الدين والعلمانية

حراكُ الأديانِ: خريطةٌ عامة

بدتْ الساحةُ الدوليةُ في القرن العشرين متجهةً للصراع بين الليبرالية المسيحية والإشتراكية الماركسية، وكان صراعاً ضارياً، يؤكدُ فيه الطرفُ الليبراليُّ الغربي على نشرِ العلاقاتِ الرأسمالية والتحالفات العسكرية المسيِّجة لجسدِ المعسكر الإشتراكي المُحَّاصر، النازفِ في بقعٍ كبيرةٍ تُضربُ بالطائرات وتُمنع عنها البضائعُ المتطورةُ والإختراعات، وتقطعُ خطوطَ إمداداتِها عن الشعوب المستعمَّرة المتطلعةِ للحرية.

كان العالمُ الغربي يستنزفُ العالمَ الفقير المقطع، وتتضخمُ ثرواته، وتنأى طبقاتهُ الوسطى عن الإحتجاجِ وعن إنتاج ثقافة الحفر الاجتماعي ضد الإستغلال القاري والإستغلال العالمي، وتتوزعُ ثقافتهُ بين ليبرالية رأسمالية علمانية ذات تشجيع للأديان، التي هي أداةُ تخديرٍ كما ترى للجمهور العامل الذي لم تتوصلْ قطاعاتهُ التحتية للماركسية، التي غدتْ هي الخطرُ العالمي، المؤججُ لنضالاتِ شعوبِ المستعمرات، وفي ذاتِ الوقت كانت ثقافةُ هذه الطبقاتِ الوسطى المتعددة التراكيب تنتجُ نزعاتٍ جديدةً من النقدِ للرأسمالية، ولهذا النظامِ المالي المهيمنِ المُستَّلِب، لكن عبر مدارس مناسبة لهذه الجماعات المالكة – العاملة. ولكن غدا الألحادُ ومفارقةُ الأديانِ سمةً ظاهرةً واسعةً في الثقافة الغربية العليا، غير الثقافة السوداء، ثقافة الجنس وأفلام الرعب وثقافة المخدرات وغناء الحشيش والإبر، أو ثقافة الكنائس الواسعة الإنتشار خاصةً في الطبقاتِ الفقيرةِ والمناطقِ والقارات التي لم تنهضْ بعدُ بشكلٍ صناعيٍّ واسعٍ كأمريكا اللاتينية.

 وكانت الأديانُ عامة لدى الشعوب خارج العالم الغربي هاجعةً، مولودةً في العالم الحديث الاستعماري بطفوليةِ النصوص القديمة الشعائرية، فالتعليمُ محدودٌ فيها، وأغلبهُ نصوصي تحفيظي، والتجارةُ ضئيلةٌ، والصناعةُ معدومةٌ، وكانت الليبراليةُ بحاجةٍ لطبقاتٍ وسطى تحملُها، فهي لا تمشي على الأرضِ بدون الدكاكين الواسعة والوكالات العامرة بالبضائعِ المستوردة، وبدون الورشِ والمصانع الخاصة، وبدون الصناعيين والتجار والمسارح والسينما، ومن هنا فنفخُ الغربِ الاستعماري وقتذاك لليبراليةِ كان يجري في رمادٍ بارد.

كان المطلوب في العالم الشرقي وغير الغربي عامة، أدوات فكرية سياسية تعبئُ الجمهورَ الواسع، وتدفعهُ للنضال، وتكسير سيطرة الغرب، وتجرُ الملايينَ للصناعة، وتنشرُ الخطوطَ العريضة للعلوم، وتحطمُ نومَ الأرياف فلم يكن أفضلَ من الإيديولوجية الماركسية، فالعمالُ موجودون وإن لم يكونوا عمال صناعة، والفقراء يملأون الآفاق الريفية خاصة وحارات المدن.

 إندفعتْ هذه الشعاراتُ تكتسحُ القاراتَ الفقيرةَ، أعطتها مفاتيح سهلةً للتصدي للغرب، منعتْ أفكارَها الليبراليةَ والدينيةَ من التوغلِ في الشعوب، أدعتْ تجاوزَ الغرب وحضارته العريقة، رغم إنها إحدى نتاجاتهِ، وفي كلِ مرحلةٍ كانت الأفكارُ الغربيةُ المُجدِّدة عموماً هي أدواتُ إشعال المصانع الشرقية الخربة، لكن الماركسيةَ المستوردة تمت شرقنتها، وغدتْ إستبداديةً غيرَ ديمقراطية، ومسطحةً، فعاملتْ الأديانَ بطريقةٍ فظة، وتوافقَ نشر أفكارها مع منعِ التعددياتِ والقراءاتِ المختلفةِ وبفرضِ الملكية العامة البيروقراطية وصعود القيادات المُبَّسطةِ للأفكار، وغير العميقة، والمتقلقلة فلسفياً.

هذا الواقعُ الشرقي وغير الغربي عموماً تغير في بضعةِ عقود، نشأتْ كتلٌ سياسيةٌ ضخمةٌ متحررة؛ عدةُ ملياراتٍ من البشر إنتزعتْ أثمنَّ ما لدى الغرب من مستعمرات، كان نضالاً أسطوريا وضعَ تاريخاً جديداً للبشريةً.

المدنُ في الشرقِ إتسعتْ وتضخمتْ بالسكان، إنتشرتْ المدارسُ والمتاجر والمصانع، الفئات الوسطى شبه المعدومة إتسعتْ بشكلٍ هائل، لم تعد الدول ذات الملكيات العامة الشاملة مقبولة، قدراتها على تطوير قوى الإنتاج تحجمت، لم تستطع تطوير المصالح الخاصة في الإنتاج، عجزتْ عن خلقِ المبادراتِ الذاتية، بدأتْ الإشتراكيةُ الحكوميةُ التي حولتْ نفسَها لإلهٍ قادرٍ على كلِ شيء تتأزم، والرأمسالية القومية المستبدة هي الأخرى لم تغدُ ناجحة كلياً، والفئاتُ الوسطى الظاهرة في كلِ مكان من العالم الشرقي توجهتْ نحو تعزيزِ مصالحها والاهتمام بالحريات الخاصة، ونحتْ لتصعيدِ تقاليدها الخاصة وتاريخها الماضي، إنبعثتْ عملياتُ واسعةٌ لتجديد الإرث بشكلٍ لم يسبق له مثيل.

إن الأجيالَ المبكرةَ الأولى التي ذهبتْ للغرب من أجل الدراسة والتي صار منها الوزراء والمسئولون في عهود الإستعمار وأوائل الإستقلال، توقفتْ عن ذلك الرحيل الواسع، فنشأتْ جامعاتٌ وطنيةٌ في كل مكان، وذلك التبتل للغربِ والصلاة في محرابهِ بشكلٍ رومانسي توقف، أصبحتْ الرحلاتُ تتصاعد للواقع المحلي، أُضيتْ الشموع للرموز الوطنية والدينية.

كان عالماً مختلفاً عن ذلك العالم الذي تشكل في بداية القرن العشرين، الأمم الشرقية تكونت بشكل جديد، ذلك الفقر السحيق وأمية الملايين تغيرت، فلم يعدْ التسطيحُ مقبولاً، ولم يعدْ الإستيرادُ مُهيمناً كما في السنواتِ البكرِ للعقولِ الخاليةِ، التي كانت فيها الأديانُ الشرقيةُ مغيبةً أو أشكالاً مسطحةً من العبادات، دخلتْ الملايينُ الجديدةُ وهي تحلقُ بتراثِها الخاص، والقوى المالكةُ الخاصةُ الواسعة الإنتشار رأت في الماركسية عدواً لدوداً بدلاً من الصديق الحميم السابق.

بدأ عهدٌ دينيٌّ واسعٌ مختلف.

غدت الأممُ الشرقيةُ والعالمُ غيرُ الغربي المتطورِ عموماً أمام واقع جديد، واقع تطورتْ فيه الرأسمالياتُ الخاصةُ التي راحتْ تزيحُ الرأسمالياتِ الحكوميةَ كليةَ السيطرة، والفئاتُ الوسطى إنتجتْ أجيالاً شابةً في ثقافةٍ دينيةٍ موروثة، والاشتراكيةُ لم تعدْ نموذجاً، إن الاشتراكيةَ ذات النمط الشرقي البيروقراطي غدتْ متخلفةً، والماركسيةُ تنمطتْ وتجمدت عبر قراءاتِها المدرسية وبمستوياتِ العمال اليدويين، وعملياتُ بعثِ ماضي الشعوب والأمم القديمة ذات الحضارات المزدهرة السابقة توسعتْ كثيراً، وتفككَ النموذجُ الإشتراكي إلى قومياتهِ الأولى، وإن دولاً مجهولة بلا خرائط ظهرتْ في أفريقيا وقارات أخرى، وحدث إزدهارٌ لم يسبقْ له مثيل للصناعاتِ والتجارة والتقنيات، اليابان قادتْ إلى تشكيلِ رأسمالياتٍ مزدهرةٍ في شرق وجنوب آسيا، والنموذجُ الرأسمالي المتطورُ إندمجَ مع رأسمالياتٍ حكومية خففتْ من مركزيتِها ومن هيمنتِها، فتضخمتْ التجاربُ الرأسماليةُ الحرةُ بشكلٍ واسع في الشرق الأقصى، وراحتْ تقارب الرأسمالية الغربية العريقة بسرعة غير معروفة في التاريخ، فبدأت التجاربُ الإقتصاديةُ الشرقية تتخطى المعدلات العالمية في النمو.

نموذجا الصين والهند صعدا بشكلٍ خرافي وأحاطا نفسيهما بدوائر من الجزرِ القاريةِ المتسارعةِ النمو كماليزيا وكوريا الجنوبية وتايوان وسنغافورة وغيرها.

العالمُ الإسلامي الشرق أوسطي الأفريقي ظلَّ في ركودهِ التاريخي، من خلالِ حكوماتٍ مركزيةٍ مهيمنة على الاقتصاد والثقافة والأنفاس، وفي الدول الغنية منها توجيهٌ للثروات نحو الخارج، والفقيرة نحو الفساد والتحنط السياسي.

إختلفتْ لوحاتُ الأديانِ عن العقودِ السابقة عبر هذا الحراك الاجتماعي الهائل، فإذا كانت الماركسية تراجعت بشكل كبير وضعفت مواقع الطبقات العاملة، فإن المذاهبَ المحافظةَ صعدتْ بقوة بسبب صعود هذه الفئات الوسطى الريفية والتي جاءت من القرى أو تنامت ثرواتها في المدن، وقادها تعليمها الديني إلى تطويعِ المذاهب للسياسة، خاصة وأن الطبقات المسيطرة كانت تستند إلى الأفكار الغربية أو الشرقية (الإشتراكية)، فمضت نحو حراك الشعوب الديني المتصاعد، تستثمره في نمو سيطرتها وملئها الأجهزة الحكومية والمؤسسات السياسية المختلفة.

تحرك العالم عن صراع الماركسية والليبرالية الغربية وهو نموذج الحرب الباردة، إلى صراع الأديان المحافظة والليبرالية والماركسية، وهو ثالوث هائل متداخل معقد ومركب.

في الغرب المتطور(أوربا الغربية وأمريكا الشمالية) لم يعد للأديان من تأثير كبير، فإن النخبَ السياسية والفكرية تعتمد الأفكار العلمانية المختلفة، وحصلت الأفكارُ اليسارية على بعض التقدم بسببِ زوال الحرب الباردة، وظلت الأفكارُ الديمقراطية الليبرالية المعبرة عن الطبقات الحاكمة مهيمنة كالقرون السابقة.

في بقية العالم الشرقي وغير الغربي كان حراكُ الثالوث الفكري هو المنتشر، وكان إنبعاث الأديان الأكبر يعبرُ عن ظاهراتٍ معقدة، تبدو شديدة التناقض مع طبيعة العصر العلمية المتصاعدة، لكنها غير غريبة في الواقع فملايين من الجماهير الريفية زحفت إلى المدن، وتوسعت هذه المدن وازداد عدد سكانها بشكل هائل، وكانت إزاحة النفوذ الغربي يعني لهذه الجماهير العودة لتقاليدها الدينية، كما أن تآكل التجارب الاشتراكية فاقم هذه الظاهرات، وغدت الأديان والأفكار القومية هي أدوات الحراك الاجتماعي لجماهير العالم الشرقي، وأحياناً تندمج هذه الأفكار والأديان وأحياناً تنفصل، ففي حالات ضعف الأفكار القومية فإن المذاهب الدينية هي التي تلعب الدور الأساسي والعكس صحيح.

غدا أصحاب المؤسسات الاقتصادية الخاصة والعامة هم الذين يهيمنون على المسرح السياسي، وهؤلاء أقرب للأفكار الدينية والقومية.

هيمنة الأديان المحافظة يعني هيمنة للإقطاعين الديني والسياسي، وبروز الليبرالية بأشكالها المتعددة يعني تصاعد نفوذ الفئات الوسطى التجارية والصناعية، والتداخلات بين الدين والليبرالية يعني تداخل الإقطاع والبرجوازية بأشكالٍ ونسبٍ معبرةٍ عن أحجامِها المتباينة في الاقتصادِ والحكم وعن تعاونهما أو صراعهما، والأنتصار الساحق للعلمانية والليبرالية يعني هيمنة نفوذ البرجوازية السياسي وإنتشار العلاقات الرأسمالية بشكل كبير في الحياة الاجتماعية، ونفوذ الماركسية كجنوب الهند والصين أو جنوب أفريقيا يعني تصاعد دور الطبقات الشعبية والأفكار الاشتراكية. لكن الألحادَ الواسع نجده فقط في الغرب بينما ينتشر الإيمانُ المتعددُ الأشكال بالأديان السماوية والأرواحية وعبادات الأسلاف وبالرموز المقدسة والكائنات المجسدة في العالم الشرقي. ويتقارب الصينيون والهندوس والمسلمون في أعدادهم المليارية ويختلفون في توجهاتِهم الدينية كثيراً.

هذه الخطوطُ العريضةُ العامة جداً لها تلويناتٌ في القارات والبلدان بأشكالٍ ملموسةٍ متلونة، فلكلِ بلد خريطته الخاصة وتجربته، وثمة مجموعة بلدان تمثل أمة لها خطوطٌ متقاربة، وثمة قارة تشترك في خصائص دينية وفكرية وثمة بلدان تنفرد بتجاربها المميزة تماماً عن البلدان الأخرى.

فالأديان ليست حراكاً إجتماعياً محضاً بل هي قرارات فردية روحية وأنشطة سياسية معينة وعمليات ترويج ودعاية، وهي هيمنات حكومية شديدة أو مرتخية، أو هي تجري في حريات كبيرة، وهي تعبيرٌ عن آلاف السنين من التفكير والحياة الاجتماعية.

رؤيتان للدين

خلال القرون الأخيرة تشكلتْ رؤيتان للأديان في العالم؛ رؤيةٌ جامدةٌ غيرُ منفتحة، نصوصية، وقراءة متفهمة لتغييرات الأوضاع، مجددة.

في بلدان مثل الهند والصين وجنوب شرق آسيا لم تُطلْ الشعوبُ الهائلة الأعداد لإنتاجِ نسخةٍ تجديديةٍ للأديان الكثيرة فيها، الغارقة في تفاصيلِ الوجودِ والأرض بأشكالٍ إحيائية تجسيدية خرافية، أسطورية، لأن هذه الأديانَ دأبتْ على التسامح والغفران للبشر كذلك، وعدم خلقِ أشكالٍ سلطويةٍ قامعةٍ متدخلةٍ في كلِ تفاصيلِ حياة الناس.

إنها تنشرُ أفكارَها وتصوراتها وهيمنتَها لكن بأرواحٍ شفافة، وقدمتْ رجلَ الدينِ البسيطِ الرحال الفقير، مقدمِ الحكمةِ، اللائذِ في الغابات، المتوجه للتصوف والنيرفانا أي الصعود للسماء والذوبان في المطلق الإلهي وترك المادة الخسيسة والتعالي عن صغائرها.

رغم الطابع المثالي الأرواحي لهذه التصورات الدينية وهو أساسٌ مشتركٌ لكلِ الأديان، وعبر تغلغل تصوراتها في ثقافة العوام كذلك، إلا أنها تركتْ مساحاتٍ كبيرةً للسياسةِ والإختلاف وحين جاءت الأفكارُ الحديثةُ الغربية لم تجد معاناة شديدة وهي تعطي الصينيين والهنود وغيرهم من شعوبِ الشرق أدوات التغيير عبر الأفكار الإشتراكية والرأسمالية الديمقراطية.

 كما أن توحد هذه القارات وضخامة مشكلاتها والدور الكبير للفلاحين المسالمين الإحيائيين للزراعةِ والثقافةِ والوجودِ عامة وهو ما يتجسدُ في تقديرِ الأمِ المرأةِ المنتجة الولادة، بحيث إن هوات كبيرة لم تتشكلْ بين الأفكارِ القديمةِ والأفكارِ الجديدة فقفزوا في عقودٍ قليلة لمستويات الغرب المتطور.

فيما كانت الأديانُ السماوية هي نتاجُ عوالمِ البداوة والدول الشمولية القديمة المهيمنة بشكل كلي على البشر، وقد أعطتْ أهلَ المنطقة مفاتيح التغيير والنهضة، ليتجاوزوا عوالمهم هذه، لكن الأنظمة التي سادتْ أنتجت ثقافات أخرى تقومُ على التفتيت والتعصب والعنف.

حين غادرت المسيحيةُ البلادَ العربيةَ أخذتْ قروناً لكي تحولَ البذورَ الإنسانية فيها لديانةٍ أخرى هي البروتستانتية المعارضة للشمولية ولهيمنةِ الكنيسةِ متلاقيةً في بعض روافدها مع الحريات الاقتصادية والفكرية والسياسية والتي أنتجتْ العالمَ الحديثَ الديمقراطي المتنوع الحضارات والأفكار.

لكن الشرق العربي الإسلامي ثم اليهودي الغازي فيه، إستمرا على صيغةِ الجمود والتفتيت والصراعات الدامية، وتلك القرون الطويلة من عصورِ النهضة والثورة الصناعية والديمقراطية لم تمسْ سوى السطوح الخارجية من وجودهما.

ما زال (الباباوات) في غرفِهم المغلقةِ يختصرون مشكلات الملايين في كلماتٍ موجزةٍ لا تقبلُ الردَ والرفض، وما تزال الأنظمةُ المتوجسةُ من التغيير التي تهيمن عليها الأوامرُ العسكرية توجه القارات وتدب الفوضى التي تسمح للقتلةِ السياسيين بتوجيه الرسائل المغلومة للناس المسالمين، ويتم رفض التعدديات المنزلية والاجتماعية والسياسية وإعلاء الحروب والعداوات.

عالمُ التسامحِ وتقبلُ التعدديات والسلام والعقلانية السياسية عالمٌ مترابط، مثلما عالمُ الحروبِ الدينية والكراهية والشموليات وخنق الأسواق والأفكار الجديدة مترابطٌ هو الآخر.

سيادةُ نسخٍ صفراء من الأديان السابقة، وتشغيلُ مكائن الصحارى الحارقةِ الكارهة لكلِ جديد وآخر، والمتاجرات الواسعة بميراث الشعوب وثرواتهم، أنتجَ قتلةً لم يعرف التاريخُ مثالاً لهم إلا في قادة الأفران الغازية.

رؤيتان للدين إحداهما ديمقراطية والأخرى عنفية شمولية، الأولى إنسانية والأخرى غير إنسانية، وليس ثمة رؤية أخرى بينهما.

فلا مجال للتوسط والحل الثالث، والأولى تجددُ الحضارات والأفكارَ والأخرى تسدُ ينابيعَ التغيير والتعاون والإنسانية وتخلقُ هذا الإرهابَ الدموي الذي يستبيحُ دماءَ الناسِ في كنائسهم ومساجدهم وبيوتهم وطائراتهم وأسرتهم وينشرُ الموتَ في كل مكان.

الدين والمطلق

تـُثار في حياة الأمم الإسلامية مسائل (المطلق) بقوة شديدة في تحولاتها التاريخية الراهنة، وهي تحاولُ أن تجمعَ بين تقاليدها العريقة وأسباب الحداثة الضرورية، أي أن تكون لها جذور كي لا تذوب في الآخرين، وأن تكون باقية بتطورٍ مستمرٍ حتى لا تزول بتخلفها كذلك.

جانبان معقدان يشدانها في اتجاهين متناقضين، وفي خضم ذلك تـُطرح مسائل شديدة الصعوبة والحرارة معاً.

ويتمثلان اجتماعياً بقوى تصر على الماضي وحيثياته ورفض التحول وركوب قطار التغيير، وأخرى تسحب الناس والأشياء نحو التغيير الضروري والسريع والمخيف.

وفي هذا المجرد هناك الكثير من تجسيداته، فماذا نقول في ما هو موجودٌ في الكتبِ الدينية المقدسة من حديثٍ وتجسيدات للأرواح والشياطين وقوى الغيب المتحكمة في الوجود العياني، أي في حياة الناس الظاهرة والخفية؟

ماذا نقول في بعض أحكام دينية أخذت تتناقض بشكلٍ صريح مع تطورات الحياة الحديثة وما يُنتج من تقدم أصبح كاسحاً مطيحاً بالكثير من ثوابت الأمم؟

الرأي السهل لقوى التحديث السريعة والحادة هو أن نطيحَ بمجردات وغيبيات الأديان، فهذه كلها لا تحتاج سوى أن نقول إنها خرافاتٌ وتخلف وعادات اجتماعية بالية.

إزالة البيت القديم بجرافة وبناء بيت جديد، والأحكام والأفكار التي ظهرت في عصور قديمة وأخذت تناقض المساواة والعدالة الاجتماعية وعلوم الفيزياء والكيمياء تـُلقى من الحياة وتـُباد من عالم الثقافة!

ماذا نفعل في أفكار موجودة في الكتب المقدسة أخذت تـُعتبر أساطير مناقضة لأبجديات العلوم؟ كيف نعلمُ برموز دينية كآدم وحواء ونظريات التطور والأحياء ذات الأدلة الوثيقة والحيثيات الكثيرة تنكرها أو تقدمُ قصصاً مناقضة كلياً عنها؟!

بل ماذا نقولُ في سير الأنبياء والكتب المنزلة بما فيها من عجائبية ونسبية؟!

قوى التحديث الحادة والسريعة تقدم لنا ذلك الحل السهل، كما تقدم لنا قوى المحافظة الحلَ السهلَ الآخر وهو الإيمان بكل ما جاء به القدماء والسير على منوالهم وحذو أعمالهم!

