الأرشيف الشهري: ديسمبر 2019

الديمقراطيةُ البرجوازيةُ العماليةُ

إذا كان المصنعُ هو أساس الحياة الاقتصادية للمجتمع، فإن المستثمرين والعمال هم أساس تطوره الاجتماعي السياسي على مدى العصر الحديث حتى ينطفئ هذا الأسلوب تدريجياً.

هذه الضرورة لا تتكشف من أول وهلة بل عبر مجرى الزمن الاجتماعي الصراعي الطويل.

في البدايات لا يكون للعمال وجود اجتماعي سياسي، فهم كم مهمل، لكن الضرورات الاقتصادية وتطور الصناعة وانتشار التعليم والوعي النقابي والسياسي، يجعل لهذه المجموعات المفتتة كيان طبقة بعد عقود طويلة.

أما الوجود السياسي وكونها طبقة مؤثرة ليس في المصانع فحسب بل في البرلمان والمؤسسات السياسية فهي مسائل تتعلق بمدى تطور الديمقراطية الاجتماعية السياسية في المجتمع: تغير طبيعة العائلة الكبيرة، وانتشار الثقافة الموسوعية وسط العمال، وظهور العائلة العمالية المكثفة المتطورة، وتحول العمال اليدويين المستمر لعمال تقنيين وخبراء وعلماء، وهذا يتعلق بمجرى تطور الثورة العلمية التقنية.

زمنيةُ العمالِ اليدويين الأكثر تخلفاً تحددُ زمنيةَ البرلمانات التي تملأها البرجوازية وفئاتها المتعددة، في هذا الزمن لا يستطيع العمالُ فهمَ السياسة وتنتشر الأمية بينهم، هذه الزمنية تؤجج الأحقاد واستعمال العنف من قبل فئات من العمال، وفي هذا الزمن النقابات ضعيفة والأحزاب الاشتراكية ذات نهج شمولي.

تتطور البرجوازية والعمال في مجرى الصراع التعاوني، فالأولى تقودُ تطور وسائل الانتاج، وتربط المصانع بمعاهد البحوث، وتطور العلوم المرتبطة بالانتاج، وهو أمر يقود لتوسع فهم العالم، وتنشأ فئاتُ العلماء المنفصلة عن الانتاج في بادئ الأمر، ثم تتغلغل العلومُ في المصانع وفي فئات العمال، فتتضاءل الشمولية وسط الطبقات العمالية وتغدو منتجة في الوعي السياسي الديمقراطي.

تعتمد تطورية البلدان على تطور المصانع وعلاقاتها بالعلوم والتقنية، ووجود الأسواق والمواد الخام، وتضيق الأسواق بشكل دائم فتتوسع البلدانُ الرأسمالية المندمجة مع بعضها البعض، مثلما يصبح العمال قوة إجتماعية قارية. ولهذا فإن أوروبا الغربية تغدو أكثر ديمقراطية فيما يلعب الحجم الاقتصادي الضخم في الولايات المتحدة دوره في التوسع والاستعمار وخسارة الفوائض الاقتصادية على التسلح والحروب، ويبقى العمال فيها قوة غير مؤثرة على التطور الاقتصادي السياسي. ولهذا فإن أزماتها الكبرى في الطريق. الاعترافُ المتأخرُ بالعمال كقوة سياسية يخلف قوى الانتاج ويؤزم التطور سواءً في الغرب أو الشرق.

في بعض البلدان النامية ترتفعُ راياتُ العمال الحمراء والمتعددة الألوان كقوةٍ سياسية مجردة فالمستوى الاجتماعي المتخلف لهم والهيمنة السياسية الأيديولوجية الزائفة عليهم يجعلان الفئات الوسطى الصغيرة أو الارستقراطية أو الإقطاع تزيح الطبقتين المنتجتين وتتحكم في الفوائض، ويختنق التطور الاجتماعي السياسي الديمقراطي لعقود حتى يظهر مجدداً ويغدو العمالُ أكثر الخاسرين وتتشوه البناءات الاقتصادية: ضخامةٌ في الرساميل غيرِ المنتجة وتقزمٌ في المنتجة منها؛ سواءً كان ذلك بسبب البذخ أو التسلح أو التوجهات للأرباح السريعة، لكن السبب الأهم هو غياب الجدلية الصراعية التعاونية بين المستثمرين والعمال، وعدم تحول الديمقراطية لترشيد اقتصاد السوق نحو تطوير قوى الانتاج البشرية والمادية.

في البلدان النامية ضخامة أعداد العمال الهامشيين والعاطلين وغير المؤثرين في الحياة الاجتماعية، تعبيرٌ عن ضعف الانتاج، وانهيار الانتاج القديم وعدم التمركز في المصانع وضعف صلاتها بالعلوم والتقنية، ولا توجد برجوازية صناعية هنا، بل فئات وسطى صغيرة تفتقدُ القدرة على تكوين الرساميل الصناعية ولهذا تكون ذات وعي ديني، حيث لم يندغم الوعي هنا بالعلوم وقراءة الطبيعة وتطوير العمال والمصانع.

الضرورات تكسرُ الأشكالَ الحِرفية الصغيرة، مثلما تتضخم رؤوس الأموال، ويتمركز العمال، وتتصل المصانع بالتقنيات والمعارف الحديثة، فيكرر الشرقُ مسارَ الغرب بصور أسرع، وتصبح القاراتُ السكانيةُ قادرةً على تجاوزه حين تطور صراع المستثمرين والعمال التعاوني الديمقراطي، فيصبح القرن الواحد والعشرين بدايات العصر البرجوازي العمالي العالمي المشترك المديد في القرون القادمة. 

http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=347180

تسلقُ البرجوازية الصغيرةِ الديني

في زمنيةِ الرأسماليات الحكومية القومية (الاشتراكية) كان تسلق البرجوازيات الصغيرة على أساس الشعارات اليسارية التوحيدية، حيث كانت الأنظمة بحاجةٍ لتوحد شعبي واسع من أجل بناء البُنى التحتية.

لكن التسلق على ظهور العمال والفلاحين عبر رفع شعاراتهم لم يؤدِ لتغييرٍ كبير في حياة هؤلاء العاملين. والبرجوازيات الصغيرة العسكرية من ضباط وموظفين ومثقفين اغتنى بعضُها وفرشتْ الأرض الاقتصادية السياسية لرأسمالياتٍ نصف ليبرالية وفوضوية في أغلب نماذجها، ولم تخلُ من القبضة الحديدية، ارتفعتْ فيها جماعات حكومية إلى مصاف النبلاء وتهدمت فيها شعارات الجمهورية والاشتراكية.

وحين أفلستْ شعاراتُ القومية والاشتراكية الحكومية الشمولية ظهرتْ البرجوازياتُ الصغيرة بديكوراتٍ جديدة هي الديكوراتُ الدينية.

لم تستطع أنظمةُ الرأسمالية الحكومية إزالةَ الإقطاع، وأدت فوائضُ النفط الوفيرةِ التي جرتْ في البلدان الصحراوية إلى إنعاش الإقطاع الديني مجدداً حيث سال لعابُهُ من التحول الجديد.

وهو إنعاشٌ غذى الشركات المالية والنصوصية الدينية وعودة الأساطير الخرافية للطائفيين السياسيين.

فجأة ظهرت دعاوى الإيمان وحجَّ اليساريون المتطرفون الذين كانوا يزعمون أن الإسلامَ دين وثني، وتحول آخرون لفتح المكتبات الدينية يستوردون الكتب والأشرطة الصفراء يعيدون الجمهور بها للعصور الوسطى.

وفيما كانت بعض المكتبات تزخر بالمؤلفات الإنسانية الأدبية والعلمية صارت على كل الواجهات الكتب الدينية المطبوعة في مطابع حكومية.

وفجأة اختفت الفروق بين التنظيمات الوطنية العلمانية والتنظيمات السياسية الطائفية.

وتبدل المروجون للسياحة والمشروبات الكحولية كذلك إلى مروجين للتدين وطاعة ولي الأمر والاقتداء بالسلف الصالح، مثلما يكتشف قادةُ بعض الفصائل أهمية اللحى لمنع انتشار الجراثيم في الذقون.

الترويج للجماعات الطائفية السياسية من قبل هذه المجموعات التي انهار وعيها النضالي الديمقراطي الحديث جاء في أعقابِ ظهور قطبي الصراع السني والشيعي في المنطقة حيث يزخلا كللا قطب ماكينته الطائفية بالمواد المطبوعة والمروجين المتنقلين بين الجمهور بشكل مكشوف أو مقنع ثم صارت الفضائيات والوسائط الحديثة تغذي بشكلٍ هائل نقل التخلف والعداوات بين المسلمين.

عودةُ الإقطاعِ أو استمراره في البلدان الصحراوية والقروية النفطية قبل البلدان العربية الحكومية العسكرية المتجهة للأزمة ، هو بسبب عدم تحولاتها مثل البلدان الأخرى العسكرية التي أجرت ضربات أكبر للحياة التقليدية، فجاء تأخرُها الفكري السياسي بسببِ عدم وجود فئات وسطى وعمالية تحديثية واسعة، فكانت أشكالُ الوعي والثقافة غيرُ منتشرة بتوسع بين الجماهير، فيسهلُ خداعها من خلال بعض الشعارات واستثمار تقاليدها وإرثها وجرها للنشاط السياسي العنفي الكامن أو الظاهر، كما أن جذورَ المنظمات الطائفية السياسية واعتبار هذه البلدان مركز الهروب للجماعات الدينية، كل هذا جرّ جماهير هذه البلدان للحراك السياسي الجماهيري الفوضوي.

ولهذا فإن الجماعات البرجوازية الصغيرة المتذبذبة بطبيعتها وعدم رسوخ الرؤى التقدمية والديمقراطية داخلها تنجرلا للسائد دائماً، ولكن قفزة هائلة من الاشتراكية والقومية والحداثة إلى الطائفية وثقافة الإقطاع كانت مفضوحة.

ضخ الأنظمة لجزء من ثروات البلدان لهذه الجماعات وتوسيعها وهي الواسعة أصلاً كجزء من بُنى الحرف ومعامل ومصانع المواد الأولية التي تغدق الفوائض على القوى المتنفذة نظراً لعدم وجود أسلوبِ إنتاج وطني متجذر يغذي مختلف الطبقات، يؤدي لتحولات الفوضى والانقلابات الخطرة على التطور.

وهكذا تنقلبُ تنظيمات كانت تتعيش على التسول من الأنظمة إلى أن تكون عدوة لها وتجد سببيات واهية للفوضى السياسية، وتتحالف مع تنظيمات يسارية كانت تعتبرها لوقت سابق قصير ملحدةً خطرةً على الإسلام!

اللاعقلانيةُ والذاتيةُ والمصالح العابرة وانتهاز الفرص والتلاعب بالمذاهبِ والأديان والقيمِ والركوب على ظهور الجماهير غير الواعية وعدم خلق التراكمات التحديثية بصبر وحكمة وبإقناع للشعب وكل هذا لكي تصبحُ هي في مركز الزعامة والسيطرة ويتفق معها أناسٌ لهم مثل هذا الطموح الذاتي وعدم التجذر في المصالح والمبادئ العامة.

