الأرشيف الشهري: سبتمبر 2019

النظر بموضوعية في تاريخ الإنسان

لا يمثل تاريخ الأديان سوى واحد بالمائة من تاريخ البشر، في حين تحتل الأسطورة الــ99% منه.

أما تاريخ العلم فحتى الآن لم يصل لشيءٍ من ذلك.

ولهذا حين ظهرتْ الأديانُ حاولتْ أن تخفف من الأسطورة بالاعتماد على بعضِ ركائزها.

تاريخُ العلوم الضئيل لا يعني عدم أهميته الجبارة ولكن نسبة وجوده في حياة البشر محدودة، وحتى في العصر الحديث فإن الاختراعات والصناعات هائلة لكن أن تتجسد كتاريخ فكري علمي في حياة الناس فهذا أمر آخر.

ومن هنا نجد أن تاريخ المجانين والطغاة والمرضى النفسيين وأصحاب الهلوسة الذين صاروا زعماء وقادة امبراطوريات وأحزاب وأشعلوا الحروب التي راح ضحيتها الملايين من البشر وكذلك الغابات والمدن والأشياء من الجماد والنبات، فهم أكثر بكثير من الفلاسفة العقلانيين.

وكذلك كانت الجماعات الدينية المهلوسة والعصابية والمجنونة بفكرها وسلطاتها وأحكامها الباترة بقتل البشر والتضحية بهم واستغلالهم أكثر من قطرات المحيطات وشعور الرؤوس في شتى الأزمنة!

فكما أن العلوم مثل قطرة في المحيطات، فكذلك العقل الإنساني لحظة وامضة نادرة في الوجود.

الإنسان كائنٌ خرافي، لا يعترف بأنه جزءٌ ضئيل من الطبيعة، أمه التي انقطع عن ثديها بأوهامه الخيالية، ومع ذلك فلايزال يعتبرُ الأسدَ ملكهُ في الغابة، والذئبَ رفيقه في حملاته لتصفية المعارضين، والحية سيدته التي تقدم له السموم،(وكان العسلُ المسموم مادة لتغيير التاريخ والحكام).

الإنسان الخرافي يستخدم شتى الأفكار ليجعل من نفسه الكائن المختلف عن الطبيعة، ولكن قوانينها سارية في جسمه، فأقل خطأ بيولوجي في تركيبه يحيله إلى عدم.

عاش الإنسان بأغلبية تاريخه على الأوهام، وذلك لأسباب موضوعية خارجةٍ عن إرادته ككائن، فالطبيعة مسيطرة عليه بميلاده وموته، وهي طبيعة ليست في خدمته، بل معادية له، لأنه نشأ داخل تطوراتها التي لم يتحكم فيها، فوجد نفسه داخلها، فراح يسيطر عليها بصعوبات جمة كثيرة خارقة، وتاريخه الحقيقي مبنى على هذه السيطرة المحدودة.

كما واجه من داخل تاريخه الإنساني عقبات لا تقل خطورة ومأساوية عن عقبات الطبيعة الضارية العائشة على لحمه وعقله، فظهرت أنظمة حيوانية طبيعية، وهي تاريخية مع ذلك، تنهش أيامه القليلة في الوجود، هي امتداد لحيوانية الأسد والذئب والحية، فغدا مثل نقطة الزيت على الصفيحة الملتهبة، فكيف ينتج منه فكر عقلاني؟

يغدو دفاع الإنسان الأول هو التمسك بالمعيشة البسيطة، أن يكون له منزل وعائلة وامتداد، أن يكون أعلى درجة من الجمل والضفدع، وحتى في هذه المكانة الحيوانية المتدنية فلا الطبيعة القاسية تتركه ولا الطبيعة الحيوانية السياسية تدعه يعيش بكرامة. فكلتا الطبيعتين لها البراكين والزلازل والفيض البحري والأمراض، وللطبيعة الثانية السجون والدكتاتوريات والحروب والتجارب النووية والأنظمة الباطشة اللامسئولة العداونية.

فيظل ملجأه الأمل والحلم الأسطورة والدين، هما يخلقان له عالماً سعيداً له أوله ونهايته، وقد يتحولان هما أيضاً إلى جزء من الطبيعة الحيوانية الباطشة، لأنهما جزء من تفكير الإنسان التاريخي، لهما دور نهضوي لإحداث تقدم في حياته، ولهما دور الزنزانة التي تعتقل قدراته وتحجم عقله، من أجل مصلحة القوى الحيوانية الاستغلالية التي حولتهما إلى دور تعطيلي بدلاً من الدور النهضوي.

ولهذا فإن تاريخ الإنسان بمعظمه هو تاريخ الحيوان الضاري، فانظر إلى جيوشه واسمائها، كيف أخذت من الحيوان رموزها، ومن الطبيعة الجائرة عناوينها: جماعة الفهود السود، والصاعقة، والرعد، والشهاب اللامع، والأسد، والضبع، والفهد الخ..

وأخذت من الطبيعة البعيدة اللامبالية بالمشاعر والقلوب والعقول رموزها، فقالوا دولة الشمس وحددوا الضباط بأنهم ذوو رتب من النجوم ليكرسوا فيهم الابتعاد عن الإنسان، وقالوا آلهة القمر ودولة القمر والتيجان ووضعوا النسور والمناشير والسيوف رموزاً في أعلامهم لتدل على الأسنان والمخالب الضارية!

فهي تعترف صراحة بأنها جزء من الطبيعة القاسية ومن الجماعة الحيوانية الآكلة لحم البشر!

وفي الخيال تقول انها غير ذلك، وهي الاكتمال والطهارة والقداسة، وهي دولة الوطن الواحد والقانون والدستور والديمقراطية!

لا تريد الدول أن تقول إنها جعلت الأسود تحكم لتنهش من اللحوم وتستأثر بالأموال وتتلاعب بأموال الفقراء الهزيلة، بل انها تضع أقنعة (إنسانية) فوق وجوهها وقد قال الشاعر (إذا رأيتَ نيوبَ الليث بارزة..)، وهو تعبير ليس عن مشابهة شكلية بيانية بل إدراك لطبيعة السلطات.

وقال العامي الفصيح (الذيب ما يهرول عبثاً)، فحتى هرولة هذا الوحش التي تبدو صنيعاً إنسانياً تستهدف اللحم الاقتصادي أو البروتيني، وقد تداخلت اللحوم.

وكما أن العلوم تمثل شيئاً رمزياً في الاحصاء العقلاني لتاريخ البشر اللاعقلاني والخرافي فإن الجهود المناضلة لأنسنة تاريخ الإنسان هي مثل ذلك، وربما أقل، لأن الجهود في تشكيل مجتمعات إنسانية خالية من الأسود والفهود وشموس المناجل والمطارق النازلة على جماجم البشر، هي نادرة وقلما تفلح وتصمد لأن الحيوانات البشرية تظهرُ بشكلٍ مستمر من داخل هذه الجماعات والمجتمعات بسبب قصور التنظيمات والوعي والمراقبة وتخلف أساليب الإنتاج لدى البشر عموماً.

فهذه الحيوانات البشرية تريد أن تستحوذ على الغنيمة الاقتصادية وتنهشها بسرعة وتحتفظ بها، وتجعل ذلك أسلوب عيشها وسيطرتها. وهذا يعتمد على مدى يقظة المذبوحين والمسلوخين والعمال، دجاج التاريخ الطازج، هل ينتبهون ويقاومون أم يتركون الذئاب ترعى في مرعى الغنم؟

الأدبُ الفارسي القديم والقومية

تمثل القوميات الكبرى في الشرق كالقومية العربية والفارسية والروسية عقداً أممية في التطور التاريخي الراهن لارتباطها بظروف نشأة دينية عسكرية توسعية، لا تقبل الانفكاك عن أشكال هيمنتها على الأقوام الأخرى الداخلة في سيطرتها.

وهذا يتجسد من خلال وعي ديني مقدس بطبيعة الحال لدى أصحابه، وقد ظهر الفرس على الهضبة الإيرانية وهم في صراع مع الشعوب الأخرى، وتمازجوا مع الأكراد والأفغان والعرب.

والشكل الفارسي ظهر وهو محاطٌ بثقافة العالم القديم، وأحتل أرضه وقاوم الغزاة وأعتمد على المجوسية كشكل ديني قومي خاص مميز، ولقد عبرت المجوسية بطقوسها الكثيرة المعقدة عن نظام العبودية العامة الشرقية، حيث النبلاء يفرضون سيطرة ساحقة على العامة الذين يعيشون في منزلة العبيد. وفي أثناء تحولها إلى امبراطورية وصراعها مع الأغريق لم تكتسب أي طابع ديمقراطي، ولكن التناقضات تعمقت داخل صفوف المجتمع الفارسي. ومثلت الاتجاهات المزدكية الداعية للمساواة والمشاركة في وسائل الانتاج محاولات فاشلة لإضفاء طابع شعبي على مملكة العبودية العامة هذه بدون جدوى.

وتتضخ ضخامة جذور الاستبداد العريق عبر الشهنامة حيث يسرد الفردوسي حشوداً من الملوك المتوجين في هذا التاريخ السرمدي المتصل بالآلهة، والمليء بالحروب والصراعات مع القوى البشرية والسحرية الشريرة.

لم تنكسر صوانية العبودية المُعّممة هذه إلا عبر شعب بدوي محتقر جداً في نظر الفرس، وهو الشعب العربي المسلم الطالع من الجزيرة العربية.

أعطتْ الطبيعةُ المختلفة كلاً من الشعبين تاريخاً مختلفاً، ففيما عاش الفرس على الهضبة تغزوهم الشعوب ويعانون طوال تاريخهم من الغزاة ويطلبون التوحيد ويقيمونه بحروب وصعوبات جمة ثم يفقدونه، كان العرب في جزيرتهم محمين يعجز الغزاة عن الدخول إليهم! فغدت العقد والمشكلات التاريخية بين القوميتين مختلفة، وأدت الظروف والثورات التاريخية أن يغدو هذا الشعب المُحتّقر في نظر الفرس محرراً لهم، كاسراً لقوقعتهم التاريخية التي عجزوا عن كسرها آلاف السنين. فهذا الشعب البدوي البسيط كان ديمقراطياً لا توجد به نبالةٌ معبودة، وجعلَ نبالتهم تذروها الرياحُ السياسية، ولكنه من جهة أخرى فرض عليهم سيطرته التي بدت متخلفة عن مستواهم الحضاري!