المسألة صعبة وخطرة ولا شك، وحلها ليس آنياً، وردم الهوة بين الماضي والحاضر والمستقبل ليس كلامياً، بل هو فعل صناعي، لا يتأتى بسهولة لمن ليس في يده أدواتها ولا وسائل إنتاجها، هو فعلُ أجيالٍ كثيرة ومواقف مترابطة بين أناس كثيرين يعيشون في عصور مختلفة ومناطق متباعدة وتحكمهم مناهج متعددة.

إن ردمَ الهوة بين الثقافة الدينية والثقافة العصرية فعلٌ نضالي جماعي قبل أن يكون إنشاءات فكرية مجردة.

لكن لابد من هذه الإنشاءات الفكرية التي تقود لذلك الفعل النضالي وتشاركهُ البناء.

الثقافة التقدمية السريعة الحادة ترفضُ الحفرَ المطولَ في أعمدة الأديان، مثل الإله والروح والنبي.

إن هذه المجردات والملموسات والعلاقات بينها، ضرورية عبر آلاف السنين. لم يقل بوذا إنه إله لكن الناسَ التي جاءتْ بعدهُ صيرتهُ إلهاً وهو إنسانٌ بسيط وعرّف نفسه بذلك.

ولو أن العكس قد حدث وقال أنبياء المشرق عن أنفسهم إنهم حكماء لصيروهم فيما بعد أنبياء وآلهة!

وقد ادعى الملوكُ القدماء بأنهم آلهة من دون أن يحتاجوا إلى ذلك وقد تملكوا الكثير من القوة والسلطان والخيرات.

الألوهية والارتباط بها كانتا ضروريتين لآلاف السنين، فلماذا؟

في البداية كانت المادة الأولية الطينية التي تشكلتْ بها هذه العمارات الشامخة في التاريخ، وهي (الروح)!

ومادة الروح اللغوية تستند إلى راح ويروح وما هو مطلق في الحركة، وما هو خفي فيها كذلك!

الروحُ سادتْ في أفكارِ ما قبل الأديان آلافِ السنين الأخرى أيضاً، فانظرْ لبساطة الإنسان، وقد عبدَ المصريون القدماء (الجعران+الخنفساء) هذا الكائنَ المتواضعَ عقوداً، على ضخامة ما بنوه من عمارة وما شيدوه من حضارة!

فاحترمْ حتى جهالات الإنسان لأن فيها تاريخاً من العلم والمقاومة والبحث!

بينت الروحُ ضعف الإنسان ونسبيته، جعلته يرى كم هو زائلٌ وهشٌ في الوجود، فطالعَ دمَهُ وأمراضَه والماضين الكثيرين الذين رحلوا من دون أن يتركوا أثراً في الوجود على كثرة أعدادهم وضخامة أخبارهم، ورأى كم تضربُ كينونتـَهُ الصغيرة هذه الدولُ العملاقة وتسحقهُ كنملة وكم تفقرهُ وتستغله ولا تعطيه سوى كسرة من خبز وهو العابر المحتقر! فأصيبَ بالرعب من الكون، ومن وجودهِ البسيط المتقزم، فتمسك بالروح التي لا تروح، تمسك بكيانات تجعلهُ مطلقاً سعيداً باقياً، وليس عابراً محتقراً.

أين يذهب أطفاله الذين ماتوا من دون أن يسعدوا؟ أين فرحه في هذا الكون وهو شقي بائسٌ في هذه الأنظمة؟ هشاشة الوجود الإنساني في أنظمة البؤس هذه أعطت الثوابت البشرية في الأحلام الدينية.

 الدين بين المطلق والنسبي

في مجراه التاريخي الطويل يتوحدُ الدينُ بين المطلق والنسبي، يتضافرُ ما هو أبدي فيه بالمتحول والعابر.

المطلقُ أهم وأكبر وباقٍ دائماً، فالإنسانُ الضعيفُ الهامشي في الكون، ذو الجذور الحيوانية والذي يتكونُ جسمهُ من موادِ الكون المتغيرة، يتوحدُ بالأبدي، يتمسكُ بخشبِ السفينة المبحرة في رحلةِ الوجود الصعبة، يتوحدُ بها ويكونُ جزءً من خلودِها، ويكونُ في عالم المطلق، عالم الأبدية، حتى لا يزول.

وتغدو هذه الصعوبة المخيفة لدى الكادحين بدرجة أساسية، هم صناعُ العالم المادي الاجتماعي، ومع هذا هم المغيَّبون، المنفيون فيه، والذين لا يتمتعون في داخله الجهنمي.

تظهرُ العوالمُ الدينية الكبرى حين يتغرب الكادحون. هم صناعُ العالم المادي، خالقو الطين والمدن وأبراج بابل، وفي البدءِ تظهرُ أديانُ الوثنية، حين يقوم رؤوساء القبائل بالتحكم في ثمارها، ويسيطرون على منتجاتها، ويقيمون الممالك والأمبراطوريات.

الوثن، والروح المقدسة، والإله القبلي، كلها قوى تجري داخل القبيلة، لتوحدها وتعالج الأفراد من الأمراض  وتتبصر مستقبلها. هي ضمانتها في السلامة والصحة والبقاء والأنتصار على الأعداء، وحماية أفرادها في عالم الموت.

كلُ هذه الكائنات الطيفية تحركُ القبائلَ والشعوب لتتقدم ولتتاجر ولتبني مجد الأسياد، لصنع عوالم الرفاه لهم، وتعجز عن تشكيل الرفاه للعاملين، بل تقودهم للحروب، تجعلُ وجودَهم الأرضي أسىً وضياعاً وعذاباً، ولهم بعض الملذات الصغيرة العابرة، وإعادة إنتاجِ العذاب والإستغلال في ذريتهم.

ينفصل عالم الأرواح والألوهة الروحية والوثنية الفكرية لتغدو رموز القبائل والشعوب، ومستقر تاريخها وثقافتها، وتغدو هي السلطات السياسية والفكرية المسيطرة على العاملين الذين يتخصصون في المهن اليدوية.

ولكلِ أمة تاريخها في هذا السياق، والتفاصيلُ مهمة في سياقِ بعض القرون، لكنها تفقد أهميتها مع التوحدِ العام للشعوب، عالمُ السماءِ الغيبي يتقارب، يتجوهرُ في المطلقات الكبرى، يغدو آلهة كبرى متحكمة في المصير البشري، أو أرواحاً أو مجردات، وعالم الأرض والبشر يتقارب، لكنه لا يتحد ويذوب في بعضه، فالمصالحُ على الأرض تتضاربُ باستمرار مولدة حركات في الغيب وتعدديات في المذاهب والتفسيرات لها ونزاعات لا تتوقف.

الإنسان الباقي رافع أعمدة الأشياء فوق كاهله المتعب، تفرُ منه كائنات الأرض: الذهب والفضة والآلهة، وتكون بيد الأقوياء، فيصير كل شيء غريباً عنه، يستعبده تارة، ويقدم له الذبائح والصلوات والطقوس تارة، ويدافع عنه تارة، ويكون علمه في عالم الصراع من أجله، وحاميه في الملمات والأمراض، يجد فيه الأنتماء الذي فقده من أشياء المجتمع؛ النقود والقيود والسلطات.

هو كونُ الأنتماءِ الذي صنعهُ لنفسه، كهفهُ النيرُ الذي يلوذ به في  الملمات والكوارث، هو روابطهُ الاجتماعية التي يشعرُ فيها بأخوةِ البشر من حوله، وفي رعبِ المدن الاستعمارية والاغترابية والشيئية التي تسحقهُ وتحيله إلى برغي في آلاتها، وفقاعة في سمائها، وحشيشة في دخانها، يزدادُ اقترابهُ من الرموز، وكلما تبخرَّ الوطنُ الفعلي تعملقَّ الوطنُ الوهمي.

على ضخامةِ الرموز التي تقذفها في وجهه؛ أبطالُ الصورِ السينمائية وزعماءُ العالم الكبار المتنفذون الذين بيدهم الحياة والموت، المتلاعبون بمصيرهِ ورزقه، يجدُ في رموزَ الأديان كهفـَهُ الباقي على الزمن، في عالمِ التغيرِ المتبخر: الحكومات التي تقومُ وتسقط في فضائح مدوية، ساحبة ثمار العمل إلى المجهول، يجد حكومته الحبيبية التي لا تتبدل، يجدُ رموزَهُ تعطيه العزاء. الأرضُ لا تصنع رموزاً منتجة للخير أبداً وعلى نحو دائم، فيبقى الماضي والأساطير والذكريات العظيمة للرموز في قتالهم من أجل الخير المستمر، وتتحول حيناً لسيول من الدماء، وتتحول حيناً آخر لبنوك إستنزافية أخرى، وأحياناً لحكمة نضالية.

لا يمكن لأي شعب أن يكون بلا دين ذي قوى غيبية مهيمنة، لكون الإنسان هو نسبي، وكلما كبرت قوتهُ الأرضية وصار إنساناً، صغرت أحجام غيبياته.

كلما فرح وأزدهرت حياته بالغني الفني والاقتصادي قل اهتمامه بالأرواح والشياطين، والعكس صحيح، تتوحد عوالم الأديان مع توحد عالم الأرض الواسع، تزول الاختلافات الصغيرة والقصص الغائصة في تقاليد محلية تفقد خصوصياتها يوماً بعد يوم، وتتفجر الاختلافات مع الصراعات بين الأمم، فتزداد أحياناً أخرى تمسكاً بالخصوصية والتفرد، وتعلي ميراثها علواً رهيباً.

رحلة الإنسان لا تتوقف، السحرية تظل ملاصقة له، العلوم تظل جانبية في مسيرته، إنسان الأغلبية البشرية، إنسان العالم الثالث خاصة، والعوالم الثالثة في المجتمعات المتقدمة، الجنان الآخروية الدينية والشيوعية، على أسس خيالية أو على أسس (علمية)، تظلُ لصيقة به، فدائماً لديه الدائم الباقي الأخضر أبداً، السعيد المطلق، وهو منهوك بالعوز والبطالة والغربة والصراعات والنسبية، غربة الإنتاج المادي تصنع إنتماءَ الإنتاج الروحي، ذا الحلول والحلولية والأبدية، يزداد على الزمن تغييره لواقعه، تغدو مواريثه رحلات كهوف ولوحات صيد للمعاني، وهو يعلو صاعداً لاحتلال الفضاء الواسع.

الأديان السماوية والتطور

تربت أغلبية البشرية على ما أُنتج في المنطقة العربية من مثل وأفكار، وقد تطورت تلك المناطق تطوراً كبيراً وظلت المنطقة العربية في تخلفها المريع!

الحضارات الأولى، عشرات الآلاف من السنين، وتجارب هائلة وعمت الإنسانية ثورات هائلة من ما أُنتج في هذه المنطقة، وظلت المنطقة العربية في ماضيها.

اليهودية والمسيحية والإسلام، الأديان الشقيقة، التي تكملُ بعضها بعضاً، ميراث الإنتاج الروحي الطويل، هي نفسها تعيش في عداء مستحكم!

لماذا؟ لماذا؟

لماذا الأشقاء تعادوا، ونبات السماء صار خناجر وسيوفاً؟

هل كان هذا من أفكار الأديان أم أن السلطات وقوى الإستغلال فرقت بين الأخوة؟!

يقولون إن مصادر الأديان هي نبع زلازل وخير، فلماذا تكدرت؟ هل لأنها خالطت الأرض العكرة وتطورات الشعوب في دولها وصراعاتها السياسية ومناحي حياتها في التجارة والسلطان والغزو؟

اليهودية أول الأديان السماوية وأقلها حضوراً من حيث الكم، وأقواها حضوراً من حيث الكيف!؟

اليهودية بدأت رعاةً وصارت فلاحين قليلين وتجاراً كثيرين وصيارفة وأصحاب بنوك مناطقية فعالمية!

نظراً لإنحباسها الشعوبي لم تصبحْ كماً هائلاً، كانت تهتمُ بالكيف المتطور، استعلتْ على الشعوب الوثنية البدائية لغايةٍ كبيرة هي أن تكون فوق الشعوب.

الكثيرُ من طقوسِها الدينيةِ هي بغرضِ أن تكونَ أقلية متطورة وسط حشود متخلفة لكي تستثمرَها ولكي تتطور هي فوقها!

علمتها تجاربُ الألمِ والمعاناةِ والأسر أن تركز على عناصر التفوق وهي التجارة المتطورة والثقافة.

ورغم مئات السنين من الاضطهاد لم تتخل عن بنائها الاجتماعي القائم على الأسرة الصغيرة والعمل بالمال ودراسة كتبها وتنقيحها باستمرار، والإضافة إليها.

ومن هنا توسعتْ خارج المنطقة العربية البدوية ذات الأسرة الكبيرة تبحث عن شرايين التجارة العالمية واتجاهاتها، فتلاقت مع المسيحية بشكل كبير، رغم قيام المسيحية باضطهادها.

والمسيحية التي نشأت متجاورة مع اليهودية تركزت على الفلاحين، أصحاب الأرض، ذوي التقاليد القديمة، الذين كانت أقدامهم في الزراعة أكثر من الاقتصاد المالي والفائدة، وتقاربوا مع اليهودية في الأسرة الصغيرة، وابتعدوا عن عالم القبيلة، وكان الثالوث الإلهي هو جزء من عالم الفلاحين التعددي، الذين كانوا طوال قرون الشرق مختلفين عن البدو ذوي الإله الواحد الصارم.

ثم كان الإسلام هو الملائم لجمهور الشرق البدوي الواسع، الممتد من الصين حتى أفريقيا، حيث الصحارى الكبرى، وحيث العائلة الواسعة، والرجل المسيطر متعدد الزوجات، والمعارض للفائدة المالية التي تمزق العائلة الواحدة.

كلُ دينٍ مثلَّ مجموعات بشرية معينة، وتقاليد وظروف، الاقتصاد الرعوي الواسع في هذه المنطقة الصحراوية الهائلة أهلَّ الإسلام ليكون دين المنطقة التي وعى تقاليد أهلها ومثل حياتهم وطور عناصرها التجارية والثقافية العقلانية لكن دون أن تتمكن المنطقة من خلق القفزة الحضارية الحديثة، والمسيحية تركزت في المناطق الزراعية والمدنية ثم رحلت بأكبر قواها البشرية والثقافية إلى أوربا، واليهودية تنامت في عالم المدن التجارية حتى وجدت من الغرب السوق التي ازدهرت فيها كل خصالها المالية.

وبعد الغزوات والحروب المشتركة بين هذه الأديان الشقيقة، وهي فترة من العداء والكراهية والخسائر المشتركة، والتلاقح الثقافي كذلك، حلت فترة مختلفة، تكشف أسباب الأطماع والإستغلال وبدأ التفكير في السلام والتآخي!

الحضارة المسيحية – اليهودية غدت هي الحضارة الرأسمالية المسيطرة، والتي صار نموذجها هو المحتذى في كل الدنيا، العناصر المتضافرة من الملكية الفردية والإنتاج الحديث والأسرة والثقافة الإنسانية والديمقراطية هي تتويج تاريخ المشرق، وقد تشكل خارجه.

ولكن المكان الذي نتجت فيه وتطورت منه جاءتْ لتسيطر عليه ودخلت في حروب ضارية معه!

وهو بفقره وتخلفه عاجز عن اللحاق بها.

وفيما يتكاثر المسلمون وتضيق بهم المدن يهاجر مسيحيون ويضيق بهم التعصب الديني، فيما ينحصر اليهودية في دولة مسلحة متوسعة!

كل الزمن السابق، تاريخ قرون العداء اللامجدي، يتجسد بأشكال سياسية مضرة، ولهذا فإن التعايش السلمي وإغلاق صفحات الحروب والعداوة صار ضرورة، خاصة للأغلبية الشعبية من مسلمين ومسيحيين ويهود التي هي ضحايا تجار المعارك والإستغلال والعداوات الدينية والقومية!

حقبتانِ من الدين

  إختلفتْ حقبةُ الإسلامِ المؤسس التوحيدي عن حقبةِ الإسلام المذهبي.

ورغم الوميضِ السريع الباهر للحقبةِ الأولى التي لم تتعدَّ خمسين سنة إلا أنها بقيتْ في ذاكرات الأجيال قروناً.

الإسلام التوحيدي والإسلام المذهبي إختلفا زمناً وظاهرات سياسيةً وإجتماعية وثقافية، فبدا كأن الثاني يناقضُ الأول.

ثمة سماتٌ مختلفة، فكان الأول جمهورياً وكان الثاني مَلكياً أسروياً، وكان الأول شعبياً ديمقراطياً وكان الثاني إستبدادياً ارستقراطياً.

سنجدُ سمات العصر الأول في التوحيد بين القوى الاجتماعية الظاهرة الغالبة، التي غدتْ مُشترِكةً في خيرات الاقتصاد العامة، سواءً كانت بسيطة في أرض الجزيرة العربية الفقيرة أم في أراضي الفتوح حيث المُلكيات الزراعية الصوافي ملكاً للعموم.

فيما تمّ في الزمن المذهبي التفكيكي إلتهام هذه المُلكيات العامة من قبل الأسر الحاكمة، وكان الخراجُ بسيطاً رمزياً في العهد الأول ثم صار هو هدف الخزائن التي تمتلئُ وتفرغُ بسرعة، وكانت ضريبة الرؤوس قليلة على غير المسلمين ثم غدت هي هدف من أهداف السياسة الاقتصادية حتى لو تحول أهالي البلدان المفتوحة للإسلام.

ألم تسمع المنادي يقولُ مرتعباً للخليفة: إلحقْ يا أميرَ المؤمنين دخلَ الناسُ الإسلامَ فسقطتْ ضريبةُ الرؤوس عن أهل الذمة!؟

ترابطُ الناسِ في الحقبةِ الأولى وتآزرُ الأغنياءِ مع الفقراءِ أسسَّ التوحيدَ في المركز العربي الجزيري وهكذا غدتْ السياسةُ الداخلية منعكسةً على أهالي الأمصار، الذين غدوا متساويين مع الفاتحين، ويشاركونهم في نشاطهم الاجتماعي والعسكري.

ولهذا والناسُ يتأسلمون في الأمصار وتتعربُ البلدانُ الغريبة عن العرب لم يعرفوا المذهبيات، ولم يحصلوا على ألقاب أخرى غير لفظ المسلم والمسلمة.

مع تغييرِ الأساسِ الاقتصادي الاجتماعي للسلطاتِ وإنتقالها من الجمهور لأسرِ الأشراف تغلغل التفككُ في صفوفهم، وتفجرتْ ثوراتٌ كثيرة، وقامت فرقٌ وتنامى زمنٌ جديدٌ مختلف، بدا متضاداً عن التأسيس والتطور اللاحق.

في زمنيةِ التوحيدِ كانت الديانة بسيطة، عميقة، لكنها بعد ذلك تفاقمت تفاصيلها وكثرت هيمنتها على الناس وأتسعت شبكاتُها، وتغلغلتْ في كل تفاصيل حياتهم، ولكنهم لم يكونوا يشعرون بالحرية التي أعطتها لهم ديانةُ البساطة والتي لم تحطها أدواتُ العسف والخراج والتفتيش في الصدور وملاحقات فلتات اللسان.

في زمن التوحيد بيتُ المالِ مفتوحٌ وفي الزمن الآخر بيتُ المال مغلق.

نشأت الفِرقُ والشعوب والأمم الإسلامية على الخراج المعدوم في الحقبة الثانية، كلُ طبقةٍ تعادي غيرها، وكلُ شعب ينظر للآخر بريبة، والأمم الإسلامية متعادية وتنأى عن بعضها البعض.

ثمة تداخلٌ في الفتراتِ النهضوية فمع وجودِ حرية في المركز كانت لحظاتٌ وامضةٌ من العودة للنموذج تحدث بشكل فردي ونخبوي.

الإسلامُ المعاصر حائرٌ بين الزمنين، روحُهُ الرمزية في النموذج وجسدُهُ الحقيقي في حقبةِ المذهبيات السياسية الارستقراطية التفكيكية.

زمنُ الديمقراطية الواعدة الراهنة ربما يكونُ هو زمنُ التركيب، هو يختلفُ عن الحقبتين ولعله يتمثلُ أفضلَ ما فيهما، فزمنُ التأسيسِ لم يعرفْ الوحدةَ الصراعية بين الطبقات، فكان ثمة تذويبٌ ووحدة بدون تباين، وكانت الديمقراطيةُ بلا مؤسسات راسخة، والمراكز الديمقراطية المعاصرة الجديدة حين تشكل الإختلاف ضمن الوحدة، وحماية مصالح كافة الطبقات، وحقها في الحكم والمشاركة والاختلاف، وتتحول الدولُ لأجهزةٍ لحماية الأرض والثروة العامة والحدود، حينئذٍ تستثمرُ كلَ قوى الثقافة المُنتجة في العصر المذهبي النهضوي وتعيدُ قراءتها في ضوء العصر والمصالح العامة المستقلة للأمم الإسلامية الإنسانية الراهنة.

يعتمد هذا على مدى قدرة التيارات السياسية المعاصرة على فهم التاريخ والواقع، وتجاوزها تقوقع المذاهب لديمقراطية التحول المعاصر التوحيدي الجديد الذي يقوم بمهمات التغيير الاقتصادي الواسع للمالكين والعاملين معاً. أي أن ترتفع عن مصالحها الفئوية والوطنية الضيقة لمصالح الشعوب وتتحول الرمزية المؤسسِّة لواقع سياسي إجتماعي ديمقراطي حديث يصهرُ هؤلاء الناس المفككين المتنازعين.

الحقبة الثالثة يكتبها الناسُ الآن بوعيهم ونضالهم ومدى فهمهم لجدليةِ التاريخ ومزجهم بين خصائصه وسماته الايجابية وذروة تطور الإنسانية المعاصرة وتجاوزهم لزنزانات التفكيك والانقسام.

تسييسُ الدينِ عند المسلمين الأوائل

للدين ثلاثٌ جوانب كبرى؛ هي الطابعُ الغيبي المستند على التصورات والصور الماورائية، كالصورِ عن الإلهِ واليوم الآخر والملائكة وغير ذلك، وهو المرتكزُ المعبرُ عن المطلقِ في الحياة البشرية وهو ما يكرسُ وحدتَها العامة المستندة على إرتكاز البشري المحدود بهيمنة الطبيعة الجبارة، ثم هناك جانبُ الشعائرية وهي الشعائرُ والأعمالُ والتصوراتُ العباديةُ الملموسة كالصلواتِ وكيفيتها ودور العبادة المختلفة، ثم هناك المضمونُ الاجتماعي للدين، وهو الأمرُ الحاسمُ في ظهورِ ونمو الأديان والمذاهب.