إستخدم العلمانيون المرتدون نفس طرق الكهنوت في استغلال الدين وإفراغه من مضمونه النضالي وتأجيره للقوى الاستغلالية للهيمنة على الناس بدلاً من الانتاج العقلاني التحديثي.

 http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=348205

التبعية للدينيين

انجرار الجماعات (التحديثية) إلى الجماعات الدينية ليس هو وليد اليوم، ولكنه يعبر الآن بعد ربع قرن من التبعية للإقطاع الديني، إلى عجزِ هذه الجماعات عن إنتاج أي وعي ديمقراطي، وبالتالي هي لا تستطيع أن تعي مشكلات رأسماليات الدولة الراهنة وكيفية تجاوزها، ولهذا يغدو البديل الديني السحري متوافقاً مع انهيار ثقافتها السياسية على مدى عقود.
لم يكن الحديث عن (الاشتراكية) سواءً كانت بشكلها السوفيتي أو بشكلها العربي القومي الدكتاتوري سوى انتهازيةٍ ضاربةٍ بعمق في تكوين هذه الجماعات، وركوبها فوق ظهور العاملين للوصول إلى أهدافها الذاتية من أموالٍ وكراس.
مع الانهيارات المستمرة في تكوين الوعي عبر غياب القراءة والتثقيف وتراكم النضال، غدت التبعية للدينيين مظهراً لأزمة عدم التطور الداخلي فكراً ديمقراطياً وممارسة شعبية، وعدم قدرة هذه الجماعات على اختراق تلك الجماهير الدينية والكشف لها عن فسادِ رجال الدين المناصرين للدكتاتورية السياسية وكونهم قوى استغلال للناس وتجميدا لتطورهم وخطرا على سلامة دول المسلمين وخاصة في منطقتنا.
أما تحويل رجال الدين إلى قادة تحرير الجماهير فهو يتساير هنا مع الهيمنة الإيرانية، وبالتالي فإن هذه الجماعات سكتت على مدى ربع القرن هذا عن تعرية النموذج السوفيتي كنموذج استغلالي بيروقراطي غيّب الاشتراكية الديمقراطية.
عدم القيام بهذا النقد يعني تأييد دول رأسمالية الدولة الاستغلالية ذات الأشكال السياسية الشمولية في العراق وسوريا وإيران واليمن وليبيا وغيرها.
عدم القيام بهذا النقد لهذه النماذج يعني بقاء الصلات مع مخلفات تلك الأنظمة سواءً أحزاباً خائبة مستمرة في اجترارِ مادتها السياسية القديمة، أو عصاباتٍ في تلك الأنظمة، وما ينشأ عن ذلك من خدمات.
ولهذا فإن عناصر البرجوازية الصغيرة المتذبذبة ذات الروح المصلحية لا تنشئ سوى مثل هذا الحراك الغائي الفاسد، وتنظر إلى جهات المصلحة التي تلوحُ في الأفق، وتظن إن هياكلَها النخرة التي أقامتها على أشلاءِ المناضلين وعلى الديمقراطية الحزبية، يمكن أن تستفيدَ منها في المقاولات السياسية التي قد تظهر في السوق.
ولهذا تبقى حذرة من النقد العميق لأنظمة رأسماليات الدولة الشمولية، ويبقى عدم نقد النظام الإيراني الراهن هو أحد الأشكال الرئيسية في الانتهازية الحالية.
فذلك دغدغة لمشاعر بعض المؤمنين المتخلفين في وعيهم السياسي، وإبقاؤهم في نسيج الشمولية الدينية الاجتماعية المهترىء، الذي لا يمكن أن ينتج سوى عاطفية جياشة حادة عمياء فكرياً وسياسياً.
ولو أن مبضع النقد كان مستمراً خلال ربع القرن الأخير وجيَّش أناساً يقفون ضد دكتاتورية بعض رجال الدين في نضالهم ضد التاريخ، وضد الثورات الحقيقية، وضد التقدم الإيراني بشكل خاص، لما كانت التركيباتُ التنظيمية بمثل هذه الانتهازية وهذا الخواء الفكري السياسي.
لقد قامت تكويناتُ هذه البرجوازية الصغيرة الفقاعية على التبعية لكل قوي، سوفيتياً، قومياً إجرامياً، وطنياً بيروقراطياً فاسداً، والآن شمولية إيرانية مريضة تتقيأ أحماضها على الدول المجاورة، ولا يمكن لمن لم يقمْ بشحذِ أدواته التحليلية وممارسته النضالية ضد كل هذه التعاقبات السياسية الاجتماعية الاستغلالية إلا أن يبقى كحباتِ زئبق صغيرة تتدحرجُ نحو الصلابة النقودية القوية.
إن التبعية للدينيين التي تمت في خلال العقدين الأخيرين هي ذروة الكارثة، هي التتويج للخواء الفكري الذي استشرى وتغلغل مع نضوب القدرات على التحليل العميق الواسع لكل الظاهرات، وغدا جملاً سياسية مكرورة تنمطية، وقد كان الدينيون أكثر القوى الفكرية الاجتماعية التي تعرضتْ للنقد من قبل الفصائل التحديثية على مدى قرن من النهضة العربية، وكان استبعاد ممارساتها السياسية واستخداماتها للأديان بشكل تجاري، كان قاب قوسين أو أدنى من النجاح، لكن مع ظهور رأسمالية الدولة الإيرانية و(رعايتها) هذه القوى انتعشت مرة أخرى.يعبرُ الموتُ السياسي لهذه الجماعات عن انهيارِ رأسماليةِ الدولة الشمولية بكل أشكالها، والتي راحتْ تحتضر وتواصلُ ذلك في العديد من دول العالم الثالث، فيما تتصاعد الجماعاتُ الديمقراطية والليبرالية معبرة عن تصاعد الشرائح الوسطى المختلفة في مرحلة جديدة من تطور الرأسمالية الشرقية، حيث تتطلب أبنية مختلفة، وتغيير ظروف الكادحين ونشوء علاقات ديمقراطية بين القوى الاجتماعية والمستويات الاقتصادية.
ويحدث هنا جذب للدينيين إلى الليبرالية بدلاً من جر الدينيين الواقع والجماعات للوراء، وهذا كله لا ينفي دور اليسار، لكنه يسار جديد ديمقراطي، تجاوز الاشتراكيات الشموليات العالمية والقومية، وسدها لآفاق التطور اجتماعياً وثقافياً.

مكونان لا يلتقيان

لأن البحرين تكونت صغيرةً منفصلةً عن ثدي أمها الكبيرة الجزيرة العربية، مرةً بشكلٍ جيولوجي، حين اندفعتْ من خليج سلوى، ومرةً بشكل سياسي اجتماعي عندما انفصلتْ عن الصحراء العربية وصارتْ لؤلؤةً غيرَ مخطوفةٍ لفارس، فغدت هذا الكيان الصغير المتوتر الحاد العواطف، السريع التأثر، الشديد الهبوط العنيف على الأرض.
من الناحيةِ الاجتماعيةِ لم تؤهلها الظروفُ الاقتصاديةُ لأن تشكلَ طبقةً وسطى التي تم غياب طلائعها أكثر من مرة، حين قفزتْ على السير الصبور السياسي في منتصف الخمسينيات من القرن العشرين، وحين خطف اليسارُ دورها، بدواعٍ تعجيليةٍ خاصةً مع غيابِها عن الساحة وقد أفاد إلى حين، لكنه واصل هذا الدور حتى عندما بدأت تتحرك وتستعيد نشاطها الاقتصادي الاجتماعي السياسي، وهذا التنطعُ لدورٍ أصبح ليس بقدرتهِ، جعله يخسر الكثير، فوجد نفسه مُلحقاً بالقوى الطائفية المحافظة.
من اليسار بكل طموحهِ إلى أن يكون مُلحقاً بقوى محافظة رجعية هوة توضحُ حجم الانهيار في عظامهِ الداخلية التي خوتْ من الدم الشعبي والعقلانية والتراكم الديمقراطي، وتوضح كذلك هيمنة شعارية المغامرة وكيف تنتصر في بضعة أيام مع غيابِ الثقافة الديمقراطية.
عاد المجتمعُ لمكونيه الطائفيين، وضد أكثر من نصف قرن من جهودِ هيئةِ الاتحاد الوطني لتكوين ثقافةٍ وطنية، ومع كل الثيمات السياسية التي كلها تصيحُ بمعزوفة (الوطني) من جبهةِ التحرير الوطني حتى بنك البحرين الوطني، لكن لم يظهرْ هذا الوطني مكتملاً متجسداً في مجتمع.
كلُ جماعةٍ تأتي وكلُ سياسةٍ تنأى عن التوحيد التراكمي في الثقافة والعمل. كلُ فصيلٍ يريدُ أن يكون هو كل شيء، والمقاربة الديمقراطية لا تحصل على فرصها، وتنفضُ بحالاتٍ من الرعب والاجتثاث.
ثم برز المكونان الطائفيان أخيراً واضحين جليين، كشفا عن نفسيهما، ألقيا الثيابَ والأقنعةَ والمكياج وتقدما لكي يشطرا البلدَ وبقي من الزمان خطوة، وعن المجزرة شعرة.
حين تجلس على طاولة الكلام أو طاولة الشرب أو حتى تراب الجنازة، سوف تسألُ: من أي طائفةٍ هؤلاء؟ هل سوف أستطيع أن أتكلم معهم؟ هل هم معنا؟ هل من… أم هم من…؟
استطاعَ الطائفيون اختراقَنا بشكلٍ مرير.
هدموا بذوراً ومظلات صغيرةً لكي نقفَ معاً.
صار الفمُ يغص بمسامير وشظايا من زجاجٍ وهو يتكلم.
أنشأوا تنظيماتهم السياسية وهي كما يُفترض ذروة الوعي.
التنظيمُ السياسي قمةُ الوعي البشري، يحددُ الخطوطَ الأساسية لمسيرة أي مجتمع، ويعبئ الجهود من أجل تحقيقها.
لكن حين يكون التنظيم طائفياً فأي أهداف أساسية سوف يحققها؟
التنظيمُ الطائفي يعني أن يحققَ دولةً لطائفته. لا يوجد معنى آخر. أي أن يغدو شكلاً دكتاتورياً يمنعُ الطائفةَ التي يحكمُها من الامتزاجِ في طائفةٍ أخرى، يمنعُ تكونَ الشعب، وتحديث النساء وصيرورتهن مواطنات، يرفضُ ظهورَ الأحزاب المنافسة في منطقته فيقومُ بافتراسِها دينياً سياسياً، يمنعُ تكونَ الدولة الموحدة، وكلَ قيمها من عقلانية وديمقراطية وعلمانية ووطنية.
التنظيمُ الطائفي لا يعترفْ بمنجزات الحداثة، هو نتاجُ العصور الوسطى، ودول الطوائف والجماعات الدينية المنفصلة، وعالم النصوص الدينية المطلقة، وهذا التنظيم الرجعي يتفجرُ بسيطرتهِ وغلوائه في زمن الانفجار المعرفي وتوحد الدول والقارات والشعوب!
التنظيمُ الطائفي قمةُ الدكتاتورية ويطلبُ ديمقراطية!
يمنع حرية النساء واستقلال العمال والمثقفين ويقيم هيمنةً عنيفة متوارية داخلية في طائفته ويتقدم من أجل الحوار الديمقراطي والملَكية الدستورية والجمهورية الإسلامية، يلغي الآخرين في كيانه الخاص ويمنع التعددية ويريد أن يوسع حجم هذا الكيان لكي يفرض سيطرة القرون الوسطى على العصر الحديث، ويريد من الآخرين التنازل فيما يبقى في عليائه يرفض أن يتقدم لعالم الحداثة والحرية.
البحرين لم تستطع أن تَكون المستوى المتقدم من الديمقراطية وهي محاطة بجبالٍ من دولٍ تُصدر أعنف أشكال الدكتاتورية، وتريدُ أن تكونَها في زمن الاستقطاب الطائفي!
لا ديمقراطية مع تكوينات طائفية، لابد أن يُطلق سراح الأمهات والزوجات المستعبدات في الغيتو الطائفي، لابد أن يكون العقل هو السيد، لابد أن يُحرر الأطفال من الشحن المدروس الطائفي المؤسساتي، لابد أن تتحرر النصوص الإسلامية من هيمنة الخرافة، لابد أن تكون القبلة السياسية موجهة للوطن لا خارجه.
الأمل في الشباب يتطور لا تبعاً لضرورات العيش المتدني بل لتطور رؤاه العلمية ومواقفه الوطنية.

التفككُ الثقافي

  636012146668870502-727844963_www_nmcbc__org_

تتخثرُ الإرادة بعد سنين فعقود، وتكف العينان عن القراءة، والتحديق في الأشياء، والحفر في التاريخ.

لا إراداتٍ صبور، ولا قدرة على الصعود الحقيقي، النازف، المتعب، المضني، تسألُ الذاتُ نفسَها: أكل يوم قراءة؟ مستحيل! أكل يوم تفحص؟ لا يستطيع مثقف الليل أن يصير هذا، أفي كل أسبوع كتاب؟ مستحيل تضيع الكتب في السيارة وبين ثياب الأولاد غير المغسولة وأهرام العلب الفارغة.

في زمن الشباب ثمة بعض الهمة، والصعوبات كثيرة وكبيرة، ولا يمكن أن تدع القيودُ والهياكلُ العظمية والمقابر والزنزانات والملفات العتيقة وفقدان النظرة والموقف أن تتطور الذات كما تشاء.

تلجأ إلى السرعة في النقد، وإلى تحطيم الرؤوس الفنية والإبداعية بارتجال حاد، تصعب لملمة الأوراق، وتصعيد أفكار الوعي والتحليل والنقد، وربطها بالحالات الاجتماعية والنماذج البشرية والمصادر.

تتلكأ الكتابة، لا تغدو تغييراً للذات الارتجالية، الفوضوية. الحالات الشعرية الوامضة المتقطعة عبر سنين تموت.

الكتابة الساخنة تتطلب قضية، والذات الذاتية تريد أن تتسلط فوقها الأضواء، أن تعلو فوق المسرح، أن تجري وراء المهرجانات، أن تحصل على مكاسب مادية كبيرة.

الذاتُ الذاتيةُ تتوهمُ القضيةَ، غير أن لا طبقةَ تناضلُ من أجلها، ولا شعب تناضل من أجل توحيده، ولا جماعة تنمو من إشعاعاتِها، فأوراق العمر المتراكمة النقدية والإبداعية تضيع، تبحثُ عنها في المخازن والملفات وسلات المهملات والمكتبات غير أنها تضيع، خيوطُها انقطعتْ بشرايين الفكر ولغة الشعب، فصارت عرائس من البلاستك، ونواطير مزارع تخيف الطيور الباحثة عن أعشاش.