خلال قرنين من السيطرة العربية الإسلامية تداخل الشعبان، فبدايات الفتح العربية ذات الشعارات الديمقراطية الإنسانية تبدلت بسيطرة عائلات الأشراف والنبالة البدوية، وثورات الفرس للخروج الكلي عن السيطرة العربية والتي كانت بشعارات مجوسية وخرافية لم تستطع أن تؤدي إلى تقدم، وقد حدث تمازجٌ بين الشعبين وتداخلت الأفكارُ الدينية فتراجعت المجوسية وتغلغل الإسلام داخل العامة، الذي كسر لهم السيطرة الارستقراطية الحادة، وتجمع العرب والفرس كذلك ضد السيطرة الأموية التي مثلت لهم عدواً مشتركاً، بسبب بقاياها الاستعلائية وعنفها، ولهذا فإن أفكار المذاهب والأفكار المعارضة لتلك السيطرة في الجانبين العربي والفارسي تداخلت، ولهذا كانت الدعوة العباسية هي المزيجُ الارستقراطي الديمقراطي، الاسلامي الإنساني، لمقاربة الشعوب العربية الإسلامية في لحظةٍ تاريخية جديدة، وتمازجها لتكوينِ حضارة مشتركة أكثر تطوراً، وأدت الثورةُ إلى الانتصار وإقامة هذه الدولة المختلفة، التي لم تكن فيها سيطرة الأشراف العرب فحسب، بل كذلك صعدت سيطرة الأشراف الفرس وتداخلت في هذه الدولة، فصارت الخلافة عربية والوزارة فارسية.

وكما كانت القمةُ متمازجةً فقد تمازجت القواعد الشعبية، فقامت الفئاتُ الوسطى خاصة الفارسية العربية بدور كبير في بناء الثقافة العربية الإسلامية، وكشف لغتها وتقنينها وجمع آدابها وتطوير علومها المختلفةوالصعود بها إلى الفلسفة، فحدثت نهضة مشتركة، ولكن أسس الصراع والإختلاف بين القوميتين المتواريتين داخل المبنى الفكري الاجتماعي الديني ظلت موجودة، فالعرب الارستقراطيون كانت الثروة لهم، والجيش، وهم يعتمدون على الخراج المجلوب من الأرياف المختلفة للأمم والشعوب الإسلامية، ولهذا حين تحول الجيش بيد الاتراك ونضب الخراج وتراكمت المشكلات زال ذلك التحالف العربي الفارسي النهضوي وبدأ عصرٌ مختلف.

بالرغم من الصراع العربي الفارسي فقد تنامت إيران في ظل التطور العربي، مثل بقية المجموعات القومية التي تنامت في ظل إيديولوجية دينية واحدة معبرة عن وحدة بشرية كبيرة تعكس تطور الأمم في العصر الوسيط وحدود هذا التطور كذلك.

وذاك التنامي الفارسي الذي جرى تحت السيطرة العربية يتجلى في عودة اللغة الفارسية بشكل جديد وإعتمادها على المفردات العربية بشكل كبير، بعد قرنين من الفتح.

كان هذا تعبيراً عن التوحد والاختلاف، وبداية نمو القومية الفارسية داخل الوعي الديني الإسلامي. إن الفرس ذوي الحضارة القديمة المتصارعة مع الأقوام البدوية، والتي لجأت لتكوين قواها العسكرية بحدة خلال التواريخ السابقة تعود مرة أخرى لذات السياق بعد تنامي قواعد التطور وعلى أسس مختلفة من الثقافة الدينية، ولكن في سياق شمولي عسكري راح يلغي التوحد بين الأشقاء المسلمين.

إن الأدبَ وخاصة اللغة فيه يمثل مرحلة تكوين الأساس القومي الفارسي الذي ينتشر بين الشعب ويوحده عبر التاريخين الاسطوري والواقعي، وخاصة عبر رموز الأبطال، وهذا الأمر إستمر قروناً، حيث كانت الروابط تتنامى بين مختلف بقاع فارس.

وكانت الثقافة الإسلامية هي النسيج الآخر، وقد إعتمدت على المذهبيات الإمامية، وكانت الزيدية والإسماعلية قد بذرتا بذورَ المعارضة والاختلاف في التربة بين إعتدالٍ وتطرف، لكن كان النسيج القومي المتصاعد عسكرياً ينتج وعياً توحيدياً قوياً يفصم العلاقة تماماً مع المذاهب الإسلامية الأخرى.

لهذا حدثت إنعطافة شديدة على صعيد الأدب الاسطوري عبر شهنامة الملوك وعبر المذهبية الشيعية التي تم توجيهها في مسار مختلف إنفصالي عن العرب. كانت الحدة تعكس الموروث الاضطهادي والثورة عليه ولكن في التماثل معه. فالتوجه للهجوم على رموز العرب الدينية والاجتماعية يهدف إلى الانقطاع والبتر والاعتماد على العنف في العلاقة فلم تتشكل قراءة موضوعية، وتكوين المظلة الاسطورية يعكس المطامح الحادة لهذه المجموعات الهامشية وهي تندفع للسيطرة على دولة كبيرة.

كان هذا بمثابة (تحرير) وتطهير عِرقي وقامت به الحركة الصفوية التي جمعت بين (الصوفية) والتنظيم العسكري مؤسسةً الدولةَ بشكل عنيف مما جعل القبائل والمذاهب الأخرى التي تعرضتْ للتنكيل أن تتوحد ضدها وتهجم عليها في حرب أخرى كارثية وتزيلها.

لم تكن صوفيةً مماثلة للصوفية الفارسية الإبداعية بل كانت دورشة معبرة عن إنهيار العقلانية، والدخول في السحر وجرّ الجمهور بأشكال فيها شعوذة، وهذه ترافقت مع الروح العسكرية العنيفة معبرة كلها عن عودة قومية كاسحة.

(الصفويون هم آل صفويان: سلالة من الشاهات حكمت في بلاد فارس (إيران) سنوات 1501-1785 م. المقر:تبريز: حتى 1548 م، قزوين: 1548-1598 م، أصفهان: منذ 1598 م. وقد أسس الشيخ صفي الدين الأردبيلي (1252-1334 م) طريقته الصوفية في أردبيل (أذربيجان) سنة 1300 م. أصبحت أردبيل عاصمة دينية ثم سياسية لأتباعه (مع تحولها إلى حركة سياسية)، موسوعة ويكيبيديا. 

الانتقال من الدونية والهوان إلى البطش يعكس المرارات التي تشكلت في أثناء هذا التاريخ الصراعي بين الفرس والقوميات الأخرى، وتعبر المذابح التالية عن خلق هوات كبرى بين القوميات في ظل الوحدة الدينية. إن هذه الدولة الصفوية عكستْ الانتقال من النقيض للنقيض، من التعايش إلى الحروب الاستئصالية.

ولهذا فإن الجهود البنائية لهذه الدولة الصفوية نفسها ضاعت حين تحالفت القبائل وقوى المذاهب المختلفة عنها وشنت عليها حرباً وأزالتها!

وفي رمزية الشهنامة دلالة على هذا، فقد قدمها الفردوسي لمحمود الغزنوي الحاكم السني، وهذا لم يرتح لها، وعلقَّ عليها قائلاً: لماذا جعلت رستم البطل الأوحد فيها؟ فردّ عليه الفردوسي: لأنني لم أجد بطلاً مثله! كان ثمة إمكانية للتعايش ولكن اللغة القومية المتعصبة شكلت الهوة، فظلَّ الفردوسي مُطارداً وظل الغزنوي مهيمناً ملغياً أشباح رستم إلى حين.

ستظل الدولة الفارسية في إشكاليات متعددة مع دول الجوار ومع تكون الشعب نفسه، منتقلة من كيان ذائب أو مفتت، إلى كيان مركزي حاد، دون أن تعثر على الصيغة الوسطى ولهذا أسباب عميقة كذلك.

الشبابُ والتراثُ

كيانان مختلفان متضادان من الشباب يمثلان قطعة معدنية صدئة واحدة.

كيانٌ أسرف في عبادة الماضي، فجثم في كهف افلاطون يرى أشباحاً ويتصورها تراثاً ورموزاً.

كيان آخر رفض الماضي جملة وتفصيلاً، ملابس عتيقة وأزهاراً قليلة.

بين الحوضين اليابسين عالم حديث معقد تغلغل فيهما وشوههما فرفعا السيوف الخشبية لحروب القبائل والطوائف الجديدة.

الجيل الرافض للماضي منبهر بالهايد بارك والمكتبات الكبرى التي لا تترك صغيرة وكبيرة بدون بحث، وتتسلط الكاميرات على أية نقطة معرفية قصية في العالم.

مبهور بالحضارة الحديثة حتى فقد ملابسه التراثية وخرج عارياً في الساحات!

أمطار المعرفة فوق رأسه سحب من لحيته في الصحراء وأُلقي في الجامعات الكبرى وبدلاً من الخيمة والعنز المحبوسة ترامت تحت قدميه أبسطة المعارف اللانهائية.

كيف يميز؟ كيف يقرأ؟ إذا حلل نصاً جلب العدة الغربية التي يحفظها وهرس بها النصوص، فترى الجداول تملأ الدراسات والدماء تشخب منها!

لا تكاد أن تعرف شيئاً من النصوص الأصلية وهو قد لبس آخر موضة ولم ير عامةً من بلده يسمعون هذا الهرج، والمحيطون به يحسبونه يتكلم لغة أخرى.

الآخر لا يزال في الخيمة، يمشي مع الإبل والبقر بين الدخول فحومل، يطلق النار على الأقمار الصناعية ويلقي بأجهزة التلفاز في البرية.

حين تتحول اللغتان إلى سياسة تصبحان جدولين آسنين طائفيين، كل منهما تمسك فتافيت من المواقف وتحركها حسب المصلحة وأشباح الكهف وثقوب الجيوب والرؤوس.

الوعي التحديثي له إمكانيات يمكن أن يستغلها في فهم العصر، لكنه يأخذ العصر بلا سيرورة تاريخية، ولا مراحل اجتماعية، ويربطها بحداثة غربية غير عميقة وغير متجذرة في التاريخ هي الأخرى، وهكذا تغدو الدراسات في الجامعات العربية نقلاً ميكانيكاً من الكراجات الغربية غير قادرة على السباحة في النصوص العربية.

النقل الميكانيكي مثل الكراجات القديمة قبل الحرب العالمية الأولى، ولا يستطيع النص السيار أن يمشي وينفجر من الحرارة أو البرودة.

هو كله شباب عتيق وكل يدعي بمعرفة بجهة من الواقع، جذور الواقع أو عصريته دون أن يمتلك أياً منهما.

