الأرشيف الشهري: أفريل 2020

قانون الإنتاج المطلق

لا يكون الإنتاج الروحي إلا من أجل الناس، وبؤرتهم وقلبهم أصحاب العمل والإنتاج، قوى المعاناة والعطاء.
الفئات المنتجة للثقافة هي فئات وسيطة، لديها بعض الغنى المادي وبعض الغنى الثقافي، وتنمو حسب توجهها للناس، وتضحيتها بغناها الشخصي، لأجل أن تزدهر السعادة والغنى عند الأكثرية المنتجة.
وحتى حين كان المثقف ساحراً في العصور البدائية قبل التاريخ كان يشتغلُ من أجل الصيادين، فيرقص ويغني ويقص من أجل أن يزداد الصيد ويتكاثر الإنتاج ويعم الفرح.
وحين دبت الخلافاتُ بين الناس، وصار العبيدُ والأحرار، والفقراء والأغنياء، ظل قانون الإنتاج الثقافي هو نفسه. هل ينتمي المنتج الثقافي للمنتجين، والمعذبَّين، وللأغلبية المنتجة؟
لكن كان أغلبية المنتجين الثقافيين عبيداً في الروح، يوجهون إنتاجهم لمصلحة الأقلية، وبقي الإنتاج الذي انتمى للناس، وذاب إنتاج النفاق والاستعراض. لقد ظل مكتوباً كذكرى مؤسفة على هدر بعض الناس طاقاتهم من أجل النقود، لا من أجل سموهم الروحي.
أنظرْ يا من غيبت نفسك في طوفان الأشياء كيف أن كلمات التوراة والأنجيل جسدت معاناة أنبياء هربوا من الإستغلال وعسف الدول إلى الصحارى كي ينشئوا دولاً حرة، فتسامت كلماتهم وتواريخهم وتوحدوا مع السعادة العميقة والصلبان والزنزانات.
ولعلك لم تقرأ جيداً القرآن وهو كلماتٌ عن نبي رفض أن يخدم الملأ الاستغلالي وفضلَّ أن يكون مع العبيد والفقراء وغيّرَ التاريخ.
لعلكَ يا منْ غيبتَ نفسك وراء الأشياء تظن إن حمايتك من قبل أصحاب النفوذ سوف تعلي كلماتك الباهتة، أو لأنك مررت بتجربة سجن عاصفة وألم كبيرة سوف يحميك هذا الجبل الطيب من طوفان زحفك نحو المعدن الأصفر، فالناس تعرف استمرار مقاومتك لا تاريخك ذلك وتخليك عن أصلك الطيب.
ومهما جئتَ بأصولٍ حاكمةٍ أو أسرةٍ كريمة أو إنتماء لحزبٍ مناضل قدم الشهداءَ الكثيرين، ومهما كان أقرباؤك وأئمتك من جهابذة في الدين والتاريخ، فإن مقياسك هو شخصك ومدى إنتاجك المضيء ونقدك للأشياء السيئة والظاهرات المخربة للإنتاج وحقوق الأغلبية من العاملين.
لا تقل أسرتي وحزبي وأئمتي وقادتي، بل قل ما هو عملي وموقفي الناقد ودفاعي عن شعبي وكفاحي ضد الأخطاء.
والأديب ليست كلماته بمعزل عن قانون الإنتاج المطلق هذا، الذي يتساوى فيه الأنبياء العظام والشعراء الصعاليك، وهو ميزان الحق، فيظن أنه له فترة يجاهد ويتعذب لكي ينير ثم تأتي له فترة خاصة يتكاسل ويبحث عن المناصب ويغدو رئيس جريدة النفاق.
ميزانك هو كلمتك، مدى تحول قصصك وأشعارك ومسرحياتك ونقدك إلى كشافات تفضح مستنقعات الفساد، لا تقلْ إنني أديب ناشىء أبحث عن سبل التعبير والعيارة، ليشتد عودك وتنضم إلى الحرامية، بل أغمسْ مدادك في معاناة البشر ولا تستجدي الشهرة والمال.
لكن الكثيرين اتخذوا الكلمات مطايا، وهدايا، وضحايا، وقادة الفكر وعباقرة الكلمة غدوا مثالاً سيئاً للنشء، وهذا يحدث كثيراً في التاريخ، عندما تقبضُ الطبقة المسيطرة على الكثير من المال فتستطيع أن ترشو بكثرة، لكن ذلك مؤقت، لأن وفرة المال على هذا النحو لا تدوم، بل تدوم حين تستمع هذه الطبقة للنقاد، وترهفُ جميعُ آذانِها للضربات الكلامية والأدبية والعلمية التي توجه لتبذيرها وفسادها وحينئذ تطور سيطرتها وإنتاجها المشرف على الأفلاس بفضل جوقات النفاق والبذخ.
المال اليوم عندك وغداً عند غيرك ، فتذهب للاستلاف، فلماذا تبيع ماء وجهك وكنت عزيزاً، ولا تحفظ كرامتك وهي من كرامة الأمة والناس؟
لا تقل أصلي وفصلي وحزبي وجماعتي، بل قل هي كلمة الحق أوجهها ضد كل مخطئ ومستغل ومبذر، أرفع بها من يسمو إلى المعالي، وأعصف من خلالها بكل من أهدر ثروة الأمة ونشر الأرهاب وغزا الأخوة والجيران ووسع الاستبداد.
كلمتي هي مع الحق والحقيقة، لا مع الخزائن.
ليست كلمتي مرهونة بمديح النقاد وأن يرضى عني رئيس الجامعة والكلية، فأدبج (الدراسات والأبحاث) كما يشتهي رئيسُ القسم المريض، فأعلي من يرضى عنهم، وأخسفُ الأرضَ بمن يكرههم لكي أحصل على الوظائف والمال، فأي علم هذا الذي يكون ذاتياً وجائراً وغير منصف؟
وكيف تنشأ الحقيقة بين جماعات القول الواحد والصوت الواحد، وجماعات نحن مع الزعيم أينما توجه وكيفما قال؟ وهل تـُدار الأوطان والأحزاب بقول الفرد؟
يتباين الإنتاج الثقافي في كل هذه الأنواع في أشكاله وتعابيره، ويتحد في مضامنيه، وفي عصوره السحيقة والمعاصرة، على بعد المسافات والأشكال والأزمان، فكلمة الحقيقة تشق طرقها بوسائل مختلفة، وهي تنمو من خلال الألم الشعبي، تنور صهر الأشكال ووحدتها وتطورها، وفي الفرح والغنى ظاهرات مقاربة حين تتصل بذلك الهم الإنساني العميق.