لا تجسد موقفاً سياسياً فكرياً ثقافياً متجذراً، تغدو فقاعة، الدراسة التحليلية العميقة هي المفقودة هنا، لأنها تأصيلٌ وتشريحٌ وتبيانٌ للموقف. إن الدراسةَ تفجيرٌ للفقاعة.

تستطيع أن تمارسَ استعراضاتها على الفقراء الخائبين في فهم القضية، على القرويين الذين تزعمَهُم أعداؤُهم، فهنا المكسب بالمجان.

في عقود عديدة لم تستطع الذات الذاتية أن تنتمي إلى القوى الحية فتعود إلى الطوائف، فهي لا تراكم تنويراً، أو نضالاً، بل تنتفخ على المسرح وتصبح بالوناً.

كل بضع سنين لها قضية معاكسة للقضية السابقة.

وبين القضايا ليس ثمة خيطٌ من تراكم الوعي الديمقراطي، بل مواقف حربائية متعددة اقتضتها المصالح والانتفاخات والعفوية الصارخة.

فمن الصعب أن تصلَ الذاتُ الذاتيةُ إلى أعماق القرويين، المتألمين الحالمين، الذين يركبون خيولَ دونكيشوت، ودون كيشوت له قضية.

الصراخ لا يغير التاريخ، والدوران حول الذات، لا ينتجُ شيئاً فيها، وحب المرايا ورؤية الذات العظيمة كل يوم، يقللُ من قيمتها ويكسرها.

تصبحُ قوى الإبداع التي لا تحفر ولا تنقد مسطحة فتتصارع في المسائل الطائفية، لأن هذه المسائل هي سطوح الواقع ومستنقعاته. إن الذين تاهتْ أوراقُهم وبحوثهم ونصوصهم الأخيرة الممزقة ومسوداتهم وذواتهم يتوهون في معركة الريح.

تضاف أجيالٌ جديدة للصحراء الثقافية، فتجد ان الإبداع فرجة ونصوص باهتة، فيزداد الرمل، وتتقلص شروطُ الكلمة.

منعطفٌ تاريخي للعرب ‏‏

لا أحد يستطيع الآن بعد تضحيات الشعوب العربية في كل مكان، بأشكالٍ ملحمية، تقتربُ من الأساطير، أن يلوم أو ينتقد هذه الأمة العظيمة، وأنها مقصرة في وجودِها، وأنها لم تقدرْ أن تستوعب وتحتضن كل إبداعات الحرية والتضحية، ومن لا ينحن مقدراً لها، ومن لا يرقص فرحاً لبطولاتها، ومن لا يُذهل من إبداعات اللحم الذي يكسرُ الشوكَ، ويثني الجبالَ فهو لا يشهد ولا يعيش.

إن المبدعين يقفون إجلالاً ويتطلعون لتضحياتهم في كتابة الحروف النار ونسج الكلمات البحار وكأنها قطرة في محيط العجائب النضالية العربية. فكيف يمكن أن يمدح أحدٌ عمله وهو يرى الناس تجود بأعز ما لديها؟

لا يمكن لنا بعد هذه الملاحم المسجلة بالدم على النيل والصحارى العربية العطشى والمدن والبلدات والقرى إلا أن نتواضع ونخجل ونقول لقد قصرنا ويئسنا سنين وأن الإنسان العادي الذي صاغ الملاحم في بضعة أقطار هي النسيجِ الرئيسي للأمةِ إن كتابتها أعظم، وسطورها أكثر خصوبة.

والإبداع لابد أن يزدهر بشكل أروع رغم انغلاق بعض الأسواق وصمت دور النشر وذبول المطابع وتعثر السوق، في حين يتطلب ازدهار النضال فيضاناً للنشر كما يتطلب الموقف الملحمي.

لكن تعاظم ملاحم الحرية العربية يغنينا والتضحيات تعلمنا وبخل دور النشر لا يهمنا.

هل هناك أمةٌ ابدعتْ دماً وحروفاً مثل هذا؟

فلننحن إجلالاً لهؤلاء البسطاء وعرفاناً بتضحياتهم.

الثورات العربية غيرت كل شيء، ولن يعد ثمة دولة أو جماعة سياسية ستبقى كما كانت، مهما تظاهرت بالهدوء، ومهما قالت إن العاصفة لا تعنيني.

ليست الثورات العربية مثل ثورات القرن الثامن عشر والتاسع عشر الأوروبيين، رغم المقاربة بينهما في بدء صعود الطبقات الوسطى لتشكيل مجتمعات ديمقراطية، فتلك الثورات التي رفعت شعارات الاخاء والمساواة والتنوير، تجاوزتها الإنسانية المعاصرة، بعد عقود طويلة من التحديث والتصنيع والاستعمار وحروب الاستقلال، وقد أضحت أسس الديمقراطية الاجتماعية أكثر وضوحاً، وغدت برامج الطبقات المختلفة مميزة، فلا يمكن أن تسود شعارات مجردة، وكل طيف من الطبقات لها برامجها لأن مصالحها غدت واضحة، والتجربة الحزبية غدت ذات تاريخ طويل.

لكن رغم هذا التاريخ فالشعوب العربية متخلفة وهي ربما أقل تطوراً من ذلك التاريخ الأوروبي، حيث هنا أمية هائلة، وحريات النساء أقل بكثير، والتصنيع طابعه مختلف، وثمة انفصام لأقطار عديدة عن التطور، ومازالت الأقطار المركزية تصارع من أجل أن تبلور التجارب الديمقراطية، والقوى الماضوية تصارع للبقاء والعودة.

لكن الملحمة موجودة ومكتوبة بالدم، وتاريخ التضحيات كتب بقوة وفتح صفحة جديدة لا يمكن أن تعود إلى الوراء، وغدت مهرجاناً للبشرية.

ليس في الأمة العربية مثل جان جاك روسو وفولتير وديدرو وهيجل المشاهير العالميين ففيها أكثر وأعمق، ولكن على نحو قطري أو عربي محدود، فإبداعات العرب خلال القرن الأخير كانت هائلة، وإبداعها في الأدب ليس له نظير ولكن هي مسألة التخلف والأنظمة القديمة المحتكرة للثروات، والآن لابد أن تظهر هذه الإبداعات وتنتشر جماهيرياً وعالمياً، والديمقراطية تعني أن تصل هذه الثقافة إلى الأجهزة الجماهيرية، فهذه الإبداعات وهؤلاء المفكرون هم من عبدوا لهذه التحولات.

نقادٌ مذعورون

كان ينبغي للنقاد أن لا يخافوا من أعمالِ الروائي، ولكن التصادم بين مساراتِ الطبقاتِ الشعبية والوسطى يتمظهرُ في الرواية والفكر.
فالروائي ابنُ الحارات والثورات حاملُ زخمِ الحراكِ الشعبي لعقودٍ يجسدُهُ في شخوصٍ عاصفةٍ تقتحم الشواطئ وضفافَ المدن، ولكن النقد الذي نشأ في الجامعات غير العلمية ومكاتب المجلات والصحف الحكومية ليس من شأنه قراءة نضالات الطبقات العاملة ولا حتى تحولات الفئات الوسطى نحو التغيير، ولكن الكتابة الروائية مثل بحر الناس تشكلُّ مداً عصياً على الجَزر.
يقوم النقادُ المحنطون في يباسٍ نظري أغلبهُ مستورد بالاهتمام بظاهراتٍ ثانوية، وأعمال هامشية لا تثيرُ جدلاً صراعياً ديمقراطياً في المجتمع، ويُنزلون عليها فلسفاتٍ هي إسقاطاتٌ وليست اكتشافاتٌ وتحليلات لما تمورُ به المجتمعاتُ من عصفٍ اجتماعي هو أغلبه رجوعٌ للوراء وتدهور للحداثةِ والعقلانيةِ وتراكم للمشكلات المالية والعجز والبذخ من جهة والفقر المتسع من جهةٍ أخرى.
من أين يُحضرُ النقادُ هذه الأعمالَ الهامشية ويُشغلون بها ثللاً صغيرة؟ فلا أحد يدري، لكن الروايات الكبرى تفرضُ نفسها، والروائي المطارد سابقاً، والروائي المنفي في بلده لاحقاً، يفرضُ أعمالَه التي يقرأها الناس، فتتهاوى أسوارُ النقد المحاصِر.
لكن الروائي يخطفه المقعد الوثير، والراتب الحكومي الكبير، وتلك الاطلالات الشعريةُ والعواصف الاجتماعية الرومانسية والشخصيات الثورية النادرة تختفي، وعلى النقاد المذعورين من النضال أن يغمدوا أنصالَهم في جسدِ الروائي البيروقراطي وأعماله، ساحبين منها ذلك الألقَ الوطني النضالي الكبير.
ولهذا فإن الوطن الحقيقي لا الروائي هو الذي يمشي على سكةِ الحرب الأهلية، فلم يقبل البلدُ بصراعٍ ديمقراطي في الرواية فظهر الصراعُ الدموي على الأرض وتكاثرتْ شخصياتُ الحطام في الخرائب والمنافي.
هو مثل المفكر الذي لم يعد يفكر فيما يَشغلُ الناس، ومهمته أن يبتكرَ لهم قضايا ماتت منذ زمن بعيد، والصراعات الاقتصادية الاجتماعية الطاحنة في الواقع ليست في بؤرة إهتمامه، فالبُنى الرأسماليةُ العربية الحكومية العسكرية المتخلفة التي انهارت في المحيط العربي لم تزل لديها بعض الفوائض النفطية في دول الجزيرة العربية، فهنا إمكانياتٌ للترف الفكري والمؤتمرات التي لا تتوقف كل أسبوع لمناقشة قضايا ليست قضايا الأزمات الحقيقية، وكون العربة الخليجية هي العربة التالية في سكة القطار العربي الضائع بين القفار.
ولهذا فإن المفكر يراها سائرة إلى الأمام بقوة، مثل الروائي العربي الشمالي الذي ترك شخوصه الشعبية تضيع ولم يعثر على شخصيات حية بين المكاتب ولم يَعُد للحارات والذي قاد الشراع في العاصفة تحطم على صخور البيروقراطية العسكرية.
غيابُ الشجاعة الأدبية ترافق مع موت الفكر والنقد، فالفكرُ الذي كان واعداً في السبعينيات انشغل بالقضايا العامة العربية بأشكال تحليلية سياسية عامة ليست فيها دراسات للبُنى الاقتصادية الاجتماعية، وتتيح له هذه التعميات والمجردات أن يتلاعب على حبال السياسة والمواقف الاجتماعية حتى يتحلل الفكر الذي لا ينمو سوى بالصراع مع الواقع وتحليل بناه الاجتماعية السياسية، واتخاذ موقف في الصراع الاجتماعي لتغيير رأسماليات حكومية بيروقراطية غير قادرة على السير في عالم الحداثة الديمقراطية المعاصرة.
المفكر دوره هو تحويل هذا الانسداد التاريخي إلى اكتشاف وانفتاح وتغيير، متجاوزاً الخرائط الاجتماعية الملموسة إلى قوانين التطور التاريخية، ودور المؤتمرات السياسية العلمية هو رؤية الآفاق البعيدة وليس اليوميات السياسية التي هي مجرد مادة صغيرة للتعميمات والتقييم البعيد.
تكرار أزمات النماذج هو مؤشرٌ لتكرار السنياريوهات العاصفة وخسائرها سواء في الشمال العربي أو الجنوب.

المصادر الثلاثة للأمة

إن نمو الدول العربية والإسلامية يؤدي إلى بروزِ خصائصِها التراثيةِ والهيكليةِ الاقتصاديةِ القديمة ولتلاقحِ هذه الخصائص مع المؤثراتِ الخارجيةِ العالمية، التي تعكسُ هي الأخرى تحولاتٍ إنسانية عميقة كونية.

وفي تاريخِها الحديث تصارعتْ المصادرُ الثلاثةُ لتكوينِ حركاتِها الاجتماعية وهي: الليبرالية والماركسية والإسلام، وهي المصادرُ التي ظلتْ متصارعةً ينفي بعضها بعضا، رغم كونها هي مكوناتُ التحولِ النهضوي لتبلورِها وتقدمها كشعوب.

علينا أن نفتحَ قوساً حول مسمى الدين وليس جوهره، فالشعوبُ العربيةُ الإسلامية تضمُ أدياناً أخرى، هي كذلك تدخلُ في مكونات المحتوى الديني بتاريخهِ الضاربِ في التاريخ خاصة الدينين المسيحي واليهودي.

رغم النفي في المراحل التكوينية الحديثة الأولى، وبفضله في مراحل أخرى، فقد كان للمصدرين الفكريين المستوردين الليبرالية والماركسية، دور في إضفاءِ ملامح جديدة على هذه الشعوب وتوجيهها لمساراتِ تقدمٍ كبيرة.