الوعيُّ الطائفي والوعي الطبقي

 هل يشكلُ الفكرُ الطائفي وعياً؟ أليس هو ضد (الوعي)؟ إن المقصودَ هنا بـ(الوعي) هو أشكالُ المعرفةِ التي تظهرُ وتنمو في الذهنِ الإنساني بإختلافِ هذه الأشكال، فنقول الوعي الأسطوري، والوعي الديني، والوعي العلمي، والوعي القومي وغيرها من أشكالٍ تعبرُ عن بُنى فكريةٍ ذهنية تتشكلُ في حقبِ التاريخ المختلفة، وفي المجتمعات المتنوعة.

إن كلَ بُنيةٍ لها تاريخُها والعناصرُ التي تتألفُ منها، وقد تَعبرُ التاريخَ طويلاً بتلك العناصر، وقد تتفككُ وتظهرُ أشكالٌ جديدة تكونتْ في ظروفٍ مختلفةٍ وبعناصرَ معرفيةٍ جديدة.

وحين ظهر المسلمون لم يكن ثمة ما يُسمى بالوعي الطائفي، وكانت كلمةُ(طائفةٍ) تشيرُ إلى جماعةٍ من الناس ليس لها طابعٌ فكري مميزٌ عن غيرِها من الجماعات.

كما جاءَ في القرآن (وإن طائفتان من المؤمنين أقتتلُوا فأصلِحُوا بينهما، فإن بغتْ إحداهُما على الأخرى فقاتلوا التي تبغِي حتى تفيءَ إلى أمرِ اللهِ فإن فاءتْ فأصلِحوا بينهما بالعدلِ وأقسطوا إن اللهَ يحبُ المُقسِطين…))،سورةُ الحجرات، 9.

كان هناك إذن الوعي الديني بشكليه الوثني والإسلامي، ولم يكن بإمكان الوعي الإسلامي أن يتجلى بشكلٍ طبقي رغم كونه كذلك من حيث الجوهر الاجتماعي الذي يحمله، بإعتبارهِ وعي الجماعاتِ الشعبية الثائرة، بخلاف الوعي الوثني في مكة المعبر عن ملأ قريش الإرستقراطي، وبالتالي بقي الوعي الإسلامي مجرداً غيرَ محددٍ بخصائصهِ الطبقية، بإعتبارهِ وعي الجماعات الشعبية المتكونةِ من التجار من جهة والفقراء والعبيد من جهة أخرى، وهاتان الجماعتان اللتان تعاونتا معاً لتغيير الحال الطبقي السياسي حين شكلتا الدولة إنصهرتا سياسياً، رغم أنهما لم تنصهرا طبقياً.

صحيح أن بعضَ الفقراءِ أَثروا كثيراً بفضلِ التحولاتِ السياسية الاجتماعية، إلا أن التمايزَ الطبقي بقي بينهما، ثم تلاشى مع الفتوح الكبرى وتبدل الدولة.

هذه اللحظةُ التوحيديةُ بين أغنياءٍ وفقراء يسعون لنهضةٍ تحوليةٍ مشتركة ستكونُ لحظةً مفصليةً في التاريخ، ويندرُ تكرارُها، فإذا تكررتْ فسوف تُحدثُ نهضةً ما، حسب الجذور التي نشأتْ الجماعتان منها في كلِ مرحلة، فالجذورُ تتعددُ سواءً كانت في زمن إمبراطورية إسلامية أو في دولٍ دينية منفصلة، أو دولٍ حديثة مستقلة.

طابعُ المُلكية وقوى العمل، وطبيعة التشكيلة الاقتصادية الاجتماعية التي تشيرُ لإمكانيات العصر، ومستويات الثقافة، كل هذه ستدخلُ عضوياً في أشكالِ الوعي التوحيدي المغيِّر.

ومن هنا كان الوعي الديني المؤسسُ للدولةِ الإسلامية ذا عناصر مقدسة غيبية يؤمنُ بها ويعتبرها صانعة التاريخ والأفكار، وموجهة لتدمير كيان وثني متفتت، وبالتالي فإن الجماعةَ المؤمنةَ توحيديةً مطلقة، فأسسَّ رؤيتَهُ على التضاد المطلق بين التوحيد والتفكيك، بين المؤمنين والكفار، وكان جوهرهُ الشعبي العام يراه مطابقاً للتوحيد والجذور الإلهية، خاصة مع إلغائه للارستقراطية والملأ والتعالي الطبقي. وبالتالي فإن موقفَهُ الطبقي الديمقراطي توارى وراء شعارية التوحيد، ولم يصنفهُ سياسياً إجتماعياً بحكم وعي المرحلة، لكن تبنيه للأغلبية الشعبية وتوزيعه للخيرات للعامة حسب سورة الحشر الختام التحليلي الاجتماعي للتاريخ الديني المدني، تصورهُ مطلقاً في بقائهِ التاريخي. فلن تستطيع قوى الأقلية أن تعودَ مجدداً للحكم، وأن قوى الأغلبية الممكسة بالدولة والواقع ستظل مستمرة، وهذا ما لم يحدثْ بحكم تفككِ الوحدة النضالية تلك، فحين تفككتْ القوى الشعبية وتصارعت، عادت الارستقراطيةُ من جديد للحكم بشكلٍ إسلامي.

وهو مالم يفسرُ إجتماعياً بل فُسر بالقدرِ مُجدداً حسب الوعي الديني الذي صار رسمياً، فيما راحت الأغلبيةُ تبحثُ عبرَ موادِ وعيها المختلفة، عن تفسيراتٍ جديدةٍ غيرِ رسميةٍ وتعكس مصالح الأغلبية.

كان الشكلُ الاقتصادي غيرُ السائدِ وهو الغزو قد حلَّ محل الأشكال الانتاجية ومحل التجارة، وفرضَ نفسَه كقوةٍ أساسية وأحدث الفتوحات وراكم الثروات في طبقة وجلب العبيد والجواري، فنشأت طبقتان متضادتان كلياً في الغنى أو الفقر، فيما تضاءلتْ الفئةُ الوسطى، وبرزتْ قليلاً في الدولة الأموية وأتسعتْ في المركز بعض الشيء في الدولة العباسية غير أنها لم تُقمْ تحالفاً متيناً على أساسٍ فكري عميق بسبب إرتباطها المصلحي بدولةِ الخلافة وما تعطيهِ لها من فتات. ولم تُعدْ تجربةَ الثورة التأسيسية الإسلامية لأنها لم تقرأ الجذور والبُنى الاجتماعية، وتاهتْ في الأشكال الفكرية المنفصلة عن الواقع التي غدتْ آراءً فكرية ومذاهب وفرقاً.

كان الوعي التوحيدي هو أساسُ النهضة وضمَّ القبائلَ وتجسدَّ دينياً في كل جماعة مذهبية منقسمة تصورتْ أنها هي كلُ المسلمين، فلم تتصورْ أيةُ جماعةٍ بأنها مُفكِّكةٍ للوحدة حين تعتبر نفسها كل المؤمنين، وأن تكونها ليس هو جوهرُ الأمة وأساسها، فيما الأخريات من المذاهب غير هذا.

وكان الأساسُ الفكري هو تصورُ العقيدةَ بأنها شيءٌ غيبي خالص، وليست فكرة إجتماعية كذلك، وأنها ضمت في فترة تاريخية إنقساماً إجتماعياً بين الأغنياء والفقراء لأسبابٍ سياسية إجتماعية مرحلية وكان توحيدياً مؤقتاً لا يلغي التمايز بين الأغنياء والفقراء، وأن الصراعَ على السلطة هو صراعٌ إجتماعي وليس دينياً، وأن المتصارعين على السلطة يجب أن يضعوهُ في ما هو إجتماعي وليس فيما هو ديني، فوقع الوعي الإسلامي في إشكالياتٍ راح يتلمسُ الخروجَ منها عبر قرون.

لم يستطعْ الوعي الديني الإسلامي التالي لمرحلةِ التأسيسِ إلا أن يكونَ طائفياً.

فقد تشكلتْ الطوائفُ عبر ظهورِ تفسيراتٍ متعددةٍ للقرآن والحديث والتاريخ عكستْ صراعاتٍ ومواقفَ سياسيةً تجاه المسألةِ المحوريةِ غيرِ المحلولةِ بشكلٍ ديمقراطي وهي (الصراعُ على السلطة).

وكلُ رؤيةٍ لهذه الصراعاتِ كانت تنسخُ الجوهريَّ المطلقَ غيرَ الاجتماعي من الرؤية العامة الدينية، أي لم تكن تأخذ الرؤيةَ النهضويةَ التي تشكلتْ في الثورة الإسلامية التأسيسية، بل تأخذُ هيكلَها المجردَ وتحيلهُ لجوهرٍ مطلقٍ خارج التحليلِ الاجتماعي السياسي، فلم تكن تر كيف كان التحالفُ الطبقي وكيف أسسَّ التكونَ الديمقراطي الاجتماعي والذي لم يحيلهُ إلى تحالف ديمقراطي سياسي، أي لم تنشأ تنظيماتٌ مختلفةٌ تعبرُ عن القسمين الاجتماعيين المختلفين طبقياً، المتحدين سياسياً، بل كانا في كيان واحد، رفض حتى الشكل السياسي المحدد.

ولهذا لم يكن الصحابةُ حزبيين، ولم يوجدْ تنظيمٌ حزبي، وكان هذا الرفضُ الباترُ لفكرةِ الحزبيةِ خوفاً على الكيانِ التوحيدي الهش في ذلك الزمان، والذي كانت خلفهُ كياناتٌ ضخمةٌ من الهياكل القبلية والآراء الوثنية المتجذرة والآراء الدينية المختلفة المناوئة.

وهكذا فإن البناءَ الشمولي تغلغلَّ في التجربة الديمقراطية الاجتماعية بشكلٍ تاريخي مستترٍ متصاعد، وحين عادتْ الارستقراطيةُ للحكم ناقضةً البناءَ الاجتماعي المُقننَّ دينياً محافظةً على شكلهِ السياسي الشمولي، حدث تصدعٌ هائلٌ في الذهنيةِ المشتركةِ والروحية الجماعية التعاضديةِ بين المسلمين فكأن زلزالاً إجتماعياً قد حدث، ولم تسمحْ أدواتُ الوعي المتوفرةِ لمثقفي المسلمين حينذاك أن يفهموا الانقلابَ الاجتماعي السياسي، والذي حاربوه ولكنه سيطر عليهم.

لقد صارعوه من خلال العناصر الفكرية المتاحة لزمنهم، كفكرةِ القدر ونقضها، لكن الانقلابَ الاجتماعي إنتصر وساد التاريخ.