يعبرُ كلُ دينٍ مؤسسٍ عن المضمونِ الطبقي المتفجرِ في تلك العقود من السنين، التي تجعل شعباً ما يتوجهُ في طوفانٍ تحولي باتجاهٍ معين دون غيره. وهذا الطوفانُ التاريخي هو نتاجُ ظروف هذا الشعب التي تدفعهُ في طريق تاريخي دون آخر، وحسب المجموعات الاجتماعية السائدة وظروفها من أعمالٍ ومعيشةٍ وتصوراتٍ فكريةٍ تنتجُها وتحركها بالتالي، أي تغدو قوانينَ، أو شريعةً مقدسةً تسيرُ على ضوئِها، وهي قابلةٌ للتغييرِ كذلك مع تغيرِ هذه المجموعاتِ وتبدل مصالحها ومواقفها.

وكان رفضُ العربِ المسلمين لليهوديةِ والمسيحيةِ تعبيراً نموذجياً عن تلك الحالة الثورية الاجتماعية التي وجدوا أنفسهم فيها، فهم شعبٌ بدويٌّ حرٌ، (ديمقراطي) يأبى أن يذلهُ قومٌ آخرون، وحتى الصلاة والسجود فيها لم يتقبلوها ببساطة.

هذا الشعبُ في إنتاجهِ لتصوراتهِ، أو في مجيءِ تصوراتٍ تعكسُ حالته، رفضَ الديانتين الشقيقتين الجارتين، لأنهما تُعليان في ذلك الحين، في زمانِ نهوضهِ، حكمَ السادةِ الأغنياء، الذين شكلوا أمبراطوريات العبيدِ والذل، وترفضان تلك الديمقراطية الشعبية البسيطة (اللقاحية) العربية على حد تعبير الباحث العراقي هادي العلوي، فكانَ الخلافُ طبقياً، لكنه ظهرَ بشكلٍ ديني.

ومن هنا كان الغيبُ يتشكلُ في الحراكِ الاجتماعي، وكان الوحي على علاقةِ تماسٍ مع المعارك ضد أغنياء مكة، ومن أجلِ حشدِ الجمهور الشعبي العامل، ومع أغنياء الحداثة الديمقراطيين، الذين انضموا إلى جمهور الأرقاء والفقراء.

إنها ديمقراطيةٌ على مستوى القاعدة، وهي تجلبُ القبليين وأبناء البادية، وعلى مستوى تشكيلِ قيادةٍ سياسية – فقهيةٍ مرتبطة بملأ جديد، بكادرٍ سياسي إجتماعي يعملُ لدولةٍ مختلفة، وفي يدهِ السلطةِ الجنينية، والتي ستنمو وستكون فيها الخلافاتُ والصراعات، وعلى وحدتهِ ستعلو دولةُ العاملين تلك، ومع نشوبِ الصراعات والاتجاهات المتضادة، وعودة الكثيرين لخط الملأ الارستقراطي ولكن بصياغةٍ إسلاميةٍ، سوف تتبدلُ المعاني الفكريةُ والسياسية، نظراً لأن حقبةَ الديمقراطية البدوية اللقاحية العامة المؤسِّسة قد وصلتْ لتناقضاتٍ لا تستطيعُ تجاوزَها لدولةٍ شعبيةٍ ديمقراطية تُخضعُ الملأَ أو الارستقراطية لحكمِ العامةِ ثانية.

كان تاريخُ البشرية حينئذٍ هو تاريخ الإقطاع، وتماشى الإسلام مع هذا التاريخ الأجباري في مسارِ البشرية، لكنه جعلَ العامةَ هم الحكام، ثم جاءتْ الأسرُ فجعلتهُ الإقطاعَ الخاص حتى يومنا هذا.

كلُ تغييرٍ في المضمون الاجتماعي يقودُ إلى تغييراتٍ على مستوى الأفكارِ المطلقةِ، والشعائر، وهما الجزآن الآخران الكبيران من الديانة.

إن فراقَ الإسلام عن الديانتين الأخريين وقوله إنه خاتمة الأديان هو فراقُ الشعبِ العامل البدوي عن الخضوعِ لقوى الإستغلالِ الخارجية خاصة والداخلية كذلك، وبالتالي فهو يقدمُ برنامجَ الكادحين للبشر عامة وسلطتهم بدون تسلط الأغنياء، ومن خلال برنامج البساطة التعبيرية والكتل السياسية المباشرة، القبلية، لأن هذا هو المستوى الاجتماعي لصانعي التاريخ في هذا الوقت.

لو كانت الديانتان الأخيران واصلتا النضال، أو كان مضمون المسيحية النضالي المعبر عن الفقراء مستمراً، لما كان الإسلامُ بحاجةٍ لهذا الطرح، المتجِّاوز الذي يجعلُ من نفسهِ نهايةَ التاريخ، ولكنه حسمَ القهر الطبقي، وعراهُ ومنعهُ من أن يبلعه، ولكن التاريخ بلا نهاية، وما أصاب الديانتين من هيمنة الأغنياء حدثَ للإسلام نفسه. والتشكيلة أقوى من النخب المناضلة.

فعملياتُ التنحية، وإخفاء المضمون الاجتماعي الأول وتمييعه، وتنحيتهُ، وشكلنتهُ، سوف تتنامى عبر التاريخ، وستظهرُ مضامينٌ إجتماعيةٌ معبرةٌ عن قوى الارستقراطية العربية البدوية أولاً، وهي القوى التي سوف تشكلُ المذاهبَ السنية، بقوسٍ يمتدُ من فعلِ الخلافةِ الأمويةِ الشديدةِ البدويةِ إلى الخلافةِ العباسيةِ الأكثر مدنيةً لكنها لن تخرجَ إلى الحداثةِ الشاملة، لظروفٍ موضوعية كبرى.

كان البحثُ في التصوراتِ الغيبية الإلهية وتبدلُ العباداتِ أو إضفاءُ إشاراتٍ صغيرةٍ جديدة عليها، والتقنينُ الشديدُ للفقه، مع خلفيةٍ أسطوريةٍ مشدودةٍ للتراثِ البدوي المتخلفِ وليس الديمقراطي اللقاحي العربي الأصيل، عبر إستمرارِ أسرِ النساءِ والرقيقِ والعقول، يقومُ بإجهاضِ موقفِ الإسلام وتنحية ثوريته، وإدماجه في الأنظمة الإستغلالية سواءً العربية أم الفارسية.

ولعدمِ قدرةِ التوجهاتِ الشعبية على الصمود في هذا الحكم الارستقراطي الطويل، وبتفككِ وذوبانِ عناصر القدرية، المتوجهة على العكس من أسمها في إعلاء إرادة الإنسان الحر والعقلانية، ولخفوت الانفتاح الفقهي والاجتهاد المستمر لدى المالكية والحنفية، ولحصار الأئمة المناضلين وإدماج تلامذتهم وتوابعهم في أنظمة الاستغلال، غدا المذهبان الرئيسيان السني والشيعي، أداتين في يد الارستقراطيات العربية البدوية، وكذلك القوى الفارسية الجديدة المنبعثة من نمو القومية في إيران.

ثم ترافق ذلك مع القوى الأخرى المماثلة التركية والبربرية والإفغانية وغيرها على مستوى خريطة الأمم الإسلامية.

إن إنبعاثَ التفاسيرِ الديمقراطيةِ والعصرية في الإسلام كانت مسألةً صعبة، عبر وعي النخب الصغيرة من الفئات الوسطى التي نشأت من التلاقح مع الديمقراطية الغربية الصاعدة، خاصة وهي خارج تلك اللقاحية القديمة البدوية الحرة، وخارج تحريك العامة نحو مصالحها وحقوقها، وهي أمورٌ ظهرتْ في الثورات الحديثة في معظم الدول العربية والإسلامية كعناصر صغيرة، لكن الوعي الديمقراطي العالمي الجديد يحتاج لعقود طويلة كي يتداخل مع العناصر الشعبية القديمة، وكي تنتشرَ قيم التنوير، وتكتشف العامةُ المُغيَّبة خلال قرون أديانَها على ضوءٍ جديد، وتلتحمُ بقوى الديمقراطية العصرية كذلك، وتبعث الإسلام بشكلٍ ديمقراطي حداثي عظيم كما نرجو.

الدينُ والثقافةُ

بدأتْ العلاقاتُ بين الإسلامِ التوحيدي والدولةِ العربية المركزية البدوية في التفكك.

كان مضمونُ الإسلام التوحيدي الشعبي العالمي وجدَ قبولاً لدى الأمم الأخرى عبرَ سهولةِ إعتناقه وبتكوينه أممية للشعوب الشرقية المستندة على الملكية العامة المدارة شعبياً والتي تعيشُ في المناطق الصحراوية الكبرى، لكن هذه التوحيدية المرتكزةَ على دورِ المال العام  أُخترقتْ من قبل أُسر الأشرافِ الحاكمة وكبار التجار والتي قربتْ الثروةَ العامة من مصالحها وإداراتها.

كان هذا التحولُ الشمولي لا بد أن يؤدي إلى إنقلابٍ في الحياةِ الثقافية والفكرية والعلاقاتِ الاجتماعية والروابط بين الشعوب مستنداً على نواقصٍ إجتماعيةٍ وفكرية وسياسية في البناءِ السابق والذي لم يستطعْ من جعلِ القوى التجارية والشعبية ذات خلافةٍ ديمقراطية.

بدأ ذلك في عزلِ النصوص الدينية والفقهية عن المنطق والفلسفة والتاريخ الاجتماعي التي كانت تنمو عبر الترجمة والتطور الفكري العربي، فقد رُئي أن العلومَ (الدخيلة) كما يتصورونها تُفسدُ الدينَ، وأنه لا بد أن تكونَ المعرفةُ دينيةً محلية خالصة، وأن تكون مصادرَها موثّقةً في الروي، لتغدو هذه المرويات هي كلُ الثقافة العربية الخالصة اللافظة لما عداها.

كان هذا قطعاً لعلاقةِ أدبياتِ الإسلام بالتكون الإنساني، وإنها عصارةٌ لعناصر ديمقراطية نضاليةٍ تكونتْ في بيئاتٍ أُخر عبر نضال الشعوب في المنطقة والعالم، والمرتكزة على السلطةِ المحددة في تلك العناصر الفكرية الاجتماعية، والمعبرة عن مضمون شعبي توحيدي.

لهذا خرجَ اليمينُ الاستغلالي الجديد مُركزاً على الشكل، وعلى الممنوعات في النصوص الدينية، كرفض الفنون التجسيمية والرقص وهي الظاهراتُ الطقوسيةُ السابقة المرتبطة بعبادةِ الأوثان لا لكونها فنون بحدِ ذاتها والمرتبطة بالأشكال التعبيرية.

والتنحيةُ كانت سهلةً تجاه العرب القادمين من البداوة، حيث لا أرثَ فنياً تعبيرياً تجسيدياً عميقاً لديهم، وهم يعتمدون على فنونِ الكلامِ المختلفة، التي لا يمكن منعها. فيما شعوبُ البلدان المفتوحة يرتكز الكثير من تراثها على الفنون التجسيدية المختلفة. وهي ظاهراتٌ إستمرت وأغتنتْ لديهم عبر تطور الآداب والفنون المتشابكة مع تراثِها الديني والتاريخي ثم تشابكتْ مع المذاهب الإسلاميةِ التي إنشقتْ عن المركز وصعّدتْ هذه الفنونَ والأساطيرَ في تراثِها المذهبي الإسلامي، ولهذا فإن الانعزالَ عن الفنون تكرّسَ في المذهبيةِ الإسلامية النصوصية خاصةً المتطرفة منها.

وهذا ما حدثَ في الوعي الفكري بأشكالٍ تناسبُ أدواته وتحولاته، فالمنطقُ والفلسفة وعلم التاريخ وغيرها من العلوم الجديدة واصلت الحضورَ والتأثير، ولم تستطع التوجهاتُ الفِرقية الفكرية غير المرتبطة بالجمهور وكفاحه أن تواصل زرعَ الأشكالَ والأدوات الفكرية المستفادة من التراث الأغريقي بشكلٍ نقدي متطور، فقد عاشتْ على مساعدات الخلفاء والأمراء، فراحت تُنحي العناصرَ الديمقراطية المرتبطة بالكفاح الشعبي.

وهذا يتماثلُ مع رجالِ الفقهِ التاليين للمؤسسين الموجهين المذاهبَ نحو خدمةِ السلطاتِ المختلفة، فعُزلَ الفقهُ عن الناس، وتوجه للجوانب الصغيرة والعبادية والمعملاتية المعزولة عن المشكلات الاجتماعية والسياسية العميقة.

فتجمعتْ في تلك الثقافة الرسمية ونُقلت بعد ذلك إلى العصر الحديث، عناصرُ رفض الفنون والآداب الحياتية والأدوات الفلسفية الحرة.

لقد كانت تمثلُ جانباً صغيراً من الثقافة في عصر النهضتين العربيتين العباسية والحديثة، لكنها توسعت بعد ذلك بخلاف تطور العصر الحديث خاصة، بسبب أن الهياكلَ الاجتماعية والسياسية العربية التي ظهرت فيها لم تتغير، وأن التغييرات قاربت بعض الجوانب والسطوح في أغلب الأحيان. فالثوراتُ العربيةُ كانت فوقيةً مظهرية عسكرية ولم تكن تحولات عميقة في علاقات النساء بالرجال، وعلاقات الحرية بين الحكام والمحكومين، في حين تربض الأريافُ في العصور القديمة.

ولهذا فإنه حتى الفنون والآداب والفلسفة المصنوعة أو المجلوبة من الخارج تسايرُ الموروثَ من الأبنية العتيقة، وما يَخترقُ الموروثَ ويحوله يُنحى، ويُضافُ العصري الرديء على القديم الرديء، إلا ما يقاوم.

 من هنا يبدو الارتدادُ طبيعياً، والعودةُ للوراء الكارثية جزءٌ من أبنيةٍ لم تُعالجْ ديمقراطياً، وهي في تراجعِها تهدمُ علاقاتٍ داخل الشعوب العربية والإسلامية وعناصرَ من العقلانية التي ضُحي من أجلها طويلاً، بسبب أن الأممَ العربية والإسلامية يَطرح عليها التاريخُ لأول مرة بعد قرون أن تصنعَ نفسَها بنفسها، وهي غدتْ حرةً، لكنها مستعبدة لعلاقاتٍ وأبنية وسلطات وعناصر ثقافية عتيقة فيها، ولم تكتمل أدواتُها بعد لتغييرها. وأدواتُها هي الشعوب وتوحدها وتنامي إراداتها الديمقراطية وعقلانيتها.

الدينُ والاشتراكية

 الدينُ هو سياسة عليا مقدسة، فرموزهُ تعبرُ عن وجود سياسة مطلقة لشعب من الشعوب تتجسد عبر تلك الرموز، المشحونة بالدلالة والآمال وتكوين عالم سعيد غير منظور ومنظور عبر نضال إجتماعي.

ونظراً لأن السياسة دنيوية، ملوثة غالباً بالمؤامرات وسفك الدماء فقد ظهرت عبر التاريخ سياسة مقدسة، تحاول جعل البشر يجسدون أهدافهم عبر ما هو مقدس لتكون السياسة أخلاقية طاهرة لكن ذلك كان عسيراً، وكما تحدث الانشقاقات والخلافات بين السياسيين والدول  تتفجرُ الخلافات في الأديان وتظهر المذاهب والانشقاقات الفكرية المختلفة معبرة عن إختلافات سياسية وإجتماعية وروحية.

وتظهرُ رموزٌ في كل ديانة معبرة عن البعد العادل وعن العلاقات الإنسانية وغالباً ما تمثل الفترة المؤسِّسة حيث الفقر والتعاون المشترك ضده، وحيث العلاقات الطيبة بين البشر المتعاضدين ضد وضعٍ سيء، والتي تغدو رمزاً للمؤمنين فيما بعد، يحاولون العثور عليه وتطبيقه.

في عصر النهضة التحديثية الديمقراطية الغربية كانت الدول ما تزال إقطاعية دينية، وصعدت أنجلترا وهولندا في سلم التطور قبل غيرها، فأنحازتا للمذهب البروتستنتي، فكان ذلك تغييراً سياسياً، وتعبيراً عن رفضهما لهيمنة كنسية روما العالمية المتشددة، وتفكيكاً للكاثوليكية وذلك عبر رفض رموزها العبادية كالاعتراف والرهبنة المجسدة لسيطرة مباشرة لرجال الدين، وتصعيداً للعلاقات الرأسمالية المفككة للمحافظة الاجتماعية ولإعطاء البشر حريات أكبر.

لكن الحريات الرأسمالية من جهة أخرى تقوي النزاعات وتصّعد الاهتمام بالأرباح والاستغلال على حساب الأغلبية الشعبية، وتتدهور وحدةُ المؤمنين ويُضرب النموذج الخالد.

ولهذا فإن الاشتراكية التي ظهرت خاصة في فرنسا وألمانيا اللتين تعيشان في مجتمعات كاثوليكية غالبة وبروتستانتية غير مهيمنة، ترددتْ بين الإلحاد وبين الموقف الديمقراطي.

كان الدينُ يلعب دوراً سياسياً مباشرا متدخلاً، مؤثراً على تصعيد الديمقراطية في كلِ من المجتمعين، حيث ما تزال الشمولية وتدخلات الدين تعرقلان صعود القوى السياسية الجديدة من برجوازية وعمال.

كانت الحكومات الفرنسية علمانية في فترة، وبعد ثورات العمال وجدت أهمية كبيرة لحكم الكنيسة وتدخلها في السياسة والمناهج التعليمية.

الاضطراباتُ في التحولات الألمانية والفرنسية بخلاف التدرج الديمقراطي الهادئ في أنجلترا، جعلت الاشتراكيةَ تتذبذبُ بين هجوم كاسح على الدين وبين الرومانسية تجاهه، كما نلاحظ في رؤية ماركس في(نقد فلسفة الحق عند هيجل). يقول في عبارة شهيرة:

(إن التعاسةَ الدينية هي، في شطرٍ منها، تعبيرٌ عن التعاسة الواقعية، وهي من جهة أخرى إحتجاج على التعاسة الواقعية. الدين زفرة الإنسان المسحوق، روح عالم لا قلب له، كما انه روحُ الظروف الاجتماعية التي طُرد منها الروح. انه أفيون الشعب.)، نقد فلسفة الحق عند هيجل.

إنها رؤية مثالية للدين لا تراه كسياسةٍ مقدسة إجتماعية، ذات ظروف بشرية تاريخية طويلة، حيث تؤسس الثوراتُ أدياناً وتجمدُ الأديانُ الثورات ويجد البشرُ في الدين أداةَ تغيير وأملاً وعزاءً من الواقع المعتم، كما يُحبسون داخله عبر الأفكار المحافظة.

إنها رؤيةٌ تجريدية للدين، وحكمٌ تعميمي عام، تتشكلُ في شبابية ماركس الهيجلي، حيث غابت الدراساتُ التحليلية عن الأديان، ولكن سوف تظل عبارة الدين أفيون الشعب مستنسخةً واسعةَ الانتشار دون وضعها في سياقها.

لقد تصاعدت الديمقراطية والعلمانية في فرنسا وألمانيا عبر عقود وتم عبرها تحييد المذهبين الدينيين المسيحيين عن الصراع السياسي المباشر، فالاجراءاتُ لخلق دولة ديمقراطية، بدأت من الجمهور العمالي بدرجة خاصة من أجل تغييرِ ظروفه وتصعيد ممثلين عنه للبرلمانات، وهذا تطلب جبهةً كفاحيةً ديمقراطية بين الاشتراكيين الديمقراطيين والعامة، تركزُ على نقد الظروف الاقتصادية البشعة وإتساع يوم العمل وضحالة الأجور ونقد القوانين اللاديمقراطية وغيرها من الظروف المعيشية الأرضية، فلم يعد نقد السماء في المركز بل توجه النقد للأرض.

ولكن هذا لم يمنع ظهور الدراسات حول الدين من جوانب متعددة، فظهرت كتاباتٌ مختلفة عن الأديان لدى رواد الفكر الاشتراكي وتلاميذهم بعد ذلك، مع تحليل الظروف الأرضية وتصاعد التحولات وإشتراك قوى سكانية كبيرة من مختلف الأديان والمذاهب في النضال لتغيير وضع البشر.

مع تطور الاشتراكية من نزعةٍ شمولية إلى توجهات ديمقراطية متعددة، ظهرت دراساتٌ وإتجاهات مختلفة فيها، لقراءة الظاهرة الدينية المعقدة.

تم تجاوز النظرة الهيجلية الشبابية في الاشتراكية الأولى وتوجه الوعي لدراستها حسب مستوى تطور العلوم الانسانية، إنطلاقاً من الجانبين المتضادين للدين باعتباره نضالاً أو بإعتباره دفاعاً عن الاستغلال.

لدى أنجلز يبقى الدين كشكلٍ مباشرٍ للصراعات الاجتماعية، فهو أما إحتجاج وأما مهادنة وتضليل، في حين أن الدين كذلك هو حياة روحية عميقة.

القراءة السياسية المباشرة للدين تنطلق من تصور الاشتراكية بأنها قاب قوسين أو أدنى من النصر ومن إكتساح العالم الرأسمالي وتغييره، وإلقاء كل (المخلفات) القديمة.

ستكون هذه الرؤية المباشرة الآلية سطحية، وسوف تُواجه بأشكال أكبر في عالم الغرب الثقافي، حيث تتصاعد العلوم والقراءات المختلفة للظاهرات الروحية، خاصة أن الاشتراكية ذاتها تغدو ديمقراطية، بعيدة المدى، تراكمية، والأحزاب الاشتراكية تضم مؤمنين وملحدين، يعملون من أجل أهداف مشتركة في تحجيم الاستغلال وتوسيع الخدمات للمواطنين.

على المستوى الفلسفي تأخذ الدراسات آفاقها في طبيعة ومجتمع ذي قوانين، وتنفصل عن ممارسات سياسية متعددة الألوان في الجماعات الاشتراكية.

روزا لكسبمورج الزعيمةُ الاشتراكية الألمانية ركزتْ على نقد الطابع الرجعي للكنسية وعادت لرموز المسيحية الأولى التعاونية الموحّدة للفقراء، فقامت بقراءة موضوعية وسياسة تعاون مع العمال المؤمنين.

وليس ذلك بغرض التكتيك السياسي بل بغرض الفهم الموضوعي للدين بإبراز جانبيه المختلفين، وهذا بحاجة دائماً لقراءات تاريخية ونقدية للأديان والمذاهب خاصة عبر المفاصل الكبرى لها.

ولينين شجب الدين كضباب صوفي ولكن مال لرأي الاشتراكيين الأوربيين في مرحلته الأولى بعدم جعل الإلحاد شرطاً لدخول الحزب. ومع تصاعد الدكتاتورية لديه فإن الأمر سيختلف كثيراً في التجربة(الإشتراكية) الآسيوية.

وفيما ستتطور العلاقات بين الاشتراكية الديمقراطية الغربية مع الأديان فهماً فلسفياً وممارسات تعاونية نضالية مشتركة، فإن الأمور سوف تتجه في الشرق إلى غير ذلك.