لكن كيف يمكنُ لجسمين فكريين مستوردين أن يلعبا هذين الدورين الخلاقين؟ وما هي الأسباب لهذا النمو ثم للانتكاسة التالية المروعة؟ هل هناك عواملٌ سحريةٌ جعلتْ منهما قوتي تغييرٍ ثم أرجعتهما إلى الخلفية السياسية؟

كيف تنموان في عصرِ التبعيةِ الاستعمارية ثم تخفتان في زمن “الحريات” القومية والوطنية؟ في حين يعكسُ الإسلامُ مسيرةً مختلفة، فهو على العكس منهما محجم في زمنِ تلك التبعية متنام في زمنية الاستقلال؟

كان زمنُ الاستعمار يفتقدُ الآلةَ الاقتصادية الاجتماعية الحكومية الشاملة المهيمنة على المجتمعاتِ العربية والإسلامية، فكانت المجتمعاتُ تبدأ بالنهوض من الصفر عبر تعددٍ للملكيات، وكان الغربُ المسيطر المباشر تفيدهُ عملياتُ نموِها الاقتصادية وتوسيعُ الإنتاجاتِ خاصةً للمواد الزراعية والخامات التي يشتريها بأثمان بخسة، وكانت هذه النهضاتُ التي تجري في العديد من هذه الأقطار بأشكالٍ متفاوتةٍ وبحسب مناطقها ودرجاتِ تطورها، تؤدي إلى ازدهارِ القوى الاجتماعية المختلفة، قياساً للعصر العثماني بطبيعةِ الحال، فكان توسعُ قوى التجار والعمال والمزارعين، وكانت الفيوضُ الاقتصاديةُ تنمي المدن، وتنشئ قوى تحديثيةً تستلهمُ النموذجَ الغربي سلباً أو إيجابا، محاكاة أو نقضا تجاوزيا.

كذلك تنامت الصلاتُ الثقافية بين الدولِ العربية والإسلامية والعالم الحديث، وتجددتْ الأشكالُ الفكريةُ والتعبيرية، وراحت هذه الأشكالُ تستعيدُ علاقاتِها بالواقع وتطرحُ عملياتِ تجديدهِ وتحرره.

كانت الصلاتُ مع الغرب المسيطر مفيدةً من جوانب عديدة، وأشاعتْ بعضَ أجواءِ الغرب نفسه، ونقلتْ بعضاً من ليبراليتهِ وحرياته.

وفي هذه الأجواءِ المشتركة، والتداخلاتِ التعاونية الصراعية، تمكنت الفكرتان الكبريان للعصر الغربي الحديث وهما الماركسية والليبرالية من التوغل في هذه الأقطار والحصول على عقول الكثيرين من المثقفين وبعض العمال مستندتين إلى ركائز اجتماعية ضعيفة لهما، في حين كان الإسلامُ يهجعُ تحت سيطراتِ الأجهزة التقليدية والدول التابعة المُهمشة.

إن النقلَ من الغرب استدعي من قِبلِ القوى الاجتماعية العربية الإسلامية التحديثية المتضادة، تجارا وعمالا، لهم مصالحٌ مختلفةٌ وأوضاعٌ متباينة، وفي أجواءٍ من تفاقمِ الصراعاتِ في الغرب نفسه، بين رأسماليين وعمال، وعبر انفصامِ جزءٍ من الغرب في تجربة تحولية مضادة لبنيتهِ وقيمهِ الفكرية والسياسية، تحت اسم “الاشتراكية” أو الفاشية. وهي الصراعاتُ التي تغلغلتْ في الأقطار العربية كذلك بحكمِ أن البنيةَ الغربيةَ الثقافيةَ الهشةَ التي دخلتْ وكونتْ شعاراتِها وطيوفَها في الأجسامِ العربية، تحركتْ وتمازجتْ مع قوى المثقفين والتجار والعمال العرب، ومع أوضاعِهم ومشكلاتِهم ومستوياتِ تلقيهم لها ولطبيعةِ ممارساتهم داخل المجتمعات العربية.

وهكذا فقد جرى في زمنِ التخاصبِ مع الغربِ الديمقراطي – الاستعماري، تكوين النزعتين الكبريين على درجاتٍ مختلفةٍ بين الأقطار العربية، وكانت الماركسيةُ والليبراليةُ تخضعان بدءًا من الآن لقوانين البُنى الاجتماعية العربية الشرقية، أكثر من الأصول التي أنجبتهما، وبالتالي فقد كانت تلك البُنى التقليدية تستعيدُ تكويناتها الاقتصادية – السياسية الماضوية، وتخضع تلك الشريحة الثقافية السياسية المستوردة لقوانين هذه البنى الاجتماعية المتجهة للاستقلال عن المركز الغربي.

إن النزعتين الليبرالية والماركسية العربيتين، حيث قدمتا من تلك المصادر لم تقطعا الوشائج كثيراً بتلك المصادر لأسبابٍ كثيرة، كما أنهما تصارعتا مضعفةً كلُ واحدةٍ منهما الأخرى، وهذا اعتمد على طبيعة النقل وجذوره المحلية وأدواته المعرفية الضعيفة.

إن الشحوب المتواصل لليبراليات العربية في ذلك التاريخ المتنامي استقلالاً وحركاتٍ شموليةً، سيصلُ إلى ذروتهِ فيما بعد حين تصلُ الليبراليةُ العربيةُ إلى ما يشبه الموت، وهذا سيجري في سياقاتِ هذه الأقطار كلاً على حدة، وعبر التداخل المفيد أو المضر.

إن الاستعمارَ والقوى الاستقلالية العربية الحكومية ونشوء “الاشتراكية” العالمية كنظام، كلها لعبتْ أدوارَها المختلفةَ المشتركةَ في إجهاضِ الليبرالية، وتصعيد القوى الفكرية والسياسية الشمولية من ماركسية ومذاهب دينية في ذلك الوقت بشكل متفاوت.

وفيما كانت الليبراليةُ والماركسيةُ تنموان في البداية على وعي ديمقراطي، أخذتْ الماركسيةُ تحتلُ المشهدَ التحديثي العربي وتزيحُ الليبراليةَ، وراحتْ القوى السياسيةُ والاجتماعيةُ في أغلبِ الشرق تنشىءُ دولَها الرأسماليةَ الحكومية، أي نماذج متعددة من رأسمالية الدولة، وهنا يحدثُ اللقاءُ بين المعسكرِ الاشتراكي والدول العربية المستقلة عبر تصعيدِ نموذجِ رأسماليةِ الدولة وتصعيد نموذج الدولة الشمولية.

إن احتلالَ الماركسية للمشهدِ السياسي المعبرِ عن الطبقاتِ العاملة العربية الإسلامية، كان يأتي من خلالِ الانزياحِ عن الثقافةِ الليبراليةِ سواءً كانت في مصادرِها الأصليةِ في دولِ الغرب أم كانت من خلالِ تأثيراتِها التي تكونتْ في الدول العربية، وبسببِ عجزِ الليبرالية عن تصعيد التنمية بسرعةٍ كبيرة ومواجهة التدخلات الأجنبية.

ولا نقصد هنا التأثيرات العابرة واللقاءات السياسية التكتيكية، كما سنرى لاحقاً من سيرةِ القائدِ الماركسي العربي خالد بكداش، بل نقصدُ عمليةَ التلاقحِ العميقةِ المفقودةِ بين الماركسية والليبرالية العربيتين، التي تتولدُ على إثرِها موجاتٌ من المعارفِ والنضالاتِ المشتركة.

فقد كان نموذجُ رأسمالية الدولة يصعدُ بقوةٍ عالميا تحت مُسمى الاشتراكية، وكان غيابُ الليبراليةِ الديمقراطية داخلهِ وغيابُ الحريات، يجعلانه رافضاً لأجسامِها السياسيةِ الغربية وتطبيقاتها وأطيافِها في بقية العالم. كان هذا تعبيراً عن عملقة البيروقراطية والتسريع الاقتصادي والنظرة الفكرية والواحدية المبنية على تلك الضخامة غير العقلانية لرأسمالية الدولة، ومن هنا حدوث التلاقي بين الشموليتين الروسية والعربية التقدميتين.

هذا الانفكاكُ العالمي بين الماركسيةِ والليبرالية لا يمنع من اللقاءات التكتيكية في ذلك الحين، فقد ظهرتْ نسخةٌ متوحشةٌ من الرأسمالية هي الفاشية، مهددة كلاً من الفكرتين الكبريين العالميتين، لكن على الرغم من التعاون الخلاق بينهما وتحطيم الوحش الضاري، فإن التعاون الحقيقي لم يحدث، وكان هذا التعاون ينتظر زمنية نشوء القطاع الخاص في رأسمالية الدول الشرقية لاحقاً، حين يتبين سراب الاشتراكية داخل رأسمالية الدولة الشمولية.

أعطي عصرُ النهضة العربية إمكانيتين كبيرتين لنمو الليبرالية والماركسية، بسبب غيابِ رأسمالية الدولة في الدول العربية، ودخلتْ النزعتان في تعاونٍ عبر فترةٍ وجيزة ثم في الصراع المفتوح.

وبهذا فقد حدثتْ تأثيراتٌ كبيرةٌ للماركسية بتلك المواصفات داخل الدول العربية والإسلامية، عبر تمدد الأحزاب الشيوعية والاشتراكية وامتلاء الساحة السياسية بهما بعد الحرب العالمية الثانية خاصة، وحدث ذلك التداخلُ بين نمو رأسماليات الدول العربية وتلك الفكرة، وإذا كانت الأحزابُ الشيوعيةُ العربيةُ قد أخذتْ كليةً هذه الفكرةَ بحذافيرِها الشرقية، من دون أن تقدر على تنفيذها في أي قطر عربي مهم وكبير، فإن الاتجاهات القومية العربية الإسلامية قامت باستيحاء جوانب منها، وطبقتها في بلدانٍ عربيةٍ كبيرة ومهمة.

وهنا تم تذويب الليبرالية العربية فنجد ان أحزابها كالوفد المصري والاستقلال والأهالي وهيئة الاتحاد الوطني، تزول أو أن تبقى مُهمشة، حسب طبيعة كل دولة وتجربتها، فالوفد يتلاشى والاستقلال في المملكة المغربية يبقى بضعفٍ حتى يستعيدَ مكانتَهُ حين تطورت الحريات والقطاع الخاص.

وعموماً كان صعودُ رأسماليات الدول مغذياً لصعود الماركسية في بعض الأقطار، ومهمشاً لليبراليةِ في هذه الدول، وجاء بعد ذلك صعودُ رأسمالياتِ الدولة في أقطار الخليج مكرسةً المذهبيةَ السياسية وتداخلتْ التطوراتُ والاتجاهاتُ في صراعاتٍ وتحالفات معقدة.

وفي هذه الفترة كانت التجاربُ العالميةُ لرأسماليةِ الدولةِ في المعسكر الاشتراكي تتعرضُ للتآكلِ وبدأت ترى أن هذا القطاعَ الكلي المهيمنَ يتوجه لأزمةٍ عميقة، وتم طرح حلول لها بجمودٍ وبأشكالٍ مجزأة، وعبر مقاربةِ القطاعِ العام للسوق، وقد تم ذلك لكن لم تُفلحْ هذه المقاربة مع السوق في حلِ التخلفِ التقني وتدهور قوى الإنتاج عموماً، كذلك كان المركزُ الرئيسي لرأسمالية الدولة عالمياً وهو الاتحاد السوفيتي، ينفقُ على الخارج الكثيرَ من فوائض إنتاجه، في دعم تجارب أخرى تقومُ على أسسهِ السياسية والفكرية.

ولكن بعض الدول التي تقومُ على هذه الأسس والموجودة في أوروبا وبمقاربةٍ كبيرةٍ للعالم الغربي الرأسمالي الديمقراطي، راحتْ تخرجُ من هذا السياق الشرقي الشمولي نظراً لمستوى تطور القوى الاجتماعية والبشرية فيها. ثم انتقلت الأزمة للمركز وكان الانفجار!

إن قوى الماركسية الشمولية المؤثثة بذلك الإنتاجِ الفكري الروسي والتي تشكلتْ في الدول العربية والإسلامية جاءتها ضرباتٌ عنيفة مختلفة من الأنظمةِ العسكرية ومن الدول التقليدية، والتي امتلأت خزائنها بالفوائض النفطية، فوجود قوتين سياسيتين شعبيتين شموليتين لا يمكن أن يستمر في أي نظام، ولا بد أن تكسر إحداهما الأخرى، فإذا كانت كلتاهما تحديثيتين خسرت الحداثة كما في مصر والعراق والجزائر والسودان وغيرها، وإذا كانتا تقليديتين توسعَ التخلفُ كما في اليمن. ولكن يمكن لقوى ليبرالية وماركسية وإسلامية، ديمقراطية كلها، سواءً كانت في الحكم أوالمعارضة أن تتعايش وتخلق تقدماً كبيراً.