إن قوة فكرة التوحيد، والأشكال العبادية والتنظيمات الدينية المصاحبة لها، وأدوات القسر الحكومية، قد جعلت هذه القبائل والأقوام والأمم تتحد وتعيش في كيان سياسي واحد هائل.

إن قوة التوحيد لم يدخل فيها التنوعُ الديمقراطي، وقوى القسر والإستغلال هيمنت بقوة على هذا التوحد السياسي، وعلينا أن نرى أن القرون الثلاثة الأولى من الإسلام ظهرت فيها قوى الصراع الطبقي بقوى هائلة، لكن لم تنعكس على الكيانات التوحيدية، فلم تظهر المذاهب – الطوائف إلا كعناصر فكرية مستقلة، ولم تتحول الأفكارُ إلى طوائفَ مغلقةٍ بعد، والسبب أن فكرة التوحيد كانت جبارة مسيطرة، وبدايات المذاهب كانت فيها تعددية وقبول بالآخر المخلتف، وأُعتبرتْ أقوال الأئمة الفقهاء كآراء غيرِ ملزمةٍ وإجتهادات قابلة للأخذ والرد، فكان الشكلُ السياسي الإمبراطوري صامداً للزمن.

كانت عواملُ التحلل تشتغل بقوة هي الأخرى، فالوعي الديني لم يزلْ متجوهراً على ذاته، والتراكمات تتجه لبلورة كيانات مغلقة شمولية داخلها، فالاجتهاد يقلُّ مع الزمن، وفصل الوعي الديني عن الفلسفة وعن التاريخ الاجتماعي يجري ويغدو الوعي الديني جوهراً لا تاريخياً إلا في نصوصه المغلقة،  والسلطات تحيلُ الأفكارَ الدينيةَ والمحاكمَ إلى قوى ملحقة بها.

ومن هنا مع الانهيارِ المتدرجِ للشكل السياسي الإمبراطوري وعبر النخر العميق فيه، أخذت المذاهبُ صيغها المغلقة، التي يعبرُ كلُ واحدٍ منها عن كونهِ الإسلام مطلقاً، فتكونتْ تدريجياً الطوائف.

كانت طائفة مثل الخوارج تتعبرُ نفسها كياناً أصيلاً معبراً عن جوهر الخلافة الأولى، لكنها تحللتْ منها عبر شموليتها الحادة ورفضها لأي تنوع أو مرونة سياسية، وغدت كيانات صحراوية باترةً للاختلاف والبشر.

وفعلت المذاهبُ ذاتَ الأمر في الكيانات المدنية بشكل أطول وأقل حدة لكن عكست النتيجة نفسها، ففقدتْ الإختلافَ الداخلي الديمقراطي، وفي نهاية المطاف غدت تلوكُ أفكارَها السطحيةَ المتيبسة بفعل فقدان مياه التفكير المتعدد ونسغ الحياة المختلف الذي يجري كل يوم.

إن مصالحَ القبائل والأقوامِ والأمم والطبقات في الشكل الإمبراطوري لم تُؤخذ بعين الإعتبار من قبل مراكز الحكم، وكانت الدوائر الفكرية الدينية قد تكلست وتقوقعت، ولم تعد قادرة على إنتاج الجديد، نظراً لأن المقومات المنهجية التي أعتمدت عليها هي منهجيات قطع عن الأبنية الاجتماعية وعن تحليلها ومتابعة تحولاتها، فامتنعت قدرتها على التغيير، وإنعكس ذلك على الأبنية السياسية فمن إمبراطورية واحدة ظهرت عشرات الممالك والأقاليم والمناطق المستقلة.

حدث التكلس الكلي، ولم يعد الجديد ممكناً من الداخل، لكن الجديد ظهر في مناطق بشرية أخرى، وجاء وضرب الكيانات العديدة المتجوهرة حول ذواتها، وقيل أنها صدمة الحضارة الجديدة، ولكن هل نفذت إلى الداخل؟

المسألة صعبة وطويلة.

شكلتْ صدمةُ الحضارةِ الحديثة دوائرَ تحولية صغيرة تجاه الأجسام الاجتماعية المحافظة المهيمنة.

فكانت التياراتُ الجديدةُ المستوحاةُ هي أبنيةٌ صغيرةٌ على ضفافِ تلك الأجسام، التي تكونتْ لقرون وكانت هي ذاتها من أثرِ قرونٍ سابقة.

إذن سادت أفكارُ الوعي الطائفي خلال القرن العشرين بأكمله، حيث المذهبيةُ كيان إجتماعي سياسي قائم على سيطرات إجتماعية تقليدية في الإنتاج ونظُم الحكم، وتغدو الأفكارُ الداعيةُ للتغييرِ القادمةُ من الغرب مجردَ ذراتٍ أمامَ بحرٍ مالح هائل، وحين تدخلُ فيه تتحولُ مثله.

الأفكارُ التحديثيةُ في الفترة النهضوية الأولى كالوفدية المصرية القائلة إنها ليبرالية، نجدُهَا تقولُ بالتعبير عن (الأمة) المصرية ولا تقولُ بأنها برجوازية تعبرُ عن طبقةٍ، فغدتْ بنيةً مغلقةً كلية كالمذهبيات، ونجدها أذ تعترفُ بالعمال تقومُ بإلحاق نقاباتهم بسيطرتها، فيما تقمع الحزب الاشتراكي المصري! وفي النهاية تغدو حزباً للملاكين الكبار من أصحاب الأملاك الزراعية وأصحاب الملايين.

فهيمنتُها على السلطةِ المنتخبةِ نفسِها تحولُها إلى دكتاتورية، بدلاً من نشر الديمقراطية في البناء الاجتماعي، ومع هذا كان الوفدُ أفضلَ من غيره! وغدت النسخُ تكررُ ذاتها.

وبهذا قامت الأحزابُ الكليةُ من مواقع شتى، من موقعِ الشعب أو الأمة، حيث الحزب هو التعبير عن الأمة، أو معبر عن البروليتاريا وتؤسسهُ البرجوازيةُ الصغيرةُ لتقيمَ دكتاتوريةً كلية. والقوميةُ تعبيرٌ كلي آخر عن الأمة وتقيم ذات الدكتاتورية فلا تجعل الشعبَ يتطور ديمقراطياً، وبهذا كله فإن هذه الكليات المتأثرة بالغرب الديمقراطي، لم تستطع أن تكون لا من الغرب ولا من الشرق. هذه الهجانةُ مؤسسة ظلتْ على هامش التكوينات الدينية المحافظة المسيطرة على المجتمعات الإسلامية. وبعد أن إهترأت من القمع والسيطرة على الحكم ومن الحروب لم تعدْ قادرةً على فعلِ شيءٍ رغم سيول التحولات والأحداث.

وإستعادتْ الجماعاتُ الدينية الكلية في عالم ديمقراطي بعد هذا الإنكماش التحديثي والهزيمة لليسار والبرجوازية التحديثية غير المتعاونين واللذين خسرا مكانتيهما بسبب هذا الإلغاء المتبادل بينهما.

علينا هنا أن نتذكر هزيمة التحالف الطبقي بين الأغنياء المتوسطين والفقراء والعبيد بعد الثورة الإسلامية التأسيسية، وكيف خسر الجانبان، بسبب غياب التنظيمات الديمقراطية المتنوعة المتعاونة بينهما!

وكيف إستعاد البناءُ الاجتماعي العتيقُ المحافظ الموروث من الجاهلية وما قبلها سيادته على العرب والمسلمين باسم الإسلام.

علينا أن نقرأ التعاقب الدوري كذلك بعد هزيمة القرامطة والخوارج والإسماعيلية بعد الخطابات الحادة لهذه الفرق وعدم إنجازها أي تحول في حياة  العاملين والنساء والثقافة العلمية وعودة المحافظين مرةً أخرى ليبقوا قروناً طويلة ويسلموا المسلمين مادةَ نهب للاستعمار الحديث.

إنها تعاقبيةٌ مستمرةٌ بسبب عدم قيام القوى المحوّلة للواقع بإستخدام المفاهيم الديمقراطية والعقلانية، والخروج من عالم الطوائف إلى وعي الطبقات، وبقاء تحولاتها قشورية على السطح والسماح بعودة نفس المفاهيم العشائرية القبلية الطائفية وإلباسها لأجسادٍ ديكوريةٍ(تحديثية).

الآن لدينا القوى الطائفية تقول بأنها ديمقراطية وحديثة! تريد أن تخدعنا بعد أكثر من ألف سنة. وتريد المحافظة على ركائز الإقطاع الاجتماعي المذهبي: تخلف النساء وعدم مساواتهن بالرجال، وقمع العقول، وغياب المساواة أمام القانون، ورفض فصل الدين عن السياسة!

في هذا الزمان الراهن حدث تكرار لبعض مظاهر الماضي،  وصعدت شموليات عتيقة باطنية ورفضت الديمقراطية داخل البيوت ومع النساء والثقافة والأطفال والعقول والدين والسياسة، لكي تقتنص الحكم والمكاسب من خلال البرلمانات.

يحدث الآن الاختطاف السياسي المتسرع بدون تأثيث ديمقراطي عميق، بدون أن تكون قوى الطبقات والفئات كالعمال والنساء والمثقفين والبرجوازية الوطنية قد أسست نقاباتها ومصالحها ومعارفها وجذورها في الواقع، وتلعب قوى التطرف من اليسار أو اليمين كأدوات للإختطافات المتعددة، وعبر مصالح دول شمولية مهيمنة كذلك، ولهذا فإن البناء الديمقراطي الجديد ينبغي أن يرى كل لوحات التاريخ العربي الإسلامي السابقة، وأهمية تفكيك الشموليات الاجتماعية الراسخة من أجل أن تأتي البرلمانات ثماراً تتوج دور القواعد الشعبية العميق في مختلف الُبنى العربية والإسلامية، وأن لا تكرر الحقبةُ الراهنةُ دوراتَ التاريخ المغلقة.

