الأرشيف الشهري: جوان 2019

عبـــــــدالله خلــــــــيفة : وقضية المرأة

أعمال عبـــــــدالله خلــــــــيفة وقضية المرأة:

   على الرغم من أن عبـــــــدالله خلــــــــيفة هو نتاج مجتمع بطريركي بامتياز، الرجل فيه كل شيء، إلا أنه يدرك منذ روايته الأولى «اللآلئ» التي صدرت عام 1981، مدى فداحة الظلم والقهر الذي تعيشه المرأة في مجتمع أرادها أن تكون مجرد تابع عليه الطاعة والخضوع فقط، كائن لا يملك من مصيره شيئاً، فالآخرون هم السادة وهم الذين يقررون كل ما يتعلق بشأنه وما عليه هو إلا أن يسمع ويطيع. . أليس الرجال قوامين على النساء؟ أليسوا هم الأدري بمصلحتهن وخيرهن؟

1ـ المرأة، كائناً تابعاً يقرر مصيره الآخرون:

   يعلم عبـــــــدالله خلــــــــيفة وضع المرأة جيداً في مجتمعه المغلق الخانق للمرأة كما يعلم جيداً وضعها اليائس فيقول في روايته «الينابيع»: أحس محمد أن جمعة يتحدث عنه ويرى أمه وهي مضطربة، مستباحة في المخزن في ليلة طاش بها صواب سيدها ص 56. بينما يقول في مكان آخر: … حتى اهترأ ومات ولحقته أمي… كانت تقذف حمماً من قطع الدم الكبيرة وتضرب أختي بهستيريا جنون وشعرها منثور وملابسها ممزقةّ ماذا عرفت أنت عن العذاب والألم والقهر؟ أرأيت أحداً من أهلك يهان ويغتصب؟ وأمك تموت بأسياخ المطوع الساحر وماء البرك الملوث المقدس؟.

   إن عبـــــــدالله خلــــــــيفة يتماهى مع الراوي هنا في إحساسه بالوجع والظلم الواقع على المرأة التي تقذف حمماً من الدم وتموت بأسياخ المطوع وبماء البرك الملوث غير المقدس كما يقصد على ما أعتقد… إنه يشفق على المرأة، هذا الكائن الذي لا يستطيع اختيار شريك حياته بل لا أحد يأخذ رأيه في ذلك… فيفرض عليه الأمر أمراً واقعاً عليه هو أن يستسلم لـه ويخضع.

   فها هو يقول في «الينابيع» ذاتها، وقد جاءت ميّ إلى محمد ترمي آخر سهم في كنانتها:

 ـ محمد، لم لا تتكلم؟

 الآن نزلت صخرة فوق ضلعه، طحنت لحناً وحلماً وأعطته لهب الأرض

ـ أنت ترين فقري وحالي، أيمكن أن نكون معاً؟

ـ أفديك بروحي … ولكن

ـ الحال صعب

ـ أهلي سوف يزوجونني لرجل كبير… ما بك ترتجف؟

ـ كل هذه السكاكين ولا تريدينني أن أتألم؟

ـ الذي يهواه القلب عجز البخت أن يجيبه… ص 58.

   إذن هي اختارت من قبل وأحبت لكن أهلها يريدون شيئاً آخر.. اختاروا لها مصيرها وقرروا عنها حياتها، ولسوف يزوجونها شيخاً كبيراً وهي لا تستطيع إلا أن تسمع وتطيع..

   ها هي ذي تقول في مكان آخر:

   ـ شيخ هو الذي يريدني. أتعرف أنك سقطت من شجرة وارفة ورحت تنمو في الماء المالح. أتعرف كم قصراً لديه وأراض وجزر؟ وليس كريهاً ولا جاهلاً. هو في ذروة المجد والأدب!! هو الكامل على هذه الجزيرة!! أيمكن لفتاة مثلي أن ترفس مثل هذه النعمة؟ ص 59.

   طبعاً، الجواب لا.. ليس باستطاعة أية فتاة أن ترفض ما اختاره لها الأهل كيف لا وهي لا تملك من مصيرها شيئاً.. ـ هي الضلع القاصر، ناقصة الحظ والعقل والدين، أيحق لها أن تختار؟ أتعطى حرية الرأي وتقرير المصير؟ في روايته «الضباب» نجد ما هو أنكى، إذ يقول على لسان المرأة التي جاءت إلى بيت البطل العجوز:

   “قالت:

   ـ أخذتني خالتي إلى ذلك البيت الحجري الكبير… رحت أساعد المرأة المتجهمة الغريبة المسيطرة على ذلك البناء المدهش. كنت أرتجف وأنا أجري وراءها من مكان إلى آخر. كان لديها بضعة أولاد أشقياء وزوج هادئ منعزل وفي الصباح تخرج طويلاً ثم تعود لتجد الأكل جاهزاً فتتذوقه وتلسعني بلسانها الملتهب المليء بالشتائم القذرة.. «الضباب» ص 68 إلى أن يقول:

   “كان كل أولئك الأولاد يأخذونني إلى غرفهم ويتناوبون على جسدي.. كنت أعي ولا أعي، أتلذذ وأقرف، حسبت ذلك جزءاً من عملي وخفت كثيراً أن أفاتح الأم… ص 68 وهكذا تتطور الأمور إلى أن تقول:

   “صرت آتي إلى ذلك الكوخ مع الأم ليدخل علينا الرجال، واشتهرت في الحي كله.. ص 68. وهكذا تتحول الفتاة التي لا تملك إلا أن تستسلم لمشيئة الآخرين وإرادتهم إلى مومس تبيع جسدها لكل من يريده…

   إنها تعيش المأساة بكل أبعادها، تحترق روحاً وجسداً، مع ذلك لا تستطيع أن تفعل شيئاً، فمصيرها قرره الآخرون، وقدرها ليس ملك يدها… إنها التابع الخانع الخاضع الذي لا إرادة لـه والذي يتحرك أشبه بريشة في مهب ريح.

   هذه «فيّ» تحب محمداً لكن أباها يقرر زواجها من رجل آخر:

ألا تسمعين يا فيّ؟

التفتت إليه وينبوع من الماء يقترب من صدرها. ستغطس الآن في الماء الساخن.

ـ ماذا تريد يا أبي؟ لقد جهزت لك الغداء

ـ إنني أتحدث عن عرسك، عن زفافك، يوم أن نلقاك ملفوفة في سجادة في غرفة عريسك

ـ أوه.. يا أبي!!

ـ وجهك يتضرج من الخجل! لكن اسمعي.. أتعرفين جارنا سعيد المناعي؟ هذا الرجل الشهم، لؤلؤة البحر.. إنه يريدك!! «الينابيع» ص 62.

   ولأنه يريدها ويوافق أبوها على إرادته سيتعين عليها أن تدفن أحلامها في الحب الذي لا تجرؤ على البوح به… تتخلى عن كل شيء وتذهب رغماً عن أنفها إلى سعيد المناعي.

وها هي فتاة أخرى تدعى زهرة تلقى المصير ذاته، فلا أحد يستشيرها في أمر مصيري يخصها هي وحدها إذ:

قال أهلها:

ـ مهدي أولى بك، سيعتني بطفل أخيه

دفنت وجها في رمال الوقت وارتعبت من أسنانه وانكفأت بعيداً عن النخيل والحكايات… «الينابيع» ص 115. إنها مقهورة مرغمة كما كانت عند ما زوجوها أول مرة، راسمين قدرها بالشكل الذي يشاؤون:

   “عندما دخل عليها كانت ترتجف رعباً. ماذا سيفعل؟ هل سيأكل من جسدها؟ أهو الذي يضع فيه جنيناً وكيف «الينابيع»، ص 114. إنها لا تملك شيئاً من مصيرها وحسب بل تجهل كل شيء عن ذلك المصير وعن نفسها وجسدها والآخر، إلى درجة ترتعب معها عندما تراه وتساورها ظنون شتى: هل سينهش لحمها؟ هل سيأكل قطعة من جسدها؟ إنه الجهل المطبق بحيث لا تعرف الفتاة شيئاً عن أخص خصوصيات الحياة: العلاقة بالرجل.

2 ـ المرأة، هدفاً للأطماع والنزوات:

   يتناول عبـــــــدالله خلــــــــيفة في أعماله المرأة كقضية باعتبارها هدفاً للأطماع والنزوات فهي الأضعف جسداً من الرجل والأقل حرية وقدرة على الحركة، تظل نهبة للرجل وأطماعه ونزواته. ها هو أكبر مرتضى في رواية «الينابيع» يتأمل زوجته زينب وهو يخطط لابتزازها ونهب أموالها، هي التي لم يتزوجها إلا طمعاً في ذلك.

   “تطلع أكبر إلى زوجته وتساءل: من كان يستطيع الزواج بك، وأنت ذات الوجه البشع واللسان السليط… ألا تدخلين القفص يا لبؤة؟

اقترب منها بحذر وأمسكها بود فجفلت وصاحت:

ـ ماذا تريد؟

أخذها برفق إلى حافة السطح فذعرت:

ـ ماذا تفعل؟ هل تريد أن تقتلني؟ ابتعد!