فمع تحول الاشتراكية إلى رأسمالية دولة تلغي إدارياً المُلكية الخاصة ومؤسسات الانتاج الفردية، والأحزاب والمؤسسات الديمقراطية، فإن إلغاء الأديان يكون جزءً من هذه العملية.

فلم تكن هناك في روسيا وبعدها دول أخرى عديدة ثقافة ديمقراطية تنويرية واسعة، ولهذا كانت الأشكال الإقطاعية لوجود الأديان هي المهيمنة، وهي تتجسد في سيطرة المؤسسات الدينية ورجال الدين والذكور والمظاهر العبادية الحرفية، فإذا قضت روسيا على الإقطاع لكن ثقافته ظلت مستمرة حية.

لم تجرِ قراءاتٌ عميقة في فهم الأديان، ورؤية العناصر الإنسانية والديمقراطية فيها وهي خاصة التي ظهرت في المراحل التأسيسية، وتناثرت بعد ذلك في عناصر شخصية وفكرية.

ونظراً لوجود الاستبداد على مستوى الحاضر فإنه يتحول لشمولية تجاه الماضي الديني وعدم رؤية تبايناته، ومراحل تطوره، وعدم السماح بالحريات السياسية ينعكس في عدم السماح بالحريات الدينية، وتظهر علمنة ساحقة فاشلة.

وقد كانت المرحلة البنائية النهضوية في رأسماليات الدول الشرقية(الاشتراكية)حيث شُيدت آلاف المصانع وظهرت البنى التحتية الحديثة وإنتشر التعليم، وشارك الملايين من العامة في العمل والدفاع عن الأوطان، في مرحلة المشاركة التعاونية المماثلة لبدايات الأديان، لكن بعد ذلك تغلغل الفسادُ في تلك الرأسماليات وتكشف طابعها الاجتماعي المتناقض، ولهذا فإن الإيديولوجية الاشتراكية الحكومية عكست مصالح السادة وليس العمال، ومن هنا حدثت الردة ولكن بإتجاه الدين التقليدي، لأنه لم يحدث تنوير وديمقراطية خلال هذه العقود يتم فيها تطوير أوضاع الجماهير المادية والثقافية وفهم الماضي بشكل ديمقراطي إنساني.

وهو ما قامت به السياسات الاستعمارية الغربية كذلك عبر تصعيد التوجهات الرجعية والمحافظة في الأديان في العالم الثالث التابع، وهو ما أدى إلى إنفجارات دينية خاصة في المناطق الفقيرة والتي لم تشهد حريات ثقافية وسياسية.

الرأسمال الديني

مصطلحات الدين عامة يمكن تفسيرها باتجاهات لا تـُعد ولا تحصى، لأنها تعبرُ عن رموز، وقد تكون قنطرة لإنتاج مفيد وقد تكون قنطرة لإستغلال ذاتي.

والدينُ يتحولُ إلى رأس مال، لكنه لا يقوم بإنتاج، بل هو يعتمدُ على أموال المنتجين، وتحددُ توجهاتُ القياداتِ الدينية مصيرَ هذه الأموال سواء كانت فوائد للناس وتغييرات كبيرة في الحياة، أم فوائد ذاتية واستهلاك شخصي بذخي.

في الماضي كان وسيلة لتملك الأراضي الزراعية الشاسعة من قبل الخلفاء والأمراء والمتنفذين، ووسيلة لإعادة إنتاج الفكر الديني ولتجديد الفكر الديني معاً.

والقلة فقط هي التي كانت بصدد تطوير إنتاج الدين، فلم تتراكم رؤوس الأموال معها، بل ذهبت الأموال للمتحكمين المحافظين في هذا الإنتاج ومن يخضعون الفقراء المؤمنين لسيطرتهم فكان صعود الإسلام بصمود المجتهدين المناضلين الفقراء، ونزوله بسبب غيابهم.

وفي العصر الحديث لم تتغير الخريطة كثيراً إلا بدخول بعض الحقول الحديثة، والأشكال الخارجية المزوقة، لكن المضمون القديم بقي كما هو.

يغدو الدين وسيلة لظهور وتراكم رأس المال، عبر إنشاء الخطب في الجوامع، أو عبر الحكم الشرعي، أو تأليف الأحزاب، أو الدخول في الحكومات، أو إنشاء الشركات في العقود الأخيرة، وهو ما يعبرُ عن تراكم كبير في النقد، حيث أخذ التراكم يتوجهُ نحو جوانب رأس المال المسيطرة على السوق العربية الإسلامية المتخلفة.

إن مسائل الاجتهاد والتأليف والبحث في الفقه والتاريخ والتفسير لم تأخذ مكانها كما كان يعملُ الاسلافُ في زمن النهضة أو التخلف، بل غدت المسائلُ المالية والمنفعية هي بؤرة هذا الاهتمام الديني.

لأن مسائل الحفر في العقيدة تقود إلى الرهبانية والزهدية، والتعمق في الأصول، بينما المسائل السياسية والمالية الطافحة تقود للمنفعية التي ربما تتحول إلى انتهازية.

أصبح الدخول في الحكومات والاستفادة من الأموال العامة هو هدف الرأسمال الديني، للمزيد من التراكم.

ونظراً لأن الخطابات الدينية غامضة، سريعة التحول، كثيرة التوجهات ومختلفة المسارات، فإن الاستثماري الديني يركزُ على الوجود في شعاريتها العامة المتقلبة، فيهمه إنتاج النقود لا إنتاج المعنى الديني الجديد المفيد لأغلبية المسلمين، ولهذا وجدنا البنوك والشركات (الإسلامية) تجمع الكثير من رؤوس الأموال وتستثمرها في بلاد(الكفار) حسب نصوصها وألفاظها التي تقولها حين يتحول كتبتها إلى صحفيين في الجرائد أو إلى وعاظ في المنابر.

والاستثمار هو أمرٌ عظيم لكن لم لا يكون في البلدان التي تـُجبى في هذه الأموال؟ ويتحول إلى إنتاج عربي إسلامي، يقوي قواعد الصناعة والاقتصاد والعمالة الوطنية والعربية، أما أن توضع مليارات الدولارات في اقتصاديات دول أخرى فهو يوضح بأن المال حين يتحول إلى رأسمال يغدو بلا دين.

من يهيمن على الرأسمال الديني هم أناسٌ بعقيدة محافظة في بلدانهم، لأنهم يشجعون التعصب فهو مصدر تراكم رأس المال، وهم كذلك بلا عقيدة حين يجري رأس المال هذا في دواليب الاقتصاد فيبحثون أنى وُجد الربح الأقصى ولا يهم في أي أرض يكون!

إن ظهور رأسمالية إسلامية منتجة يعتمد على مدى إنتاج الفكر الإسلامي، بمعنى أن تظهر اجتهادات عميقة توظف الرساميل لتغيير البنى المتخلفة لدينا، بدلاً من حرق الحقل الذي تــُنتج فيه هذه الرساميل، والتركيز على الربح السريع والطيران للخارج والاستثمار في مجتمعات أخرى.

الوعي الديني والرأسمالية الحكومية

تعجز الرأسمالية الحكومية الشرقية في تحديثها للـبُنى المتخلفة القديمة القادمة من العصور الوسطى عن أن تعيدَ تشكيل الوعي الديني بشكلٍ ديمقراطي.

عبر كل تلوينات أنظمة هذه الرأسمالية من الاشتراكية السوفيتية والماوية الصينية واشتراكية حزب المؤتمر الهندي والرأسماليات الحكومية العربية، تجد نفسها في حالاتِ اضطرابٍ بين عملياتِ التنمية الاقتصادية السريعة والضخمة التي تقومُ بها، وبين جمودِ وثباتِ المستوى الديني.

إن الوعي الديني لا يستجيبُ لمعدلاتِ النهضة، ولا يقبلُ أن يُربط بعمليات التخطيط، وبالبرامج الحكومية والأوامر الصادرة عن العواصم، ولا يقبل التوجيهات وإعادة البناء!

وتجابهنا حالتان متضادتان كبريان هنا: الحالة السوفيتية في الإلغاءِ القسري للأديان، والحالة الهندية في الإبقاءِ الكلي للأديان وترك تطورها للمؤمنين، حتى لو كان ذلك انفصالاً جغرافياً في جسدِ القارةِ الهندية وتمزيقها بين هندٍ وباكستان وبنجلاديش، أو إبقاءً للتكويناتِ الاجتماعية – العبادية في ركودها وانفصالها وتطورها المستقل لحد التفتيت الهائل لجسم المجتمع الهندي.

وفيما تحافظ الهندُ على جسدِها الهائلِ السحري الميثولوجي، يتفككُ الجسدُ السوفيتي (العلمي)! فلماذا؟!

إن تجربة الاتحاد السوفيتي في إلغاء الأديان ارتبطت بتنمية ضخمة فعالة، لكنها من جهةٍ أخرى اعتمدت ثنائية الاشتراكية – والرأسمالية الحكومية.

في الجانب الأول قدمتْ الماركسية بدائلَ فكرية وأخلاقية وتضحوية للمجتمع كي يعوضَ عن غياب الدينِ المسيحي خاصة في الأقسام الأوروبية، والإسلام في الأقسام الآسيوية، وأعطتهُ نماذجَ بطولية ومعارفَ هائلة فسدتْ فراغ غيابِ الدين إلى حين انتهاء فترة البناء البطولية؛ 1917 – 1950، وشكلتْ فترةُ التحولِ إلى الرأسمالية الحكومية المتعالية على الجمهور، وصعودُ الهياكلِ البيروقراطية والاستغلال، الغربةِ نفسها التي شعرتْ بها الجماهير خلال قرون تجاه تعالي الأرثوذكسية، فعادتْ للديانةِ الشخصية ذات القوالب المنزلية، ولم تعدْ الكنيسةُ لها ذات المكانة حتى بعد تفكك الرأسمالية الحكومية السوفيتية الكلية، وانقسامها إلى رأسماليتين عامةٍ وخاصة. ويمكن هنا أن تتضافرَ وتتداخلَ وتتقاطعَ الماركسيةُ الروسية البيروقراطية في انتمائها إلى كادحي القطاع العام خاصة، مع المسيحية الشعبية، اللتان غدتا ديانتين، معبرتين عن التداخل والصراع بين الرأسماليتين الحكومية والخاصة ومدى قدرتهما على التنمية وتحسين وضع الشعب!

يمكن أن نعثرَ على التوليفة نفسها في الصين وفيتنام، بتجاور الماركسية مع البوذية. إنه التجاورُ بين القطاعاتِ الاقتصادية الكبرى وأشكالِ الوعي الكبرى كذلك، لقدرةِ هذه الأنظمة على إيجاد الانسجام الاقتصادي النسبي بين الرأسماليتين السابقتي الذكر، كما أن البوذية تمتلكُ خاصيةَ عدم التدخل في الصراعات متجهةً للصوفية المتعالية على الواقع المحدود والدنس.

في العالم الإسلامي يلعبُ الصراعُ بين المذهبياتِ مرآةً لإخفاقِ الرأسماليات الحكومية أو نجاحها، وقدرتها على الجمعِ بين التطوراتِ الاقتصاديةِ والاجتماعية والفكرية أو عجزها عن ذلك. تصاعد هذه الصراعات يشير إلى المدى السلبي الذي بلغته الرأسمالية الحكومية، وغربتها عن الأقاليم والجمهور، وهو غالباً ما يؤدي إلى مرحلة تفكك أكبر أو إعادة تغيير، لكن أجسام المذاهب لا تتغير، بل تـُقحم في شعارات سياسية ساخنة.

إن مدى التحام وتوافق الرأسماليتين الحكومية والخاصة، يتجلى في الصراعات التي تجرى في الأديان. إن مدى مرونة الرأسمالية الحكومية وجذبها لعناصر السكان المختلفة، وقيامها بتغييرات اقتصادية واجتماعية ملائمة للسكان، ومدى سماحها لنمو قوى الرساميل الخاصة وإحداث تنمية شعبية حقيقية، يترتب عليه هدوء الجبهتين الدينية والمذهبية، ويجرى الصراع الخافت بين القومية أو الاشتراكية الوطنية أو الملكية الدستورية وغير الدستورية، وبين الليبرالية.

هنا تتجلى إشكالية عجز إيجاد بُنية رأسمالية موحدة، لغياب الديمقراطية والتخطيط وتوجيه الفوائض الاقتصادية نحو إعادة تشكيل الخريطة الاقتصادية نحو التغيير الشامل.

ويستمر قلق البنية الاقتصادية ومشكلاتها بين التطور المتدرج أو التفكك الصراعي.

ولكن غالباً لا تتسم الرأسمالية الحكومية بمثل هذه (العدالة)، والمخاطر تكبر حين تلتحم بعصبية مناطقية وطبقية وعسكرية، وتغدو المنافع مركزة متضخمة فتنفجر على شكل اضطرابات مناطقية تستخدم الوعي الديني، نظراً لتدهور الوعي الحديث الديمقراطي.

لا توجد عناصر فكرية مختلفة كثيراً بين المذهبيات والأديان في الشرق، لكن الفروق البسيطة تـُضخم ويُنفخ فيها مع تنامي الفروق الاجتماعية بين الطبقات والمناطق.

وغالباً ما تجرى الصراعات المذهبية الدينية في العالم الإسلامي بين الرأسمالية الحكومية المركزية والأشكال الجنينية للرأسمالية الخاصة والمتداخلة مع الاقتصاد ما قبل الرأسمالي كذلك، المتركزة في المناطق البعيدة والمهمشة، ولهذا جابهت روسيا الاتحادية صراعات اقتصادية (متحضرة) مع البلدان التي تطورت رأسمالياً ككازخستان وأوكرانيا عبر تنمية واسعة، لكنها واجهت صراعات دموية مع أقاليم داخلية لم تتطور في هذا السياق مثل الشيشان.

تباينات مستوى تطور الوعي الديني في الشرق ترتبط بضعف القوى الإنتاجية وخاصة قوى الكادحين، التي لم تدخل في التطورات الاقتصادية والمعيشية والثقافية، ولتفاوتات التطور بين المناطق والهجرة الأجنبية ومزاحماتها، وغير ذلك من العوامل التي توجد صراعات ومستويات معيشية شديدة التباين.

الأديان والمذاهب لا تتغير كثيراً خلال قرون ولكن الحراك الاجتماعي دائب التغير، وهذا يشكل عامل تناقض كبير بين مستويين في الحياة الاجتماعية، والحراك السياسي يستغلها لأهداف تكون غالباً متخلفة في التطور عامة.

لا يمكن للوعي الديني الإسلامي المحافظ أن يتم تغييره كليا ودمجه في الخطط الرأسمالية الحكومية أو الخاصة أو الاشتراكية. هو وعي تكونَ خلالَ عشرة قرون وشكلتهُ قوى اجتماعية مغايرة لفترة الثورة المحمدية.

حاولتْ القدريةُ والزيديةُ والمعتزلةُ والإسماعيليةُ وغيرُها ذلك في تمرداتٍ معينة، خلال تلك الفترة الزمنية الطويلة ولم تنجح، وهذا يعود لبُنى اجتماعية موضوعية وليس لإرادة الأفراد والجماعات، وقد رأينا الماركسية الروسية تحاولُ تغييرَ الأرثوذكسية بالإزالة من دون جدوى.

ولم يحدثْ تغييرٌ للمذاهب السنية والشيعية رغم جهود الرموز المخلتفة، فلماذا ذهبت جهود الأفغاني ومحمد عبده سدى؟ وليس فعلُ الخميني تغييراً للمذهب الشيعي، بل هو طرحُ شعاراتٍ سياسية فوقية فقط، فشعار ولاية الفقيه لا يمثل تطويراً أو هدماً للمذهب، بل هو شعارُ قوى سياسية رُكب فوق جسم المذهب، وربما يبقى أو يزول لكن المذهب لا يتغير.

إن تركيبَ شعار ولاية الفقيه فوق الجسد المذهبي أملتهُ صراعاتٌ سياسيةٌ وخيارٌ سياسي هو صعودُ الدولةِ الفارسيةِ القوميةِ المهيمنة فوق القوميات الأخرى والطبقات الكادحة المختلفة. أما أن يكون الشعارُ متغلغلاً في جوانب الفقه ومحولاً له باتجاه مزيد من الماضي أو للقفز في المستقبل، فهولا علاقة له بذلك. وتحول إلى حكم للمحافظين الدينيين، ولماذا لم تؤثر الثورةُ وتضحياتهُا المذهلةُ في أحكامهِ وتمت معاملة القضايا كما عُوملت قبل قرون مديدة؟ إن هذا يعود إلى كون الجسم الديني المحافظ لا يتأثر بتضحيات المسلمين وتحولاتهم.

هو شعارٌ سياسي فوقي، ومن هنا نجد أن الشيعة في العراق لم يطرحوا ذلك، حيث لا توجد الأمة الكبيرة الموحدة التي تريد أن تنشىء حكما قويا قومياً مركزيا بهيمنة معينة، بل هنا نجد الشعب المتعدد القوميات والمذاهب المفكك المحتاج إلى عالم تعددي ديمقراطي، أي هنا حالةٌ سياسيةٌ مغايرةٌ فغابَ الشعار. لكن هل يستطيع الدينيون في العراق أن يسايروا التحولات الديمقراطية في فقههم ونظراتهم؟ هذا لا يحدث.

إن الفقه يحتاج لتطوره إلى قرون، والناس لا تنتظر. الفقه يعبر عن علاقات اجتماعية تقليدية متجذرة تشكلت في ذلك الماضي، والعلاقات الاجتماعية لا تتغير الآن بسهولة وسرعة.

إن المذاهب تبقى بأجسامِها الاجتماعية الفكرية خارج العصر الحديث، ويمكن إحداث مرونة في الأحكام الجزئية، لكن المحتوى الجوهري يبقى مُصوغاً في عصر آخر.

سنجد مظاهر متوحدة بين الصين وإيران، بين هذين البلدين المختلفين المتباعدين في التجربة السياسية خاصة.

في الصين تتلكأ الماركسية الماوية (البنغية) عن التطور، إنها تفقدُ علاقاتها بالكادحين، وتتغربُ عنهم، لكنها لا تقبلُ بالبوذية، لا تقبل بهذا المستوى الفكري العتيق، وهو مستوى لم تستطع تطويره ككلِ دينٍ صِيغَ خلال عدة القرون، بعد أن صاهرتْ الرأسمالياتُ العالميةُ على مستويات البضائع والمصانع واقتصاد السوق. فماذا تفعل؟ لا تستطيع أن تعود للماركسية ولا للبوذية معاً، فتقومُ بتقويةِ الأفكار الليبرالية الغربية ومظاهرِها المختلفة، مثل اللباس (وخاصة ربطة العنق “الكرفتة”) ونشر الفنون الغربية حتى الاحتفالات بالأعياد الغربية كرأس السنة على نطاق واسع وهائل! ولكن على مستوى الكادحين الصينيين ذوي الظروف السيئة والمعارضين فإنهم يتمسكون إما بالماركسية التقليدية وإما يتعصبون للبوذية، دفاعاً عن مصالحهم الضائعة في اقتصاد السوق المندفع لمصلحة الدولة الرأسمالية العامة والرأسماليين الأفراد.

إن ذلك تمهيد لمجتمع رأسمالي على الطراز الغربي، وهذا ما يجري في إيران، حيث أصبحت ولاية الفقيه عقبات سياسية وبيروقراطية لتطوير الاقتصاد، فهي تجعلُ مجموعةً صغيرةً تتحكمُ في الخططِ الاقتصادية باتجاه معين، والقوى العسكرية والاستخباراتية تريدُ بقاءَ مستويات معيشتها المميزة، ممانعةً من توجيه التوظيفات نحو التصنيع السلمي المتطور تقنيا. ومن الممكن أن يحدثَ تضفيرٌ بين دولةٍ عسكرية وبين الابتعاد عن ولاية الفقيه، مستقبلاً، مع تنامي سيطرة العسكر، وتـُحلُ مسائلُ تغييرِ التقاليد واختلالاتِ الاقتصاد البنيوية، عبر هذه القوة، فمسألة الجمع بين الديمقراطية والحداثة الدينية مسألة صعبة.

الاقتصاد الإيراني الراهن المأزوم الذي يريد إعادة تكوين الأمة المأزومة، يتطلب إعادة تشكيل المجتمع وعودة الملايين من الإيرانيين المبعدين في الخارج، وتقوية المدن بقيادات حداثية ووضع حد لسيطرة الريف الإيراني بقياداته الدينية المحدودة الادراك. ومن هنا نرى النماذج الليبرالية والغربية تنتشر في الثقافة الشعبية والحراك السياسي، بعكسِ فترةٍ سابقة. لكن هذا لن يزيلَ المذهبَ الشيعي، ولن يغيرَ فيه شيئاً، فهذه الشعاراتُ السياسيةُ الليبرالية تظلُ فوقية، لا تغوصُ في الأعماق، مثل شعار ولاية الفقيه، لم يغصْ في أعماق المذهب ولم يطوره. إن الشعب يتطلع لإعادة تشكيل النظام نحو آفاق حداثية ذات توحد وطني أوسع، وحياة سلمية مع الشعوب لكي يضعَ ثمارَ اقتصاده في تطوره.

تبقى المذاهب كتلاً متماسكة في تكويناتها تعود لعصر تقليدي سابق، كما تبقى آراء الفقهاء المعاصرين مجرد مناوشات عصرية فوق جسم تقليدي انتهى بناؤه، ولن تنفع فيه هذه المناوشاتُ إلا إذا كانت حداثية ديمقراطية ومرتبطة ببناء وطني طويل الأمد يمتد إلى عشرات السنين ويوزعُ الخيراتَ بشكلٍ عقلاني على الجماهير الفقيرة، ومن هنا تغدو العلمانية عملية إبعاد سياسية فقط عن استغلاله في صراعاتٍ سياسية تقليدية وطائفية وقومية هي مضيعةٌ لوقتِ المسلمين الثمين ولقواهم وقدراتهم.

من هنا نرى كيف أن الفلسفات العصرية والمذاهب السياسية الساحقة للأديان والآراء السياسية المصعدة لهذه الأديان إلى الذرى، كلها لم تغيرْ شيئاً في بُنى الأديان هذه، وحين ذهبت العواصفُ السياسيةُ عادتْ إلى أجسامِها “الماضوية” نفسها.

سنجدُ هنا ان عدمَ نشاط غاندي في سحق الأديان أو الدعاية لها، أفيد من الجهد الذي بُذل في قاراتٍ عديدة في أنشطة السحق والترفيع. لقد اختصر الرجلُ الموقفَ وتركَ الأديانَ تنمو أو تزول كما هي طبائعها الداخلية، وجعل للسياسة ممرا وطنيا موحدا يجتمعُ كل الهنود فيه، ويفرض نفسه كذلك على كل الأديان. وكرس الموقف السياسي في التوحيد والنهضة وتعددية الأصوات فكسب التطورَ وأرواحَ الناس معاً.