 

 

عبـــــــدالله خلــــــــيفة ‏‏‏‏: روح بحرينية

في شخصية الكاتب البحريني الراحل عبـــــــدالله خلــــــــيفة ‏‏‏‏‏‏أكثر من عبـــــــدالله خلــــــــيفة ‏‏‏‏، فهو كاتب قصة، وروائي، وله اهتمام بالسينما والمسرح، والفكر، والنقد . . وبهذا التوصيف نكون قد خسرنا كاتباً هو صاحب رؤية ثقافية فكرية وأدبية على درجة كبيرة من الثراء المعرفي الذي تحتاجه الثقافة العربية خصوصاً في الوقت الحاضر .
عبـــــــدالله خلــــــــيفة ‏‏‏‏‏‏ينتمي إلى جيل من الكتاب عقدوا مع أنفسهم ميثاق الوفاء للكتابة والانتماء الكلي إليها، فهو كان يكتب في الصحافة اليومية، وما من دورية ثقافية عربية متخصصة إلا واغتنت بأفكاره وطروحاته الجريئة.
أرضية عبـــــــدالله خلــــــــيفة ‏‏‏‏‏‏أرضية سردية في الأصل، أنجز مجموعة من الروايات والمجاميع القصصية التي تحمل روحاً إنسانية شفافة، وفي هذه الأعمال (رواية وقصة) كان أميناً إلى بيئته (البحرين والخليج عموماً) ومحباً لإنسان بيئته ومنحازاً إلى أشواقه وتطلعاته وأحلامه، وربما من هذه الزاوية توجه خليفة إلى الفكر والنقد بجرأة ثقافية نادرة، فلم يكن يخاف من رأيه، كما لم يكن يخشى الرأي الآخر، بل، هو مساجل ومُحاور عنيد يدافع عن رأيه ويحترم الرأي الآخر، لكنه لم يكن ليسمح بأن يختطفه أحد من كينونته الفكرية الأمر الذي جرّ عليه غضب فئات متعصبة لا تعرف قوة فكرية سجالية، بل ديدنها التكفير والتخوين، غير أن كل ذلك لم يُجْهِدْ عزمه الثقافي والفكري، وبقي واضحاً كالشمس.
استفاد عبـــــــدالله خلــــــــيفة ‏‏‏‏‏‏من التاريخ بإسقاطات معاصرة في بعض أعماله الروائية، ومرة ثانية نحن أمام نموذج أدبي جريء يحضر في التاريخ وفي التراث. وفي الفكر.
وبهذا المعنى يعتبر عبـــــــدالله خلــــــــيفة ‏‏‏‏‏‏صاحب مشروع أدبي بحثي فكري واظب عليه بأمانة، ونشير هنا إلى النسيج السياسي المهم في شخصيته وعلى نحو مبكر. غير أن أمانته لمشروعه الأدبي والفكري أبعدت عنه الغرق في استحقاقات السياسة التي، عادة، ما تختطف الكاتب ومشروعه وجوهره، فقد بقي يكتب ويبحث ويسترسل في سياقه الثقافي بغزارة لافتة وفي نوع من الشغف اليومي بالكتابة.
رحيل عبـــــــدالله خلــــــــيفة ‏‏‏‏‏‏ليس خسارة للوسط الثقافي البحريني فقط، بل وخسارة للوسط الثقافي الإماراتي، فهو كان دائم التردد على الإمارات مشاركاً في تفاصيل النتاج الثقافي الإماراتي قراءة ومتابعة ومشاركة، وهكذا أتيح لكاتب هذه السطور أن يعرفه عن قرب، ومن الواجب الأخلاقي أن نشير إلى خلق الرجل ودماثته ورقته الإنسانية المحبوبة، وكما هو إنساني في قصصه ورواياته هو أيضاً إنساني في حياته، وتشرق روحه بالصداقة والألفة الحميمة التي يُعرف بها البحرينيون عموماً، وتتجلى هذه الحميمية في استقبالهم الإنساني العميق لأخوة الحياة والكتابة والجمال.
عبـــــــدالله خلــــــــيفة ‏‏‏‏‏‏رحل في قمة عطائه وتوهجه بعد أن أجبره جسده على العزلة، لكن إرثه الأدبي والفكري والإنساني لن يعرف العزلة أبداً. إنه حي في الشمس وفي الهواء الطلق، وفي الأرواح التي تعرف جيداً معنى المحبة والجمال.
يوسف أبولوز
شاعر من فلسطين