ـ يا حبيبتي، كيف أقتلك وأنت قطعة من قلبي، بل كل روحي.. بل أود أن تنظري إلى الأرض العظيمة التي حدثتك عنها. طالعي هذه المسافات الخالية وبيوت السعف الكثيرة المحتشدة حتى الشاطئ البعيد. أليست ساحرة وجميلة؟

ـ ماذا بك؟ هل خرفت؟ أي جمال في هذه العرشان القبيحة…؟

ـ بل الجمال كله ـ يا حبيبة عمري ـ في امتلاك هذه الأرض، هذه المساحات التي تنطلق فيها الخيل!!

ـ وما دخلي أنا بامتلاكك الأرض؟ اذهب واشترها!!

ـ ومن أين المال؟

هنا زعقت وصاحت وأزبدت… إلخ «الينابيع»، ص 158.

   لكنها مع ذلك ظلت هدفاً لأطماعه ونزواته، إذ إن لديه هدفاً وعليها هي أن تقدم لـه العون لبلوغ ذلك الهدف…

على أن المشكلة الأخطر، حين تتحول المرأة إلى فريسة يفترسها الرجل بكل وحشية وقسوة. إنه الاغتصاب الذي تعاني منه الكثيرات والكثيرات، فالرجل يمارس هنا قوته الجسدية وتفوقه العضلي على المرأة، فيقهرها ويذلها ويزرع فيها جروحاً قد لا تشفى منها أبداً. كثير من الروايات عالجت مسألة الاغتصاب وما تخلفه من آثار في نفسية المرأة، لكن عبـــــــدالله خلــــــــيفة يعالج هذه المسألة على نحو معكوس تماماً ليبين آثار حالة اغتصاب على رجل وجد امرأة مغتصبة وملقاة في الطريق فقدم لها العون لكن ليجر عليه ذلك الويلات. الحادثة تحدث في الواقع لكن ما يهمنا ليس ما جرت على الرجل من ويلات بل الوضع الذي وجد فيه هذا الرجل المرأة والذي دفعه لمساعدتها فيقول:

   “امرأة تتلوى على التراب وتنهش الحجر. تعض يديها وتبحث عن قطع فستانها الممزق وعباءتها المتوحدة بالظلام. اقترب منها، انتفض جسمها الممزق «الضباب» ص 6.

إنها حالة بائسة إلى أقصى حدود البؤس يجد الرجل المرأة المغتصبة فيها إلى حد أنه حين يحاول مساعدتها ورفعها بين يديه:

   “تضربه، تصرخ، تبكي، تخدش وجهه بأظافرها، اتركني.. اتركني «الضباب»، ص 7. تصرخ مرتعبة هلعة، هي التي اغتصبها الذكر مستغلاً ضعفها ورقتها. كذلك حين: تفتح عينيها تستعيد الألم المنتفض والذكرى الحادة. تتكلم، تهذي، تندس في صدره كابنة ضائعة، وفجأة تصرخ كأنها لمست الجلد الذكوري ذاته.. «الضباب»، ص 7. إنه الخوف الذي يتملك الفريسة من المفترس والذي يجعلها تبتعد عنه، لأنها جربت معه نهشه للحمها ولا تريد تكرار التجربة. هنا يفلح عبـــــــدالله خلــــــــيفة في تصوير هذا الشعور لدى الفريسة تصويراً بارعاً، كما يتناول في أعماله أكثر من فريسة من هذا النوع: امرأة كانت مطمعاً للرجل ومحطاً لنزواته فإذا ما انتهى منها تركها لأخرى، ها هو في «الضباب» يتكلم عن امرأة تزوجها رجل فقط لكي يستغلها ويبتزها، فيقول في حوار بين الرجل والمرأة:

ـ ماذا بك؟ لماذا تشمئز مني؟

ـ مللتك، اغربي عن وجهي!!

ـ أشم في ملابسك عطر نساء؟

ـ وماذا في ذلك؟

ـ أتعترف بهذه البساطة وأنا التي ضحيت من أجلك…

ـ ومن أجبرك؟

ـ أعرف أن لك علاقة بامرأة غنية الآن. تريد أن تستنزفها كما عصرتني ولكني سأقتلك قبل أن تلقيني في الشارع «الضباب» ص 46 ـ 47.

مع ذلك لا ينفعها تهديدها لـه، فهو يلقيها في الشارع وقد استنزفها تماماً ليذهب إلى أخرى يستنزفها وهكذا دواليك…

3 ـ المرأة، ضحية للظلم والعسف:

   في كثير من المواضع يتناول عبـــــــدالله خلــــــــيفة المرأة في وضعها الاجتماعي الصعب كضحية للظلم والعسف. ولا غرو، فهي الطرف الأضعف في المعادلة دائماً، جسداً ومالاً وعلماً لهذا يمكن لأي رجل أن يمارس عليها عقده ويفرغ فيها حقده ومفرزات دونيته ونقصه، بل لأنه هو نفسه عرضة للظلم والعسف الاجتماعي، إما على يد المستعمر، أو الحاكم أو الملاك أو رب العمل… إلخ، فإن من الطبيعي أن يبحث عن التعويض لكي يحقق التوازن النفسي الذي يمكّنه من الاستمرار والعيش، هذا التعويض يكون على حساب المرأة التي تتلقى في حياتها كل أشكال الظلم والعسف بدءاً من أبيها وأخيها مروراً بزوجها وأهل زوجها وانتهاء حتى بأبنائها. عبـــــــدالله خلــــــــيفة يرى هذا ويسلط الضوء عليه في كل عمل من أعماله. ها هو في الينابيع يتكلم عن «فيّ» الفتاة التي تموت أمها ويتزوج والدها بهدف أن تكون هذه الزوجة أماً لها لكن ماذا يجري؟

   “وجاءت امرأة ساكنة هادئة احتلت المكان. وفجأة تمزقت ملابس فيّ وتقطعت ضفائرها وتكسرت نجمات بحرها وراحت تهذي وتجري في الليل تصرخ الزوجة فيه:

ـ هذه ابنتك مدللة، لا تريد أن تغسل صحناً ولا أن تنظف أرزاً.

وهو يصرخ فيها بدوره:

ـ أتريدين وضع هذه الطفلة بين النيران والقدور منذ الآن؟

ـ ليست طفلة، إنها امرأة..

   حين التهب جسدها وتناثرت أهرامات صغيرة من الجلد المتغضن المنتفخ وهربت من البيت مراراً وتاهت بين كتل السفن الجاثمة على الشطآن… إلخ «الينابيع» ص 61 حينذاك فقط يتنبه الأب لضرورة إنقاذها، فعلى يد زوجته حل بالفتاة ظلم لا نظير لـه، فضُرِبت وعذبت وحبست ومزق جلدها ونتف شعرها… لا لشيء إلا لكي تنفس الزوجة عما في داخلها من عقد نتيجة الظلم الذي مورس عليها هي ذاتها من قبل ولتفريغ الشحنة العدوانية التي تحتل أعماق لا شعورها، رغم أن الأب يحاول الدفاع عن ابنته التي يحبها إلا أنه لا يستطيع ذلك إلا بالتخلص من الزوجة وإخراجها من بيته.

   بل إن المرأة، كما يرى عبدالله خليفة، تقع ضحية للظلم والعسف حتى في علاقة الحب التي يمكن أن تقوم بينها وبين الرجل، ذلك أن أي عواقب وخيمة أو نتائج غير شرعية تنجم عن تلك العلاقة غالباً ما تنعكس على المرأة وحدها، إذ يفر الرجل بجلده لتبقى المرأة وجهاً لوجه أمام مصيرها المحتوم: ذبحاً أو رجماً أو عاراً أبدياً يجثم صخرة على صدرها وصدر أهلها، جاراً عليها سلاسل من العذابات والمآسي التي لا تنتهي.

هذه فيّ في الينابيع وقد شعرت ببذرة محمد تنمو في أحشائها تجيء إليه مستنجدة مستغيثة.

“قالت فجأة:

ـ استرني… يا محمد

ارتعب، لم يعد يشتهي شيئاً، سمكة الشعري المقلية بالزيت والمترامية فوق الأرز الأبيض المعذب، مصيدة لسجن العمر الكئيب، لهذا الحجر الذي سينطفئ فيه الأغنيات والكلمات. أتريد أن تصطاده بهذا الثمن البخس؟

صرخ فجأة:

ـ هيا، اذهبي من هنا.

ـ لا أستطيع. نطفتك تتكون داخلي.

ـ أأنت مجنونة؟ هل تتصورين أنني، أنا الرجل الحر، أحبس نفسي في هذه الخرابة لأصنع أطفالاً وأناغي زوجة وأشتري الأدام كل صباح… إلخ

ـ وأبي وأحجار الرجال التي ستنهال على جسمي، وعصا سالم الرفاعي التي ستحطم رأسي.