الرأسماليةُ الحكوميةُ استبدادٌ ديني

ظهرتْ الأديانُ نتيجةٌ لعجزِ الإنسان عن السيطرة على الوجود، ومهما تطورت قواهُ الإنتاجيةُ فهو يظلُ في هذا الأفق التاريخي المنظور، تابعاً للطبيعة الخارجية والداخلية البشرية.

هذا العجزُ قادهُ إلى إعتمادِ القوى الغيبية كحافظةٍ لهذا الوجود الناقص، الضعيف في المحيط الهائل الكوني، وقد جعلَ من قواه القرابية، وهي الشكلَ الأسريَّ مرآةً منعكسةً على السماء، فغدتْ القبيلةُ قبيلةً إلهيةً متعددةَ القوى، وفي فترةٍ كانت ثمة أوليةٌ للأم المقدسة ثم ظهرتْ وحدةٌ بين الأبِ والأم، ثم هيمنَ الأبُ في الأسرة البشرية، فظهر الأبُ الإلهي، بين الرحمةِ والقسوةِ، بين العدل والظلم، بين الخير والشر، فأنقسمَ بين الإلهِ والشيطان!

وإذا كان الغربيون التحديثيون في ثورتِهم الرأسمالية الطويلة قد حصلوا على فرصةٍ تاريخية لتكييفِ الدين مع هذه الثورات التحويلية الاقتصادية، فإن الشرقيين لم يحصلوا على مثل هذه الفرصة، فتدرج الغربيون من تكوينِ مذاهبِ الإصلاح إلى التنوير ومن ثم العلمانية السياسية الديمقراطية، مكيفين المسيحية خاصةً على أثواب النمو الرأسمالي المتعدد المستويات الإنتاجية والثقافات القومية الغربية.

الشرقيون غدتْ لديهم لمحةٌ من لمحاتِ الفكر النهضوي التنويري في القرن التاسع عشر، حيث بدأ ظهورُ فئاتٍ وسطى حرة، لكن عاصفةَ الإستعمارِ من جهةٍ وعاصفةَ التحررِ القومي من جهةٍ أخرى، لعبتا دورَ التعجيل السياسي الفكري، الإجهاضي للتطور الغربي المتدرج ذاك، فتوجهت بعضُ الأممِ الكبرى الشرقية نحو الألحاد ونحو الإشتراكية، وكان هذا مظهرُ التجلي لرأسماليةِ دولٍ سريعة النمو الإقتصادي وشمولية التحكم.

كان التصورُ بأنهُ يمكنُ القضاءَ على الملكيةِ الخاصة لوسائل الإنتاج وتصفية التناقضات الاجتماعية البشرية وبالتالي القضاءَ كذلك على الأديان. لكن تشكيل الرأسماليات الحكومية الشرقية كان إستمراراً للإستغلال، كما أن مناكفتَهُ للتطورِ الغربي جعلهُ لا يشكل فتراتِ نهضةٍ ديمقراطية وتنوير وعلمانية، فكان الألحادُ مظهراً لدكتاتورية الدولة، وتحولها إلى إلهٍ، فظهرتْ رموزُ القادةِ على هيئاتِ آلهةٍ وأنبياء ومرسلين معبودين، إستمراراً للتطور الشرقي الشمولي السائدِ عبر العصور، من أجل التحكم في هذه العامة المغتربةِ عن نتاجِ عملها وعن التحكم في سلطاتها التي تقول إنها تعبر عنها، لكنها أقصتْ أدوات الديمقراطية الفاضحة لها.

وكما أن رأسماليات الدول الشرقية أخذتْ تعودُ للأشكالِ الإستغلالية القديمة، كذلك فإن الآباءَ الإشتراكيين تلاشوا، وعادَ الآباءُ القدامى للمؤمنين. ولأن عمليات الإستغلال الجديدة يمكن تمويهها عبر الأشكالِ التقليدية من الأديان بشكلٍ أكبر، كذلك فإن حشودَ المؤمنين الكثيرة يمكن أن تشكلَ قوى إدخارية مفيدة لرأسمالٍ إجتماعي متكلس.

في الصين التي نحتْ الأديانَ من الحياة الاجتماعية بشكلٍ واسع، لم تحتاج إلى تحولاتٍ دراماتيكية في العبادات، مثلَ الهند التي كانت التعددياتُ الهنديةُ تاريخيةً لديها، وواصلتْ اليابان تنحيةَ البوذية التي كانت علمانية تاريخية قديمة، وفي حياة المسلمين فإنهم واصلوا مأزقَهم التاريخي في عدم القدرة على تطوير رأسماليات الدول تطويراً تثويرياً صناعياً ديمقراطياً.

هذا على المستوى الديني أدى إلى تفاقم ظاهرة المذهبيات المتصارعة، وهي تعبيرٌ عن عجزِ الأدواتِ الحكومية التنموية عن تسريع قوى الإنتاج البشرية والمادية، وعن توحيد الأقسام البشرية الجغرافية وتوحيد نهوض الرجال والنساء معاً. إن غيابَ التوحيد الديمقراطي على المستوى الإقتصادي هو غيابُ التوحيد على المستوى الديني.

إعتمدت أغلبيةُ الدولِ الإسلامية على رأسماليةِ الدولة كنظامٍ مهيمن، وهذا ماثل عبر الشكل الفكري، بسيادةِ المذاهبِ السنية المحافظة، ونظراً لفسادِ هذه الرأسماليات وغياب الرقابة الشعبية والديمقراطية، فقد برزتْ المذهبياتُ المضادة، بشكلِ الإماميات المتعددة، وعبر السنية المتطرفة كنموذج القاعدة، تعبيراً عن تمردِ الأريافِ والبوادي، التي بعثتْ الأشكالَ الفكرية المحافظة والمناطقية، إحتجاجاً على غياب التخطيط والمركزية غير العادلة في توزيع الثروات.

بتطوير هذه الرأسماليات الحكومية بالديمقراطية وبالنمو الواسع للقطاعات الخاصة الحرة، وبخلقِ أشكالٍ من التعاون الوطني بينها، وبتنمية لأحوال الأغلبيات الشعبية وقوى الإنتاج العربية الإسلامية المستقلة، يمكن أن يحدث نمو مشترك للمذهبية السائدة وللمذاهب المختلفة باتجاه التحديث، وعبر العلمانية المتدرجة خاصة، للخروج من الدائرة  المغلقة الراهنة.

التعددية الدينية والعقلانية

نظراً للصراعات الدائمة بين البشر، قوى إجتماعية أهلية أو إقتحامات أجنبية وسيطرات من قبائل وشعوبٍ على قبائل وشعوب أخرى، عاشَ الناسُ بين التعدديةِ وبين الهيمنة الطبقية والفردية الكاسحة.

إن التعدديةَ عموماً جزءٌ من إختلافِ المعاشِ والمواقع الاقتصادية والاجتماعية، ومن تعددِ الأجناسِ والأقوام، والشموليةُ الحاكمةُ فيها جزءٌ من التسلطِ المستمر.

إن هذه الثنائيةَ الصراعية إنعكستْ في الأديان، فالأديانُ تبدأ عادةً بالوحدانية، وبصورةِ الإله الواحدة، ثم تغدو غيرَ وحدانيةٍ، وتظهرُ مذاهبٌ متعددةٌ في كلِ دين، تواصلُ عمليات الصراع الاجتماعية والسياسية التي لا تتوقف، لأن الناس لا يصلون لخلاصةٍ أخيرة في تاريخهم أو إلى نظامٍ متكامل أخير!

وليس الأمرُ راجعاً للنزقِ أو للبدعِ بل للصراع الذي لا يتوقف.

وهذا يجري دائماً في الأفكار الدينية وغير الدينية التي تلتصقُ بأجهزة الحكم خاصة، لأن الأفكارَ والأديانَ التي لا تلتصقُ بصراعات الحكم وتقسيم الثروات والتكالب عليها لا تُصاب بمثل ذلك.

في البدءِ نجدُ صورَ الألوهيةِ الواحدية أو الفكرة (المستقيمة) والفكرة النهائية، ثم تظهرُ التعدديات، وغالباً ما ينعكسُ الصراعُ الاجتماعي السلمي في أشكالٍ سلمية، والصراع الاجتماعي الدموي في أفكار تمزيقية ومذاهب عنفية تتصاحب مع الانتفاضات والحروب.

تتطابق السلطاتُ الدكتاتوريةُ والدين تطابقاً شديداً كلما كانت المجموعاتُ الحاكمةُ لا تتيحُ للآخرين فرصةَ التنفس.

حين يغدو الحاكم فرعوناً يعبر ذلك عن تحول شخصيته إلى فرد مهيمن على الملايين، التي تعملُ من أجلِ شخصه. وهذا ما يجعله إلهاً.

حين تخف شخصية الحاكم ويغدو رسولاً شعبياً تغدو صورُ الإلوهية مشاركةً للناس، وتخترقُ الغيبَ وتتحدث مع البشر، وتتشكل ديمقراطية صغيرة في ظلِ غيابِ سلطاتٍ قمعية شاملة وفي ظلِ ديمقراطيةِ الرسولِ مع جمهوره.

ومع إنفصالِ السلطات الدينية السماوية(فيما يُعرف بالأديان السماوية) عن الجمهور الشعبي، تتعدد الصورُ عن الألوهية تعدداً مساوياً لحركاتِ الصراع والقوى الاجتماعية وطموحات القيادات المختلفة المضادة للرمزِ الإلهي الرسمي المُعتَّمدِ في النظام الاجتماعي العام، وبسبب التخاذل كذلك عن الدول الشعبية العادلة المفترضة ونموذج المساواة المتخيل.

تقوم الحركاتُ المعارضةُ بإختراقِ الصورِ الرسمية للإلوهيةِ المعتمدةِ وتطرح صوراً أخرى.

إن الصورَ الألوهيةَ المنفصلةَ عن الجمهورِ والنائيةِ عن محنِهم وعذابِهم ومطالبهم في العدالة، تجابهُ بصورٍ أخرى مضادة، وهي تدخلُ في الفراغ التاريخي بسبب عدم وجود مضمون ثوري يغذي تلك الصور بالحراك الشعبي العقلاني بعد الحقب الأولى.

كمثل الصوفية في الإسلام التي خلقتْ صوراً تجمعُ بين أقصى الديمقراطية وأقصى الدكتاتورية. فالقطبُ يندمجُ مع صورةِ الإله، في تحدٍ للديانةِ الرسمية، وهو لا يتحدى الديانةَ حقيقةً بل يقومُ بعمليةٍ ديمقراطيةٍ فيها وبتحدي السلطة ونموذج أمر المؤمنين المتعالي على المؤمنين، ويجعلُ صورةَ الإلهِ شعبيةً وتندمجُ مع الناس العاديين فيتوحد معها!

لكن ذلك يعبرُ عن هرطقةٍ بالنسبة للديانة الرسمية، كما أنه يحول نفسه إلى دكتاتور مهيمن على البشر بقوله الغامض ذاك! وكلما زاد الغموضُ في الصور الدينية كلما كان حجمُ الدكتاتورية أكبر، فبرنامج تغيير الحياة وخدمة الشعب يتوارى عبر المصطلحات الدينية الغامضة.

وبالصوفية وصلتْ الأديانُ في القرون الوسطى إلى مرحلةٍ خانقة، لولا ظهور الرأسمالي الحديث في أوربا. ولثالثِ مرةٍ بعد اليونان والعرب تظهر ظروفٌ مطورةٌ للتجارةِ بشكل واسع، وهنا تعانقتْ مع الصناعة والعلوم، ووصلَ الرأسمالي الغربي إلى مرحلةٍ يبعدُ فيها الدينَ عن السياسةِ لأولِ مرةٍ في التاريخ البشري.

وأسبابُ ذلك تعودُ إلى ظهورِ المصنع والعمال. والمصنعُ مثّلَ ذروةَ تطورِ الإنتاج وتداخله مع العلوم. كما أوجد الرأسماليُّ طبقةً جديدةً مرتبطة بإنتاجه وأجوره. صحيح إنه إستغلها ببشاعة ولكنه أوجد طبقةً قادرةً على التصويتِ من أجله في الإنتخابات، وأن تنفصل عن هيمنة رجال الدين. لم يعد الرأسمالي هنا بحاجةٍ لحكم الدين السياسي، نظراً لأهمية توحيد الناس في البلد الواحد بعيداً عن الطوائف، ولضرورة تصعيد العلوم الطبيعية ومنع القيود حولها لأنها تغذي إنتاجه وتكيف عماله معه، وتخلق إزدهاراً إقتصادياً مفيداً لتطوره وتطور المجتمع وتحوله إلى هيمنةٍ عالمية!

لكنه من جهة أخرى بحاجة للدين كمانعة صواعق إجتماعية ضرورية، فهو كذلك بحاجةٍ لسلطةٍ غيبية بشرط أن لا تتدخل في عمله.

إحتاجتْ الرأسماليةُ الغربيةُ للعقلانية العلمية الطبيعية الواسعة والاجمتاعية المحدودة، بسببِ تحولِها لسيادةٍ عالميةٍ تحتكرُ الموادَ الطبيعيةَ التي هي بحاجةٍ لدرس عميق متواصل، ولعلومٍ إجتماعية محدودة وللدينِ من أجل إستمرارِ الشعوب المستعمِّرة والمستعمَّرة في ثقافتها القديمة الدينية، مع بعض التطور في ظل هذا الإقتصاد المزودج. ويتم تغيير هذه الثقافة كلما إحتاج الإنتاجُ في هذه البلدان إلى تقنيات وقوى عاملة أكثر تطوراً.

إرتبطت العقلانية ثم العلمانية بعمليات تطور هائلة في الحياة الاجتماعية والاقتصادية، عبر إنتاج أوسع وأسواق أكبر، ولتطور في مختلف جوانب الحياة.

العلمانية كتجديد إسلامي

 حين نأخذ العلمانية باعتبارها تشكيلاً لدولة لا دينية، ينطبق ذلك على كل المجتمعات البشرية المعاصرة، وهذا الاتفاق يشير فقط الى سمة كونية، تتمثل في إبعاد الدين عن الصراعات السياسية، كما كان الأمر يجري في كل العصور السابقة، واختيار البشرية لهذا الأمر هو تعبير عن توحد كونى، كما هو تعبير عن توحد قومي أو وطني.

لكن العلمانية تأخذ سمات التطور من التواريخ القومية الخاصة بكل شعب، فالعلمانية الفرنسية تغلب عليها عمليات الصراع الحادة والعلمية ضد الكهنوت القروسطي الشديد التحجر في فرنسا، في حين انها في الولايات المتحدة تتسم هذه العلمانية بعدم وجود جذور للصراع مع الكهنوت ومع الإقطاع وبميراث بروتستانتي تبشيري قوي, جعل العلمانية الأمريكية قوية التعصب الديني خارج السياسة.

وفى الصين فإن العلمانية لها جذور قوية في طابع البوذية، التي تتسم بالانعزال عن الحياة السياسية وترك الحياة المدنية للمدنيين، مما جعل البوذية تتعايش بسهولة مع الماركسية.

في حين ان التعددية البوذية والهندوسية في الهند جعلت العلمانية ضرورة وطنية هندية شبه مقدسة.  وتودي عمليات التعصب الهندوسية ذات المنحى اليميني المعادي إلى إعادة تشكيل الهند بشكل عصري والمعالج مئات الملايين من المحرومين والمنبوذين, إلى نحر ذلك الإرث التعددي الإنساني.

وفي افريقيا فإن الديانات الإحيائية المتسمة بعبادة الأسلاف أو قوى الطبيعة, لم تواجه النزعات الحديثة بعداء شديد, إلا في المناطق التي استغلها زعماء القبائل لمواجهة الإصلاح الزراعي والمدني الحديث.

وفى تاريخ العالم الإسلامي كانت ثمة محاولات كبرى لإنتاج علمانية تخفف من وطأة  الصراعات الدينية من أجل اتخاذ مواقف سياسية موحدة تجاه قضايا الاستغلال والفقر والنضال المشترك.

وقد كانت هذه المواقف الإسلامية قد خرجت من عصر التعصب الكلى للمذاهب، الذي انفجر بعد تفكك الإمبراطورية الإسلامية، حيث كانت سيطرة المذهب الواحد الذي تحميه حراب الدولة الباطشة، حينئذٍ لم يكن المذهب سوى اجتهاد إمام ما في طائفة، فيغدو هذا الاجتهاد والرأي قوة شبه منزلة، ولهذا اعتبر الأندلسيون والشمال افريقيون العرب والبربر عموماً اجتهاد مالك بن أنس مقدساً، وتعصبوا له تعصباً شديداً حتى أن الإمام أبا حامد الغزالي أُعتبر خارجاً عن الملة والدين، وهكذا صدرت فتاوى مختلفة بتحريم كتاب [إحياء علوم الدين] الذي ألفه الغزالي، من قبل فقهاء أندلسيين ومغاربة، ثم انتشرت حملة كبيرة ضده انتهت بحرق الكتاب ومطاردة ناسخيه وقرائيه!

لم تعبر هذه الحملة المغاربية عن موقف جامد متصلب في الدفاع عن اجتهاد مذهبي معين فقط، بل أيضاً لما يتضمنه الكتاب من هجوم عنيف على رجال التكسب بالدين الذين اتهمهم بالاشتغال بالفتوى من أجل تولى الأوقاف والوصايا وحيازة مال الأيتام وتقلد مناصب القضاء والحكم، وإنهم كما يقول الغزالي [اقتصروا على علم الفتاوى في الحكومات والخصومات ولم يخرسوا اللسان عن الغيبة ولا البطن عن الحرام ولا الرِّجل عن المشي الى السلاطين]، [نقلاً عن إضاءات حول تراث الغرب الإسلامي, إبراهيم القادري, الطليعة, بيروت, ص 135].

بطبيعة الحال فإن رجال الدين والسلاطين تحالفوا معاً ضد كتاب الغزالي وحدثت تلك الهجمة العنيفة ضد أحد المثقفين الكبار في تاريخ الإسلام. وبطرح الغزالي فقهاً قريباً للصوفية والتنسك فإنه غدا عدواً للتصلب الفقهي المرفه. وهو لم يعدم المدافعين عنه ولا الانتصار في خاتمة المطاف على المناوئين له في الشمال الأفريقي.

كانت انتصارات الآراء المتصلبة الفقهية المذهبية في طور تفسخ الإمبراطورية الإسلامية تجري في البلدان الصحراوية والمتسمة بغلبة البداوة، كالجزيرة العربية وشمال افريقيا، فالقبائل كالمرابطين كانت تهاجم المدن الإسلامية الأكثر تطوراً منها وتفرض عليها أحكاماً شرعية نصوصية باترة، وتقضى على التنوع والاجتهاد والتعددية المذهبية الإسلامية ذاتها.

في حين كانت المناطق الحضارية الأكثر تمدنا تعرف سياقاً مختلفاً في البداية، هو ذلك التعايش بين المذاهب بل والأديان المختلفة، ولهذا كانت المدارس الفكرية الكبرى في هذا العصر تتجه إلى احتضان كافة الاجتهادات المذهبية والدينية.

كانت مدرسة مثل الإسماعيلية تحاول أن تستوعب علوم العصر وكافة الاجتهادات العقلية لمجمل المذاهب من أجل أيجاد شبكة مواقف مترابطة، كما فعل إخوان الصفا في موسوعتهم الفكرية.

لكن هل استطاع الإسماعيليون والمعتزلة وغيرهم أيجاد موقف موحد للمسلمين؟

كانت المشكلة تكمن في محاولة السيطرة من خلال مذهب ديني أو اجتهاد فقهى وحيد، فكل تلك الموسوعية وكل تلك الاجتهادات تغلف في النهاية مذهباً معيناً يُراد فرضه على بقية المذاهب، وعبر هذا الفرض يتم تجاهل مستويات التطور ودرجات التباين والتنوع والاجتهاد لدى الآخرين، وإذا تمت هذه العملية من خلال أدوات الحوار كالكتب، فإن الأمر يغدو حضارياً، أما إذا تم ذلك من خلال العمل السياسي فالحربي، فإن الآخرين يردون بذات الأدوات.

هكذا كانت الصراعات [القومية] والمناطقية والاجتماعية المختلفة، ومصالح الحكام في الأقاليم والمراكز، ومستويات تطور الشعوب الإسلامية، كلها تتوارى وراء اختلافات المذاهب وصراعاتها. وبدأ عصر من دكتاتورية المذاهب والانغلاق.

قامت هذه الصراعات الاجتماعية ذات الأشكال المذهبية بتفتيت الإمبراطورية والدول، وفى النهاية توجهت العملية الى حصيلة المرحلة وتتويجها العقلي وهو العلم والبحث والوحدة والانفتاح.

لقد قادت عملية الصراع السياسي الديني المتداخلة إلى تهديم الدولة كأساس موحد للحضارة، ثم تمزيق الدين نفسه. أي أن التحطيم كان على المستويين السياسي والديني.

كان يُفترض أن تتوجه الاجتهادات الكبيرة للأئمة إلى المزيد من الجهود العقلية لتحرير الدين من سيطرة السياسة والدول، لكن المسار كان معاكساً تماماً، فظهرت الدولة الإسلامية ثم الدول المذهبية الكبرى: السنية العباسية والإمامية الفاطمية والشيعية الحمدانية والفارسية المختلفة ثم أخذت المذاهب الفروعية فى تأسيس دولها، الإباضية في عُمان، والزيدية في اليمن والمغرب الخ . .

 والواقع أن القوى الاجتماعية المهيمنة في كل بلد، ثم في كل منطقة، قامت بتلبيس مصالحها بمذهب ما، وفى ظل انعدام مركز عربي كبير، وتخلف وسائل المواصلات وتدهور الإنتاج الفكري وأدوات التعليم، غدت هذه المتحجرات دولاً وأنظمة ذات صولجان وهيلمان.

ان تخلف السلاطين السياسيين والدينيين والشعوب تمظهر في هذه النصوصية الحرفية وكتب الفتاوى التي تستأصل أي جهد واجتهاد، وتحول المذاهب الى زنازين كبيرة للعقل، وتتحول الى منظومة كبرى تطحن الحياة اليومية في أحكامها الشديدة البطش، بحيث إنه ليس ثمة للعقل أن يفكر خارجها، مثلما يتحول الفرد المسلم إلى أداة صماء للتلقي والضبط، ويظل دائراً في الأسئلة عن الأكل والجلوس والقيام والوضوء واللبس والنكاح، مثل أي بهيمة تُربط في الحقل، لا تسأل عن النجوم والكيمياء وفلسفة الرازي وطب ابن سينا والعلوم، والقصد ألا تتجاوز شيخ القبيلة الأمي، والملا والمطوع، الذين يغدو سقفهم الفكري متدنياً فاتحاً الأبواب لهبوب أعاصير الخرافات.