أشكال الوعي في البنية العربية التقليدية

 إذا كانت البُنى العربية التقليدية بُنى إقطاع ديني، لكون الدين هو الشكل الوحيد المناسب لظهور وتجلي صراعات هذا التاريخ البشري الخاص، فإن هذا الإقطاع الديني يصير إقطاعاً مذهبياً، أي يقوم فيه العرب المسلمون بالصراع بينهم وبين أنفسهم كقوى ومستويات اجتماعية عبر المذاهب، وبينهم وبين الأديان الأخرى عبر الدين العام.

ولهذا فإن كافة مستويات البنية التقليدية تغدو مُسيسة، فلا توجد حركات دينية غير سياسية، ولا يغدو الدين الشعبي الجماهيري كذلك غير مسيس.

ومن هنا فإن هناك إقطاعاً دينياً سياسياً يهيمن على البنية التقليدية، وهو يشكل الأنظمة السياسية عبر التاريخ، ومن هنا كذلك فلا توجد مدينة عربية إسلامية حرة، أي ديمقراطية وحداثية، لأنها كلها خاضعة للإقطاع السياسي المتحكم عبر التاريخ، وهنا الفارق بين مدننا وبين المدينة الغربية البرجوازية التي نمت كمدينة حرة،  فهذه الأخيرة قد نشأت في عملية تاريخية لتغيير سلطة الإقطاع الديني والسياسي، أي لتحويل مجمل البنية التقليدية، عبر الفصل بين الدين والدولة، وجعل المدينة حرة من سلطة دينية سياسية مُسبّقة.

والأمر ليس تحرير المجتمع من الدين، ولكن تحرير الدين من الدكتاتورية السياسية. وتحرير السياسة من الدكتاتورية الدينية.