ـ اذهبي من هنا، وخذي أرزك وفضائحك ودموعك معك!! اتركيني…

   كانت تتقطع دموعاً ويداً وثدياً. كل ينابيعها المحبوسة بأقفال الأمل ضخت فجأة كل الوجع والرعب وصارت المدينة والسماء كلها حصا. سمعت عن جارتها التي انتفخ بطنها حراماً وأحضروا عجوزاً شمطاء قتلت الطفل وأذابته في الحمام، ثم هربت العائلة كلها فيما وراء البحر. وأمينة صديقتها التي قتلوها ودفنوها… إلخ” «الينابيع» ص 92.

   وهكذا ترى الفتاة قدرها بأم عينها، ذاك القدر الذي عليها أن تواجهه وحيدة مفردة، تخلى عنها شريكها في الحب، وتنصّل من الذنب لتلقى هي وحدها العقاب الذي كان عليهما كليهما أن يتشاركا فيه..

   ها هو بطل الضباب الذي تتزوج أمه رجلاً آخر بعد أبيه يرى كم يمارس عليها هذا الزوج من ظلم وعسف إلى درجة يصرخ معها ذات مرة: ذئب!! ذئب: ويود لو يخنقه بيديه لكنه مجرد طفل وزوج الأم رجل كبير يظل يضطهد أمه ويعذبها إلى أن تقضي نحبها فيقول مخاطباً نفسه:

   “كل وجهك، حطم الجدران والمزهريات، فلا فائدة وأمك تحمل على نعش بعد أن عذبها اللص حتى الموت وحوّل أولادها إلى خدم… «الضباب» ص 72. على هذا النحو يصور عبـــــــدالله خلــــــــيفة هذا المخلوق الضعيف الذي هو عرضة دائماً لاضطهاد الرجل واستبداده، ظلمه وعسفه إلى درجة تستسلم معها لكل ممارسة يريد الرجل ممارستها عليها، بانتظار، ربما معجزة سماوية تنقذها لكنها أكثر الأحيان لا تجيئ.

4 ـ المرأة، رهينة للكبت والحرمان:

   يعلم عبـــــــدالله خلــــــــيفة ، هو الذي يعيش ظروف مجتمعة وشروط الحياة فيه بخيرها وشرها، أن الإنسان العربي يعاني أكثر ما يعاني من الكبت والحرمان، فالتقاليد والعادات والأعراف الاجتماعية كلها تفرض عليه إطاراً معيناً للعيش يتعذر عليه الخروج خارجه، ليظل في معظم الحالات رهن الكبت والحرمان الذي يمسك بقبضته عنق الإنسان إلى درجة يكاد يخنقه فيها، ذلك ينطبق على الرجل والمرأة على حد سواء، لكن لما سبق وذكرناه من ظروف مخففة لدى الرجل تكون وطأة الكبت والحرمان أخف عادة مما هي على المرأة، التي تعاني في أغلب الأحيان من حرمان شديد وكبت قاهر يكاد يدمر حياتها، بل هو نفسه ما يدفعها في أحيان كثيرة للانزلاق في منزلقات الخطيئة، وبالتالي للانحراف والضياع، فالمرأة التي يفرض عليها، خاصة في المجتمعات المغلقة شديدة المحافظة، أن تظل حبيسة المنزل، تنتظر العريس إن كانت في بيت أبيها، أو تنتظر دورها، إن كانت في بيت زوج متعدد الزوجات، تجد نفسها تتآكل من الداخل وفي جسدها حاجات لم تشبع وغرائز لم ترو… فلا تملك إلا أن تسعى لإروائها.. لنر عبـــــــدالله خلــــــــيفة كيف يسلط الضوء على هذا الجانب من المرأة، كقضية ومشكلة، فها هي الفتاة التي كان يحبها جابر تركته وتزوجت رجلاً ثرياً متعدد الزوجات لكنها لا تجد معه ما يروي ظمأها القاتل ويعوضها كبتها وحرمانها الطويل فتعود خلسة إلى حبيبها السابق:

   “سمع خطوات مضطربة عند الباب ثم دقات عصبية سريعة. فتح وإذا هي متدثرة بعباءتها تلتفت إلى الوراء خوفاً، ثم ترنحت بين يديه عصفورة مضطربة القلب مذعورة… «أغنية الماء والنار» ص 134، وهي لكي تراه تلجأ إلى حيل وأساليب عجيبة وغريبة، إذ عليها أن تكتم وتخفي أو كانت الفضيحة وبالتالي العقاب الشديد الذي قد يكون الموت نفسه، إذ إنها تراه مصادفة في السوق وحينذاك:

تطلعت في وجهه. ارتبكت وشعت بالابتسام. تركت البائع، اندفعت في الزحام. تبعها، تركت الدكاكين والسوق ودخلت الأزقة. كان أحدها خالياً، توقفت أرادت أن تتكلم، لكن الألفاظ تعثرت في شفتيها.

ـ كأن الفراق كان سنوات طويلة.

تتلفت ثم تطالع وجهه بارتياح. كأنها كانت تبحث عنه طويلاً. تريد أن تلقي برأسها على صدره لكنها تظل بعيدة، متوجسة من المارة والأصوات.

ـ لقد تعبت من هذا الرجل الفظ القاسي الذي لا يعرف سوى رغباته. لقد اشتقت إليك كما لم أشتق من قبل. يا ربي!! كيف تسرعت وأخطأت!!

ـ هل كان بريق الثروة رائعاً؟

ـ لا تحقد علي الآن. كنت طوال هذه المدة أذكرك وأتعذب… «أغنية الماء والنار» ص 93.

إنه الحرمان الذي يجعلها تذكره وتتعذب وهو الحرمان الذي يدفعها لأن تتبع الأساليب الملتوية لتلبية حاجاتها الجسدية، فتقترح عليه هي نفسها أن يستأجر غرفة كي يلتقيا معاً بل وتعطيه نقوداً.

   “ـ أريد أن أقول لك كلاماً كثيراً. لماذا لا تستأجر غرفة هنا؟

   قبل أن يفتح فمه أعطته رزمة من النقود.

   ـ غداً سألقاك هنا وفي هذا الوقت لرؤية المكان «أغنية الماء والنار» ص 94.

وإذا كانت حبيبة جابر تهرب بعيداً عن بيت زوجها فإن حبيبة محمد في رواية الينابيع تأتي به إلى بيتها للعناية به وقد مرض وتقيم معه علاقة وهي تحت سقف بيت أبيها وذلك لشدة الدافع والرغبة التي صنعها الكبت والحرمان.

   يحتضن فيّ بقوة، وكان المطر الناعم يتغلغل في التراب منتشياً صارخاً ويرى أن جسده كله يشتعل، وهذه ليست رقصة في بحر والتفاف جسدين بين كتل الماء والأعشاب، بل استحمام في برد ونار، والغرفة تركت لـه، والليل، والأب ينام في وحدته، غافلته ابنته واندفعت للهوى والجمر… «الينابيع» ص 86 .

كيف لا، والكبت والحرمان يصنعان ما هو أفظع من هذا وأشد هولاً، خاصة لدى المرأة التي تقاسي أشد أشكال الكبت والحرمان حتى تتشوه نفساً وجسداً كما تتشوه قدم الفتاة الصينية وقد وضعت في قالب يمنعها من كل نمو أو تطور.

5 ـ المرأة، كائناً هشاً سريع التأثر:

   يتابع عبـــــــدالله خلــــــــيفة في أعماله كلها رصد قضية المرأة باعتبارها كائناً هشاً ضعيفاً سريع التحول والتأثر، تنعكس ظروف الحياة الصعبة عليها مباشرة لتجعل منها الكائن الذي ينكسر ويعطب بسرعة كبيرة، كما يتأثر ويتغير بسرعة كبيرة أيضاً:

   “الفتاة تطلعت إليه بخجل، بخجل شديد، وتوارت نظراتها وانكسرت وبدا أن دمعة ساخنة تحرق خدها..  «الضباب» ص 17. وهل لهذا الكائن الهش حين يخجل أو يخاف أو يقلق سوى الدموع والبكاء؟

   ها هي في أغنية الماء والنار تصف نفسها بنفسها وقد تأثرت وتحولت تحولاً كبيراً حتى غدت كائناً آخر:

كانت عيناها قاسيتين، الوجه الجميل استحال إلى شكل مرعب. خاف، تراجع.

ـ أين ستذهب؟

ـ هل أحببت أحداً ما؟

ـ عشت في قسوة طويلة. حين اغتصبني الشيخ الثري وأنا صبية كرهت كل شيء كرهت الناس، كرهت أبي الذي كنت أحبه كثيراً. بدا لي عاجزاً ضعيفاً وكنت أتصور أنه عملاق يصل إلى السماء. لم أشعر بأي لذة. لم أفكر بعدها إلا أن أملك وأملك.. «أغنية الماء والنار» ص 125ـ 126. لقد تغيرت إلى درجة تحولت معها إلى وحش حقيقي ليس لديه مانع من أن يلتهم حتى لحم أخيه الإنسان… فتخطط لإيقاع راشد بحبائلها لكي ينفذ لها مأرباً بعيداً يلبي نهمها الشديد للتملك: ألا وهو حرق أعشاش الفقراء وبيوتهم حتى ولو التهمت النيران نصف ساكنيها، وهو ما تفلح فيه مورطة بذلك راشداً الذي يدفع فيما بعد الثمن غالياً.