أجهضتْ أغلبيةُ الأنظمةِ العربيةِ الليبراليةَ والماركسيةَ معاً، وكان حسابُ الخسائرِ يتمثلُ في غيابِ الليبرالية الوطنية، فحين رجعتْ بعد الدهس الطويل وبدء نهوضِ القطاعاتِ الخاصة والخفوتِ المحدود لنموذج رأسمالية الدولة، كانت الليبرالية هذه هزيلةً وذات قشور، قد دخلها الفساد، وعاشتْ على الأرزاقِ الحكومية، وأصيبتْ برعبٍ شديد فهي تخافُ الاستثمارات الصناعية الكبيرة والجرأة السياسية، وتلتصقُ بأي نشاطٍ اقتصادي سريع الأرباح، وتحولها إلى الخارج، وتلوثت بالوعي الديني التقليدي بدلاً من أن تعيد إنتاجه.

وكذلك تم فقدان الماركسية الوطنية، فبين السجون والقمع أو بين الاستيراد الفكري، ذَبُـلت الهياكلُ الفكريةُ الغائصةُ وسطَ قضايا الشعب، وعاشتْ على النصوصيةِ المجلوبة ولم تخلقْ ماركسيةً منتجةً تحليليةً تمدُ خيوطَها مع القوى العادية في المجتمع وتحاورُ الإسلامَ خاصة وتعيدُ إنتاجَهُ، كما تحاورُ الليبراليةَ وتعيدُ إنتاجَها في زمنٍ مختلفٍ وفي بناها المستقلة – المشتركة معها في المعركة الموحدة للنهضة.

إن الأداتين المنهجيتين الكبريين في الوعي العربي: الليبرالية والماركسية، تم شللهما لزمنٍ معين، عبر ذلك التنامي الواسع للشموليات المختلفة، وعبر هذه السوقية الاقتصادية غير الإنتاجية، وكان البديلُ الجاهز عبر العصور هو المذهبيات المحافظة، المذهبيات النصوصية الجافة التي هجنتَها القوى الإستغلاليةُ بعد إنتهاءِ عصرِ الخلفاء الراشدين.

ونجد في زمن ازدهار النزعتين السابقتين كيف أن المذهبيات المحافظة، كانت في عزلة، بسببِ ضخامةِ التخلف الذي أُحيطت به خاصة في عصر الدولة العثمانية، فظهرت قواها مفككةً شاحبة حسب تطور الاقطار ومستوياتها، وتجلى ذلك بتباين المواقف المذهبية، من محافظة صارمة إلى تجديدية خافتة، وصعدت أنظمةُ الدولِ المستقلةِ التي لم تتخل كلها عن هذه المذهبية المحافظة كأداةٍ أساسية في السيطرة على الشعوب، موجهةً إياها لإزالة النزعتين السياسيتين الكبريين الماركسية والليبرالية، بتدرج محسوب نظراً لخطورة الأولى وضعف الثانية، وأدى هذا إلى ظهور الأحزاب السياسية المذهبية لأول مرة في التاريخ العربي الإسلامي، حيث كانت (الفرق) هي الشكل البارز في التاريخ السابق.

كان ظهورُ الحزب الديني الإسلامي عامة مضاداً للتراكم الحضاري العربي الإسلامي السابق، عبر إنجازاته الماركسية والليبرالية، فهو رجوعٌ للوراء، وتفكيكٌ للشعوب والأمم الإسلامية التي توحدتْ عبر النضال السابق، وهدر للتراكمية الديمقراطية الضئيلة المتحققة، فيضع نفسه في خدمة القوى المحافظة والاستعمارية التي تريد ضرب التجارب العربية الإسلامية التحررية المتصاعدة، فدخلت المنطقة في مرحلة التفكيك والانهيارات الداخلية ومحاربة الميراث العقلاني المحدود السابق.

لقد توحدتْ المذهبياتُ السياسية مع أنظمةِ رأسماليةِ الدولة في كل بلد، أو غدتْ هي المعارضةُ المُفككة لوطنيةِ كل دولة، وأقامت حواجزَ مع المصدرين السابقين، ولم تستثمر المصدرين لتنامي التقدم في الأمة.

بطبيعة الحال لم تعِ المنظومتان الماركسية والليبرالية أهمية تصاعد العنصر الديني الإسلامي في هذه اللوحة المركبة، وأُخذ كمؤامرة بشكل مطلق.

في المرحلة الراهنة أخذتْ تتكشفُ الضرورةُ الموضوعيةُ لتلاقي هذه المصادرِ الثلاثة لتكوينِ العرب السياسي في العصر الحديث، وهي المعبرة عن أغلبية الطبقات العربية، وهي إذا كانت نتاجُ ثوراتٍ ثلاثٍ عبر التاريخ: الإسلام ،والليبرالية، والماركسية، فقد صادرتْ هذه العملياتِ الديمقراطيةَ فيها الهيمنةُ الإقطاعيةُ في ظرفٍ، والاستعمارُ المباشرُ في ظرفٍ آخر، ورأسماليةُ الدولِ في ظرفٍ ثالث.

وهذه أمورٌ تشيرُ إلى التعقدِ التاريخي لتكوينِ الأمةِ العربية، ولإسراعِها في العصر القديم للقفزة فوق الظروف الشديدة التخلف، ولإسراعِها في العصر الحديث للاستعانة بمصادر سريعةٍ جاهزة للتقدم والتوحد، من دون أن تمتلكَ قواعدَ قويةً لذلك، وهي اليوم قادرة على أن تجمع ما هو مُفكك، وأن تغتني بالصراعات الديمقراطية، حيث الوحدة أقوى من الاختلاف، لأحداث تراكمات نهضوية جديدة، في أبنيتها الفكرية الداخلية وفي علاقاتها المشتركة.

كلمتا البرقِ الخــُلبِ

  كلمتا البرقِ الخــُلبِ

في التراث تجسد صورة (البرق الخلب) حالات الإنسان المزهو بنفسه مثل السحابة الكبيرة التي تطلقُ البروقَ ثم لا تـُسقط مطراً.

وهي حالة كثير من الناس يتصورون ان بإمكانهم أن يكونوا نجوماً في سماء المعرفة والفكر، فيعتمدوا على التظاهر الخارجي، مثل الممثل الفاشل الذي هو غير قادر على صنع المشاعر الداخلية في أغوار نفسه، فيتظاهر بحركات خارجية تعكس فقره الروحي.

والسبب قوة الطموح وقلة الدرس، فهو ليس لديه وقت للقراءات العميقة، ومكابدة البحث، وعناء الصقل الداخلي، ونحت الأفكار في الدماغ، إما لعادات اجتماعية سيئة وإما لنقص في القدرات الجسمية، ومع هذا فهو يرى الناس كالأقزام، ويرى المنتجين الكبار محدودين صغاراً، وهي خصال سيئة تزيده تشوها لكنه لا يراها في نفسه بل في الآخرين.

وأدت ظروف التنافس والفردية الطاغية وسيادة عالم المظاهر وانتشار الدكتاتوريات المقزمة للبشر، إلى صعود هذه الظاهرة واستشراء شراء الأقزام وتصعيدهم على المسارح الاستعراضية السياسية والاجتماعية المختلفة.

حين كان العصابي الاجتماعي مع البشر العاديين، يصارع ما يصارعون، ويتألم مما يتألمون، كان لديه بعض المواهب، وكانت مشاعره تتألق للدفاع عن الوطن أو الناس، كان يحفظ بعض الشعارات، ويقرأ بعض الإنتاج، ولم يكن متواضعاً وهو مع هذا الحشد المضحي، بل يرى نفسه مغايراً، ولا يرضى بأي نقد، وهو عصبي المزاج، يعكس نفساً متورمة، لها حدود حمراء تتفجر بالصراخ والنداءات الحادة حين تلامس تلك الحدود أي ريشة قدح أو نقد.

وإذ كثيرون من المتورمين يتساقطون عاجزين عن دفع ضريبة العمل السياسي الذي يتطلب النقد والبحث وكون المشتغل به فردا مثل سائر الأفراد، فإن المتورم الأكثر تركيباً، والأكبر طموحاً، الذي يمتلك بعض المهارات، يواصل الصعود في عالم الأنوار، عالم البروق.

في حالة الكتابة يتعلق بالشعارات والحالات العامة المجردة التي ليست فيها قدرات تحليلية عميقة، يستند إلى جزئيات فيها بعض الصحة والبقع الفاقعة والصواريخ المبهرة، ويمضي بها وقتاً ولكن غير قادر على الاستمرار فيها وجعلها تتغلغل في المجتمع، ومتابعة تصوير نماذجه من العامة والمثقفين الذين كان يحفل بهم، ويتابع نماذجهم، فيروح في عالم كتابي غنائي غامض، ينسحبُ من خلاله من عالم الكادحين الذين كان يتغنى بنضالهم، ويسجل عذاباتهم، ولا يحفل بالتناقض بين ما كان بالأمس وما صار اليوم.

لا تهمهُ مساحة التناقض، وهوة الاختلاف، وعظم القصور الداخلي، وضرورة مراجعة النفس، ونقد الذات على الهوان، وكون الأشياء المادية لا تساوي شيئاً أمام عظمة النفس، وأن المهم والعظيم هو بقاء الذات مشعة ومستمرة في صنع المطر لا في تشكيل الاستعراضات المبهرجة والبروق الخلبية.

لا يستطيع أن يستمر في كتابة الحقيقة، فكتابة الحقيقة لها أثمان: تعبٌ في القراءة، وبساطة مع الناس، وتواضع أمام الرموز الإنسانية الكبيرة، وشفر الأسلحة في تعرية نماذج الفساد، وظاهراته الاستغلالية المتصاعدة، وتوسيع البصيرة في رؤية الأحداث الغامضة، لكنه لا يستطيع ذلك.

فقد يلجأ هنا إلى صوفية تجعلهُ متوارياً، مغمغماً بلفظيات فاقعة مبهرجة، مجعجعاً بثورياته في المطلق والمجرد والغامض، أو إلى إنشائية اجتماعية أو سياسية مباشرة يسودها الاستعلاء وتجريح الآخرين وتقزيمهم وهي تصدر عن نظرات ضحلة لا تتغلغل في الظاهرات الاجتماعية والسياسية المعقدة، لكن عبر الصواريخ اللغوية والادعاءات الأدبية، يستر جزءا من عري ظاهر.

ولابد له من مدح الواقع القائم الذي يستفيد منه، متحولاً هنا إلى عالم موضوعي، يدرك المراهقة اليسارية وخطورتها ويخفف من وطأتها على الكفاح الشعبي، ويغدو هو الوطني البارز الذي يعرف مسار الحق، ويوجه الجماعات الطائشة كافة إلى طريق الصواب.

ورغم أن نظرته حولاء، ويقرب النار من قرصه في الانتقادات الصغيرة كافة، والمدائح الكبيرة، ويستدير في أي لحظة و”يتشقلب”، ويكشف عن الإنجازات الخطيرة، فإنه يرى أنه أعظم من فكر ونظر.

وتتعقد الحالة النفسية إذا كانت مثل هذه الإنشائيات تتشكل من أجل لقمة العيش، فهي تصير تواضعاً من العملاق، وإهانة لقدراته الكبيرة من أن يخدم البسطاء و(الأغبياء)، فإذا كانت زحفاً في عالم الفساد وضروب التزلف والنفاق السياسي، فلابد من تصويرها على أنها قمة البحث والعروض النقدية والكشف لصالح الأمة والشعب.

لا تتشكل هنا حالة خصب مع ابتعاد النموذج عن الأرض وعن الناس، حيث اصبحت فقاعة تطير في الهواء، تطلق بروقها الحارقة على المشاهدين، وتعيد تشكيل الإنسان والحضارة.

ملاحظات حول مجموعة ــ الفراشات لأمين صالح

هذه الدراسة نشرت في مجلة الكاتب العربي العدد الرابع من السنة الاولى ديسمبر 1982 دمشق .

بدون عنوان

هذه هي المجموعة الثانية للقاص أمين صالح الصادرة عن دار الغد بالبحرين، والتي تعتبر امتداداً وتعميقاً للخط الذي شقه لنفسه في ميدان القصة . اننا لن تعتبر هذا الامتداد تطوراً وقفزة إلى الأمام ، بل سنجد فيه استمراراً لأزمة هذا العالم الأدبي الفكرية والفنية .

إن إطلاق النعوت الفضفاضة والتعبيرات الشعرية والمصطلحات الغريبة غير المفهومة . لن تؤدي إلا إلى عزلة أكثر لهذا الأدب وتفاقم أكبر لموقفه الصعب، وعرقلة تطور الكاتب. علينا أن نتحاور كأصدقاء، لنكتشف مواقع ضعفنا ونساعد بعضنا البعض، في غيبة النقد العلمي . وهذا النقد ليس منافسية وصراعاً لتدمير الوحدة الأدبية، بل هو لتعميقها، واكتشاف مواقعنا على نحو أفضل وتوجيه كلماتنا للتأثير المشترك في الواقع.