ولهذا فإن علينا أن لا نرى فترات ازدهار المدن العربية الإسلامية بالتجارة وببعض الحرية الفكرية والسياسية باعتبارها انقطاعاً عن الهيمنة الإقطاعية المستبدة، أو تحولاً نوعياً فيها وانتقالاً إلى كونها مدناً حرة، كما يوهمنا الكتاب السطحيون، حين يتحدثون عن فترات النهضة في الدولة العباسية أو في العصر الحديث، بل الأمر لا يعدو أن يكون وفرة مالية لدى الإقطاع السياسي تتيح له تحريك الحياة الثقافية والفكرية باتجاه مصالحه.

  إن الإقطاع السياسي المهيمن على أجهزة الدولة العليا يتيح للإقطاع الديني الهيمنة على المستويات الاجتماعية، خاصة على وضع القبيلة / الأسرة ومورثاتها الذكورية والثـقافة الجماهيرية، وغالباً ما يحدث الصراع بين الإقطاع السياسي الحاكم والإقطاع الاجتماعي، وكلاهما يحكمان مستويات البنية المتعددة، حين تنضب موارد الدولة أو تضيع في قنوات وشرايين الدول الفاسدة.

ولهذا فحين يستولي المأمون على السلطة من أخيه الأمين، أو حين يستولي الضباط الأحرار على الحكم في مصر، فإن البنية الإقطاعية / المذهبية لا تتغير، والمدينة الحرة لا تنشأ، فدور الدولة المركزي وهيمنتها على الأملاك العامة، وسلطتها المكرسة غيباً لا تتبدل.

وحين يقاوم الإقطاعُ الديني المأمونَ بسبب عمليات تحديثه فذلك لأن يصرف المال العام على بطانته، المجلوبة أغلبها من فارس، ولهذا فإن الإقطاع الديني المتحكم في البنية الاجتماعية وأغلبه عرب وجدوا أنفسهم بمنأى عن السلطة السياسية والمال العام، يصارع هذا التحكم ويتخذ من قضية خلق القرآن مظهراً للصراع على غنائم الحكم.وحين يقوم الواثق بانقلابه فإن شيئاً من الاستغلال والفساد لم يتغير، غير أنه قرب رجالات الإقطاع الديني وأجزل لهم العطاء.ولأن بطانة الإقطاع فارسية، إمامية، زيدية، اعتزالية، تزدهر لدى عامة بغداد المذاهب السنية.

ولهذا أيضاً حين يقوم الضباط الأحرار بانقلابهم ويحدثون إصلاحات مهمة فإنهم لا يخلقون مدينة حرة، لأن هيمنتهم على المال العام تتصاعد ويغدو جهاز الدولة تابعاً لفئة صغيرة تتحكم في كيفية توزيع الثروة، ونظراً لدور قيادتها الوطنية المناضلة فإن مشروعات شعبية كثيرة تتحقق، ووصول جانب من المال العام للشعب، لم يكن يعني أن يكون هذا المال تحت إدارته، فقنوات الدولة المهيمنة هي التي تظل تتحكم فيه، وبالتدريج ينتقل إلى جيوبها.

إن البنية الإقطاعية الدينية لم تتغير، وكان توغل الدولة وهيمنتها داخل المستويات الاجتماعية واتجاهها لدمقرطة وتحديث الأسرة، باعثاً لاصطدامها مع الإقطاع الديني المهيمن في هذه المستويات.

إن الشعب لا يستطيع أن يكون حراً مع دولة دكتاتورية، حتى لو فرشت الأرض ذهباً تحت أقدامه.

إن كافة العناصر الفكرية التي تولدت داخل البنية العربية التقليدية أو التي جاءت من خلال التأثيرات الأجنبية عبر اليونان أو الهند أو الفرس في القرون السابقة، أو الأفكار الحديثة التي جاءت من الغرب الرأسمالي أو الشرق ( الاشتراكي )، كلها خضعت لقوانين هذه البنية الإقطاعية، التي نحت عناصر وأبقت عناصر، تبعاً لوظيفيتها الخاصة.

بل وحتى الثورة المحمدية التي كانت سابقة قبل تشكل هذه البنية التقليدية تم إبعاد عناصر منها جوهرية، رغم إن تلك الثورة هي التي تمثـل مشروعية هذه البنية التقليدية حسب وعي هذه البنية نفسها .