قناةُ الجزيرةِ وتزييفُ الوعي العربي

دولةُ قطر لم يكن فيها شيء هام في تاريخها سوى هجرة قبائل وهابية إليها قبل عقود طويلة من إكتشاف النفط، فقامت الأسرةُ الحاكمةُ بتجميد حياة الأهالي ومنعهم من شتى أنواع الحريات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. فغدت قطر حتى الخمسينيات من أكثر دول الخليج تخلفاً.
تدفق النفطُ وإرتفع مستوى المعيشة ولكن أميرُ قطر السابق إستمر في الهيمنةِ المحافظة على البلد ولم تقدم القبائل أية إمكانية للتطور الاجتماعي الداخلي، بعد تلك العقود الطويلة من غياب المدن والفئات الوسطى والثقافة بأبسط أشكالها.
ووجود البحرين الأصغر منها قربها كان يشكلُ حالةً غريبة من التباين الواسع، فالبحرين ازدهرت إقتصادياً وإجتماعياً وسياسياً وثقافياً مما شكلَّ غيرةً عميقة لدى الجارة وكذلك لعبتْ النزاعاتُ القديمة دوراً في تأجيج تلك الغيرة، ومما يُروى بأنه بعد تدفق النفط وخاصة الغاز المفجر للثروة والطموحات القطرية حاولت الإدارة القطرية تحريك الجو الثقافي الميت فبحثت عن كُتاب فلم تجد سوى واحد لكن أتضح إنه بحريني يعيش في قطر!
تدفق الثروة مع سكان قليلين محافظين لم تُترك لهم فرص في الانفتاح والتطور، وكانت الحياة التقليدية السابقة قد فرضتْ أجواءَ المحافظة الشديدة فلم يُقبل التغيير ولم توجد قوى إحتجاج أو تساؤل من فئات وسطى أو مثقفين أو متمردين!
ولهذا فإن الانقلاب على الأمير الأب وعزله ونفيه كان بمثابة مغامرة سياسية كبيرة، وكان بمثابة صدمة موجعة للتقاليد القبلية والحالة السياسية الأبوية في دول مجلس التعاون الخليجي!
هذا الزلزال الأسري لم يعبرْ عن ثورةٍ إجتماعية، ولم يكن على طريقة السلطان قابوس في التغيير التدريجي، فكان بمثابة مغامرة فردية لم تملك أية أسس حضارية وتقاليد تغيير وديمقراطية، فكانت لعبة وإستعراضاً فردياً ورغبة جامحة في الظهور ولو على حساب الأب شبه المفجوع المُطارد!
فحتى تشكيل أنساق ديمقراطية جنينية أسرية تبررُ هذا التغيير لم تحدث، وحتى الصبر على النمو الحضاري الحذر لم تحدث وجرى أول إنقلاب في الخليج من قبل الابن على الأب!
المغامرةُ التي حدثتْ وتغيرتْ فيها السلطةُ القطرية لم تأت بتحولٍ نوعي في الدولة التي تفتقدُ إلى الإمكانيات الفكرية والثقافية المهمة إلا من بعض الإبداعات الشخصية لنفر حفر بنفسه في الصخور والرمال غير الغازية بدون مساعدة من أحد!
إن الإمكانيات المادية الهائلة التي نتجت من إنتاج الغاز الذي تفجر بوفرة جعلت من الطاقم السياسي الحاكم يبحث عن طريقة للبروز في عالم الشهرة السياسية الساطعة في المنطقة!
وقد كان إنقلابه وعدم تجذره القبلي المتعقل يجعله فريسة للمغامرات وحب العروض والشهرة والسطوع في المنطقة خاصة إنه أمتلك الثروة النفطية الغازية، لكن كيف يحققُ حلمه وحالةَ الاستعراض الكبرى العربية وربما حتى الكونية وهو في صحراء مجدبة من المواهب؟ ولم يكن هناك سوى التزمت الديني السني المتشدد، ولم يوجد سوى تدخين الحشيش والمخدرات تسلية للشباب، حتى غدت حتى الدوائر الحكومية مخدرة!
وكانت جماعة الأخوان المسلمين هي الوحيدة المسموح لها بالتنفس في ذلك الجو الاجتماعي الخانق التي تزيدُ السيطرةَ عليه وتبررُ بلادته ومحرماته الكثيرة.
القبائل الوهابية من جهة والإنقلابيون الحكام المبهورون بذواتهم المتضخمة المنفوخة بغازات نفطية ملأت بشوتهم التي كانت قبل فترة وجيزة مليئة بأتربة الصحراء، إلى درجة البالونات والمناطيد الهائلة التي إرتفعت فوق شبه الجزيرة القطرية ثم فوق المنطقة!
جسمان متعارضان كل منهما لا يتماشى مع الآخر فظلا يعيشان كل منهما في عالم!
فكان لا بد من إستمرار تخدير القبائل بالمنح المالية والبيوت الواسعة والسيارات التي كلها زادتها جدباً في الإنتاج الثقافي!
لكن لا بد من الظهور للإدارة ذات العروض، فلم تقبل تتحول من مثل بعض الدول الخليج التي ركزت على التطوير الثقافي أو التركيز على السياسة والثقافة وتقدم الشعب التدريجي،
فغدت الحالة القطرية حالة فصام بين إدارة تعيش في فضاء، وشعب يعيش في فضاء آخر.
عنصرا الـــ(show) والأخوان المسلمين كيف يلتحمان مع بعض؟
كيف تلتحم لحيةٌ كثةٌ ونصوصيةٌ تقليدية محنطةٌ في عروض تلفزيونية حديثة ومع نسوة متبرجات مغريات لزوم الأغراء في العروض المشوقة؟!
كان عنصر التركيب؛ عنصر لحم هذين المركبين المختلفين، هو في عنصرٍ ثالث هو عنصر الأمبريالية الثقافية البريطانية ذات التاريخ الطويل في العروض الإذاعية والتلفزيونية، (الموضوعية شكلاً المؤدلجة مضموناً) والتي لديها خبرة في كيفية صياغة الخداع والأكاذيب وأنصاف الحقائق، وإعداد المواد حسب سياسة المسيطر السياسي.
إذن كل شيء سوف يخضع لعنصر العرض المبهر المشوق وإستغلال المادة الخبرية حسب المنظور الإيديولوجي للمرحلة المحافظة الأخوانية وجذب الناس إليها عبر تطعيم بعض الحقائق بذلك العرض المؤدلج الخاص، الذي يبث الوعي المحافظ الديني اليميني ويحقق العلو لإدارة البلد ويدخلها في السياسة المناطقية والعربية والعالمية، بدون أن تحتاج لشعب متطور ومثقفين كبار، فالمذيعون والفنيون كثيرون يمكن جلبهم عبر نفس الشبكات الأخوانية والإعلامية الجاسوسية البريطانية والعربية.
قامت الأسرةُ الحاكمةُ في قطر بإنقلابها على الأبِ المؤسس بإلغاء أبسط العادات الإسلامية حيث ينصُ القرآنُ على توقير الأب والأم وعدم قول الأف لهما، وهذا يعني إعتماد الإصلاح المتدرج وتطوير الحياةِ الأسرية والأوطان بشكلٍ عقلاني.
فبعد طعن الأسرة يحلُ كلُ شيء، وتُستباح المحرمات، وتتحللُ الجماعةُ المغامرةُ من الأخلاق، وتبيحُ أي شيء من مغامرات سياسية ومن تلاعب بالأموال العامة وتُدخلُ دولَ الخليج في علاقاتٍ خطرة مع أنظمةٍ وجماعات شمولية إرهابية، وتصيرُ مصلحةُ هذه الجماعة فوق أي عرف وأخلاق وأسس عقلانية وديمقراطية!
وحين تعلمنا المحطةُ بأخلاقِ الإسلام كل يوم يجب أن تعلمَ نفسَها أولاً وتعلمَ الأسرةَ الحاكمة فيها التي إستباحتْ كلَ شيء! أما الساكتون من (علماء الإسلام) على ذلك فهؤلاء من نفس العينة فهم خدم السلاطين المراهقين هذه المرة.
إذن تأسست قناةُ الجزيرة على أسسٍ إيديولوجية إنتهازية مائعة مع غياب نظرة ديمقراطية نابعة من القوى المحلية الوطنية، مثل طبيعة السلطة التي تكونت في قطر حيث الفردية، غير المتجذرة في نمو حضاري ديمقراطي نابع من فئات عليا وسطى تنامت في المجتمع وفرضت مقاييسها التحديثية.
أي أن ظهورها كنخبة فردية متحللة من قوى تقليدية مؤثرة أو شعبية أتاح لها أن تتحرك وسط خيارات دينية محافظة وقومية مضمرة بشكل إنتهازي مغامر قوي، فغدا صعودها بأي طريقة متحللة من الأخلاق والمبادئ ومدعية بها كذلك!
هي ثوريةٌ كاذبةٌ لكن تحاول لصق نفسها بالثورية دون أن تنجح في ذلك للأسباب الموضوعية المذكورة سابقاً، نظراً للمنحى الديني المحافظ القائم على سلطة قبلية سيطرت على موارد دولة غنية بالنفط والغاز، وتحكمت في كيفية توزيع هذه الثروة، دون أن تدخل نفسها في تحويل بلدان الخليج العربية بشكل تنموي نهضوي وديمقراطي مشترك.
من هنا تتشكل سياسة العروض والرغبة في الإبهار ومتابعة الأحداث الساخنة دون موقف نضالي حقيقي، مثل إستخدام الأسماء الكبيرة في الفقه والصحافة القومية، فالنجومية ضرورية وهي تعني القدرة البترولية الغازية على شراءِ الذممِ والأسماء وأدلجتها لصالحِ سياسة العروض.
إن الارتكاز على شخصيتين مثل الشيخ يوسف القرضاوي والأستاذ محمد حسنين هيكل، هو شكلٌ لتلك العروضية المؤدلجة الإبهارية دون مضمون كفاحي حقيقي.
فهو إستخدام لشخصياتٍ توقفتْ عن الحفر الديمقراطي الحديث سواءً في الإسلام أو في القومية العربية، فالشيخ القرضاوي يقدمُ آراءً فقيهةً جزئيةً مطلية ببعض الحداثة، لا تجعله مجدداً وذا حَفرٍ عميق في الفقه والتراث الإسلاميين، فهو يكرسُ المذهبيةَ السنية المحافظة، مرتداً حتى عن مؤسسي التنوير الإسلامي كالأفغاني ومحمد عبده، وليست له علاقة بالتجديدات الجارية بقوة في عمليات التجديد في الوعي الإسلامي، يشتغل مثل المحطة لتصعيد قوى الأخوان والشركات المالية الدينية للهيمنة على العالم العربي.
لقد تخثرَ فقيهاً ونظرياً، وهو ما يؤسسهُ عيشهُ في بلدٍ محافظ كقطر، مؤسس لوعي أخواني تقليدي يتحرك للسيطرة على العالم العربي، فلم يعارك حتى التحولات الفكرية والاجتماعية في مصر منبع هذا الشكل الوسطى المتذبذب من الوعي المذهبي المرتبط بفقهِ الإقطاع، وليس بفقهِ الثورةِ الإسلامية المؤسِّسة.
وهذا بسبب العمل مع دولة إقطاعية المضمون مشكلةً لرأسماليةِ دولةٍ شمولية مستغلةٍ لثروة ضخمة بشكل إستبدادي وربطت نفسها بسياسة المغامرات للدول الشمولية والجماعات الأرهابية .
فهنا تتحول التجديدات الثانوية الفقهية للشيخ إلى عرقلة لتطور المسلمين المحتاجين لثورة فكرية ديمقراطية تنأى بالاستخدام المذهبي الذكوري المتسلط للدين، وتخلق مقاربة بينهم وبين الرأسمالية الديمقراطية العالمية في أقل إحتمالاتها الممكنة في المنطقة الخليجية العربية وتعمل على توجيه الثروة والثورة للتغيير العربي الإسلامي التوحيدي. وهذا ما يفعله راهناً بدعوة الناخبين في مصر(يوم21 نوفمبر 2011) بعدم إنتخاب من يشرب الخمرة لأنه فاسق حسب رأيه وهو حكمٌ خطيرٌ يتناقضُ مع قوله بضرورة إنتخاب الأكفأ، وهل يؤدي شرب البيرة إلى تعطيل العقل والفساد السياسي كما تفعل أنت في عاصمة المغامرة؟ ألا يعطل عقلك الديني ما تأخذهُ من أسرةٍ حاكمةٍ لها هذا التاريخ غير المشرف المغامر الخطير على نضال المسلمين ووحدتهم؟!
هذا نموذجٌ لرفعِ الحكم الفقهي الشكلي إلى مصافِ القانون المقدس، وترك التوجيه المقدس في القرآن عن العائلة!