   وها هي مي التي كانت تذوب حباً بمحمد وذهبت إلى منزلـه لكي تقنعه بأن يعمل لإنقاذها من براثن الشيخ العجوز الذي سيشتريها بماله، ها هي ليلة عرسها من هذا الشيخ العجوز، وقد تغيرت تماماً واندمجت في جو العرس اندماجاً تاماً..

   “تتطلع مي من غرفة العرس إلى المدينة وهي تشتعل بفرحها، تتجمد ذائبة من النشوة ولأنها كائن هش سريع التأثر تبدو على أتم الاستعداد للغرق في ذلك العالم الآخر.

6 ـ المرأة، فريسة للخوف والقلق:

   من الطبيعي، والمرأة في مثل هذه الشروط الاجتماعية والإنسانية، أن تكون دائماً نهبة للقلق والخوف، و عبـــــــدالله خلــــــــيفة يعرف هذا ويسجله بكثير من الإشفاق والرثاء. فالمرأة غالباً ما تعيش حياتها سلسلة متصلة من الخوف والقلق. إنه الخوف من مفاجآت الحياة، من المخفيات التي لا تعلم متى تظهر لها فتدمر حياتها أو حياة أطفالها وزوجها..

   “كانت زهرة تحدق من وراء الخوص، في السفينة الكبيرة الوحيدة التي جرفت بعيداً عن ساحل قرية العين.. كانت النسوة يرفعن أيديهن ومناديلهن للبحارة المتوغلين في اليم… ولم تصدق أن زوجها سيغرق فجأة وإلى الأبد، كومضة، كفراشة. تبحث عن ملامحه في النهار والليل فلا تجده. إن حشد الأهل يطفئ آهاتها الساخنة ويملأ بماء العين قنواتها النابضة «الينابيع» ص 113.

   أما حبيبة جابر التي تزوجت من الرجل الثري فتعيش أشد حالات العذاب والخوف والقلق في بيت زوجها، هي التي تجد نفسها محاصرة بالأعداء من كل جانب والتي يهددها الخطر في كل لحظة:

   “لا تقل هذا. إنني أموت كل يوم. منذ أن جئت إلى بيته والمعارك لا تهدأ مع زوجته الأولى ومعه. ليس هذا بيتاً بل مستشفى. زوجته تغير مني وترغب ألا أحمل أبداً، تحرق البخور وتغرز المسامير في الخشب المحترق. وهو ينتظر كل يوم أن أكون قد حملت” «أغنية الماء والنار» ص 94.

   إنه الخوف والقلق الذي يترصد المرأة في كل طور من أطوار حياتها وحالة من حالاتها فهي إن أحبت انقضت عليها وحوش الخوف والقلق، تنشب فيها مخالبها وأنيابها، خشية أن يكتشف أمرها فتفتضح…

   “ينهض فجأة ويلقي العود. ترتعب الفتاة، يغلق الباب فتذكره بالفانوس الذي تركه مشتعلاً…«الينابيع» ص 49.

   كذلك الأمر مع حبيبة جابر التي تجد نفسها مشطورة شطرين: أحدهما يجري وراء الحب الذي ضيعته وثانيهما يعمل كل ما في وسعه للحفاظ على الرجل الذي رضيت به زوجاً وذلك فقط لأنه قادر أن يؤمن لها مستوى حسناً من العيش.

   “يا لهذا الحب!! كنا نجري في الظلام حين أكلت (الحوتة) القمر.

   أتذكر؟ كنا نلتقي في القلق والخوف كأن حبنا قد دمغ ولعن بالمطاردة والظلام. وحتى هنا، في فسحة الوقت، أخاف أن يفتح الباب فجأة ويدخل زوجي «أغنية الماء والنار» ص 136.

بل هي تشعر بالمرارة والغصة وهي تعلم علم اليقين ما يهدد حبها لـه وعلاقتها به من مخاطر وأهوال.

   “لقد تحملت كثيراً وجئت إليك، سرت في الأزقة متغطية عن العيون، ومشيت طويلاً حتى وصلت هنا… فتقابلني بهذا البرود!

   الكلمات المرتجفة بالبكاء هزته. دهش لأن المرأة تحولت هذا التحول كله. أيكون مخطئاً في كل شيء؟ أيكون أبله بحيث لا يميز بين الجمود والتعب؟” «أغنية الماء والنار» ص 127.

   هذا التحمل الشديد. هذا السير في الأزقة، هذا المشي الطويل إنما يتم كله على نصال الخوف وأسنة القلق، فأي عابر قد يسبب لها مشكلة، وأي حدث طارئ قد يثير لها فضيحة، مع ذلك هي تغامر، تتحدى القلق والخوف لا لشيء إلا لأن دافع الحب أقوى بكثير من دافع الخوف وغريزة الحياة أقوى بكثير من غريزة الجمود والموت.

   “في المرة الأخيرة قالت (أخاف من الحضور. أتتذكر ماذا حدث ليلة الخسوف؟ الجميع كانوا يلاحقوننا)

ـ لا تخافي سنتزوج قريباً.

ـ سنتزوج؟ كيف وأين؟

ـ هنا، ستعيشين معنا في البيت..

ـ بين إخوتك وأمك وأبيك، هذا خان وليس عش حب.. «أغنية الماء والنار» ص 59.

   إنه القلق والخوف الدائم من مصير أسود ينتظر المرأة، هذا الكائن الرقيق الذي لا يريد سوى حياة كريمة توفر لـه ما يحتاجه دون أن يعرض نفسه للإهانة والذل. إنها تخاف أيضاً أن تخسر حبيبها وهي تراه متعلقاً بفتاة أخرى فلا تملك إلا أن تقلق إلى حد الارتعاش.

   “كانت فيّ ترتجف عند شجرة الرمان في الحوش. رأت المرأة الفاتنة عند محمد وأبصرته يعبدها فصارت عموداً من ملح يذوب… «الينابيع» ص 60.

   بل إن المرأة حتى إن تزوجت يظل الخوف يساورها والقلق يسكن أعماقها، ماذا لو تزوج الزوج من جديد والشرع يسمح لـه باثنين وثلاث ورباع؟ ماذا إن لم تنجب لـه أولاداً وهو يريد العزوة والأولاد؟

   “وتذكر أمه وهي تنتظر أباه في الحوش قلقة متسائلة عن تأخره، تهتز كما لو كانت تقرأ القرآن ثم تنظر من الباب إلى الدرب الفارغ فلا ترى صياداً تسأله عنه. سنوات كثيرة عاش بلا أطفال. ذهبت إلى (الخضر) وفلقت عدة بيضات على حجريه الصلدين وأعطت البيض الباقي لخادم المزار. غير أن الأطفال لم يزرعوا في بطنها. كانت ترتعش وتبكي في الليل وتقابل السماء المرصعة بالنجوم وهي تقول (سيتزوج غيري وينجب منها أطفالاً، أترضى بهذا يا رب؟) «أغنية الماء والنار».

   هذه هي حال المرأة، قدرها أن تظل دائماً فريسة للقلق والخوف، لم لا وهي الكائن الضعيف الذي لا يملك من أمره شيئاً بل عليه أن يكون تابعاً خاضعاً مصيره مرتبط بإصبع الرجل، السيد المهيمن الذي يملك كل شيء.

7 ـ المرأة، كائناً مغيّباً:

   عبـــــــدالله خلــــــــيفة يعرف هذا جيداً، وهو يرى المرأة في مجتمعه في إحدى حالتين: إما رهينة جدران أربعة لا تخرج منها إلا بإذن ولا تدخل إلا بإذن وإما غائبة خلف حجب سوداء لا يراها أحد ولا تكاد هي أن ترى أحداً. لقد فرضت عليها العادات والتقاليد الاجتماعية أن تكون هكذا، وهي لا تستطيع اختراق تلك العادات والتقاليد بل ولا حتى مواجهتها، فتستسلم لمصيرها امرأة حرمت من أبسط حقوقها في الحرية والتعبير عن الذات، المساواة مع الرجل والمشاركة في الحياة الاجتماعية. رغم ذلك ترضى المرأة بقدرها، هي التي لا تستطيع تغييره، فقديماً     قالت عائشة التيمورية:

وما احتجابي عن عيب أتيت به

وإنما الصون من شأني وعاداتي

   إذن هي ترضى بالاحتجاب لأن العادات والتقاليد هي التي تفرضه، وهي ترضخ لتلك العادات والتقاليد، فذلك أسلم وأقل وجع رأس. وعائشة التيمورية هي التي تقول أيضاً:

بيد العفاف أصون عز حجابي

وبعصمتي أسمو على أترابي…

   رغم أن هذا الحجاب بكل ما لـه من عز ومنعة هو الذي يغيّبها عن الحياة ويبعدها عن المشاركة الاجتماعية ويحرمها في معظم الأحيان من حقها في العمل والتعلم. إنها الأسيرة التي ترضى بأسرها، فلا تشكو ولا تتذمر، بل كثيراً ما تكون أكثر تشبثاً بأسرتها: الأعراف وبقيودها: التقاليد، من الرجل نفسه، حريصة على أن تبقى المغيبة، راضية بغيابها ذاك.