 إن قوانين الثورة المحمدية الثلاثة تم تجاهلها، وهي التحالف بين التجار المتوسطين والعاملين، وربط تطور الثورة بتقدم الجمهور المادي والمعيشي والثقافي، ووجود برنامج نهضوي تحولي لــ ( لأمة ).

والفارق بين لحظة الثورة المحمدية ووجود مدينة حرة في الجزيرة العربية، وبين زمن البنية التقليدية، هو فارق التشكيلة الاقتصادية الاجتماعية، حيث أن العرب الرعاة الأحرار لم يهيمن عليهم نظام استغلالي سواء عبودياً كان أم إقطاعياً، ولكنهم حين انتقلوا إلى الشمال العربي، وحدثت تحولات اقتصادية وسياسية كبيرة، دخلوا في المنظومة الإقطاعية، متجاوزين العبودية كتشكيلة اقتصادية اجتماعية، لكن ظلت العبودية تتجرر أذيالها الثقيلة.

وحينئذٍ، أي في زمن الإقطاع، فإن كافة الأفكار الُمصنعة محلياً أم المستوردة مناطقياً وعالمياً، خضعت لقوانين البنية وتطورها.

إن كافة التيارات المعارضة والدول لم تستطع إعادة إنتاج الثورة المحمدية في الظروف الجديدة. فالأعمال البطولية للأئمة والمغامرات الفردية ثم الانتفاضات عجزت عن الوصول لمفاتيح تلك الثورة، فالقدريون والمعتزلة لم يفهموا أهمية التحالف بين التجار والعامة، ولم يعرفوا كيف يربطون بين ثورتهم النخبوية وجمهور الفلاحين عبر تغيير طابع ملكية الأرض أو الخراج ، وحتى عندما أخذ العوامُ دوراً كبيراً في أعمال القرامطة والزنج فإنهم كانوا عواماً لصوصاً ولم يطرحوا برنامجاً لإزالة اللصوصية من هيمنة الدولة الإقطاعية.

ونستطيع أن نعرف لماذا انتصر معاوية بن أبي سفيان سياسياً على جيش الدولة الشعبية لأن هذا الجيش لم يربط انتصاراته بتوزيع الغنائم والمكاسب على الجنود والجمهور، في حين كان معسكر معاوية يغدق العطايا عليهم. وكذلك لم يكن لجيش  السلطة الشعبية برنامج تحولي جديد، وبهذا تخلى جيش السلطة الشعبية عن قوانين الثورة المحمدية وبالتالي هُزم.

ولهذا حين كان الخلفاء ( المتنورون ) يطرحون سياسة  ثقافية جديدة نهضوية لم تكن تنجح هذه السياسة، بسبب أنها تقوم على استغلال بشع للجمهور المنتج، فإذا كان هذا الجمهور أمياً، وخرافياً في وعيه، فإنه سيتأثر بالسياط والدجل أكثر منه بالقراطيس ذات الثمن الغالي التي ينسخها النساخ بصعوبة وتنتشر بين نخبة محدودة،  فالتنوير لا بد أن يترابط وتحرر الجمهور من الأمية والفقر الشديد، وكيف يتحرر من ذلك دون تغيير جوهري في شروط الإنتاج ؟

ولهذا فإن تقارب الدينان المسيحية الشرقية والإسلام، وتقارب المذاهب المهيمنة سياسياً، وغربة الفلسفة وضياع المتصوفين، لا يعود للعناصر الثورية والديمقراطية الجنينية فيها، بل لقدرة البنية المحافظة على انتزاع تلك العناصر وإخفائها في ركام من الاغتراب والنصوصية الشكلانية، بدلاً من توظيفها في مرحلة جديدة. أي عدم القدرة على ربطها بنضال الجمهور  وتقدمه.

إن بقاء نموذج الثورة المحمدية ملهماً للعرب والمسلمين يعود لقدرتها على نقلهم من تشكيلة إلى أخرى، واتساع التحالف الاجتماعي المتحقق بين التجار النهضويين والكادحين، وطرح برنامج تحولي لأغلبية القطاعات.

 وفي العصر الحديث قامت الليبرالية المستوردة من الغرب ببعض الجوانب التطورية في هذا الجانب،حيث رأينا تحالف الفئات الوسطى والعاملين، وتم طرح برنامج نهضوي لكن الليبرالية عجزت عن هدم البنية الإقطاعية، ورأت في الإقطاع الديني بأنه هو الإسلام، فعجزت عن رؤية جذوره في الثورة المحمدية، أي عجزت عن رؤية جذورها كليبرالية في المرحلة الثورية الإسلامية التأسيسية.