إن تغييبَ الشيخ للمنحى الثوري التأسيسي في الإسلام هو مواكبةٌ إيديولوجيةٌ للإقطاع الحاكم في قطر، مثله مثل تغييب هيكل لمنحى التجديدات الديمقراطية في القومية، فهو قد قام بتحويل عمل المناضل الرئيس جمال عبدالناصر إلى أسطورة أخرى مثلما عمل القرضاوي بتحويلِ الثورة المحمدية إلى أسطورةٍ وهي حراكٌ تاريخي محددٌ له جوانبه الايجابية والسلبية، بدلاً من أن يقوما بدرسِ أسبابِ الثورتين الاجتماعية وصراع الطبقات فيهما، بتجمدِ الديمقراطية في الثورة الأولى وتحولها إلى إقطاع سياسي، وعجز الناصرية عن التحولِ إلى الديمقراطية نظراً لهيمنة رأسمالية الدولة الشمولية مثل الحالة في قطر التي تخلقُ ثورةً زائفةً باسم الثورة الحقيقية التي ترفض الولوج في أولياتها وتترك مراقبة الثروة للشعب عبر برلمانٍ منتخبٍ بل تقوم بتوزع الثروة على الإعلاميين المُضِّللين وفئات النفاق والاستغلال المختلفة.
إن خطابات الضيفين الدائمين على الجزيرة الفضائية السَابقي الذكر نموذجين لتجميد الأفكار الثرة للإسلام والقومية وتحنيطها في أشكالٍ متيبسة، لا تقتحمُ الواقعَ، أو الأوضاع العربية المتفجرة، فتضيئها، وترشد خطواتها وتخلق عقلانية في نضالها، بل تقدم فقهاً ووعياً لما يشتيه السلطانُ الشمولي العابثُ بالأموال العامة ومصير العرب والمسلمين!
ومن هنا فتاريخ القرضاوي الأخواني المضاد للناصرية، وتاريخ هيكل المضاد للأخوان، يمكن أن يتلقيا في برامج منفصلة، وكل منهما يبثُ خطابَه بدون إغتناء مشترك، وبدون تجاوز لخطابات شمولية غدت متحجرةً متصحرةً، في عالمٍ يغلي بالتحولات، لأنهما تيبسا عن المضامين الحية للواقع المضاد للعالم الإقطاعي المحافظ المؤسَّس في الإسلام والمؤسَّس في القومية العسكرية الشمولية معاً!
نحن نأخذُ الشيخَ والأستاذَ في التلفزةِ المؤدلجةِ الجزيرية، كجزءٍ من عروضٍ واسعة، يُقصد بها جذب المشاهد والتعكز على الأسماء ثم تسريب مضامين سياسية عبر موادٍ أخرى مضللةٍ هادفةٍ لترسيخ وعي معين، ونشر سياسات خطيرة مضادة لتطور الأمة العربية والمسلمين، علينا متابعة ظهوره وتشكله.
نظراً للخطِ السطحي المذهبي السياسي اليميني الذي نشأتْ به فضائيةُ الجزيرة فإن الموادَ الطافحةَ المثيرة التي ظهرتْ في السنوات الأولى لعمرِها كانت القاعدة وبن لادن وصدام حسين وغزو العراق وغيرها من المواد التي هي بذاتها عروض.
زمنية بن لادن تحدد المنحى الأولي للجزيرة وطاقمها ومستواهم الإعلامي وقدرتهم الفكرية.
إن زمنيةَ صعود بن لادن تتماشى مع الوهابية العريقة في السعودية وقطر، فهي الشكل الجامد الإقطاعي البدوي للاختلاف مع البشر ومع المسلمين أو ضدهم.
هي المعاندة الطفولية للاستعمار، الناتجة من تغلغل الحنبلية في الجزيرة العربية وزيادة جمودها وتصحرها، وتحولها لعصابات ذبح وسرقة وإعتقال للمسلمين في أزمنةٍ سابقة، ثم تدفقت الثروةُ على بعضِ أصحابِها فحولوا الثروة لثورة إرهاب أو عروض إعلامية مبهرة زائفة تشترك في ذبح البشر أو السكوت على إيديولوجية الذبح!
إلتقاء الشكلين من العروض السياسية والإعلامية والإرهابية هو نتاجٌ لذاتِ المذهبية الشكلانية إسلامياً، التي تتحولُ في يد شيوخِ سلطةٍ وشيوخِ دينٍ إلى دكتاتورية سياسية سلمية أو عنيفة، كلٌ في موقعه!
الجانبان هنا يأخذان المذهبَ المحافظ وقد تحول إلى هيمنة طبقية إستغلالية غير ديمقراطية وينتقيان ما شاء لهما الهوى السياسي، أحدهم يحولهُ إلى هجوم بالطائرات على البرجين والثاني يعرض ويبهرُ بهذا الأجرام وينشرهُ في كل مكان!
لم يقم الطاقمُ الإعلامي بدرسٍ مسبقٍ طويل للظاهرات الاجتماعية والسياسية في الإسلام المعاصر، خاصة تاريخ الحنبلية وعلاقاتها بالوهابية، وكيف جاءت وكيف حدث التجميد لتطور الإسلام في العصر الوسيط ولتطور القبائل في الجزيرة العربية وأين ذهبت مداخيل النفط عن تغيير الحياة التقليدية العنفية لهؤلاء!
ولهذا يعمم هذه الصورة الإرهابية الدموية للإسلام كصورة بطولية!
إن الوعي الأخواني المشكل بتسطحٍ لرؤيةِ الإسلام بعينٍ يمينية إستغلالية إنتهازية كليلة النظر سوف يفصل بين ظاهرة بن لادن والواقع المحافظ للجزيرة العربية وأنظمتها الاقطاعية المسيطرة على الثروة النفطية وبين المغامرات الإرهابية لبن لادن.
وسيكون لقاء بن لادن المقاول الاقتصادي النفطي والظواهري المتعلم المصري غير مدروس كلقاء فئات إستغلالية ثرية في الجزيرة العربية للمثقفين والمتعلمين الدينيين والسياسيين العرب وإستخدامهم للأدلجة العصابية المذهبية والقومية، في مرحلةِ التأسيس للخطاب الأخواني بشكله الدموي حينذاك وللخطاب القومي المتجمد بشكله المستمر.
إن المقدم المنبهر بعروضه والقادم من الأخوانية الفلسطينية أو المصرية هو نفسه يدخلُ حمامَ الدم كجزء من نضال قوي، نافخاً في شخصية بن لادن محولاً إياه لبطل خارق، ورمز إسلامي، ويستحيل عليه تقديم قراءات عقلانية لمثل هذه الظواهر، ويتابع كمؤلفِ أرسين لوبين الأحداثَ البوليسية السياسية مفصولة عن المذابح وحمامات الدم التي تجري للبشر، ومن هنا تغدو هروبية بن لادن وإختفائه في إفغانستان واللجؤ إلى الكهوف لا تثير فيه أي شيء من تاريخ الفرق الدينية الإرهابية كالخوارج التي نبذت المدنيةَ والسلم والديمقراطية والحضارة، فلا يستطيع أن يفهم هذا كتحللٍ لجماعات دينية خرجت من الحياة المدنية الحديثة، ومن الطبيعة البشرية، لعالم الحيوان، بل يعرض ذلك كبطولاتٍ ويتابعها في جبال قندهار ورسائل بن لادن المفخخة للبشرية، مشدوهاً مذهولاً(لعظمة هذه البطولات)!
إن الأخواني وقد أُلتقط من حارات مصر الفقيرة أو من غزة يتم ذلك بمستويات عدة لابناء الفئات الوسطى المتجمدة فكرياً وسياسياً، فيتم إغراقه في غاز قطر، وسواء كان ذلك على مستوى شيخ هام كالقرضاوي أو على مستوى كاتب كبير كهيكل أو كمذيع مثل أحمد منصور، أو مثل الظواهري الذي يُحال على الخدمة الحربية في إفغانستان، هم أفراد من فئات وسطى تاهت عن طبقتها البرجوازية، التي لم تستطع أن تقوم بمهمتها النضالية الديمقراطية في بلدها وتؤسس الحداثة، تحليلاً للإسلام بتوجيهه نحو الديمقراطية، أو بتعرية القومية كدكتاتورية، أو كنقدٍ ضد ذروة التدهور عبر الظواهري الذي يصير إرهابياً وخارجاً كلياً من المدنية.
إن الجزيرةَ تغرقُهم بالغازِ الإعلامي المالي، لإنتاجٍ خطابات متطرفة حماسية تجذبُ وتخدعُ الجمهور، ويخطفُ الأضواءَ بطلُ المرحلة بن لادن، الممثل لعجز تلك الفئات عن النضال الديمقراطي الحاسم في بلدانهم، فيتحول على العكس إلى ضرباتٍ كارثية في بلدان العرب والمسلمين، وسلخ لشعوبهم وسرقات لثرواتهم البترولية!
ولكن مقدم (الشو) منبهرٌ ويحولُ هذه الكوارثَ إلى عروضٍ جديدة!
إن المضمون المفقود هو جزءٌ من وعي المسئولين القطريين العاجز عن فهم الديمقراطية وعن تصعيد فئات وسطى متحضرة في بلدهم، فلا يستطيع أن يعرض بالنقد الإعلامي وبالشرح الفكري هذه الظواهر المتداخلة وأسبابها العميقة، ولهذا يظهر بن لادن في الجزيرة كبطلٍ عالمي وليس كظاهرةٍ تدميرية!
تزدادُ العروض الأمريكية في منطقة العالم العربي الإسلامي المتداخلة، وهو ما يؤسسُ مواسمَ طافحةً بالنشاط الدموي أو بالإعلام الجزيري المخضب كذلك من هذه النافورات المتدفقة بالجثثِ والمدنِ المحترقة والسياراتِ المفخخة ونشر رياح الأشلاء ومن ثم الشعوب المهاجرة ومن ثم أخيراً الشعوب الثائرة!
البطل الصحراوي المطرود للكهوف يخلي المكان للبطل المدني الذي لم يتأثر بالمدنية وظل مجرماً.
صدام حسين والجزيرة الفضائية لحظة أخرى من غياب الدرس والبحث والتنوير وتسييد اللوثة القومية هذه المرة بدلاً من اللوثة الدينية، وفي اللوثتين منحى الجزيرة التسطيحي الغائر، حيث لم يقدر ضيفاهما المستمران من تحليل الإسلام أو تحليل القومية العربية وإنتاج مادة معرفية تنويرية إنسانية، فتكون مادةُ العرضِ هي ذاتها خاوية رغم الإبهار، ولكنها تجسد كذلك الإفلاس الفكري المتواري.
صدام وأمريكا، ثنائي معروض بإطلاق، مثل ثنائيات الوعي الديني القومي الشمولي، فهنا الحق وهناك الباطل، هنا النور وهناك الظلام، هنا العرب والإسلام والأخيار وهناك أمريكا والغرب والأشرار!
ورغم سحق صدام للعراق وشعبه، فهو يظل بطلاً في هذا الوعي الشمولي المسطح، ومن هنا فإن البطولات العربية الإسلامية غالباً ما تُؤخذ منتقاة من ظروفها الحقيقية وتداخلات التقدم والتخلف، ويُلغى الشريط الذي يحدد منابت رموز الدين الطبقية كقوى إستغلالية تطورية في فترة ما، ثم تتحول إلى أيقونات مقدسة تغدو أدوات للقوى الاستغلالية المتخلفة المفككة الممزقة لبلدان المسلمين والمواطنين عموماً، لكن الوعي الطائفي يُؤخذ كرأس الحربة في هذه العمليات.
إن صدام يُلحق بهذه الرمزية الدينية، فهو سوف يبني دولة عربية نهضوية كبرى ويحقق الانجازات كما فعل الأسلاف العظام! وتُستغل هنا كلمات الفتوح والعروبة والإسلام بتشنج عاطفي من أجل بلع شفرات الحلاقة المسمومة التي سوف تُدس في حناجر الناس.
في وعي محمد حسنين هيكل الشمولي يغدو الزعيمُ بؤرةً مركزيةً تقوم بلعب دور التحويل ولهذا فإن صدام العراق في تلك اللحظة المأساوية الكارثية في مسلسل الحقيقة يغدو قائد التصدي لأمريكا قائدة سحق العرب وتقزيم تطورهم القومي التوحدي، ولهذا فهو رغم مذابحه رجل المرحلة الذي لا يوجد رجل آخر مكانه يقوم بهذه المهام الجسام!
هنا تظهر وتتوالى العروضُ الفنيةُ المؤدلجةُ المتممة لهذا الهراء الفكري، فالزعيم يسبحُ في النهر بطلاً وينشرُ جيوشه ويطلق الصواريخ ويجتمع بالساسة وعلماء الدين والأدباء والمثقفين وكلهم يثني على دوره الخلاق التاريخي!