   عبـــــــدالله خلــــــــيفة يرصد ذلك الغياب بنظر ثاقب ويحزن، يريد من المرأة أن تشق أكفانها وتخرج إلى الحياة، إذ غالباً ما يتكلم عن العباءة والحجاب، ونادراً ما يغيب صورة المرأة المعزولة المبعدة عن الحياة الاجتماعية الفاعلة عن أعماله. بل هو يرى ذلك الغياب والحجاب ماثلاً حتى في ليلة زفاف مي.

   “وتسدل الحجاب الحريري على وجهها وتحكم طي العباءة على جسمها، وتسمع هذه الطبول تقترب وأقدام الحشد الرجالي تصعد السلم وتقلقل البيت وتبدأ الأنفاس الذكورية في التسلل إلى مخدعها الناعم وتتذكر وصية أمها المليئة بأقانيم الطاعة والصمت والعمل، وممانعة الزوج في ليلة الدخلة وعدم تركه يأخذها بسهولة، وعليها أن تلتف جيداً في عباءتها حتى ينتزعها انتزاعاً… «الينابيع» ص 88 .

   ترى هل هناك تغييب أكثر وضوحاً من هذا التغييب؟ وهل هناك أسر أشد مرارة وشراسة من أسر التقاليد والأعراف هذا؟ فلا تستطيع المرأة معه أن تعيش حياتها كما ينبغي ولا تتمكن من التعبير عن ذاتها وممارسة حريتها كإنسان كامل الحقوق الإنسانية. إنها المأساة التي يسلط الضوء عليها عبـــــــدالله خلــــــــيفة ببراعة وحذق، وكأنما يحث بذلك مجتمعه كله على أن ينهي هذه المأساة وأن يحل قضية المرأة ككل، مخلصاً إياها من كل ما يحول بينها وبين الحياة الحرة الكريمة، ويحررها من كل قيودها لتنطلق في فضاء الحياة صنواً للرجل تعمل معه يداً بيد وتبني الحياة والمستقبل معه جنباً إلى جنب دون تفرقة أو تمييز، بل بكل ما لها، كإنسان، من حق في الحرية والمساواة.

عبدالكريم ناصيف

كاتب وأديب سوري

ظهور المادية الجدلية

لم يكن لدى الفلسفات الغربية وهي تخرج من العصر الوسيط الديني المسيحي سوى الاعتماد على فلسفة أرسطو مادةً ومنهجا وكانت التطورات الصناعية والتحولات المختلفة تدفع العلوم نحو استيعاب مختلف للحركة، وقد قام ديكارت ونيوتن بطرح مفهوم جديد للحركة هو الفلسفة الميكانيكية، وقد استعانت الفلسفة العربية الإسلامية السابقة بذات منهج أرسطو ورؤيته لفهم الحركة فكان أقصى جهد لها هو فهم حركة الأجسام في المكان.

ولكن الأدوات والمعلومات التي توافرت في العصر الأوروبي الجديد، التي قام بها غاليلو وكوبرنيكس وغيرهما من العلماء أتاحت فهم حركة الكواكب والشمس بطريقة مختلفة عن السائد في العصر القديم، مما جعل ميكانيكا فهم الأجسام الكبيرة تسيطرُ على الوعي العام بالحركة. وقد تمظهرت هذه لدى نيوتن بقوانين الجاذبية. وحددت هذه الفلسفة ميكانيكا الأجسام عموماً حيث الحركة في المكان – الزمان تقوم على قوانين مادية محضة، أي على قوانين من داخل المادة، ولكن الداخل هنا بمعنى حركة الأشياء، فظل التناقض المادي الجسمي الخارجي الآلي هو المسيطر على فهم هذه الحركة الأبدية العامة، لكن كان لابد من وجود مصدر لظهور هذه الحركة فكان الإله.

وهنا تتآلف الفلسفة الميكانيكية مع الدين بإعطائه إشارة إيجاد  الساعة الكونية، وتوقيتها، وربما إنهائها، لكنها كذلك تفصل الحركة عن عمليات خلق الكون الغيبية، وأدى طرحها بأن الشمس مركز المجموعة الشمسية وتكون المجموعة من سديم، إلى توجه العلوم نحو إعادة النظر في المعطيات الفكرية الأرسطية بشأن مصدر الحركة وبشأن الطبقات السفلى من تاريخ الكون والمادة، وبالتالي يفتح الآفاق لقراءة الظاهرات المادية الأصغر والمواد والكائنات المختلفة. وهكذا فإن الفلسفة الميكانيكية وهي تنشئُ العلومَ الحديثة كانت تتعرضُ هي نفسها للزوال. فهذه الفلسفة الميكانيكية بتطبيقها على مجالات الحركة في أجسام أصغر، وعلى ظاهرات ذات تحولات مركبة كعمر طبقات الأرض وكيفية احتراق المواد وكيفية ظهور أنواع الأحياء لم تستطع أن تصنع إجابات علمية بحسب مستوى منهجها. كان تطبيقها على هذه الظاهرات يقوم على إرجاع عنصر التحول إلى عوامل خارجيةٍ وإلى غازات غير محددة، لكن تطورَ الصناعة الكبير كان يخضع هذه المواد المجهولة إلى الكشف، فغدت عواملُ تحول المادة الفيزيائية والكيميائية تقوم على الذرات والجزئيات الداخلية، وبدأ يظهر ان المادةَ تتحولُ إلى طاقة والطاقة تتحول إلى مادة، وان قانون بقاء المادة قانون علمي أساسي.

أظهرت الجيولوجيا أن طبقات الأرض لها تحولات طويلة وأنها لا تتوقف عن الحركة. إن المواد كعناصر محددة تكشفت وظهر لتكوينها ولتمازجها قوانين محددة. تم اكتشاف تطور الخلية الحية، وأن أنواع الأحياء نتاج تطور تاريخي طويل. إن كل أنواع الحركة هذه مغاير للحركة الميكانيكية وقوانينها، وكان ذلك يستدعي قيام فلسفة جديدة، تكشفُ الطبيعةَ المعقدة المركبة للحركة وأنواعها في كل أقسام العلوم الطبيعية والاجتماعية كذلك، والأخيرة قد دخلها زلزال التحول أيضا، وكان ظهور فلسفة جديدة يستدعي تفكيك الارتباط بين الفلسفة الميكانيكية والدين، ولكن أخذت المعضلة هذه تتعقد مع ارتباطها بالصراعات الفكرية والسياسية، حيث يلعب الدين التقليدي دوراً محورياً.

إن كشف أنواع الحركة في الأجسام الطبيعية من داخلها، وهو أمر يتناقض مع الفكر الديني التقليدي حيث الحركات قادمة من الغيب، وقد ترافق هذا مع تفكيك السلطات الدكتاتورية الدينية والسياسية، فأخذ (الشعب) ينتزع السلطات وراح المنورون يجدون في البناء الاجتماعي قوانين تطوره الداخلية بمعزل عن المؤثرات الخارجية الغيبية. إن تركيز السلطة في البرلمان هو أشبه باكتشاف قوانين الحركة في المادة، والمادة هذه الكينونة المحتقرة من قبل الفلسفة الأرسطية والدينية السابقة غدت هي بؤرة الوجود. لكن رؤية أسباب التحولات داخل المادة الطبيعية والاجتماعية والبشرية، كان يعني صراعاً طبقياً بين المنتصرين على الإقطاع السياسي – الديني الحاكم، فقد ظهر جناحان للمنتصرين؛ الجناح البرجوازي الذي آلت السلطة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية إليه، والجمهور العمالي الذي كان عليه أن يعمل بشكل شاق وفي ظروف متدنية من أجل أن تنتصر وتحكم البرجوازية. لهذا فإن هذا الانقسام الطبقي انعكس على فهم الحركة وفهم الفلسفة، وأخذت القوى البرجوازية تتحالف مع الأقسام الثقافية الدينية والمثقفين التقنيين من أجل إعادة صياغة الفلسفة بحيث تتوارى لغتها الثورية السابقة، ويتم كشف الحركة في المادة، من أجل أن تستمر العلوم الطبيعية والمصانع، من دون أن يكون لهذا الكشف دلالات على الصراع الطبقي الدائر. بدأت هذه الحركة الارتدادية التقنية الفلسفية في البلد الذي انتصرت فيه البرجوازية أولاً وهو إنجلترا، فظهر جان لوك وديفيد هيوم وجون ستيوارت ميل وصاغ الأولان فلسفةً تعتمد على إنكار وجود قوانين موضوعية في المادة، المستقلة عن الوعي، بل قالوا انه لا يوجد سوى الحس البشري وهو الذي يُدرك، والعملية العلمية تدور في مجال هذا الحس فقط، وما هو خارجه ليس في بؤرة الوعي.