وهذا يعود لغربتها الغربية، أي بسبب نقلها الميكانيكي لأدوات معرفية وسياسية مستوردة، فهي لا تنقل مناهج بل أشكالاً فوقية غير متجذرة في الأرض، أي تستورد أشكالاً برلمانية وأشكالاً حزبية الخ.. لكن هذه في وجودها غير المنقول ،ليست أشكالاً، هذه بنية متكاملة، فالأمر ليس في نقل قلب سليم إلى جسم مريض، بل في تغيير الجسم كله.

وطبيعة النقل الشكلية لدى الفئات المتوسطة يعود لطبيعتها الاقتصادية / الاجتماعية. أي على كونها فئات تجارية ، زراعية، عقارية وإلى صناعية بدرجة أساسية. وهي من هنا تقوم بتشكيل فلسفة انتقائية، نفعية، وليس فلسفة تحولية جذرية.

إن الوعي الليبرالي وأشكاله الفكرية المتعددة، من فلسفة سياسية وأدب وفن وعلوم، عجزت عن التنوير والتحويل الاجتماعي والثقافي للجمهور العربي، وبقيت الهياكل الإقطاعية الدينية متحكمة فيه، مما أدى إلى أزمة هذا الأشكال الفكرية النهضوية.

أي أن القضايا الاقتصادية والاجتماعية للثورة الديمقراطية لم تتحقق، مثل حرية الفلاحين والنساء والدين. وبقي الإقطاع الديني مهيمناً على الوعي.

إن الفارق بين الثورة المحمدية والثورة الليبرالية العربية الأولى الحديثة، رغم إن الطابع التجاري كان مشتركاً بين تكوينيهما الاجتماعيين القياديين، هو في قدرة الأولى  في الاستناد  إلى الجذور الفكرية للمنطقة، أي قيامها بإعادة إنتاج للفكر (الوطني التحرري ) المحلي المناطقي، لكن الليبرالية المعاصرة لم تفعل سوى نقل المنتجات الغربية. أو العودة إلى حمى الإقطاع المذهبي، عبر قيام كل فئات وسطى عربية إسلامية، بالارتكاز إلى إرثها المحلي الضيق. فمرة تلجأ إلى سوق مسيطر عليها غرباً، ومرة تلجأ إلى إقطاع مهيمن عليها و(مقطع ) لسوقها الواسعة الُمفترضة.والشكلان لا يقودان إلى تراكم، تحتاجه إعادة تشكيل الهياكل التقليدية المعرقلة لنمو رأسمالي تحولي جذري.

وهكذا يغدو الإقطاع الديني حين يكون مسيحية شرقية، أو مذهبية إسلامية، مصمماً على تقطيع أوصال الأمة، أي أن شبكات المذاهب تعود إلى عرقلة نمو سوق موحدة وطنياً وعربياً، في حين إنها ترتكز على الإسلام، دون أن تعي إنها ترتكز على الإقطاع. أي أنها بعدُ لا تكتشف جذورها المتصلة بالثورة المحمدية.

حين عجزت أشكال الليبرالية العربية الحديثة الأولى عن حل مهام التحديث والتحرر، برزت رأسماليات الدولة العربية المختلفة، وفي الزمن الأول كانت متجهة إلى اليسار وأدبياته، والآن إلى اليمين وأدبياته.

قامت رأسماليات الدولة في المرحلة الأولى ( ناصريون، قوميون ، بعثيون، جبهويون جزائريون، استقلاليون تونسيون الخ..)، على وعي الهيمنة الحكومية، فجعلوا من ماكينة الدولة في كل قطر وسيلة لتشكيل الرأسمال الصناعي المفقود، معضلة العرب الأولى، وقد قادت هذه إلى سلسلة من نظريات التدخل الحكومي في الاقتصاد والحياة الاجتماعية والفكرية.

لقد أفرزت في المجال الفكري مجموعات من الأفكار المؤيدة للشمولية، وقادت في النهاية إلى هيمنة الأفراد المطلقين، ومن ثم العودة إلى وعي  الإقطاع السياسي / الديني. إن الوحدات الوطنية لم تتشكل، والتصنيع الشامل لم يتحقق وتحول إلى مديونيات كبيرة، وواصلت الثقافة الجماهيرية رحلة الخرافة والأمية وعادت الأشكال القديمة في الإبداع الخ..