اللحظتان المؤدلجتان الفارغتان من أي وعي عربي إنساني ديمقراطي، وهما لحظة تأييد الدكتاتور، ولحظة التخلي عنه، تظهران تجاه القاعدة وبن لادن، وتجاه صدام حسين معاً.
الوجهان يعبران عن عدم الحفر الموضوعي في المادة السياسية، ففي اللحظة الأولى يتم التهويل للرمز الفردي، وربطه بمقدسات وعظمة الأمة التي هي بلا مراحل ولا طبقات، مجردة معممة متجوهرة حسب إيديولوجية الفئة الطائفية اليمينية صاحبة الرأسمال العولمي الطفيلي أي غير الصناعي والمنتج، فهنا الزعيم الطائفي الذي قاد بعض جماعاتها للكهوف والتخلف والهجمات الأجرامية الاستفزازية، أو الزعيم (القومي) الذي ذبح شعبه وتلاعب بتاريخه وسلمه جثة محروقة للغرب، يغدو رمزاً للأمة وإرادتها، وهي عملية نفخ سياسية دعائية لتحريك الجماعات المؤمنة بهذا الخط وغرزه في الجمهور وإستغلال عواطفه وربطه بهذه الجماعات لعملياتٍ سياسية راهنة وقادمة.
تصير العمليات التي تخرج من فضائية الجزيرة والعمليات التي تخرج من القاعدة الأمريكية الكبرى قرب الجزيرة في قطر نفسها، شكلين لفعلٍ واحد هو تزييف وعي الشعوب العربية والسيطرة عليها وتفتيتها طائفياً.
الغزو للعراق الذي تم بأدوات وعي أمبريالية أمريكية والذي كرسه النظام الدكتاتوري السابق المحبوب للجزيرة في اللحظة الأولى المدحية، تم هذا الغزو لتفكيك العراق وتصعيد القوى المحافظة الطائفية، ولم يشتغل على تكوين برجوازية نهضوية وطنية قائدة في أقل الخيارات المعقولة، وهذا الاشتغال الأمريكي حرباً تلاقى مع إشتغال الجزيرة دعاية وتضليلاً للعراقيين وبقية العرب.
مثلما لعب ذات الفعل على شخصية بن لادن وإفغانستان تضليلاً ثم تفكيكاً للمجتمع الإفغاني وتحطيم بنيته عبر خلق الصدامات بين القومية المذهبية البشتون وبقية القوميات، بين طالبان والحكومة (المركزية).
ومن هنا فإن الإيديولوجية السائدة تحريضاً في الجزيرة وهي الإدعاءات الثورية، هي مجرد لحظة أولى، تُعمم وترمز وتُجرد بدون تحليلات ملموسة معمقة للبُنى الاجتماعية المرصودة، وبدون إحداث مناقشات ديمقراطية حولها من أجل رؤية الطرق بتحولها الديمقراطي، وبتجميع كافة القوى الاجتماعية والتيارات على حلول توحيدية تطويرية.
وكان السودان نموذجاً آخر لهذا التصعيد الثوري الديني الزائف ثم تم عبره هدم السودان التدريجي عبر الانفصالات والحروب الأهلية.
ولهذا فإن لغة الطبول والاستعراض والمصادمات والتعريض والإدعاءات تستهدف تفجير العواطف وخلق حالات من الإثارة وعدم إعمال العقول وعدم تقارب القوى السياسية العربية الديمقراطية والتقدمية والدينية، ومن أجل نشر التنوير والديمقراطية الوطنية وبقاء الاستقلال.
وكذلك فإن صرف الأموال الهائلة على هذه العمليات الدعائية والسياسية يستهدف تصعيد هذه القوى الطائفية والرأسماليات الطفيلية وقوى الإقطاع الديني، وتوسيع نفوذ المؤسسات المالية القطرية والغربية وهدم القطاعات العامة المنتجة.
بين تأييد وشحن الجمهور العربي والمسلم بفظائع بن لادن وصدام حسين، وبين الترويجِ للثوراتِ العربية خيوطٌ مشركةٌ ولغةٌ إيديولوجية يمينية إنتهازية واحدة.
من يروج لذبح العرب والمسلمين وجرهم لمغامراتٍ خطيرة إجرامية وأنظمة إستبدادية وظلامية لا يمكن أن ينقلبُ بين برنامج وآخر إلى ديمقراطي وثوري!
إن اللغةَ السطحيةَ الراكبةَ فوق الموجات السياسية الطافحة وإستغلال عواطف الجماهير العفوية وتوجيه الأحداث لأغراضٍ ليست من جوهرها النضالي الديمقراطي وحرفها لغاياتٍ أخرى هي غايات القوى الطائفية اليمينية وإقتصاد الشركات المالية القطرية وعملائها، وسائلٌ هي ذات جوهر لم يتغير ولكن تغيرت المنطقة والمرحلة والظروف.
إن من روّجَ للقتلة في الجزيرة وللدكتاتوريين السفاحين هو ذاته من يروج للمناضلين من أجل الديمقراطية!
فلم تحدث أية مراكمات في الوعي ولم تطرح الجزيرة نقداً لظلاميتها ومواكباتها للفاشيتين الدينية والقومية، وبقى منهج الاستغلال النفعي، وركوب الموجات، وفصل الظواهر عن بعضها وعدم درس جذورِها وإستغلال المشاهدين والمشاركين في الأحداث، لتوجيه الأمور لغايات التنظيمات الطائفية.
لا علاقة للجزيرة والرأسمال الإقطاعي الغازي القطري بصراعات البُنى العربية والإسلامية حيث غرقت الرأسمالياتُ الحكومية بمصر وتونس وليبيا وسوريا والعراق والجزائر واليمن والبحرين وإيران وغيرها من البلدان العربية والإسلامية في أزمات إجتماعية عميقة، وغدا صعود الرأسماليات الخاصة التحديثية الديمقراطية وقوى العمال مسألة ملحة لإعادة تجديد البنى المسدودة الآفاق.
هي أزماتٌ بنيويةٌ تطالُ أشكالَ الرأسماليات الحكومية والرأسماليات الخاصة كذلك، لكنها تتمركز وتتعقد في هذا الشكل المتخلف من الرأسمالية في العالم الثالث نظراً لاحتكار السلطات وتجميد هياكل الإنتاج وإبقاء قطاعات سكانية كبيرة كالنساء والفلاحين والفئات الهامشية خارج الإنتاج الحديث.
ومثلما يحدث في إيران عبر تصدير أزمتها إلى الخارج تقوم قطر بذات الأمر، عبر تصدير أزمتها للخارج، وهي أزمة مختلفة عن إيران وبقية الدول، فهنا أزمة قيادة تبحث عن دور نجومي لا تقوم به في بلدها، ولديها تراكمات من فوائض نفطية تريد تحريكها في المنطقة والعالم، وشراء شركات حكومية وخاصة في الدول العربية والأوربية.
إنها أزمة المراهقة السياسية وهي تتجلى في الأسرة الحاكمة أولاً بالقفز على الشرعية، والقفز على دول الخليج المحافظة التي تتطور بشكل بطيء ومتدرج وهي لا تختلف عن نموذج الرأسماليات الحكومية الجامدة والفاسدة نفسه، ومن هنا تنفتح علاقات المغامرة لبعض أفراد الأسرة الحاكمة القطرية على كافة الصعد، بقيام علاقات مع دولٍ مغامرة وإحتلالٍ كإسرائيل وإيران.
فهي سياسةٌ لا ترتكزُ على قوى تحديثية وطنية، بل تهمش حتى الشخصيات الثقافية النادرة في قطر، ومن هنا فإنها لم تستطع أن تقدم نموذجاً ديمقراطياً داخلياً بالسماح بنمو فئات حرة لكون هذه القوى سوف تحد من التفرد المطلق للشخوص القليلة المتفردة في الأسرة الحاكمة.
ولهذا فإن النموذج المغامر يعرض الشعب القطري نفسه للعزلة عن محيطه والتضاد معه، كخفوت المشروعات المشتركة، ولا تختلف ظروف القطريين عن الليبييين في نظام المقبور القذافي، ولا تمتاز البنية الاقتصادية والسكانية والخدماتية بمميزات متفوقة بأي شكل من الأشكال، في دولة خصصت نفسها للعروض السياسية الرياضية، كإحتضان كأس العالم مع دفع الرشاوي الطائلة في ذلك.
ومن هنا تتجاهل القناةُ بشكلٍ فظٍ مشكلات الشعب القطري وكأنها تبثُ من مكانٍ آخر، كما ترفض الاستعانة بالمثقفين القطريين الشباب الواعدين في هذه الفترة، فتعيش قطر حالة ليبية مشابهة لزمنية العقيد المغرور، وثلته هي نفسها هنا، لكن بدون دم ومجازر هنا إلى حين.
ولهذا فإن الطبيعة المغامرة لسياسة القناة تنتقلُ للمناخ المحلي وتسممهُ، وتحرضُ القطريين بشكلٍ غيرِ مباشر على القيام بمغامرات ضد دولتهم وإستقرارها عبر نشرها مثل هذه الثقافة الخطيرة من جهة وإحتقار الشعب من جهة أخرى!
لهذا نجد عدم الاستعانة بمقدمين محليين، وجلبهم من الخارج من دول عدة، وغالباً ما يتم ذلك بوسائل سياسية خاصة.
ولهذا فالمحطة تخلق إضطرابات كامنة على الصعيد الوطني، كما تنقل مغامراتها للخارج بقصد الصعود في أية أحداث كبرى في المنطقة العربية.
فإذا كانت الدولة التي تنبثق منها هي كذلك رأسمالية حكومية شمولية، ميزتها إمتلاك وفرة من الفائض النقدي، فإنها لا يمكن أن تكون نموذجاً جديداً لدولٍ مأزومةٍ بنفس الموديل!
ولهذا فإنها تنقلُ نموذجَها المحافظَ الطائفي الانتهازي للخارج، وتبحثُ عن نسخٍ سياسيةٍ معجونةٍ بنفسِ الأمراض الطائفية المحافظة مثلها، فتُعّضد هذه النسخ، وتستغلها في خلق مشروعات سياسية وإقصادية مشتركة، فيتوسع الموديل الطائفي اليميني الانتهازي.
ولهذا فإن الأحاديث عن الدعم المالي للأحزاب الدينية إضافة للدعم الإعلامي ليست بعيدة عن الواقع.
فنلاحظ القناة كيف ركبت ظهور الشباب الثوري المنفتح، وعضدت حركاته بشكل واسع، ومدغدغ للمشاعر النضالية وشعارات الحرية، وإستغلتهُ في عالمٍ من البراءة والسذاجة السياسية والتضحية، ثم ساهمت في دعم جماعات الطائفية المتخلفة وعياً سياسياً وإسلاماً، من أجل تصعيد النسخ البدوية الإقطاعية الجزيرية في دولٍ كمصر وتونس وسوريا واليمن والجزائر والمغرب، وقد حدثَ تغلغلٌ كثيفٌ سابق أوتى ثماره المرة على هذه الشعوب.
ومن هنا فإن الرأسماليات الموعودة بها هذه الدول لا تبتعد عن النموذج الأصلي الطفيلي، أي الذي يركز على العمليات المالية والعقارية وشراء حطام القطاعات العامة التي ناضلت من أجل قيامها ووجودها الطبقات العاملة العربية، ولهذا يجب التحذير والنضال ضد خراب هذه الدول العربية التي سُرقتْ ثوراتُها بسبب الأحزاب الطائفية والدعاية الفضائية وخاصة من لدن الجزيرة، لتحطم صناعاتها وزراعاتها وتحقق هجرات عمالها عبر تصعيد مثل هذه الموديلات التي خربتْ بلدانَها أولاً وأضاعت ثرواتها الهائلة على سباق الهجن والسيارات وناطحات السحاب وأزالت الحرفَ والزراعة وجلبت عمالة هائلة بأجور متدنية وأستغلتها في الأعمال غير الإنتاجية بشكل أساسي ولتقزم شعوبها وتبقيها على البداوة وكره العمل اليدوي ولم تنشىء الصناعات المتقدمة ولم تدخل هذه البلدان الثورةَ العلمية التقنية رغم هذه الوفرة.
إنها رسملةٌ جارية مع وعيٍّ محافظ معادٍ للحريات النسائية وتحرر الفلاحين وحريات الثقافة والعقول وللانتاج المتطور ولإبقاء البداوة وعالم الإقطاع، ويريدُ خداعنا بألفاظ ثورية زائفة.

عبـــــــدالله خلــــــــيفة: قناةُ الجزيرةِ وتزييفُ الوعي العربي ⇦ http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=290773&r=0