وعضدت ألمانيا هذه الفلسفة لأسباب تاريخية، فالبرجوازية كانت متخلفة عن قريناتها في البلدان الأوروبية الأخرى، وقد ساندت الإقطاع البروسي العسكري، فتأسست فيها فلسفاتٌ متضادة كثيرا، منها الكانتية ومؤسسها عمانويل كانت وهو نفسه العالم الذي اكتشف السديم في المجرة وطرح تصوراً لكيفية نمو المجموعة الشمسية، حيث ركز هو الآخر في كون المعرفة حسية بدرجة أولى، ولكنه أكد موضوعية المعرفة وطرق الوصول إليها، من دون الوصول الكلي للحقيقة لأنه ستبقى أجزاء من الظاهرات خارج الكشف. أما الفلسفات المادية والجدلية فقد تنامت هي الأخرى في ألمانيا، فظهر الجدل لدى هيجل، ولكن جدل هيجل مبنيٌ على كون الفكرة المطلقة أو الروح هي التي تقومُ بالحركة، فهي فكرة مطلقة غيبية لكنها في حركة تالية تتحد بالطبيعة وفي حركة ثالثة تتحد بالعقل، وهذه التحولات الثلاثة تشير إلى حركة الفئات الوسطى الألمانية عبر منظور هيجل المتواري، حيث تنفصل عن الفكر الديني والسلطة المطلقة وتتحد بالمادة الطبيعية والفكرية، ثم تتوجُ في العقل الذي هو أيضاً الدولة البروسية!

إن الفئات الوسطى بالمنظور الهيجلي استطاعت أن تنفصل عن الدولة – الدين ولكن ليس بشكل كلي، فتتمظهر في حركة (الروح). وهذا أسلوب فلسفي يوناني وشرقي قديم . ولكن ما يهم هنا هو طريقة الروح في التحول عبر موقف أول الذي يتم تجاوزه في حركة نفي مضادة، لأن الروح تعيش حالة صراع وتناقض، فتحل حالةُ تركيبٍ وتجاوز للنقيضين في موقف جديد، ولكن الموقف الجديد يستتبع وجود تناقض آخر يؤدي إلى حركة جديدة وهكذا.

هذا المنهج الجدلي كان اختراعاً ألمانيا، أي ظهر في حالة ألمانيا الإقطاعية المتخلفة عن برجوازيات التحول الكبرى، وفي وجود الفئات الوسطى التي لم تتشكلْ كطبقةٍ قيادية، ومن هنا فالجدل يظهرُ في شكلٍ ديني مثالي موضوعي، فهناك الفكرةُ المطلقة أو الروح وهي المعبرة عن الطبقات العليا المسيطرة، لكنها تلتحم بالطبيعة والمادة المعبرة عن الطبقات الشعبية، وفي هذا السديم الفكري الاجتماعي، المعبر عن حالة ألمانيا القلقة، تدور فلسفةُ هيجل، منهجها الجدلي ثوري، وغلافها الفكري محافظ، وبين الثلاثينيات والأربعينيات من تاريخ ألمانيا وأوروبا في القرن التاسع عشر، تنفجرُ ألمانيا وتنفجر فلسفة هيجل معاً !

لم تحصل ألمانيا على فرصة تاريخية مطولة كي تشكل تحولها الديمقراطي، والبرجوازية تمشي في حضانة عسكرية من قبل الدولة، وجاء هيجل بجدله التحولي ليطرح منهجاً مهماً في فهم وتفعيل الحركة على مختلف الأصعدة، فانتقلت قيادة الحركة الاجتماعية إلى الفئات البرجوازية الصغيرة، ومنها ظهر فورباخ بماديته النافية لمثالية هيجل، وظهر اليسار الهيجلي، وهي قوى حاولت دفع البرجوازية لكي تنقض على الإقطاع من دون فائدة.

وهذا هو ميلاد الماركسية. تشكلت في لحظتها الأولية تلك كنقيض للطبقتين الإقطاعية والبرجوازية معاً. أي اندفعت نحو العمال كملاذ أخير من الجمود السياسي الاجتماعي . وهنا كانت أشبه بصرخة سياسية أكثر منها علماً . ومن هذه الصرخات سوف يرى لينين الماركسية . وهذه القضية ستبقى مشكلة كونية للبلدان المتخلفة عن البلدان المتقدمة ولرغبتها القومية الحادة في اللحاق بالمتقدمين .

كانت عقلية (البيان الشيوعي) المكتوب من قبل ماركس وإنجلز تطرح تصوراً كونياً لقرون قادمة وليس لحل إشكاليات الصراع الطبقي الراهن في ألمانيا نفسها، فكانت ألمانيا بحاجة إلى تشكيل تحالف برجوازي -عمالي يبعد القوى الإقطاعية العسكرية المتطرفة عن السلطة وليس لإزاحة البرجوازية التي لم تكن تحكم!

إن لغة المثقفين المنتمين للبرجوازية الصغيرة يسقطون هنا وعيهم السياسي التحويلي على الواقع الموضوعي فيطرحون مهمات غير ممكنةٍ سياسيا، في إطار ايديولوجي مُسقط، وبطبيعة الحال يطرحون ذلك كصوتٍ للطبقة العاملة، وهذا على المدى التاريخي صحيح، لكنه في الواقع الراهن غير واقعي، وتداخل المدى التاريخي واللحظات السياسية الراهنة، بمهماتها العملية الكبيرة، لا يتطابق ويتداخل بصورة جدلية، فهيمنة الطبقة العاملة تتم بعد قرون من التراكم السياسي والاقتصادي والثقافي لكنها كمهمةٍ مرحلية غير ممكنة .

وترتبت على لغةِ أقصى اليسار بمظاهرها الاجتماعية وثورتها هذه توجه البرجوازية الألمانية نحو أقصى اليمين، كذلك فإن ذهاب ماركس – أنجلز للعيش في إنجلترا أضفى على لغتهما الثورية العاطفية الألمانية بعداً أكثر موضوعية، وبدأت عمليات الاكتشاف العلمي العميقة للرأسمالية والعلوم، التي كانت حصيلتها كتب موسوعية مثل (رأس المال) و(جدل الطبيعة) وغيرهما، لكن الاستنتاجات ظلت في الإطار التاريخي العام وليس داخل صراعات البنى الرأسمالية الوطنية بمختلف مستوياتها وليس البحث كذلك في كيفية التغلب على الدوائر المتطرفة سياسياً وفكرياً .

إن انتصارَ البرجوازيات الكبيرة في الأقطار الرأسمالية الرئيسية تحقق بفضل انتصار أسلوب الإنتاج الرأسمالي وتوسعه العالمي وتدفق فيوضه على الفئات المالكة والوسطى، وأعطت ألمانيا نموذجَ الجمع بين الفكر الإقطاعي السابق والفكر البرجوازي التابع فكان الجمع بين أشكال الفكر الدينية والصوفية واللاعقلانية وبين أشكال من العقل والليبرالية المحدودة والمهيمن عليها وهي الثقافة البرجوازية – الإقطاعية الهجينة التي ترتبت على قيام البروسية البسمركية في السيطرة على البرجوازية الخاضعة.

ومن هنا رأينا ألمانيا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وهي تتخلى عن الجدل الهيجلي وتروجُ فيها الكانتية والكانتية الجديدة والوضعية المنطقية والتجريبية.

يقول جورج لوكاش:

(إن جدل هيجل حين يحاول السيطرة على هذه المسائل في منظور تاريخي، هو ذروة الفلسفة البرجوازية . إنه يمثل أقوى مشروع حاولته للتغلب على هذه المعضلات الجديدة : محاولة صهر طريقة قادرة على ضمان الفكر الإنساني كاقتراب لا محدود وانعكاس للواقع بالواقع نفسه).

إن مشروع هيجل يظل مشروع فئات برجوازية لم تتشكل كطبقة قائدة لعملية التحول، ولهذا فهو مفككٌ بين منهجٍ جديد وبناء تقليدي، وتخلي هذه الفئات عنه واتجاهها للعلموية الوضعية، لكشف المادة الجزئية المحدودة المنقطعة عن قوانين بنية المادة الطبيعية والاجتماعية، فهي هنا تمثلُ البرجوازية التي تدير المصانع المحتاجة إلى التقنية، في حين أن اتجاهها للاعقلانية والصوفية وفلسفات الحياة هي للسيطرة على الوعي العام وإدارة الدولة والمجتمع، وهذا الانقسام بين وضعية علموية تجريبية وكانتية وبين فلسفة الحياة المتجهة للفاشية، جانبان يتكاملان يعبران عن هذا التزاوج الإقطاعي – البرجوازي وقد تحول إلى طبقة سائدة ذات أصول بروسية عسكرية وبرجوازية نهمة للاستيلاء على المستعمرات .

