاك يرونه كبيرا، ورمزا لما يريدون أن يقوموا به من انهاض للثقافة والمجتمع.
وقد قام المثقفون المتنورون حينذاك بتأسيس مجلات نهضوية هامة في المنطقة كـ«صوت البحرين» و«القافلة»، واتجهت الثقافة العربية في منطقة الخليج إلى التطور، والتغلغل في ظاهرات الحياة وأزمات المجتمع ووجود المستعمر، مما أدى إلى بروز انواع ادبية جديدة، كالقصة الواقعية والمسرحية «الاجتماعية» الارتجالية وغيرهما.
ومن هنا وجه هؤلاء المثقفون الجدد نقدا الى ادب العريض الشامخ، وخاصة الى جوانبه «الخيالية» والمغرقة في الرومانسية، ودعوا في مقالات نشرتها «القافلة» في الخمسينيات إلى ان ينزل العريض الى الشارع وان يعبر بقلمه عن هموم الناس.
ولكن العريض كان له أفقه المختلف. بل لقد كان مبهورا بقصيدة مدح وجهها الى ملكة بريطانيا في عيد ميلادها، حسب ما طرح في العدد الخاص الذي أصدرته مجلة كتابات عنه.
لقد كان العريض ارستقراطيا في نظرته للحياة، واعتبر العالم ينقسم الى نخبة مميزة، دورها الاصلاح والثقافة والتوجيه، وعامة تعيش ظروفا صعبة لا تؤهلها للصعود الكبير أو تغيير الحياة.
ومن هنا فإن صعود تحالف المثقفين والعامة في حركة 54 ــ 56 ، لم يأبه له العريض، ولم يكن ذا اثر صغير أو كبير، في انتاجه الشعري والفكري.
ورغم الاهمية الكبيرة لصعود تحالف المثقفين والعامة، الا انه كان وامضا، سريعا، لم يؤسس إنتاجا ثقافيا هاما وراسخا فكلها قصص مبعثرة في المجلات، ومقالات سياسية واجتماعية كثيرة ووفيرة، ولكنها ضائعة في أرشيف غامض ومعتم.
ان معظم مثقفي الاربعينيات والخمسينيات المهتمين بالإنتاج الإبداعي، على وجه الخصوص، والذين تعاطفوا بهذه الدرجة أو تلك مع حركة الحياة، تجمدوا في أشكالهم الكلاسيكية الميتة، أو توقفوا كلية عن إنتاج القصص الادبية وتوجهوا الى المسلسلات الاذاعية الفكاهية الخفيفة.
في حين استطاع كاتب واحد فقط أن يفر بجلده، ويعيش في الكويت، ويكتب قصصا قصيرة مختلفة عن إنتاج المرحلة السابقة، وانضج منها. لكنه تخلى عن الأدب بعد سنوات عدة ايضا.
الكتاب الذين كانوا مهتمين بالنقد الأدبي والفكري سرعان ما توقفوا كذلك وتساقطت القامات الصغيرة القصيرة التي كانت تحاول ان ترتفع الى قامة العريض، الذي بدا وحيدا وغريبا في الساحة الخالية.

تغيرات جديدة
لكن الساحة التي فرغت من انتاج جيل الاربعينيات، والتي لم تشهد ميلاد انواع ادبية ناضجة، مثل التي رسخها إبراهيم العريض، واصلت نموها الداخلي وتخمرها، عبر بنية اجتماعية جديدة راحت تحضر جيلا تعليميا وفكريا مختلفا.
إن هذا الجيل الجديد طلع من الحارات البسيطة، وكانت قراءاته مركزة على الوطن العربي والأدب الانساني، تشده الموجات الواقعية والطليعية، وراح يهضمها بصورة سريعة وطائشة في اكثر الاحيان. كيف لا وهو قد نبت من بين عامة اميين، لم يسمعوا حتى بابن بلدهم إبراهيم العريض ولم يقتنوا كتابا له؟
وحين راحت نتاجاته الشعرية والقصصية تظهر على صفحات جريدة اسبوعية يتيمة، بدا ان حسا أدبيا جديدا يزهر في واقع كان يبدو مجدبا وعقيما، منذ انكسار الخمسينيات الذي لم يبق جريدة أو مجلة أو كتابا أو مثقفا.
لقد أثار هذا الأدب الجديد البلد أن قصائده المتفجرة على المنابر، والورق، وقصصه الكثيفة المليئة بخرائط الحارات العميقة وجروح الغواص وألم السائرين المعدمين في الصحراء لأجل قطرة نفط، قد لفت انتباه الناس. لم يكن ثمة تليفزيون مسيطر يجذبهم، ولا وسائل تسلية غامرة، ولا تفتت سكاني واغترابي، كان الناس قريبين الى بعضهم البعض، كسكان مدينة واحدة مكتظة بالآمال والهموم.