وفى هذا المستوى لن نستبعد تحريم الكتب والسفور والحريات والفنون الخ… إن التدهور على مستوى إنتاج النص الديني، يتبعه التدهور على مستويات علاقة العقل بالحياة، أو أن كلا المظهرين جزء من عملية متداخلة مدمرة.

يقول أحد القراء الذي يراسلني مقتطعاً إحدى العبارات ربما من مصدر خاص: [هدف العلمانية في العالم الإسلامي: هدف العلمانية الأكبر هو جعل الأمة الإسلامية تابعة للغرب سياسياً وثقافياً وأخلاقياً واقتصادياً، وعزل دين الإسلام عن توجيه حياة المسلمين].

هذا الرأي هو رأي شائع، فيتم تصوير العلمانية كمؤامرة غربية، تستهدف خلق التبعية للغرب، وهذا الكلام غريب، لأن العلمانية ليست أيديولوجية وليست بضاعة فكرية، بل هي نظام سياسي يتم فيه فصل المذاهب والأديان عن النزاعات السياسية.

ويظن بعض السياسيين الدينيين ان العلمانية اتجاه فكري فيقول: [هذا علماني وهؤلاء علمانيون]، فيجمع اتجاهات مختلفة متضادة، فقط لأنها لا تقوم بتسييس الدين.

أما نظام التبعية فتشكله المؤسسات التجارية والمالية الاستغلالية التي تربط بلداً ما بإنتاجها، أما كيف قام القارئ بنقل سمات النظام العلماني إلى النظام الاستعماري، فهو أمر يعود إلى عدم الدقة الفكرية.

فمثلاً نجد النظام العلماني لا يقتصر على الغرب بل هو مطبق في الهند وبعض دول أفريقيا وروسيا، فهو نظام ليس لإشاعة الاستعمار الأوربي، بل للحيلولة دون تفاقم النزاعات الدينية والمذهبية. إذن لا توجد صلة منطقية وسببية بين العلمانية والتبعية، وبالتالي فإن العلمانية ليست نتاجاً استعمارياً، بل هي نظام سياسي جرى تطبيقه في أوروبا الغربية أولاً، بسبب خروجها من القرون الوسطى التي كان الدين فيها يحتل نظاماً كلياً في الحياة، فتجري المعارف والعلوم والمشكلات والتطورات تحت عباءته، ولكن العصر الحديث قام بتفكيك هذه العلاقة، وهذه العملية استفاد منها بشر آخرون في أنحاء الأرض، حيث أدت التطورات الاجتماعية والسياسية إلى مستوى مماثل.

ولهذا فإن العلمانية ليست اتجاهاً سياسياً ما، بل هي نظام سياسي، يتم فيه تقدم الأحزاب على أساس هويتها الاجتماعية، بمعنى ماذا تمثل من فئات وطبقات، وعلى أساس فكرها السياسي وبرامجها، وليس على أساس دينها ومذهبها.

وبالتالي فإن الصراع السياسي يدور حول البرامج والأهداف السياسية والاجتماعية، وتتم عملية التراكم السياسي والمعرفي والمكاسب، حسب قدرة كل حزب على تمثيل أكبر مجموعة من الفئات والشرائح، التي تتجسد في الأصوات.

وهكذا أعطى النظام السياسي الحديث الأديان والمذاهب أكبر فرصة للوحدة والتعاون، مبعداً إياها عن الصراع.

ولهذا فإن التبعية للغرب لا يسببها النظام العلماني بل النظام السياسي التابع حين يربط مؤسساته الاقتصادية ومصادر تمويله وتوزيعه، بالمؤسسات الأجنبية المهيمنة، بحيث تتراكم الفوائض هناك، ولا تنمو هنا في بلاد المسلمين مقدمة الأعمال وعدالة التوزيع الخ..

هكذا يمكن أن نجد [مؤسسات إسلامية] وهى تخدم الاستعمار، لأنها تقوم بسحب الأموال والفوائض ودم المسلمين مرسلة إياه إلى الاحتكارات والشركات والمصارف الغربية بدلاً من أن تحوله إلى حقول ومصانع وسفن للناس هنا.

فالعلمانية لا علاقة لها بالتبعية وقد تكون كنظام سياسي مفيدة أو مضرة للتبعية، فالنظام العلماني الهندي في عهد حزب المؤتمر كان يخدم سياسة وطنية تحررية، في حين أن ذات النظام يخدم حزباً مواليا للغرب ومتعصباً دينياً هندوسياً، فمسألة التبعية تعود إلى سياسة الحزب أو الدولة ولا علاقة لها بالنظام العلماني.

لكن كيف جعل القارئ النظام العلماني ذا علاقة بالتوجهات الفكرية والمضامين السياسية؟ إن ذلك يعود إلى الخلط الفكري واضطراب  المصطلحات وعدم الدقة في التشخيص.

فالنظام العلماني نظام سياسي محايد، يستطيع أن يخدم كافة الاتجاهات السياسية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، فيخدم حزب ديغول وحزب ميتران، وما يشترطه فقط على الحزبين هو عدم الخلط بين السياسة والدين، أي عدم استخدام الدين في أغراض حزبية.

أما مسألة أن العلمانية تهدف إلى إبعاد تأثير الإسلام عن الحياة الاجتماعية، فهو قول لا يستند إلى أدلة أو تاريخ، فنجد ان الغرب العلماني يسمح بشكل واسع للجماعات الدينية والمذهبية المختلفة المتعادية إسلامياً بالتواجد على أراضيه ونشر ما تشاء من دعاية دينية بين اتباعها أو بين الآخرين. في حين ان العكس هو الذي يجري في العديد من بقاع العالم الإسلامي.

هنا يقوم بعض الدينيين بالإخفاء المتعمد لجوهر العلمانية كنظام سياسي يرفض استخدام الأديان في الدعاية والتنظيم السياسي، محولينه بصورة فجة إلى نظام لهدم الأديان.

ومما يقوله القارئ المحاور هذه الفقرة عن أخطار ومصائب العلمانية:

1ـ إقصاء الشريعة الإسلامية ليزول عن المسلمين الشعور بالتميز والاستقلالية، وتتحقق التبعية للغرب.

2 – تفريق العالم الإسلامي ليتسنى للغرب الهيمنة السياسية عليه وذلك بربطه مؤسساته السياسية وأحلافه  العسكرية.

3 – زرع العالم الإسلامي بصناع القرار ورجال الإعلام والثقافة من العلمانيين، ليسمحوا بالغزو الثقافي والأخلاقي أن يصل إلى الأمة الإسلامي برجال من بني جلدتها، ويتكلمون بلسانها.

تبدو هنا العلمانية مرة أخرى كاتجاه فكري غربي استعماري وليس نظاماً سياسياً يفصل الدين عن السياسة، وهذا هو الجوهر الذي يتم التهرب منه دوماً، والهدف من العلمانية هنا هو تقسيم العالم الإسلامي [المتوحد جدا]، ويبدو ان القارئ لا يعيش في ديار الإسلام ولا يسمع بالمجازر التي تجري في باكستان والهند والجزائر والسودان الخ.. بسبب الصراعات المذهبية، في حين أن العلمانية كنظام سياسي سوف تتجنب هذه العملية المدمرة، وتتيح للمؤمنين من شتى المذاهب فرصة اللقاء السياسي والكفاح المشترك الذي فقدوه بسبب نمو الاتجاهات المذهبية المسيسة.

ولا نعرف كيف تقوم العلمانية بتفريق صفوف الدول الإسلامي، فمتى اتحدت هذه وناضلت بشكل مشترك؟

وقد قامت العديد من الدول والحركات الإسلامية بالارتباط بالأحلاف العسكرية الأجنبية، ويكفي الحلف العسكري الذي أقامته المخابرات الأمريكية بين هذه الجماعات الدينية والدول الإسلامية لضرب النظام الأفغاني الذي حاول الخروج عن السيادة الغربية فدمرته تدميرا وشردت شعبه المسلم.

أما رجال ونساء الثقافة والأعلام الموالون للغرب ففيهم الدينيون والليبراليون وغيرهم، ولكن ما علاقة [العلمانية] بهذا؟

فحين يكون الليبرالي علمانياً، يعني أن يؤيد فصل الدين عن السياسة، ولكن يوجد ليبراليون لا يؤيدون هذا الفصل. وقد يكون هؤلاء الليبراليون جميعاً وطنيين معادين لهيمنة الدول الأجنبية.

مرة أخرى يتم عدم معرفة مصطلح العلمانية.

ولعل المقصود هنا من جملة القارئ هي الاتجاهات الحديثة المتحررة التي تشيع قيم الفصل بين الدين والسياسة، ولكنه يقوم بعد أن خلط هذه المفاهيم وهذه الأوراق بجعل هؤلاء عملاء، فأفقدهم الوطنية وحولهم إلى جواسيس.. وجعلهم أدوات للغزو والاحتلال بتمهيدهم السبل الفكرية والثقافية للغزو العسكري. فقط لأنهم طالبوا بفصل الدين عن السياسة!

هكذا تتضخم العلمانية في الخطاب الشعبوي إلى ركيزة من ركائز الاستعمار والهدم والتخريب، دون أن ينظر إلى طابعها الحقيقي باعتبارها نظاماً لتوحيد المسلمين والمسيحيين العرب وغيرهم، باعتبارها أداة للانتقال من مجتمع الطوائف المسيس بالألغام، إلى مجتمع السياسة العقلاني والبرامج والصراع الفكري الاجتماعي وليس الصراع الفكري المذهبي.

أما النشر والدعوة له فذلك ميدان لا يغلق!

وبطبيعة الحال فإن العلمانية كتجديد إسلامي لا تنقطع عن الموروث والحياة الإسلامية، عبر الجسور التي تتشكل للتقريب بين المذاهب، وتطوير التشريع بما يتفق مع المساواة والعدالة، والحفاظ على المصالح القومية للشعوب العربية والإسلامية وتطويرها وتحديثها بشكل مستمر.

أن الجمع بين الجذور العربية والإسلامية وعمليات التحديث الراهنة، هو الأفق المفتوح للأنظمة العلمانية المتوقعة في المنطقة، والتي لن تجري من دون الصراعات مع الاتجاهات المضادة والمتطرفة على الجانبين، جانب الارتداد والتعصب الماضوي المذهبي، وجانب الاغتراب والتغرب وفقدان الجذور وغياب الدفاع عن المصالح القومية.

إن توحيد المسلمين في المرحلة الشائكة الراهنة يتطلب رؤى تراثية عميقة وحداثية تحررية، يتطلب الارتكاز على الماضي والمستقبل معاً، وفي هذه العمليات المركبة يتوه ذوو النظرات الوحيدة والجانبية وينحشرون في غيران الماضي غير مبصرين الفجر الطالع.

سلبياتُ التحديثيين والدينيين

لماذا يختلفُ ويتصارعُ أغلب الدينيين والتحديثيين العرب؟

ثمة منهجياتٌ شكلانيةٌ لدى الطرفين، فرغم تأسيس الإسلام للتحالف الاجتماعي بين التجار والعبيد كتوليفةٍ للتحديث في ذلك الزمن وخليةٍ كبرى للإنسانيةِ الجديدة، إلا أن قوى الأشراف المسلمين التي جاءتْ بعد ذلك لم تواصل التحالف، والأسبابُ تعودُ إلى أن الصاعدين السلم السياسي الاجتماعي غالباً ما يزيحون الفقراءَ، ولهذا يصبحُ هؤلاء بعد ذلك مادةً خاماً للسيطرة والعمل، وقوى متخلفة تزدادُ تدهوراً، فرأينا تفاقمَ العبيد ثم تدهورَ الفلاحين والبدو العاملين فأنهارت الحضارةُ العربيةُ الإسلامية. وفرقٌ كبيرٌ بين أن يكون عبدالله بن مسعود مثقفاً كبيراً وبين سلالةِ العبيد المنتجةِ في سبخ البصرة.

تنحيةُ التحالفِ وإسقاطُ الطبقاتِ العاملة الفقيرة عن ميدانِ الحكم الذي دخلته، هو جزءٌ من حراكِ الأشراف المتصاعد الذي حدث وقتذاك.

ولهذا فإن الثقافات التي ورثها الكثيرون من الدينيين هي من ثمارِ هذه الإزاحة، وغالباً ما يَنظرُ هؤلاء لحدثِ التحالف كأحداثٍ فردية، أو كأشياء عجيبة شخصية لا دلالةَ شرعية وتاريخية لها.

والتنحيةُ الاجتماعيةُ تعقبها تنحياتٌ فكرية وسياسية وفقهية حتى تغيّبَ رمالُ الزمنِ ما هو أساس للتطور الديمقراطي الحقيقي.

لهذا لن يكونَ إصطدامُ الدينيين بالتحديثيين عجيباً.

وغالبُ التحديثيين جاءتْ أفكارُهم من ثمارِ الغرب فهم يجهلون تاريخَ المسلمين، وقد تصورُوهُ كما أبرزه ونشره المحافظون، فهو تاريخُ التخلفِ وإنكار مساهمة الطبقات الشعبية أساس الحكم الديمقراطي الحديث.

هؤلاء التحديثيون قامو بتنحية الديمقراطية كما فعلَ المحافظون المسلمون في إرثهم الديمقراطي، فقد شاركوا في التيارات الشمولية التي ضربتْ التطورَ الديمقراطي الجنيني العربي؛ قلةَ صبرٍ ولجذورٍ دكتاتورية في حياتهم الاجتماعية وثقافتهم.

قيامهم بمعاضدةِ أنظمةِ حكمٍ شمولية، وعدم قدراتهم على تحليلها ونقدها وتجاوزها خلال العقود السابقة، يجعل معارضتهم للدينيين معارضة تنافس على مقاعد وسيطرات لا على تبديل شروط قهر العاملين.

والدينيون الذين عارضوا الأنظمة التحديثية الشمولية عارضوها لكونها(إشتراكية) و(قومية علمانية) كما رفعتْ لافتاتَها الزائفة.

ولماذا لم يتوصلوا لقراءة زيفها؟

لكون قراءاتهم شكلانية جزئية، أخذوا تلك الشعارات الرنانة وصدقوها، فيما كانوا يتعاونون مع أنظمةٍ محافظة مغايرة ويستفيدون من إستغلالها للناس.

على المستويين: تصديقهم للشعارات الزائفة وسيرهم مع أنظمةٍ محافظة ناتجة من ذلك الإخلال بالتحالف بين التجار والعبيد الذي أسسّهُ الإسلام، يعبر عن تطابق وإتحاد بالمضمون بين الفريقين الديني والتحديثي.

فكلا الفريقين الدينيين والتحديثيين الانتهازيين ليسا نتاجَ نضالٍ مع العمال والفقراء بشكل حقيقي.

هم يستثمرون العمالَ ويجعلونهم أدوات للسياسة وركوباً للموجات وقواعد في التنظيمات لا تصل للقمة أبداً.

وهي قراءاتٌ محدودة سطحية يمينية للتاريخ، فالدينيون عزلوا التاريخَ الإسلامي بحلقاتهِ المختلفة، وغيّبوا مضامينه، وركزوا على التبعيةِ لطبقاته العليا.

جوهرتهم للتاريخ الإسلامي وجعله خارج تاريخ الإنسانية وبلا قوانين موضوعية، جعلهم ذاتيين يكرسون مصالحَهم الفئوية، ولا يساهمون بتضحيات من أجل الشعوب والأمم الإسلامية.

والتحديثيون غيّبوا تاريخَ المسلمين بإعتبارهِ تاريخ التخلف، ولم يدرسوه خاصة هؤلاء المُسيسين السطحيين الذين ملأوا الحركات السياسية المعاصرة وليس رواد الحداثة العرب الكبار الأعلام الذين أضاءوا تاريخ العرب.

فيحدث التصادم بين الفريقين لكون الوعي الديمقراطي لم يتكّون في الجهتين، وهو الوعي الذين كان يحتاجُ نضالاً طويلاً في عوالمِ الشموليات المتعددة، ولو قد حدث، ولم ينضم القادةُ والقواعدُ لمصالحِهم الذاتية في أزمنةٍ مختلفة، لكان تقاربهم قد حدثَ في زمنياتِ الشموليات السابقة، ولما تفجرتْ العلاقاتُ بينهم الآن. 

الفريقان لم يتابعا تطور الوعي العربي الديمقراطي في العقود السابقة، ولم يقرأا حتى أمهات الكتب التي درستْ التاريخَ وتطور الأمم الإسلامية والبشرية والتي قام بها روادُ التنوير العربي.

لم يقدما لجماهيرهما ثقافةً ديمقراطية تتأصلُ في التراث والعصر، وأعتمدا على السطوح والجوانب الجزئية وعفوية التاريخ ولحظات السياسية اليومية وعفويتها وإضطرابها، فيصطدمان مع بعضهما وتصطدم جماهير الفئات الوسطى والعمال بتداخل حاد فوضوي بدون أن تعرفَ مصالحَها المشتركة وبدون أن تتوحدَ لتأسيس مجتمعاتٍ ديمقراطية جذوروها في أرض التحالف العربي الإسلامي المؤسّس، وثقافتها الحديثة في برلمانات الغرب المتطورة.

فعمدت هذه الشرائحُ من الفئات الوسطى على جعل مصالحها الذاتية في المقدمة، حيث تجري شكلنة الدين والحداثة، وتضخيمهما لمصالح الأحزاب لا لمصالح الناس.

تاريخُ الإصطدامِ هو تاريخُ الانتقائية والذاتية والتعلق بالقوى العليا العابرة وترك العشوب.

المشترك بين التقدميين والدينيين

يقول أحد النقاد عن العلاقات بين الدينيين والتقدميين في مصر في حقبة الخمسينيات (فلم يكن الفرق بينهما، على المستوى الفكري، بعيداً. ففي الوقت الذي كان كان مندور ينشر مقالاته السياسية والاجتماعية التي تنحو نحو الإصلاح الجذري كان سيد قطب يكتب (العدالة الاجتماعية في الإسلام) وعبدالحميد جودة السحار يكتب عن أبي الغفاري، وكانت هناك أشياء كثيرة مشتركة بين الفريقين)، شكري عياد، المذاهب الأدبية، ص 31.

لا يحلل الكتاب العرب عادة كون منتجي الأفكار السياسية والثقافية هم من الفئات الوسطى، الصغيرة غالباً، والتي عادة ما تطرحُ أفكاراً وسط تيارات شمولية استبدادية، وهي تتقصد تكوين نموذج سياسي مسيطر حاكم.

لم تعرف التيارات حقيقة ولن تعرف على الأقل في المدى القريب مسألة الديمقراطية، ومضمون أي تيار يتضح في نموه السياسي عبر تنامي سيطرته، فحين تتصاعد هذه السيطرة، عبر الانتشار بين الجمهور، عندئذٍ يتكشف مضمونه الاجتماعي المتواري.

ولهذا كانت (ثورة يوليو) في أول عهدها تبشر بقيم ديمقراطية واعدة، لكن حين اشتدت قبضة الضباط الكبار على الحكم، تبخرت هذه الديمقراطية التي كان من الممكن لو تشكلت عبر جبهة وطنية ديمقراطية عريضة أن تقود النظام لتحولات إيجابية تصمد بشكل أكبر وأغنى.

لكن التكتلات السياسية كانت دكتاتورية كلها، فهي جميعاً تشكلت عبر أفكار شمولية سواء لدى الأخوان المسلمين أم الشيوعيين أم الضباط الأحرار، ولهذا فإن ما يلاحظه شكري عياد في الاقتباس المذكور اعلاه، هو أمرٌ يتعلق بالفكر الأدبي، الذي بعدُ لم يصل إلى أن يكتشف مضمونه السياسي، خاصة إن ثيمات الإصلاح، والعدالة في الإسلام، وسيرة الصحابي الجليل أبي ذر، كلها تقع في التجريد الفكري أو في التاريخ، دون أن تـُربط باللحظة السياسية الصراعية وقتذاك، ولهذا كان نضال أبي ذر ضد الدكتاتورية المتصاعدة عند بني سفيان لا تــُربط بتنامي الدكتاتورية عند مجلس قيادة الثورة، ولحظتي المقاومة لدى أبي ذر والسياسيين المصريين المعارضين الذين ستبلعهم آلة الدولة العسكرية الوطنية حينئذٍ، كل منها تنتمي لعصر وظروف، ولكل منهما له سياقه الخاص ولهما المشترك العام كذلك.

وهكذا فإن قوى الفئات الوسطى المبعثرة بين أقصى اليسار كما لدى الشيوعيين وأقصى اليمين كما لدى الأخوان المسلمين، تتفتت من خلال  الانحصار في المقولات (الإيديولوجية) فأولئك الشيوعيون يتجمدون في النقل الستاليني، حيث (يجب الإجهاز على الرجعيين والرأسماليين)، وهو جانبٌ مفيدٌ لدكتاتورية مجلس قيادة الثورة، لكنه مضر للشيوعيين أنفسهم، كما أنه مضر لتطور النضال الديمقراطي، من حيث إن ما يقوم به الضباط الأحرار هو إقامة رأسمالية حكومية بيروقراطية، وليس الاشتراكية كما يتوهمون، وهو شكل دكتاتوري من أشكال الانتقال من الإقطاع إلى الرأسمالية، فتحتفظ بجوانب تقليدية كثيرة، ليس خدمة للإسلام كما يظن الأخوان بل لعدم تغيير جذور النظام الاستبدادي، وولعدم إقامة تحديث متغرب شامل وكاسح على الطريقة الروسية..

وتتيح هذه العملية المزودجة تقوية جهاز الدولة اقتصادياً ومالياً، وهو أمر يتيح له شراء الذمم ونشر الأفكار (المائعة) بديلاً عن التطور الديمقراطي الحقيقي الذي ينبغي السير فيه، وهكذا تنتشر هنا مصطلحات غائمة بهدف تمييع المسار، كشعارات (الاشتراكية) و(لا شرقية ولا غربية) و(منع الصراع الطبقي)..وهي شعارات تلغي الوعي لدى الشيوعيين، ويتحولون إلى ملاحق بالنظام، وهو أمر أوهم حتى الأخوان إن ما يتحقق مصرياً هو اشتراكية تقود إلى القضاء على الإسلام، فيتوجهون لأقصى اليمين ، إلى استعاد السلفية المحافظة وتجد لهذا جسماً مادياً عبر الرجوع أجساداً وجيوباً للجزيرة العربية ونفطها، واستيراد لحظتها الفكرية المحافظة وإعادتها لمصر في زمنٍ تالٍ.

ولهذا نجد انتهازية على الجانبين؛ الشيوعي بتسلقه النظام العسكري وتسلق الأخوان للنظام النفطي، فيحدث ذوبان مشترك لإمكانية التحليل الموضوعي، وكان نضالهما الديمقراطي المشترك وتطوير لحظة محمد نجيب وتشكيل تحالف ديمقراطي واستمراره، هي من المهمات التي تخلى عنها الطرفان في لحظة مصيرية، وكان من الممكن أن تكتب شيئاً تاريخياً مختلفاً.