سوف نناقش هذه المجموعة من زاويتين، الزاوية الأولى هي زاوية البناء ومدى قدرة الكاتب على خلق بناء قصصي متماسك. ولا يعني هنا أن الرؤية المتجسدة في هذه الأعمال ــ‏ سواء المتماسكة أم الضعيفة ــ إيجابية، فقط أننا بتركيزنا على هذا الجانب نستطلع جوانب التشكيل المختلفة حتى نعثر على جوانب الخلل التي تقودنا الى خلفية هذا التشكيل وأسباب جفافه وضعفه. الزاوية الثانية هي زاوية الرؤية أو تناقضها، هذه الرؤية التي تؤدي إلى التشكيل بهذه الصورة. أي أننا ننتقل من الشكل إلى المضمون ونرى علاقة التأثير بينهما.

بين التداعيات والقصة القصيرة :

العديد من قصص المجموعة عبارة عن صور متناثرة لم يستطع الكاتب أن يخلق المعيار الفني الذي يوحدها ويعطيها الدلالات المبتغاة. انها تداعيات ربما وحدتها أحاسيس ما، لكن لم تأخذ فرصة النضوج الكافية للتبلور في هيكل حدثي متناسق، فانطلقت الصور المقطوعة؛ والتعبيرات المباشرة في كل اتجاه.

أن التداعي والانطباعات حينما تتحول الى انطلاق عفوي، لا تضبطها الهندسة الفكرية يتبعثر المحور الذي يربط كل الجزئيات ويوحدها . ليست المسألة مسألة التخطيط والمنطق الحسابي، ولكن ذاك التفاعل الخلاق بين الوعي والعفوية، بين المنطق والتدفق.

سوف ننتقل مباشرة من النظرية الى التطبيق .

في (انفعالات طفل محاصر) نجد عشرات الصور المبعثرة والتداعيات لكن لا نجد هيكلا حدثياً نامياً . 

في البدء تطالعنا صورة الراوي والفتاة التي تجلس قربه . ليس بينهما وبين البحر سوى جدار سميك . بينهما حب ولكنه حب خارج على القانون، وهو حب سخي، تلاحقه معاطف المخبرين و . . . و. . . يخرجان من المقهى، يستلهمان الماضي والمستقبل، وكانا مأخوذين بسحر العرائس، ولكن يعود الحصار فجأة ويعود الجدار السميك .

ثم ننتقل إلى صورة أخرى، لا تأتي كتوليفة وتركيب؛ بل كقطع في البناء. فثمة غرفة موصدة وخالية إلا من طائرات تقذف قنابلها في لحظات خاطفة، نجد عيناً في الأرض وأخرى في الرأس . الطفل المحاصر يحصي أصابعه فيجدها سبعة .

الصور الثانية جاءت ولم تحدث تركيباً بنيوياً، انفصلت عن الصورة الأخرى؛ وتأتي الصورة الثالثة أولا كأقوال تقريرية (أعشق الريح والخليج والوقت الآتي والرمل والبحر والمراكب)، تقريرية لأنها لم تتجسد تصويرياً، فنحن نبغي الخليج ولكن أين هو؟ وهذه الانفلاتات التقريرية تأتي لتزيد الفصل بين الصور، وليس لها من قيمة بنائية . والكاتب مولع بهذه الجمل غير القصصية وهي جزء من حالة عدم النضوج الفني للقصة.

ثم نرى امرأة أيضاً. تبقى بذات الحالة التجريدية الأولى . ( ساعدها ثمرة شهية لها طلعة بهية يعشقها كل الأطفال )، الكاتب لا يبني، يبقى بحالة التداعي الأولى، لا يطور من هذه المرأة، لا يجسدها بشكل خاص وحميمي، لكي يحولها من أوصاف عامة تنطبق على أشياء كثيرة إلى إنسان ذي ملامح . اللغة الناعمة الملمس المنتقاة، تقيده . لا ينتقل إلى الإنسان، إلى تركيب صورة تكشف أعماقه.

يقفز إلى الملهى الليلي ويدع تقريريته تتحدث . فهو يمقت الرقص الشرقي في العلب الليلية وامتهان الأجساد ويكره مدير الملهى واللوطيين والمخصيين وأصحاب المصارف . لقد جاءت هذه الصورة أيضاً بلا توليف، فلا تطور جانباً حدثياً سابقاً . بل تنقلنا إلى أشخاص جداد وموقع جديد مضيعة الفرصة للتركيز على الأشخاص السابقين . إن هذا الانتقال لا يضيف فنياً أي شيء . ويمكن الانتقال أيضاً إلى أصحاب المزارع والقصور والقضاة وغيرهم ولكن ما فائدة ذلك بنائياً؟

النقلة الأخرى الى شخصية ( أبي ذر). ودائماً تكون الأوصاف العامة ذات الرنين الشعري، كدقات الطبل، هي المدخل إلى الشخصية أو الحدث . أنه لا يدخل لها ببساطة، لأنه يكره أن ينزل إلى الملموس والعادي، فلغته يجت أن تكون محلقة، مجردة، فهي عبء يعانيه، وليست أداة تساعده لخلق الشخصيات والأفكار .

أبوذر يرسم وطناً دامعاً ويكاتب عالماً مجرداً هو الوطن والأمهات . إن هذه المكاتبة لا قيمة لها،  تبقى شعاراً، لأنه لا بد من أم ما، خاصة، تتم إليها المكاتية. عندئذ مع وجه ذي قسمات معينة تتشكل علاقة حدثية قصصية، والعلاقة لها شروط أيضاً . أهم هذه الشروط صلتها بالصور السابقة وتناميها في الصور اللاحقة .  فالمسألة ليست اعتباطية فثمة قوانين للابداع.

وأبوذر يطبع قبلة على جبين فتاة كانت تزوره خلسة . ولكنها تختفي . انه يصورها كعادته مركزاً على تعبير (المطر المالح) لا الانسان الرائع .

أبوذر يدخل هكذا بلا مقدمات . الصور الأولى لم تشيده، عبارة عن كلمات لم تتآزر وتتشكل في بناء عضوي . والإحساس بالاضطهاد أو الحصار لا يشكل هيكلا . فكل صورة لها قيمة في ذاتها، وليس في العلاقة بينها، والعيب هو في هذه الصورة لأنها مبنية بشكل «ميتافيزيقي»، أعني أنها منفصلة وساكنة، وليست جدلية؛ مرتبطة ببعضها البعض، مؤثرة ومتأثرة، خالقة بذلك لوحة عامة.

وفي المقطع الخامس نقرأ مانشيتات إخبارية لا علاقة لها بالصور والبناء السابق . إن الحديث عن الشهداء والاعتقال لا يكفي ليشكل قصة فما بالك بقصة ثورية، في ضوء عدم الاهتمام بالتكنيك القصصي أولا ؟

وتكملة لهذا المقطع  نعثر على صورة . يصادف الراوي قاطع طريق . القاطع يقدم أكلا قليلا، وكان كلاهما جائعين؛ فلم يشبعا . تحدث عن نفسه فأوضح أنه يحارب عصابه احتكرت مياه الشرب عن الأهالي، فيسلب مواشيها وعربات المياه، ثم يوزعها على الناس .  وهو منكر لذاته أيضاً، فيراوغ عن قول اسمه .

هذه صورة لا علاقة لها بالحدث أيضاً . وسندرس في جانب آخر دلالة قاطع الطريق هذا.

أما في المقطع السادس فيخرج الكاتب عن الموضوع تماماً . يصور لنا حكاية رجل يبيع ذراعه الوحيدة بعشرة فروش . ان من الممكن كتابة عشرات المقاطع مثل هذه ولكن ما وظيفتها ؟ ما الإضافات التي تقدمها للبناء ؟

وفي المقطع السابع نقرأ نداءات متكررة الى المرأة المطهمة بالنار والماء . وهي بلا قيمة فنية، وتبدأ الصورة حين تزمجر الذئاب في وجه أبي ذر، وهو ممدد ومقيد على الأرض . الدماء تغادر جسمة والذئاب تلحس ما تبقى .

ولا يطور هذه الصورة بل ينطلق في تداعياته وانثيالاته، يرتفع ويتوغل في الوقت، ويمضي معه .

وفي المقطع الثامن استمرار لهذه التداعيات . الجمل الناعمة، الشاعرية، لكن قصصياً، الفارغة .

وفي المقطع الثامن يصل أبوذر إلى موقع لا ماء فيه ولا شجر . ولكن قبل أن يكمل أو ينشىء الصورة يزوغ إلى التداعيات والاقتباسات ثانية . يكتب عن سفر الرؤيا . ولا يتم مسيرة «بطله».

نرى أن الكاتب لا يتحول إلى قصاص، يمتلك كيفية البناء القصصي، فهو لم يقم بإنضاج الفكرة/الصورة لكي تصل الى معمار محدد المعالم، فقبل أن تتشكل وتكون بناءها، أجهضها وأخرجها الى «النور» .

ولأن البناء غير مكتمل تنهمر العبارات المباشرة وترفع اللافتات، فلم تنصهر هذه الشعارات في لحمة الحدث، بل بقيت كدليل على التسرع وعدم إتقان التكنيك.

وجانب آخر من عدم الاكتمال هذا نجده كما قلنا في عزل الصور عن بعضها البعض، فالنظرة التركيبية هي وحدها التي ستحيل هذه الشظايا إلى منظومة . أن (شخصية) أبي ذر كان يمكن أن تتحول إلى محور، فتتجمع حولها كل الجزئيات غير المنجذبة إلى مركز .

إن الكاتب أضاع الشخصية من التاريخ والواقع المعاصر . لأنه بكل بساطة لم يرسم شخصية . فهو لم يجهد نفسه تكنيكياً من أجل خلق هذه الشخصية، واستساغ لعبة التداعيات والأجزاء المبعثرة والجمل الشاعرية؛ ونسي واجبه كخالق للشخصية، فتلاشت الشخصية والقصة والشعر معاً .

اللغة الجميلة البعيدة عن اليومي لها دور في الاتجاه إلى التجريد، فالكلمات تتدافع بقانونها المستقل غير موظفة لبناء الحدث، وحينئذ تفرض شروطها عليه . هي تبقى كغاية؛ بدلا من أن يكون الحفاظ على جمالها يأتي بالدرجة الأولى من خلال دورها ووظيفتها في البناء .

(العواء) أيضاً عجزت عن التشكل كقصة .  ثمة بطل يوحد الصور المبعثرة، وهو الراوي، وهذا التوحيد ليس المعمار المطلوب، فهذا الراوي لا يختلف عن صوت المؤلف . فكأن الكاتب يفكر ويحلم و يمشي .

نرى أولا صورة المقهى، يبدأ الكاتب كالعادة بعبارات كبيرة، فلا يخلق حدثاً منذ أول كلمة، بل يفتتح المشهد بأبهة الكلمات الفخمة ( توقفنا عند حدود الكلمات المنطوقة والمهربة). ( لنكتشف لغة أخرى بلون أحداق الشمس) .

رواد المقهى أجادوا لغة الكلام فصمتوا . لذا يقرأ أحدهم ملصقاً سرياً . ثم يقفز كهل ويقوم برقصة عنيفة تمثل بدوياً أنهكه البحث عن خيمة وعشب .

خيبة الراوي تتجلى في الشارع البارد أيضاً . يطارده عواء فيفزع ويجري. تحتويه الغرف الخالية . ليس فيها سوى ذكرى حبيبة، وهي ليست حبيبة حقيقية بل مجرد نداءات تطلق الى شيء غير محدد بالمرة . فالمرأة لدى الكاتب ــ عبارة جميلة وليست انساناً ــ عنصر المرأة لا يتضافر مع الصورة السابقة لكي تنمو حدثياً، بل هي تداعيات يجمعها احساس بالضجر والخواء .

الصورة الأخرى التالية تشكل نمواً؛ وهي صورة الصديق الذي قرأ الملصق وهو ملقى في سرداب قذر تمزقه الطعنات . وهذا النمو تجسيد لبشاعة الواقع المحيط بالبطل وليس أكثر من ذلك . بمعنى أنه لا يتشكل مع المرأة والبطل ليشكل علاقة قصصية . وبدلا من هذا التشكيل ينطلق في حديث مباشر لغيمة «ثورية». حديث غير عضوي، مجرد استطراد للملصق .

و بشكل مفاجئ يدخل الجنود أيضاً مسرح التداعي . تحدث مجزرة فيأتي صوت من بعيد هو العواء . لم يكن تردده سابقاً إلا إيذاناً بمجيئه هذه المرة ولكن بشكله المجسم في هيئة جنود وعلى شكل أسلحة . وهذا الصوت ليس وحده، فثمة صوت آخر ؛ هو الأغنية . اللغة المضادة للعنف .

يرقد الراوي، هناك أصابع خشنة تتجول في جسده وجروحه .

مقطع الحوار التالي يدل على تغير موقف الراوي، على انتقاله إلى الغناء، ولكن بغموض؛ فليس ثمة تغلغل في نفسه؛ أو كشف للابن الذي يخاطبه، عبارات مبهمة لا تروي شيئاً .

أما النداء الأخير الى المرأة/العبارة فيكشف موت الراوية أو استشهاده، وذلك سيان .