لم تستطع رأسمالية الدولة اليسارية أن تـُنجز ما وعدت به، لأن وعيها رفض مجابهة الإقطاع السياسي / الديني، بل أنها ورثت أشغاله الاقتصادية والاجتماعية والإيديولوجية، فتملكت الموارد وحددت أهداف النصوص الدينية على هواها السياسي.

إن رفضها لتحويل التصنيع الثقيل إلى قوة أساسية في الاقتصاد الوطني، يعود لارتكازها على فئات وسطى استغلالية، هي الفئات البيروقراطية والعسكرية المتنفذة، التي ترفض التضحيات وإعادة تشكيل الاقتصاد والحياة الاجتماعية والثقافية بشكل جذري، مما قاد مع غياب الرقابة الشعبية إلى تدهور القواعد الصناعية التي شكلتها، وإلى بعث حركات الإقطاع المذهبية المختلفة، التي بنت نموها في هذه الأقطار ( اليسارية ) على العداء للحداثة والتقدم، ومرتكزة على الأخطاء والهزائم التي واكبت هذه الأنظمة في بعض معاركها ونظامها.

ولا يمكن أخذ هذه اللوحة بعين الاعتبار دون رؤية صعود رأسماليات الدولة (اليمينية) حيث أتاحت الثروة النفطية ومحاصرة وهزيمة رأسماليات الدولة في العالم الشرقي، صعود هذه الأنماط من رأسماليات الدولة اليمينية المكرسة لتقوية العلاقات ما قبل الرأسمالية أي للإقطاع، وكذلك للرأسمالية الغربية.

وخدمة رأسماليات الدولة هذه لهذين الجانبين المتناقضين، حدثت بسبب ضعف الهياكل الاقتصادية في هذه الدول، الصحراوية والريفية، مما قاد إلى كونها سوقاً للبضائع العسكرية، والاقتصادية الأخرى، ورأس مالاً مالياً لخدمة التصنيع الغربي، وأدت إلى ازدهار أشكال رأسمال غير الصناعي، وبالتالي عودة البذخ الأسطوري للخلفاء والنخب اللاهية والفاسدة سياسياً وذوقياً، مما أدى إلى إنهاك القطاعات العامة الحكومية وتحميل الشعوب فاتورة الحروب والفساد والاستغلال .

وقد قاد هذا إلى هيمنة أشكال وعي قديمة كان يبدو للوعي السطحي بأنها انتهت، وكذلك تم اسيراد أشكال الحداثة الغربية الفارغة من المضامين التحويلية. وقد انتصر عربياً نموذج رأسمالية الدولة اليمينية المكرسة لعودة الإقطاع المذهبي، فظهر أمير  المؤمنين في أفغانستان والكثير من أمراء المؤمنين، ليتحول البرنامج الطائفي إلى حقائق دموية.

إنه كلما تخلى الإقطاع الديني عن قوانين الثورة المحمدية كلما أو غل في التطرف ضد الحداثة وتقدم المسلمين، أي حين يزداد شكلانية وتعصباً. فكلما تنامى تخلفاً في مواقعه الصحراوية والريفية كلما أزداد تقوقعاً وعداءً، وحين يتحد أكثر بقوة الإقطاع السياسي الحاكم الذي حصل على موارد وفيرة، فإنه يزداد ضراوة في الدفاع عن امتيازاته واستغلاله للجمهور. بل أيضاً يتطلع إلى الوصول للحكم.

إن الانقطاع عن تقاليد الثورة المحمدية قادت إلى الأحكام الحرفية والنصوصية الجزئية المبتورة عن سياق العصرين، ولهذا فإن مذاهب اللاقياس التي هيمن الإقطاع فيها بقوة، تغدو مثل مذاهب القياس التي لم تنتصر فيها الثورة النهضوية. ومع تنامي قوة الإقطاع الديني فإنه يزحف على كل ظاهرات الوعي والثقافة ليعيد ربطها لأحكام سيطرته.