معايير التقدم عند المسلمين

تستندُ الأديانُ عموماً على مسائلِ الحلال والحرام، وهي جوانبٌ مرتبطةٌ بالقدسية، والقدسيةُ نتاجُ مئاتِ الآلالف من تاريخِ الإنسان، وهي المعارجُ بالنسبةِ للأقدمين للطهر والسعادة الأبدية.

لم يكن بإمكان الإنسان وقد تشكلَّ في بيئةِ المقدس، أن يرى شيئاً آخر، والمقدسُ  قادمٌ من عالمِ الأرواحِ والغيب والسماوات، كانت الروحُ الخارجةُ عن الإنسان الموجودةُ في الإعالي هي التي تصيغُ وجودَهُ العرضيَّ المحدودَ في عالمِ المادة الزائل العابر، وهي بالتالي تحميهِ من الأرواحِ الشريرة والأمراض والفناء.

وكانت الأوامرُ والقراراتُ الدينيةُ تستندُ إلى هذه القدسياتِ المتنوعة لدى الأمم، وهي في وضوحِها وغموضِها كانت (تحاولُ) تقديم حالاتٍ من التطورِ والصحةِ والسلامة للبشر، لكنها تتعالى فوق تجاربِهم التي تتطور بإستمرار، كما أن تلك القرارات تُلقى بصفاتِ الإطلاق وعدم النسبية، وتلتصقُ بتاريخ المؤمنين الروحي المطلق ذاك.

تتأسسُ الأفكارُ والقراراتُ الدينية على ضوءِ مصالح الشعب المعني، ثم تغدو فقهاً أو مذهباً أو شعائرَ أبدية. وتتكرسُ عبر الدولِ ووظائفِها السياسيةِ والدينية والاجتماعية، وتغدو لها إعادات إنتاج، وغالباً ما يحدثُ إنفصامٌ نسبي في العلاقة بين السياسي والديني، لأن الأوضاعَ السياسيةَ تتطلبُ مرونةً، وهي علاقاتٌ مع الدولِ والأممِ الخارجية، وهي حروبٌ وسلامٌ وتجارةٌ، هي حراكٌ يومي ومصائرٌ للناس ساخنة، في حين إن الديني هو قرارات وقراءات فكرية منفصلة عن كل هذا الجيشان السياسي، وهو تأملٌ وقراءةٌ وعلاقة (روحية)، حيث تظل العلاقة بالغيبِ أكبر من العلاقة بالأرض.

وكلما تسارعتْ تطوراتُ أي شعبٍ يحاولُ أن يجدَ العلاقةَ المرنة الباقيةَ الديناميكة بين السياسي والديني، أي أن يفصلَ بينهما في لحظاتِ المخاضِ والتبدلات الكبرى، ولهذا كانت اللوحةُ التاريخيةُ الأوربيةُ مليئةً بالشواهدِ على الانفصال والاتصال، حيث برز الإنفصالُ عنيفاً حين عرقلَ الدينيُّ نموَّ الاقتصادي النهضوي وجمدَّ السياسي التحديثي، وأرادَ أن يحوزَ على المطلق في الأرض بشكلٍ مستمر، في حين أن الأرضَ الأوربية كانت تتشكلُ بصورٍ أخرى، وتنفكُ عن الديني التقليدي.

برزتْ هنا معاييرُ التقدمِ والتخلفِ بصورٍ حادةٍ قاطعة، ودخلت أوربا في حربٍ مع نفسها، أي أن الطبقات دخلتْ في صراعٍ مصيري متضاد كلي، وظهر شعارُ أما الحداثة والتقدم وأما الدين، وفي الثورة الفرنسية عُبدَ (العقلُ)، وأُغلقتْ الكنائسُ، وحُروبتْ الأديانُ وأُعدِم القساوسة.

كان الجانبان في حالةِ تضادٍ عصبية، وتشكلت قبلها حروب دينية خطيرة كارثية، وكانت الكنيسةُ تسيطرُ على الأرض الاقتصادية، والسوقُ بحاجةٍ للأرض، ولقوى عمل الفلاحين الرخيصة.

وفي تاريخ المسلمين لا يحتاج الأمر لكل ذلك، ولإعادةِ التاريخِ الأوربي، فقد ظهرَ الإسلامُ وقادتهُ من التجار، وكان هدف تكوين دولة واسعة تجارية نهضوية متحررة في المضمون الغائر للدين.

وتبدو بعض التحريمات كأنها مطلقات رغم أنها تعبير عن صعوبات ومشكلات مؤقتة، فتحريم الربا كان بهدفِ سحب البساط من اليهود العرب الذين كانوا يهددون الدولة من الناحية السياسية، فهم أقوى ومماثلين للعرب في عاداتِهم وقوتهم، ولم يكونوا من اليهود الشماليين المتحضرين ولهذا كان الصراع شديداً معهم ولكن مسألة الربا تجاوزت زمنيتها لتلتصقَ بالموروثِ الديني الدائم، كما أنها من جهةٍ أخرى تعبير عن معارضة الإستغلال الشديد.

لكن من جهة التطور الزمني هي عرقلةٌ لتنامي علاقات التجارة الحرة التي قادها الإسلام، فيما كان تحريم الخمرة متعلقاً بالانضباط العسكري المفقود لدى البدو المنضمين للدولة الإسلامية في ذلك الحين بأعدادٍ واسعة والذين لم يفد التحريم التدريجي في تحضرهم.

ومسائل مثل توسيع حريات الرجال الجنسية وتضييق ووضع المرأة، كانت ذات جذور إجتماعية طويلة محافظة شديدة، ولكن التشريع حاول أن يقدم الحرية عبر التركيز على نموذج العدالة لدى الرجل الزوج العادل.

هذه المشكلات صارت ثغرات في تطور المسلمين التالي، حيث صاروا القوة النهضوية الكبرى على المسرح البشري لثلاثة قرون، لكن القادة والمفكرين لم يعالجوا تلك الصعوبات التي لم تُحل أثناء التطور السياسي الفكري فكان لها أن تكون إشكالية كبرى في القرون التالية وخاصة على مصير المسلمين الراهن.

 توجه الإسلامُ المؤسسُ إلى تحجيمِ الركائز الكبيرة للهيمنة التقليدية، برز ذلك في وثيقة الثورة (القرآن)، فكلُ العوائق التي ضربتْ الأديانَ السماويةَ السابقةَ كحركاتٍ نضالية وأجهضتها، قام بالتركيز على مواجهتها.

يأتي في عمق ذلك منع تشكل الهيمنة السياسية الحاكمة، وخلق علاقات سياسية مباشرة وديمقراطية شعبية، ثم منع تشكل الهيمنة الدينية فيما عُرف لدى المسيحيين بالأكليروس، عبر خلق فقه بسيط وعدم تعقيد العبادات والمعاملات وبالتالي ضرب المؤسات الوسيطة السياسية والدينية التي تحولُ دون الديمقراطية المباشرة بين المواطن والحاكم، وبين المؤمن والخالق.

مؤسسةٌ أخرى هائلة ضربها القرآنُ وهي مؤسسة الهيمنة الاقتصادية المتمثلة في السيطرة على الأراضي الشاسعة وأموال الفتوح لدى الطبقة الحاكمة بل توزيعها على الجنود والعامة.

كانت أموالُ الفتوحاتِ هي الثروةُ الكبرى في ذلك الحين وهي التي تشكلُ القوى الاجتماعية والتأييد للسلطة، ومن هنا جاءت الدعوةُ للتقاسم الواسع لها بشكلٍ خماسي وبشكلٍ يؤدي لعدم تركز الثروة في أيدٍ مركزية تعيد تحويل الحياة لصالحها.

لكن فيما بعد جاء تفسير جديد للآيةِ وبشكل آخر ليحفظ الخير للأجيال ويجعل ملكيات الفتوح للدولة، ولكن التقسيم القرآني كان يمكن أن يخلقَ تلك السوق الواسعة الحرة عبر وجود الملاك الصغار الكثيرين والذين لن يؤيدوا وجود سلطة مركزية قامعة مهيمنة على الأموال، وربما عبرت ذلك كان يمكن أن تستمر النهضة أبعد من ذلك.

خلافة شفافة، وأملاك صغيرة حرة، وسوق هائلة، ثم تنبيه للذكور المسيطرين على العائلات أن يعدلوا، لكنهم لم يعدلوا.

تخفيف الذكورية المتعالية والسلطة المتجبرة والدعوة للبحث ضمن الفضاء العام للديانات وثوابتها في إعلاءِ الغيب، وتشكيل المنظور القدسي، ولا يأتي التقدم هنا إلا من خلال العباءة الفكرية للماضي بطبيعة الحال.

 لماذا هذا التركيز على الثروةِ وطبيعةِ الحكم وضرورة عدم التمركز في الثروات والعائلات التي تصبح قبائل مسيطرة على النظام الاجتماعي؟

هي قراءةٌ عميقةٌ لأخطاءِ السابقين، وإعطاء هؤلاء العرب البسطاء غير المعقدين بزنزاناتِ الأنظمةِ إمكانية أن يشكلوا نظاماً ديمقراطياً مفتوحاً.

وهم كبدو أحرار كانوا متخلفين ثقافياً وإجتماعياً خاصة تجاه النساء، وتسيطر عليهم علاقاتٌ قبليةٌ ذكورية، ومن هنا فتنامي علاقاتِ الإستغلالِ والأنانية والهيمنة تقودُ لإزالةِ تلك المفاتيح للتقدم الكبيرة التي قُدمت لهم في مرحلتهم التأسيسية.

حافظوا على بعض مرتكزاتها وقادتهم إلى إنجازاتٍ حضارية كبيرة، لكن الوعي السائد يمضي للغيبِ وللقداسة، ولحكمِ الكواكب والنجوم والأقدار، أو للتمركز في النصوص الصغيرة وأحكامها الجزئية، ولا يتم الإلتفات كثيراً لأوضاع الأرض والعلاقات الاقتصادية والاجتماعية.

الآن تجري عملياتُ إستعادةٍ كثيرة للإرث، ولا توجد كنائس كلية السيطرة، إلا في الأوهام الإيديولوجية السياسية التي تكونها القوى السياسية النافذة داخل الدين، التي حولتْ التراجعات عن المفاتيح الكبرى للنهضة إلى سياسات محافظة.

ولهذا نجدُ رجالَ دينٍ كبار يتقدمون بإجتهادات فقهية مقاربة للنهضة، كما يمتنع آيات عظمى في الفقه الشيعي عن التدخل في العمليات السياسية للأحزاب الدينية، كما يظهرُ فقهاءُ متنورون وكتابات كثيرة لتطور الدين والحياة.

وهي أمورٌ تكشف عن أن أفق المسلمين مغاير لأفق المسيحية في القرون الوسطى والتي إحتاجت في تطورها لحروب وخيمة، فالعرب والمسلمون لا ينسخون تجربة الغرب الرائدة في الديمقراطية السياسية والاجتماعية، بل يكونون تجربتهم الخاصة، لأن آفاقهم الدينية مختلفة.

فلماذا إذن نشهد الحروب في العالم الإسلامية والتمزقات الرهيبة وإنفصال البلدان والإقاليم؟

هذا بسبب أن الحركات الدينية لم تأخذ بمفاتيح التقدم في القرآن والتجربة النضالية التأسيسية للمسلمين، وكرستْ جوانب الضعف والتخلف في العصور الوسطى والهيمنات الأنانية المختلفة التي نتجت عن عدم توسيع المنجزات.

وفي إمكان الجمهور والحركات الحديثة والقوى الدينية المستنيرة أن تتلافى ذلك، وتركز على ما هو إيجابي، وتستعيد الإنفتاح وتكون (الإمبراطورية) المفتوحة التجارية الحرة وتزيل الحواجز بين المذاهب والقوميات والطبقات.

وهذا يستند على تطور التجارب الديمقراطية في كل بلد، وهو أمر عسير يحتاج إلى عقود.

لكن رجال الدين ليسوا على غرار رجال الكنيسة ذات الأملاك ويأتي الجانب السلبي من التركيز على عدم تطور العائلة وعدم تغيير علاقات الأرض وعدم إعادة فهم النصوص بشكل واسعة والخوف من إطلاق الحريات العقلية، وهي جوانب يمكن تغييرها بما يتجاوز التجربة الغربية.

التقدميون والأديان

كل الشعوب لها مبادئ مرتبطة بجذور تعود لمائة ألف سنة من التاريخ المنظور، وأبعد بكثير من ذلك.

 هي تمثل أوضاع الإنسان الضعيف الحائر والمتنامي القوة كذلك في مجابهة قوى الطبيعة والحرمان والموت وهي تشكيلات من الأفكار والمبادئ موزعة في كل القارات وأقطار الإنسان، وقد صعدت في حمى السياسة العالمية الراهنة وعولمة الأمم وتداخلها، أكثر بكثير مما جرى في العصور السابقة.

هي مبادئٌ لو قورنت فإنها متباينة شديدة التباين مختلفة كثيرة الأختلاف، وهي مع هذا مقدسة لدى كل من يؤمنُ بها، وتقوم الحروب على شعرة تـُفسر على أنحاء مختلفة منها.

وجماعات التحديثيين المنتشرة بين كل أقطار الأرض والأمم لا تؤمن بهذا التنوعَ الغيبي، بطقوسه الحرفية، ولكن بدلالاته التاريخية، ومراميه الإنسانية الخالدة، وتؤمن بأن هذه هي جذور البشر في تاريخهم المديد الصعب والطويل.

وهذا الوعي النضالي التحديثي يكن الأحترام كذلك لهذا التنوع والفرادة في كل تراث، ويعمل لعدم تحوله إلى أدوات للحروب والأستغلال والشر، بل للخير والتعاون ولإحترام تقاليد كل شعب.

ورغم عدم الإيمان الغيبي الحرفي فإن الأحترام والدفاع عن هذه المقدسات وتقاليد المؤمنين، هي ضرورة، لأنها ميراثٌ يعبرُ عن ضرورات تاريخية وكيانات شعوب وجذور أمم وتجارب نضالية كبرى، وهذه الأمم التي مرت بكل هذه المسارات الدينية المختلفة لا بد أن تصل للتعاون الخلاق بينها، وتشكل اقتصاديات مفيدة للجميع، بدلاً من مواصلة مواريث الماضي من التخاصم والنزاعات.

كل دين ومذهب وفلكور شعبي وتقاليد تبدو مرفوضة ومدعاة للاحتقار في نظر شعوب أخرى، لكنها لجماعاتِها تظلُ مقدسة.

فلا يوجد هناك نظرٌ ديني أو عصري واعتقادٌ هو فوق الجميع ويجب أن يفرض عليهم، وعلى الناس الخضوع له، ولا توجد فكرة يجب أن تسود على الجميع، فكل الأفكار والأديان موقرة وذات أهمية ومكانة سامية، لكن بين أهلها وجماعاتها، كما أن الشعوب الأخرى تتأثر بما هو طيب وخلاق فيها.

لقد تقدمت القوى المحافظة على مدى التاريخ لكي تجعلَ الأديانَ أقنعة فوق وجوهها لكل تستغل الناس، وتجلبَ ثمارَ العمل لحياتها، وسواء كان ذلك طبقاً لرجلِ دين بوذي فقير مسالم أم خزائن لرجل دين سماوي كدس الملايين، ومن هنا إستماتتها لكي لا يجري فصل الدين عن الحكم والذهب والخيرات.

الروحانيون حين توحدوا مع السلطات فقدوا روحانيتهم، وكلما ازدادت هذه المادية لديهم فقدتْ (شعوبهم) تطورها وسموها ودخلت في معارك المادة، تتعاركُ على من يسيطر على المصانع والمتاجر والأراضي، ومن هو الأقرب لقرارات الأرباح، ومن يقمع العمال إذا طالبوا بحقوقهم، ومن هو له الأنصبة الكبيرة من الرواتب الحكومية والمعاشات التقاعدية.

أن الخطرَ يحدقُ بالأديان، وفيما كانت هي مصدرُ سمو وتقدم تغدو مصدرَ تقسيمٍ وصراعاتٍ دنيويةٍ مبتذلة، ويوجه البعضُ انتقاداته للأديان باعتبارها كوارث على الإنسانية، من خلال أفكار غير تاريخية وغير موضوعية، ويقدم الكثيرُ من الدينيين مادة وفيرة لذلك، ولقد انتموا للأديان ولكن كم من منهم  واصل نضال الأنبياء وتضحياتهم؟!

إن نضالات الأنبياء تستمر بضعة عقود ولا تستطيع المراحل التاريخية والنخب السياسية والجماهير البسيطة أن تواصل تلك التضحيات، وتلك المآثر، إنهم طلائعٌ وإشارات للبشر في تطورهم المعقد، ولكل مرحلة وتاريخ إمكانية الاستفادة والتأثر والتوظيف حسب الطاقات والإمكانيات والقراءات المختلفة.

تأتي دولٌ وقوى وتنسخ تلك الوصايا والنضالات، وفيما هم يعيشون في بحبوحةٍ من العيش على حساب الغير يتكلمون عن القداسة والنبوات وعدم التفريط بشعرةٍ من الدين؟!

لماذا؟ لأن الدينَ صارَ من الغموض وتعدد الوجوه في مناخهم السياسي بحيث لا يعري ما يملكونه من مليارات لم تأتِ من عرقهم!

ولهذا فإن المناضلين المعاصرين لا يريدون توظيف الأديان في العمل السياسي، ولا المتاجرة بنصوصها، ولا يريدون تركيب قصصها وتضحياتها ومُثـُلها فوق مادتهم المتواضعة الراهنة ذات الظروف المختلفة، ولا أن يستخدموا جملها المقطوعة من سياقاتها في تكتيكاتهم السياسية، وأن يفبركوا دعاية إنتخابية من نصوص الكتب المقدسة.

وحين يفشلون ويخدعون ويزورون، يستندون إلى نصوص أخرى، فيبررون فشلهم في التخلي عن أهداف الجماهير التي رفعوها بقوة بحجج أخرى!

إن التحديثيين والتقدميين ليسوا متنصلين من ذلك التاريخ الديني ولكنهم ليسوا مخادعين به، ومتاجرين بقيمه، وكل منهم يُحاكم من خلال برنامجه السياسي، ومدى قدرته على تطبيقه ومدى فشله فيه، إنهم يعملون لاسترداد الغنم الضائعة والموارد العامة المُستغلة المتوارية داخل العالم الضبابي في سيطرات الدول والجيوش، أما البيت فله رب يحيمه!

التقدميون ومهمات إسلامية كبيرة

لقد القى التاريخ على التقدميين مهمات توحيد كل شعب ومهمات توحيد الأمة.

وهو ليس إلقاءً قدرياً بل هو اختيار أهلته أفكارهم المشعة النافذة إلى غور المشكلات وعقد الطبقات، فإذا توانوا ضاعت مصائر الشعوب!

فإن البوصلة التي تشكلت لديهم خلال العقود الكثيرة الدموية السابقة، الملأى بالتضحيات الجسام، لا يجب أن تصدأ وأن يغمرها غبارُ الكسل والخوف وحب الأنا الضيق المحدود، فالأنا لا تتجلى إلا في مصهر الشعوب   وعظم التضحيات!

إن هذه البوصلة الثمينة التي شكلوها من الصخور القائمة على النظر الموضوعي ومعرفة مفاصل المشكلات بلا أنانية لطائفة أو عبودية لحكومة، هي التي تحدد جهات تطور أي شعب، ونمو إرادات الأمة العربية.

ولهذا فإن دورهم في تطوير وعي المسلمين هو حجر الزاوية في هذا الزمن، أي تطوير وعي المسلمين المذهبيين بكون الإسلام ثورة في زمنه الأول، وأنهم يعيشون بإعلامهم الديني الراهن ثقافة الثورة المضادة. ثقافة تمزيق المسلمين.

ولا تتأى الوحدة دون خلق المشترك الذي يقوم على نقد الفكر المحافظ الذكوري الاستبدادي، والحكومي المتعالي، وثقافة الخرافة.

إن المساواة بين الرجال والنساء، وديمقراطية الحكم، وعقلانية الثقافة، هي التحديات الثلاثة الكبرى التي تواجهكم لتشكلوا ثقافة سياسية بديلة، تتوجه لهذه الروافد الثلاثة وتحفر في داخلها حفراً علمياً موضوعياً، وسياسياً عملياً كذلك.

أنها المعيار الصارم الذي لا بد أن يتحول إلى سيوف باترة لأي تردد أو جبن، وأن يتحول إلى أدوات تحليل تضع الحلول لتلك المعضلات الثلاث.

أي أن قراءة وتطوير للأحكام الشرعية تجاه مساواة النساء بالرجال يتطلب ثورة تفكيرية لديكم على أصعدة مختلفة، عبر الغوص في الفقه ورؤية نضالات الأئمة واجتهادات المصلحين في التقارب بين الجنسين، والذي لم يتم بشكل كامل لظروف موضوعية لا يزال العديد منها جارياً اليوم كذلك.

في البناء الاجتماعي الأسري خاصة تكمن عقدة المحافظين الكبرى، وهو بناء متوارث استمر لآلاف السنين، فلا بد أن يجري تطويره برفق وبما يحافظ على بناء الأسرة وعدم الانحلال وكذلك على تحديثها وديمقراطيتها، وهي اهداف صعبة ولكن لا بد من الحلول العملية المركبة لها.

وفيما يتعلق بديمقراطية الحكم فلا يجب الارتهان للمشروعات السياسية المؤقتة للطبقات الحاكمة، بل رؤية البرنامج الأساسي للعصر، وهو النظام الرأسمالي الديمقراطي السائد، حيث أن الحديث عن نظام اشتراكي هو من قبيل الأحلام، على الأقل في زمننا العربي الراهن.

هناك توجهان سوف ينبثقان من التقدميين أنفسهم؛ توجهٌ للسير مع البرجوازية التي سوف تتشكل في مخاض معقد، وتوجه مع الطبقة العاملة. وهذان التوجهان لا يخصان فقط التقدميين بل يخصان كافة الطبقات القريبة من العمال.

فنحن مع تحول الفئات الوسطى لطبقة وسطى، حيث هي لا تزال طبقة مشتتة على صعيد وسائل الإنتاج وعلى صعيد الثقافة. وهذا الحراك يدفع الكثيرين للدخول في مشروعات الرأسمالية، وهذا جانبٌ إيجابي، لكن بحيث لا تقوم هذه الطموحات الفردية بتغييب دور القوة التقدمية في دفع الفئات الوسطى للتجمع والتحول لطبقة برجوازية قائدة لعملية الانتقال من المجتمع الإقطاعي إلى المجتمع الرأسمالي الديمقراطي، ولا بتغييب استقلالية العمال الفكرية والتنظيمية.