إن هذه الصورة الباهتة، التي تفتقد إلى الحرارة العاطفية والتشكيل المتفجر حيوية، لا تشكل قصة . إن الصراع بين هؤلاء الأشباح والمضطهدين نراه في قصص عديدة، ولكنه ليس مشجباً يعلق عليه الكاتب كسله الفني، لا بد من تشكيل بنية ذات علاقة عميقة، تميز هذه القصة عن تلك، تخلق أبطالا لهم شيء محدد خصوصي، يعطيهم نكهة، ويعطي علاقتهم مناخاً متميزاً .

لكن الكاتب ينثر تداعياته، مقهى، امرأة، غيمة، جنود، منزل، غير قادر على خلق علاقة حدثية بين هذه العناصر . مضيفاً إلى هذا التبعثر جواً مجرداً يعمق هذا التبعثر.

قصة (ولم ينته هذا الحلم البلوري) تختلف بعض الشيء عن المحاولتين السابقتين؛ فالمجموعة المتناثرة من الصور نجد أنها تتألف وتتضافر حول البطل وهو الرجل البرجوازي وخادمته . هذا الرجل وهذه المرأة يؤلفان نقيضين، أي قطبين متنافرين في الصراع الاجتماعي . ومن خلال «شخصيتيهما» ومن خلال الصراع بينهما ينمو المحور ويتشكل .

هو رجل مذعور ووحيد في منزله . وهي امرأة تعمل وتقرأ . في انطلاقة المذعور من البيت يقابل (صديقه) وزوجته. وحين يشتهي المرأة لا يتردد بينما يقف الصديق مغطياً عينيه المفتوحتين . ولكن حين يشتهى الخادمة ترفض وتقاوم.

هذه هي العلاقة المحورية لدينا، الرجل رغم كثرة المقاطع عنه ظل غريباً، بعيداً مجرد رمز ك/ س/ مثلا، وهو رجل بملامح غربية . فهو لم يتشكل بمناخنا وتربتنا الوطنية، تشكل من قراءات القاص، ليس كنتاج للواقع المحلي، والخادمة أيضاً هي رمز لا شك أنها تتمتع بمزية المقاومة، ولكن لم تخرج عن كونها شيئاً مجرداً، وليست إنسانة، فنبع البطلين واحد.

لن نناقش الأسباب الفكرية وراء هذه الظاهرة الآن، بل سنقتصر على رؤية التشكيل . وبهذا الصدد نقول: إن العلاقة الرئيسية لم يمعمقها الكاتب نفسياً واجتماعياً. لم يركز على ذات البطل لينتزع ملامحها وخصائصها الجوهرية، وليكشف من ثم أساسها الاجتماعي؛ ليتشكل البطل كشخصية حيه ــ وكذلك البطلة . إن الكاتب لا يزال يبعثر أجزاء القصة، غير قادر على لحم الأجزاء بمهارة . وبدلا من إتقان التكنيك يلخص بعض قراءاته وينثرها في القصة . فهنا مقتطع من سيناريو وهناك مقطع من قصيدة لشاعر فرنسي وأيضاً مشهد من فيلم ! هذه «التوظيفات» لا قيمة لها على الإطلاق . لأنها لا تضيف شيئاً لتعميق رؤيتنا للشخصية أو لتطور الحدث بالإضافة إلى أن ثمة صوراً أخرى لا تقوم بهذه الوظيفة أيضاً، رغم صلتها بالحدث . كأمثلة : منظر المصنع؛ المحكمة، الجنود . هذه كلها تدلل على أن الكاتب لا يختار الزوايا الهامة والدقيقة لاكتشاف شخصياته، لأن رؤيته لا تتركز على (الإنسان) بالدرجة الأولى .

(ايزادورا . . دعوة للمشاركة)، هذه ليست قصة، ثمة امرأة راقصة ذات اسم معروف، لكننا نجهلها في الحقيقة. لم يصهرها القاص في حدث ساخن؛ فنرى أعماقها وطبقتها الاجتماعية وصراعها. الصورة عبارة عن منظرين صغيرين لا أبعاد لهما. الرجل الغربي البرجوازي في القصة السابقة تحل مكانه امرأة غربية. وليس ثمة صدى لواقعنا، فنحن ضيوف غرباء على المنظر .

المرأة لا تفعل شيئاً سوى أن تتعرى وترقص تحت رذاذ المطر، ثم يلقى القبض عليها قبل أن يحضنها حبيبها.

هذه الصورة قطعت إلى ثلاثة مشاهد، وهناك أيضاً استشهاد بأحد أقوال راقصة عاصرت ايزادورا ولحسن الحظ وضع الاستشهاد خارج القصة هذه المرة . تقطيع الصورة الصغيرة الى ثلاثة مشاهد ترينا سيطرة الشكل على وعي الكاتب . الفكرة ظلت باهتة، لكن الشكل ظل يتمتع بالاهتمام الأول .

يصل الكاتب في العديد من القصص إلى التماسك الشكلي، فتتشكل عضوية موحدة، وتتآزر العناصر المختلفة لتبلور فكرة .

في (النافذة) تبقى ملامح الصراع ذاتها. الخادمة هي المرأة المضطهدة التي تعاني يومياً شراسة السيد ووقاحته. تفتح النافذة فيستقبلها الهواء ويدعوها للطيران . والطفل يضحك أمامها فتحاول أن تقلده فلا تستطيع، والنهر يدعوها لتتعلم الكفاح فلا تقدر أن تفعل شيئاً، ويبقى السيد سيداً وتبقى الخادمة عبدة . . وتغلق النافذة.

هنا ليس ثمة شيء زائد، كافة العناصر البشرية والطبيعية تؤدي دورها في انسجام عضوي، ولكن هناك اشياء ناقصة . يتضح في القصة دور العوامل الطبيعية كالهواء والنهر في إعطاء المرأة صورة أخرى لوضعها من أجل أن تغيره . أيضاً (الطفل) وهو عنصر رومانسي في أدب أمين، يومئ لها نحو الطريق ولكنها عاجزة عن الضحك والسير . إن هذه العوامل تتشكل كرموز، وليس كعلاقات بشرية مع المرأة . القاص يقطع صلتها بالناس، بالحياة الاجتماعية الغنية، ويترك لها علاقة شاحبة مجردة؛ وعليها أن تثور من خلالها. أن اضاءة تاريخها بشكل ومضات سريعة، ووضعها في إطارها الاجتماعي، قد يكشف محدودية قدراتها للتطور؛ وقد يفتح لها أفاقاً جديدة . 

القاص بوضعه «البشر» في ثلاجات يريدهم أن يزخروا بالنار . فقط في حالة ذوبان الجليد واكتشاف الكاتب للمناطق الحارة في منطقتنا، سوف تتشكل نفسية حية لهؤلاء الشخصيات المطمورة بذاك التشكيل المدمر لقدراتهم وإمكاناتهم .

ملاحظات صغيرة :

 نستطيع أن نحدد ملاحظات أخرى على التشكيل نكمل بها الصورة :

أولا : هناك تباين بين عنصرين مختلفين وهما عنصرا التجريد والمباشرة . فبقطع جذور الشخصيات عن واقعها الملموس، وافراغها من محتواها الاجتماعي، يتضاءل التوجه الثوري للعمل الأدبي وتضعف مهمته التحريضية، فتظهر العبارات المباشرة تعوضاً عن نقص في البناء والتوصيل.

ثانياً : الاهتمام بالشعر والسينما يأتي ضد القصة، فهذان الفنان لا يندغمان في التكنيك القصصي، بل يظلان طافحين فوق السطح، ولهذا يكون لهما أثر مدمر على التشكيل القصصي، أن أي وسائل تستخدم يجب أن تساعد الشخصية والحدث في التكون والتطور وأن تذوب في الهيكل العام للقصة لا أن تكون مفردات طافية على وجه القصة .

ثالثاً : ثمة تناقض في هذه القصص، وهو التناقض بين «الحالة الشعرية» والوعي «الموضوعي» الذي تتطلبه الكتابة القصصية، فتلك الحالة تعطي غنائية ونطلاقاً غير مخطط الصور؛ وهذا الوعي يتطلب تخطيطاً وبناء فكرياً لخلق شخصيات في حركة وفعل . والقاص حينما يثبت قدماً في القصة وقدماً أخرى في الشعر تختلط الحالتين في عمله، فلا يكون قصة أو قصيدة .

رابعاً : الكاتب في محاولته للوصول إلى العام والجوهري يخفق تماماً، لأنه يضع طريق الوصول اليه دون المرور بالملموس والثانوي .

إن تصوير الحدث والشخصية بعمومية وإطلاق يؤدي إلى عدم واقعيتها، أن الواقعية تتطلب مزجاً بين الملموس والمجرد، بين الثانوي والجوهري، وبدون هذا المزج نتحول الى مدرسة أخرى .

المناخ الغربي :

قاد تجريد الشخصيات والأحداث من واقعها المحلي والعربي، الكاتب إلى سيطرة أجواء قراءاته ومشاهداته لنتاج الثقافة الغربية . كان التصور السابق أن القاص بقطع الجذور الاجتماعية والوطنية لكائناته الفنية انه يجعلها مطلقة، مجردة، غير محددة الجهات، ولكن اتضح أن ثمة واقعاً آخر يجذبها ويجعلها تدور في فلكه،  فغدت هذه الكائنات تعيش في أجواء غربية . فانقطعت عن واقعها الذي تستمد منه الماء والضوء .

ستتناول عناصر مختلفة لرؤية هذا المناخ .

(هنالك امرأة تطل من الشرفة وترمق البحارة الذين يتزاحمون داخل وخارج الحانة . .  ص 5)

(. . ومدير الملهى يفتح زجاجة الشمبانيا في تخب زوجته التي تعاقر اللوطيين والمخصيين وأصحاب المصارف جهراً . ص 13).

كان بضعة رجال يرتدون ملابس عسكرية غريبة؛ منهمكين في صنع صليب خشبي ص 33). 

( الغرفة خالية ، بدون أثاث أو لوحات عصرية أو تماثيل افريقية ص 42).

(عارية ورذاذ المطر يداعبها ويعانقها). 

( ضباب شفاف يدور حولي . امرأة بيضاء قادمة نحوي . ص 50).

ليست المسألة مسألة كلمات مثل «الحانة»، «الصليب» ، «التماثيل الافريقية» فحسب، ولكنه جو شامل يغطي معظم مساحة المجموعة . المرأة في قصة «الفراشات» تظل بلا نكهة شعبية، فهي ترمق بحارة في حانة ذات مواصفات غربية . تظل المرأة باهتة وغريبة، ليس لأنه مسخ شخصيتها فحسب، بل لأنه وضعها في مناخ غير مناخها . لم تلتهب بنار أرضنا، رغم أن زوجها سجين، ظلت في غرفتها الباردة وشرفتها البعيدة ولم تر حاراتنا وحاناتنا . هذا الجو الناعم الغربي جعلها غير واقعية فماتت . 

البطل البرجوازي في (ولم ينته هذا الحلم البلوري) هو من قراءات القاص وتأثراته بالثقافة الغربية، فهذه الشخصية لا يجمعها جامع باناسنا، حيث أن الكاتب شكلها في جو غربي صرف . علاقته بالخادمة، واقع السهرة، لقطة الفيلم الفرنسي، مضاجعته للزوجة أمام زوجها، منظر المحكمة ووجود عنصر المحلفين، مقطع من قصيدة لشاعر فرنسي .  هذه العناصر المتعددة «تغرب» الموضوع والحدث .  اضافة الى عنصر التجريد المتفاعل معها، فهذا كله يساهم في إخراج القصة من التربة المحلية .

مناخ القصص يميل عادة إلى البرودة، والمطر ليس قليلا؛ أما الصيف والحرارة الشديدة ــ وهي السمة الغالبة في مناخنا ــ  فقلما نعثر لها على أثر .

والشخصيات هي مثل و«تجنسكي» و«ايزادورا» حيث البروز الأكثر وضوحاً لسيطرة القراءة لا الواقع، وسيطرة موضوعات لا تمثل هاجساً لإنساننا . تتلاشى ملامح الخليج بتراثه ورجاله ونسائه ونضاله وأجوائه، لا أثر للزنج والغواصين وعمال البترول . بل هي وجوه شاحبة وخطوط مجردة وأجواء غربية .

الموقف المأزوم :

أن تأثر الكاتب بالثقافة الغربية ليس الا تأثراً بمواقف معينة في هذه الثقافة، وهي تلك المواقف المأزومة ذات التوجه البرجوازي والبرجوازي الصغير .

في (نجنسكي . . حنجرة الرعد) نكتشف بعض جوانب هذا الوقف .

نجنسكي يرقص رقصة الحرب . يمثلها بحركة جسده . اللغة الشفافة تمثل الحركة الخارجية وسطح الموقف . نجنسكي يركض وينزف ملحاً . يغادر نجنسكي خندقاً ‏ــ  قبراً إلى خندق ‏ــ‏ قبر آخر . ثمة جنود وضباط يخطبون بحماس وقتلى .