مهما حدثت من أعمال نهضوية وتنويرية واقتصاد مخطط واقتصاد دولة فإن بنية الإقطاع لم تتبدل.أي حين يعتمد الآن على رأسمالية دولة جديدة وتنوير آخر فإن الأمر لن يغير من أسس البنية. لا يمكن إلا الخروج  عن طريق تأسيس بنية اجتماعية جديدة  أسسها العلمانية والديمقراطية والحرية الاجتماعية كنظام متكامل.

 وقد تغلغلت بُنى النظام التقليدي في الأحزاب الليبرالية و(الاشتراكية) و(الشيوعية)، فرفض بعض هذه الجماعات التحول إلى النظام الحديث، ربطها بأنظمة الإقطاع المختلفة، وطرحها عملية القفز على الرأسمالية كانت دفاعاً عن وشائجها مع البنية التقليدية الطائفية، ولهذا أخذت مفرداتها الديمقراطية تتهاوى، فتصبح الأنظمة الجمهورية ملكية، والديمقراطية المركزية تصبح مركزية، والقادة السياسيون الوطنيون يصبحون أبوات وقادة طوائف، وتغدو القوالب الفكرية المستوردة غير قادرة إلى التحول إلى مناهج بحث تلتحم بالبنى العربية تحليلاً واكتشافاً .ويترنح الشعر الحديث، ويعود الشعر التقليدي وتغدو الأنواع الأدبية والفنية من أدب قصصي أو مسرحي أو فنون تشكيلية نخبوية منعزلة.

اليسارُ والتكويناتُ الاجتماعية الدينية

لعل التحولات الهائلة خلال نصف القرن الماضي أوضحت بجلاء ضرورة تحول اليسار إلى تكوينات ديمقراطية حقيقية، لمواكبةِ مهماتِ التغييرات الراهنة والمستقبلية خاصة.