وتظل علاقة التقدميين بالعمال محورية وباقية بطبيعة الحال، لأنها هي التي تمثل هيكلية وجودهم السياسي.

البرامج الإسلامية للحركات التقدمية

فيما تكرست الحركات الدينية لتكون هي صراعاتُ الأغنياء على السلطة والمال العام، ظهرت الحركاتُ التقدمية لتعيد السلطة والمال  للأغلبيات الشعبية.

وأظهرت الأولى نفسها كالحارسة الأمينة على التراث، وأُظهرت الثانية كعدوة تجاهه ومزيلة له!

وقد توجت الحركة الإسلامية التأسيسية نشاطها السياسي  بهدف محوري بأن لا تكون ثمة دولة للإغنياء بين المسلمين، لما يترتب عليها من جبروت، ومن نظام يزيل الإيجابيات المحققة من حرية وكرامة وتوزيع عام للخيرات المادية.

وكان التخوف من نشؤ دولة (فرعونية) مبثوثاً بقوة في ذلك الإرث، فهي تؤدي رغم الإنجازات العابرة إلى عبودية دائمة وإنهيار شامل للاستقلال العقلي والحرية الفردية والقانون.

وضعٌ مثل ذلك كان سوف يعلي قيم الحداثة من عقلانية وديمقراطية، لكن ذلك لم يتحقق لأن دولَ الأغنياء نشأتْ واستمرت ليومنا هذا.

ولهذا يجد التقدميون أنهم يعملون لتلك الغايات المطموسة خلال ألف سنة، ولم تستطع الاستعادات للخلفاء الوامضين في تاريخ دول الأغنياء المتسلطة كعمر بن عبدالعزيز ويزيد الناقص وغيرهما أن تستعيد ذلك الإرث، لكون الزمن رسخ دولة الأغنياء الأموية، ثم ازدادت رسوخاً بظهور دول أخرى كثيرة، وكانت تلك الاستعادات تبدو بشكلٍ مثالي، بالعودة إلى (زهد) الخلافة، والعدالة القانونية، ومساعدة الضعفاء وغيرها من وسائل مفصولة عن قواعد الإنتاج، والتي تغلغلت في الحركات الدينية المعارضة لهذا النظام بأشكال سلبية عبر اللجؤ للعزلة والتصوف، وإقامة دويلات خارج النظام العام، زادت الوضع سؤاً.

لم يقرأ المعارضون والمماثلون الطائفيون إن القضية هي في تغيير قوى الأغلبية التي صارت محبوسة بالفقر والعبودية والقهر الثقافي، والعزلة عن الأجهزة الحاكمة ومسؤليات النظام العام.

إن المال العام الذي أُخذ منها جعلها تفتقد تلك الميزات من عقلانية وديمقراطية، في الحياة العامة وداخل حياتها الخاصة، فخلق المالُ العامُ (المسروق) ظلمَ الأغلبية النسائية والفلاحين وجير العقول لمصالح الدول.

وقد وعى بعضُ رواد النهضة الإسلامية في العصر الحديث جوانب من تلك المفارقات في التاريخين الإسلاميين المؤسس والوسيط، فأيدوا ظهور الحريات الفردية وبعض جوانب الحداثة والديمقراطية، وقد تدفقت بعضُ هذه الحريات بقوة في العصر الحديث في ظل نمو ليبرالية تجارية عربية، وتوجهات غربية للاستيلاء على الأسواق الداخلية.

وكان من شأن ذلك حدوث حريات ثقافية وسياسية بدون جذور كبيرة في الاقتصاد، فاستمرت الأغلبية من نساء ومزارعين في سطوات الإقطاع المختلفة، بل حدث تدهور هائل في نظام حرفي ونظام زراعي قديمين، وجاءتْ دولُ العسكر والحركات الوطنية لتحدث بعض التحول في الملكية العامة، لكن قوى العسكر العليا إعادت مضامين دول الأسر القديمة، وتحول الضباط إلى خلفاء!

وكما تستورد الأممُ الإسلامية الأشكالَ المفرَّغة من المضامين من الغرب، تستعيدُ الأشكالَ المفرغة من المحتوى من الشرق التراثي، في أنظمة متجهة لفوضوية ليبرالية، وطائفيات محمومة، والمال العام غدا ملكيات عامة منخورة، رغم إنه صار وسائل إنتاج عصرية للنفط والغاز والطيران الخ، وأراض واسعة ضمن مخططات البيع والهدايا والتصحر.

ولهذا فإن نمو الحريات عامل إيجابي، وتصاعد الملكيات الفردية الإنتاجية عامل هام آخر، ولكن لابد من القطع بينهما وبين المال العام، وجعل الثروة تتوجه نحو الأغلبية.

أغلب التوجهات السياسية تتوجه لتكريس دول الأغنياء، على حطام المال العام، أو عبر الاستيرادات والتصديرات لرأس المال الأجنبي، ولهذا فهي ترى التراث الديني بشكل شكلاني، وعبر مصالحها الراهنة المكرسة لذات الأنماط من الدول القديمة.

إن الاشتراكية الديمقراطية الراهنة العالمية تتركز في حماية المال العام، وتطوير القوى الإنتاجية المشتركة في كل بلد، ومنع فرض أي دين أو أيديولوجية، وعدم الوقوف ضد التملك الفردي المنتج، وإستيعابه ضمن خطط الاستقلال الاقتصادي والنهضة القومية.

إن خيار منع دول الأغنياء غير ممكن في هذه العقود، ولكن كبح تطرفها للمصالح الخاصة فقط، وعدم رؤيتها لمصالح الأغلبية، أمور غدت تفرض نفسها بقوة على كل دول العالم خاصة في الدول الرأسمالية الغربية الكبرى، قائدة الحداثة في هذا العصر، وغدت تحالفات الأحزاب التقدمية والنقابات وقوى أرباب العمل الديمقراطيين، تفرض نفسها وتشكل حكومات تضع نصب أعينها تلك المصالح للأغلبية المهدورة في عالم من التكالب على أجور العمال وشطف الأرباح بشكل هائل، ونخر المصالح العامة.

إن سيطرات طويلة لدول الأغنياء على مسرح المسلمين التاريخي لا يمكن أن تزول بسهولة، وقد جذرت ثقافة إغتراب عن مضمون ذلك التاريخ، وكرست طوائفية ورؤى غير عقلانية، وأرهابيات كثيرة، تعبيرات عن مصالح خاصة مرضية، وتشبثات حادة بالكراسي، ومقاومة ذلك على مستوى الإرث ومستوى الصراعات السياسية الراهنة، عمليات معقدة ولكنها غدت ممكنة.

العقلانية الدينية والديمقراطية

مثلما يناضل الاشتراكيون الديمقراطيون من أجل برجوازية ديقراطية في الشرق والعالم الإسلامي خاصة، فإنهم يناضلون من أجل الايمان العقلاني.

إن أشكال السحر والغيبيات غير العقلانية والاعتماد على الحظ والعيش في أشكال الشعوذة والخوارق المعيقة للتطور الديمقراطي هي كذلك مضرة بالايمان الديني الخلاق مثلما هي مضرة بالوعي الاشتراكي الديمقراطي.

لم يستطع الفلاسفة المسلمون إيجاد أرضية ديمقراطية على المستويين الاجتماعي والفكري، فلم يستطيعوا إنشاء تصورات عقلانية عن الإلوهية في ظل كون ومجتمعات سائرة عبر القوانين والسببيات.

كان هذا بحاجة للسيطرة على التاريخ المنفلت من بين الأيدي، وبحاجة لسلطات عقلانية عادلة توجه الموارد للتطور العام.

وجود سلطاتٍ ديمقراطية متنامية حالياً في العالم الإسلامي يتطلب نشوء ثقافات عقلانية توسع مدارك الجماهير وتدخلها في العالم الصناعي المتطور، فكلٌ يسيرُ بالأسباب والقوانين، من السيطرة على الأمراض والتخلف وبور الزراعة وحتى مقاومة بؤس الثقافة العربية الجماهيرية وكل هذا يستلزم معرفة أسبابها وطرق تغييرها.

إن إنهيار الزراعة ليس قدراً بل هو ظاهرة ذات أسباب إقتصادية وإجتماعية، وهي جزء من ظاهرة أكبر في تخلف الأرياف وتخلف العوالم العربية وتصاعد العلوم والصناعة والهيمنة في الغرب.

إن إنهيار الزراعة وضعف الأرياف العربية وتدهور حالات المنتجين وهجرتهم للمدن والخارج، وضعف الصناعة البديل الغائب لها، هي أسبابٌ ونتائجٌ في هيمنةِ وعي الحظوظ والقدرية والثقافة الجماهيرية التابعة، فهي تلقي الأسباب على الخارج والأوهام وأحياناً تبرر عجزها وكسلها بما هو مقدس، فيما أن الأوضاع لها سببيات تم تجاهلها وعدم العمل من أجل تغييرها، حتى غدا الجمهور العربي وليد الحظوظ والغربة والهجرات والتكدس في المدن وإنتظار المخلصين.

 يقول مرشح للرئاسة في مصر بأنه الله إستجاب لدعائه بسقوط الرئيس السابق، وهذا وعي سياسي مضلل، لأن سقوط الرئيس السابق هو نتاج تدهور البناء الاجتماعي، وسيطرة الأجهزة والبيروقراطية الحكومية على الأموال العامة وعلى حركة الاقتصاد، وثورة الشعب جاءت لتغير ذلك، ولكن المرشح لرئاسة الجمهورية من قبل الأخوان المسلمين يجعل سقوط النظام السابق أسطورياً، ولكن دون معرفة سببيات السقوط وتجنبها سوف تتكرر المشكلات.

إن ربط الواقع وقضاياه بأسباب خارجية هو شكل من رفض العقلانية الدينية وكون العالم له سببياته وقوانينه، وسببيات تغيير الواقع مرصودة بشكل عقلاني قرآني، وتطورُ قراءتَها العقلانيةُ الحديثة، وتضع الخطط لتغيير البناء الاجتماعي الذي أدى إلى ما أدى إليه.

ربط الدينين المحافظين التحولات بسببيات خيالية هو جزءٌ من التراث الفقهي القديم الذي رفض الفلسفة وفهم السببيات العميقة للوجود والأنظمة، فالدولُ التي أهدرتْ الأملاكَ العامة وأنتجت ضياعاً هي ذاتها التي شجعت فقهاً يرتبط بالقدر والحظوظ والصدف، وأفكارُ مرشح رئاسة الجمهورية المصرية جزءٌ من هذا الإرث، وتغييباً للتحالفات السياسية والاجتماعية القادرة على إنتشال البلدان العربية من أزماتها، وهي دعوة كذلك لقيام فصيل واحد بالهيمنة على النفوذ السياسي العام.

إن تدهور أحوال الفلاحين لم تكن صدفاً بل كانت نتاج سياسات زراعية لمصلحة القوى العليا والسلطات غاب عنها الإصلاحُ الزراعي مثلما دهورت الخلافةُ العباسيةُ الزراعةَ وحشدتْ المغولَ والسلاجقة والخوارج والأقوام الرعوية لدك المدنِ الإسلامية وسلبها ونشرت وعي الحظوظ والبركة والاعتماد على النجوم، وهي نفسها التي تجعل وعي الجماعات الدينية مشوشاً ميراثاً ووجوداً حاضراً لا يقرأ الريف.

بدون تحالف سياسي بين القوى السياسية اليسارية واليمينية لبرامج مشتركة في تغيير المجتمعات، وبدون وعي عقلاني مادي يقرأ الخرائط الاقتصادية والاجتماعية للتدهور وللبناء، وتتحالف معه القوى الدينية تاركة الخطابات السطحية متجهة للاستفادة من الوعي العصري، بدون ذلك سوف تكرر القوى الحاكمة الدينية الجديدة مآسي القوى المتفردة السابقة بمناهجها الحادة الباترة للآخر، وهيمنتها على الحكم والاقتصاد، ونظرتها الوحيدة التي لم تقبل بالتعددية.

ما تشير إليه القدرية وندرة الدينيين العقلانيين القيادين في المؤسسات والأحزاب الكبرى إن منهج القوى اليمينية المتفردة بالحكم والمصالح العامة سيكون هو كذلك تضييع للسببيات الحقيقية للتدهور الاقتصادي وبدلاً من بيروقراطية القطاعات العامة التي تحكمت خلال العقود السابقة وسببت هذه الأزمات العامة، سنجدُ تحكم قطاعات خاصة متفردة تقود لأسواق مضطربة وأزمات إقتصادية وسياسية عاصفة، ولن تكون في بلد واحد بل سوف تتغلغل في المنظومة العربية كلها. ونرى أن المنظومة العربية تتكون لكن من خلال القوى المالية الحكومية والخاصة من بلدان الخليج حتى مصر في تشكيلات تتسمُ بإقتصاد السوق غير المخطط له، وغير الداعم للقوى الاقتصادية المتوسطة والصغيرة الصناعية والزراعية الحرة والعمالية والمتسم بمناخ ديني محافظ والمعرقل للثورة الصناعية التقنية في العائلة العربية والمركز على الأشكال الربحية السريعة والطفيلية.

ويتجسد هذا في قوى دينية تريد دساتير على مستوى قاماتها السياسية وفي مناخ تفرض فيه حركتها المتفردة في القرار العام في كل بلد، بغض النظر عما تؤدي له هذه التصورات من فوضى سياسية وإجتماعية وتصادم بين البلدان.

تحدياتُ الحداثة في الوعي الديني

تواجه الأمة العربية وهي تعود لإرثها وبناها الاجتماعية مرة إشكالية الحداثة من خلال الوعي الديني المسيس، فهل يتخلى هذا الوعي عن الشمولية التي مشت بها كل التيارات السابقة وقادتنا لكوارث وموقف متجمد أم تكون له نقلته ويقبل بالحداثة الديمقراطية؟

قمة الصراع السياسي في العالم هو الصراع بين الليبرالية والاشتراكية الديمقراطية وهو الصراع الجدلي الخلاق، أم غيره فهو إرتدادٌ للوراء.

فليس ممكناً التطور دون المصانع، وأي مصنع يلزمه ملاكٌ وعمال، وقد أضر بنا ذلك التداخل بين الدولِ المالكة والمصانع، وضاعت الأرباحُ والأملاكُ العامة.

الصراع بين ملاك المصانع والعمال هو الصراع التعاوني الذي أنتج الفكرتين السياسيتين الكبيرتين، فيما كان أختفاؤهما سبب للشموليات المختلفة وللكوارث التي تتالى في الأمة العربية منذ تحرك تونس وتتويج ذلك في سوريا حين صار البعث هو مالك المصانع والثروة فيما العمال يعيشون تحت خط الفقر، وغياب الحريات الديمقراطية والصراع الجدلي بين أرباب العمل والعمال، وكان الصراع بين الليبرالية والاشتراكية الديمقراطية هو كان الضامن لتطور الانجازات الديمقراطية والثروة الوطنية.

فصار البعثُ يصارعُ الشعبَ كله فخسرَ الناسُ أرواحَهم وثروتهم معاً.

ولهذا فإن نموذج البعث الديني وصراعه ضد الحداثة والعلمانية وغياب صيغة الصراع بين الليبرالية والاشتراكية الديمقراطية يغدو تكراراً رهيباً آخر.

أمامنا النموذجان الهندي والصيني في كيفية التعامل مع الحداثة والديمقراطية، ففيما قبلت الصين النموذج الشمولي ومنعت التنوع والصراع الجدلي بين الليبرالية والاشتراكية الديمقراطية، فتعيش الآن ضمن ألغام كبرى سياسية غير قادرة على نزعها، قامت التجربة الهندية على التعاون الصراعي بين الجانبين الفكرين السياسيين للعصر، وأكدت ثورتها الصناعية والعلمية من خلال هذا التنافس، وتباينت الحكوماتُ الإقليمية والمركزية في أشكالِ وجودِها بين حكوماتٍ ليبرالية وحكوماتٍ إشتراكية تعمل في إطار وطني متعدد ومتطور، ولا توجد الملكية العامة المنخورة سياسياً وغير المراقبة كما هو حال الصين.

لكن الصين أمام ضخامة مشكلات الفقر والعمالة العاطلة وإنجاراته الكبيرة كذلك في النمو الاقتصادي كانت تتخلص بصعوبات جمة من الفهم الإيديولوجي الضيق لماركسية غير ديمقراطية غدت متحجرة فيها، وتتوجه لإعطاء هونغ كونغ حرية إختيار نظامها الخاص، فيما الرأسمالية البيروقراطية تشل الأجهزة الحكومية فيها عن التطور الديمقراطي في الصين الأكبر.

تسمح الأشكال الحديثة لمختلف القوى الاجتماعية بالتعبير عن نفسها وتطور مختلف أشكال الاقتصاد، وتسمح لمختلف أنواع الأديان والمذاهب بالتعايش معاً، وأثراء أبحاثها وتقاليدها بحرية كاملة.

فتعدد أشكال الملكية ووجود سلطات منتخبة متوجهة للقضايا الاقتصادية التحولية هو المهمة الرئيسية للحكومات العربية، فيما القضايا الفكرية والدينية من إختصاص القوى المدنية.

إثارة الصراعات المذهبية والفكرية في شعوب صغيرة ذات أسواق متواضعة تعيشُ أزماتِ التحولِ المختلفة، تؤدي لمزيد من تسول هذه الأنظمة للمساعدات، فيما تمثل الهند والصين عملاقة كبيرة من حيث السكان وضخامة الأسواق ومع هذا تبحث عن مصالحها وطرق تطورها الاقتصادية بدرجة أساسية خاصة الصين التي تحاول الخروج من مأزق الشمولية ولا تدري كيف وهو مأزق قد يفجرُ أزمةً شعبية في الصين أخطر بكثير من أزمة سوريا تحت حكم البعث، فهناك أكثر من 600 مليون عاطل وقضايا خطيرة كالفقر وصراع القوميات والأديان والمناطق.

وقد عانت روسيا ولا تزال تعاني حتى الآن من رفض نموذج الليبرالية والاشتراكية الديمقراطية التعاوني الصراعي، فأوجدت إشتراكية متصلبة ثم تخلت عنها نحو نظام غامض لا هو إشتراكي ولا هو ليبرالي حر. وهي ذاتها تعيش المأزق السوري نفسه، في دولة هائلة والانفجار خرابٌ كبير فيها.

فيفترض في الأنظمة العربية الجديدة والقديمة كذلك الانتقال لهذا النموذج بدلاً تحويل النموذج الديني لشمولية كما فعلت روسيا والصين وسوريا، لكن لا يوجد ما يبرهن بأن هذه التجربة يمكن أن تزدهر عربياً في السنوات القادمة.

فروق عجيبة

ثمة فرقٌ كبيرٌ بين رجل الدين البوذي ورجل الدين المدعي بالإسلام، ذاك يعيش في غابة أو عزلة، وهذا يعيش في العاصمة بين الحكام والعبيد!

هذا البوذي يكتفي بطبقِ أرزٍ صغيرٍ أو بمعوناتٍ محدودة من المؤمنين، وهذا يعيش في فيلا أو منزل كبير، بين الخدم والحشم!

ذاك البوذي عاش بين جمهوريات كبرى يدعو للحكمة والتخلي عن الأموال والجواري والضياع وعدم قتل الحيوانات والبعد عن السياسة، وهذا مؤيد لسفك الدماء والتدخل في كل ساعة في شؤون السياسة ويطمح أخيراً في جعل إتباعه حكاماً وسلاطين وقتلة في الشوارع ومتدخلين في الضمائر ومتسائلين عن الإيمان والكفر!

 وفي حين ترك البوذي الديني السياسيين يشكلون  نهضات كبرى هائلة في الشرق، حقق هذا المتاجرُ بالإسلام الكوارثَ والتمزقات لبلدان المسلمين وحروبَ العصابات وتخريب المدن وتضييع الميزانيات وحروب البلدان ويحرق الإطارات في الشوراع لينشر السرطان والأوبئة بين المسلمين والسكان؟!

انظروا لحال الصين التي يعيش فيها مليار وثلاث مائة إنسان وحققت نهضة كبرى وصناعات وتغزو الغرب ببضائع القماش والدمى والسيارات، وهذا الذي يغزو الغرب بالطائرات التي تضربُ الأبراجَ الإقتصادية ويفخخ نفسه ويقتل الأبرياء ويضع المتفجرات في المطارات والطائرات ويصنع القنابل الذرية لكي يدمر بلدانه ويسحب الدم الأخير من فقرائه!

جاء هؤلاء بجراثيهم ينشرونها في الجو ويبشرون المساكين بالحلول النهائية لمشكلات الفقر والبطالة والفساد والكفر وجنوح النساء للرذيلة ولمشكلات الرقص والغناء واللعب على السواحل وشرب البيرة والغناء وغياب الحجاب وكثرة الإختلاط وغير هذا من مشكلات يبتكرونها نظراً لرعبهم من الحداثة وعجزهم عن التطور الإنساني، وخوفهم الأسطوري من النساء.

رجلُ الدين البوذي لا يخاف من النساء ولا من الجوع ولا من البطالة ولا من الحكومات، ويمشي بسيطاً في شوراع المدن، ليرفع طبقه من أجل كمية بسيطة من الأرز، ومستعد أن يحرق نفسه إذا أعتدت الحكومات الأجنبية على شعبه المسالم، وهي تضحية رهيبة  لا تصيب الآخرين بسؤ!

وهي أعمالٌ نادرةٌ قاسية رهيبة أتخذها الرهبانُ البوذيون في حربِ فيتنام وقنابل الأمريكان تنهمرُ على المدن! وأي إحتجاج كبير كان بالنفس؟!

 أنظرْ إلى رجل الدين البوذي هذا لا يَصعقُ الناسَ بأصواتهِ الحادة المزعجة، ولا يستخدم الآلات للبطش بالبشر وفرض كلامه، ولا يتصور أن الناس سوف تنحرف عن الدين في كل لحظة ولا يضربهم بسوطه، في حين أنظرْ إلى هذا المتاجر بدينك العظيم السمح كيف حولهُ إلى زنزانةٍ يسجنُ فيها العبادَ والبلاد؟!

ذلك لا يتاجرُ بالدين فأزدهرتْ بلادهُ، وتعاظمتْ خيراتهُ، وتعملقتْ شعوبهُ، وهو لا يملكُ لا نفطاً ولا ذهباً، حررَ النساءَ والشبابَ من سلاسله، وشعوبهُ بمئات الملايين، وهذا لديهِ النفطُ والذهبُ وقلة من السكان في بلدان واسعة ملآى بالأنهار والغابات والبحار، ولكنه عاشَ في خراب دائم، وحروب لا تتوقف، وكوارث كلما أنقضتْ قال هل من مزيد؟

                                   🌴

                                         🌻

                                         🍁

أضف تعليق