القاص صور ساحة حرب، ولكن لم يتغلغل إلى أية أبعاد اجتماعية وراءها.  فبالنسبة إليه يقف المعتدي والمعتدى عليه على صعيد واحد . المناضل كالفاشي، لا فرق، هي مجرد حرب لا أبعاد لها . الراقص، والكاتب؛ ضد هذه المجزرة ولكن من سببها ؟ وما هي أسبابها ؟ أنه لا يجيب، فقط يتعرى، متخلياً عن توجيه الاتهام الى عدو محدد ، متجهاً الى لعن الزيف ومن أجل البراءة . هذا الموقف الهروبي يتستر بالمجردات، فيبدأ درجة درجة صاعداً نحو الجنون والانفصال عن الواقع والبشر .

تجاه الحرب يرقص عارياً، وتجاه متعهد حفلاته يغمغم في ذاته . ليس لديه موقف حقيقي تجاه الإثنين، وفي هذا الفراغ المرعب وانعدام الوعي للنضال ضد الشرور الاجتماعية وخالقيها يفتح له الكاتب باباً عريضاً وهو باب الصوفية تجليه الأول من خلال الرعد الذي يبحث عن حنجرة له . أنه لا يصل إلى حالة فقدان العقل حتى يتحد في هذه اللحظة، بل يستمر في تحديه للناس . الصالة غاصة بالجمهور وهو واقف كالتمثال لمدة نصف ساعة . ثم أخذ ينزع ملابسه قطعة قطعة. الجمهور ينسحب . زوجته تبكي، فلا يجد الا الطفلة يراقصها. يتمنى أن يظل الأطفال أطفالا حتى الممات، معبراً بهذا عن فشله وأزمة طريقه .

ويتعمق بهذا طريق الصوفية والجنون . ولا يصور القاص هذا الطريق كأزمة بل كتطور خطير وعملقة للبطل . أن الله نار في رأسه !!

نبذه الناس فانطلق في الهواء والفراغ فاحترق والتقى بالرعد حنجرته . الكاتب حول الأزمة إلى موقف عظيم والانهيار الى تألق،‏ والهروب الى بطولة .

وعوضاً عن كشف موقف نجنسكي وجذوره الاجتماعية الضاربة في تربة طبقية قلقة، يقوم بوضع أكاليل الغار على هذا الانحدار .

لغة الشعر المستخدمة والتمثيل الصامت والعناوين الجانبية والأقواس كلها عجزت أن تحول هذه الصور الي عمل حي رائع . لأنها ارتكزت على موقف طمس القضايا الحقيقية لتمجيد بطل فردي لا يمتلك أياً من مميزات البطولة .

ولكن ليس هذا وحده مما يشكل موقف الكاتب فهناك جوانب أخرى فيه . في قصة (انفعالات طفل محاصر) رأينا وجود قاطع طريق . انه ليس قاطع طريق حقيقة بل هو شخص متمرد على امتيازات الأغنياء واستغلالهم . يعطي البطل جزءاً من طعامه القليل ويكشف له عن مهنته . وهي أنه يحارب عصابات من الأغنياء احتكرت مياه الشرب عن الأهالي فيسلب مواشيها وعرباتها المحملة بالماء ثم يقوم بتوزيعها على الأهالي . وحين سأله عن اسمه راوغ وتحدث عن الحصاد وأغاني الراعيات ورؤيا الأنبياء.

هذه «الشخصية» تمثل إضافات أخرى إلى نجنسكي، فإذا كان ذاك في موقف غائم ضد المعسكرين المتصارعين دون وعي عميق، فإن هذا يقف بشكل أكثر وضوحاً وتطوراً ولكن بطريقة تمردية وفردية . وتختلط في وعيه الاحلام الجميلة والمشاعر الدينية . وهو بهذا نموذج آخر لذات التركيبة الاجتماعية .

في (هذا فرحي . . اغتالوه وهو طائر) نجد صوراً عديدة وكلاماً إنشائياً ولكن لا نعثر على قصة، البطل يحلم وهو في المهد بأنه طائر يقطف نهود جنيات البحر؛ ولكن الواقع يؤكد لغة أخرى، فبين المقهى والمقهى قتيل جائع؛ ومقصلة تمضغ رأس طفلة . انه شخص مأزوم، نفسيته تضطرب بين الرفض والاستسلام . والكاتب لا يصور هذه الأزمة ويبينها في حدث متكامل بل هو كالبطل لا يستطيع أن ينضج أزمة بطله، ويعرضها من خلال معادل ما، بل يلقيها وهي في حالة الاجهاض هذه .

وتتحول هذه الأزمة في كلمات خاطفة إلى صرخات ومحاولات للقضاء على الصحراء المحتضنة للأعداء والسجون والكلاب ومؤسسات الإبادة . الآن يعود حاملا بندقيته مع رفاقه ليعلن الغزو .  في لحظة أخرى نراه يبحث عن لبن الأم . لم يجد سوى ملصقات واعلانات . الأم ، المرأة ، كانت مسجونة في قفص وأحياناً يعرضونها في السيرك وفي البرلمانات . قال الصديق : العنف باب الأبجدية . تبقى المسافة بينه بين الصحراء وتغدو الأم قتيلة .

إذا كان نجنسكي ضد الحروب بشكل مطلق . فهذا البطل في قصتنا هذه مع العنف بشكل مطلق، انه ينزل إلى المدينة مع رفاقه معلنين بدء الغزو ولكن لا يتم من ذلك شيء . ليس ثمة عمل صغير يعملة، في ضوء هذا الحصار الشكلي الذي قيد فيه .

إن هذا التناقض في الموقف بسبب اضطراب الرؤية وانعدام الانسجام في أساسها الاجتماعي . وهذا الاضطراب لا نلاحظه فقط في الرؤية الفكرية بل وفي التشكيل الفني أيضاً . حيث الاضطراب في البناء وبروز الخلفية السينمائية والشكلية .

الاضطراب في المضمون يقود إلى الاضطراب في الشكل . فالقاص بملاحقته البعيدة لواقع غير واقعه يشحب المضمون الفكري لعمله، فيصاب بالجفاف، فلا يبقى سوى ملاحقة الأشكال الجديدة، مع الرغبة الدائمة غير المجدية لتحطيم استقلالية الأنواع الأدبية، هذا كله يؤدي إلى أزمة العمل ككل .

الرجوع الى الينابيع؛ الى الوطن والناس، برؤية تبحث عن علاقاته وبشره، مع الاستفادة من التكنيك الجديد للتغلغل أكثر في الحياة والارتباط أكثر بصناع الحياة الحقيقيين لا الوهميين، هذه فحسب تضع الشروط الأساسية لحل التناقض بين الشكل والمضمون في أدب القاص .

نلاحظ الأثر السيء للأسلوب في قصة (ارتجافات عناقيد الماء في الهواء)، القصة متماسكة، صورها تخلق أثراً هاماً موحداً؛ والكاتب يوظف حادثة أسماء وابنها عبدالله بن الزبير التاريخية ليعطيها دلالات جديدة معاصرة ومضيئة .

يقترب من خلق «أسماء» كشخصية حية ولكنه يتوقف في منتصف الطريق، فالأسلوب ببلاغته الشعرية يجعله على سطح الشخصية والموقف، تجذبه الصور الجميلة فتتولد من البحر الجنيات والزنابق بينما لا تلد الشخصية شيئاً . الصور لم تساهم في التغلغل في الذات، وهنا يقيد الشكل المضمون ويكبحه .

الكاتب يبتعد في أحيان عديدة عن التجريدات فيصور أسماء كامرأة عادية تنشر الغسيل وتشتري الخبز وعبدالله كعامل يضرب مع المضربين . وللأسف فهذا الصعود الحقيقي إلى الشخصية يضيع في غمرة عبادة الجملة ذات الرنين الموسيقي، وبسبب التوجه المباشر أيضاً. أخذنا مونولوج عبدالله تحت سقف الحانة كمثال،  فماذا سنجد ؟

(نخب الانتفاضة المطعونة . في الظهر، نخب النتائج، نخب الشواطئ ، التي استهلكت بكارتها فعربدت ثم نامت مفتوحة الساقين، أضحت البنادق خنادق وفنادق نعاقر فيها خيبتنا ونضحك ملء أفواهنا رمل …).

إن هذا ليس بمونولوج فهو تعبيرات عامة واضحة ليس فيها من صور البطل الشخصية وذكرياته وتداعياته شيئاً، فيها الصدى الجميل وفيها الطرح المباشر رغم أنه لا علاقة له بالحدث . فالقضية قضية اضراب فاشل وليست انتفاضة مطعونة في الظهر .  فأين هذه الانتفاضة في القصة؟ ومن طعنها ؟

بدلا من مسك الخيوط الفنية و تنمية الشخصية بأعطاء لمحات نفسية تحولها الى لحم ودم ينجرف الكاتب مع شلال الخطابة فيأسره التدفق اللغوي فيضعف التغلغل في الشخصية والواقع بالتالي .

يأخذنا للتفاعل المتبادل بين الشكل والمضمون، نرى شحوب هدف العمل الأدبي، نتيجة التجريد و«التغريب»، ولهذا تتركز اهتمامات الكاتب في تطوير الشكل، وهذا التطوير نتاج الثقافة الغربية وفنونها.  وبالأخص الفرنسية، ولكن القاص في محاولاته للوصول الى مضمون أعمق، وفي لحظات اقترابه من واقعنا، يكبح الشكل الذي اعتاد عليه هذا التطور .

وهنا ضرورة وجود حلقة «كسر» لهذا الشكل . ولكن ذلك يتطلب تعميقاً للنظرة وتغييراً لاهتمامات عديدة . يتطلب عناية بالتكنيك القصصي، وكسر الجو الغربي . هذا يعني تغلغلا في الواقع المحلي، والدخول الى تاريخ المنطقة وتراثها وحكاياتها الخ . . 

ان مشاكل القصة عند أمين هي ذاتها مشاكل القصة العراقية في الستينات. يقول برهان الخطيب في مقالته (الاتجاه الواقعي في القصة العراقية القصيرة) «كثير من قصاصي الستينات كان يكتب بهذه الطريقة الحرة، وهذا الأسلوب كما نرى نموذج لخضوع الكاتب لمؤثرات خارجة عن عمله، فإن مسايرة الإيقاع اللفظي هنا لا تقود إلا إلى الابتعاد عن خط الموضوعة.» _ راجع الأقلام ؛ العدد 12، 1980 .

ليس هذا فحسب بل غلبة الفكرة المنتشرة في الأدب الفرنسي المعاصر وهي فكرة اتحاد النثر بالشعر، والاتجاه نحو صهر كافة الأنواع الأدبية في كل واحد، نجد صداها لدى أمين .

أن الأنواع الأدبية من الممكن أن تستفيد من بعضها البعض أما الصهر فغير ممكن ومدمر لكل الأنواع الأدبية .

الحصيلة :

بعد جولتنا في هذه المجموعة ما هي خلاصة الموضوع ؟

أولا ــ‏ نرى أن العديد من القصص ما هي إلا محاولات لم تتشكل في هيكل ما . وهذا التبعثر في الصور نجده لسببين . الأول: الكاتب لم يقم بانضاج فكرته الأولية بحيث ترسم من خلال تقنية القصة فحدثت لها عملية إجهاض . الثاني: وقوف هذه المحاولات بين الغنائية والتشكيل الموضوعي القصصي، بسبب أفكار الكاتب المتأثرة بتيارات معينة في الأدب الفرنسي .

ثائياً ــ‏ في حالة تشكيل القصة فنياً نجد تحول شخصياتها إلى خطوط مجردة تعيش في بيئة غير بيئتنا وتتنفس هواء غير هوائنا . الكاتب لا تملكه رغبة ملحة في تجسيد تجربة شعبه وأرضه .

ثالثاً ــ ‏ بهذا يقف الكاتب على العكس من المدارس الواقعية بمختلف تشكيلاتها، فهو لا يقوم باكتشاف واقعه وقوانين تطور هذا الواقع، بل ينفصل عنه، فلا نجد «الإنسان» في قصصه لأنه ينطلق من التعالي على الواقع الذي يشكله .

رابعاً ــ‏ تعويضاً عن افتقار المضمون إلى حرارة الواقع والحياة تتركز ابداعات القاص في استخدام وسائل تكنيكية عديدة، ومعظم هذه الاستخدامات تأتي غير مصهورة في البنية القصصية .

خامساً ‏ــ أن ثمة تبعية في الموقف من الثقافة الغربية وعالم الكاتب الفنى يحتاج إلى موقف نقدي تجاه هذه الثقافة كشرط أساسي لتطوره . وما دامت هذه التبعية ملازمة له فسيكون بعيداً عن الواقعية، سواء كانت نقدية أم اشتراكية، قديمة أم حديثة، لأن الواقعية تعني اكتشاف القوانين الموضوعية لتطور بلده وشعبه، وليس في نقل النتاج الثقافي الغربي وشكليته المتغيرة دوماً تعبيراً عن أزمة مغايرة لواقعنا وتطورنا وثقافتنا .