الرواية الخليجية لم تتجذر في الأرض بعد

عبدالله خليفة رواية عنترة يعود الى الجزيرة

يقول الروائي البحريني عبـــــــدالله خلــــــــيفة في ما يشبه الدفاع عن روايته الجديدة «عنترة يعود إلى الجزيرة»: «لم تكن تعنيني حكاية النفط على رغم أهمية تجربة منيف». إنه دفاع أمام المقولات التي تختصر الرواية في هذا المنحى، أي في تشابكها مع رواية عبدالرحمن منيف «مدن الملح». ويسلط خليفة الضوء على هواجسه الفنية والموضوعية فيها، وما مدى ما حققه فيها من اختراقات فنية مقارنة برواياته السابقة.

خليفة يرى في صنيع منيف تجربة سياسية «تسجل واقعاً تاريخياً حقيقياً معتمدة على الشواهد والسجلات، ولهذا تجد في الكثير من روايات منيف ملفاً كبيراً. سباق المسافات الطويلة: سجل الاستخبارات الأميركية في إيران، ومدن الملح: وثائق النفط والمكتشفين والساسة. هي طريقة تسجيل حقبة، ببعض شخوصها وأحداثها الجوهرية، وليس خلق شخصيات وحبكة جديدة».

في ما يخص عبـــــــدالله خلــــــــيفة وفي شكلٍ مغاير عما لدى صاحب «الأشجار واغتيال مرزوق»، يلعبُ الخيالُ الفني هنا دوراً محورياً للتوجه إلى كلية الواقع، وليس، كما يوضح، إلى عرض جانبه السياسي الاقتصادي المتشابك، «ولهذا فمسائل مثل التراث هنا جوهرية، أي قراءة طبيعة الشعب – الأمة والبطولة والأجيال وغيرها من المسائل المحورية التي تغدو هي صلب الرواية، بأي شكل جاءت الثروة المادية».

في رواية خليفة بروز لما يتجاوز القبيلة، «وهو الوعي التحديثي الذي يصعد من الأسرة، ينخلها ويصارعها وتنمو به وتغير نفسها وواقعها من خلاله».

يهتم الكاتب البحريني أكثر بالجوانب الروحية والنفسية والإشكاليات الكبرى، مبتعداً عن منيف، الذي كرّس، في رأيه، مجلدات عن أحوال اجتماعية ضرورية لبناء الرواية العربية، لهذا ترى المجلدات الكبيرة لم تصل للصراعات الفكرية الروحية وحين وصلت كانت إمكانات التعميم الروائي قليلة والتحليل الفلسفي محدودة، على رغم أهميتها.

بيد أن إعطاء البطولة للشعب، في تصور صاحب «رأس الحسين» هو غير إعطاء البطولة للنُخب والكائنات، التي تخرج من عفوية المسار الروائي المرحلي، «فهي لا تتنمذج في البناء الروائي. في حين أن مثل هذه الشخصيات المجهولة تصوغُ تاريخاً غائراً في حياة الناس، ملتحمة برمزية الأمة، في مسارات الواقع كافة بين الشخوص، ويجعلها ذلك تصنع تاريخها الفردي المختلف. بناءً على هذا، فإن كينونة كل شخصية ومساراتها تختلف نظراً إلى طبيعة النماذج، وإذا كانت البطولة تُغني فإن الوضاعةَ تفقر، والأسلوب يحصل على ثمار العلاقة بالواقع الملون».

إذاً، لا تتغنى رواية عبـــــــدالله خلــــــــيفة ، الذي يعد من رواد الرواية في الخليج وأحد أبرز كتابها، بزمن القبيلة ولا تحاول استعادته، إنما هي معنية بدرجة أساسية بزمن الحرية وزمن ازدهار القيم، «وهو على رغم كونه زمناً متخيّلاً، لكنه تاريخي واقعي كذلك، عبر هذه الإمكانات التي تتيحها تحولات تاريخية وعواصف اجتماعية، مثله مثل تاريخ الأمة، منقطع ومتصل، ولهذا فإن القيم المسحوقة هي ذاتها المتغنى بها».

يبدو هلال العبسي، الشخصية الرئيسة في الرواية، حتى في نظر ابنه المثقف والأكاديمي أشبه بأسطورة، كائن عجيب في أفعاله ومسلكه، فهو يقاوم السجن وينجح في الهروب منه، غير أن هذه الشخصية التي تقارب الأسطورة، تشعر بتآمر العالم كله عليها، يظهر هلال أحياناً وكأنه رمز لكل ما تم فقدانه وتلاشى، «كونه شخصية محورية لا يسلب الشخصيات الأخرى تكونها، هو في زمن صياغة الحرية. وقد ساهم في جذورها وقيمها»، يقول صاحب «التماثيل» ويضيف: «لهذا فنظرةُ ابنه إليه تعود لكون هذا الابن هو الذي يصوغ نظرته الخاصة بين ظرف استلابه وظرف صياغة حريته. المواد العلمية المؤدلجة عنده والبحث الموضوعي والمغامرة والشجاعة تؤثر في مساره المختلف. من هنا، تحمّل هلال العبسي ثمن شجاعته وثمن حرية نورة العائلة، وحتى في السجن راح يحفر لحرية الأجيال السابقة التي ضاعت أعمارها. أليس هو نتاج تلك القيم؟».

تحفل رواية «عنتر يعود إلى الجزيرة» بحضور لمظاهر التشدد الديني، من تكفير ومحاكمات، في المقابل تحضر أيضاً السلطة التي تستعمل كل ما يمكن استعماله، من قضاء ومؤسسات، لسحق من يقاوم، أي أننا إزاء قضايا راهنة يعانيها مجتمع الجزيرة، ولا تزال تلقي بظلالها على المشهد كله. ويرى عبـــــــدالله خلــــــــيفة أن الواقع الروائي لا يلتفت إلى هذا الجانب، فهنا قوى سكانية «خرقت المسار التاريخي، ولهذا فإن فاعليات الشخوص الجيدة أو السيئة، التضحوية أو الأنانية، هي التي تبرز، ربما يظهر الشكل الديني كحيلة. وما يبرز بقوة هو صراع البطولة والضعة. لدينا عنترة شعبي حلمي ولدينا فراغ بطولي رسمي». من هنا، ينظر خليفة إلى الأجيال الجديدة بصفتها ولّادة للبطولة، «لهذا، فالأشكال العتيقة من القهر لم تعد فاعلة».

إذا كان الكاتب صاحب رؤية فلا بد من أن يمر بتجارب مروِّعة لكي يؤسس رؤيته، يقول صاحب«الينابيع» ويؤكد أنها ضرائب باهظة لاكتشافاته، «إن الأعمال حصيلة لعمره، إذا لم تكن ذاتية متطرفة، والشخصيات والأحداث والأبنية الفنية هي كلها جزء منه ومن واقعه وتراكمات ما هو مضيء وتكون بعسر».

موضوع الرواية في الخليج موضوع كبير، في رأي عبـــــــدالله خلــــــــيفة، الذي سبق أن نشر دراستين عن هذه الرواية: الرواية بين الكويت والإمارات، والرواية الخليجية بين التبلور والتفكك. في هاتين الدراستين يمسح التجارب خلال العقود الأولى منذ الستينات. ويطرح أسباباً عدة «تجعل الرواية نوعاً لم يتجذر في الأرض بعدُ». ومن هذه الأسباب: ضعف الفئات الوسطى والبيئة الحاضنة للحداثة، وضعف حضور المنتجين، وبدائية الوعي، والهزال الأدبي للصحافة وغيرها. لهذا، فإن اتصال الرواية الخليجية بالجذور العميقة للواقع لا تزال في تصوره، في حاجة إلى وقت موضوعي. ويشير إلى أن تحديات الرواية في الخليج تكمن «في تحليل الواقع بجرأة وتعرية التناقضات الاجتماعية العميقة، ومنع العربة الخليجية من الانزلاق نحو الهاوية».

يلفت الروائي والباحث البحريني، الذي أصدر عدداً من الروايات ونشر عشرات المقالات في مواضيع وشؤون فكرية وثقافية وسياسية، إلى أن جيل الكتابة الروائية في الخليج لم يظهر سوى بعد إنجاز الثورات الوطنية في النصف الثاني من القرن العشرين، «من هنا، فإن معظم نتاجاته الروائية متجهة لقضايا اجتماعية تنموية، وقضايا التعسف الحكومي الوطني وجسد اختلاف الرؤى في طرق التنمية والتعبير عن معاناة النماذج الشعبية المسحوقة غالباً».