لهذا جاء هذا الأدب كلغة متميزة، غريبة ومألوفة، ووجد الناس ان صوتهم الداخلي، المتوتر، المحموم، تجسد ايقاعات وصورا ونماذج، فمدوا أيديهم لهذا المولود واحتضنوه بحب.
وكطالع من زمن المراهقة الأدبي، فإن هذا الأدب نظر نظرة تصغير لأدب العريض وازدراه بشدة، فهو ليس إلا وليد خيال شاحب مفارق للواقع والموقف «الثوري».
لا بد من القول ان الخلفية الاجتماعية وقلة التجربة والثقافة المبسطة، لعبت دورا في محدودية هذا الجيل الأدبي الجديد ونظرته الضحلة الى تاريخه الثقافي، والى العريض.
ولهذا فقد وقع الاصطدام بين هذا الجيل والعريض أو اصدقائه. فقد لفت هؤلاء النظر إلى الاخطاء النحوية واللغوية الكثيرة في كتابات الشباب. والى انتمائهم للشعر غير العمودي المارق عن اللسان العربي. ورأوا أن مصير هذا الأدب هو مثل مصير سابقه العامي، والمبسط الرؤى. كما لفتوا الانتباه إلى رموزه غير العربية والإسلامية، وفجاجة دعواته النضالية ومباشرته الفظة.
لقد كان هذا النقد متوجها، في الواقع، الى الثأر، من رؤية الجيل الحديث للعريض، ودعوته لإلغاء الأدب السابق الارستقراطي والمرتبط بالأجهزة.
ومن هنا اتجه أحد شعراء هذا النقد الثأري، والمدافع عن العريض ورؤاه، وهو أحد الأسماء البارزة في عالم الشعر اليوم، إلى التخفي باسم مستعار، وكتابة قصائد سافرة فكهة باسم هذا الجيل الجديد، معتمدا على صور الحمالين والبؤساء، في مرادفة كاريكاتيرية لشعراء الدفاع عن الانسان!
وقد استفز شعار الجيل الجديد (الكلمة من أجل الإنسان) الخطابي المنتفخ، أفراد الجيل السابق، وحملوا عليه حملة شعواء.
وقد اشترك العريض في هذه المواجهات بصورة غير مباشرة. فقد اعرض عن مدح من قدموا له قصائدهم، بل ودعاهم للكتابة في شأن آخر، وهو النثر، لأنه المجال الحقيقي لموهبتهم.
وللمفارقة الغريبة، فإن دعوة العريض هذه، قد وجدت اصغاء وتنفيذا لها، ولكن بعد مرور عشرين سنة!
وفي ذلك الوقت ثار هؤلاء الشعراء على النصيحة. واندفعوا في كتابة اشعار جميلة، وبرزوا بروزا كبيرا في البحرين، أو الوطن العربي، لحق بهم القصاصون والنقاد الى درجة انه تشكلت كوكبة معروفة من المبدعين والمنتجين الثقافيين البارزين.
وفي ذلك الحين كان العريض قد قل انتاجه الى درجة كبيرة، وكان ابرز اعماله الاخيرة ترجمة رباعيات عمر الخيام من الفارسية الى العربية، والكتابة عن المتنبي، شاعره الاثير.
لكن المكانة الكبيرة التي نالها العريض ظلت صلدة، رغم هذا التنائي المستمر لشخصه وانتاجه، وتحوله الى رمز غامض وبعيد.
وهذه المكانة كان لا بد ان يصل اليها الجيل الجديد وان يصل الى ذات النأي والبعد، ولكن لأسباب مغايرة.
فقد انكسرت الرومانسية الثورية، وجاء الواقع الصلد ليفرض خياراته الحقيقة على المنتجين الثقافيين الحالمين. فتصدعت القشرة الثورية. وحل الخيار الفردي والانزوائي والشكلاني.
لم يعد الجيل الأدبي الجديد، الذي صار قديما، وذا شيخوخة مبكرة، قادرا على اجتراح الأفعال الكبيرة والمغامرة الجريئة. ركن الى مأثر بسيطة، وعاد بعضه الى الشعر التقليدي، أو القصة التقليدية الساذجة، أو الغامضة التجريبية البعيدة عن الجمهور، أو الأعمال التلفزيونية والاذاعية الخفيفة.
هنا وجد هذا الجيل نفسه وجها لوجه مع العريض. لقد رأى فيه ذاته، أو نأيه البعيد عن قضايا الواقع وأزمات الحياة الحادة. فمد يده إليه لا من زاوية اكتشاف عوالمه واستيعابها وتجاوزها، بل لتحية هذا الانزواء عن الواقع الحقيقي الحي وتثمين الكتابة المجردة.

كتب: عبدالله خليفة كاتب وروائي من البحرين