فقد تكسرتْ الرأسمالياتُ الشموليةُ الشرقية بجميع مفرداتها الايديولوجية وأخذت عظامها الداخلية بالبروز، ولم تعدْ لديها قدرات على مواصلة التحام رأس المال بالدول الوطنية والقوميات، وغدا تعبيرها عن فئات صغيرة عقبة لتحولات أكثر تطوراً للتشكيلة.
القوميات في مستويات ظهورها الأولى وحاجاتها للتصنيع السريع والحريات الوطنية، جعلتْ البرجوازيات البيروقراطية الرافعة السياسية لهذه العمليات التحولية، حتى توقفتْ قدراتُها عن التطور الاقتصادي العميق وقدراتها على حل التناقضات الجمة في الهياكل الاجتماعية والاقتصادية لكل بلد.
الجماعات الحاكمة الشمولية المختلفة المتعددة في القارات أسست ذلك وخاصة اليسار العالمي، حتى توقفت عن التطور كل في موعد وفاته، ودخلت مقولاتها الوطنية التوحيدية والدينية والقومية والاشتراكية في تناقضات حادة مع واقع هذه الدول، وفيما تتحدث عن مستقبل زاهر كانت الدولُ تغوصُ في تناقضاتٍ غيرِ محلولة لبناء رأسمالي مشوه أو متناقض غير متكامل.
القطاعات الخاصة التي أنشئت أو كانت موجودة في هذه الدول لا تقدر أن تكون تجاوزاً نضالياً كعادةِ رؤوس الأموال، فهي تنتظرُ النزيفَ الأخيرَ للأنظمة، وعدم قدرتها على الرد الواسع.
كذلك فإن القطاعات الخاصة في أنظمة رأسمالية الدول تكون مريضة مثلها، لم تتح لها قوانين التطور الاقتصادي المجهضة أن تشكل تجارب مستقلة.
الانفجارات الاجتماعية التي حدثت في الحلقات الضعيفة من الرأسماليات الحكومية الشرقية جعلت من الأديان قوة اجتماعية سياسية.
وهذا تعبيرٌ متناقضٌ عن تخلف كبير وعن تقدم طفيف غامض، فالمحبوسون ظهروا من السجون الاجتماعية، معشيي العيون، الآن هم لا يعرفون أين هي سبل التطور والأرضية مضطربة.
حين تتكون كتلة شيوعية قومية في روسيا فهي تواجه التحول الديمقراطي وتصارع التحولات الديمقراطية في العالم الثالث باعتبار ذلك خدمة للغرب، فهي بهذا تعبر عن الهيكل البيروقراطي القومي الذي عاشت باستغلاله، وزوال بقاياه سيعبر عن مشكلات جديدة على العمال خاصة، وعن انتصار للبرجوازية الليبرالية، وتراجع مواقف اليسار الشيوعي واليمين القومي.
سنواتٌ طويلة من الإخلال بقوانين السوق وقيم السلع وتشوه الهياكل الاقتصادية وهدر ثروات كبرى وسحق قوى عاملة بشرية، كل هذه سوف تدفع أثمانها الجماهير وستعمل مجدداً بظروف صعبة وهي التي ثارت وتطلب الرفاه.
كان هذا هو ثمن عدم تطوير اليسار باتجاه الديمقراطية خلال عقود في المعسكر الاشتراكي وفي دول مثل العراق وليبيا واليمن وسوريا.
الجمع بين التطور الاقتصادي والديمقراطية، يقود لاقتصاد السوق وتداول السلطة والحداثة وإيجاد تيارات وطنية تحديثية، وتطوير الإنتاج ونشر مكاسبه على القطاعات الجغرافية المذهبية والدينية والقومية، أي على مختلف جماعات السكان.
وعدم حدوث ذلك يعني تصاعد الايديولوجيات الأخرى المعبرة عن هذه القطاعات والقوى المؤثرة فيها، والتي تعرضت سياداتها العشائرية أو الدينية أو القومية للتقزيم، التي انتظرت الأزمات الاقتصادية الاجتماعية طويلاً، وهي الأزمات التي تنتج من حدوث عجز عميق في تطور الهياكل الاقتصادية الاجتماعية، وهي ذاتها التي استغلتها القوى الثورية السابقة في القفز للحكم، في أشكال من المغامرات في حين تستغلها القوى الدينية المحافظة في أشكال ثورية للمراوحة في الماضي والحاضر وتلمس المستقبل بتجريبية سياسية.
وفيما أن الأفكارَ العصرية المؤدلجةَ المقولبة تُنخرُ وتتحطم تصعدُ الأفكارُ القديمة، من أجل عمليات تحول جديدة ملتبسة بين الشمولية والديمقراطية.
لقد بينت التحولات أهمية الديمقراطية وضرورة تشكيلها أداة للتحول السياسي والتطور الاقتصادي، وفيما خسرت القوى اليسارية الكثير من فاعلياتها بسبب غيابها عن الديمقراطية، تجد العناصر الديمقراطية القليلة فيها صعوبات للتأثير في التحولات العالمية الشرقية خاصة. فيما أن بعض الجماعات الدينية التي وقفت ضد الشموليات تصعد وتؤثر بشكل عالمي.
تغدو مهمات اليسار الديمقراطي كثيرة وكبيرة وأهمها مساعدة القوى الدينية على تلمس طرق التطور في بلدانها، بألا تبقى في دوائر الشمولية الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وبأن ترى مصائر وتطورات الأمم الإسلامية في بناها الوطنية والقومية، وأن تنزع الأغلفةَ الخارجية عن عمليات الصراعات الاجتماعية والأردية المذهبية المغلقة، وأن تتطلع لتحولات اقتصادية ثورية تنتشل الملايين من وجودهم في اقتصاد الدول البيروقراطي الهامشي البذخي، اقتصاد البطالة المقنعة بل اقتصاد القيادة الصناعية العلمية، وأن يكون اقتصاد السوق يغدو إنتاجاً كذلك، وعمليات التطور الاقتصادية الكبرى التي تقام على أسس ديمقراطية هي التي ستضعف من التقوقع المذهبي والتناحرات القومية والمناطقية وتعيد تشكيل الشعوب على أسس وحدة جديدة.
إن الأشكالَ السياسية من المذاهب ليست تعبيراً عن مقولات فكرية واجتماعية بل هي كذلك تعبير عن أسلوب إنتاج فككَ عرى الناس خلال قرون، وجعل الأمم تتصادم وحلقة الحداثة الشمولية السابقة قامت بقفزات مهمة في جوانب ومضرة في جوانب أخرى، ويُنتظر من الحلقة الجديدة من التطور التأني في دراسة كل نظام ومشكلاته وسبل تغييره بشكل شعبي ديمقراطي واسع النطاق وتكون الحلول والخطط الاقتصادية كذلك شعبية ديمقراطية.