ويوضح صاحب«ذهب مع النفط» أن الرؤية الكلية لقضية الثورة الوطنية، تغدو مسألة صعبة في رواية متأخرة في النشأة، «ولأجيال إبداعية جثمت طويلاً في جنس القصة القصيرة، وهي غير قادرة إلا في شكل نادر بالقيام بعمليات التعميمات الفنية الروائية، من حيث عمق المجاز، والقدرة على نمذجة الشخوص والأحداث، ورؤية المراحل التاريخية بشفافية ترميزية. لهذا، فإنها تجثم في الاجتماعي الآني، العابر، وتتوجه في معالجاتها النادرة لمسائل الثورة الوطنية إلى الرومانسية الوطنية، أو التسجيلية الفوتوغرافية للتاريخ».

إن الآني العابر يُنظر له، كما يقول خليفة، كحلقةٍ منقطعة عن السيرورة التاريخية،«لهذا، يُقحم الأيديولوجي التبشيري أو الانعكاسي، فإما تغدو الرواية هتافاً وطنياً حماسياً مجلجلاً بالوطن والعروبة والإسلام والقادة، وإما أن تغدو تسجيلاً نقدياً فضائحياً… أو تسجيلاً لقادة النهضة العربية وتدخلات القوى الاستعمارية».

يعتقد عبـــــــدالله خلــــــــيفة بوجود نمو حلزوني يخرق الواقع والقوى المضادة،«وهذا ما يصل إليه عادة الدارسون الموضوعيون». ويعزو اختصار بعض الكتاب الكبار في مؤلف واحد، إلى أن هذا الكتاب،«ربما كان يمثل أهم خصائصه وقوة تجاربه. أو أن الكاتب لا يمثل علاقة عميقة بمجتمعه وعصره».

يختلف عبـــــــدالله خلــــــــيفة مع الآراء التي تؤكد أن البلدان، التي اعتبرت «هوامش» في الماضي، أصبحت اليوم «مراكز»، في إشارة إلى بعض دول الخليج التي تتبنى مشاريع ثقافية كبرى، وتلفت الأنظار إليها في هذا الخصوص، ويقول إن هذه الدول تهتم بالترويج، «ولكن من دون إنتاج مهم». وفي رأيه لا تتطور المجتمعات من دون إنتاج ضارب في الأرض، وبالتالي تتحول هذه إلى عروض، «بدلاً من تحريك الرواية في المناهج والصحافة وشبكات الإعلام الجماهيرية. ولهذا فمن الصعب أن يتمكن كاتب واحد، من نشر رواية مسلسلة في صحيفة خليجية ويحصل على أي مقابل».

كتب: أحمد زين

http://www.alhayat.com/article/1613469

الرهان على القلم

                                         الرهان على القلم   

عبــــــدالله خلــــــــيفة عرضٌ ونـقـدعن أعماله

لم تفد الكتاب المراهنة على الحكومات والدينيين، فالكلُ يتاجر بالأوطان والأديان لمصلحة موقوتة، والكل يبيع والبعض مستفيد، والأغلبية خاسرة!

 الكل يدعي ولا أثر على الأرض!

  ليس للكتاب سوى أقلامهم تنمو قصة ورواية وشعراً ونقداً وثروة للوطن بلا مقابل أو بمقابل ضئيل وغير شفاف!

أعطوا الوطن لكل من يدعي ويبيع، وكل من يزحف على بطنه، ويقبل الأحذية، ويأكل التراب ويلعن الإنسان.

ليس لكم سوى هذا القلم مهما توهمتم التحليق في سماء مجردة، ومهما تباعدتم، وأختلفتم، ليس لكم سوى قطرات من حبر أو من دم

 راهنوا على القلم فهو وحده الباقي

تتحولون إلى عظام وذكريات متعددة التفاسير ولا يبقى سوى قلمكم يقول ما آمنتم به وما ناضلتم لكي يتكرس في الأرض.

ليس لكم سوى أوراق فلا يخلدكم ولدٌ ولا تلد، هذه الحروف التي عانيتم في إنتاجها وتعذبتم في إصدارها هي التي تشرفكم أمام الأجيال المقبلة التي لا تحد ولا تحصى

فثقوا بالحروف وبالإنسانية المناضلة نحو زمن جديد هو زمنكم، الذي تصيرون فيه ملوكاً متوجين، وحكاماً غير مطلقين، ومربين كباراً للأجيال.

ماذا تفعلون الآن وكيف تمتشقون سلاح الكلمة وتوجهونه للحرامية والمفسدين وتعرون شركات الأستغلال وبنوك النهب العام، ترتفعون في سماء الوطن، وتخلدون في سجلات الأبرار.

القلم ليس له شريك سوى الحقيقة، وليس  لطريقه واسطة أو سلطة محابية أو كهنة مطلقين، هو الحربة الموجهة للشر لا تعرف الحلول الوسط أو الشيكات الثمينة.

  سلطة القلم سلطة عالمية، تتوحدون مع القلم الأسود والأبيض والأصفر، وكل ألوان الإنسانية المتوحدة في معركة واحدة ضد الحكومات المطلقة وبيع الإنسان كما لو أنه حذاء وضد هذا العداء بين الأمم والأديان والأعراق.

أنتم رموز الإنسانية فلا تنحدروا ولا تساوموا واكتبوا بسلطة الحقيقة وليس بسلطة المال.

توحدوا في هذه المعركة الكونية، وتضامنوا مع اشقائكم المظلومين والمضطهدين في كل قارات الأرض، وضد هذه القوى التي تدهس القصة والقصيدة ولا تحب سوى الإعلان، وأخبار القتل واليأس، ولا تبجل سوى البشاعة.

عبـــــــدالله خلــــــــيفة : الرهان على القلم

محمي: ‏‏عبـــــــدالله خلــــــــيفة : أفــق ـ مقالات 2008

هذا المحتوى محمي بكلمة مرور. لإظهار المحتوى يتعين عليك كتابة كلمة المرور في الأدنى:

محمي: عبـــــــدالله خلــــــــيفة ‏‏‏‏‏ أفـــق مقالات 2009

هذا المحتوى محمي بكلمة مرور. لإظهار المحتوى يتعين عليك كتابة كلمة المرور في الأدنى:

قلق التجنيس للنصوص الأدبية

كتب : الدكتور عمر عبدالعزيز

الاستنتاج المركزي الذي يمكن الوصول إليه من خلال تصفُّح النصوص الإبداعية السردية للراحل الكبير عبـــــــدالله خلــــــــيفة ‏‏‏‏‏، أنه فتح سؤالاً هاماً حول قلق التجنيس للنصوص السردية، فجسَّر المسافة بين التفارقات السردية الناجمة عن خصوصيات الرواية وأدب السيرة الذاتية والقصة، صولاً إلى النص المفتوح، بهذا المعنى اختار السارد العليم أن يكون شاهداً على تراسل الأنواع الأدبية، توطئة لتراسل أشمل ضمن المنظومة المفاهيمية الكلية النابعة من ثقافة عالمية، وذائقة فنية أُفقية.
هذا النوع من التصالح المفاهيمي مع الأنواع الأدبية اقترن بتصالح ضمني مع التاريخ، ولعل الشهادة الأكثر بروزاً في هذا الجانب تتمثَّل في الثلاثية الروائية عن الشهداء الكبار: عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، ذلك أن تلك العناوين استوعبت المعنى الدنيوي لممارسة المسؤولية، وكيف أنها تتقاطع جبراً مع الخلافات والاختلافات، ولكن دون أن تنقص من مثابة شهداء الأُمة التاريخيين.
ما أسميناه بتجسير العلاقة بين الأنواع السردية أفضى بالروائي الكاتب عبـــــــدالله خلــــــــيفة ‏‏‏‏‏‏إلى استمزاج الدراما الجديدة المغايرة للدراما الدائرية التقليدية . . الباحثة عن العقدة المركزية في المصفوفة السردية، وبدلاً من ذلك انتهج خلــــــــيفة ‏‏‏‏‏‏منهجاً مونتاجياً كتابياً يرى في الدائرة المركزية للأعمال السردية حالة من التوليدات الدائرية الأفقية . . تلك التي تذكرنا بما ذهب إليه السينمائي الإيطالي فيسكونتي في تجربته الدرامية المثيرة بعنوان «روكّو وإخوانه».
هذا التعامل الأُفقي مع الدراما اتصل ضمناً بالأسطرة، والواقعية السحرية المخصوصة بالطبيعة «العربســـلامية»، والتناغم الطردي مع التجارب الروائية الإنسانية.
د. عمر عبدالعزيز
مدير تحرير مجلة (الرافد) الثقافية .

https://vimeo.com/abdullakhalifa

عبـــــــدالله خلــــــــيفة ‏‏‏‏‏‏. . قلق التجنيس للنصوص الأدبية

محمي: ‏‏عبـــــــدالله خلــــــــيفة : أفـــق ـ مقالات 2010

هذا المحتوى محمي بكلمة مرور. لإظهار المحتوى يتعين عليك كتابة كلمة المرور في الأدنى:

محمي: ‏‏عبـــــــدالله خلــــــــيفة : أفـــق 2014

هذا المحتوى محمي بكلمة مرور. لإظهار المحتوى يتعين عليك كتابة كلمة المرور في الأدنى: