إن مصطلحات مثل ديمقراطية وقوى ديمقراطية وطنية تحتاج إلى فحص للتأكد من سلامتها.
كلما اتسعت قدراتنا على التفكير الحر كلما زاد نقدنا، وعرضّنا مفاهيم وتورايخ قديمة للنقد، إن هذا يشكل تطوراً في التفكير الحر، ولهذا فإن مصطلحات مثل قوى ديمقراطية تجعلنا نسألُ هل تستطيع القوى الشمولية أن تكون ديمقراطية؟
نتجت القوى السياسية من إقتباس تجارب شمولية عالمية وعربية، فكيف ستأتيها الديمقراطية؟ هل الديمقراطية هي التصويت المرتب؟ وهل هي تقدر القوى الشمولية أن تطور تجربة ملتبسة بين الشمولية الحكومية وبعض الحريات؟
إذا كان يتم ترتيب التصويت لتبقى جماعة مسيطرة على الجماعة ككل، كما أن القائد بقي ثلاثين أو أربعين سنة قائداً وحين يموت يواصل أصحابه نهجه ونفخ مسيرته العظيمة، فترى السياسي العربي دائماً يحكم من قبره؟
(الديمقراطية) الشرقية الشمولية لا تريد أن تكون ديمقراطية غربية، والأحرى أن نقول أنها لا تستطيع ذلك، وهيهات وربما لقرن من الصراع والتجديد والمشكلات!
هناك طبقة وسطى كبيرة حرة، ذات مؤسسات قوية، ورأمسالية الدولة صغيرة تقتصر على المؤسسات العلمية والإشرافية، وليس أن تبتلع الأخضر واليابس كما هو الأمر لدينا. وأن تكون هناك طبقة عاملة موحدة وإنتجتها المصانع الخاصة وليس عمالاً تابعين لشركات حكومية لا تسمح لهم حتى بالدفاع عن مصالحهم الإقتصادية البسيطة.
الشروط كلها مفقودة في التجارب التي يقال أنها تتجه للديمقراطية.
والقوى السياسية تريد تشكل رأسمالية دولة تقوم هي بإدارتها.
هكذا الأمر في التجارب القومية العربية حيث نجد ذروة التجربة هي وجود حكومة شمولية مستولية على الإقتصاد.
وهكذا التجارب الإشتراكية.
إذن كيف ستظهر الديمقراطية من تكوينات كلها لم تجرب الديمقراطية؟
تنظيمات ترتعب من الأفكار الحرة ومن الحراك السياسي الحر داخلها، القواعد لا تعترض ولا تطرح قيادات من داخلها ولا تعرض تاريخ التنظيم للتحليل والدرس والنقد؟
هناك هوامش من هذه العملية في نقد الظواهر الحكومية السيئة، والمطالبة بالتغييرات فيها وفي إدارة البلد، لكن كل هذه تبقى إنتقادات قد يقبل بها وقد لا يسمع بها وقد ترفض.
ليس ثمة سلطة تشريعية قوية.
والتنظيمات لا تستطيع أن تكون مثل هذه السلطة التشريعية القوية، لأسباب التفرد الحكومي الإقتصادي بدرجة أساسية.
لكن لو قامت التنظيمات الدينية بإدارة الإقتصاد هل ستكون هناك ديمقراطية؟
ستظهر هناك قوى مهيمنة على الفوائض الإقتصادية، وستقلل الحريات الإجتماعية، وربما تقوم بقمع كبير للقوى العلمانية والملحدة والغربية المستوردة وللحياة التحديثية البسيطة التي تشكلت بعسر خلال قرن؟!
أما القوى التي تحتضن الحداثة الديمقراطية أي الطبقة الوسطى الحرة ذات المصانع والشركات المستقلة فغير موجودة بإتساع كبير، وحتى الموجود كثير منه مجرد لافتات للشركات الحكومية والرموز الحكومية؟
إذن النسيج كله شمولي مناقض للديمقراطية، والأمور تحتاج لعقود طويلة وأجيال لتؤسس ديمقراطية وطنية!
وقد تركت الحكومة الجماعات المذهبية السياسية في مقدمة المسرح السياسي، وعبر خصامها بالدرجة الأولى، وهي تدير اللعبة السياسية كلها.
وإذا تحرك التجار سوف يشتغلون لمصالحهم ولزيادة فيض العمالة الأجنبية ولرفع القيود عن التجارة وإلغاء قرارات وزارة العمل، وليس فيهم قدرات كبيرة على طرح قضايا الديمقراطية والعلمانية والتحديث!
لقد أدت السيطرات الاقتصادية الطويلة والثروات النفطية إلى بروز القوى العربية البدوية السنية في الجزيرة العربية، لتشكل نهضة تحديثية من خلال رأسماليات الدول التي تخضع للقبائل والأسر الحاكمة والتجار الكبار، والتي يمكن التخفيف من غلوائها التفردية عبر النقد وتعاون الكتل السياسية المختلفة، والتطوير التدريجي للصناعات الخاصة وما يماثلها من مؤسسات تحديثية إقتصادية ومراقبة الملكيات المسماة عامة، وتطوير الحياة الاجتماعية تدريجياً عبر هذه السنين الصبورة.
هذه هي حدود (الديمقراطية) الخليجية وغير ذلك أما إنقلابات تقود لما قادت له في الدول العربية وبتجاربها المعروفة، وأما الإرهاب.
≣ معاني الديمقراطية في الشرق
تحتاج المجتمعاتُ الشرقيةُ إلى عشرات السنين للاقتراب من الحالة الديمقراطية، فباستثناء المجتمع الهندي والياباني فليس ثمة إمكانية حالياً لتشكيل ديمقراطيات في آسيا وأفريقيا. المجتمع الهندي مجتمع فريدٌ من نوعه، عرف تعايش الأديان والقوميات، فأضفى عليها حزبُ المؤتمر في صراعه مع الاستعمار البريطاني صفة قانونية عميقة. بينما المجتمع الياباني أعطتهُ العزلةُ والتحولاتُ الداخلية الصناعية إمكانيةَ الاقتراب من الديمقراطية فتشكلت فيه بصورة فاشية كما بدا ذلك في الحرب العالمية الثانية، حتى جاء الاحتلالُ الأمريكي فجعله في ظل الديمقراطية الغربية وبهيمنة الطبقة الرأسمالية فيها.
نحن نفهم الديمقراطية باعتبارها حالةً سياسيةً تعني سيطرة الطبقة الوسطى على السلطة، فهي كذلك دكتاتورية، لكنها دكتاتورية تقدمُ للطبقات الشعبية مستوى من الحريات أفضل من المجتمعات الاستبدادية، لكن ما عدا ذلك فممنوع، وهذا تعبير عن مستوى تطور.
وبطبيعة الحال تنشأ فتراتٌ استثنائيةٌ تغدو فيها الطبقاتُ متقاربةً حينما يسقطُ نظامٌ استبدادي قديم، أو يواجه المجتمع مستعمراً ما فتتوحدُ الجهود، فتنشأ حالةُ نهوضٍ اجتماعية كبيرة، لكن تكون مؤقتة بطبيعة البناء الاجتماعي البشري المحدود في ظلِ إنتاج راهن عاجز عن خلق مساواة حقيقية، وفي ظل تنامي مصلحة طبقة عليا دون بقية الطبقات.
إن الانفراجات الشرقية والتبدلات السياسية التحديثية ليست هي حتى بمستوى الديمقراطية الرأسمالية الغربية، فهي صراعاتٌ داخليةٌ بين قوى اجتماعية تقليدية لم تصل احداها لتكون قوة ديمقراطية، وكل مجتمع يحمل بصمته الخاصة في ذلك، فليس ثمة فورمة لوصف مثل هذه الصراعات المختلفة.
فهناك قوى تقليدية ربما تريد وراثة قوى تقليدية حاكمة سابقة، للحصول على بعض امتيازاتها الاقتصادية ومواقع نفوذها، ويبدو ذلك في نوعية الأحزاب المناطقية أو المذهبية عادةً التي تعبرُ عن الاختلاف مع النظام السابق، غير أنها لا تختلف معه في تشكيل جماعة جديدة تقبض على مفاتيح السلطة.
ولعل هذا القبض يتم في مناطق جغرافية مبعدة عن التأثير في السلطة السابقة، فتظهر بصفة حكم أقاليم أو جمهوريات أو قوميات كما حدث ذلك في سقوط النظام السوفيتي أو العراقي، لكنها تظل سلطات شمولية جديدة، اتاح لها التحول السياسي المغمور بعاطفية قومية أو دينية شديدة، أن تحصل على أصوات كبيرة للوصول للحكم.
بطبيعة الحال هناك لحظة تقدم حتى في هذا التحول، فالنظام الشديد المركزية لم يلتفت إلى مشكلات الأقاليم أو المناطق المحرومة، أو الأثنيات المغبونة، فتأتي الأنظمةُ الجديدةُ لتعدل مثل هذه السياسات إلى حين، وهذا يعتمد على مهارة القيادة السياسية، لكنها لا تستطيع أن تخلق ديمقراطية، فهي ترتب الأوضاع ترتيباً خاصاً لكي تسيطر وتبعد الآخرين، معتمدة على الحماس القومي أو الديني.
إن المستوى الغربي الرأسمالي الديمقراطي صعب على الدول الشرقية، فغالباً ما يكون (الديمقراطيون) الشرقيون اصحاب نفوذ كبير في الدولة، يريدون إعادة توزيع حصص الامتيازات الاقتصادية، في حين إن الديمقراطيين الغربيين يكونوا ممثلي طبقة رأسمالية غنية لا يحتاجون لأجهزة الدولة لكي يثروا من خلالها، بل إنهم جاءوا ليكرسوا حكم طبقتهم كلها وربما يقدمون انجازات للطبقات الشعبية في بعض جوانب الأجور والأسعار والخدمات، وتكريس حكم طبقتهم يعني وضع سياسات اقتصادية تتعلق بمستوى الضرائب أو بتحفيز التصدير، حسب وضع الطبقة الاقتصادي الصراعي، مع طبقات أخرى في بلدان منافسة، أو لتحفيز الطبقة المنتجة في بلادها أو دفعها لمزيد من العمل، وهذا البرنامج المؤقت قد ينجح وقد يفشل وقد يُكرس في انتخابات جديدة أو يُهزم، ليظهر برنامجٌ آخر أكثر مقاربة للوضع ولمصالح المجموعات السكانية الأوسع، وهذا ما يفسرُ التناوبَ المستمر بين أحزاب اليمين واليسار في الغرب.
لكن الجماعة التي تحكم في الشرق أو القوة السياسية التي تصل للسلطة في الدول الشرقية، لم تكرس نظاماً لحكم طبقة معينة من خلال الإرادة الحرة للسكان، وهذا ما يجعلها دائماً في تحالف مع العسكر، ومن هنا فليس ثمة ديمقراطية شرقية بل عمليات طبخ سياسية تقوم بها القوى المؤثرة على الساحة.
وللوصول إلى مستوى الغرب أو الاقتراب منه يلزم الكثير من الثقافة العلمية والسياسية مع وجود قطاع خاص قوي ووطني، فليست الديمقراطية الهندية بلا عوامل موضوعية، فبدون القطاع الخاص الصناعي والتجاري الكبير الذي تكون والمعتمد على قوى عمالية هائلة، لم يكن بالإمكان جعل التعددية الفسيفسائية السياسية لتدخل في منافسات ضارية من أجل الحكم.
ولهذا كل ما يُرجى في مثل هذه الأوضاع والحالات التخفيف من قبضات الدول والجماعات القومية والدينية وخلق قطاعات خاصة لا تعتمد على الأثراء الحكومي، ترافقها ثقافة تحررية ودينية مستنيرة، توجه الجمهور لانتخاب الأفضل فهماً للظرف السياسي والقادر على دعم مثل هذه التحولات باتجاه الديمقراطية.
إن تكريس مرحلة انتقال للديمقراطية هي مسألة أجيال ومعارك وتنوير وتثقيف هائل، لتفكيك سيطرة الدول عن المال العام، ومنع أية قوة أخرى من الانقضاض على هذا المال العام، فهي عملية صراع مع كل القوى الشمولية.
≣ إشكالية (الديمقراطية) المُصَّدرة
تواجه (الديمقراطية) الغربية المصدرة للعالم الثالث الكثير من المشكلات الكبرى، المفصلية، فتغدو الإجراءات السياسية الفوقية فاتحة شهية للفوضى والأضطرابات.
ثمة فروق موضوعية كبيرة بين الوضع في جنوب أفريقيا والدول العربية مثلاً، فليست جنوب أفريقيا في العالم الثالث، بل هي من الدول المتقدمة، ليس فقط في مستوى الصناعة بل في تقدم الطبقات العاملة بتنظيماتها وثقافتها. وهي الطبقات التي جنبت البلاد الحرب الأهلية، واستمرار حكم الأقلية البيضاء، دون الامتيازات المتطرفة السابقة.
ولكن هذا المستوى الاقتصادي المتقدم غير موجود في الكثير من البلدان التي انتقلت للمظاهر الفوقية للديمقراطية دون أسس موضوعية وذاتية، فهي بلدان تعيشُ في العصور الوسطى بطرق إنتاجها وبحراك جماعاتها، وهكذا فإن الأسس السياسية الديمقراطية المستوردة تقود إلى تفكيك هياكلها الاجتماعية وخلق الفوضى.
من الخارج نرى أن تنظيم (فتح) هو تنظيم حداثي، لأنه رفع شعارات التحديث والعلمانية والديمقراطية، فنتصور إنه تنظيم للفئة الوسطى الديمقراطية، ولكنه في جوهره تنظيم إقطاعي، لا يختلف عن المؤسسات السياسية للقوى القبلية والمذهبية القديمة عندنا، فزعيم القبيلة الفتحاوية هو الذي يحدد كيفية حراك المال العام، والتحالفات وتأسيس الحكم، وحين يشكل ديمقراطية فهي تقوم على هذه الأسس، فلم يسبق للتجار تشكيل مجتمع مدني، ولم تستطع قوى العمال أن تجعل نقاباتها ذات حضور في بناء المدن وتوزيع الدخل.
لكن الديمقراطية الاستيرادية الغربية توصي من وراء البحار الرئيس بإقامة كذا وكذا من الإجراءات حتى ينظم لنادي الديمقراطية والحداثة في مقابل أمتيازات تـُمنح لسيادته، فتقوم تلك الأوامر بتشكيل مسحة قشورية زائفة من التحديث الديمقراطي على الجسد الإقطاعي، لكن حين تنزل هذه الإجراءات على الأرض فهي تؤجج الصراع التقليدي، بدلاً من أن تشكل نقلة تحديثية.
فالجمهور المقهور والفقير من التحكم الفتحاوي يبحث عن الضربة له، إلى أقرب الأوراق التي تستطيع تسديد الهدف، بحكم وعيه وتنظمياته الاجتماعية العائدة للعصور السابقة، فيجلبُ خصمَه مثلما يشكلُ الخرابَ لنفسه!
إنها ديمقراطية المجانين بحق، وهي تعطي الدول المُصدِّرة للديقراطية إمكانية التحكم الجراحي والتجميلي، لكنها جراحة تستندُ إلى وعي ديمقراطي شكلاني، تهمهُ المظاهر الخارجية والحفاظ على بروتوكول الخداع أمام الجمهور الغربي الضاغط لتغيير أنظمة التخلف الشرقية.
ولكن الديمقراطية المصدَّرة توسع دائرة الفوضى والحروب الأهلية، فأصبحت الحروب الأهلية العربية من الإنجازات الكبيرة لهذه العملية السياسية، وربما بعد عقود تتوقف الدول الغربية الكبرى عن هذه الجراحات الحادة التي قام بها طبيبٌ مزيف، وهذا أمر لا يحدث دون أن تتعالى أصواتُ الطبقات الشعبية وممثليها داخل البرلمانات الغربية، فتشكل حكومات مختلفة وإنسانية بحق.
في هذه الأثناء سيقوم الإقطاعان السياسي والمذهبي بدورهما في تفكيك كل بلد عربي، وفي تفكيك المنطقة ونشر الحروب، فالقوى الشعبية المقهورة والجاهلة سترفع ممثلين معادين باستمرار للحكومات، تلك الحكومات التي لا تتخلى عن امتيازات فئتها المميزة والمسيطرة، وفي كل انتخابات تكون البلد غائصة أكبر في أزمتها، وفي البلدان ذات المناطق والأقاليم الكبرى فإن الاستعجال في الديمقراطية الاستيرادية، تؤدي إلى تفكك الأقاليم وهذا ما يعكفُ عليه بعض المثقفين الذين يعيشون في صالونات أوربا ويأخذون آخر صيحة من التطور السياسي الغربي. ثم يقوم الفاكس بدوره بالتعجيل بالعملية التاريخية في البلد المتخلف لكن نحو الجحيم!
يصرخون إن الأميازات ضخمة ومرعبة التي تسرقها الطبقة الحاكمة وهذا صحيح، لكن قد تكون هذه الطبقة الحاكمة أساس وحدة النظام، وحين ينهار النظام لن يكون للمواطنين حتى مستوى المعيشة السابق. إن النضال من أجل الصالح الجديد لا يفترض أن يتخلى عن القديم المفيد.
إن الاستيراد السياسي ونقل الفاكسات السياسية والبرامج والديكورات عملية سهلة ولكن ماذا وراءها وما هي نتائجها؟
إن إنتاج ديمقراطية هو من صنع الناس في البلد المعني وعبر تفهم عميق وصبور من مختلف القوى الاجتماعية..
≣ الإسلام دين الديمقراطية والعلمانية
حين حدث الانقلاب على الأسس الاجتماعية للحكم في(الفتنة الكبرى) وما بعدها من نتائج استمرت ليومنا هذا، انقلبت تلك الأسسُ رأساً على عقب.
لم يكن ثمة ضرورة لأحزاب تقوم على أساس ديني، لأن الحكم هو للأغلبية الشعبية، وكان كبار الأغنياء قد أُبعدوا عن السيطرة على السلطة، ولهذا لم يخطرْ في بال عامة المسلمين أن تظهرَ أحزابٌ سياسية دينية، لأن الإسلام هو صوتُ الأغلبية العاملة.
وفي بداياتِ الانشقاق اعتبرتْ الأحزابُ السياسية المتوارية تحت لافتاتٍ دينية، إنها مع ذلك الميراث الرافض للأحزاب السياسية الدينية التي تمثل خروجاً عن دربِ السلف!
أخذت فئاتُ كبار الأغنياء التي وصلت للسيادة السياسية في صفوفِ مختلفِ الفرقاءِ المتصارعين على الحكم والثروة، وراحت تصورُ نفسَها أنها الوريث لما قامتْ بتحطيمهِ وإلغائهِ من التاريخ لجماعة المسلمين!
وحين جاءَ أي حكم مذهبي سياسي في هذه الطائفة أو تلك قام على نفس أساس الهيمنة الطبقية، فيصور نفسه بأنه الممثل للدين الحقيقي، وفي ذات الوقت له خزائنها المليئة بالمال والسندات والأراضي، وحين تقول فئة أنها ممثلة الإسلام تقوم باحتكار الثروة العامة وتحويل حزبها العسكري السياسي إلى القوة المهيمنة على العاملين. كان تاريخ الأغنياء الحاكمين المحدودي العدد بين أغلبية الفلاحين والبدو والفقراء.
وفي ذلك التاريخ تكونت جذور الجماعات الطائفية السياسية المعاصرة، فكانت الجماعاتُ السابقة تقتطعُ خيوطاً صغيرة من النصوص وتركبها على مصالح جماعة حاكمة في مختلف تضاريس العالم الإسلامي، وتحيل نفسها إلى حارسة للمذهب، وبالأحرى إلى معتقلة لتطور المذهب وتعبيره عن الناس.
فكان الحكام المستبدون يرون مدى شعبية هذا المذهب أو ذلك، ومدى قدرته على تكريسه لسطوتهم، ويكونون على أتم الاستعداد لتغيير المذهب وجعله سائداً في البلد الذي يحكمونه متى ما كان مفيداً لتكل المصلحة
غدا مثل هذا التسييس ميراثاً عميقاً متجذراً، توظفه الجماعاتُ السائدة لانفصال دولة عن أمبراطورية، أو في هدم أمبراطورية، ويوظفه المغامرون السياسيون إذا ما ركبوا على أجساد القبائل المطايا للوصول للكراسي.
والدائرة تدور والطاحونة تفرمُ عظامَ الناس، والقصور تمتلئ ثم تتحول لخرائب، وتتجدد ثانية بالمتع والعطايا والكنوز ثم تـُهدم وهكذا دواليك، وإستغلال الإسلام يقوم به أي لص أو مغامر أو ثائر كذلك، لكنه يتحول مثلهما، فلا عقول تتسع ولا معرفة عميقة تتراكم، ولا حضارة تبقى.
كان هاجس الوحدة قوياً في الإرث الأول، لأن الأرثَ وحدَّ مصالح الأغلبية، رفض صعود الطبقية العليا، الفرعونية، والملأ المالي، وجماعات الربا الفاحش، وأبناء الأكرمين، فاستخدم الملأ البنكي والسلطوي والجمهوري والملكي ورقة التوت الرقيقة؛ الصدقات، والتظاهر بالتقوى، والشكليات الديكورية الخارجية، ليتظاهروا بوحدة موهومة غير حقيقية للمسلمين، تفرقها كل يوم الضرائبُ على كواهل الناس، وتراكمات الثروة هنا وتراكمات الحرمان هناك، السجون المفتوحة هنا والسفرات والصناديق المُهّاجرة هناك.
صارتْ الأقفاصُ المذهبية السياسية ضرورية، للحفاظ على هذه الهيمنات، رغم أنه حتى الهيمنات الطبقية الحداثية تصاعدتْ في أغلبية الدول الأخرى دون الحاجة لمثل ورقة التوت تلك، والحالُ اليائسُ يقول أسرقونا لكن دعوا عنكم التلاعب بالدين!
لكن الوحدة الدينية المأزومة الموهومة هذه تزيد الانشقاقات والحروب والمعسكرات، لأن مئات الملايين تؤمنُ بها، ويظهر مغامرون من كلِ حدبٍ وصوب، يتنطعون لمثل هذه المهمة الجليلة المستحيلة الآن، فيركبون الطائرات للمغامرات ويتمردون بالجيوش ويقتطعون أجزاء من الدول لإقامة دول قطع اليد، والديكورات سهلة، والأكسسورات برخص التراب، ويقدم متعلمون جبالاً من الكتب للحفاظ على التفاسير العتيقة والتعصب الديني والتعصب القومي.
ويزداد حرج بعض رجال الدين العقلانيين من هذه التجارة بالمقدسات، لكن الأغلبية ماضية في المزاد الرهيب، فيتوارى هذا البعضُ ويقدمُ السياسيين دون أن تحدثَ عملية فصلٍ عميقةٍ بين المقدسِ والسياسي، بما كان أساساً للتوحيد، وما هو صار أساساً للصراعات على أموال الدنيا، بما كان تراثاً عزيزاً سامياً توحيدياً، وما هو عراكٌ على الإبل والنقود ونهب الأراضي!
وقد وصلتْ العملياتُ الصراعية إلى ما هدَّم دولاً (إسلامية) ،(بل قلْ تاجرت بالإسلام)، ونرى أمامنا جحافل المسلمين المساكين وهم يحملون عفشهم البائس مثلهم ويرفعون أطفالهم على أكتافهم، ليفروا من الصواريخ والقنابل، والطائرات (الإسلامية) تضربُ منازلـَهم وقراهم ومزارعهم، والجماعات الرافضة (الإسلامية) تطلقُ عليهم قذائفـَها وتحرقُ مزارعَهم وعالمهم الهادئ الساكن!
وتجمع الدولة (الإسلامية) الأموالَ وعَرق الملايين في مخازنها للجماعات المقربة، والإقاليمُ النائية (الإسلامية والمسيحية وغيرها من الملل) محرومة، عطشة للماء، ويقول رئيسهم (الإسلامي) للجمهور (سنعطيكم الماء!)، ويصيرُ ابناؤهم الضباط حكامَ البنوك والشركات الدنيوية و(الإسلامية)، ليواصلوا ثقافة الفتنة الكبرى، أي ليضعوا مخططات تدهور الدول الإسلامية وتمزقها، وبدلاً من الأفراس ورباط الخيل يُعدون به عدة لضرب المسلمين، يستخدمون قذائف الهاون ومدفعية الدبابات سلاحاً يرهبون به المطالبين عن أخذ أنصبتهم المتواضعة في الميزانيات والأموال التي انتجوها.
انظرْ إلى خرائط الرعب في إفغانستان وباكستان والسودان والجزائر، سيول من الحروب وضحاياها الفقراء، ولا جماعة طائفية قامتْ بالتبدل والتوبة من هذا الميراث الدامي.
ليس ثمة أكثر أسى من رؤية ما يجري في باكستان الآن مئات الآلوف من البشر يتشردون في لحظة، هنا يفقدُ الناسُ بيوتـَهم الرثة، وهناك في أمريكا يفقد الأغنياءُ فللهم الفارهة من الفساد المالي والبذخ، صورتان تمثلان وجهين لعملة دولارية واحدة، فبؤسُ باكستان تغذى من دكتاتوريات عسكرية استخدمتْ الدين مطية، ونهبتْ خيراتِ البلد ورحلـّتها للغرب، وتلاعبت بهذه الثروة قوى مالية غربية كبرى إلى درجة الجنون بذخاً وعسكرة. ولكن هؤلاء الفقراء الباكستانيون يتعرضون للموت في كل دقيقة، وأولئك الأغنياء يُعرض عليهم التعويض!
≣ الديمقراطية الحديثة وبناؤها
لا بدَّ من تداخل وتشابك العملية التحولية السياسية مع قوانين الديمقراطية العالمية، فتغدو الأحزاب معبرة عن فئات التجار والحرفيين والعمال والنساء، فينفصل الحزبي عن جماعته المذهبية، ويصيغ عقليته السياسية في ضوء تعبيره عن هذه الفئات وتلك، ويمكن لفئات الحرفيين والتجار والعمال أن تتقارب اجتماعيًا وسياسيًا، وهذا الانفصال ليس قطعيًا وباترًا في الديانة بل هو جزء من ثرائها، وتعبيرها عن مطالب الجماهير على مر التاريخ.
لكن هذا التعبير يأخذ شكلاً حضارياً ليس فيه مساس بالفئات السكانية الأخرى ويأخذ طابعه الإنساني كذلك.
فئات الوسطى الصغيرة يمكن أن تتقارب وتجد مشتركات بينها، والفئات الوسطى الكبيرة تجد حياتها وظروفها تدفعها للتكتل بصفة معينة.
هذه العمليات السياسية الاجتماعية ليست ضد التاريخ الديني بل هي تستقي من خبرة التاريخ العربي الإسلامي وترى التفكك الذي جرى ويجري وتتجاوزه.
إضافة إلى تداخل فئات الشعب وتبلورها سياسياً فهي تغدو مركزة على ما هو معبر عن الواقع الاقتصادي الاجتماعي، فتتلاقى فئات على صعيد الوطن والمنطقة، ولا تغدو النخبة هي المعبرة عن الحزب، وتقطع علاقاته بالفكر والاقتصاد وتجعله محدوداً غير قادر على التطور السياسي المستقبلي.
بطبيعة الحال هذه تحتاج إلى عمليات تنوير وتفكيك سياسي وإعادة بناء ويمكن أن تأخذ جذور التنظيم وتدمجها في العملية المعاصرة.
إذا لم يحدث ذلك فإن التنظيمات المكونة على أساس طائفي هي التي سوف تتغلب وتصعد عملية الصراع بين طائفتين، وتؤدي إلى الشروخ التي حدثت في بلدان أخرى.
ترتبط انتماءات الفئات السياسية الجديدة بتغيير طابع الملكية العامة التي تُحرر وتغدو ملكيات خاصة، أو مباعة على البرلمان، أو مراقبة من داخله وهو الذي يقوم بتوزيع دخولها حسب حاجات الطبقات والفئات ومدى مساهماتها في عمليات الانتاج.
هنا أشكال معينة مرتبطة بالعلمنة والتحديث والديمقراطية حيث تنصب اهتمامات الطبقات والفئات على مصالحها المادية وتبرمجها وتدافع عنها في البرلمان.
هذا يستلزم تغيير الوعي العامي السطحي ووعي المتعلمين الذين لا يتجاوزون هم كذلك هذا المستوى بسبب كسلهم الفكري وعدم تجذرهم في قضايا الفكر والفلسفة والسياسة والتاريخ ورفضهم التحليل وعيشهم على المسلوق إعلاميا والمنتهي الصلاحية.
ولا يمكن تغييره سوى بالصدام معه ونقده وكشف تناقضاته حيث يقوم العلمانيون الديمقراطيون بتحليل الشبكة الصدئة للماضي والحاضر.
في العملية الطويلة التاريخية لتحول الفئات الوسطى لطبقة وسطى وتوجيه الفوائض الكبرى نحو الصناعة وتغيير معيشة القوى المنتجة لتحدث عمليات تفكيك على صعيد المال العام والثقافة والتعليم وتغدو الوظيفة الحكومية مرحلية قصيرة مرهونة بإنجازاتها، ومساءلة من قبل الجهات التي تقود العملية التحولية التاريخية يجري صنع التحول الحقيقي.
بهذا تتوجه البلدان نحو تغيير طابع الذهنية المحافظة الملتصقة بالتراب العتيق والتي ينفصل عنها الأميون ويتدفق عليها المتعلمون والمثقفون، الذين يغادرون انتماءات (الفرجان) والأحياء الضيقة وينتمون إلى أوطان وتجديد مبانيها.
≣لا ديمقراطية من دون علمانية
تأخر المسلمون في الدخول إلى الحداثة والديمقراطية خلال القرون الأخيرة بشكل مأساوي، وحين يدخلون الآن بصعوبات جمة وبثورات مضحية عظيمة يقودها الشباب الديمقراطي العلماني يواصل المحافظون السياسيون والدينيون التشبث بسلطاتِهم شبه المطلقة.
تنافس مجرد عند صناديق الاقتراع حيث تبدو الديمقراطية العربية زاهية الألوان، في حين أن الشموليات الدينية خاصة تجرها من مسامها وخلاياها إلى الماضي والاستبداد.
المؤسسات الدينية الجماهيرية مجيرة لأسماء، والجمهور البسيط يُساق عبر الشبكات الاجتماعية المذهبية التي كونت خلال زمنية عهود الاستبداد الماضية، من أجل أن يصوت لقوى تقليدية جديدة، فبعد أن عانى الاقطاع السياسي عليه أن يعاني الاقطاع الديني وقد تحول إلى اقطاع حاكم ولكن إلى متى؟
لن تكون الديمقراطية سوى هيمنة معينة، فليس ثمة حرية مطلقة ولا ديمقراطية مطلقة، ولكن هذه الهيمنة الجديدة ما هي مقاربتها للحريات العامة وتطوير حياة الجمهور المعيشية؟ وهل هي تمثل نقلة باتجاه تطور هذا الجمهور السياسي بحيث يغدو قادراً على الاستقلال من شبكات الماضي القروسطية التي هيمنت عليه خلال العقود الأخيرة خاصة؟
حركت الحياة السياسية خلال العقود الأخيرة الجماهير العربية باتجاه التطور الاقتصادي الحديث نسبيا، وأنشأت أجهزة حديثة ومشروعات عامة وطورت الحياة الاقتصادية الخاصة، لكن هيمنة الدول التي قامت على هياكل تقليدية، خاصة هيمنة العائلات والقبائل حسب مناطق معينة أغلبها بدوية وريفية وحضرية جزئية، فشكلت اقطاعات سياسية في الدول العربية لهذه العائلات والقبائل والجماعات العسكرية والسياسية المتقاربة التي استغلت الملكيات العامة بجزء كبير لها.
ولم يكن بإمكان أحد منظم سياسيا أن يعارض أو يقاوم هذه السيطرات التي كانت تفتتُ قدراته، وتجهض تنظيماته، بدواع متعددة، ولكنها لم تقدر على التنظيمات الدينية التي لجأت إلى الاحتماء بالموروث، وشبكاته الاجتماعية الممتدة في الأشكال التعاونية والخيرية الزائفة شكلاً والمبطنة بسيطرات عائلية وقرابية وسياسية مذهبية ودينية.
يجب الفصل هنا بين شكل السيطرة ومضمونها، فالوزارات الحكومية والمصانع والبنوك التي غدت أجزاء اقتصادية من الدول ذات القطاعات العامة بشكل كبير، والتي تجرى فيها الأشكال الحديثة المستوردة، تقوم بخدمة قوى تقليدية، فتتوجه الفوائض لبناء قصور أو دعم مشروعات ثقافية تقليدية، فرأينا تنامي الشعر التقليدي والأشكال العامية المتخلفة من الأدب، وإعادة الاعتبار لأشكال موروثة من العادات وجرى التعصب لها، فقام رأس المال بدعم الاقطاع الماضوي في الحكم وفي الحياة عامة.
من هنا رفضت القوى المعارضة ذات الجمهور العامي بشكلٍ خاص أي تلويح بالديمقراطية العلمانية الفاصلة لاستخدام المذاهب والأديان في الحراك السياسي، وهو الأمر الذي لم يعارضه بعض الدول ولا أغلبية الأحزاب الحديثة، لأن ليس لها منفعة في هذه الأساليب السياسية المندمجة في السيطرات الدينية.
وهكذا فإن الشكلين من الاقطاع السياسي الحاكم والديني المعارض، أججا أساليب عتيقة في الحياة العربية وصعدا الموروث المحافظ بأشكال سلبية.
وهذا يمكن أن نلاحظه في العودة للقبائل والمناطقية وتضخم الأرياف في مواجهة المدن، وتفكك الدول فدولة عريقة كالعراق تتحطم في بنائها السياسي الوطني، وكذا السودان وسوريا وغداً غيرها من كل الدول العربية، وهنا تقوم الديمقراطيات الطائفية بهدم ما تبقى من الدول العربية ككيانات مؤسساتية، وهذا لا يتعارض مع الثورات العربية التي قادها الشباب الديمقراطي العلماني غير المنظم الذي سُرقت ثوراته منه.
لقد حدث ترد كبير في عقليات الجماهير العربية من الأجيال السابقة خاصة، التي سُحبتْ من الثقافات التحديثية الديمقراطية والتقدمية، وحُبستْ في الأشكال الإحيائية المحافظة الزائفة الانتماء إلى الإسلام بغيرِ ما تقول، فهي تمثل الثورة المضادة للإسلام التوحيدي، هي مذهبياتُ التفكك والتخلف واللاعقلانية.
وبهذا فمع عجز الاقطاع السياسي الحاكم عن تحويل الاقتصاد والثقافة للديمقراطية تحدث أزمة بنيوية، لأن الإقطاع لم يغد برجوازية حرة، فتحل الآن أزمة جديدة أكثر تعقيدا وتحللا لأبنية الاستقلال السياسية العربية، وتبدو «بشائرها» بعمليات التفكك الواسعة في كيان الدول، وأن تغدو الدول لا دول، بل كياناتٍ منفصلة وأقاليم وصراع مدنٍ وقرى، وهويات اثنية وطائفية وقومية.
وإذا كانت الدول قد رفضت العلمانيةَ جزئيا والديمقراطية كليا، فإن الدويلات الجديدة وطلائعها الطائفية ترفض العلمانية كلياً وتقبل الديمقراطية جزئيا، فتحدث النتائج نفسها، لأن الديمقراطية تغدو أداة السيطرة الاستبدادية المموهة فيما العلمانية تمثل نقضها وإزالتها.
فهي ذاتها حولت المذاهب والأديان إلى أشكال خالية من مضامينها الديمقراطية الإنسانية وصيرتها أدوات لاستغلال الفقراء وإبعادهم عن الحداثة والاستنارة، فلا قدرة لأشكال محافظة على تنمية حرية وتقدم وديمقراطية، وهذه كلها بسبب الوعي المتخلف للجماهير العربية وحبسها الطويل في ظلامية الأمية والجهل عقودا.
≣ ديمقراطية غير علمانية، أهي ممنكة؟
حسمت جماهيرُ الأقطارِ العربية في مصر وتونس التوجهات الاجتماعية بالاندفاع نحو ديمقراطية علمانية بدت شفافة وغير مؤدلجة ومتسامحة دينياً ووطنية متجاوزة للتفرقة الدينية والمذهبية، وذلك لكون البلدين لهما تاريخ ثقافي تحديثي طويل، ولو أن الأخوان المسلمين قادوا الثورتين لبارتا وتمزق البلدان.
جنوحُ الجماهير تقودها الأجيالُ الجديدةُ المتعلمة الحديثة للبلد الذي لا تستغله طائفةٌ ولا يعيش تحت هيمنة ديانة واحدة، ويغدو بلداً متسامحاً، ديمقراطياً يركز على التغيير المعيشي، وهذا هو سبب الانتصار.
لكن الجماعات الدينية المغلقة لن تدعَ الناسَ تمضي للديمقراطية الحداثية، فحين يحدث ذلك ماذا ستفعل وأين تولي وكيف تحمي إستغلالها للجمهور؟ فلا بد أن تقاوم إنهيار سلطتها بقوة، كما عملَ الحزبُ اللاوطني اللاديمقراطي وصمد من أجل بقاء إستغلاله للجمهور زمناً طويلاً أستغل كافة الأدوات ليواصل عصر شرايين الشعب في خزائنه.
وما أسهل للدينيين المغلقين إثارة العواطف تجاه المسكرات وعورة المرأة والفنون وإثارة الشعب نحو قضايا جانبية قبل أن تجفَ دماءُ الضحايا من على الأرصفة وبلاط الشوارع.
رجلُ السلطة ورجلُ الدين في الشرق وجهان لعملةِ إستغلال الشعب، الأولُ يركزُ على قداسةِ العلم الوطني وخريطة البلد وقوانينه وأرضه التي تُفدى وتُحمى بالأفئدة، والحدود والرموز المقدسة، وكل هذا الكلام لكن المقدس لديه فعلاً هو الخزائن وكيفية تكديس الأموال وتجميع الثروات، وها هو كل هارب كبير تُوضع ثروته على شاشة الفضاء العالمي مُقاسة بالمليارات المكشوفة الواضحة، فأين ذهبت قداسة الوطن؟
ورجل الدين لا يختلف عنه، يحولُ رموزَ الدين المقدسة لدى المؤمنين من صلوات وكتاب ومناسبات إلى سيطرة على الناس وإستغلال موارد عيشهم وهيمنة على أرواحهم حتى لا تطير نحو العقلانية والحرية.
ألا ترى كيف يستميتون لملءِ بيوتهم بالأشياء الثمينة والأموال والأغذية؟ ألا ترى كيف يخافون أن يتحرر الناس ويغدون حداثيين يعبدون اللهَ دون وسائط ماكرة؟ ويمارسون شعائرَهم الدينية دون وكالاتٍ تجارية وسمسرة إجتماعية؟
فهل يمضي عربُ الحرية السياسية نحو سجون جديدة؟ ويستبدلون النار بالصحراء الضارية؟
لا أظن ذلك، ومهما فعلَ المجلسُ العسكري لكي يعيدَ ذات الطبقة القديمة بوجوه جديدة، وأن يواصل الإقطاعان السياسي والديني هيمنتهما على الشعب بأشكال رقيقة في البدء، فإن الشعوبَ العربية وخاصة الشعب المصري، قد أكتوى بالاثنين، ويريد بلداً حراً على الطراز الأوربي الديمقراطي الحديث، ولا يريد مواصلة العيش في زنزانات الأنظمة الدينية السياسية، يريدُ حكومةً تركزُ على تطوير عيشه ولا تفجر الخلافات بين المذاهب الإسلامية والأديان السماوية، فقد شبعتْ الشعوبُ من هذه الكوارث ومن الإدعاءات الأخلاقية المثالية، وأصحابها أكثر الناقعين في عسل المادة، وصانعي عالم الجواري، والبؤس الأخلاقي.
وها هو العراق بعد أن رسّخ سلطات الجماعات الطائفية الاستغلالية يثور مطالباً بخبزه الضائع، وأمواله الهاربة من يديه التي تتجاوز أسلاك الحدود وهي تحملُ الملايين، وينعى أعماله المتوقفة وحضارته التي هدمها السياسيون الشموليون والدينيون الطائفيون.
الديمقراطيةُ الحقيقية هي أن لا يكون حزباً واحداً مهيمناً فيها، يعيشُ أبديةَ الكراسي والخزائن، ولا أن يقبض الحزب الديني على عنقه ويمنعه من الطيران في عالم الحرية والاختيارات الأخلاقية والعقلانية.
إذا كان الحزبُ السياسي يمكن أن يتغير فإن الحزب الديني يربط نفسه إدعاءً بالذات الإلهية والسماء والمقدسات كلها، فكيف سيتبدل ويسمح لآخرين بنقده وكشف أمواله وإستغلاله؟
لقد جرب العربُ الأحزابَ السياسية الشمولية الدينية فهل يستمرون في التجريب الخائب؟
هل يعرضون بلادنهم للحرائق والخرائب في كل مكان؟
هل ينخدعون بالكلمات عن الطائفة المقدسة والحزب المقدس والجماعة التي لا يأتيها الباطل؟
(الدينُ لله والوطن للجميع)، قالها المصريون سابقاً، ولا بد أن يستعيدوها بشكل أكثر حداثةً وديمقراطية، وأن لا يجربوا الأنظمة الدينية الشمولية ومرارات الأحزاب الدينية بعد أن عانوا طويلاً من الأحزاب السياسية العسكرية.
≣ الديمقراطية تحولٌ تاريخي
تتشكل الديمقراطية بفضل الفئات الوسطى، وذلك حين تتوجه لاستلام السوق المحلية، وحين ترث ملكيات الدول، وتعيد تشكيل الاقتصاد الحرفي والصناعات الصغيرة إلى صناعة آلية، وتطور مهارات العمال حسب مستوى تطور العصر الصناعي – التقني..
ورغم ضخامة هذه الشروط الاقتصادية فهي تتطلب شروطاً فكرية وسياسية، فبماذا تعبر الدولة الدينية أو المذهبية أليست هي تعبيراً عن العصر السابق على الحداثة والرأسمالية؟
إن المذهبيات السائدة هي مذهبيات محافظة تعبر عن الطبقات فيما قبل الرأسمالية، وتعني وجود مجتمعات مفككة، وغياب السوق والشعب الموحد الخ..
لهذا نجد إن العديد من رجال الدين المنفتحين يشتغلون في تجديد الموقف من البنوك ومن الموقف من العلاقات مع الأمم غير الإسلامية ومن قضايا الحدود، ومن أنواع الحكومات الخ.. وهي كلها محاولات لإنتاج أحكام تعبر عن فئات وسطى تحاول التقريب بين النظام الاجتماعي التقليدي والنظام الحديث كما يتتجسد في الغرب، دون أن تتطابق معه في الأخلاق والدين، دون يستطيع رجال الدين هؤلاء إنتاج نظام إسلامي ديمقراطي، لأن
إن العصر العربي الراهن هو عصر التمهيد للديمقراطية، ولهذا هو يدخل مخاضاً معقداً منجراً إلى صراعات سياسية اغلبها يؤدي إلى تدمير قواه الانتاجية، وبدلاً من أن يكون التحولات السياسية هي تتويج طويل للنمو الاقتصادي وتشكل طبقة وسطى موحدة، تؤدي التحولات السياسية إلى تفتتيت كل مجتمع عربي.
فقد لعبت الدولة المركزية المسيطرة على المجتمع ذات التوجه الديني الشمولي عامل السيطرة على تكوين البلد المفتت، ولكن تطور العملية الديمقراطية يقود إلى إزاحة سيطرة الدولة على الاقتصاد، وهذا يؤدي إلى دخول المجتمع طور التفكك، كما يجري في العراق، والسودان، وفلسطين وكما جرى في الجزائر الخ..
وإزاحة هذه السيطرة لا يكون بفعل نضوج الطبقة الوسطى، فلا تظهر طبقة قادردة على وراثة النظام القديم بشكل حقيقي، بل بفعل تدخل خارجي كالعراق، أو بفعل أزمات مركبة كفلسطين، وهذا يؤدي إلى استعادة التكوينات العتيقة دورها فتحدث فوضى وحروب طائفية ومناطقية.
إن هذه الأزمات ستدوم طويلاً بل سوف تعرقل كذلك عمليات الحل الموضوعي لأنها تقود إلى العنف الذي يغدو هدراً للموراد.
وتعبير ( الفوضى الخلاقة) الذي يستخدمه الغرب في عملياته الجراحية للعالم الإسلامي، تعبر عن فقدان الحل الموضوعي، لأن الحل الموضوعي يتطلب عشرات السنين، فليس بالأوامر تنشأ المصانع والتجارة الحرة الخاصة، وليس بالأوامر يفك رجال الدول المتنفذون سيطرتهم على الأسواق والمداخيل، وليس بالأوامر تنشأ أفكار دينية متفتحة ديمقراطية توحد أي شعب..
ولهذا فإن كلمات مثل التقريب بين المذاهب والتسامح الديني والتخصيص ومراقبة المال العام وغيرها هي الشعارات العامة للدخول إلى فضاء التغيير ذاك..
من هنا يغدو نموذج الحلول الصغيرة المتراكمة والذي هو نموذج مصر، وليس نموذج الحل التفجيري كما هو العراق، أفضل للقوى السياسية في البلدان التي بعد لم يفجرها الصراع السياسي.
إن تراكمات الحلول وإجراء تغييرات صغيرة متراكمة وإدخال القوى الشعبية في عملية الحكم والمسئولية والإنتاج هو الطريق الذي ينبغي |أن تسلكه الدول والفئات الوسطى ذات الثروة.
فهذه الفئات لاتريد أن تصعد فئات ثرية جديدة وهي تقبض على السوق بوسائل سياسية متعاونة مع الأنظمة القديمة، وهي لا تطور قواها المنتجة الوطنية، مفككة السوق بأشكال شتى، وتعاضد أشكال المذهبية المحافظة وأقتصاديات السوق الاستهلاكية المدمرة للتراكم الرأسمالي الحقيقي.
لكن مهما جرى من تغيرات نظل على بوابة التحول الديمقراطي التاريخي، ولا نعرف كيف سيتم تجاوز صراع الدول المسيطرة والمعارضة الدينية، فهل سينبثق تكون جديد، وينصهر الفريقان في تكوين تحديثي ديمقراطي أم يواجهان الأمور نحو التفكيك الكامل للدول والمجتمعات؟
أم أن صناديق الاقتراع سوف تخفف من قبضة كلا الفريقين على الموارد والسلطات؟
≣الديمقراطيةُ طريقٌ واحدٌ
مع غياب الطبقة الوسطى من مجتمعات عربية مثل العراق والبحرين وبعض أقطار الجزيرة العربية تصبح الديمقراطية صعبة أو غير ممكنة.
شكلت الطبقة الوسطى وجودها بصعوبة في بعض الدول العربية، وحتى الآن لم يُعرف حجمها وتكويناتها، أي مدى حجم الرأسمال الصناعي وبقية الرساميل التكوينية المحورية فيها، ومستوى مؤسساتها العلمية وقدرتها على فهم الإنتاج وتطويره، حتى الآن هي في بعض الدول العربية فئات مهمة تتقارب لتصعيد أو ربما لتقزيم الرأسمال الصناعي، وهذا يعود لمستوى وعي تنظيماتها السياسية، ومدى فهمها لتطور الإنتاج الصناعي- العلمي في إعادة تغيير البناء الاجتماعي الاقتصادي التقليدي بموصفات الحداثة.
تلك الدول خلقت تراكمات على مستويات عدة، في حين أن الدول في الجزيرة العربية بعيدة عن ذلك والأسباب كثيرة: تصحرٌ إجتماعي لقرون، ومدنٌ هامشية، وصناعات إستخراجية هي الأساس لم تقدر على تحويل معظم السكان لعمال ومنتجين وملاكاً، ودولٌ تمتلكُ أغلبَ الفوائض وتتصرفُ فيها بأشكال غير مدروسة إجتماعياً ومرّحلة غربياً.
إن الدولَ لا تستطيع أن تخلق وتؤسسَ ديمقراطية، بل تخلقُها الطبقةُ الوسطى الحرة، يخلقها رجالُ ونساءُ الأعمال وهم مؤسسو المصانع والشركات الذين يربحون من دخولِ مؤسساتهم، وبالتالي لا يخشون شيئاً سواءً كانوا داخل أو خارج الحكم.
يدخلون الحكمَ لتغيير أحوال طبقتهم وزيادة ثرائها مع خدمة بقية الطبقات وزيادة أجورها وتحسين أحوالها في عملية تطوير إنتاج ضرورية لكل المواطنين، ولكي يكسبوا أصواتهم لحكمٍ تال.
الشفافية والعقلانية والحداثة هي جزءٌ من تكوين طبقتهم، وتغيير أشكال الإنتاج القديمة هي من مهماتهم الاقتصادية الاجتماعية.
تساعدُهم وتصارعُهم الطبقاتُ العاملة حسب مسار إصلاحاتهم، وهذه القوى العاملة حتى حين تشاركُ في الحكم تدخلُ تعديلات وتطورات على النظام الرأسمالي من موقعِ مصالحِها ومن موقع تطوير البنية الاجتماعية ككل.
وبدون هذه السياقات يَصُعب الحديث عن الديمقراطية.
ونحن في الجزيرة العربية خاصة علينا أن نقدم العتبات الأولى لظهور هذه البنية الاجتماعية. نشكل فقط بذوراً ديمقراطية لنترك للأجيال القادمة زراعتها.
فلا بد أن تتخفف الدولُ من تشييدِ المصانع والمؤسسات الاقتصادية التي تُصمم بطرقٍ بيروقراطيةٍ دون أشكال ديمقراطية، ودون دراية بطبيعة النظام الاقتصادي وكيفية تطوره العقلاني وقدرته على خلق تطورات إقتصادية وجذب العمال العاطلين المواطنين والشرائح المهمشة وجعلهم أغلبية منتجة بدل إقتصاد هدر العمالة ورأس المال القائم.
ولا تحدث الديمقراطية إلا من تحرك الفئات الوسطى نحو الإنتاج والأسواق شبه المحتكرة الآن للدول، وبالتالي فإن الأجهزة الحكومية الراهنة وهي المهيمنة على الاقتصاد والحياة الاجتماعية لا تستطيع خلق ديمقراطية، يُفترض فيها وجود إقتصاديات حرة وتداول للسلطات.
ومن هنا فلا بد من أن تكون الملكيات الخاصة في الإنتاج خاصة هي الأساس الاقتصادي.
الديمقراطية تخلق في قرون، ولكن هذا لا يعني عدم خلق البذور الراهنة والمقدمات الاقتصادية والسياسية والفكرية.
الهيئات الحكومية والجماعات السياسية الأهلية شمولية، تعيشُ في عالم الحرب الباردة وآثارها، وفي الرأسماليات الحكومية الشرقية وأفكارها، وهي بعد لم تقتنع في أعماقها السياسية، وفي هياكل عظامها بالديمقراطية.
أهم سمتان الديمقراطية هما العلمانية وتبادل الحكم، وهما سمتان يصعب القيام بهما في المنطقة. لكن هل نقف دون أن نتقدم نحوهما؟
تطبيق العلمانية يعني عدم إستعمال الدول والمنظمات السياسية للدين ومنتجاته في الحكم والعمل السياسي، ودون ذلك لا تتحقق الديمقراطية.
محاولات القفز والمناورات والإختراقات على ذلك بدون فائدة، لكن هذه لا تستطيع أن تفعلها الدول والجماعات الأهلية السياسية، ولا توجد فئات وسطى قوية تؤسس للأسباب الموضوعية السابقة الذكر.
الدول والجماعات الدينية إستخدامها للدين سياسياً يعبرُ عن شمولياتها، فلا بد للتقدم لأولِ خطوة نحو بذرة الديمقراطية من وقف ذلك.
الجماعات البرجوازية الصغيرة وتنظيماتها لا بد أن تدركَ أهميةَ الدخول في طريق الديمقراطية، وتنقدَ تاريخَها وشموليتها، وتمشي في طريق الحداثة والعلمانية والرأسمالية الحديثة، ولا أن تحولَ أفكارَها لرأسِ مالٍ تأخذهُ من الدولِ كإنتهازيةٍ مدفوعة الأجر، أو من إستغلالِ العامةِ من خلال المزايدة والمغامرة، مدفوعة الخسارة من مال الناس.
لا بد إذا أرادت أن تصيرَ رأسماليات أن تتوجه لبناء الأعمال الخاصة والمؤسسات التجارية والصناعية، بدلاً من تحويل السياسة لرأسِ مالٍ، فلا تشارك في سد مجرى تغيير العلاقات الاجتماعية والاقتصادية بمنع التوجه نحو الرأسمالية الحرة.
في السياسة والوعي تؤيد تراكم المال وقوى العمل من أجل الخروج من الدول التقليدية، ومن أجل أن يغدو الهدفُ المحوري للمجتمع وهو تبادل السلطة ممكناً، عبر زوال التتنظيمات الشمولية غير القادرة على أن تكون ديمقراطية أساساً.
≣ الديمقراطية والعلمانية والتجريب
الحديثُ عن الاستقرارِ الدائم أصبح عسيراً في حالةِ تكونِ العالم السياسي في المنطقة على مادةٍ إجتماعية متخلفةٍ تعودُ لقرن مضى، أي لأحوال تعود لأيام الأمبراطورية العثمانية والدولة الفارسية.
لقد قامت الدول العربية السائرة في التغييرات السياسية في السنوات الأخيرة بتحولات إجتماعيية تحديثية داخلية مهمة.
تطور هذه البلدان التحديثي هام ويسير بشكل بطيء بطبيعة الحال بسبب المجتمع التقليدي المتجذر خلال قرون، لكن اصبح التطور لا بد منه، والانفتاح على الحداثة والديمقراطية علامات ضرورية لأي مجتمع.
لكن العمليات السياسية الديمقراطية تمت من خلال المواد الخام القديمة للمجتمع وعبر التجريب.
لقد أخفقت القوى العلمانية-الديمقراطية سياسياً ومن الوصول للبرلمانات لأنها لم تبق في الحياة الخام الدينية الاحتفالية في الحياة العربية الدينية الماضوية التقليدية البعيدة عن السياسة وإنتاج الوعي والفكر، وإنتصرتْ القوى الخام المقاطعة للسياسة التحديثية وإنتاج الفكر النهضوي.
وكان يُفترض أن تُبنى المجتمعات الديمقراطية الوطنية الموحدة وليست المجتمعات الديمقراطية المُفكَّكة والهادمة للخرائط الوطنية لكل بلد!
نتيجةٌ معاكسةٌ للفرضيات السياسية الأولى التبشيرية للديمقراطية الواعدة!
هُزمت القوى الديمقراطية الوطنية، وعادت القوى المذهبية الطائفية من النوافذ السياسية للبلدان.
التجربة العراقية مثل التجارب العربية الأخرى تمشي بأشكال تجريبية على مواد إجتماعية غير مدروسة وغير مهيئة كذلك لأعمال سياسية متقدمة.
أما التجربة اللبنانية فهي بذاتها لم تحتاج إلى تعديل لأنها هي نفسها تجربة (طائفية ديمقراطية).
الشكل الديمقراطي الحديث يفترض أن يبدأ بأوسع أشكال الوعي وليس أن يبدأ بمستويات من الوعي متدنية.
كانت التجارب البرلمانية للأربعينيات والخمسينيات في بعض الدول العربية وفي الكويت والبحرين في الستينيات والسبعينيات، هي ذروة تطور الوعي الديمقراطي لذلك الزمان فجاءت البرلمانات ذات شحنات كبيرة من الدعم للأطر القومية والوطنية المترابطة ولتطور الفئات المتوسطة والعمال، وهي تطورات تخلق عمقاً في البناء الاجتماعي وليس أن تخلق جزراً سياسية وأقاليم خاصة.
للأسف أن بعض البلدان الإسلامية والغربية تريد أن تتجذر (الديمقراطية الطائفية) هذه، وهذه تحدث صدامات بين قوى المجتمع في كل بلد، بل وصدامات على مستوى المنطقة ككل، لأن كل دولة كبيرة لها علاقات ودول صديقة، وإذا كانت الدولة ذات توجه طائفي فإن التوجه يصير صداماً بين دول المنطقة.
إذن لم تكن الدول الغربية الداعمة لمثل هذه الديمقراطية الطائفية تعرف نتائج مثل هذه الخطط بل هي منساقة في سياساتها التجريبية العفوية، وأشك أن العملية شريرة مخطط لها، بل هي السياسات الخارجية وما تتبعه من ظروف مرحلية في عالم في حالة تحولات غير مسيطرة عليها وغير مفهومة في كثير من الأحيان.
لكن النمو المتدرج للتناقضات الداخلية وطبيعة القوى السياسية الطائفية المشكلة حيث هذا هو مستواها الموضوعي لا تستطيع أن ترتقي فوقه.
≣ الديمقراطية والمصالح
لا تتشكل الديمقراطية دون أن تتحرر الدولة من هيمنة المصالح، ولهذا تغدو عملية تكّون الديمقراطية صعبة وبطيئة وطويلة!
فيستطيع أصحاب المصالح أن يتحرروا هم أيضاً من الدولة عبر تشكل الرأسماليات الخاصة، في حين أن تشابك مصالحهم الاقتصادية بالدولة ذو ضرر بعيد المدى على هذه الرساميل.
لكن بما أن الدولة هي السوق الأعظم كما يقول ابن خلدون فإن تقليص دور الدولة الاقتصادي الهائل يغدو الواجب الكبير للقوى السياسية، وتغيير هذا الميراث الذي بدأ من العصر الفرعوني والرافدي، هو من القضايا المحورية في الزمن العربي الراهن.
إن تحويل الدولة كجهاز سياسي محايد، يتطلب دقة المعلومات المقدمة من أجهزة الدولة المختلفة، عن مختلف المنشآت الاقتصادية، فهناك عدم وضوح كمي عن الموارد والمداخيل، والأرقام المقدمة التي تسمى ميزانية الدولة تبقى مبهمة كثيراً، في حين أن الميزانية في أي دولة لا بد أن تكون واسعة كثيراً، وتصدر بعدة كتب كاشفة كافة الأرقام من دخول ونفقات لمجمل الوزارات والمؤسسات والشركات العامة، بحيث لا تبقى إبرة لم تـُذكر في التقارير، وليس كالأرقام المبهمة المعومة التي تقدمها الدول العربية.
لكن كافة المنتصرين في الانتخابات والمرتفعين إلى سدة الحكم، يطمعون في بقائهم الأبدي على الكراسي، ولهذا تتغير التحالفات والتشكيلات السياسية بعد فوز فريقٌ معين من فرقاء الصراع السياسي، فقوى الحكم القديم تسعى إلى ترويض المنتصرين، وإدخالهم دائرة الفساد العام، بفعل الإغراءات الكبيرة المقدمة، من رواتب عالية ومزايا اقتصادية أخرى، وما يجري تحت الطاولة السياسية كثير من وسائل الشد الاجتماعي والإفساد، بحيث تقوم هذه العملية بتليين رؤوس المنتصرين، ليعملوا وفق السائد ولا بأس من يذروا الرماد في عيون الجماهير بمعركة صغيرة هنا أو هناك !
وتدرك الحكومات العربية أن القوى الدينية الصاعدة إلى البرلمانات لديها أكثر من ثغرة يمكن النفاذ منها، لحرفها عن الصراع ضد الفساد، فلم يعرف التاريخ العربي القديم من هذه العمليات الصراعية شيئاً كبيراً، خاصةً أن الصاعدين من القوى الدينية أغلبهم من المتوسطي الحال، ومن غير أصحاب المصانع والشركات، الذين يكون إفسادهم أكثر صعوبة، فما هو إلا تلويح ببعض الذهب والمناصب الأثيرة، حتى يتوسع الاجتهاد الفقهي ويتمدد فيرى مهمات الخير والأمان وتقوية السلام الاجتماعي، بدلاً من الصراع ضد الفساد وتغيير أجور العاملين!
وهكذا رأينا العديد من النواب يغير قناعاته ويركز على مسائل جانبية بعد أن ذاق حلاوة المعاشات الكبيرة والرفاهية، وكنا نتوقع فتح ملفات مهمة وكبيرة خلال هذه الأربع سنوات، فكان الفتح نادراً ووامضاً !
حتى ملف المجاري لم يتم الاقتراب منه، فهل من المعقول أن يستمر مشروع المجاري أربعين سنة وكأنه مشروع لغزو الفضاء، ولا نرى شيئاً يتحقق ولا تزال الأمطار تغرق الشوارع؟
ولو كنا في بلد مثل الهند التي تتحكم مجاريها في طوفان من مياه الأمطار لقلنا لا بأس ولكن في مثل هذه البلد الصغيرة، ومع ذلك تظل الحفريات تشتغل في كل مكان ، وتعيد ما خربته، وتخرب ما بنته، وترصف ثم تكسر ما رصفته.
نريد أن نعلم ما تم إنجازه في هذا المشروع الخرافي، لتوضع الخرائط ونكتشف ما تم تشكيله تحت الأرض !
وقس على ذلك في مختلف الوزارات: كلمات ضخمة وإنجازات هشة على الأرض!
وعود هائلة بمساكن ثم تذهب الطيور بأرزاقها !
≣ تطوير الديمقراطية (الطائفية)
بمساعدةِ الدول الغربية مشكورة لبعض الدول العربية كي تعبر للديمقراطية تُطرح أسئلة كثيرة عن مدى تأهل هذه الدول العربية للديمقراطية، حتى أن يُطبق ذلك على مجتمع شديدة البداوة والتخلف كالمجتمع الأفغاني؟
المساعدةُ ليست مجانية، والمساعدةُ مرهونةٌ بمستوى تاريخي معين لدى المُصدرين ولدى المستقبلين، وهذه الطروف في كلا الجانبين ينبغي أن تُدرس بعناية.
من ناحية أولى يقبع الإرثُ الديمقراطي الليبرالي الغربي وراء هذا التصدير وذلك الدعم، وقدرةُ ذلك الإرثِ الديمقراطي الغربي على قراءة تاريخ المسلمين محدودة، فهم لديهم نسخة جاهزة، ومصطلحاتها معروفة وسائدة؛ وهي الأصواتُ، وصناديق الإقتراع، والمرشحون والناخبون، والأوراق وعلاماتها، والمجلس المُنتخَب وغير هذا من أسسٍ مكشوطةٍ من مضمونِها الغربي العريق الخاص ومنقولةٍ على رؤوسِ القبائل والطوائف العربية والإسلامية؟
المنتخبون الغربيون متعلمون إن لم يكونوا مثقفين، وقادرون على التأثير في أنماط الحكومات المسيطرة، وإستبدالها، أي أن البرلمانية الديمقراطية الغربية سلطةٌ مهمة، رغم أنها محددة بشورطِها التاريخية كدور المال في تأثيث البرلمانات وتشكيلها، ولكنه مال يتشكل من الدعاية. ومهما كانت قدراته ففي زمن الأزمات والتحولات يقدر الناخبون على التحجيم منه إن لم يهزموه.
هذه المواصفات غير موجودة خاصة في الدول الشرقية ذات القطاعات العامة المسيطرة على المعاش العام، ومن هنا تكتسب البرلمانات صفات (الحلحلة) البسيطة لتكلس القطاعات العامة، وحصرها للقطاعات الخاصة، وللأنفاق، عبر خططها المحسومة سلفاً في أروقة الحكم.
في مثل هذه الأحوال يجب نمو أحزاب الفئات الخاصة ذات التوجهات الديمقراطية والتحديثية والعلمانية، باتجاه تشكل الشعب الموَّحد المشارك للبشرية في تحولها الديمقراطي العصري العام.
هذا يحدث ربما في التجارب الملكية العربية حيث القطاعات العامة والخاصة في حالات قوة وإتساع ومنافسة وإن لا تزال القطاعات العامة هي التي تقررُ ما يجري في السياسة والاقتصاد والثقافة والأعلام، ولا تزال بعد دون المستوى من المقاربة مع التجارب الغربية، وهي تساهم في تكون مسارات الحداثة، لكن الدول الشمولية لا تزال الجيوشُ تعسكر فوق صناديق الإقتراع. والجيوشُ تنفي الديمقراطيةَ جملة وتفصيلاً.
من المهم أن تتقوى الأشكالُ الغربيةُ الديمقراطية عبر مضامين التراث العربي الإسلامي، خاصةً مسائل تحرير الأرض من الهيمنات الكلية للقبائل والدول، وأن تكونَ من إستخدامِ الفلاحين فتغدو منتجاتها من أملاكهم.
ولقرون كانت الأرضُ الجماعيةُ مُلكاً للمزارعين، وكان إحياءُ الأراضي الميتةِ لمن يقومَ به، وكان الخراجُ في عصر الخلفاء الراشدين ومن سارَ على سيرتِهم يعودُ للتنمية ومساعدة الأهالي.
ولم تكن قضايا المرأة هي قضايا زمنِ الجواري والرقيق، بل كانت هي قضايا العمل والإنتاج في الأرض والبيت، وما يسودُ الآن من فقهِ الجواري ليس له علاقة بتاريخنا الحقيقي.
كانت أغلبيةُ النساء تشتغلُ في الفلاحةِ والأعمال المختلفة، وقامت السلطنةُ العثمانية وعصرُ المماليك بإشاعةِ الغيابِ النسائي وتشكيل عصر الحريم.
لقد فهمَ الخلفاءُ الراشدون مسألةَ التصويت والإنتخاب في أكبر منصب في الدولة وأدركوا صعوبات التصويت في مجتمع شاسع مع غياب طرق المواصلات المُيَّسرة، وبسبب المفاجئات التي تحدثُ في هذا المنصب الخطير كالموت المفاجئ، وبضرورة الإسراع في تولي البديل قبل أن تعم الفوضى، فلجئوا للمبايعة وكون المنصب الرفيع وإختياره وتوجيه عجلات الدولة من شأنِ أهلِ الحل والعقد وهم ذروة الحركةِ السياسية الحاكمةِ التي قادتْ التحول مدركين مسائل الأغلبية الحاكمة واضعين في الإعتبار أصوات سكان الأمصار البعيدين.
إن الأشكالَ الغربية الديمقراطية مهمةٌ لكن عبر مضامين عربية إسلامية إنسانية، فالجماعة واحدة، فلا مجال للتجارة السياسية فيها بالدين، وأن يظهر أناسٌ من الجماعة يزايدون على الآخرين بإيمانهم، وهو أمرٌ يهدمُ الجماعةَ الإسلامية وينقضها، لكن مربط الفرس هو في التعبير عن الأغلبية.
ما تَركبَّ من الديمقراطيةِ الغربية فوق الظروف العربية الطائفية، هو مزجُ شكلٍ فارغٍ مع مضمونٍ متخلف.
الديمقراطية الغربية كونتْ لها الطبقاتُ المتوسطة والعاملة الحديثة المتوحدةَ المنصهرةَ مصالحَ مشتركة وهو نسيجُها الاجتماعي القوي، أما الديمقراطياتُ العربية فهي مركبةٌ فوق طوائف متصادمة ويغيبُ عنها النسيجُ الاجتماعي التحديثي التوحيدي.
وخاصة حين ينقسم المسلمون إلى محاور عدائية تفني بعضُها بعضاً.
ثمة سلسلة من التحولات الاجتماعية والسياسية والفكرية لمقاربة الأشكال الغربية مع المضامين العربية المنشودة، وأهمها ما أشرنا إليه من جماعية الأرض الزراعية وإبعاد النساء عن عالم الرقيق وثقافته، ونشر الملكيات الخاصة الصغيرة والمتوسطة المُنتجة عبر دعم الأموال العامة والأرباح الخاصة.
ومن هنا فإن (الديمقراطية الإفغانية) حين تقوم على هيمنة رؤوساء القبائل والبيروقراطية الحكومية الفاسدة لا تشعرُ بتضادٍ مع عصابات الطالبان منتجي المخدرات، كما أن الديمقراطية الغربية المُصَّدرة ليست لها دراية بتاريخ الشعب الذي تريد تحديثه.
≣ جمهور ضد الديمقراطية
مع تفاقم النزاع بين الحكومات الغربية والأنظمة الشمولية العربية التي ترفض الدخول إلى النادي الديمقراطي العالمي، يتم استخدام الجمهور من أجل الحرب ضد أمريكا وضد الحداثة وضد الديمقراطية، وتـُلبس هذه القضية الكثير من الألبسة القومية والدينية، لتمويه طابعها السياسي الحقيقي.
كانت التحركات الموجهة خلال السنوات القليلة الماضية للدفاع عن النظام العراقي، والى الهجوم ضد الإمبريالية، والتي ينخرط فيها الجمهور بحماس حقيقي، يعبر عن إيمانه في النضال ضد الاستعمار ومن أجل تحرير فلسطين، وبطبيعة الحال كان للمنظمين والموجهين هدف آخر، هو عرقلة الهجوم الغربي الديمقراطي على الأنظمة الشمولية السائدة في المنطقة.
ومن ثم ليس ثمة غرابة أن يتجمع المؤيدون للنظام الإيراني والنظام العراقي جنباً لجنب، أو غيرها من الأطياف التي تأخذ إشارات الريموت كنترول من أنظمة استبدادية أخرى.
والآن تتفاقم القضية ويتحول الصراع إلى مواجهة ملموسة، فهناك مشروع أمريكي لخلق منطقة ديمقراطية، وهناك رد من الأنظمة الشمولية بتأجيل هذه الديمقراطية إلى أبد الآبدين إلى أن تخلو الخزائن وتنفجر الثورات ويدمر ( الرعاع) كل شيء.
مسئولو العديد من هذه الأنظمة لهم حساباتهم الكبيرة في البنوك الأجنبية وهم على طريقة دكتاتور هايتي سوف يقامون التغيرات حتى آخر لحظة، ثم يهربون إلى الملاذات الآمنة.
ونرى تدخلات هذه الدول في العراق سواء عبر التفجيرات الدموية الإجرامية لمختلف القوميات والطوائف، وآخرها الهجوم المجنون على المزارات الشيعية، أو عبر الإشكاليات السياسية المستمرة التي تظهر في مجلس الحكم الانتقالي، سواء عبر تصريحات تنكأ الجروح أو بأطروحات قومية وطائفية تعرقل أي إمكانية لخلق تجربة ديمقراطية.
لا يهم الأنظمة في المنطقة مسألة الوجود الأمريكي الذي هو سائد فيها سيادة كبيرة، ولكنها لا تخجل من المطالبة بزوال نفس الوجود الأمريكي عن بلد لا نظام فيه، ولا قوة تمنع العراقيين من التذابح لولاها.
فجأة أصبح الوجود الأمريكي ملعوناً، ومع هذا فإن المناورات العسكرية لا تنفك تجري بين الحلفاء !
فهم يريدون من الأمريكيين والغربيين عدم التدخل في أسلوب إدارتهم السياسية الذي عفى عليه الزمن، وهو مضر لمصالح الغربيين ومصالح هذه الأنظمة على المدى البعيد.
إن مسئولي الأنظمة العربية وغير العربية في المنطقة لا يريدون أن يسود صندوق الانتخاب في الحياة السياسية، خائفين مما ستجلبه هذه الصناديق من تحولات ومن قوى سياسية مختلفة، ويريدون أن يجلسوا على الكراسي إلى الأبد .
وهم لا يتسللون إلى الجمهور عبر خطابهم الرسمي المناور فحسب، ولكن عبر العديد من القوى التي تسمي نفسها معارضة، التي لا تطرح لجمهورها العداء الصريح للديمقراطية، وأن كان البعض لا يخجل من ذلك، بل تطرح قضايا أخرى غير ممكنة التحقيق، أو تستدعي القضايا العربية الساخنة التي غدت شماعة، وعبر هذا يتم جر القواعد السياسية إلى مواقف ضد الغرب وأمريكا باستخدام قضية فلسطين أو غيرها ولكن المقصود هو منع نمو الديمقراطية.
وفي حالة تحقق شيءٌ من هذه الديمقراطية، فإن خط الدفاع الثاني يتمثل في استخدام القوى المذهبية والقوموية العتيقة، لفركشة الديمقراطية من الداخل، عبر إثارة القضايا الجانبية والنفخ في لغة الصراع الطائفي وعبر المزايدات السياسية الخ..
لعبة الكراسي السياسية بين العالم المتحضر والأنظمة الشمولية العربية، تبدو في منتهى الفجاعة كما تجري في العراق مؤخراً، وهناك الشماعة وهي تنظيم القاعدة، الذي له خيوط كثيرة بأجهزة الاستخبارات وبالدول ولا أحد حتى الآن تمكن من رؤية شيء منها !
≣ دستوريون ضد الديمقراطية
تعبر البنيةُ الصياغيةُ الدستورية عن فلسفة، هي رؤية الحداثة كما شكلتها الطبقةُ الوسطى الغربية مع خصومها وحلفائها الطبقات العاملة، ولكن هذه الرؤي التحديثية التي هي نتاجُ تاريخ من غرز الثقافة والتحولات الاجتماعية السياسية.
ولا تستطيع الفئاتُ في العالم الثالث نسخ ذلك بدون تلك الظروف، وفي هذه الحالة ستتحول الدساتير إلى مجرد صيغ بيانية خاضعة لأهواء الدول والجماعات السياسية، وبدون ذلك الأساس الاقتصادي الصناعي الحر وثقافة التعدد والعلمانية تبقى الدساتير كصياغاتٍ لما قبل المرحلة الرأسمالية، مماثلة لما جرى في التاريخ القديم من قوانين جزئية.
ويُفترض في القوى السياسية التي تطرح البدائل والتغييرات السياسية والاجتماعية أن تقرأ التاريخَ العالمي بوجهيه، أن تدرك طبيعة التحولات الموضوعية والذاتية التي تؤسس للدساتير، لا أن تضعها في عالم مجرد لا تاريخي ثم تسقط أحكامها من خلال أفكارها.
ولهذا فإن لغة التطرف اليسارية تقول بهذا الصدد: لا يمكن أن أشارك في أعمال سياسية من دستور ناقص لا يلبي لي كل طموحاتي ويأتي على مقاس قامتي الشامخة غير المتنازلة عن حرف من الدستور الكامل الذي أرتأيه! وفي هذه الحالة سوف أستنكفُ وأعتزلُ العملَ البرلمان والنقابي والسياسي المقام على هذا الأساس!
إن هذا الحكم الذي يحيل بُنى دول العالم الثالث كبُنى الدول الغربية هو مثل تقاليع الرسامين الشباب وهم يقلدون بيكاسو وينتظرون الشهرة العالمية بعد أشهر غير مدركين طبيعة البُنى الثقافية التي عمل في ظلها ذلك الفنان.
إن الظروف الموضوعية والذاتية من وعدم جود طبقة وسطى عريضة ذات جذور حضارية قوية وطبقات عاملة متطورة، لم تسمح بمنجزات دستورية بتلك المساحة التي يطلبها اليساري المتطرف، ولكن هذه لا يمنع من إستثمار التحولات السياسية لتصعيد هذه التحولات وخلق تراكمات ديمقراطية مختلفة في الحياة السياسية والاجتماعية بإتجاه دساتير أكثر إستجابة لمتطلبات الشعوب.
ولكن ما تفعله مثل تلك الدعوة السياسية الرافضة هو إحداث تشوش سياسي حيث ترفض البرلمان وتشارك في النقابات، ويقود هذا لتفجر فوضوي خارج العملية السياسية المركزية للشعب. فالنضالاتُ خارج البرلمان لا تصبُّ فيه، ولا تصعد قيادات من بين الجمهور ذات دراية ومعاناة وتنقلها لمعترك البرلمان ليقوم بتغيير أحوالها وليس بالضرورة أن يجري ذلك في دورة أو دورتين بل خلال العديد من الدورات التي تراكم التحولات وتصعدها.
وتقوم الرؤيةُ اليساريةُ المتطرفة هنا على أساس ذات متضخمة تتحكم هي وحدها في عجلة التاريخ وتسيرها حسب عواطفها العجولة الملتهبة، وهي تفصل التيارات الوطنية عن بعضها وتضارب بينها فتساهم في تخلف صيغ الدستور ومساعدة القوى المجمِّدة لتطوره المستقبلي.
وتتقارب هذه الرؤية مع الرؤية الدينية المتطرفة من حيث نشوئها عن ذاتٍ متضخمة أخرى، تراها نفسها فوق الآخرين وترفضُ الانصهارَ في العملية السياسية العامة، وهي العملية التي تتيحُ تاريخياً تطور الدستور.
فتقول بأنه العملية البرلمانية يجب أن تكون على مقاسي وغير ذلك فإنا أرفضها.
وجهان سياسيان يلتقيان في تجميد تطور العملية السياسية وفي تقارب وإنصهار فئات الشعب المختلفة، وقيام ممثلوها بتطور أحواله المادية وبالتالي مقاربة أفكاره وتياراته المختلفة، وتوجه فوائضه المالية الاقتصادية لتطور وسائل إنتاجه وفئاته الوسطى والعمالية، وتشكل الأساس الحديث للدستور، وهو التاريخ الذي يتيح نمو صيغ الدستور مستقبلاً وتعبيره عن مراحل جديدة.
ولا يعني ذلك التغافل عن نواقص أي دورة برلمانية بل كشفها وتحليلها والمساهمة في تغييرها عبر الحوار والدرس وتصعيد مرشحين أكثر تطوراً من الناحيتين السياسية والدستورية الفقهية، وبهذا فإن مختلف أشكال الوعي السياسيي الوطني تلتقي وتغتني بالاختلاف والتماثل.
≣نقابيةُ رأسماليةِ الدولةِ الوطنية الديمقراطية
ليست فقط الطبقة العاملة تعاني من الانقسام السياسي النقابي، بل الشعب كله.
إن طبيعة التطور السياسي الاجتماعي في المنطقة أنعكس على مكونات الشعوب العربية الإسلامية المختلفة بأشكال متعددة حسب بناها الوطنية المستقلة المتداخلة.
إن تشكل رأسمالية دولة إيرانية عسكرية مغامرة، ورأسماليات دول حكومية عربية فيها بعض الليبرالية لكنها لا تمثل أنظمة رأسمالية حرة، إن هذا الانقسام العميق كانت له آثار خطيرة على الشعوب.
إن الانقسام الاجتماعي السياسي هو المفصل في هذه العملية المعقدة، وما الصراعات الطائفية سوى أشكال فوقية ولكن عبر هذه الأشكال من الوعي الديني المحافظ العائد للعصور الوسطى وثقافاتها وحروبها، يتم تفكيك الطبقات العاملة والرأسمالية والدول والجماهير عامة ودفعها للصراعات الجانبية.
إن المستقبل ينذر بالمخاطر أكثر، فالذي الذي يلوحُ في الأفق ما هو سوى رأسماليات حرة ولكن فوضوية، نتيجة للتكاليف الباهظة التي تدفعها المجتمعات للإبقاء على سباق التسلح والصراعات السياسية المكلفة.
من هنا تنبع مهمات النقابات والقوى السياسية المنحازة فعلاً للدولة المدنية غير الدينية ورأسمالية الدولة الوطنية الديمقراطية، عبر المعالجات الاقتصادية والاجتماعية لأنماط الرأسمالية المتضادة في كل دولة وعموم المنطقة.
فتبعية نقابات للرأسمالية الحكومية الإيرانية العسكرية بكل ظلالها الخطيرة وإدخالنا في كابوس سياسي لم نخرج منه بعد، وسوف تظل نتائجها يعاني منها شعبنا لسنوات، لا يعالج بالانضمام للرأسمالية الحكومية، والتماهي مع الشركات العامة والوزارات.
بل يعالج بالإصلاح الاستراتيجي للبنية الاقتصادية الاجتماعية عامة، عبر وقوف النقابات موقفاً من مستقلاً من كافة التكوينات السياسية الاقتصادية؛ مؤسسات حكومية وخاصة، ورؤية الخيوط الجوانب الايجابية ودفعها للإمام ونقد الجوانب السلبية. إن مركزية القطاع العام ودوره المحوري في الاقتصاد والمحافظة عليها في التحولات العاصفة القادمة، عبر أن يكون لها مردودٌ مادي في معيشة الناس وتطوراً ثقافياً وسياسياً حقوقياً، هي قضية أساسية للحفاظ على حياة العالمين المعيشية المعرضة أكثير للتدهور.
إن العواصف تؤدي إلى مخاطر على هذه المركزية والتي تتطلب نقابياً وسياسياً درسها من خلال علماء إجتماع وإقتصاد وسياسة يستعينُّ بهم العمالُ النقابيون القياديون، عبر متابعةِ فائض القيمة ودوره البناء أو السلبي، ومدى عودته للرساميل التحتية وتوسيعها وتطويرها تقنياً وعلمياً خاصة على ضوء توسيع دور العمال الوطنيين.
إن تحليل أوضاع العمال والدفاع عن مصالحهم جميعاً بدون تفرقة، هو الواجب الأول للنقابية الوطنية وهي تلقي أرديتها الدينية الطائفية عائدةً لشعبها، ووطنها، وإنسانيتها، فتجنب رأسمالية دولة لا يعني التوجه لرأسمالية من نمط آخر، والتماهي السلبي الشمولي المتخلف مع طائفية لا ينبغي الوقوع في طائفيةٍ من جهةٍ أخرى.
إن دور النقابية الوطنية الديمقراطية هو تطوير نمط رأسمالية الدولة من أنماط حكومية مأزومة إلى أنماط رأسمالية حرة ديمقراطية ووطنية، تتمظهرُ في شعار رأسمالية الدولة الوطنية الديمقراطية، حيث يلعب القطاع العام دوره المحوري مطوراً القطاع الخاص الانتاجي، وهو التطور الذي يأتي في بنية وطنية ديمقراطية. أي أن الأشكال الاقتصادية للقطاعات الانتاجية المختلفة الوطنية تتقدم كلما تقدمت الأشكال السياسية والفكرية، أي كلما أدرك السياسيون في مختلف مواقعهم الضرورات في الحياة الاقتصادية، ونقلوا الفائض الاقتصادي بشكل أكبر للبناء الانتاجي الوطني، أي كلما شغّلوا عمالة وطنية تزداد تطوراً كماً ونوعاً مع تطور وسائل الانتاج المختلفة.
إن هذا ينطبق بصفة أكبر على القطاع العام من الناحية السياسية، فيما ينطبق أكثر على القطاع الخاص من الناحية الاقتصادية.
إن مهمات الرقابة والمشاركة العمالية العملية والسياسية تزداد في توجيه القطاع العام وفي العملية السياسية الانتخابية.
فبنيةُ القطاعِ الخاص الاقتصادية البذخية والاستهلاكية وضخامة القطاعات غير الصناعية والانتاجية وغير البحرينية وغير الخليجية العربية، تمثل هدراً على مستويي حضور العمال، وعدم دعم البناء التحتي الاقتصادي الوطني المنتج.
لهذا فإن وحدة الطبقة العاملة هي نتاجُ تنفيذِ مثل هذه المهمات وغيرها من التي تؤرق العمال والناس، فكلما تعززت النضالية النقابية الدارسة للمشكلات وحلولها، كلما أعطى هذا نتائج أفضل على وحدة العمال والشعب.
ولا شك فإن قياديي القطاعين العام والخاص سوف يلتقون، عبر المهمات السياسية والاقتصادية المشتركة لتطوير النظام الاقتصادي السياسي البحريني عامة عبر الزمن، وسيكون كذلك بمشاركة العمال وممثليهم، سواء عبر العملية الاقتصادية أم عبر العملية السياسية، لأن مصالح المنتجين ومصالح الإدارات تتكامل ولا بد أن تتوجه لفهم قوانين التطور الاقتصادي، وكيفية ترشيدها عبر الوعي السياسي النقابي، وهي العملية التي سوف تدخلنا في مرحلة جديدة متجاوزة للتفكك الطائفي ونتائجه السياسية المختلفة.
إن النقابية النضالية تتكون من كافة المخلصين المطورين لدور العمال السياسي التوحيدي والمتوجهين لحل مشكلات العمال في كل موقع، ومن هنا أهمية نشرة التوحيد التي تعنى بقضايا العمال الاقتصادية المحضة والتي تطرح الحلول لها فتساهم بالتقاء العمال من كل الأقسام الاجتماعية في منبر عمالي خالص لا يفكك وحدة العمال ونضالهم المشترك.
≣ الديمقراطية والناس
تشكلت الديمقراطية الغربية عبر الشوارع، لكن كانت الهبات الشعبية ذات جذور حداثية طويلة، وبحثت عن مؤسسات إنتخابية وهياكل سياسية عبر مخاض طويل.
غالباً ما تأتي التحركات الشعبية عفوية ولكن التحركات التاريخية تستند على تحالفات إجتماعية وسياسية وثقافة فكرية عميقة.
ومع بروز الطبقتين المنتجتين البرجوازية والعمالية إلا أن المجتمع الرأسمالي لم يتبلور. وكان حزب اليعاقبة الثوري الجامح تعبير عن نفوذ البرجوازية الصغيرة الكبير في البنية الاجتماعية المتخلفة حتى ذلك الحين، والتي أتجهت للمغامرات السياسية، ولكن كان من نتائجها حدوث الاصلاح الزراعي وتوزيع الأرض وزوال مَلكية رجال الدين في الريف، وبالتالي نمو العلاقات الرأسمالية فيه وحدوث فوائض نقدية إنهمرت على المدن وتوسعت الصناعة وتبدلت المستويات الزراعية المحدودة المسيطرة على المجتمع وبدأت البرجوازية في الهيمنة على السلطة مع إبعاد العمال، وهو أمر تغير بعد قرن من الصراع بينهما ليظهر مجتمع تداول السلطة.
كرر البلاشفة عمل اليعاقبة بشكل أوسع وأخطر ولهذا ظلت العديد من المجتمعات الشرقية بين الحياة التقليدية والحديثة، ومن البرجوازية الصغيرة الحاكمة ظهر التطور والتفسخ والشمولية والوقوف في مفترق الطرق التاريخية ونمو الدول القومية الشمولية العسكرية الخطيرة.
وقد مشت المجتمعات العربية ذات التجارب القومية في نفس المسار الروسي بشكل أكثر تخلفاً، ولهذا جاءت تجارب الأحزاب المعبرة عن البرجوازية الصغيرة في بُنى متأزمة متخلفة لم تحسم أمرها في تسريع العلاقات الرأسمالية الصناعية والتقنية الواسعة خاصة في الأرياف والحريات في حياة العائلة والوعي والفكر، بل ووسعت الهياكل البيروقراطية النازفة للفوائض الاققتصادية.
اليعاقبة العرب والمسلمين لم يقوموا بتغييرات جذرية في الأرياف ولم يجلبوا الفوائض الاقتصادية للهياكل الحِرفية وللصناعات البدائية وكرسوا نسخة من شمولية متشابهة غير قادرة على تحرير الطبقتين المنتجتين للتوسع الصناعي، ولهذا فإن القوميين والبعثيين والشيوعيين والإخوان هم فرق تكرر نفس الموديل، حيث يجري تصور القفزات التاريخية الموهومة وتعجيل الانتاج بدون ديمقراطية، ولكن يستمر البقاء في منظومة العصور الوسطى وفقر الأرياف وعبودية النساء والظلامية المهيمنة على تعليم الأطفال وتحجر الهياكل الثقافية السياسية في الأحزاب والدوائر الحكومية وتخلف الأدب والفن.
لهذا فإن حراك الشوارع يغدو فوضوياً بلا أفق تاريخي، وبلا تعاون الطبقات المنتجة: الرأسمالية والعمالية والمثقفين، وبين موديل إخواني يريد العودة للوراء وتكرار نموذج الدولة الشمولية بشكل ديني ورافض كذلك لتحرير الأرض الزراعية من الإقطاع، والنساء من الأسر المنزلي، وتشكيل رأسماليات طفيلية تضخ الفوائض النقدية للمؤسسات المالية والاقتصادية الغربية، وتحجر على العقول من التنوع والفكر الحر، هو قالب أسوأ بكثير من الدول الشمولية السابقة المتجهة بعض التوجه الوطني للانتاج.
وقد غدت البرجوازية الصغيرة الإخوانية هنا أكثر تخلفاً بسبب حياة التسلق الطويلة بين الدوائر الحكومية وعلى موائد الأنظمة الغربية والشرقية الاستغلالية، ورفضها المستمر للتحديث ونقد الماضي الشمولي للعرب وتجميد حياة العمال والمنتجن العرب.
هنا نرى برجوازية تريد القفز والتسلق وعدم التعب عبر التصنيع والبناء الاقتصادي الشاق وتريد عمالة طائعة متخلفة مكتفية بقشور الدين تنساق بسهولة للعنف المطروح عليها.
إن عدم القراءة العميقة الدوؤبة للتراث وفهم سببيات التطور والنهضة يتداخل وعدم البناء الجدي في الحياة الاقتصادية وتكوين الرساميل القوية الضاربة في الأسس الوطنية، وفي تحويل العلاقات الاجتماعية المتخلفة، والاكتفاء برساميل السرعة وخطف الأرباح والهروب بها للمحافظ النقدية الأجنبية وإستغلال دخول النفط السهلة وتحويلها لفنادق ومجمعات غربية، وخلق الثورات الفقاعية التي لا تنبت في الأرض نبتاً وطنياً تعاونياً، وتخلق القلاقل والأزمات بدلاً من حلها وتأزم العلاقات بين الدول الشقيقة وتجر المنطقة للحروب.
≣ الديمقراطيةُ البرجوازيةُ العماليةُ
إذا كان المصنعُ هو أساس الحياة الاقتصادية للمجتمع، فإن المستثمرين والعمال هم أساس تطوره الاجتماعي السياسي على مدى العصر الحديث حتى ينطفئ هذا الأسلوب تدريجياً.
هذه الضرورة لا تتكشف من أول وهلة بل عبر مجرى الزمن الاجتماعي الصراعي الطويل.
في البدايات لا يكون للعمال وجود إجتماعي سياسي، فهم كم مهمل، لكن الضرورات الاقتصادية وتطور الصناعة وإنتشار التعليم والوعي النقابي والسياسي، يجعل لهذه المجموعات المفتتة كيان طبقة بعد عقود طويلة.
أما الوجود السياسي وكونها طبقة مؤثرة ليس في المصانع فحسب بل في البرلمان والمؤسسات السياسية فهي مسائل تتعلق بمدى تطور الديمقراطية الاجتماعية السياسية في المجتمع: تغير طبيعة العائلة الكبيرة، وإنتشار الثقافة الموسوعية وسط العمال، وظهور العائلة العمالية المكثفة المتطورة، وتحول العمال اليدويين المستمر لعمال تقنيين وخبراء وعلماء، وهذا يتعلق بمجرى تطور الثورة العلمية التقنية.
زمنيةُ العمالِ اليدويين الأكثر تخلفاً تحددُ زمنيةَ البرلمانات التي تملأها البرجوازية وفئاتها المتعددة، في هذا الزمن لا يستطيع العمالُ فهمَ السياسة وتنتشر الأمية بينهم، هذه الزمنية تؤجج الأحقاد وإستعمال العنف من قبل فئات من العمال، وفي هذا الزمن النقابات ضعيفة والأحزاب الاشتراكية ذات نهج شمولي.
تتطور البرجوازية والعمال في مجرى الصراع التعاوني، فالأولى تقودُ تطور وسائل الانتاج، وتربط المصانع بمعاهد البحوث، وتطور العلوم المرتبطة بالانتاج، وهو أمر يقود لتوسع فهم العالم، وتنشأ فئاتُ العلماء المنفصلة عن الانتاج في بادئ الأمر، ثم تتغلغل العلومُ في المصانع وفي فئات العمال، فتتضاءل الشمولية وسط الطبقات العمالية وتغدو منتجة في الوعي السياسي الديمقراطي.
تعتمد تطورية البلدان على تطور المصانع وعلاقاتها بالعلوم والتقنية، ووجود الأسواق والمواد الخام، وتضيق الأسواق بشكل دائم فتتوسع البلدانُ الرأسمالية المندمجة مع بعضها البعض، مثلما يصبح العمال قوة إجتماعية قارية. ولهذا فإن أوربا الغربية تغدو أكثر ديمقراطية فيما يلعب الحجم الاقتصادي الضخم في الولايات المتحدة دوره في التوسع والاستعمار وخسارة الفوائض الاقتصادية على التسلح والحروب، ويبقى العمال فيها قوة غير مؤثرة على التطور الاقتصادي السياسي. ولهذا فإن أزماتها الأكبر في الطريق. الاعترافُ المتأخرُ بالعمال كقوة سياسية يخلف قوى الانتاج ويؤزم التطور سواءً في الغرب أو الشرق.
في بعض البلدان النامية ترتفعُ راياتُ العمال الحمراء والمتعددة الألوان كقوةٍ سياسية مجردة فالمستوى الاجتماعي المتخلف لهم والهيمنة السياسية الإيديولوجية الزائفة عليهم يجعلان الفئات الوسطى الصغيرة أو الارستقراطية أو الإقطاع تزيح الطبقتين المنتجتين وتتحكم في الفوائض، ويختنق التطور الاجتماعي السياسي الديمقراطي لعقود حتى يظهر مجدداً ويغدو العمالُ أكثر الخاسرين وتتشوه البناءات الاقتصادية: ضخامةٌ في الرساميل غيرِ المنتجة وتقزمٌ في المنتجة منها؛ سواءً كان ذلك بسبب البذخ أو التسلح أو التوجهات للأرباح السريعة، لكن السبب الأهم هو غياب الجدلية الصراعية التعاونية بين المستثمرين والعمال، وعدم تحول الديمقراطية لترشيد إقتصاد السوق نحو تطوير قوى الانتاج البشرية والمادية.
في البلدان النامية ضخامة أعداد العمال الهامشيين والعاطلين وغير المؤثرين في الحياة الاجتماعية، تعبيرٌ عن ضعف الانتاج، وإنهيار الانتاج القديم وعدم التمركز في المصانع وضعف صلاتها بالعلوم والتقنية، ولا توجد برجوازية صناعية هنا، بل فئات وسطى صغيرة تفتقدُ القدرة على تكوين الرساميل الصناعية ولهذا تكون ذات وعي ديني، حيث لم يندغم الوعي هنا بالعلوم وقراءة الطبيعة وتطوير العمال والمصانع.
الضرورات تكسرُ الأشكالَ الحِرفية الصغيرة، مثلما تتضخم رؤوس الأموال، ويتمركز العمال، وتتصل المصانع بالتقنيات والمعارف الحديثة، فيكرر الشرقُ مسارَ الغرب بصور أسرع، وتصبح القاراتُ السكانيةُ قادرةً على تجاوزه حين تطور صراع المستثمرين والعمال التعاوني الديمقراطي، فيصبح القرن الواحد والعشرين بدايات العصر البرجوازي العمالي العالمي المشترك المديد في القرون القادمة.
≣ الديمقراطيةُ أو الفاشيةُ
تحول الفاشية الإيرانية إلى الخطر الرئيسي للشعوب الإيرانية والعربية يفترضُ إتخاذ موقف مسئول وعميق وشامل ومتضامن في هذه الشعوب.
إن المواقف السطحية والساذجة والانتهازية لم تعد مقبولة مع تفاقم هذا الخطر، وحين نرى ذبحَ الشعب السوري بهذه الآلةِ الجهنمية ندركُ إدراكاً عميقاً إننا أمام وحوش سياسية وليس بشراً.
إنها مسألةٌ مصيرية كبرى، وكل المواقف السياسية في كل هذه البلدان تغدو مترابطةً يحسمها قرارُ إتخاذ الموقف أما مع جهة القتل السياسي الدموي وأما مع الديمقراطية والقوى الإنسانية والتعايش السلمي الخلاق بين الشعوب.
من يعادي الفاشيةَ قولاً وعملاً هو غير من يسندها عنفاً وقوة أو صمتاً.
الفاشية الإيرانية هي العقبةُ الرئيسيةُ في منطقتِنا ضد التطور الديمقراطي والسلام والحياة. وهي تتغلغلُ في هذه البلدان والشعوبُ العربية فيها تواجه مساندين غير مُدركين للخطر أوعملاء مدربين وقوى سياسية ربطت مصيرها بشكل آلي بالمركز الإيراني.
إن الوحشيةَ التي يُقابل بها الشعب السوري ترينا مدى طبيعة القوة التي نواجهها جميعاً متخفيةً وراء الدين والطائفية لكنها عسكرٌ دموي لا بد من هزيمته.
من يقف ضد هذا المركز قولاً وفعلاً هو مع الديمقراطية، والصفوف الوطنية تتسع له.
خلال ربع قرن من الدعوة لدخول القوى المؤيدة للفاشية الإيرانية في الحراك العربي الديمقراطي لكنها لم تستطع أن تتقدم بشكل جدي، فأقدامُها مسلسلةٌ إلى قعر المحيط المظلم.
أناس عاديون لهم مشكلات كبيرة مع الفقر والاستغلال في التاريخ والواقع الراهن، وهي بحرُ الآلام والمشكلات الذي تسبحُ فيه الفاشيةُ لحراكها وإصطياد الضحايا، وتصعيد وجودها، سائرةً تحت نفس العباءة التراثية(قضيةُ حقٍّ أُريدَّ بها باطلٌ).
تكوين قوى واسعة معادية للفاشية عابرة للحدود والطوائف والشعوب، مرتكزة على الإسلام التوحيدي الإنساني والأممية الديمقراطية، مؤيدة حقوق الشعوب والطبقات العاملة، جاعلةً التبعية للفاشية فيصلاً بين الحق والباطل، بين الديمقراطية وتلك الدكتاتورية الدموية.
في لبنان إذا لم تكن جبهة ديمقراطية واسعة تعزل الهيمنة الفئوية المغامرة وتوحد الشعب كيف يمكن أن لا تجيئه حربٌ أهلية ثانية؟
في العراق تتقدم قضية الديمقراطية لكن الفاشية إرتدتْ قناعَ الطائفية السياسية والقومية الشمولية وتحجزُ المد في البراري والديمقراطية عاجزة لأنها إلتبست بالطائفية الشمولية ومحافظة شيوخ العشائر وإنعزالية قادة القوميات.
لحصار الفاشية الإيرانية تلزم تطورات كبيرة في صفوف الشعوب الإيرانية والعربية.
أهمها أن يغتسل الديمقراطيون من رجس الطائفية والقومية المتعصبة ومن كره الفقراء وعدم حل مشاكلهم ويرون في إنسانيتهم وحدةً رغم كل الألوان.
يرون الخطرَ الأكبر فيتوحدون من أجل أطفالهم وبقاء شعوبهم.
حين تنضم القوى المختلفة المعارضة في الجسم العربي للوقوف ضد الفاشية الإيرانية لماذا لا تتبوأُ مختلفَ المناصب في الإدارات والبرلمانات ولكن إذا تحولت لسيوفٍ في ظهور المجتمعات العربية كيف يمكن أن تُعطى الفرص وتُترك لنشر العنف وتمزيق الصفوف لتغدو حصان طروادة؟!
دون المواقف الحاسمة قولاً وعملاً ضد مخاطر الفاشية الإيرانية لا يمكن أن تتطور الديمقراطية في الجانب العربي والجانب الإيراني كذلك!
هي عملياتٌ ديمقراطية متنامية في الأمم الإسلامية لنزع أشواك العصور القديمة وتوحيد شعوبها وغضاءة أديانها ومذاهبها ومبادئها ومقاربةمصالحة، بدلاً من تاريخ العداء والغزو والتدخل.
≣ مرحلةُ دخولِ الأريافِ في الديمقراطية
كان دخولُ العالم العربي في التشكيلة الرأسمالية الغربية بطيئاً ومعقداً، وإذ بدأ هذا الدخول منذ رحلة فاسكو دي جاما إلى الهند فقد إنتهى بإقتحام الشركات المتعددة الجنسية لهذا العالم العربي المفكك وذي القواعد الاقتصادية الزراعية والحِرفية وصناعات المواد الخام.
ولهذا فإن تأثيرات رأس المال العالمي والاستجابات الداخلية التحولية جرتْ أساساً في المدن العربية، التي لم تكن مدناً رأسماليةً بخلاف مدن التحول الغربية ذات الأسوار والأبراج التي حمتْ الرساميلَ والصناعات الأولية في مرحلتي الحرف والمانيفكاتورة.
وعبّرَ هذا عن عدمِ قدرة الفئاتِ الوسطى على حماية نفسها، وسط التيارات المختلفة للإقطاع. مثلما حدثَ في التاريخ العربي السابق حيث لم تستطع مدنُ الحجاز التجارية القائدة للتحول أن تغدو مدنَ النهضةِ التجارية الرأسمالية المتصاعدة. ولهذا فإن موادَ التاريخ الدينية والتراثية يتم تبادلها عبر العصور لمنعِ التطوراتِ الرأسمالية الحرة.
إن حصارَ البوادي والأرياف للمدنِ العربية يتمُّ من داخل هذه المدن نفسها، حيث تغدو السلطاتُ معبرةً عن أشكالٍ متعددةٍ من سياساتِ ما قبل الرأسمالية وسيادة الإقطاع.
فمهما كانت بغداد العباسيةُ أكبر مدينة عالمية في وقتها لكنها لم تستطع أن تحمي العلاقات التجاريةَ الحرةَ ونتائجَها في الحياة الاقتصادية والسياسية والفكرية.
ولهذا فإننا نشهدُ مرحلةً جديدة من صراع البوادي والقرى مع المدن الضعيفة التطور.
لقد عبرت المدنُ العربية خلال القرن العشرين عن تذبذبِها بين شكلين من الرأسمالية؛ الشكلُ الأولُ هو الشكلُ الليبرالي الذي نتجَ من وجودِ فئاتٍ تجارية حرة وهو الشكل الذي أسسَّ الثورات والبرلمانات والجرائد الحرة والتنظيمات الوطنية في النصف الأول من القرن العشرين، بأشكال متفاوتة التطور في البلدان العربية.
والشكلُ الثاني هو شكلُ رأسمالياتِ الدول، وهو شكلٌ مثلَّ النقيض للتطور السابق، وهو لم يكن تطوراً تراكمياً للشكل الليبرالي، وعبّر عن هجومِ الأرياف والقبائل الصحراوية والفئات البرجوازية الصغيرة الموجودة خارج الانتاح ورفضها للتطورِ الرأسمالي الحر، ولهذا أتخذَ ذلك الشكلَ العسكري ومحدودية الفكر ورفض التقارب العميق مع الغرب الديمقراطي.
ولكن رأسماليات الدول العسكرية أو البيروقراطية الشمولية عامةً تحللتْ، وتوجهتْ للغرب بأشكالٍ شمولية، حيث أن الدولَ القائدةَ لم تقمْ بسياساتِ تحولٍ عميقة تقودُ لتغييرِ طابع الأرياف والبوادي وتحيلُ حياةَ المنتجين الصغار والعاملين والنساء عامةً للإنتاج الكبير الحديث. فالفوائضُ الضخمةُ التي تراكمتْ تسربت لنواحٍ أخرى ذاتية وإستهلاكية وبذخية وتراكمية خاصة.
الموجةُ الجديدةُ من هجوم الأرياف والبوادي على المدن المراكز فيما سُمي بالربيع العربي أخذتْ معها الأزواجيةَ الريفيةَ المدنية، والتناقضَ الكبيرَ بين القرية والمدنية، لمرحلةٍ أكبر من السابق، وحتى قاربتْ على التوازي الخطير إلى درجةِ الحرب الأهلية غير المحسومة بين الأطراف والمركز.
إن التعبيرَ الديني السائدَ في هذه الموجة التي أخذتْ عقوداً لكنها قفزتْ للسيادة على المسرح الآن، يعبرُ عن هجمةِ القرية غيرِ المتطورةِ رأسمالياً وديمقراطياً في مواجهةِ مدنٍ مركزية خلقتْ فوضى إقتصادية سياسية إجتماعية بدلاً من خطط إستراتيجية تحويلية ديمقراطية للأرياف وتعاضد وطني عميق.
الخطاباتُ الدينيةُ تراوحتْ بين أقصى التشدد العسكري الشمولي وفرض قوالب من خارج التاريخ الحديث، إلى قوالب شموليةٍ ليبراليةٍ متناقضة متذبذبة.
وما يعبرُ عند إحدِاها عن قوميةٍ مأزومة، يعبرُ عند غيرِها عن مشكلةِ تحررِ النساء والعقول وهما القضيتان المركزيتان في التاريخ الإسلامي القديم والحديث لكن الطرفين يتفقان على المحافظة الاجتماعية السياسية، فليست أدلجةُ مسألةِ الشرعِ دستورياً سوى الوقوف عند هذه العقدة وعدم القدرة على فكِها من قبل التنظيمات الذكورية المحافظة وتعبيراً عن هيمنة الجهات الريفية والصحراوية والقومية والوطنية المتشددة على ليبراليةِ المدن المحدودة التطور رأسمالياً وديمقراطياً.
إستمرار هذه المشكلات لعقودٍ وظهورُ التناقضِ الثانوي كتناقضٍ رئيسي، وتحولُ الإيديولوجيات لعقباتٍ تجاه التطور الاقتصادي الضعيف المنهك، يهدد القوى الاجتماعية كلها ويدخلُها في مرحلةِ الحروب الدينية التي تلوحُ في الأفق مهددةً الحياة كلها وليس فقط التطور الاقتصادي.
≣ الديمقراطيةُ الشموليةُ
كلُ القوى السياسية العربية قوى شمولية لكنها تقول أنها تريد الديمقراطية. وهي كلها تريدُ الصعودَ للرأسمالية والغنى حسب مصالحها وظروفها.
الإقطاع السياسي الذي هيمنَّ على مدى عقود على الأملاك العامة والدوائر السياسية يريدُ رأسماليةً مفصلةً على هيمنته ومحافظته الاجتماعية ومحدودية ليبراليته.
حتى في صعوده عبر صناديق الاقتراع فهو يشكلُ نمواً لجماعته وسيطرتها على السلطة والنفوذ الاقتصادي، ولهذا أزياءٌ إيديولوجية هي التي كونها التنظيمُ المعني والجماعة المخصوصة خلال عقود وجعلها شكلاً هرمياً من البشر المنقسمين بين القمة الصغيرة والقاعدة الواسعة.
الإقطاعان السياسي والديني خلافاتهما خلافاتٌ محدودة، وهي جزءٌ من الأزياءِ الإيديولوجية التي تكونتْ عبر التاريخ للقوى التقليدية، والتي لم تستطع أن تحول حياة المسلمين تحويلاً ديمقراطياً.
التكونُ الشمولي نحو الرأسمالية يصطدمُ بسيطرةِ الغرب على الأسواق الكونية، فالديمقراطية الغربية الرأسمالية هي الخيارُ الأفضلُ لنشؤ الرساميل والتطور الاجتماعي السياسي، لكنها خيار رأسمالي داخلي وفي دولها وليس في الدول الأخرى، حيث تتجه لالتهام موارد الدول الأخرى والتغلغل في أسواقها وخلق حياة إجتماعية ليبرالية ديمقراطية محدودة، تسمح بهذا الغزو وبقاء التفوق وتصدير السلع الثمينة.
ولهذا فإن مواقف الإقطاعين السياسي والديني الإسلاميين تتحددُ بطبيعةِ الدول وكيفية نشؤ سلطاتها ومن هي القومية المذهبية التي تسودُ فيها، ومدى تعبيرها عن مصالح الأوساط المختلفة فيها، وكيفية هذا التعبير، أهو تعبيرٌ سلمي أم عنفي، وهل هو فيه بعض العقلانية أم لا عقلاني؟ أهو شمولي خطير أم فيه حريات وإمكانيات للنمو الديمقراطي؟
البرجوازيات الألمانية والإيطالية والإسبانية في القرن التاسع عشر في أوربا تعطينا نماذجَ على التطور، وكيف أعتمدت على العنف في الانتقال للرأسمالية، وتقاربتْ مع أشكال من الفاشية بدءً من بسمارك ومروراً بهتلر وموسوليني ونهاية بفرانكو.
والدول الشرقية والدول الإسلامية منها لا تفلتُ من قوانين التطور، ولهذا فإن القوميةَ المذهبية المتعصبة التي تنمو بأشكالٍ عسكرية عنيفة تغدو خطراً، على شعبها والشعوب المجاورة، وليس ثمة هنا حلول للتداخلات بين القوميات والمذاهب والسيطرات التي تشكلت من قبل البعض للآخريات. لأن هذا النمو والسيطرات نشأتْ خلال قرون وأجيال والتحول الحديث جرى من داخل الكهوف القديمة وأشكال التعصب المذهبية والقومية.
في هذا النمو هناك جنون العظمة القومية المذهبية، وجنون الأعراق المميزة، وهي الجوانب الخطيرة التي تفجرُ الحروبَ كما فعل الأقطاب العسكريون السابقو الذكر.
الجنون السياسي الفكري يتكون من خلال وهمِ قيادةٍ تتصور بأنها قادرة على مماثلة الغرب والتفوق عليه إقتصادياً وسياسياً، سواءً عبر وهم دكتاتورية البروليتاريا أو وهم ولاية الفقيه أو وهم دولة الخلافة والفرقة الناجية الوحيدة.
وربما تتصارعُ هذه الأوهامُ وربما تتداخل كذلك، في ثقافة الضحالة السياسية والتعصب الطائفي. ودور القوى الديمقراطية والتقدمية ليس رصد الماضي المجنون فقط بل منع الحاضر من التدحرج نحو الجنون.
جنونُ الأحساس بالتفوق والعظمة القومية الطائفية يتصور إنه قادر على إختراق القوانين الموضوعية للاقتصاد، ويتصاعد التحدي وتتشكل مجموعةٌ من الأساطير وخداع العامة، ودعاوى النضال والمصالح المشتركة بين الغلاة والبسطاء، وفي النهاية تكون المذابح وإنهيار الأسواق وتردي عيش العمال والمزارعين.
النمو الليبرالي الديمقراطي لا بد له من إعتماد نفس القوانين الموضوعية لتطور الاقتصاد وإلا صار نسخة مشوهة من الشموليات الشرقية، لأنه لا بد من تغيير وضع الدول عن أن تكون مالكة مطلقة للرأسمال الوطني، وأن تتغير أوضاع العامة عبر الديمقراطية، ويتم نقد المطلقات والآراء الكلية عبر نتاجات فكرية وثقافية واسعة الانتشار.
لكن لا يوجد أفق سوى أفق الرأسمالية الغربية، والوصول له صعب وطويل رغم إنه مليء بالصراعات الاجتماعية وتباين مستويات المعيشة، لكنه سيرورة البشرية المشتركة في حالة السلام وعدم تفجر الصراعات القومية والدينية. أي هي التجربة المقاربة للعقلانية النسبية والتي بحاجة لمراقبة البشر المستمرة.
ومن الإشكاليات الكبرى أن المنطقة العربية واقعة بين الاستقطابات العالمية وصراعاتها، وتظهر في بلدانها دعوات الجنون القومية الطائفية بأشكال ضارية حادة.
ونجد وضع سوريا كمثالٍ حارق في الصراع بين القومية الفاشية والقومية المسالمة، والخوف أن القومية المسالمة تنتقل بعد ذلك لحالات سابقيها إذا لم تتطور بشكل حديث ديمقراطي.
≣ صراعُ المحورين والثقافة الديمقراطية
صراع محور الدول العربية ومحور إيران سوريا دخل لحظات حاسمة في بؤرة مركزية له، وغدت المذبحة في سوريا تعرية رهيبة لثقافة فاشية ليست لديها أية رحمة بالإنسانية.
الدول الشمولية الكبيرة والحركات السيايسية التابعة لها في قارة آسيا حيث الدولة والجيش والمخابرات في نسيجٍ واحد تباينت بين المحورين، ثم تركزَ أغلبُها في المحور الإيراني السوري مع دعم قوي من روسيا.
ميراثُ الثوراتِ الشعبية إنتكس وصعد ميراثُ الإصلاح الليبرالي الديمقراطي، وثوراتُ روسيا وإيران والصين وسوريا إرتدتْ عباءات أنظمة عسكرية ذات قوميات وطوائف مقهورة وعجزتْ هذه الأنظمة عن تفكيك هذه الكيانات السياسية الاجتماعية المعقدة.
مقاربة الليبرالية والديمقراطية والتسامح والشفافية وتعاون القوميات والطوائف وزحزحة الدولة الكلية ذات الصوت الشامل، لم تقم بها، وقامت ببعض مهماتها بعض الدول العربية، وعبرتْ الثوراتُ العربية عن تصعيد هذا الجانب.
فثمة ثوراتٌ فشلت وتحولتْ لدكتاتوريات وثمة إعتدالٌ تحول لثوراتٍ واعدة بديمقراطية وصفحة مختلفة عن شموليات آسيا الفظيعة.
حدث المفصل الناري في سوريا، وتوزعت الجهتان توزعاً حاداً يكاد يقاربُ حرباً شاملة. لكن دولاً كبرى لا تريد مثل هذه الكارثة الكونية وهي واقعية في هذا.
ويكفي تفاقم المجازر في سوريا ليوضح الطابع الفاشي الذي تغلغلَّ في بعض هذه الدول والحركات، فأصبحت إرادةُ الإنتصار لنهجٍ فاشل متدخل توسعي هي الهدف في حين لا يهمُّ سحل شعب.
نهجُ الإمبراطورية الشمولية العنيفة كما هُزم في الغرب يُهزم في الشرق، وآلةُ الدولةِ الاقتصادية الكبيرة الربحية المتداخلة مع جيش إقتصادي مخابراتي، في مجتمع القوميات والطوائف المضطَّهدة، نهجٌ لم يُحلْ عبرَ إنفراج ديمقراطي تدريجي ونشر ثقافة تنويرية عقلانية إنسانية بين شعوب هذه الدول.
ولهذا فإن محورَ إيران سوريا يتمدد والثقافة الدموية في روسيا والصين باسم الثورة تتماهى مع ثقافة السحل في إيران وتتوهجُ وتتوجُ في سوريا.
غدا المحور ليس مناطقياً بل عالمياً يعبر عن صعوبات التطور في شموليات آسيا الكبرى، وحيث الجماعات الخاصة الحكومية لا تستطيع فك الارتباط مع أجهزة الحكم.
وهذا الملمح يدخلُ حتى في تكوين بعض الدول العربية التي لا تستطيع أن تقوم بالمهمات الليبرالية والديمقراطية بعمق، مما يجعل المحور الآخر يستغلُ موادَ الهياج الشعبية ويمحي بها الحدودَ السياسية والفكرية الفارقة بين المحورين.
موادُ الكذبِ والتزييف وثقافة غوبلز وزير الدعاية النازي تُنفذُّ الآن:(أكذب وأكذب حتى يصدقك الناس). فلم تقم هذه الدول بمعالجات عميقة لتمركز سلطة المال والعسكر، وغدت مسائل الدعاية الصاخبة هي السائدة بدلاً من ثقافة النقد الذاتي والمراجعة والقبول بالآراء الأخرى، والتعصب المتشنج ويتم تغذية العامة بها ودفعها لروح حربية خطير على مستقبل الشعوب، وفيما روسيا والصين بارعتان في البحث عن مكاسب والتخلي عن الخاسر، فإن الحكومتين في إيران وسوريا وضعتا نفسيهما على حافة البركان جارتين ذيولاً حركية وسياسية ودعائية إلى حومة التشنج، مستغلتين روابطهما وتباين مواقف الدول العربية ومستويات تطورها ومشكلاتها وعدم تجذر الإصلاح فيها، وإختلاف مصالحها لمواصلة المجزرة في سوريا.
لهذا ستكون المشكلة اكبر غداً في وضع النظام الإيراني وتأزمه التاريخي، كما ستكون مشكلة روسيا الاتحادية أكبر بكثير، فغدت مسائل معالجات التاريخ الآسيوي الشمولي مطروحةً بقوة على جميع هذه البلدان مما يجعل القرن الواحد والعشرين هو قرنُ تفكك الدول الكبيرة عبر حروب وثورات داخلية رهيبة إذا لم تقم القوى السياسية الاجتماعية بمراجعة ذلك التاريخ الطويل من أسر الطبقات والقوميات والأديان والمذاهب.
ولا شك أن وقف مأساة سوريا هي البداية لمعالجة ظروفها، وإذا لم تقم بذلك وتوقعت الانتصار على الشعب السوري وساهمت في ذبحه فسوف تُوضع هي كذلك على أجندة شعوبها.
≣ المقارباتُ الديمقراطيةُ مطلوبةٌ
يعبرُ المذهبيون السياسيون المؤدلجونَ للإسلامِ عن مواقف الارتباط بالدول رغم أنهم ينتمون لفئاتٍ إجتماعية صغيرة ولطبقات عاملة شعبية.
لم يستطع هؤلاء خلال قرون من التعبير عن الجمهور العربي والمسلم، فإرتباطهم بالدول التقليدية جعلهم جزءً من نسيج الوعي التقليدي، الذي هزمَ التيارات المعارضة في العصر الوسيط والتي عجزتْ عن إنتاجِ وعي ديمقراطي داخل الإسلام.
ومع ضخامة التجارب المعاصرة في نشؤ الدول والحركات المستمدة من هذه المذهبيات السياسية إنتعشت هذه التيارات بأشكال مختلفة.
إن التيارات السنية السياسية ظلت مرتبطة بالأنظمة المتعددة في العالم العربي، وظلتْ مرواحةً بين الحالة المدنية الديمقراطية في مصر غير المنتصرة وبين محافظة الجزيرة العربية، وإذ أيدتْ الجوانبَ السياسية الشعارية في الديمقراطية لكنها عجزتْ عن تحويلها لنظرةٍ ديمقراطية عميقة، تساوي بين حقوق الرجال والنساء، بين حقوق الطوائف والأديان، ولم تعارض الأشكال الاستغلالية المتطرفة كالإقطاع الزراعي، ولم تقرأ التراث الإسلامي قراءة موضوعية تاريخية عصرية.
إرتباطها ببعض الدول السنية تاريخياً وفي الزمن المعاصر ميزها عن التيارات المذهبية السياسية الشيعية التي تمركزتْ تبعيتُها للنظام الإيراني وحده.
لكن المسائلَ الفقيهة المختلفة لا تغير من الجوهر الاجتماعي الطبقي التقليدي لهذه التيارات كذلك، فهي مجرد إختلافات صغيرة لا تبدلُ الموقفَ الاجتماعي السياسي المحافظ.
ولهذا فإن حراك فبراير البحريني لسنة 2011 كان حراكاً مذهبياً ولم يتحول لحراك وطني ديمقراطي، وكانت التيارات المُسيّسة للمذهبيةِ الشيعية قد أصرت خلال عقدين على التفردِ بالهيمنةِ على الحركة الاجتماعية السياسية، ولم تقدر على التحول لوعي ديمقراطي بحريني، بسبب الاعتماد على إستيراد المواد السياسية الإيرانية التي سادت بعد فترة من التأثر بحزب الدعوة العراقي، وهي صورتْ نفسها بخلاف ذلك للجمهور الشعبي المطالب بتطوير أوضاعه الاجتماعية والاقتصادية السيئة التي هي كلها ظروف شعب بحريني واحد وليس ظروف طائفة، وإن كانت ثمة ظروف تمييز تمت لكنها تمت بعد تحول إيران لنظام شمولي مُصّدر لأزماته.
لم تستطع القيادات السياسية هذه أن تطور نفسها وتستقل وتنتج وعياً بحرينياً وطنياً، مصرة على بقاء خيوط الحركة السياسية المعارضة كلها في يدها، وقد بيّن الشعبُ البحريني بأنه لا يقبلُ الحراكَ المذهبي السياسي أياً كان طابعه وقد فشلت كل المحاولات خلال ربع قرن من هذا التجريب.
أما الجماعات المُسيّسة للمذهب السني فإنها كانت متعاونة دائماً مع النظام ولم تنتج كذلك وعياً وطنياً ديمقراطياً، يحفر في تحليل مشكلات الناس وعلاقاتها بالدين والعصر، وما سُمي بصحوة الفاتح كانت حركة عفوية ليست ذات جذور فكرية سياسية توحيدية.
ولهذا فإن الحديث عن(إنتفاضة) التسعينيات وما بعدها من حراكٍ سياسي هو أمرٌ يظلُ دائماً مشكوكاً في مصداقيته، لأن التحركات الفئوية المسيّسة للمذاهب، واجهت دائماً الفشل وعرقلت تطورَ الشعب الديمقراطي، لكونها أعتمدت على مصادر خارجيةٍ لا تمتلكُ هي نفسها دوراً في تغييرها، فأعتمدتْ على المغامرات وغيّبتْ التراكمَ الديمقراطي داخل صفوف المواطنين وفي البرلمان والنقابات والمجالس البلدية، ولم تقاربْ بين نسيجِ الناس، بل زادتْ من تفككهِ وقربتهُ من لحظاتٍ شديدة الخطورة على سلامة الوطن والشعب.
أن أية مقاربات بين المذهبيين السياسيين لا بد لها من إرادة المراجعة الموضوعية وإرادة الاستقلال الوطني، وقراءة تاريخ الإسلام قراءة أخرى غير محافظة وغير منتمية للقوى الاستغلالية عبر التاريخ، والنأي بالذوات عن التقوقع المذهبي وإستغلال جهل البسطاء ومشكلاتهم، والنمو داخل النضال الديمقراطي الوطني بأدواته المشروعة وتطويرها بشكلٍ يعبرُ عن مصالح الناس.
إن معايير الحداثة والديمقراطية والوطنية تطرح نفسها بقوة أمام هذه القوى المتشبثة بإرثٍ تقليدي لا تستطيع أن تقرأه قراءات منفتحة رحبة منتقلة به من إسلام الطوائف إلى إسلام الحضارة والتقدم.
≣ رأسماليةُ الدولة العربية وقضايا الديمقراطية
تتبلور يوماً بعد يوم طرق التطور الديمقراطية وتشق طرقها في الكثبان المحافظة، وغدت مسألة توجيه الدخل الوطني العام نحو التحولات الديقراطية مسألةً محورية.
فأما رأسمالية دولة ذات توجه إقطاعي طائفي، وأما رأسمالية دولة ذات توجه وطني ديمقراطي تحديثي علماني عقلاني.
على بساطة هذه القضايا لكنها شديدة الالتباس خاصة لدى الأحزاب(الثورية)!
حين يقول المناضل العراقي بأنه من الضروري تشكيل تيارات وطنية عابرة للطوائف وتوحيد البلد يضعُ قدمَهُ على طريق الحل، ولكن هذا تجريد.
فرأسمالية الدولة المركزية تقبضُ عليها أحزاب طائفية دينية، تؤدي لتفتيت البلد وتصعيد صراعاته.
تمثل الجماعات السياسية الطائفية الشكل الإيديولوجي العملي للإقطاع، وحين تقبضُ على مال الشعب فإنها توجهه للوراء والتفتيت، وللحرب الأهلية في قادم الزمن.
التحالفات مع الأحزاب الطائفية هدم للوطن وتخريب للتطور، ولا بد من تصعيد التحالف بين القوى الشعبية والبرجوازية الديمقراطية العلمانية أي التي تطرح دولة مدنية علمانية.
الأحزاب الطائفية في تعمية عيون العاملين وأسر النساء وبث الخرافات لا يفيد حديثها عن الوطن والديمقراطية، فهذه كلها فخاخ لاعتقال الوطن في زنزانات مذهبية متخلفة، وإبعاد هذه الأحزاب الطائفية عن السيطرة على عقول المواطنين ومنع نشر العلاقات الإقطاعية في البيوت والشوارع والعقول ضرورة للبقاء والسلام والتقدم والتوحيد.
لا فائدة من هيمنة الإقطاع على رأسمالية الدولة فهو يقود لإنتاج التخلف.
زيادة حراك الطائفيين وتقويضهم للوحدات الوطنية في الدول العربية والإسلامية يأتي أولاً من فساد رأسماليات الدول وإنتاجها لتوزيع فوائض بطرق غير ديمقراطية وغير وطنية وغير عادلة.
وكلما تمت السيطرة على هذه الرأسمالية الحكومية رقابة وإدارة كلما تم تقويض الطائفية.
ولهذا نجد في الدول ذات الاختراقات الكبيرة من الطائفية تتصارع فيها وتخترقها وتنمو داخلها رأسمالياتٌ حكومية شمولية متصارعة على أجسام الشعوب.
نموذج الاتحاد السوفيتي يعطينا فهماً لكيفية الفساد الشمولي لرأسماليات الدولة المركزية وفي الجمهوريات بحيث تتحلل الدولة، والماركسية اللينينية المضادة للأديان هي وعي دكتاتوري ضد عقائد الشعوب وتاريخها الديني الاجتماعي.
والديمقراطية على العكس هي قراءة موضوعية للأديان والمذاهب وعدم البتر في تطورها و(سحقها) والاهتمام بالعناصر النضالية والديمقراطية فيها، ونقد الجوانب السلبية، وخلق أنظمة علمانية غير مسيِّسة للأديان ولإستخدامها النفعي الاستغلالي، وهذا يتشكلُ من ديمقراطياتٍ في مختلف الجمهوريات الروسية والآسيوية لرؤية الأديان في طرق تطورها التاريخية الحقيقية، وتصعيد سلطات الناس الرقابية وأشكال وعيهم العقلانية لتواريخ بلدانهم وثقافاتها.
هذا هو هو دور الأحزاب التقدمية العربية في هذه الرأسماليات الحكومية المتعددة، حيث لا بد أن يجري نقد التاريخ العدمي الديني لهذه الأحزاب، ونقد نسخ التجربة الروسية، وتجميع مختلف القوى النهضوية الديمقراطية الوطنية التحديثية العلمانية، بحيث لا يغدو الاستخدام المضاد النفعي الطائفي للدين بديلاً عن عدميةٍ دينيةٍ سابقة.
فالأحزاب العلمانية والتقدمية إسلامية الجذور، وتهتم بتفكيك الاستخدام الشمولي للأديان.
والاستخدام النفعي المحافظ الطائفي للدين هو الوجه الآخر للعدمية الدينية، كلاهما رفضٌ للعناصر الشعبية التوحيدية الديمقراطية في الإسلام والمسيحية، كلاهما عدم رؤية لمسار الأديان وإستغلال الجهل الجماهيري للوصول إلى السلطات وإستغلال رأسماليات الدول بأشكالٍ طفيلية.
سيطرة جماعة دينية سيؤدي لصراعها مع جماعة دينية أخرى، والصراع ليس هدفه خدمة الدين بل الإستيلاء على الثروات، وبهذا فإن الخدمة العنيفة المحافظة للدين تكمل مسار العدمية السابقة وتفجر المشكلات المؤدية لانقسامات أفدح فتضيع الأوطان والثروات.
قراءةُ الأديان بأشكالٍ منتجة وجعل القطاعات العامة أساس للتطور الاقتصادي الوطني في كل الطبقات والجماعات، هو وضع أساس لتطور القوى المنتجة العامة والخاصة.
لقد أدتْ العدميةُ الدينيةُ لاكتساح الطائفيات وتفردها بالوعي الجماهيري السطحي وبنشر التخريف والجهل بالأديان وإقامة مشكلات خطيرة بتسييسها وأدت لمذابح وحروب وما تزال شهيتها مفتوحة لمزيد من الكوارث.
توجيه الموارد لتغيير حياة الناس المادية والثقافية عبر التحالفات السياسية التحديثية سوف يضعُ فصلاً جديداً من التطور العربي.
≣ تطورُ الديمقراطيةِ مرهونٌ بهزيمةِ ولايةِ الفقيه
تجابه الأممُ العربيةُ والإسلامية قضايا شائكةً متقاربة، وفيها إختلافاتٌ كذلك بين درجات التطور لهذه البلدان حسب بُناها الاجتماعية وتطور النضالات الشعبية الحديثية التوحيدية فيها.
في القسم الشرقي من المنطقة لعبتْ ولايةُ الفقيه دور الدولة القومية الفارسية الشمولية في صعودها وتغلغلها بين دول المنطقة، وإستثمار المشكلات لتوقف العمليات التحولية الديمقراطية الاجتماعية والسياسية التوحيدية، من أجل السيطرة عليها والهيمنة على المجال الحيوي(العقيدي المذهبي) فيها.
وكان إستثمار العبادات والعقائد من أجل الهيمنة العسكرية والاجتماعية المحافظة لكبار رجال الدين والسلطة غدا نموذجاً لدوائر السياسة الإيرانية المسيطرة لتطبيقه على بلدان أخرى، عبر إستغلال مشكلاتها الداخلية.
وهكذا غدت الأوضاع السياسية في البلدان التي تكثر فيها طائفة الشيعة وتجذرتْ فيها المنظماتُ العباديةُ والسياسية مناسبةً لهذا المشروع التوسعي.
قدرةُ المركز الإيراني نفسه على التطور الديمقراطي إنتفتْ وغدا التراجع عن السلطة المستبدة العنيفة المزودجة يعني إنهيار النظام، فأشتدت القبضة على فروع المشروع خارج المركز.
ولم يقم التدخل الأمريكي في العراق بخلق ديمقراطية على أسسٍ حديثة فيه، وضربَ ركائزَ التوحيد في الوعي الوطني العلماني الديمقراطي، وبعثَ القوى التقليدية القومية والطائفية، بحكم الموقف الديني اليميني لمجموعات المحافظين الجدد وقتذاك المسيطرة في واشنطن وعدم مراجعة هذا الموقف في الإدارات اللاحقة.
القوى السياسية الاجتماعية الطائفية في إستثمارها الإسلام للسيطرة على الكادحين والفئات الوسطى، لم تقم بأي عمليات تنوير وديمقراطية في صفوف المسلمين، فأي تعميق للثقافة الحديثة وسط الجماهير تعتبرها هادمةً لسلطاتها على الفقراء المحدودي الوعي، وهم الحصالاتُ الاجتماعيةُ التاريخية لها.
وإذا كان هذا ينطبقُ بشكلٍ كبيرٍ على تطور إيران السياسي فإنه ينطبقُ بأشكالٍ أخرى على الدول العربية، ذات التباينات السياسية ولحظات ودرجات التطور السياسية الاجتماعية المختلفة.
فقد أوضح التطورُ العاصفُ الأخير من الربيع العربي كيف أن المحافظة الفكرية والسياسية موجودة كذلك في القوى المذهبية اليمينية السنية، وهو أمرٌ موضوعي لتشابه البُنى الإقطاعية خلال عدة قرون، وحيث تغدو السيطرةُ على الفقراء المتخلفين وعياً وظروفاً وسائل لنفوذ هذه القوى الاجتماعي السياسي.
ومن هنا لا تقوم هذه الحركاتُ السياسية بتنفيذ مهام الثورة الديمقراطية الحديثة، من تحرير للفلاحين والنساء والمؤسسات السياسية وأدوات الوعي الفكرية من الهيمنات العتيقة، وإذا كانت إيران قد سبقتْ القسمَ السني في تشكيل دكتاتوريتها، بسبب المركزية الشديدة القومية وضخامة الريف وتشكل التحولات الرأسمالية في الزمن السابق لفئات صغيرة في المجتمع، فإن القسمَ السني متعدد المستويات، حيث قامت بلدانٌ معينة بإضعاف المركزيات الحكومية وتحجيم الإقطاع بعض التحجيم، وبقيتْ دولٌ أخرى في المستوى الإيراني السابق لعهد ولاية الفقيه، حيث يتم تصدير هذا النموذج وإستغلال الأقسام المتخلفة الوعي من الطائفة الشيعية للمشروع الشمولي العنيف.
هكذا يغدو الطرفان من الأمم العربية الإسلامية مترابطين، مختلفين، متشابهين، عبر هذه المستويات المركبة من التطور المتشابه، ومن التطور المتباين.
ويغدو تحقيق مهام الثورة الوطنية الديمقراطية غير المنجزة في العقود السابقة، خاصة في قسمها الاجتماعي الفكري، مطلوب الانجاز في كافة هذه الدول.
إن ولايةَ الفقيه القوية العنيفة الخطرة في إيران مرفوضة شعبياً داخل هذا البلد بعد خبرَ أدواتها الدموية وتشويهها للإسلام، في حين أن ولايات الفقهاء في دول أخرى عربية والمتغلغلة عبر سواعد الجماهير الشعبية العربية المُستغَّلة الثائرة، ليست مرفوضة، لكونها قامتْ في خضمِ إستكمالِ الثورة الديمقراطية، ولكن لتؤسسَ دكتاتوريات جديدة بديلاً عنها مع غياب وعي هذه الجماهير العربية وعدم إستفادتها من درس إيران البليغ!
قد تتفق ولايات الفقهية وقد تختلف، وقد تتعاون بعضها أو جميعها لضرب الدول الأخرى المعتدلة وضرب الأحزاب الديمقراطية والتقدمية في عموم المنطقة، وقد تتجمد في هياكلها العنيفة، وقد تتقارب مع الليبرالية، ولكن الأسسَ الإقطاعية المحافظة ظلت في كل منها قوية مرتبطةً بإعادة إنتاج الإرث الطائفي المحافظ المستغِّل للجماهير. فهم لا يريدون حريات الفلاحين والنساء وصعود الليبرالية والديمقراطية والعمال والحداثة السياسية بأسسها العالمية، وبالتالي فإن النضالات العميقة مطلوبة، وتوسع الوحدات الشعبية العربية الديمقراطية العلمانية ضرورة حياة لهذه الأمم على الضفتين معاً.
سيظل إنعاش الوعي التقدمي وإنسحابه من الشموليات الماضوية والراهنة وقدرته على خلق النضالية الجدلية المركبة ونشر الجبهات الكفاحية مع كل بصيص ليبرالي وديمقراطي ونهضوي، هو حجر الأساس للتطور السياسي لهذه الأمم.
≣ الرأسماليات الوطنية الديمقراطية
أثبت القرن العشرون فشل الأدلجات لتشكيل أنظمة شمولية تحت أسماء عدة في الشرق خاصة، خاصة الأوهام الناتجة عن الاشتراكية التي أعتمدت على نقص التقنية وضعف الصناعة وتخلف الجماهير، والآن تواجه المنطقة أدلجات تستغل الدين عبر شموليات جديدة تجرب في حياة الناس.
وقد أثبتت تجارب الاشتراكيات والقوميات الحادة ضرورة تعاون الطبقات المنتجة الأساسية ومن مواقع مختلفة، من مواقع العمل والملكية والثقافة، وأما إنفراد قوة واحدة وفرض نفسها وتصوراتها بالقوة فتقود مثلما رأينا على مسرح القرن العشرين الدامي، إلى الحشود الهائلة من الضحايا وفقدان الزمن.
ضاعت ثروات هائلة وأرواح لا تحصى لتعود الأمور لبدء إنطلاقها، رغم ضخامة المنشآت والتطورات التي تحققت في بعض الدول لكنها هي كذلك مهددة في لحظات التطور الأخيرة لرأسماليات الدول الشمولية حيث تصر على إحتكار الجزء الكبير من الثروات.
الآن الثورات العربية على مفترق الطرق، والأهم لسيرها هي أن تعيد النظر في تجارب القرن العشرين ذات البعد الواحد، وإلغاء هيمنة الأدلجات المحتكرة سواء باسم الاشتراكية أو الوطنية أو المذهبية، وأنت تكون البرامج المعبرة عن مجمل تطور السكان هي الركائز المعتمدة في العمل السياسي.
النقص في الفهم والخطط الاقتصادية وعدم فهم الناس والتاريخ لا يُعوض بجعجعةٍ إيديولوجية، والحكوماتُ التي تريد أن تحيل الأمور لصراعات جانبية حول الشعائر والأفكار والمذاهب وتقمع الحريات المختلفة ترتكب نفس أخطاء السابقين بكل ضراوة تواريخهم.
البرامجُ والقوى السياسية القائدة ينضجُ حضورَها ودورَها وأفكارَها البرلماناتُ المنتخبة، والفشلُ في هذا دائماً يوجهُ نحو العقائد والإيديولوجيات وتحل تصوراتُها المبهمة وخداعها للجمهور.
صراعُ المصالح بين الطبقاتِ الشعبية العاملة والطبقات المالكة لوسائل الإنتاج والثروات ورؤوس الأموال أمرٌ جوهري لا يمكن الهروب عنه، لكن ضرورات التعاون والإختلاف تفرضُ نفسَها على الجميع، من أجل بُنى إقتصادية متطورة، توزعُ الفوائضَ بأشكالٍ تاريخية متطورة، حسب مدى تطور القوى المنتجة والمشروعات والثورة العلمية التقنية.
إن المواقع الدينية الإيديولوجية الشمولية تمثل الآن العقبة الكبيرة لتطور مثل هذه العقلية الديمقراطية الضرورية عند الجميع، وهي إذ تتحدثُ بلسانِ الطائفة أو الدين في المجال السياسي وتحتكرُ الأصوات وتدخلُ البرلمانات ليس على أسس الفهم الصحيح للمشكلات والتعبير عن مطالب الجمهور الاقتصادية المعيشية تسبب مشكلات للتطور، فتحيل تصوراتها لأيديولوجيات حاكمة تقمع الناس والتيارات الأخرى طبقاً لها.
الديمقراطية هي إدارةٌ معقولةٌ سلمية للصراع الاجتماعي، فالديمقراطية هي هيمنةُ قوى معينة على قوى أخرى لكن حسب برامجها الاقتصادية الأكثر فائدة للسكان، وحين تحدثُ أضراراً عليها أن تنسحبَ تاركةً المجالَ لقوى أخرى أكثر قدرة على إحداث التطور الاقتصادي للناس.
والانسحاب يأتي من قبولها بنتائج الانتخابات وإعادة برامجها للصواب وتلبية مطالب القوى التي تدافع عنها.
رأسمالية الدولة تقود لتنامي الرساميل الوطنية صوب قوة إجتماعية واحدة، وترفضُ التوزيعَ المؤدي لتطوير مختلف طبقات السكان.
فيما الرأسمالية الوطنية الديمقراطية هي تنمية مشتركة وتنام للدخول لمجمل طبقات السكان، وإعادة لهذا التوزيع كلما تنامت الثروة الوطنية.
رأسماليةُ الدولة تسكتُ عن تضخم الثروة في جانب وتقلصها من جانب آخر، وتكيف المجتمع وترغمهُ على القبول بهذا التوزيع المضر، وتبرره، وتنمي هذا التوزيع وتحوله لصراعات إجتماعية إستقطابية بمظاهر شتى مما يؤدي للانفجار وعدم تطور الأدوات التشريعية والرقابية على الوصول لمكامن الداء الاقتصادي السياسي.
الرأسمالية الوطنية الديمقراطية تعاونُ مختلفِ القوى السياسية لعدم حدوث هذا الاستقطاب في الثروة والسكان وإنتقالهم من التعاون الصراعي إلى الصراع الهدام.
ولهذا فإن أدوات الرقابة والنشر والبحث تساعد على الوصول لجذور المشكلات وعرضها وتوصيل الفرقاء لحلول وسط وهي أمورٌ تؤدي لتطور البنية الوطنية بشكل تاريخي طويل.
≣ الوعي الديني والديمقراطية
الوعي الديني المبكرُ لدى الشيعة في بداية العصر الحديث كان متجهاً للنضال مع الأغلبية الإسلامية من أجل الديمقراطية والحداثة بغض النظر عن المذاهب، وكان مهتماً بهذا التوحد العام، ونقد رجال الدين الانتهازيين الاستغلاليين بقوة.
ربما يعودُ هذا بشكل خاص لكون هؤلاء الأفراد قد وجدوا أنفسهم بعيدين عن الدول الدينية المتعصبة، أو كانت ثمة فترات توجب التوحد بين قوى المسلمين دولاً وجماعات ضد الغزو الغربي.
كما أن الديمقراطيين الحقيقيين لا تفرقهم المذاهب والأديان والأقطار لأن هدفهم واحد هو تقدم الشعوب.
ومن هنا لا نستغرب حين يقومُ عالمٌ ديني شيعي بمدحِ الخليفة الراشد عمر بن الخطاب.
الميرزا محمد حسين النائيني في كتابه (تنبيه الأمة وتنزيه الملة)، وقد صدر الكتاب سنة 1906، يستعرضُ أسسَ الديمقراطية وفصلها عن الدول الاستبدادية، ويقول إن الديمقراطيةَ في نظرهِ تعني (رفض ما للسلطنةِ من مالكيةٍ مطلقةٍ وفاعلية ما يشاء وحاكمية بما يريد وقهرها بالإراداتِ السلطانية من جهة، وعدم مشاركتها)، ويضيف (إن الأمة لها حق المحاسبة والمراقبة ومسؤولية الموظفين أيضاً من جملة فروع هذين الأصلين).
والطريف أن الميرزا محمد النائيني يقدم هذا المثل للدلالة على الحكم الرشيد:
( وقد بلغ استحكام هذين الأصلين في صدر الإسلام مبلغاً عظيماً حتى قيل للخليفة الثاني – مع تلك الأبهة والهيبة- وكان قد رَقى المنبرَ يستنفرُ الناسَ للجهاد: لا سمعاً ولا طاعةً، لأنه كان عليه ثوب يمان يسترُ جميعَ بدنه، مع أن حصةَ كل واحد من المسلمين من تلك البرود اليمانية لم تكن كافية لستر جميع بدنه. وما استطاع أن يدفع اعتراضهم هذا عنه إلا بعد أن أثبت لهم أن عبدالله (ابنه) هو الذي وهبه حصته من تلك البرود.
قيل له في جواب الكلمة: لنقومنك بالسيف وما كان أشد فرحه عند رؤيته هذه الدرجة من استقامة الأمة!). ص 317 من كتاب المشروطة والمستبدة لرشيد خيون.
النائيني وبعض رجال الدين عملوا وقتذاك في بداية القرن العشرين للعمل المشترك مع بعض العناصر المتنورة في الدولة العثمانية لتوحيد جهود المسلمين في (جبهة ديمقراطية) في ذلك الحين، لكن جموعا كثيرة من رجال الدين كانت ضد ذلك.
في رؤية آية الله محمود الطلقاني من خلال تقديمه هذا الكتاب الطليعي في زمنه حيث جاءت مقدمته للطبعة الثانية في سنة 1954 إن الكثير من رجال الدين يمنعون تقدم مثل هذه الأفكار الوحدوية ولهذا من الصعب أن تنتصر.
(كنتُ أرى بعض الروحانيين وقد حولوا الزي الديني إلى وسيلة لقضاء حوائجهم الخاصة مستعينين بما تيسر لهم الاطلاع عليه من آيات وروايات يقرأونها على العوام، ويستغلون تأثرهم بها في ركوب رقاب بسطاء الناس وخداعهم.)
يرى الطلقاني إن المشكلة لا تنحصر في وقوف عدد من الروحانيين ضد المشروطية (الديمقراطية) بل كان السبب الرئيسي هو غياب الفهم الدقيق والتفصيلي (للديمقراطية) وكيفية تطبيقها بين الجمهور العام.
أي أن عدم التدرج في تطبيق الديمقراطية ونقل النموذج الأوروبي والصدام مع تقاليد المسلمين يؤديان إلى خوف الناس من هذه العملية السياسية التي تتجه لعاداتهم الدينية والاجتماعية القديمة.
إن أكبر المتصدين لتحقيق العملية الديمقراطية هم رجال الدين أو من يتأثر بهم، ولكن التراث الذي يستندون إليه ليس له علاقة بهذه الديمقراطية المؤسساتية، رغم أنها تتلاقى مع فترة اللقاح العربية القرشية، حيث يتم رفض الذل وأن الناس متساوون، لكن هذه الفترة انتهت مع تقدم الفوارق الطبقية، وليس لمسألة بني أمية وبني العباس فقط، وبهذا فإن التراث الذي غُربل من خلال سيطرات هذه القوى لم يَعُد ديمقراطياً، عبر رؤيته عدم المساواة بين الأجناس وبين الطبقات.
ورجال الدين الذين يتصدون للعملية الديمقراطية يأتون من هذا التراث الاستبدادي عامة، ولهذا فإن السياسيين المتصدين للعملية الديمقراطية لديهم العصر الديمقراطي الحديث وتكييفه لمجتمعاتهم من دون الصدام مع التراث والعادات.
لقد قام المتنورون في بداية العصر الحديث بالبحث في ذلك ولم تسعفهم أدواتهم في حل الإشكاليات بين الماضي والعصر لكنهم قدموا البدايات المهمة في هذا الصدد.
القرآنُ كتابٌ نضالي مطلق، وكتابُ تشريعاتٍ نسبية متغيرة، يعبرُ في زمنِ عدمِ وجودِ المصنع كأساسٍ إقتصادي للمجتمعات وقتذاك، ومع ذلك يطرحُ التحالفَ الاجتماعي السابق الذكر، كجنين للبشرية الديمقراطية الذي حصلَ على وجوده الاقتصادي الواسع فيما بعد بأوربا الحديثة.
تشكل التحالفُ الديمقراطي عبرَ سورٍ محددةٍ كسورةِ الحشر، وأُعتبر ذلك أساساً للبناء السياسي للأمم الإسلامية، وغلبَ عنصرُ سيادة المُلكية العامة الخادمة للسكان على المُلكية الخاصة في الخلافة الراشدة، بما يعبرُ عنه في عصرنا بهيمنةِ الاشتراكية الديمقراطية السياسية على الليبرالية بشكلٍ جنيني رغم التحالف بينهما.
كان هناك نقص في الديمقراطية الاجتماعية وهو أمر ركزت عليه القراءات السطحية وأعتبرته دائماً.
غيابُ المصنع وسيادة الرعي والزراعة والحرف وسيادة البدو الأحرار والمدن التجارية القيادية، جعلت من المسلمين المشكلين الأساسيين للتحضرِ الديمقراطي النهضوي الجنيني وقتذاك في العصر الوسيط للبشرية.
الحضارة الأغريقية والحضارة الرومانية قامتا بدايةً على التجار الأحرار لكنهما وسعتا الحضورَ الهائل للعبيد فتدمر البناءُ الحضاري الديمقراطي فيهما، ولعبت الحروبُ والفتوح دوراً في الاسترخاء الاقتصادي والغيبوبة الاجتماعية والتناقضات الحادة بين الأمم والشعوب.
التحالف بين التجار الأحرار والعاملين أتخذ له مظاهر مختلفة في الحضارة الإسلامية عبر الفرق كالمعتزلة والسنة والشيعة وغيرها، لكنه إنتكسَ بهيمنةِ الارستقراطيات الحكومية وبتوسعِ جلب العبيد والجواري، مما أدى إلى تدهور المدن وإنهيار عالم المنتجين، بحيث تكلست قوى النقد والحرية والنضال الديمقراطي العقلاني في العواصم وأنعكس ذلك في سيطرةِ المحافظة على المذاهب والخرافةِ على الرؤى الفلسفية.
مع غيابِ التجار الأحرار والعاملين الأحرار أزدهر التفسيرُ الشكلي للقرآن، والتركيز على الظاهر، وجوهرة الإسلام في العبادات، بينما حاولت الفرقُ النضاليةُ والصوفيةُ البحث عن(الجوهر) في المطلق والغيب وليس في التحالف النضالي الحقيقي المفقود.
حين إستعادَ المسلمون وجودَهم الحديث وجدوا أنفسَهم تابعين لحضارةٍ جعلتْ من المصنعِ أساساً لوجودها وسيطرتها وتوسعها، وخصصتهم في المزرعةِ والسوق. وحين أسسَّ المسلمون مصانعَهم كانت كذلك منتجةً لموادٍ خام للمصنع الغربي المسيطر، وقدموا المواد الخام لها بأقل الأسعار. وهو أمر أدى إلى تناقض العالم العربي بين نمط يسترخي في ظل أسعار نفط وثروة بلا قوى منتجة عربية متطورة وأشكال من العمالة المجلوبة التي لا تعمق الإنتاج، وبين فقرٍ عربي يفتقد للثروة ويعيش العمالة في حدود الكفاف.
الليبرالية الأولى التي ظهرت في العالم العربي كانت إستيراداً فيما العاملون يعيشون في أوضاع عبودية، فهي لم تمد يدها بقوة وعمق لتغيير أوضاعهم، ولكي يكونوا شركاء لها في الوطن والسياسة والحرية، فجاءتْ الشمولياتُ العسكريةُ لتلغي الليبرالية والديمقراطية ولكنها حولت العاملين إلى ما يشبه العبيد في المصانع، فلم تصنع لا ديمقراطية ولا إشتراكية.
ركز المتابعون للتراث والحافرون من خلاله لرؤى سياسية على إستعادةِ الشكلاني والجزئي، وعدم قراءة الجوهري، والتركيز على السطحي يقود لاستعادة الملابس والأشياء الخارجية والجمل المحفوظة وليس قراءة التحالفات الاجتماعية الأساسية وتكويناتها الفكرية الثقافية وإستعادة حضورها بأشكال أكثر تطوراً وعصرية.
ظهر المصنعُ الآن بشكل واسع ولكنه في وضع مضطرب، لم يتحول إلى مهيمن على البُنى الحرفية والزراعية، أو لا يزال تابعاً للغرب يقدمُ مواداً خاماً، أو يجلب عمالةً غير عربية وغير مغيرة وغير متجذرة في نمط الانتاج، ولهذا فإن التحالف الاجتماعي الجوهري مختلٌ عبر عدم قدرة الفئات الوسطى لتوسيع التصنيع وإعادة تشكيل المجتمعات، وتوجهها للأرباح السريعة ومنافعها المباشرة، وتحويل العاملين لأجراء متخلفين، كذلك يظهر لنا المشهدُ العامُ الاختلالات في العمالة العربية بين عطالة في بلدان وجلب عمالة أجنبية في بلدان أخرى، أو تضخم العمالة الإدارية.
كذلك يظهر الصدام بين الرأسماليات الشمولية العسكرية الحادة والرأسماليات الليبرالية الضعيفة المتخلفة، فيحتاج العرب والمسلمون لتجاوز ذلك عبر أشكال متقاربة من التطور، وخاصة في الأنظمة الجديدة الحائرة بين أشكال التطور السياسية الاجتماعية، والتي يركز بعض منظريها ومثقفيها السياسيين على الجزئيات والسطوح وعلى القراءات غير الاجتماعية.
في حين تحتاج هذه التطورات لدراسات لكيفية تطور الثورة الصناعية الديمقراطية، وإعادة تشكيل رأس المال وقوى العمل، لهدف تلك الثورة ومقاربتها في ظروف كل بلد، لكن هذا لا يتم بدون التحالف الاجتماعي وظهوره بأشكال سياسية وتعاونية مختلفة.
≣ ثقافةُ الديمقراطيةِ المتكسرة
في زمنيةِ الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين يجري محلياً (وعربياً بشكل ما) تصدع وعي الديمقراطية العربي في السياسة والثقافة ويأتي ذلك بشكل أساسي من تهافت اليسار، فاليسارُ هو الذي يلعب الدور المحوري في تشكيل الأنواع الفكرية والثقافية الوطنية، لأنه يقود التقدم في البلدان النامية.
الانهيارُ الاشتراكي في المركز يكونُ غير واضح، لكن بعض أجندتهِ نجدُها في الصراعاتِ بين أنواع اليسار، فظهور اليسار الطفولي المزايد هو من الجوانب الرئيسية يظهر في بدء إنهيار هذه الثقافة.
تُطرحُ في الجدالات السياسية مزايدةٌ على طرق النضال، ويعلو صوت البندقية الزائف، حيث لا نار ولا دخان، وفجأة تنتشرُ صورُ جيفارا وماو وكاسترو، تغدو هذه الصور لدى اليسار الطفولي ضباباً فكرياً لضرب العقلانية، ولتصعيدِ جملٍ نارية، ويجري الإستهزاء بالطرق العقلانية في النمو السياسي، وما يترتبُ عليها من تحليلاتٍ فكرية للواقع، والغوص في تاريخه، وإكتشاف البنية الاجتماعية له.
يجري النقاشُ حول طرق النضال بأشكالٍ حماسية غير عقلانية تبطنُ رفضَ طرق التحليل الموضوعية، وهذا ينعكس في هلامية الأشكال الفكرية والأدبية والفنية التي تتجمد عند ذلك الصراع السياسي السطحي.
حين نقرأ القصص والقصائد والمقالات نجدُ هيمنةَ التسطيح، والتوجه للموضات الأدبية الفكرية الغربية معاً، مثل تدفق الأشكال السريالية واللامعقول ويتحول هربرت ماركوز إلى مفكر نموذجي ليسار المغامرة، وتحصل الوجودية والبنوية على مؤيدين مهمين.
كان هربرت ماركوز يركز على المجتمع (الصناعي)، وبهذا الشكل المجرد يتمكنُ من تلافي تحليل قوانين المجتمع الرأسمالي الغربي، وتغدو ثيمة ماركوز وجيفارا وماو هي بحد ذاتها موترةً لليسار(السوفيتي)وإبتعاده عن قراءات التحليل الموضوعية الأكثر نفاذاً في تجارب رأسماليات الدول الشرقية التي لعبتْ أدواراً في تأجيج الجمل الثورية ثم في كسرها.
عزف اليسار الطفولي على التطرف يقابلهُ فقرٌ في التحليل والإنتاج الفكري والانتاج الإبداعي عامة، فكان اليسارُ بشقيه يمثلان ضرباً ضد نمو العقلانية وتحولها لتحليلات موضوعية للواقع.
كان ذلك في مصلحة الأبقاء على السطحية في الوعي والعفوية والانتقائية، ومن هنا لائمتْ المقالةُ القصيرةُ هذا الوعي المسطح، التي تتحول في السر إلى بيانات زاعقة، تفتقد عمق السياسة البعيدة المدى.
كما يحدث الآن لورثةِ هذا اليسار المتعثر في أشراكِ الشموليات أي للمذهبيين السياسيين، الذين يعجزون عن دراسة الإسلام وسيرورته التاريخية، وأكتشاف آفاق تطور الأمم الإسلامية فتغدو لديهم المقالة القصيرة الانتقائية الهزيلة الوعي منشوراً زاعقاً في حالة الرافضين وبخوراً حارقاً لدى غير الرافضين، بسبب الرغبة في الحصول على مكاسب سياسية وإجتماعية سريعة.
ووجود هذين الصنفين المذهبيين السياسيين من الوعي المتضادين، والمتماثلين في جوهر سطحيتهما، وبروزهما يعبر عن الاستمرارية في تكوينات الوعي السطحي لدى البرجوازية الصغيرة المتعلمة مع تبدل البنية الاجتماعية. فالخطابُ اليساري السطحي يتلوهُ خطابٌ مذهبي سطحي.
في سيطرة المقالة القصيرة والمنشور وغياب الكتاب التحليلي والأنواع الواسعة من الأدب كالرواية والمسرحية والدارسة النقدية، صفة مشتركة، فهؤلاء المنتجون العجولون هم أناسٌ لا يزرعون بعمق ولكن يريدون ثماراً سريعةً باهرة.
رأسُ المالِ الصغير هذه هي عاداتهُ التاريخية، سواءً في الماركسية وهي تأخذُ أشكالاً طفولية تختزلُ تعقيدَ الاقتصادِ والطبقات وتريدُ القضاءَ بلمح البصر على التشكيلة الرأسمالية العالمية، أو في الوعي الديني وهو يأخذُ قسماتٍ طائفيةً ويتبعُ دولاً شمولية ويريد سحق الأنظمة بمفرقعات الأطفال أو بحلبها وتكوين رأسمال طفيلي ويصير شركة إسلامية مقفلة.
رأس المال الكبير لا يشارك في عمليات إنتاج الوعي والثقافة ويبقى في بنوكه وشركاته الكبيرة ليكون رأس المال العابر للحدود، والذي يعيشُ حالاتٍ دينيةً شكلانية خاصة في المجتمعات الاسلامية غير الديمقراطية.
من هنا فإن اليسارَ المغامرَ بصراخهِ المستمر كان يعطل التحليل، واليسار السوفيتي كان يردُ في حدودِ التقليديةِ النظرية المحنطة في المركز.
في الدول العربية الأخرى ذات الثقل السكان بخلاف دول الخليج يتمكن النتاج الثقافي من النمو الواسع، لكن الفكر النظري التحليلي الكاشف لمسارات التطور هو في حالةِ موت سريرية، والنماذج النادرة متأثرة بمناخ تشويه الأفكار الكبرى التقدمية.
وحين ينهار اليسار فكرياً وسياسياً ينهار الهيكل العظمي للوعي العميق، حيث أخذ هذا اليسار الشرقي على عاتقه أن يكون طليعة للعمال وحفار قبور للرأسمالية معاً، وهي مهمتان مستحيلتان في التاريخ القريب لأن كل مهمة ضد الأخرى.
إنها لغةُ محفوظاتٍ لم تعد قادرة على الفهم والتحليل، وأصبحت مشوشة أكثر فأكثر نظراً لفقدان البوصلة، وصارت التطورات غير مفهومة بالنسبة لها، وحالات الضياع هذه ستطلقُ لغةً ليبرالية إنتقائية مصلحية، أو لغة يساريةً إنتهازية.
إرتبطتْ الثقافةُ البحرينية بقوةٍ بالتيارات السياسية وربما بشكلٍ ميكانيكي مباشر، بسبب محدودية البناء الثقافي.
إرتبط تطور الوعي السياسي بالحقبِ الاجتماعية، فالوعي اليساري البحريني نشأ في ظلال تدفق منجزات الليبرالية البسيطة لهيئة الاتحاد الوطني، ولم تستطع هذه الاستمرار بأن تجذر المستويات الثقافية البسيطة التي نشأتْ معها وواصلتها هي.
منذ حراك الاربعينيات حتى الاستقلال إنتعشتْ الأفكارُ الليبرالية بدون جذورٍ عميقة، ونستطيع أن نقول بأنها ثمارُ أصحاب ومثقفي الوكالات التجارية، هؤلاء الذين كانوا بداية البرجوازية التي إبتعدتْ عن النتاج الفكري السياسي، وكان حريق الخمسينيات الناصري قد وضع حداً لتطورها نحو الليبرالية والديمقراطية.
وجاء اليسارُ السوفيتي واليسار الماوي وحركةُ القوميين العرب لترثَ بقايا الجمهور المتحمس للحركة الوطنية. اليسار هو العمود الفقري للمرحلة بسبب ما يمتلكه من منهجيةٍ فكريةٍ تحليلية للواقع والاقتراب من بعض جوانبه الموضوعية، التي تمثلت خاصة في التركيز على وحدة الشعب وتطوير حرياته، لكن الموقفَ تجاه الليبرالية والبرجوازية كان محدوداً.
إن السوفييت مصدري ومنتجي هذا الخط عالمياً لم يحققوا ديمقراطية، وبدت إرادة القوة لديهم هي الحل للتقدم، وكان هذا يمثل تدهوراً في أداة التحليل، ونتائجُها الواقعية وخيمةٌ على الصعيدين العالمي والبحريني.
لأنه ليس ثمة بديل عن الليبرالية كمحطةٍ رئيسيةٍ إفتتاحية طويلة الأمد لخلق كافةِ أشكال الوعي والتيارات الفكرية في العالم الثالث ومشروعات الدول الديمقراطية.
لكن المشروعَ السوفيتي تغلغلَّ في العالم الثالث بقوة، حيث ثمة تُربٌ لم تحرثْ لنضال ديمقراطي، وهي تربٌ قابلةٌ لكل أشكال الشموليات، فجاءت الشموليات ترثُ بعضها البعض.
أي أن كل الثقافات السوفيتية والناصرية والقومية كانت نتاجات دول شمولية قطعتْ تطورَ الديمقراطية في بلدانها، وأمكن لها في البحرين أن تتحرك خاصة فيما قبل الاستقلال، أي فيما قبل ظهور رأسمالية الدولة المحلية، لكنها لم تستطع أن تستمر بعد ذلك. فما كان لتلك التيارات أن تنشئ ثقافة ديمقراطية واسعة الانتشار.
فالوجودُ البريطاني أعطاها إمكانيةَ أن تكون مستوردةً للبضائع المادية لا الفكرية السياسية. وبعض الحريات والحضور الشعبي المدني كانت كافية لتخلق ثقافة ليبرالية ويسارية قبل ظهور رأسمالية الدولة المحلية وبعد ذلك شحبت هذه الإمكانية.
وبغض النظر عن هشاشة الثقافة في البحرين في تلك السنوات إلا أن القوانين الموضوعية للتطور الثقافي الاجتماعي متقاربة في البلدان العربية. فتجد إن إنهيارات الليبرالية واليسار مرتبطة بصعود رأسماليات دولة شمولية في كل بلد، وهي ذاتها المنعشة لوعي الطوائف المُسيّس.
كانت القصص والقصائد والمقالات النقدية والسياسية البحرينية بسيطة، وركزت على موضوعات إجتماعية جزئية، وتراكمت المحاولات حتى غدت في السبعينيات وما بعده تحولات نوعية.
لكن المسارين المعبرين عن التناقض في الوعي اليساري كانا حصيلة البناء الداخلي المضطرب، فاتجاهُ تطوير الحريات والسلام والنمو العقلاني الذي مثلهُ اليسارُ(السوفيتي)، وإتجاه اليسار الماوي الداعي للعنف وحرق المراحل وتصفية البرجوازية، لم يُقابل بعمق في الأطروحات المقابلة للتخلي بشكلٍ عميق عن الشمولية والمركزية السوفيتية، ودعم الليبرالية ودعم البرجوازية الوطنية.
في الثقافة كان الأمر في الاتجاه الأول يؤدي لخلق تراكمات في الآداب والفنون والفكر، والاهتمام بقوانين الأنواع الأدبية والفنية والفكرية والاشتغال عليها، وهذا كان له تطورات في الأدب الواقعي، فيما الاتجاه الآخر عمل على الأدب الحداثي التجريبي ورفض القوانين الموضوعية في الحياة السياسية وأشكال الوعي. فالسياسة تغدو إنفجاراً، والكتابة تصير هذياناً، وتيارات العنف هي البوصلة، وبالتالي فإن التيارين ومساهماتهما كانت بسيطة لمقاربة الديمقراطية والليبرالية وقوت النقد الشعبي الحاد غالباً.
كانت هزيمةُ الليبرالية هي هزيمةُ الديمقراطية وتطورها في البحرين وفي الشرق عامة، فلقد كان توسعُ الرأسماليةِ يتمُّ بأشكالٍ شمولية، ولا تنفتحُ الطرقُ لظهورِ برجوازيات حرة تلعب الدور الأساسي في الاقتصاد، وبالتالي فإن إنعكاسات ذلك قويةٌ على الوعي والثقافة خاصة.
الرؤى السوفيتية والماويةُ كقائدتين للنضالات الاجتماعية عبّرَ خلافُهما عن صراعٍ قومي، فتكشف طابعاهما الرأسماليان الشموليان، وبهذا لم يستطع تيارا اليسار الأساسيان البحرينيان أن يتوحدا أو ينقدا نفسيهما ويتحررا من القيود التي تكبلهما. المعارك والضربات وغياب الرؤية البعيدة هدمت القوى البسيطة التي تشكلتْ عبرَ عقودٍ صعبة ضارية.
على مستوى الثقافة تطورتْ الواقعيةُ في ميدانِ القصةِ القصيرة والرواية والمسرح، وتنامتْ التجريبيةُ الأدبية خاصة في مجال القصيدة والقصة القصيرة لحيزهما المكثفين القابلين للتجارب ولتداخل السرد بالغنائية، وغدا المسرح غنياً بتجارب مختلفة في ميادين العروض الواقعية والتاريخية والتجريبية، وبرز النقد في عرض التجارب الإبداعية وكشف المسارات القريبة من تأثيرات الواقع، لكنه لم يستمر في تعميق إكتشافه لنمو الأنواع الأدبية والفنية.
حين نرى تداخل الثقافة بالتيارات السياسية الاجتماعية نجد إن التيارين السياسيين البارزين اللذين وهنت قوتهما الاجتماعية، لم يؤثر إنحسارهما على الثقافة التي راحت تستقلُ عن الميدان الاجتماعي السياسي المباشر، وبدأت الأنواعُ المختلفةُ تأخذُ إستقلالَها النسبي.
لكن زخم الحركة الاجتماعية السياسية كان له تأثيره البعيد المدى، خاصةً في إبتعاد بعض التجارب عن خطوطها الأولى وعدم تعميق التجربة ورفد الأجيال الجديدة بمكتسابتها الليبرالية والديمقراطية وتطويرها مع تحولات البنية الاجتماعية وإنقلاب العلاقات فيها.
فالتطور التحديثي الموعود بزخمه الليبرالي العقلاني لم يحدث، وتدهور وضع الحركات الاجتماعية من الناحية الفكرية وعادَ المجتمعُ للوراء في عقليته السياسية، وكانت تبعية(اليسار) للحركات المذهبية السياسية التي إستثمرتْ عمليةَ الانهيار الفكري السياسي في أشكالٍ خطيرة من المغامرات المكلفة على الناس أدت إلى إضطراباتٍ عميقةٍ لم يتم الخروج منها لحد الآن.
لقد بيّن ذلك هشاشة الوعي الذي أعتمد على القفزات لا على النمو الليبرالي الديمقراطي المتدرج، بحيث غدت الجملُ الصاخبة وغياب تجميع القوى التحديثية بديلاً عن التحليلات المعمقة وتأصيل التحررية، ولم تحصل الثقافة هنا على دعم من اليسار الذائب في العفوية والمنفعية ولا على إهتمام من الجمهور السياسي المذهبي المتصاعد الحضور في الحياة الاجتماعية، ولا على مساندة الأجهزة الحكومية.
لقد عادت المقاييسُ القديمةُ للثقافة لما قبل فترة حركة الهيئة، أي للقصة العائلية الساذجة، ولمسرح منوعات التسلية، وتنامى الأدب خاصة في الريف الذي يضجُ بأزمته غير المحلولة ودون أن تتمكن التجارب من إضافة تحول مهم للثقافة الأدبية.
كما فت في عضد الثقافة المشكلات النوعية في الثقافة نفسها، من عولمة هائلة تغلغلت في كل مكان تقود لمزيد من التسطيح ومن عدم الاستفادة من أهميتها الهائلة، وتفاقمت النخبوية وضعف تنامي الواقعية وغياب تحولها لتيار مؤثر في مجتمع تآكلت فيه ثقافته الوطنية ومستويات القراءة.
من الناحية السياسية الاجتماعية قادت العودة للمذهبية السياسية وقد تغلغلت فيها تأثيراتُ المرجعيات الدينية الإقليمية إلى إنتشار الفسيفساء والفرديات الجامحة وتنامي أشكال ما قبل الحداثة، ولهذا فإن إنجازات هيئات جديدة مثل البرلمان لم تتغلغل في الحياة، وتغدو الحلول مرتبطة بطابع الرأسمالية المحلية والخليجية العربية التي يغيبُ عنها الإنتاجُ الوطني الواسع، المؤسس للعقلانية وتماسك وتطور الجمهور.
لهذا فإن عودة ثقافة العنف والإلغاء غدت موروثاً لبعض الحركات السياسية المذهبية، مع عجز رأسماليات شمولية مناطقية متعددة عن العودة للمسار الليبرالي الديمقراطي المنتج الوطني، وهذا جانبٌ مركبٌ يحتاج كذلك لمتابعة القراءة.
≣ الديمقراطيةُ والامتيازاتُ
الديمقراطيةُ هي تكوينُ سوق بدون عوائق إجتماعية، لكن تطورها يصطدمُ بالامتيازات الاجتماعية، في مختلفِ المستويات وعند كلِ الفئات والطبقات.
رغم أن الأسواقَ تشكلُ هي نفسها إنقساماتٍ حادةً وتباينات بين مختلف السكان.
لقد أوضحت الثوراتُ العربية ضخامةَ الرساميل المُهَّدرة والمغيّبة عن الأسواق الوطنية والمُهربة، بشكل غير قانوني فهي مُنتزّعة من الرساميل الحكومية الخفية، وتحتاج هذه الدول لسنوات عدة من أجل إسترجاعها إذا إستطاعت!
تشكلت هذه الرساميلُ الجانبية الضخمة من خلال قنواتٍ اعتمدت على إمتيازات إجتماعية وسياسية، وتغيير طبيعة المشروعات الوطنية وإستغلالها والقيام بمشروعات غير ذات قيمة كبيرة للبناء الاقتصادي الاجتماعي لكن أصحاب الامتيازات يستفيدون منها، أو التركيز على جوانب من التطور أصبحت غير مفيدة لكل البناء الاقتصادي لكنها تعكس مصالح لرجال الأعمال والسياسة.
فهناك إمتيازات أعطيت لقوى سياسية أدت إلى نقص في الرأسمال الوطني العام، كما كان يفعل النبلاء من إحتكار الأراضي الزراعية أو الأرض بشكل عام كرأسمال وطني يتصرفون به بشكل مخالف للتنمية العامة.
إزاحةُ النبالة الكاملة أو نصف النبالة كما في العالم الثالث، حيث الحكم والأرض في تداخلات معينة، توجهُ السوقَ لحرية رأس المال، وحتى الآن لم تستطع أغلبيةُ دول العالم الثالث تحقيق ذلك حيث تغيب عملية تداول السلطة. أن عملية تداول السلطة تتيح عدم قدرة المسئولين على البقاء مالكين ويتحولون فقط لإداريين مسئولين لمددٍ محددة، ويتم جرد هذه الأملاك العامة في أثناء وجودهم وبعده ورؤية حسابها ومدى دخوله السوق الوطنية.
البقاء الثابت للوزراء ومديري الشركات العامة يجعلهم مثل ملاك الشركات الخاصة.
دوران رأس المال العام هذا يجعل العملية الديمقراطية تبدأ، وتتوجه لدراسة السوق ورؤية مشكلاته وكيفية النهوض بقواه المنتجة، وكيف تتوزعُ أنصبةُ رأس المال العام هذا، بدون تسييس لصالح الوزارات والموظفين. وتحدث هنا توجهاتٌ إقتصادية سياسية تعكس توجهات الرساميل والقوى الاجتماعية المؤيدة لها.
مشاركة القوى الاجتماعية في العملية السياسية ودخولها البرلمان أو عدم دخوله، الهدف منها تخطيط وتحريك رأس المال العام في القطاعات المطلوبة شعبياً، وهي القادرة على خلق وظائف واسعة وجديدة، فنجد أن الشركات العامة المتوجهة للمواد الخام وإستخدام العمال الأجنبية بكثافة تتناقض مع الخطة المفترضة في تشغيل قطاعات واسعة من المواطنين.
على مستوى التمثيل البرلماني تتحق أهداف التطور المصاحبة، فالقوى المالكة أو الدينية أو التي لا تمتلك خبرة في فهم الاقتصاد والبناء الاجتماعي والسياسة، لا تستطيع أن تفعل شيئاً واسعاً لناخبيها، فتهتم بسطوح الظاهرات والأسئلة والانتقادات الهامشية، لا أن تعالج رأس المال الوطني العام من كل جوانبه وتتغلغل في تفاصيله وتوجهه فهذا هو عمل الحكومات والبرلمانات في النظام الديمقراطي.
أصبحت التيارات الجديدة في البلدان الثائرة تركز على هذه العملية، وتريدُ كنسَ الأرضَ السياسية الاجتماعية من الإمتيازات، والتحكم في توزيع رأس المال حسب قدرته على خلق الوظائف المنتجة، لكل من الرجال والنساء، وأن تتوسع الشبيبة داخل هذه المؤسسات، وأن تكون على مستوى أقاليم البلد بحيث لا تتكون جهات وفئات مستأثرة بالتنمية.
نحن في بدايات العملية السياسية الاقتصادية الحرة في بعض البلدان، وقوى المال والرساميل غير الانتاجية لها النصيب الأكبر، وسوف توجه الخطط التنموية لصالحها مع غياب ممثلي القوى العمالية والرأسمالية الصناعية خاصة.
تتضح الآن في النتائج الانتخابية الأولى بروز جناحي الرأسماليتين حيث الرأسمالية غير الانتاجية والفئات السياسية الإيديولوجية مع نتائج أقل للرأسمالية الصناعية، مما يدل غلبة إستمرار البناء الاقتصادي(الطفيلي) السابق نفسه.
الجناحان الفائزان يعبران مع ذلك عن التوجه لرفض الامتيازات الاقتصادية العامة للقوى السياسية الحكومية، وهذا شيء طبيعي في وعي ديني محافظ ركز على الاختلاف مع الدول، وليس على تغيير البناء الاجتماعي الذكوري المسيطر وكرس إمتيازات الذكور.
الجناح الديني بمستوييه الأخواني والسلفي بتركيزهما الصراع ضد الدول ومع إمتيازات الذكور، والجناح الليبرالي الذي يرفض إمتيازات الدول والذكور معاً، يعكسان مستويات الرأسمالية الخاصة في الدول العربية الثائرة المنتصرة، وجناحيها المالي والصناعي، حيث لا يهتم الجناح الأول بشكل أساسي بإدخال النساء والشباب في الصناعة بإعتبارها قضية التحول الرئيسية، فيما تهتم الرساميل الصناعية بذلك من أجل توسع الأسواق وإنخفاض الأجور وكان لا بد من الشريك الثالث وهو اليسار الغائب من أجل إكمال العملية النضالية المشتركة لتغيير هذه البلدان وعالم العرب عامة.
إن تحويل قضايا التحول لمسائل دستورية دينية وإيديولوجية سوف يعكس الوقوف عند المستوى الراهن من التطور حتى يعي الجمهور أهمية إستمرار التغيير.
إن هذه التوجهات البرجوازية الدينية المنتصرة برلمانياً هي نتاجُ هذه الرساميل وقوى السكان التي كونت العلاقات معها واستفادت منها، والعملياتُ البرلمانيةُ الحرة سوف تحول هذ الرساميل نحو تطوير حياة كل السكان وتوعيهم وتطرح أمامهم خيارات مستقبلية جديدة للمزيد من تحويل مجتمعاتهم بإتجاه الازدهار المعيشي كما يُفترض.
≣ نهضةٌ والثقافةُ الديمقراطيةُ المطلوبة
تتدفق النتاجات الثقافية والفكرية بصورة كبيرة ورقياً في بعض دول الخليج خاصة الكبيرة منها ذات الأعداد السكانية الكبيرة مرتكزة أساساً على جهود الفئات الوسطى الشبابية غالباً، وهي عملية غدت مؤثرة في الإعلام ولكنها بعيدة عن حياة السكان، والدخول إلى عوالمهم العقلية النائية الغارقة في الصراعات المذهبية والعوالم المحافظة المنفصلة عن العصر.
هناك ثروات وتحولات إقتصادية كبيرة غير مسبوقة عربياً، لكن العالم الفكري الثقافي السياسي هش، فلن نستطيع أن نجد شخصية كطه حسين خاصة في بداياته العقلانية الصراعية المفجرة للقضايا والمستقطبة للاهتمام والفعل، على بساطة العيش المصري في ذلك الحين.
التسطيح والتضخم الشخصي وإفتعال المعارك المتجهة لإبراز قضايا جنسية وطائفية وهشاشة الانتاج غير القادر على الغوص في الظاهرات الاجتماعية والسياسية العميقة.
وحين يتم (تفجير) قضايا تغدو قضايا فكرية مجردة، تتركز غالباً على الجنس والتعميمات الفكرية غير المحللة للواقع في الجزيرة العربية ودرجة تطوره المختلفة عن بقية البلدان العربية خاصة في التطور الاجتماعي السياسي وضخامة المعوقات فيه.
سنجدُ بعضَ الشباب الخلاق خاصة في المملكة العربية السعودية ينتج الكثير من الإبداعات، لكن أغلبها مسطح، يهدف لبروز الكاتب أكثر من تحليل قضايا معينة، أو متابعة تطور منطقة، ودعْ عنك مسائلَ تحليل تطور شعب أو رؤية تطور ديانة.
الذاتياتُ تهيمنُ على المنتجين، المنتجُ مشغولٌ بتسويق نفسه، يبحثُ عن قضايا مثيرة صاخبة يفجرها ويلفت النظر لذاته، فنظراً لحشود الباحثين عن الشهرة المتزاحمين على الوقوف في الصفوف الأولى، فإن الكثيرين يعملون لاختراق الصفوف، وفي سبيل هذا الهدف مستعد للقيام بأفعال أخرى لا تمت لأخلاقية الأدب والثقافة والمسئولية.
وقدرة هؤلاء المنتجين على الدفع والعطاء المادي أكثر من العطاء الثقافي، تدفعهم للتداخل مع المحطات الفضائية والمراكز الإعلامية والسفارات الأجنبية وتسويق أنفسهم وإقامة علاقات نفعية إستغلالية لهذه الأطراف، وغالباً لا توجد قضايا مهمة من هذا التسويق، والنتاج الذي يحصل على جوائز وتتفجر حوله المقابلات والندوات هو نتاج فقير ضحل!
مركزيةُ الذواتِ المتضخمة هي نتاجُ ذواتٍ فرديةٍ حادة المزاج، ضعيفةِ الإنتاج، غيرِ قادرةٍ على خلق التراكم الفكري السياسي، الذي يتطلب صبراً طويلاً وحفراً عميقاً في طبقات المجتمع وطبقات الوعي المعرفية فيه.
فالقافز هنا لا يرى خيوطاً عميقة في الواقع، وسكاناً يعانون ويبحثون عن سبل التطور، وضرورة أن يكون إنتاجه مؤثراً في هذه العملية الوطنية التي أعطته الوجود وغذته بالحياة الفكرية، بل لقد إنفصل عنها وغدا ذاتاً أكبر منها، في حين أن القوى الاجتماعية المختلفة تبحث عن ديمقراطية بينها وتوافقات وطنية، وثقافة تؤسس لهذا وعن تنوير يعضدُ المشتركَ ويوسع دوائر الحلول للمشكلات، بحيث لا يتافجئ التطور بإخفاقات رهيبة، ومنعطفات مأساوية.
ومن هنا تجد المتضخم وهو كامن داخل قوقعته الخاصة ينتهزُ الفرصةَ للقفز مع جماعةٍ من طائفته إذا قررتْ فجأة المغامرةَ بالوطن وإعطاء هذا الكائن دفعةً أخرى من التضخم الذاتي، أو مع جماعته غير المعترفة بالمشكلات الحقيقية والتي تدفن رؤوسها في رمال المصالح الخاصة.
الغشُ الأدبي الفكري لا ينفصل عن الغش التجاري والغش السياسي، فالراكضون وراء الشهرة وتسويق بضائعهم الثقافية المغشوشة، يعملون في مجتمعات لم تتشكل فيها قوانين الفردية العقلانية المنتجة، ولم تأسسْ ديمقراطية الطبقات بعدُ، بل تعيشُ على صراع الطوائف، والواجب الوطني الإسلامي الإنساني الذي يحتمُّ عليه خلق ذلك أو المساهمة فيه بقدرته، لا يأبه به، بل يسعى للاستفادة منه، أما بالجري وراء قضايا التسطيح والعفوية والإثارة، وأما بإستغلال الغرائز الطائفية والكمون داخلها، ومشاركة القوى الداخلية المتخلفة والقوى الأجنبية المساهمة المُمزِقة، في غنائم المرحلة الطائفية.
هذا بطبيعة الحال يعود للغش التجاري الاقتصادي، وهو حال عامة لها علاقة وثيقة بهلامية الطبقات ومحافظة الطوائف، وغياب الطبقة الوسطى والطبقة العاملة، وغياب البرامج التصنيعية، على المستويين الاقتصادي والعقلي، فيظهر نثارٌ كثيفٌ من الأفرادِ والفئات يدورُ في جاذبيةِ عالمِ الذواتِ المتضخمة على صعيد الهياكل السياسية والاقتصادية.
من هنا يتطلبُ من النتاج الفكري الثقافي السياسي تعزيز المشتركات الوطنية والدينية والإنسانية وتعميق العقلانية والمصالح العامة مع تقدير القدرات الفردية المبدعة ونتاجاتها في كل مجال بدون تضخيم أو تقزيم، بل عبر العروض والدراسات الموضوعية والجوائز غير المؤدلجة وغير المسيسة.
وفي مثل هذه الأجواء الصحية المفترضة التي تتشكل بإرادات فاعلة ولا تظهر عفوياً، تصعد الشخصياتُ الخلاقة فعلاً أما المتسلقة فتتساقط لما تسببه من مشكلات للناس وللتطور ولأنفسها.
≣الديمقراطية نمو من جهتين
مع غياب الطبقة الوسطى من مجتمعات عربية مثل العراق والبحرين وبعض أقطار الجزيرة العربية تصبح الديمقراطية صعبة أو غير ممكنة.
شكلت الطبقة الوسطى وجودها بصعوبة في بعض الدول العربية، وحتى الآن لم يعرف حجمها وتكويناتها، أي مدى حجم الرأسمال الصناعي فيها، ومستوى مؤسساتها العلمية وقدرتها على فهم الإنتاج وتطويره، حتى الآن هي في بعض الدول العربية فئات مهمة تتقارب لتصعيد أو ربما لتقزيم الرأسمال الصناعي، وهذا يعود لمستوى وعي تنظيماتها السياسية، مدى فهمها لتطور الإنتاج الصناعي- العلمي في إعادة تغيير البناء الاجتماعي الاقتصادي التقليدي بموصفات الحداثة.
تلك الدول خلقت تراكمات على مستويات عدة، في حين أن الدول في الجزيرة العربية بعيدة عن ذلك.
إن الدول لا تستطيع أن تخلق وتؤسس ديمقراطية، بل تخلقها الطبقة الوسطى الحرة، يخلقها رجالُ ونساءُ الأعمال وهم مؤسسو المصانع والشركات الذين يربحون من دخول مؤسساتهم، وبالتالي لا يخشون شيئاً سواء كانوا داخل أو خارج الحكم.
يدخلون الحكمَ لتغيير أحوال طبقتهم وزيادة ثرائها مع خدمة بقية الطبقات وزيادة أجورها وتحسين أحوالها في عملية تطوير إنتاج ضرورية لكل المواطنين.
الشفافية والعقلانية والحداثة هي جزءٌ من تكوين طبقتهم، وتغيير أشكال الإنتاج القديمة هي من مهماتهم الاقتصادية الاجتماعية.
تساعدُهم وتصارعُهم الطبقاتُ العاملة، وهذه حتى حين تشارك في الحكم تدخلُ تعديلات وتطورات على النظام الرأسمالي من موقعِ مصالحِها ومن موقع تطوير البنية الاجتماعية ككل.
وبدون هذه السياقات يَصُعب الحديث عن الديمقراطية.
ونحن في الجزيرة العربية خاصة علينا أن نقدم العتبات الأولى لظهور هذه البنية الاجتماعية.
حيث تتخفف الدولُ من تشييدِ المصانع والمؤسسات الاقتصادية التي تُصمم بطرقٍ بيروقراطيةٍ دون أشكال ديمقراطية، ودون دراية بطبيعة النظام الاقتصادي وكيفية تطوره العقلاني وقدرته على خلق تطورات إقتصادية وجذب العمال العاطلين المواطنين والشرائح المهمشة وتطوير الحرف والأعمال الشعبية.
ولا يحدث ذلك من الفضاء بل من تحرك الفئات الوسطى نحو الإنتاج والأسواق شبه المحتكرة الآن للدول، وبالتالي فإن الأجهزة الحكومية الراهنة وهي المهيمنة على الاقتصاد والحياة الاجتماعية لا تستطيع خلق ديمقراطية، يُفترض فيها وجود إقتصاديات حرة وتداول للسلطات.
الديمقراطية تخلق في قرون، ولكن هذا لا يعني عدم خلق البذور الراهنة والمقدمات الاقتصادية والسياسية والفكرية.
الهيئات الحكومية والجماعات السياسية الأهلية شمولية، تعيشُ في عالم الحرب الباردة وآثارها، وفي الرأسماليات الحكومية الشرقية وأفكارها، وهي بعد لم تقتنع في أعماقها السياسية، وفي هياكل عظامها بالديمقراطية.
أهم سمتان الديمقراطية هما العلمانية وتبادل الحكم، وهما سمتان يصعب القيام بهما في المنطقة. لكن هل نقف دون أن نتقدم نحوهما؟
تطبيق العلمانية يعني عدم إستعمال الدول والمنظمات السياسية للدين ومنتجاته في الحكم والعمل السياسي، ودون ذلك لا تتحقق الديمقراطية.
محاولات القفز والمناورات والإختراقات على ذلك بدون فائدة، لكن هذه لا تستطيع أن تفعلها الدول والجماعات الأهلية السياسية، ولا توجد فئات وسطى قوية تنشر ذلك!
≣ صعوبةُ الديمقراطية في الخليج
تغيبُ أغلبُ سماتِ الديمقراطية وجذورها الاقتصادية والسياسية في منطقة الجزيرة العربية والخليج، فتغدو المحاولات الديمقراطية بذوراً لمستقبل أكثر منها ظاهرات متجذرة في الحياة العامة.
غيابُ الطبقات الوسطى يمثلُ أكبر هذه الصعوبات، فقد التهمتْ رأسمالياتُ الدول أغلبَ الموارد، ولم تسمح بظهور طبقات وسطى في مجال الصناعة خاصة. وظهور الفئات الوسطى في مجال التجارة والخدمات يؤسسُ حراكاً مالياً أغلبهُ يصبُ في الخارج بتحرك الرساميل أو بإستخدام قوى عمالية أجنبية.
وهو أمرٌ إنعكس على إنتاج الوعي العقلاني حيث تحجم كثيراً، فظهرت فئاتُ الموظفين غير القادرة على تشكيل وعي تحليلي نقدي للظاهرات الاجتماعية والفكرية، وإتخاذ مواقف مستقلة، وإنشاء تيارات سياسية ديمقراطية.
حين نقارن الوفد بهيئة الاتحاد الوطني نرى جذوراً ترسختْ في الأول رغم البتر، لكن هيئة الاتحاد لم تترك أي شيء سوى الذكريات الوامضة، ونجد القوى السياسية الكويتية التي هي أكثر بقاءً ورسوخاً وإنتاجاً لفئاتٍ وسطى قريبة من التحرر المستقل لكنها غدتْ بدوية أو طائفية ومن خلال تكوينات محدودة كذلك، فيما الناس تعيشُ في البذخ المُضيِّع للثروة والديمقراطية.
برز التكوينان الحكومي أو المعارض الشيعي السياسي في البلدان المؤهلة لمقاربة الديمقراطية، وكلاهما متصلب في مواقفه الاقتصادية والاجتماعية، فالمواقف الحكومية لا تعترف بكلية الديمقراطية العالمية، وتريد بعض القسمات على أساس أوضاع الخليج كما تقول، وأن الدول الصغيرة في الخليج كالكويت والبحرين لا تقدران على مواجهة حراك الجماعات الشيعية السياسية مع وجود الحاضنة الإيرانية على مرمى حجر.
والإصلاح المتدرج المراعي لأوضاع الصراع في الخليج مع وجود مغامرات النظام الإيراني مهم ولكن على أن يحدث هذا الإصلاح الذي لا يعتمد على توزيع المال بل على قوانين الإنتاج، وهو أمر بعيدٌ عسير.
فندخل عبر هذا في حلقة مفرغة، فلا الجماعات الشعبية قادرة على التطور الديمقراطي ولا الأجهزة الحاكمة ترتقي بممارساتها نحو ذلك.
الجماعاتُ الشيعيةُ السياسيةُ بدورِها تشتغلُ على أوضاعِ بعض العامة المأزومة من تاريخِها الاجتماعي الخاص كقوى ريفية تخلفتْ على مدى عقود، وظهرتْ على سطح الحياة السياسية بدون صبر سياسي أو بناء ديمقراطي إصلاحي داخلي من قبل هذه الجماعات.
القوى السياسية الرسمية تحاول أن تصلح فيما هو متاح لها، لكن بأدواتِ ما قبل الديمقراطية التحديثية العلمانية التبادلية، وهي أدواتٌ لا تنتجُ ديمقراطيةً وهي التي تعتمدُ على طبقات وسطى تحديثية تخلق الاستقرار والحداثة وهي غير موجودة، فلا تستطيع هذه الأدوات المحدودة أن توجه المال العام بأشكالٍ فاعلةٍ مغيرةٍ للأوضاع وللاختلالات في البُنى الاقتصادية- الاجتماعية، وأن تعدلَ أحوال السكان بأشكالٍ جذرية تتناسب مع قوانين الاقتصاد.
في الكويت تعطي السيولةُ النقديةُ الكبيرة إمكانيةً لذلك، ولكن في غيرها لا يحدث مثل هذا الأمر. ولكن البذخَ ليس وسيلةً بعيدةَ المدى للتحول الديمقراطي فله مضارهُ الكبيرة وتغييبه للإنتاج وهو عماد تكون الطبقة الوسطى الحاضن الأكبر للديمقراطية.
إذن هنا إشكاليات التشكيلات الماقبل الرأسمالية الحرة، والتي ترفدها القبائلُ والطوائف، فتتنازعُ فيما بينها، وتغدو أشكالُ الوعي معتمدةً على الحراك الاجتماعي الطائفي، وعلى أجهزة الدول الغامضة في ميزانياتها وحراكها الاقتصادي الاجتماعي.
إذن نحن بحاجة لتطورات عميقة في كل المنطقة الخليجية –الإيرانية، بأن تتطور المجتمعات والدول لمستوى التحديث، وأن تتشكل رأسماليات حرة وتتوجه الرساميل نحو الإنتاج، وإعادة بناء القوى العمالية لمستوى العصر، وهذا لا يمنع من تكوين بوادر وقواعد للديمقراطية وتجميع القوى التحديثية والدول التي تنزعُ أرديتَها الدينية السياسية وتتحول إلى قوى سياسية وطنية محضة، وتتعاون لبناء هذه القواعد.
وفي العمل السياسي نحن بين قوى مستعجلة وبين قوى جامدة بطيئة، بين قوى تريد أن تقفز وتدخلنا في مغامرات، وبين قوى لا تريد أي تغيير، أو تغير الأشياء السطحية، والأختيار صعب، ودقيق، لكن القوى السياسية الوطنية المتصاعدة المتشكلة بشكل ديمقراطي بطيء، لا بد أن تأخذ الجوانب العامة الكلية هذه بعين الإعتبار، وتغير وتنتج الجديد ممهدة لتحولات أكبر في المستقبل.
≣ هجومٌ مشتركٌ على الغرب الديمقراطي
في العديد من الدول العربية والعالمية قامت الفئات الوسطى الصغيرة بإزاحة الطبقات الوسطى، ملاك المصانع وغيرهم، وقادت هي العملية التحولية.
سواء أكان هؤلاء ضباطاً أم أحزاباً أم حتى قوى سرية ومنظمات جديدة. ففي البحرين وجدنا هيئة الاتحاد الوطني كمنظمة توحيدية تنويرية وطنية بازغة تُضرب من جهاتٍ عدة وتُزاح عن لعبِ دورٍ توحيدي لطبقة وسطى ديمقراطية.
كان العالمُ الثالثُ أمام هجوم غربي سياسي – اقتصادي نهم للثروات والأسواق، وطبقاته الاجتماعية غير متبلورة وفيها تداخل شديد.
ففي الكثير من هذه الدول قادتْ فئاتٌ من البرجوازية الصغيرة التغييرَ السياسي الاجتماعي، عبر نشوء القطاعات العامة التي كان فيها قطاع الثقافة يلعبُ دوراً كبيراً في نشر القيم العقلانية والوطنية، فكان قطاعُ الثقافةِ المصري على سبيل المثال يكادُ أن يكون مختلفاً عن الفساد الجاري في القطاع العام، رغم أنه لم يفلت من خيوطه الممسكة به. لقد كانت الإبداعاتُ للمؤلفين والمسرحيات المعروضة وسلاسل كتب الموسوعية والمترجمة تضخُ ثقافةً إنسانية رفيعة، وعبر هذه الثقافة التحديثية المرتكزة على نضالِ الغربِ الديمقراطي أمكن للدول العسكرية البيروقراطية أن تبقى وأن تظهرَ بشكلٍ حداثي، ولم يكن الاتحاد السوفيتي كقوةِ التغيير العالمية الجبارة في ذلك الحين سوى ارتكاز على أهم نظرة تحديثية مُنتجة غربياً في العالم المعاصر وهي الماركسية، وصارت أداةً له لكي يشق طريقَهُ نحو التصنيع والتحديث، لكن من خلال بيروقراطيتهِ الشموليةِ التي سوّستْ تلك الفكرة، لكن الاتحاد السوفيتي لعبَ دوراً كبيراً في نشر الثقافة الإنسانية الديمقراطية كالأدب الروسي وكلاسيكيات الماركسية والآثار الغربية الديمقراطية عامة.
لكن العديد من الأنظمة العربية الشمولية العسكرية والتقليدية في عمليات تحللها الداخلي، وتفاقم الفساد فيها، إضافة لدور الغرب الاستعماري، وجدتْ في ثقافةِ التخلف الدينية والرجوع البائس التبعي للوراء مادةً يمكنُ بها فرملةَ اندفاع الجمهور للمزيد من الإصلاحات في أوضاعهِ المعيشية ورغبته في المزيد من التغييرات ولعرقلة فهمه لثقافة الغرب الديمقراطية التي تلهبُ ظهرَ كراسيها. كما أن انتقالَ مركز الثروة من مصر وسوريا إلى الجزيرة العربية والعراق وإيران، وضعَ حداً لتنامي ثقافة التنوير والديمقراطية والتوحيد. وهنا تداخلتْ الثقافةُ الصحراوية الرافضة للآخر مع الفاشياتِ المنوعة القومية سواءً أكانت من مصدر عربي أم فارسي أم كردي أم تركي.
فقامت القوى الدينيةُ المسيَّسةُ الجديدة بنشرِ أفكار التفكك بين المواطنين في كل بلد، وإلغاء نموذج الحداثة الغربي الديمقراطي متضافرةً مع العسكر في المنطقة والسوفيت والدول المحافظة، كل من موقعهِ، ونجحتْ إلى حدٍ كبير في ذلك، خاصة في زمن السبعينيات التي غدتْ فترة الخصب الثقافي الطائفي المؤسِّس لكل الجراثيم الفياضة، عبر وسائل اجتماعية وتقنية جديدة. وكان الهجومُ على الحرم المكي وحرب إفغانستان البشائر السوداء للمرحلة التالية.
لقد جرت في هذه الثقافة عملياتُ الإعادة إلى الماضي، والتركيز في عهد السلف والصحابة، بغرض رفع تلك العباءة المقدسة والمشي بها نحو عقول المواطنين والاستيلاء عليها واستثمارها في العمليات السياسية والاقتصادية والثقافية، لكن هذه العباءة صارتْ عدة عباءات، فاستعيدت عملياتُ الصراع بين الصحابة والسلف والحروب التي جرت بينهم والاختلافات المفككة لوحدة المسلمين وتمت العودة بلغة عامية سطحية تمثل انهيار الوعي الراهن، ولم تتم دراسة من خلال أدوات موضوعية تنويرية توحيدية. فوجدنا في نهايات هذه العودة المتدحرجة أشكالاً من الكاريكاتير سواء عبر استعادة الديكورات الملابسية والمسرحية للزمن المقدس، والنصوصية الجامدة المُنتزعة من اهرام من الكتب والحيثيات، أو عبر استعادة الشقاقات، إلى أن وصلنا إلى مستنقعات الشتائم والاستهانة ببعض الرموز التاريخية المؤسِّسة للتحديث العربي الإسلامي، وكذلك تحقير الأمم والشعوب الإسلامية بعضها لبعض، وغير هذا كثير متلاطم فوق الرؤوس، وهذه الثقافة الرديئة كلها قامت بعزل الأمم الإسلامية عن تيارات الحداثة والديمقراطية والعدل الاجتماعي الغربية المؤسِّسة للنهضة الديمقراطية العالمية. فاستعيدت أنظمةٌ وحركات استبدادية دموية، فارقتها الإنسانية، لكنها مشت فوق الأجساد العربية بالحديد والنوكانت الحكومات تواجه مشروعات التغيير على أساس عامٍ عامي، سواء بالعودة إليها كما جرى ذلك في مصر بعد قرارات تفكيك القطاع العام وبيعه، أو بسبب القمع الشديد للقوى السياسية التحديثية فلم تجد الشعوب سوى المراكز الدينية تلوذُ بها، وقامت عناصرُ اليسارِ الانتهازي بالترويج لهذا التضليل والتراجع عن البوصلات النظرية وتأييد بعض الأنظمة الدكتاتورية العربية والعالمية.
كانت هذه المراكز موجودة من قبل وربما كثرت عمليات إنشائها، لكن الجديد هو التسييس وتحويل المراكز العبادية لقوى تجمع حزبية ودمجها بقطاعات جماهيرية مأزومة في معيشتها وتجثم عند مستويات أمية أو شعارية سياسية محدودة الرؤية لتعقيد التاريخ والواقع، وتوصيل ثقافة التخريف والعداء واللاعقلانية لها.
كانت النظراتُ الأساسيةُ للقوى السياسيةِ الاجتماعيةِ في بعضِ الدولِ من العالم الثالث هي اعتمادُ النظرات الجزئية والذاتية وفصلها عن مساراتِ التاريخ العميقة وغياب اكتشاف قوانينه، فالغربُ في هذه النظرات كائنٌ شريرٌ استعماري، يجب النأي عنه. هذه النظراتُ تجسدتْ لدى الجماعات الدينية المتطرفة واليسارية المتطرفة كذلك، وأُلغيتْ النظراتُ المحللةُ لمساراتِ الغرب ورؤية تناقضاته، واستثمرتْ ممارساتُ الدولِ الغربية المضادةِ للمضامين الديمقراطية للغربِ نفسه، التي كانت تلك الممارسات مزدهرة بظلم الشعوب والتغلغل في حياتها ورفض استقلالها، فلم يكن ثمة فصل بين طبقات مهيمِنة وطبقات مُهيمَن عليها، حيث يسقط الشرقي الشمولي عادةً استبداديته ونظرته الثابتة اللاتاريخية على القوى المغايرة له.
إن النظرات التجزيئية للقوى الشرقية السائدة متقاربة حيث تقوم الذاتُ الشرقيةُ وهي ممثلةُ الأنظمة المطلقة والدينية و(الاشتراكية) الاستبدادية بطرح نفسها كأساسٍ للتاريخِ والوجود الإنساني، فهي بدؤه ونهايته، أما الغرب وديمقراطيته وإعادة تغييره للوجود البشري المعتم فهو خللٌ في التاريخ، وكانت كلٌ من هذه الأنظمة والرؤى يرى نفسَهُ بؤرةَ الكونِ وأساسَ المصيرِ القادم، وعبر أدوات وعيها، سواء بكون الدين الفلاني هو أساسُ البشريةِ ونهاية مطافها الفكري الاجتماعي، أم بكون الاشتراكية – الرأسمالية الحكومية التي فرضتها هي الموصلةُ لتوحيد الإنسانية وإلغاء كل أمراضها بشكل تام، واعتبار الغرب الديمقراطي هو مجردُ كابوسٍ آني.
إنها لا تأخذُ الدينَ أو الاشتراكيةَ أو القوميةَ في تعبيراتِها عن الشعوبِ ونضالها المتدرجِ المرحلي، في ظروفٍ مختلفة متحولة، فهي لا تعترفُ بسيرورةِ التاريخ، ولا بتباينِ المصالحِ فيه، ومن ثم تسقطُ ذواتَها الشموليةَ على نفسِها وعلى القوى الأخرى.
ومن هنا فإن المذهبَ الفكري أو الديني يغدو سيطرةً مفروضة على الآخرين، ويقوم برؤية كل شيء في الوجود من خلال هذه الثقوب الصغيرة وفرضها، ويتحول ذلك في ميادين السياسة والاقتصاد والثقافة إلى بناءاتٍ ثم كوارث.
وإذا كان التصدي لعمليات التدخل والنهب الغربية ضرورياً، فإن رؤيةِ النضال الغربي الديمقراطي عبر عشرة قرون ضرورة أخرى مهمة، لعدم الانتقال للتعصب والتقوقع، ولرؤية ما هو إيجابي مفيد للتطور الإنساني عامة.
ولهذا فقد حُوصرت الجوانب التقدمية لتطور الغرب، ورُؤيته كثقافةٍ منتهية، وكانت الهجماتُ ضد ثقافة الغرب الديمقراطية المتنامية عبر قرون صراعية، تتوجهُ لضرب النسبية التعددية والرؤية غير المركزية للوجود فيها، أي تتوجه لنفي التعددية والديمقراطية وتداولية السلطة والقراءة الموضوعية للعالم وهي الانجازات التي غدت كونية، فتقوم النظراتُ الشرقية الشمولية برفض وجود هذه السمات في الغرب، وأن الغرب كتلة واحدة استبدادية استعمارية لا يوجد فيها ديمقراطية أو تداولية مزعومة للسلطة. وبطبيعة الحال تجد هذه النظرات أمثلة ومواد كثيرة من حياة الغرب، لكن هذه المواد تُؤخذُ بأشكالٍ ذاتية، ومقطوعةٍ عن السياق التاريخي، وتَركزُ في عرضِ ممارسات أجهزة مخابراتية وسياسات دول غزت دول العالم ونهبت ثرواته، وهو أمرٌ صحيح ولكن ليس هذا كل الغرب وهذا الاستعمارُ مسارٌ موضوعي فرضتهُ الرأسمالية المتكونة من بعض دول الغرب وكتشكيلةٍ جديدة للبشرية عامة، وهي توحيدية، ومفيدة في جوانب وضرورية في تاريخ ما، وتصبح عقبة وكوارث في تاريخ آخر!
وتتفق على غيابِ التأصيل والتأريخِ النظراتُ السياسيةُ للدينيين المحافظين والماركسيين السطحيين على حدٍ سواء، وفي مقابل التوحيدية الإجبارية التي يفرضُها الاقتصادُ الحديث وعملياتُه الموضوعية التي هي ليست مؤامرة بل مساراً مشتركاً للبشرية، تجري وتتكرس ومن ثم تتجمد عملياتُ التقوقع القومية، التي لها هي الأخرى أسبابُها وضرورياتها، ولكنها تُوضع في مساراتٍ أبدية، وهي أمورٌ تهدف لجعل السلطات والثقافات الشمولية ذات وجود غيبي مطلق أو دنيوي أبدي، ولكن المرحلية وتكشف التناقضات ثم انفجارها داخل هذه الأنظمة يظهر عبر التاريخ نفسه غير المعترف بمرحليته وسيرورته الدائمة، فنجد ان العودة إلى الجذور ورفض العصر يتحولان إلى إرهاب وسيول دماء، والاشتراكية المطلقة تغدو رأسمالية حكومية مفيدة ومتجاوزة، والمذهبُ النقي الطارد للأفكار الدخيلة يمرضُ ويحيلُ المجتمع إلى صراعات فوضوية، أو يعترف بنسبيته ويأخذ من التطور الديمقراطي الغربي بأشكالٍ تجريبية تقود لأزمة وأضرار فادحة، والدولة الألفية الموعودة تنفجرُ بعد بضعة عقود قليلة، ولكن هذا كله يظهرُ بسلسلةٍ من الصراعات الرهيبة وأحياناً بالحروب الضارية، كما تظهر له نتائج وخيمة على الشعوب وضياع لكثير بشرها ومن مواردها فيما تتعرض ثقافتها للانهيار والمسوخ فتجلبُ ما هو ضار ومشوه وأسود من ثقافة الغرب، وتنشرهُ بين شعوبها، بعد أن حَرنتْ عقوداً طويلة تقف ضد ثقافة الغرب الديمقراطية العقلانية.
≣ الجيوشُ وتعزيزُ الديمقراطية
الجيوشُ تشكلتْ في تواريخِ الأمم بوظيفة الدفاع عن الأرض، وتخصصتْ الشرطة في قضايا الأمن ومجابهة الصراعات الداخلية.
وحين إنقلبت الأمورُ وقامت الجيوشُ بالتدخل في الصراعات السياسية الداخلية، جاءَ ذلك في سياق عجز القوى الاجتماعية والسياسية عن بلورةِ نظامٍ إجتماعي متحضر ديمقراطي، فيقوم الجيشُ بدورٍ ليس هو دوره، ويخطفُ السلطةَ من القوى السياسية، لكنه يعجز على المدى الطويل عن الاحتفاظ بالسلطة.
إن حالاتَ العالم النامي الاجتماعية السائلة وعدم وجود قوى إجتماعية متقدمة ديمقراطية تحفزُ الجيوشَ للعبِ هذا الدور المغامر الخطر، وأحياناً تلعبه بعضُ الجيوشِ بحنكة وحكمة، حين تقيمُ نظاماً ديمقراطياً علمانياً كما فعلت تركيا، رغم المشكلات والخسائر التي حدثتْ بسببِ طابع وعي العسكريين المحدود بالثقافة الإسلامية والبُنى الاجتماعية الإقطاعية الشرقية.
لكنهم منعوا الأغنياءَ من تشكيلِ رأسمالية حكومية إحتكارية، ومهدوا للبرجوازية الخاصةِ أن تنمو وتكتسبَ السلطةَ في نظامٍ ديمقراطي تعددي أزدهرَ بشكلٍ عقلاني جيد في آسيا المليئة بالأنظمةِ الدكتاتورية وبقايا العصور القديمة.
في حين أن الجيوش العربية المتدخلة والمستولية على السلطات خلال العقود المريرة السابقة، لم تقمْ بمثل هذه الوظيفة الريادية بسببِ تكريسِها للدكتاتورياتِ الحكومية نصف الحديثة– نصف الدينية، وتشكيل الأبنية بهذه المواصفات يقود لعدم صعود طبقة وسطى حرة، وطبقة عاملة ديمقراطية، ويؤزمُ الأريافَ ويبقيها كمجمعاتٍ للتخلفِ وللقوى الطائفية المغامرة.
إن تشكيل دولة ديمقراطية علمانية يحفظُ الجيوشَ من تغلغلِ النزعاتِ الدينية والوطنية الخطرة من بين صفوفها، فيبعدها عن التسييس الاستغلالي للفئات الوسطى الصغيرة، مركزِ إنتاجِ الأفكار الطائفية واليسارية المغامرة والقومية الخطرة، ويجعل القوى الاجتماعية تتبادلُ الحكمَ وتقاوم الفساد في الأجهزة الحكومية وتطورُ الاقتصادَ، رغم أن ذلك يعتمد على مستوى تطور القوى المنتجة لأي بلد وتطور العلاقات الاجتماعية ومدى مقاربة الشعب للثقافة الحديثة الديمقراطية، فأسبانيا الإقطاعيةُ في عهدِ الدكتاتور فرانكو السائرة بشكل ديني تعصبي تخلفتْ عن التطورِ الغربي العام حقبةً مريرةً رغم أسبقيتها في النهضةِ والغزو الاستعماري ومراكمة الثروات من نهب البلدان، وها هي تدفعُ ثمنَ هذا السير البطيء نحو الرأسمالية التحديثية العلمانية عبر تأزم الاقتصاد واللجؤ للمعونات، وقسْ بأن تطورَ أسبانيا الراهن أفضلُ من تطورِ كل الدول العربية الراهنة مجتمعةً.
ولهذا فإن الجيوشَ العربية الراهنة الداخلة في النزاعات السياسية الاجتماعية، يجب أن تأخذ هذه التجارب بعين الإعتبار. وبأن لا تغدو قوة هيمنة وبقاء في السلطة، وأن تتجاوز(الديمقراطية) الهزيلة الدينية الاجتماعية، فذلك بابٌ واسعٌ لعودةِ القوى المضادة للثورة، وأن تبعدَ الدولةَ والحكم عن الأديان وصراعاتها والمذاهب وخلافاتها، وتغدو قوةً مستقلة، تشكلُ دولةَ المواطنين المتساوين أمام القانون.
إن رسوخ هذا المنحى سوف يجعل أي قوة إجتماعية لديها برنامج للتغيير الاقتصادي الاجتماعي الفعال تستلم الحكم عبر الانتخابات، وتقوم بتنفيذ هذا البرنامج والمواطنون يحكمون على إدائها بعد عدة سنوات محددة، وهكذا فإن القوى الاجتماعية المختلفة تأخذُ نصيبَها من الحكم والمعارضة والنقد والتغيير، فالفاشلُ يخرجُ من السلطة، والفاسدُ يتم عقابه، ولا يكون للجيوش من دور سوى الدفاع عن الوطن ومنع العودة للدكتاتورية.
في حين نرى الدول الدكتاتورية العنيفة كاليمن وليبيا وسوريا تدفع ثمناً باهظاً من أرواح شبابها الذين يتساقطون كأوراق الشجر، بسبب طغم عسكرية خربت الجيوشَ الوطنية وحولتها إلى مليشيات حزبية، وسرايا دفاع عن لصوص سرقوا المال العام، أو شرطة عسكرية قمعية واسعة، وهذا كله بسبب عدم حسم مسائل التطور السياسي، كتغييب الديمقراطية والعلمانية في الحياة السياسية وعدم إبعاد الجيوش عن السياسة الداخلية الصراعية.
≣ الديمقراطية عملية مركبة
الديمقراطية عملية مركبة معقدة في تاريخ الشرق بل وفي العالم كله، ولكن منطقتنا إختصت بتعقيد طويل للظاهرة حتى بلغت مجموعة من القرون.
حين جاء السيد محمد علي الطباطبائي إلى طهران سنة 1894 ألح على إقامة دستور وتأليف مجلس شورى شعبي، ويقول(كنتُ أذكر هذين الأمرين على المنبر، وكان الشاه ناصر الدين يشتكي مني، ويبعث لي بالرسائل التي تقول بأن إيران غير مستعدة للدستور لحد الآن. لقد كنتُ مبتلي به طالما كان حياً حتى ذهب).
صراع المشروطية أي الدستورية ضد الاستبداد طويل، فكم مرتْ من عقودٍ من بداية القرن التاسع عشر لحد الآن دون أن تتكامل المشروطية التي تجعل الحكمُ المستبد مقيداً؟!
ظهر البرلمان الأول في إيران سنة 1906 وأُزيل بعد سنتين وعادت الحياة صراعاً بين الشمولية والنزعة الدستورية تتقلب عبر العقود دون أن تصل لبر الأمان حتى الآن!
تقوم الحركات الديمقراطية في الشرق عموماً على النخب الصغيرة المحاطة ببحرٍ من التخلف والاستبداد في الطبقات المختلفة، وبين الرجال والنساء، وفي الدين والثقافة، فحين جاء السيد محمد علي الطباطبائي كم كان معه من دعاة الديمقراطية؟ بضع أشخاص، وضده حشود من رجال الدين والقبائل والأسر المتنفذة، وحياة إجتماعية يسودُها الاستبداد، فالشعب ذاته لا يعرف ما هي الحرية وما هي ثقافة الحرية، والرجال مستبدون بالنساء، والنساء يستبددن بالأطفال، والمثقفون إنتهازيون، يعملون مع الدول بوضاعة حتى إذا سمعوا إنفجارات الحرية يطلقها مضحون قلة ورأوا بوادر نصرها وإنتشار وظائفها إندفعوا نحوها عساهم يحصلون على مغانم منها. فإذا إنهارت وجاء حاكمٌ جديدٌ غيرُ الذي قَبل بها، ولم تعجبه هذه(المشروطية) وأقامَ إنقلاباً عبر فرقة أجنبية من الروس قطعتْ رؤوسَ الثوريين وعاد المثقفون للحظائر ولعلع صوتُ الشيخ فضل الله نوري صارخاً:
(إن أصلي المساواة والحرية مخربان لركن القانون الإلهي القويم. إذ أن الإسلامَ يقومُ على العبودية على الحرية. وأحكامهُ ترتكزُ على تفريق النقائض وجمعها لا على المساواة. فما تؤدي إليه المساواةُ هو أن تُحترمَ الفرقةُ الضالة والطائفةُ الإمامية على نهرٍ واحد)!
يقوم المتنورون والحكامُ الطليعيون ودعاةُ التقدم في الشرق بالعمل لنشر الديمقراطية أو الإستجابة لدواعيها لأسبابٍ مختلفة، لكن عبر شروط ذاتية مثل كتابة دساتير كما فعل السيد الطباطبائي وعمل نخبة تروج للدعوة، وإنتهاز مناسبات سياسية وإجتماعية لإطلاق الدعوة والتأثير على الأوضاع وإقناع الحكام على القبول بها، فيتحول المجلس أو البرلمان لجسم سياسي محنط أو جامد غير قادر على الفعل، أو يتمكن من تأدية دوره وسن القوانين لكن السلطات تنقلب عليه.
فليس ثمة شروط موضوعية كبيرة لكي يلعب هذا البرلمان دوره، فالشعبُ أساسُ الحكمِ الديمقراطي متخلف، والديمقراطية هي حكم الشعب؟!
الشعب ليس في مستوى الديمقراطية، فلا يصطف بالطوابير بنفسه، ولا يقرأ برامج المرشحين، ولا يعرفها أو يناقشها إذا تمكن من قراءتها أصلاً.
فيأتي أناسٌ هم الذي يَجلبون الشعب للتصويت، بالخداع أو بالشراء، أو بالدعوة الدينيةِ المُلزمة، وهؤلاء المندوبون من سلطاتٍ دكتاتوريةٍ دينية وسياسية عرفية وإجتماعية ليسوا ديمقراطيين بالضرورة، وليس مطلوباً منهم أن يكونوا حتى مثقفين!
وهنا لن تتصارع قوى ديمقراطية متنافسة بجدارة لفهم أحوال الشعب، ولن تقوم بدرسِ أحوال الشعب لكي تصل لمشكلاته وجذورها وتقدم الحلول وتكسب الأصوات داخل البرلمان من أجل حل مشكلات الشعب!
شعبٌ ليس ذا علاقة بالديمقراطية لا ينتجُ ديمقراطية.
بطبيعة الحال هذا يتطلبُ شعباً على علاقةٍ وطيدة بفهم السياسة وفهم البرامج والأحزاب ويافطاتها الحقيقية والمزيفة وبغياب مثل هذا الشعب فهو يسمح للمستبدين والانتهازيين أن يقطفوا ثمار تعبه من مال وزمن تاريخي، فالديمقراطية هي بلا وكلاء ومقاولي أنفار وباصات تشحن الناس مثل البهائم.
نتائج مثل هذه الوكالة تقعُ على رؤوسِ الشعب نفسه، حين تشتغلُ النخبُ بالتلاعب بمصيره، إنقلاباً وحروباً وفساداً سياسياً طويلاً يقود لليأس من الديمقراطية وحب الدكتاتورية!
كذلك فإن الشعوبَ ليست في حالات مجردة، فبدون الطبقات الحديثة من طبقة وسطى ذات مشروع ديمقراطي تحديثي أو طبقة عاملة ديمقراطية، لا يمكن للشعب أن يكون شعباً حديثاً، يصنع مؤسسات تتصارع بشكل سلمي لتحديد ثمار الاقتصاد كيف تتجه، والفوائض المالية من تخدم من طبقات المجتمع وأية مشروعات تحظى بالأولوية؟
الديمقراطية لعبة سياسية متحضرة، لأجل سلطة قابلة للمداولة، لقوى تعلن هزيمتها بقوة حين تفشل مشروعاتها، وتعددُ هي أخطاءها قبل غيرها، لا تتعكز على عكاكيز المال والدين والخداع، وليست هي لعبة بين قوى دكتاتورية يريد كل منها أن ينقض على الآخر حين تأتيه الفرصة!
≣ الحياةُ الديمقراطيةُ متكاملة
تتصاعد إرادةُ الأمةِ العربية نافضةً أنظمةً شمولية، أدتْ دورها بوضع بعض قواعد النهضة والصناعة والثقافة الحديثة، متجهة نحو أنظمة ديمقراطية لم تزلْ بعدُ غير متضحة، وغير متبلورة، فلم تزلْ الأنظمةُ الدينية والحركاتُ الدينية تلعبُ دوراً معرقلاً لنمو الأمة العربية وشعوبها المتعددة الحرة، عبر تقسيمها، وعبر صيرورتها ذيليةً لإيران وولاية الفقيه الخطرة على شعوب إيران والخليج والجزيرة العربية والعراق بشكل خاص.
بدأت العديدُ من الشعوب العربية بتجديدِ أنظمتِها متوجهةً لتحجيم المذهبية السياسية المزقة للشعوب، وهي الشعوب العربية المبتعدة جغرافياً وسياسياً عن التأثير الإيراني الدكتاتوري الخطر، فتمكنت بهذا من تحجيمِ الأنظمة الشمولية التي أهدرتْ قسماً كبيراً من الثروة الوطنية، وبدأت الآن في بحث سبل تطوير واقعها.
الحياة الديمقراطية متكاملة فلا يمكن القبول بجماعات سياسية دينية دكتاتورية تقودُ حراكاً ديمقراطياً، إنها تعتقلُ النساءَ وتؤخر الفلاحين وتضعُ القيودَ على الحريات وعلى بحث العقول وتجمد الطوائف في زنزانات من العداء.
إن العديد من الشعوب تجاوزت ذلك لرفضِها المذهبية السياسية وهيمنتها، وابتعدتْ عن العداء الديني بين المسلمين والمسيحيين، وحتى بين الأشكال المتفاوتة من التطور الاجتماعي والقوميات المتباينة، كالعرب والأمازيغ، واندمجتْ في حراكٍ وطني هو مقارب بعض الشيء للديمقراطية العلمانية الحديثة، فحققتْ وحداتها وعزلت القوى الصغيرة الحاكمة الاستغلالية.
إن عدم مقاربة ذلك يعني بقاء المذاهب والقوميات في تناحرات لا تخلق حراكاً ديمقراطياً، بل تقود إلى تشظي المكونات الشعبية وصراعاتها وبدلاً من أن تقود الحملات من أجل الديمقراطية إلى التطور تعيد البلدان إلى التفتت والحروب الأهلية والتخلف والشموليات المختلفة.
على أهل المشرق العربي أن يكونوا عرباً بشكلٍ أساسي، أن تكون وحدتهم صوانية قوية راسخة، وأن تقبل القوميات الداخلة في نسيجهم كالأكراد بإحترام بلدانهم وقوميتهم الكبرى في هذه المنطقة الممتدة من الخليج إلى المحيط، دون جور على المكونات غير العربية، وعدم الاضطهاد لها.
إن الجماعات المذهبية السياسية يجب أن تخرج من قواقعها وتغدو عربيةً بدرجة أساسية، فالمذاهب ليست للسياسة، سواءً ذلك على مستوى الحكام أو المحكومين.
إن معركة الديمقراطية والعروبة وهزيمة المذهبية الشمولية والتعبير عن الأغلبية الشعبية وتطورها، هي جوانبٌ متكاملة، ولا يمكن القبولُ بجزءٍ وترك الأجزاء الأخرى، وإذا قامتْ كلُ الأطراف السياسية بمواكبة ذلك وحفره في جماهيرها فيكون أثره مهماً وقوياً على مختلف البلدان العربية والإسلامية، وبالتالي فإن تطوراً ديمقراطياً مشتركاً يمكن أن يعم.
إن الشعوب العربية الرائدة في النضال الديمقراطي يمكنها بالحفاظ على هذه القسمات المحورية الأساسية أن تنشر هذه الأشكال العصرية المتقدمة في الشعوب الأخرى، كما يمكن للشعوب الإسلامية أن تواكب ذلك، وتتجاوز أنظمتها.
إن النظام الإيراني الراهن يلعب دوراً خطيراً في عرقلة تطور الشعوب العربية لعجزه عن إعطاء الشعوب الإيرانية حقوقها، والقبول بالديمقراطية الحديثة، وفرض سيطرة رجال دين متخلفين عن العصر وحاجات المسلمين الضرورية، ولا تستطيع الطوائفُ التي تسايرُ هذا النظامَ أن تكون ديمقراطيةً أو أن تناضلَ من أجل الديمقراطية، دون القطع الفكري معه، ونقده وتعريته، وأي قصور في معركة النقد والاستقلال هذه لها آثار سلبية على شعوبها.
إن شعوبَ الجزيرة العربية والخليج والعراق سوف تنتظرُ كذلك المعارك الاجتماعية داخل إيران بصبر، وسوف تنتقلُ إليها الثمارُ الديمقراطية المتكونة بقوة في بعض الشعوب العربية ولا شك فالشعب الإيراني ليس قاصراً أو جامداً بل هو في حراك مستمر خلاق، ونرجو أن يتم ذلك بشكل عقلاني سلمي، لكي تتخلص شعوب المسلمين جميعاً من هذا النظام العسكري المغامر الخطر ونسخه، أي من هذه العقبة الكبيرة لتطور المسلمين التحديثي الديمقراطي التوحيدي الكبير.
إن مصائرَ الأمم الإسلامية متداخلة، وتنامي السمات الإيجابية عند شعوب ستنتقل إلى شعوب أخرى، عبر أشكال متفاوتة، وزمنية مختلفة.
≣ العروبة الديمقراطية
تجتاحُ الجزيرةُ العربية وخاصة قلبها النجدي الصخري عاصفةٌ التيارات والتحولات ، فأطرافُ الجزيرةِ لعقودٍ سبقتْ واجهت مثل هذه العواصف، وهدأتها وأمتصتْ بعضاً منها.
وجرى ذلك خاصة في المدن الصغيرة – البلدان، لكنها بعد لم تهضمها كليةً، بل أن رياح الهضاب تهبُ قويةً مدمدمة.
وقد تحولتْ قوى الداخل خلال القرنين الأخيرين ولعبت الهجرات البدوية إلى المدن دورها في الإستقبال العربي الداخلي لمورثات الحداثة.
لكن عواصف التغيير غدت عالمية ولم يعد من الممكن السكون.
لقد أقيمتْ الأفكارُ الدينيةُ على علاقةِ الإلهِ الملموس المتحول مع الكون الطيع الذي هو مادةٌ هشةٌ متحولةٌ بيد الإله المتدخل في كل شيء والمسيطر على الزمان والمكان.
هذه هي الصورةُ الكليةُ المبثوثة في النصوص الدينية، وثمة صور أخرى وإستثنائية جعلتْ من الإله نائياً غير محدد، ومهيمناً من خلال خيوط.
هاتان الصورتان الكبريان تبثان من خلال مواد أرضية محضة؛ كألفاظ الأشياء والمواد.
وخلالهما يدورُ الفعلُ الإنساني بين أن يصنع الحياة السياسية والاجتماعية وبين أن تصنعه السماء.
وتعبر صورُ الدين عن صراعات الحياة السياسية الاجتماعية، وطبيعة تكون الحكام، هل هم ديمقراطيون أم مستبدون؟
وكان الإسلامُ التأسيسي في عملية النضال التحولي بين هذين القطبين، وفي إنتاج العلاقة الديمقراطية بين الإله والبشر، وبين الحاكم والناس أشاع صور إنسانية للحاكم والعلاقة مع المحكومين. وكان لا بد كذلك من سيادة مركزية وحاكم واحد مسيطر ومراعاة (الشعب) في احواله وتطوراته.
في نمو الأمةِ العربية داخلَ الأممِ الإسلامية قائدةً لها، وقعَ هذا التناقض غير المحلول، بين إرادةِ الهيمنة الحكومية وحقوق الشعوب. وكانت تلك الإرادة هي المسيطرة، بينما ضاعتْ حقوقُ الناس وذابت إراداتُهم النضالية الديمقراطية.
ولم تستطع الفئاتُ الوسطى إنتاجَ مفاهيم ديمقراطية واسعة منتشرة ومؤسساتها السياسية بل تبعت القوى السائدة وأهم ما لديها هو العنف وإستبدال حاكم مهيمن كلي بآخر. ولهذا لم تستطع أن توسعَ الثقافةَ الديمقراطية وفهمها للنصوص الدينية وللعلاقات الاجتماعية بين الحاكم والمحكوم، بين الأمةِ العربيةِ المسيطرة والأمم التابعة لها، بين هيمنة الخراج وغياب الاهتمام بالأحوال العامة، بين العلوم كمكتشفةٍ للسببيات الطبيعية والاجتماعية، وبين الإنتشار المتواصل للخرافات.
ومن هنا فقدتْ الأمةُ العربية هيمنتَها وقيادتها على الأمم الإسلامية ثم راحتْ تتفتت إلى دويلاتٍ أصغر فأصغر. وإذا تمت الاستعادات الحديثة شبه العقلانية في الدول المركزية العربية بعضي الشيء فإن ذلك تأخر في الجزيرة العربية.
لهذا فإن الإسقاطات المباشرة للعلوم على النصوص الدينية، خاصة في مناطق التفتح الأولي والمناطق الريفية والصحراوية الواسعة، تغدو حادة ومفجرة لصراعات مخيفة.
وتحتاج الأمة إلى إنهمار هذه العلوم بشكل واسع، وهي تحمل مفرداتها الفكرية كمفردة الكون المتمدد اللانهائي فأين منه تعبير السماوات السبع؟ وآلاف المصطلحات الأخرى التي تنهمر على الطلبة والمثقفين والعامة عموماً.
وهناك حل سهل يتلخص في رفض كل مفردات ومصطلحات العلوم والمدارس الفلسفية المنبثقة منها والأكتفاء بما جاء لدى الأقدمين، لكن ثمة رجال دين علماء نادرين يبحثون ويؤسسون مشاركة الأمم الإسلامية في الحداثة.
علينا في هذه الموجة العصرية الكاسحة المزواجة بين التحولات على الصعيد الاقتصادي الاجتماعي، وعلى الصعيد الثقافي المعرفي.
≣جذور الديمقراطية الضعيفة
إن صناعة الديمقراطية ترتبط بصناعات الفئات الوسطى، بمدى تطورِ حرفِها في الأزمنة القديمة وإتصالها بالفلسفة والأفكار العقلية، كما بدا ذلك في ديمقراطية اليونان ثم في اللمحةِ السريعة في مدنية الإسلام المُحاصرة بالبداوة ثم بالإقطاع.
مثلما كان زمنُ المسيحية الأول قبل أن تتحكم الأمبراطورية الرومانية في تكييف المسيحية لمصالح الحاكمين فيها.
ورغم هذا لا يمكن إنكار المنجزات الحضارية في تلك الأزمنة المذهبية، والتي نتجتْ من إشتغالِ الفئاتِ الوسطى بتطوير العلوم والآداب والفلسفة، لكنها لم تعتمدْ المضمونَ الجوهري لعهودِ النضال المؤسسة رغم زخم المعرفة فيها، من حيث التعبير عن الأغلبية، والدفاع عن المنتجين، وحدث هذا كان في بدايات الفرق الإسلامية خاصةً لكن التطورَ موقفٌ لا تراكم معلومات، ولأجل ذلك توجه العالمُ الإسلامي نحو التفتت والتخلف والتبعية فيما بعد، فيما كان إسراع المسيحية للعصور الوسطى أسرع وأشد.
كانت مقاربةُ الفئاتِ الوسطى للحرفِ والفلسفات العقلية والعاملين هي جوانبٌ مشتركة، فبدون تطوير الحرف ما كان لصناعاتها أن تظهرَ ولتجارتها أن تزدهر، وهذه كلها عواملٌ فعالةٌ في نشؤ الفلسفات العقلية الباحثة عن السببياتِ في الأوضاع الاجتماعية وفي التاريخ، ويبقى إرتباطُ الأديانِ بالجوانب الغيبية والسحرية محل إفتراق حيث تبقى هذه عند العامة، ويعود لمحدودية مواقف الفئات الوسطى ورغبتها في الأرباح الشخصية لا في تغيير المجتمع وهذا ينعكس على تدهور الحرف وضعف التعليم والاستهانة بالكادحين فتتحطم تلك الفئات التي ظنت الحياة معها والنقود كثيرة وتنهمر فوقها.
الحياةُ السياسيةُ والاجتماعية العربية واصلتْ سياقَ عصور الأمبراطوريات والدويلات المذهبية المعبرة عن الأقليات، التي يسود فيها التعصب الشكلاني للدين، بمعنى أنها تتعمد التركيز على الأشكال والتعصب العبادي وفقه الجزئيات وتقديس الرموز الشخصية وخلق التعصب المذهبي، بهدفِ الهروبِ من حكم الأغلبيةِ الشعبية وجمهور العمل والإنتاج.
ودخلت المسيحية في عبادة الإيقونات والصور تعبيراً عن إنفراط المضمون المسيحي التضحوي في البداية الشعبية.
وتحلُ الأشكالُ والعباداتُ والأشياء بديلاً عن الكفاح من أجل الإنسان، وعن التلاقي الجماعي بين الناس ضد الشر وإضطهاد البشر.
وكل مذهب يركز على رموزه المنفصلة عن معركة تغيير الحياة، لأن الجميع يبحث عن النقود التي لا تأتي من تطور الإنتاج.
نلاحظُ في فسيفساءِ الأديانِ المبتعدة عن الجوهر من النضال، التضادَ الكبيرَ مع التوحيد، وعدم تطويره ليشمل كافة المواطنين الداخلين في مواطنة الدول الإسلامية، بمختلف توجهاتهم وأديانهم، ويعبر حكم الإقليات المذهبية – أنظمةً وحركات – عن السيطرة الشمولية الممزِقةِ لأقطارِ المسلمين وكيف قامتْ وتقوم بهدمها وتشتيت كياناتها بالدعوى المزعومة بأنها تمثل الكل.
نلاحظ في العقود الأخيرة كيف تقوم هذه الجماعات والأنظمة بهدم أقطار المسلمين، وتفكيكها، وهذا جزءٌ من العجز عن فهم التاريخ الإسلامي وإستمرار هذا الفهم في زمننا.
ويترابط ذلك مع تفاقم العولمة وتنامي تدخلات الدول الكبرى، وفي وقت ترفض هذه الدول نفسها أن تنزلقَ لاستعمار فات زمانه، وأصبحت الشركات فوق الأمم والحكومات. وإذا تدخلت الدول الكبرى دفعت ثمناً باهظاً من دماء شبابها، وإسقاطاً في إنتخاباتها، فغدا ثمة توجه عام لإزالة التعصب الديني من كل الأمم باعتباره المشكلة الكبرى الراهنة التي تواجه تقدم جميع البلدان.
الفئات الوسطى العربية الإسلامية المعاصرة التي كان يفترض أن تنشئ الحداثة وتتداخل بالتصنيع ونشر الوعي العقلاني لم تفعل ذلك لنمط الاقتصاد وللتبعية في السياسة للدول، فأغلبية الاقتصاد ريعي تجاري لا يدخل بعمق في تصنيع المواد وتغيير الأرض، ولهذا فإن الفئات الدينية المذهبية السياسية الشكلانية في فهم الدين هي التي تنتشر.
الفئات الوسطى الراهنة هي صاحبة الدكاكين، غير منتجة للبضائع، تسعى للأرباح السريعة، ويعيش العرب المسلمون بين البضائع المستوردة مثلما يعيشون بين الأفكار المستوردة، مذهبيات مستوردة من الماضي، يزداد فيها التخلف والتعصب، وتستخدم التنكنولوجيا الفضائية المتقدمة في نشرها،
≣ الديمقراطية تاريخ طويل
تحاول البلدان في العالم الثالث أن تنشء ديمقراطية بدون أي أسس جذرية لها، بسبب الدفع الغربي المستمر لكي تجاريه أو تتطابق مع تاريخه الاجتماعي.
الدول الرأسمالية المتطورة تجبر الدول الرأسمالية المتخلفة على أن تحذو حذوها.
يتمظهر ذلك على مستوى السياسة، حيث تجبر الدول الغربية عبر تاريخ القرن العشرين الماضي الدولَ التابعةَ لها على أن تنشيء أشكالاً سياسية مشابهة لها في الأزياء الخارجية غالباً، حيث الطبعة البريطانية التي ظهرت بعد الحرب العالمية الأولى لبعض الدول العربية كالعراق ومصر.
وتقاربتْ هذه الطبعةُ مع نمو الفئات الوسطى والتجارة الخاصة والليبرالية. وفشلت مع تنامي أنواع التطرف السياسي كاليساري والقومي ولأسبابٍ عميقة كذلك.
الطبعة الجديدة من الديمقراطية المدفوعة عن طريق الغرب تقودها الولايات المتحدة الأمريكية هذه المرة، من أجل تجنبِ التطرف الديني تحديداً، وخلق توازنات سياسية وإجتماعية بين الدينيين والتحديثيين المؤيدين للتجارب الغربية.
الطريقة المدفوعة غربياً لا تحظى بقوة في الدول الشمولية الكبرى كروسيا والصين وغالبية الدول العربية ولكن لأسبابٍ تختلفُ فيها الدول العربية عن روسيا والصين، فالاستبداد العربي له مصادر متعددة منها الديني الإجتماعي الذكوري ومنها الحكومي كذلك، أي هو خليط من المشكلات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وفي مجتمعات ممزقة مفتتة قطرياً، لم تستطع أن تشكل أسواقاً كبرى كالصين وروسيا، ومن هنا تغدو مشكلاتها عسيرة في كل ناحية.
السوق الكبرى تعني وجود طبقات وسطى هائلة، لكن الدول العربية لا تملك مثل هذه الطبقات.
بل يغلبُ عليها وجودُ الشرائحِ الوسطى الصغيرة الغارقة في عوالم تقليدية متخلفة، ذات جذور ريفية واسعة.
مسألةُ التنميةُ الرأسمالية الكبرى هي مصدرُ تشكيلِ الديمقراطية، وهو الجوهرُ الذي قامتْ عليها التجربةُ الغربية، بمعنى إنه لا يوجد نموذجٌ ديمقراطيٌّ خارجَ الرأسمالية المعاصرة، قبلها كان الإقطاع، وبعدها ما لا نعرفُ تحديداً ما يكون بدقة.
الفضاء الغربي الرأسمالي هو الذي شكلَّ التجربةَ الديمقراطيةَ العامةَ وبثها في الفضاء العالمي مثل بقية الظواهر والسلع.
وهو يدفعُ البلدانَ الأخرى لكي تماثلهُ لأسبابٍ جزئية عابرة غالباً، لكي يحدثَ فيها إستقرارٌ سياسي يشجعُ على تغلغلِ بضائعه، فهو لا يعيشُ إلا بهذا النمو السلعي المتواصل، وتكتسب البلدان الأخرى المقلده إياه ظواهر تطورية مختلفة عبر ذلك، أما التغيير الجذري فلا يُعرض في السياسات الغربية، بسبب الروح العملية واللغة الجزئية كما أن ذلك هو من صنع شعوب تلك البلدان.
إن أغلبَ الدول الشرقية بُنيت بطرقٍ غيرِ رأسماليةٍ تحديثيةٍ ديمقراطية، فالصوتُ المهيمنُ هو صوتُ الحكومات المتنفذة في كلِ شيء، وهذا يحتاجُ لتطورٍ إقتصادي خاص طويل، لم يتحقق شيءٌ كبير منه.
ومن هنا تغدو الظاهرات الانتخابية موجهة لتحقيق أجزاء صغيرة من التحولات وإنجاز بعض المطالب التي لا تصل لجوهر الأمور، فالسياساتُ الاقتصاديةُ حددتها الحكوماتُ منذ عقودٍ طويلة راسخة، فيأتي النوابُ يعالجون الأمورَ الثانوية، وحتى هذه الأمور الثانوية لا يتفقون بقوة عليها.
الأسبابُ تكمنُ في ذاتِ المشكلة وهي غياب الطبقة الوسطى الحرة المالكة لوسائل الإنتاج.
ويظهرُ هذا في عدد الكتل السياسية الصغيرة غير القادرة على الإتفاق على القضايا الجوهرية في التطور، وخاصة في هذه الفسيسفاء للقوى الحديثة ذات الرؤى المستقبلية الواعدة، في حين تأتي القوى التقليدية بشكلٍ متسعٍ لتطرح قضايا ثانوية جاوزها التطور، وتأخذُ مشكلات الناس بشكلٍ جزئي محدود لكونها لا تدرك أن المسألةَ هي مسألةُ بناءٍ إجتماعي تقليدي بحاجة إلى تغيير. فهي مسألة تغيير طابع الملكية العامة المنخورة، وتغيير عبودية النساء، وتغيير طابع الدولة الديني والتوجه لدولة علمانية ديمقراطية، وتغيير طابع العمالة والإنتاج ليغدوا وطنيين. إن كل هذه المسائل مترابطة، فلا يمكنكَ أن تشكلَ دولةً ديمقراطيةً بالقطاعي.
وهكذا يحدث دوران الساقية السياسية وتمر السنواتُ بدون أن يصلَ الماءُ للأراضي العطشى، وتنتصر القوى التقليدية في هذه الديمقراطية التي يُفترض إنها حديثة فتطرح حلولاً تقليدية تعود بالبلدان للوراء.
وحين تدور هذه الساقية طويلاً ومشكلات الشعب لا تُحل تظهرُ القوى المتطرفة التي تزايد على بعضِ القضايا، وتدعي قدرتها على جلبِ السحر للمشكلات أو تطرح الحلولَ الإنقلابية وتكتسب شعبية، لكون الناس يزدادون ضيقاً من أحوالهم.
وهكذا فشلتْ الإصلاحاتُ التي جرتْ بتوجيه بريطانيا بعد الحرب العالمية الأولى، وتنامت الأحزابُ الشمولية.
والعملية السياسية الراهنة مرتبطة بمشكلات أكبر وتحديات حروب وصراعات قومية ودينية كارثية، مما يجعل تحديات(الديمقراطية) الهشة أكبر وأصعب.
≣ الديمقراطية والتقليدية
الديمقراطيةُ من جهة، والأنظمة والحركات التقليدية من جهةٍ أخرى، في حالةِ تضادٍ لا يمكن التوفيق بينها.
الديمقراطية حداثة، ووطنية، وعلمانية، وديمقراطية وتقدمية.
كيف سيحاولون التوفيقَ بين هذه المتناقضاتِ وإلى متى؟
أي نظامِ يطبقُ هذين التوجهين المتضادين سيجدُ نفسه بين طرق شتى متعاكسة تحفر في كيانه من جهات مختلفة، وسيحاولُ أن يوفقَ وينشىءُ الفلسفةَ التوفيفيةَ بين الثلج والنار، بين الشرق الإقطاعي والغرب الحداثي الرأسمالي، بين العالم الطائفي والعالم العلماني، بين أناس يقولون أن المرجعية للمذهب، وأناس يقولون بأن المرجعية للشعب، أناسٌ أدلجوا الأديانَ وحولوها إلى حصالات للعيش على حساب الفقراء، وأناس يريدون بصيصاً من النور لسياسة حرة تخدم الشعب ولا تفرق بين الطوائف، وتغدو المرجعية للدساتير المصانة.
حين تقوي الديمقراطيةُ المفترضةُ القوى التقليديةَ فسوف تتمردُ على الديمقراطية حين تتطور وتقترب من السمات العالمية، وتقلص من نفوذها، لكن بعد أن قويت وأمتدت لجذور الحياة الاجتماعية السياسية.
لا يجب الاعتماد على مرجعياتِ وزارات الخارجية الأمريكية والبريطانية في لحظاتٍ مقطوعةٍ من لحظاتِ سياساتها المتبدلة دوماً حسب ظروفها ومصالحها، وليس حسب المرجعية الغربية الديمقراطية العلمانية ومصالح الجماهير الشعبية في تلك الدول كذلك.
فالبرلماناتُ تفوزُ فيها عادةً القوى اليمينية الممثلة للشركات الكبرى وهذه تريدُ نفطاً رخيصاً وأسواقاً مفتوحةً وقطاعات عامة مهدمةً وغيرَ ديمقراطية، فتدعو البلدان العربية لسياساتٍ (ديمقراطية) مبنيةٍ على حراكِها السياسي المؤقت، أي أن تخففَ الصراعات بها بشكلٍ راهن وعابر، حتى تقوم بمهماتِ شراء النفط الرخيص، وتغدو أسواقاً مفتوحة، وأن تُحضرَ منها الرساميل الكبيرة وأن ترتبط بعملتها، ولا تنظرُ نظرةً بعيدةَ المدى من أجلِ الاستقرار الطويل الأمد وإلى تطور هذه البلدان وإلى نمو تحديثها وإزدهار صناعاتها. فهي ديمقراطيةٌ غربية تسويقية إستنزافية للعملات الوطنية والخزائن الناضبة يوماً بعد يوم!
ولا توجدُ من جهةٍ أخرى سياساتٌ وطنيةٌ بعيدةُ المدى في الدول العربية الإسلامية، تثمنُ هذه الجوانبَ التكتيكية الغربية(الديقراطية) لكن أن ترى أبعد منها وتضعها في مرحلتها وتحدد القوى الراهنة المستفيدة منها والمؤثرة فيها، وتشكلُ إستراتيجياتها الخاصة القائمة على سياسةٍ علمانية ديمقراطية متدرجة شعبية في بلدانها، وأن تسحبَ عملاتها من تحت مظلة الدولار، وتعمل على إيجاد سلة من العملات، وخلق ترسانة من الذهب في خزائنها، وتطور بلدانها صناعياً تحديثياً تقنياً معاصراً، وتتخلص تدريجياً من العمالات الأجنبية الإستنزافية، وتطور عمالاتها الوطنية.
السياسة العلمانية الديمقراطية إستراتجية بعيدة المدى تقوي اللحمة بين الدول العربية والإسلامية، وتعمل على خلق سوق إسلامية عالمية، وشيئاً فشيئاً تقلصُ مساحات الاستثمار السياسي والاجتماعي في الأديان، ولكن بدون توسيع مجالات الرأسماليات الخاصة والعمالة المحلية المتقدمة، تحدث إشكاليات الصراعات الدينية السياسية.
بطبيعة الحال مثل هذه السياسات مسألة تشكلها تياراتٌ فكرية وسياسية عبر سنوات والخطورة أن يكون ذلك من خلال الصراعات الداخلية الضارية.
≣ الديمقراطية التائهة في العالم الثالث
ترفض أغلبية القوى الاجتماعية السياسية في العالم الثالث مقاييس الديمقراطية الغربية، فثمة مسافةٌ شاسعةٌ بين ظروفِ كلٍ من العالمين، وحتى الديمقراطية الغربية ليست بعيدة عن نفوذ قوى المال التي إستطاعتْ على مدى عقود طويلة أن تكرس سيطرتها، فالديمقراطية في بلدانها تعني التصويت للحزب المالي الأقوى، لكن هذه القوى لا تنجح إلا حينما تقدم برنامجاً يتضمن تغييرات لصالح الأغلبية الشعبية. وتستطيع الأحزابُ العماليةُ والقومية المتشددة كذلك التقدم في هذه الانتخابات والحصول على مقاعد وربما حتى الحصول على الوزارة البرلمانية.
الديمقراطية في العالم الثالث بشكلٍ عام تعنى حكم الأقوى إقتصادياً وسياسياً، وليس حكم من لديه الأصوات الأكثر. ولهذا تحدثُ صراعاتٌ بين من يحكم فعلاً ومن يريد أن يحكمَ عبر الأصوات.
البُنى في العالم العربي الإسلامي بُنى مضطربة ليست ذات معايير ديمقراطية، الحكوماتُ والأحزابُ مؤسسةٌ بشكل ديني، أو بشكل قومي عنصري، وهو أمرٌ لا يتماشى مع الديمقراطية، وهذه الجماعاتُ بقيت مدداً طويلة في السلطات وأوجدتْ لها نفوذاً يَصعب إختراقه، وجعلتْ معاييرَ مصالحِها هي الأهم، ووجودُ طبقةٍ تقليديةٍ في السلطة يعني إنه في ظل أوقات الإنتخابات تبقى الطبقة الحاكمة موجودة ولا يوجد هناك حزبٌ منتصر في الانتخابات، وبالتالي فإنه لا يشكلُ سلطةً جديدة. فإذن لماذا حدثتْ الانتخابات؟
والأسوأ حين حاولت الحكومة الأمريكية تطبيق الديمقراطية في العراق وفازت الأحزاب الدينية المذهبية كلٌ في منطقتهِ وشكلت حكومات أو ما يشبه الحكومات في مناطقها المنفصلة، عاجزةً عن تشكيل حكومة وطنية، بل عاجزة عن تشكيل شعب موحد. صحيح إنه تم إلغاء الطبقة القديمة لكن المذهبية السياسية التقليدية ظلت هي الطبقة الحاكمة غير القابلة للقبول بمعايير الديمقراطية الحديثة.
وفي إثناء ذلك كانت حكومةُ القاعدة الشبح تحكم بالسيارات المفخخة وتذبح المئات كل يوم.
لم تعشْ الشعوبُ العربيةُ الإسلامية فتراتٍ إنتقاليةً مديدةً لتشكيل الديمقراطية أو بعض أسسها، والأحزابُ والعائلاتُ والقبائلُ كرستْ نفوذَها عبر المذاهب، وخلقتْ مصالحَ ومعاييرَ للحكم وتحكمتْ في الموارد وتركيب السكان، وقوانين الهجرة، والعمل، والأسكان، وتدخلتْ في تحديد الناخب والدوائر الإنتخابية وطبيعة الجماعات السياسية التي تخوضُ الانتخابات وحدود عملها، أي أنها ضمنتْ النتائجَ الانتخابيةَ حسب ما تراه، وعرفتْ الفائزينَ والخاسرين قبل هذا التصويت السري.
في الهند أو إستراليا أو اليابان أو جنوب أفريقيا من دول العالم الثالث، لا توجد طبقةٌ حاكمة في أثناء الانتخابات، فالطبقةُ القديمةُ التي حكمتْ رفعت أيديها عن مقاييس مقابض السلطة السياسية التي تجري، وهناك قوانين إنتخابات هي التي تسود وتقررُ كلَ شيء، وهناك دستور يعطي السلطة للفائزين في الإنتخابات فقط.
وثمة تجارب تجعل رئيس البلد هو من بيده السلطة التي يعطيها للحزب الفائز في الانتخابات.
ولهذا تجد في الهند التنوعَ المدهشَ للديمقراطية في بلدٍ يعيش فيه أكثر من مليار من البشر، فالحكومة المركزية، أو الحكومات الإقليمية يمكن أن تتنوع في اتجاهاتها السياسية، وتجد حزباً إشتراكياً يحكمُ في ولاية والحزب اليميني يسيطر على الحكومة المركزية، وكل منهما يقومُ بمعالجات سياسية وإجتماعية في حدود الدستور.
وفي الدورة التالية من الانتخابات تتغير اللوحة، ولم يستطع لا الحزب اليميني ولا اليساري أن يكّون له طبقةً متنفذةً مسيطرةً على مفاتيح السلطة الاقتصادية والاجتماعية، وهذا ما يؤدي لثورات في الاقتصاد، بينما في العالم العربي الإسلامي يغدو التحلل لهذه البلدان هو المظهر المرئي.
الدول العربية الإسلامية تحتاجُ لسنواتٍ طويلة كي ترسخَ هذه المقاييس في تجاربها، وفي أثناء ذلك فإن الخسائرَ السياسيةَ والاجتماعية والاقتصادية تتفاقم، والهواتُ تزدادُ بين المتنافسين والمتصارعين على النفوذ.
≣مقاربةُ الديمقراطية عربياً
تحتاجُ الدولُ العربية لعقودٍ من السنين من أجل أن تقتربَ من الديمقراطية، فالأغلبيةُ الشعبيةُ في كلِ بلدٍ خارجَ أي تأثير في مجريات الانتخابات والمجالس التشريعية، فحشودُ الفلاحين والعامة والنساء التي تمثلُ ثلثي المجتمع خاضعة لسيطراتٍ من قبل الأجهزة الحكومية والمتنفذين على الطبقات والعائلات والقبائل، إنها هذه السيطرات التي تظهر بشكلِ هيمناتٍ مذهبية سياسية حكومية ومعارضة شمولية.
وتعبرُ هذه السيطراتُ عن مجتمعٍ تقليدي ذكوري إستبدادي تعلبُ فيه الأجهزة البيروقراطية أنظمة الديمقراطية المستوردة، وتجمد تشكيل أي لوحة سياسية إنتخابية ديمقراطية، وتنقضها الجماعاتُ المذهبية السياسية أو تتعاون معها لمشاركتها تلك الهيمنة التقليدية القائمة كلها ضد الحداثة والديمقراطية والعلمانية، أي ضد الأغلبية الشعبية المحرومة.
المقاربة العربية للديمقراطية هي إبقاءُ المجتمع الذكوري التقليدي الاستبدادي هو نفسه، عبر إستبعاد تبادل السلطة، وعدم إبعاد المذاهب والأديان عن التلاعبِ بالسياسة وبالناخبين، وبرفضِ جعلِ البنيةِ الاقتصادية الحكومية تحت إدارة البرلمان، فهي تكون برلمانات لا تستطيع تغيير الثروات وأخطاء تكوناتها الماضوية والحاضرة الجارية.
وبهذا فإن الحكومات تقدمُ الديمقراطيةَ وهي تؤثثُها بسيطراتِها، وتريدُ التغييرَ القابلَ للتنفيذ من قبلها لا التغيير المغير لسيطراتها، وهي تطرحُ التحولات بشرطِ أن لا تتغيرَ هي، وتريدُ ديمقراطيةً مفصلةً حسب بدلاتها الشمولية وقاماتها السياسية الدينية والمذهبية والمناطقية والطبقية الارستقراطية.
ويُفترض في القوى السياسية العربية المعارضة الحقيقية التي تريدُ تحولاتٍ عميقة أن لا ترتهن بهذه الصيغ بإعتبارها مطولة الزمن، غير قابلة للتغيير ابداً، ولكن بشرط أن تكون هي نفسها ديمقراطية تحديثية، وليست قوى ضغط طائفية وعنصرية وإقليمية تمزيقية لكيان البلدان.
لكن أغلب القوى السياسية العربية لم تغتسل نضالياً بمياه الشعب الساخنة التحديثية، وظهرتْ من عصورِ الظلام ومن الأخطاء السياسية التقليدية ومن أحقادِ المناطقِ المذهبية والعرقية والقبلية، فهي غيرُ قادرةٍ على خلقِ ثقافةٍ ديمقراطية تراكمية توحيدية، والتوحيد هو شرط أساسي للمسلمين ولمنطقة المسلمين منذ القدم لإحداثِ تحولات سياسية كبيرة.
وتستفيدُ الحكوماتُ العربية من هذه الفسيفساءِ ولكن يفترض في القوى الحديثة أن لا تنزلق في هذه العمليات غير المضمونة في التغيير وفي تطوير حياة الأغلبية الشعبية في كل بلد عربي، بل يكون هدفها المفترض هو التوحيد وتطوير هذه الكتل السياسية المعارضة والمؤيدة الممزِقة للكياناتِ العربية، للوصول إلى تغيرات ولجعل الديمقراطية عمليات سياسية نضالية على المستويين الحكومي والأهلي، أي خلق عمليات توحيد وتغيير بحيث تتجه العملية السياسية لتجاوز مستوى ما قبل الديمقراطية الراهن، لمجتمع الديمقراطية التعددي.
والمستوى الراهن خطرٌ لأنه مستوى تفكيك السلطات والبلدان، فمشروعات (الديمقراطية) الراهنة أدواتٌ شكليةٌ للإصلاح لكنها تقود لما هو مغاير للإصلاح، بحسب الآلية التي ظهرت في الجزائر والسودان واليمن والعراق والبحرين ولبنان ومصر وغيرها من الدول.
أي أن المطلوب هو خلقُ التراكمات العلمانية والإصلاحية المفككة للمصالح الضيقة وقصر النظر، وللطائفيات على المستويين الحكومي والشعبي، والمراكمة للتغيير والتوحيد، ومن هنا فإن كلَ تنظيم سياسي عربي ينبغي أن يرى هذه العملية وخاصة التنظيمات ذات التأثير وهي التي غالباً ما تستفيد من جماهير محدودة الوعي، مُجيرة، شمولية، تُقاد بأشكالٍ آلية سوقية، مما يؤدي إلى ضرب أكبر ضلع تمهيدي للديمقراطية قبل أن تضع أوراقَها في صناديق الاقتراع.
ولهذا فإن دعاياتها تتم بوسائل تفكيكية للمجتمع الذي تريدُ إصلاحه وتغييره، وبهذا تغدو عمليات الديمقراطية المفترضة عمليات إجهاز على المجتمع شبه الموَّحد في هذه اللحظة الانتخابية والذي سيغرقُ في التمزق مع العمليات الانتخابية التالية.
وبين رفض مشروعات الحكومات العربية(الديمقراطية)وبين القبول الاختباري التجريبي التوحيدي التغييري بها، خيوطٌ دقيقةٌ مرهفةُ التكوين، فيُفترض أن لا تنزلق قوى التغيير والتوحيد هي نفسها لمثالبِ هذه الديمقراطية الواعدة الناقصة، وأن تحولها إلى بذور لعمليات سياسية وفكرية نهضوية توحيدية قادمة متصاعدة.
إن نشدان المصالح الخاصة للفئات الوسطى الصغيرة الطامحة لأن تكون فئات غنية عليا، مستغلةً نقصَ الوعي الجماهيري وفسادَ السلطات والأحزاب، هي أكبرُ التحدياتِ التي تواجهها هذه اللحظات السياسية التجريبية العربية.
وهذه مسئولية قواعد الأحزاب والناخبين بمتابعة الثروات والأداء وتشكيل براءات للذمم، ومداومة النقد والنقد الذاتي ومصارحة النواب والسياسيين.
إنها مرحلة إنتقالية معقدة، يجب عدم العيش في نواقصها، ومراكمة الايجابيات بهدف تجاوزها وتطويرها.
≣ الإسلام والعلمانية الديمقراطية
يمثل زمنا النبوة والصحابة زمن حكم الأغلبية الشعبية، فكانا مقاربةً للديمقراطية، فيما كانت العهودُ التاليةُ تمثلُ عهودَ حكم الأقليات الطائفية الدكتاتورية.
لا يمكن إنكار المنجزات الحضارية في تلك الأزمنة الطائفية، والتي نتجت من إشتغال الفئات الوسطى في تطوير العلوم والآداب والفلسفة، لكنها لم تعتمدْ المضمونَ الجوهري لعهدي النبوة والصحابة، من حيث التعبير عن الأغلبية، والدفاع عن المنتجين، فتوجه العالمُ الإسلامي نحو التفتت والتخلف والتبعية فيما بعد.
الحياة السياسية والاجتماعية العربية واصلت سياق عصور الأمبراطوريات والدويلات المذهبية المعبرة عن الأقليات، التي يسود فيها التعصب الشكلاني للإسلام، بمعنى أنها تتعمد التركيز على الأشكال والتعصب العبادي وتقديس الرموز الشخصية وخلق التعصب الطائفي، بهدف الهروب من حكم الأغلبية الشعبية وجمهور العمل والإنتاج.
نلاحظ هنا التضاد الكبير مع التوحيد، وعدم تطويره ليشمل كافة المواطنين الداخلين في مواطنة الدول الإسلامية، بمختلف توجهاتهم وأديانهم، ويعبر حكم الإقليات الطائفية – أنظمةً وحركات – عن السيطرة الشمولية الممزقة لأقطار المسلمين وكيف قامت وتقوم بهدمها وتشتيت كياناتها بالدعوى المزعومة بأنها تمثل الإسلام.
نلاحظ في العقود الأخيرة كيف تقوم هذه الجماعات والأنظمة بهدم أقطار المسلمين، وتفكيكها، وهذا جزء من العجز عن فهم التاريخ الإسلامي وإستمرار هذا الفهم في زمننا.
لا تستطيع أن تكون هذه الحركات الطائفية إسلامية إلا بالعلمانية، وبالانفصال عن ميراث الدكتاتورية في القرون السابقة، ومقاربة التعبير عن الأغلبية الشعبية في كل بلد، وأن تدع فهمها الخاص للإسلام في حياتها الخاصة، فيما للسياسة المواطنة بغض النظر عن العقيدة، فهذا الشكلُ السياسي يقودُ للتوحيد ومقاربة فئات كثيرة من إدارة الدول بشكل ديمقراطي.
تغدو هذه العملية ضرورية وهامة جداً مع إستمرار حكومات وجماعات الأقليات الطائفية في تمزيق صفوف المسلمين وخداعهم بشعاراتِ التعصب، وأنها هي دون غيرها ولكل منها كذلك أن تعبر وحيدة عن جوهر الإسلام، ولكن هذا الجوهر لا يقوم بالشمولية وحكم الأقليات الإستغلالية. بل بتوسيع التحالفات وإقامة أوسع الدول وأكبر الأسواق وإزالة صور التعصب والشكلانية المغرورة المدعية بتمثل الإسلام عن طريق الملابس والديكورات الخارجية.
فالأغلبيات الشعبية في الدول الإسلامية نظراً لمحدودية معارفها وأزمات عيشها، تندفعُ لتأييدِ أشكال التعصب، وتقود الديمقراطية غير العلمانية إلى هدمِ الأشكالِ التوحيدية الأخيرة في عالم المسلمين، وتمزيقهم إلى أقاليم وكيانات منفصلة وتفعيل الحروب الأهلية.
≣ أسبابٌ إضافية لضعفِ الديمقراطية في الخليج
تشارك دولُ الخليج في ضعف الديمقراطية وضعف الرأسمالية الشرقية، لكنها تضيفُ أسباباً أخرى لهذا الضعف، وكذلك تشارك في خطورة التجارة السهلة بالمواد الخام الثمينة النادرة كروسيا.
فهي عاجزةٌ بشكلٍ أكبر عن تطويرِ أوضاعِ العاملين فيها، خلافاً لكلِ دول الشرق.
هذا العجز ينبني أساساً على ضعف الطبقة الوسطى المحرومة من الوجود باقترابِها من مصادرِ الثروة النفطية والصناعات الكبرى، وكذلك بسببِ التفاوت الكبير بين العمالة الوطنية والأجنبية، وبسبب تضخم هياكل الدول بالبطالة المقنعة الواسعة، وعلى تغييب النساء من الدخول الموسع في الصناعة، وعلى تخلف التعليم عن الثورة التقنية.
ولهذا فإن الآراءَ الدينية والمذهبية المحافظة سواءً الاجتماعية أو السياسية هي مظلاتٌ إيديولوجية لتلك القسمات المتخلفة في الاقتصاد.
فقد نمتْ أجهزةُ الدول العربية الخليجية عبر البيروقراطية، وهذا يعني المذهبية السياسية وسيادة الذكور وتغييب حضور النساء في الإنتاج، وجلب العمالة الأجنبية المستغَّلة في تنميةِ ثرواتٍ أسطورية خاصة، وترك بُنى الخليج بنى بدوية محافظة وطائفية.
تتباين مستويات مشاركة النساء في العمل، وأغلبها مشاركات إدارية وبنسبٍ ضئيلة فالسعودية البلد الأوسع لا تتعدى مشاركة النساء في الأعمال فيها 7%، وهذا يفسر ضخامة العمالة الأجنبية فيها، فهي عشرةُ ملايين وأكثر من القوى العربية والهندية الآسيوية عموماً، أي بسبب غياب عشرة ملايين من النساء المواطنات.
تغدو الأبنية الإيديولوجية الطائفية المحافظة شكل التجلي لتلك الذكورية الساحقة ولهيمنة العمالة الأجنبية والبذخية الحكومية والغنية غير المنتجة للتغيير الصناعي الوطني، ولغياب التخطيط والفهم الفكري الموضوعي للحياة، ويتمظهر ذلك بإرسال الفوائض للخارج على شكلِ ودائع خليجية إلى البنوك والمؤسسات المالية الغربية والشرقية، أو على أشكال أجور أجنبية تتوجه لتنمية البلدان الشرقية.
وبالتالي تتكاثر الفئاتُ الطفيلية الاجتماعية التي تتحلقُ حول القطاعات العامة تستنزفُها، وتحولُها لتنمياتٍ مظهريةٍ خليجية وتنمية لبلدانٍ أخرى.
وترى ذلك مجسداً في النساء، المعيار الدقيق لتشوهِ التنميةِ ولغيابِ الديمقراطية، ولغيابِ العقلانية الدينية.
فالحشودُ المُغيَّبة في البيوت يقابلها حضورٌ نسائي أجنبي هائل، وبالتالي فقد إنعدمتْ إمكانياتُ الديمقراطية، لقد غُيبت أصواتُ نصف المجتمع.
وبدون العمل والاستقلالية الاقتصادية للنساء، لا يمكن أن تظهر آراء نسائية حرة، تصوت للتغيير والحداثة.
النساء الأجنبيات يكتسبن خبرةً إقتصادية وعلمية ولغوية وسياسية فيما تعوز النسوة الخليجيات ذلك، وذهابهن لصناديق الإقتراع بلا معنى، لأن الرجالَ هم الذين يصوتون.
تعبرُ المذهبيةُ السياسية والاجتماعية المحافظة عن التبعية للغرب وللهند ولجنوب آسيا بمختلف تجلياتها، وفيما تقومُ رأسمالياتُ الدول بإدارة الثروات العامة بأشكالٍ هدرية وطفيلية ومشوهة،
تتجلى إضاعةُ الثروةِ الفكرية الإسلامية لدى الجماعات الطائفية بعدمِ النضالِ من أجلِ سوق حرة، ولحداثة ديمقراطية حقيقية، وبمنع قوى العمل الوطنية الخليجية من النمو، ومنع التجليات الأخلاقية العميقة لدى المواطنين، عبر الإكتفاء بأشكالٍ مظهرية ونصوصية لكن الخراب الأخلاقي يكمن في العمق الشعبي الفقير المنعزل المغيب عن التصويت.
تقع دول الخليج بين عاصفتي الرأسمالية الغربية والرأسمالية الآسيوية الجديدة المنطلقة بتوسع، والأولى تستثمر الخليج عبر السلع المعمرة الغالية والأخرى عبر العمالة المتدنية الأجور الكثيفة في بلدانها، ولهذا يخسر الخليج من أوجهٍ عدة، معتمداً على سلعته النفطية النادرة لشراءِ سلعٍ إستنزافية لاقتصاده.
مع تدهور سلعته الأساسية تتكشف الهياكلُ الاقتصادية الضعيفة التي تحتاج إلى إعادة هكيلة، لا تقوم بها سوى برلمانات قوية معبرة عن القوى المنتجة، ومدى قدرتها على التغيير وعلى التضحيات الاقتصادية.
ستؤدي السنواتُ القادمةُ إلى تغيير طابع العمالة الاجنبية المكلفة، والسلع المعمرة البذخية، ومن هنا يَتطلب الأمرُ من البرلمانات رؤية المستقبل والأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي ستهبط مع هبوط أسعار النفط.
وذلك في إعادة تشكيل العمالة وإعادة تشكيل الأجيال التي إنضمت للبطالةِ المقنعة في الوزارات الحكومية، عبر هدر قيم العملين المنتج اليدوي والمنتج الذهني.
إن الوعي الديني المسيس لا يستطيع أن يرى مشكلات البنية العميقة، وكون تحديث القوى العاملة العربية ضرورةَ بقاءٍ لمنطقة الخليج، طارحاً مشكلات الأخلاق بصورة مثالية مفارقة لقضايا الواقع الحقيقية. والفئاتُ الدينيةُ تحتاجُ إلى زمنٍ موضوعي وثقافة ذاتية مغايرة لكي تنظم إلى الطبقة التي هي جزءٌ منها وخارجها عنها وهي الطبقة المتوسطة بسببِ شكل وعيها الماضوي.
≣ الديمقراطية الإغريقية والدين
في نموِ بلادِ اليونان فتنةٌ ودروسٌ مستمرةٌ للبشرية، وهي تقاربُ في تفتحِها الديمقراطي المبكرِ مدنَ الخليج العربي الراهنة وهي تبحثُ عن الديمقراطية والحداثة.
نمو المدن المنفصلة اليوناينة عن بعضها وبغياب الدولة الشمولية الكبرى الكاسحة التي تصهرُها في سلاسلِها الإستراقيةِ، كما هو حالُ بلادِ مصر وبابل، وبتوسع التجارة والصناعة والملاحة، وُجدتْ فرصةٌ ثمينةٌ لشعبٍ مبكرٍ أن يخففَ من غلواء الأديان والدول.
الدينُ غيبٌ مهيمنٌ من الخارج على البشر، وهو ممثلُ سلطةٍ كبرى كاسحة، مجسدٌ لدولةٍ ذات أظافر وأسنان، لكن الدولةَ المهيمنة لم تكن موجودة، فلم يظهرْ الدينُ في تلك المدن الإغريقية إلا متأخراً، مما أتاحَ للعقول أن تتحرر وتتفتح وتزدهر.
(لعل دويلات المدن الإغريقية..في زمن البداية الأولى للفلسفة الإغريقية، كانت أغنى يداً وأكثر تحضراً بكثير.. ويبدو أنها كانت تتميزُ بموقفِ تجردٍ ولا مبالاة دينية)، مدخل إلى الفلسفة القديمة، آرمسترونغ، دار كلمة).
الأفكارُ الدينيةُ كانت خميرةً مبثوثةً واسعة، لكنها تصوراتٌ طفوليةٌ إنسانية، ممتزجةٌ بالأساطير، لم تحصلْ على دولةٍ تحيلُها إلى أداةٍ حديديةٍ لقمعِ البشر والسيطرة على أرواحِهم، فالدولةُ بعدُ في بلادِ اليونان لم تتشكلْ، كانت هناك المدنُ الحرة، حيث يجتمعُ البشرُ الذين يعرفون بعضَهم البعض ويشكلون دولةً منتخبة.
وهذا على مستوى الأفكار جعل العقولَ تغدو ماديةً، فتكتشفُ في الذرات والحركة والهواء والتراب والنار والماء وغيرها من العناصر الطبيعية وغيرها، المداميك التي صنعتْ العالمَ والكون، وهي آراءٌ على بساطتِها ذات نواة معرفية عميقة، أصبحَ العلماءُ المعاصرون يضعون لها الأسس العلمية الدقيقية.
العالم في هذا التصورات(لم يُولد ولادةً، ولم يُخلقْ خلقاً، وحيث الآلهة أو القوى مهما كان نوعها، هي داخل العالم وعرضةً لقوانينه، فلا مكان في الفكر(الإغريقي) لقدرةٍ كليةٍ أو خالقٍ متعالٍ بالمعنى المسيحي للكلمة)، السابق، ص 23.
التنوعُ السياسي للمدنِ الإغريقية أتاحَ تعددَ المدارس الفكرية وصراعها الخلاق، فظهر فلاسفةٌ ومبدعون كثيرون كلٌ منهم له رؤية، وجثمت رؤاهم عند المستوى المادي البسيط، لكون الخرافات لم تكن بمستوى أفكارهم، وهي كانت أفكارُ العامةِ البسطاء، وعبرَ أفكارِهم المادية قدموا علوماً تحتاجها الحرفُ والتجارةُ والملاحة وتطوراتها، رغم تباين هذه الآراء الفلسفية ولكنها أطلقت الأداة الأساسية لفهم الكون والمجتمع وهو العقل.
لكن كانت مواد الشرق الإستبدادي تتوغل في بلاد اليونان، عبر هذه الخميرة الفكرية الدينية، القادمة من مصر خاصة، بلد الإستبداد الطويل، وكانت جنوب إيطاليا هي مرزعة هذه الأفكار، ومن عناصر هذه الرؤية الدينية أن الجسد هو سجن الروح القادمة من الغيب.
لم تكن الآراء الفلسفية الطفولية وقتذاك قادرة على فهم طبيعة الإنسان التكوينية وتاريخه، ولا تاريخ الكون، ولا طبيعة التطور الإجتماعي، نظراً لمستوى الحرف المحدود، وغياب الصناعة والتجارب المعملية والأبحاث الاجتماعية، ولهذا فإن الآراء المثالية بدأت تتسربُ من هذا النقص المعرفي، وتم تعليق الإنسان بما وراء الطبيعة، وبدأت الفلسفاتُ المثاليةُ تتوسع، مع توسعِ عناصر الدول الإغريقية التي راحت تتخلى عن الديمقراطية عبر العقود التالية، وتظهر الدولُ المستبدة، كما تتوسعُ سيطرات ملاك الأراضي والعبيد.
لكن كان هذا يحتاج لفلاسفةٍ كبارٍ يحولون العناصرَ الفكريةَ المثالية المبعثرة إلى فلسفاتٍ، وهي تتحول بدورها إلى أديان، كسقراط وأفلاطون خاصة، لكن هذين المفكرين كانا يريا إن الخالقَ الكلي الذي بدأتْ ثقافةُ اليونان عبرهما تكرسهُ، هو إلهُ خيرٍ. وهو أمرٌ نموذجي ومثالي، ونتاجُ تقديرهما للبشر وللعدالة، لكن الألوهيةَ هذه، بدتْ متناقضةً مع الوجودِ الحقيقي المليءِ بالشر والفساد والنقص، فإذا كان العالمُ نتاجُ إلهٍ خير فلماذا هذه الأحزان والكوارث والشرور؟! لماذا يقوم الإلهُ الخيرُ بخلقِ عالم شرير؟
تم نفي العناصر المادية المؤسسة لفهم العالم بشكلٍ تدريجي من ثقافةِ المدن وهي تتحولُ إلى إمبراطوريةٍ غاشمة تغزو الناس، فتظهرُ قوى حاكمة تخشى العقلَ والفكر النقدي والتحليل الواقعي لقضايا الحياة، وظهرت الدولُ المتعاليةُ التي هي بحاجةٍ لإلهٍ متعالٍ بنفس خطى الشرق، فأنزلقت اليونان لذات التكوين الإستبدادي وغزت فارس والمشرق، فأعطتها الثقافةُ الفارسيةُ فكرةَ الإلهين المتصارعين، إله الخير وإله الشر، الإله والشيطان، لتفسير تناقض الحياة الاجتماعية.
≣ الديمقراطية لدينا
إن مصطلحات مثل ديمقراطية وقوى ديمقراطية وطنية تحتاج إلى فحص للتأكد من سلامتها.
كلما اتسعت قدراتنا على التفكير الحر كلما زاد نقدنا، وعرضّنا مفاهيم وتورايخ قديمة للنقد، إن هذا يشكل تطوراً في التفكير الحر، ولهذا فإن مصطلحات مثل قوى ديمقراطية تجعلنا نسألُ هل تستطيع القوى الشمولية أن تكون ديمقراطية؟
نتجت القوى السياسية من إقتباس تجارب شمولية عالمية وعربية، فكيف ستأتيها الديمقراطية؟ هل الديمقراطية هي التصويت المرتب؟ وهل تقدر القوى الشمولية أن تطور تجربةً ملتبسةً بين الشمولية الحكومية وبعض الحريات؟
إذا كان يتم ترتيب التصويت لتبقى جماعة مسيطرة على الجماعة ككل، كما أن القائد يبقى مؤبداً، وترى القيادات غير قادرة على خلق تعددية ديمقراطية، ويتم ترتيب القوى البرلمانية مُسّبقاً، فهذه ليست ديمقراطية، وربما تكون مقدمة لذلك.
(الديمقراطية) الشرقية الشمولية لا تريد أن تكون ديمقراطية غربية، والأحرى أن نقول أنها لا تستطيع ذلك، وهيهات وربما لقرن من الصراع والتجديد والمشكلات!
في الغرب هناك طبقة وسطى كبيرة حرة، ذات مؤسسات قوية، ورأسمالية الدولة صغيرة تقتصر على المؤسسات العلمية والإشرافية، وليس أن تبتلع الأخضر واليابس كما هو الأمر لدينا. وهناك طبقة عاملة موحدة وإنتجتها المصانع الخاصة وليس عمالاً تابعين لشركات ووزارات حكومية لا تسمح لهم حتى بالدفاع عن مصالحهم الإقتصادية البسيطة.
الشروط كلها مفقودة في التجارب التي يُـقال أنها تتجه للديمقراطية.
والقوى السياسية تريد أن تشكلَ رأسماليةَ دولةٍ تقومُ هي بإدارتها.
هكذا الأمر في التجارب القومية العربية حيث نجد ذروة التجربة هي وجود حكومة شمولية مستولية على الإقتصاد.
وهكذا التجارب الإشتراكية.
إذن كيف ستظهر الديمقراطية من تكوينات كلها لم تجرب الديمقراطية؟! وأي أعضاء سيشكلون ديمقراطية وهم لم يمارسوها ولم يعرفوها؟
تنظيماتٌ ترتعبُ من الأفكار الحرة ومن الحراك السياسي الحر داخلها، والقواعد لا تعترض ولا تطرح قيادات من داخلها ولا تعرضُ تاريخَ التنظيم للتحليل والدرس والنقد؟
هناك هوامش من هذه العملية في نقد الظواهر الحكومية السيئة، والمطالبة بالتغييرات فيها وفي إدارة البلد، لكن كل هذه تبقى إنتقادات قد يُـقبل بها وقد لا يُسمع بها وقد تُرفض.
فليس ثمة سلطة تشريعية قوية تحول الأفكار التحويلية إلى قوانين.
والتنظيمات لا تستطيع أن تكَّون مثل هذه السلطة التشريعية القوية، لأسباب التفرد الحكومي الإقتصادي بدرجة أساسية.
لكن لو قامت التنظيمات الدينية وهي الأوسع جماهيرياً بإدارة الإقتصاد هل ستكون هناك ديمقراطية؟
ستظهر هناك قوى مهيمنة على الفوائض الإقتصادية، وستقلل الحريات الإجتماعية، وستقوم بقمع كبير للقوى العلمانية واليسارية والغربية المستوردة وللحياة التحديثية البسيطة التي تشكلت بعسر خلال قرن؟!
أما القوى التي تحتضن الحداثة الديمقراطية أي الطبقة الوسطى الحرة ذات المصانع والشركات المستقلة فغير موجودة بإتساع كبير، وحتى الموجود كثير منه مجرد لافتات للشركات الحكومية والرموز الحكومية؟
إذن النسيج كله شمولي مناقض للديمقراطية، والأمور تحتاج لعقود طويلة وأجيال لتؤسس ديمقراطية وطنية!
وقد تركت الحكومةُ الجماعات المذهبية السياسية في مقدمة المسرح السياسي، وهي في حالات خصامها الأبدية غير قادرة على طرح مشروعات قوانين مغيرة لحال البلد، فهي تدير اللعبة السياسية كلها.
وإذا تحرك التجار سوف يشتغلون لمصالحهم ولزيادة فيض العمالة الأجنبية ولرفع القيود عن التجارة وإلغاء قرارات وزارة العمل، بعد أن تفردت بعض الوزارات بتقليص دخولهم وأرباحهم، وهم ليست فيهم قدرات كبيرة قادرة على فهم الموقف الوطني المعقد وعلى طرح قضايا الديمقراطية والعلمانية والتحديث!
لقد أدت السيطرات الاقتصادية الطويلة والثروات النفطية إلى بروز القوى العربية البدوية في الجزيرة العربية، لتشكل نهضة تحديثية من خلال رأسماليات الدول التي تخضعُ للقبائل والأسرِ الحاكمة والتجارِ الكبار، والتي يمكن التخفيف من غلوائها التفردية عبر النقد وقوى التشريع البرلماني وتعاون الكتل السياسية المختلفة (وهي كلها كتلٌ رأسمالية غائرة أو بارزة، وبعد سنوات ستترسملُ كلها بتوسع، فلماذا الإختلاف إذن؟!)، وكذلك التطوير التدريجي للصناعات الخاصة وما يماثلها من مؤسسات تحديثية إقتصادية ومراقبة الملكيات المُسماة عامة، وتطوير الحياة الاجتماعية تدريجياً عبر هذه السنين الصبورة.
هذه هي حدود (الديمقراطية) الخليجية وغير ذلك أما إنقلابات تقود لما قادت له الإنقلاباتُ في الدول العربية وبتجاربها المعروفة، وأما الإرهاب.
≣ صعوبات الديمقراطية في الشرق
إن مقاربة الشرق الصناعية للغرب ضعيفة، وهذا يترتب عليه ضعف البنية الوطنية المتماسكة، وغياب قيم الحداثة، وتخلف الحياة الاجتماعية الذي يؤدي إلى عدم فهم (الصوت) والعملية الانتخابية، وهيمنة القوى الشمولية من دول وقادة طوائف، وهو ما أدى أن تكون العمليات الانتخابية والحزبية وبالاً على المجتمعات بدلاً من أن تكون أداة التطوير.
فالقوى الاجتماعية لا تعرف معنى الديمقراطية فلا تستطيع أن تطبقها في الحياة السياسية.
وتدرك الدول الشمولية الكبيرة ذلك فتسيطر على أدوات الاقتراع وتخلق مسارح لما يُسمى بالديمقراطية، تجعل كل شيء كما كان سابقاً مع بعض الرتوش.
هناك بلدان شذت عن هذه القواعد نظراً لتطورها الصناعي، كاليابان والهند وإستراليا وجنوب أفريقيا، فقد خلقت لها قواعد اقتصادية – اجتماعية جعلت الحاكمين والمحكومين يقبلون بقواعد الديمقراطية، فلا يستخدمون أجهزة الدول في العملية الانتخابية، فالدولُ تغدو مجردَ أدواتٍ سياسية محايدة، يمكن أن يستخدمُها حزبُ اليسار أو حزبُ اليمين.
كذلك فإن الدين لا يغدو أداة في الاستخدام السياسي، وهذا الجانب والجانب السابق، يتشكلان معاً في القانون الانتخابي، وهو ما أثمر عنه عصر النهضة وعصر التصنيع، ذاك وضع ثقافة التنوير، وهذا وضع أسس التصنيع.
ومن هنا نرى الديمقراطية الهندية قابلة لوصول كافة الأحزاب للحكم، ورغم الجذور الدينية واليسارية المضادة للأديان، إلا أن قضية الانتخابات تدور على برامج الاقتصاد والإدارة الاجتماعية.
ليس فقط أن الدولة، كجهاز وطني مستقل، والدين كثقافة مشتركة لليسار واليمين، بل لأن إدخال الصراعات السياسية في هذين المرتكزين للمجتمع لا يبقي المجتمع نفسه.
ولهذا رأينا العمليات الانتخابية التي تجري في الشرق في غير هذه الدول تعود بالدول للوراء، وتؤثر على هذين الهيكلين لمجتمعات، نظراً لغياب التدرج الطويل في التنوير والوطنية.
في بعض الأحيان يستولي اليسار على الحكم في هذه الدول كحالة جنوب أفريقيا ولكنه لا يستطيع تغيير البناء الاقتصادي عامة، إلا بما يطور حياة العاملين الذين رفعوه للسلطة، واليمين قابلٌ بهذه القيادة رغم صراعه معها، لكن الأغلبية العاملة أتاحت لحزب المؤتمر أغلبية مريحة إلا أن يأتي وقتٌ وتنخرهُ عواملُ الفساد كأن يلتصق بقوى النفوذ المالي أو يتراخى في الدفاع عن مطالب الأغلبية.
وفي الحالات الأخرى التي لم يقعْ غبنٌ فيها على القسم الأكبر من المجتمع كما وقع الغبن على السود في جنوب أفريقيا، دون أن يكون ذلك كذلك هوية دينية أو عرقية، فنجد القوى الاجتماعية بين مالكين وعاملين هي التي تتنافس أسوة بمثيلاتها في الغرب.
إن الانتقال إلى هذا البناء السياسي يتطلب إرادة سياسية عليا للابتعاد عن العصور الوسطى وثقافتها، فذلك عصر غير ديمقراطي مهما كانت الإنجازات فيه جليلة، ولا بد أن تكون الهياكل السياسية والدينية محايدة في الحياة البرلمانية، وتتصارع البرامج الاقتصادية فقط في الانتخابات.
وهذا لا يعني إلغاء العمليات التمهيدية للديمقراطية في العالم الثالث، لكن بشرط أن لا توجه المجتمعات للوراء، وتواصل الدول الهيمنة على صناديق الاقتراع، وتلعب التشكيلات السياسية الطائفية والعنصرية والعرقية والمناطقية دوراً رئيسياً تمزيقياً للمجتمع.
ولكن هذه الشروط لا تحدث، وتحدث صفقات سياسية تقطع هذه الأساسيات، وتغير من جوانب منها تتفق فيها الأطراف المتنفذة على حلول غير جذرية وتبقي المشكلات الجوهرية في الحياة السياسية والفكرية.
ولهذا نرى ما تسمى بالتجارب الديمقراطية وهي تنزلق في المحاصصات المناطقية فكل فريق يستولي على إقليم، فتغدو الفسيفساء الدينية والطائفية والعنصرية تحت قبة (الديمقراطية)، وكل فريق يستولي على محاصيل ومنافع مادية.
حين ننظر للمجتمع الأفغاني نتساءل هل يمكن خلق (ديمقراطية) في مثل هذا المجتمع القبلي؟
الديمقراطية مسألة ترتفع فوق مستواه وهو الذي يعيش في حروب طاحنة، ومعارضته تشتغل بالتجارة بالمخدرات المورد الرئيسي للبلد!
لكن مثل هذه الديمقراطية محمية بآلة حرب هائلة تستفيد منها شركات السلاح ووزارات الدفاع في الغرب؟
كيف يمكن للقبائل في المرحلة الدينية أن تعي مسائل الديمقراطية، والديمقراطية منذ الأغريق تـُقام في مجتمعات مدن وتجار متطورة؟
لقد توهمت الحكومات الأمريكية بإمكانية صناعة ديمقراطية بالقوة في مجتمعات متخلفة وحتى الآن لم تنجح تجربة واحدة.
ومجتمعات الشرق مجتمعات قوة تكون فيها جهة واحدة هي الصانعة للسياسة والديمقراطية غير ذلك ؟!
لا شك أن هذه التجريبية السياسية سوف تنهار، لأنها لا تقود إلى تصحيح شيء أساسي، وغدت ذات تكاليف أكبر مما كان فأضيفت نفقات أضخم.
وإذا تم حل هذه التجارب السياسية المسماة ديمقراطية فسوف لن تتغير هذه المجتمعات كثيراً وتعود الدول كما كان الأمر في السابق بتصريف الأعمال.
لا شك أن شعوب المنطقة تحتاج عدة عقود لكي تستوعب التنوير والحداثة، ولكي تتفكك العلاقات بين الدول والثروات، وتصعد قوى الفئات الوسطى والعمال التقنيين المواطنين، وتذبل القوى الطائفية، وتـُعاد اللحمة لنسيج الأوطان.
ولهذا لا تقوم الدول التي فيها مجالس (منتخبة) بإثراء التجربة السياسية في المنطقة أو أن تقدم نموذجاً اجتماعياً يُحتذى!
بل أن الدول الأخرى تمضي بسلاسة لا يعيقها شيء، مثبتة أن الدول كلها متشابهة في الإدارة.
وحتى هذه التجارب تتم فيها الطبخات فإذا اصبحت القوى الدينية مكروهة أُدخلت بعض العناصر الليبرالية، والعكس صحيح، مما يجعل مثل هذه التجارب كمسرح العرائس .
≣ (الديمقراطية) الأمريكية اسوأ من البريطانية
لم ترتفع الديمقراطية الأمريكية الموجهة كروشتةٍ صحيةٍ لمنطقةِ المشرق العربي إلى مستوى حتى الديمقراطية البريطانية المفروضة وقت الاستعمار.
لا بد من القول بأن تبعية المنطقة للغرب خلال هذه العقود بشكلٍ مباشرٍ أو غيرِ مباشر، لم تُوجدْ سوى بنيةٍ حداثيةٍ هزيلة، ورغم تدفقات النفطِ الهائلة فإن المحافظةَ والتبعيةَ شكلتا مجتمعات شمولية في العمق الشعبي وفي الإدارات، ولم تساعد المجتمعات على مقاربة العلمانية والديمقراطية والعقلانية، وليست جحافل الإرهابيين سوى نتاج هذه السياسات الطويلة التي أثخنت هذه البلدان بالتمزقات الكامنة العميقة.
حتى الاستعمار البريطاني من بعض الوجوه كان يساعد القوى الحديثة ويخففُ من المغالاةِ الدينية، ويحرصُ على أشكالٍ من العقلانية السياسية البسيطة لكنها كانت مفيدة.
أما (الديمقراطية) الأمريكية فاللأسف وقفتْ مع تصعيد الهياكل المذهبية السياسية، وها هي تضعُ العراقَ على سلطةٍ ثلاثية طائفية كمقدمةٍ لشرخِ الخريطة العراقية الوطنية.
حين ينسحب الأمريكيون سوف يتوسعُ قتالُ العراقيين ضد بعضهم البعض، وتتفجرُ المشكلاتُ كمقدمات للاستيلاء على السلطات، التي ستغدو فسيفساء سياسية حارقة.
إن منعَ التنظيمات الدينية ورفضَ المتاجرة بالأديان كانت لا بد أن تكون الخطوة السياسية الأولى لأي نشاط لتغيير العراق. ودون ذلك حرائق لا تبقي ولا تذر، وها هي التكويناتُ الجنينيةُ للدويلات في طريقِها للتشكلِ وخلق مقدمات الحرائق.
وكلُ بلدٍ سمحتْ للمتاجرة بالإسلام أو المسيحية سياسياً تحصدُ الآن خرائطَ وطنيةً ممزقة، فلا يحقُ إعطاء أحدٍ حقَ المتاجرة في الدين وإستغلالِ رموزهِ المقدسة لنا جميعاً لمآربهِ السياسيةِ الدنيا، وللتجارةِ الاقتصادية الوضيعة، وإستغلال بساطة الشعوب وغياب تربيتها السياسية الطويلة.
لا بد لنا أن نقاوم على مستويين: الدفاع عن العقيدة الإسلامية، والدفاع عن الأوطان، وكلا الجانبين يتلاقيان، فهذه السياسةُ تنطلقُ من تراكماتِ النضال الوطني والنضالِ القومي الطويلين في المنطقة، فهي التراكماتُ التي بُذلت من أجلها أرواح الملايين.
وإذا كانت الحركات التقدمية والوطنية هُزمت بالحديد والنار، وبالفسادِ وبقصرِ النظر والجهل، فليس معنى ذلك العودة للأسوأ، وللخراب العام، وتمزيق الشعوب وحرق وحدات البلدان والأمة العربية.
إن القوى التي تريد الوصول للثروة عن طريق الدين فلتتوجه للثروة عن طريقها العقلاني، عن طريق الاستثمار المادي ومساحاته الراهنة والقادمة الواسعة، كما أن هيمنة الحكومات على أغلب طرق الاستثمار هو العقبة الكبرى أمام من يريد أن يتطور مادياً ويزدهر مالياً.
والنتيجةُ الكارثيةُ من عدم تلاقي هذين الطريقين في خطٍ وسطٍ هو أن من يريد أن يصلَ للثروة عن طريقِ الدين لا يصلُ لها بل يحرقُ بلدَهُ ويخسرُ دينَهُ، ومن يتشبث بالثروة لوحدهِ يفقدُها ويعيش على الخرائب في نهاية المطاف.
الجانبان مدعوان للتخلي عن كافةِ أشكالِ الهيمنة على الاقتصاد وعلى الأرواح وعلى خرائطِ الترابِ التي تصيرُ خرائط نار.
إن القوى الغربية سوف تتركهم بهذا الشكلِ ليديروا هذه البلدان الملغومة المفخخة، ثم تنسحبُ عسكرياً لتقوم بعد ذلك بدور الإطفاء والمراقبة الداخلية والخارجية بين المتذابحين وقبض أثمان ذلك.
سوف نقرأ مانشيتات مستقبلية مثل هذه: الأكراد يستولون على كركوك – الأكراد يتقدمون للإستيلاء على بغداد – الشيعة يغزون مناطق السنة – السنة يهاجمون الجنوب – الشيعة يطالبون بالانفصال الخ.
ليس ثمة سوى من شعارين أساسيين يتوغلان بقوة وتوسع في الجماهير العربية الآن: ((منع الأحزاب الدينية)) و((توزيع الثروة على الشعوب)).
توغل هذين الشعارين في وعي الجمهور يتخذ لهُ أشكالاً مختلفة، وإرادات متعددة، ونضالات متنامية على حسب إمكانيات ومواقف القوى الطليعية، وكلما تأخرت الشعوب في تجسيدهما زادت فاتورة تضحياتها مستقبلاً، وتعمقت حياتها سوءً.
≣الديمقراطية الإيرانية والعسكر
أوضحنا في موضوعٍ سابقٍ بعضَ جذورِ الصراعِ الاقتصادي بين الرأسماليتين الحكوميةِ والخاصةِ الإيرانيتين في تاريخهما الراهن، ولكنه أمرٌ لا يكشفُ الأدوات الفكرية المستخدمة وهي عاملٌ خطيرٌ في تشكيل الصراع وتطوره.
ولا بد من القول إنه من الصعوبة العثور على الإحصائيات عن أحجام كل من الفريقين، خاصة الرأسمالية الخاصة المُغيَّبة الحضور في الأرقام والوجود الاجتماعي معاً.
ولكن من الواضح ضخامة شركات القطاع العام التابعة للدولة وخاصة للحرس الثوري، الذي غدا من الملاك الكبار للمؤسسات الاقتصادية والعسكرية والتقنية.
ونظراً لتضاؤل حجم الرأسمالية الخاصة، رغم بروزها الكبير في السوق التجارية، فإن وجودها السياسي يغدو كذلك ضئيلاً، خاصة في هذه المرحلة.
ولهذا فإننا نلمحُ أطيافَها من خلالِ تعبيراتٍ سياسيةٍ وفكرية، أكثر منها مصطلحات حداثية منتمية بوضوحٍ للحداثة وللديمقراطية والعلمانية.
فالمضمونُ الاقتصادي الرأسمالي الحر، وخاصة المصانع المملوكة لأفرادٍ، تكادُ لا تظهرُ في اللوحةِ الاقتصاديةِ العامة، وكذلك فإن مصانعَ الدولةِ المهيمنةِ على الثروةِ النفطيةِ والغازيةِ تغدو هي المتحكمةُ في أغلبيةِ الثروة وتوزيعها، فتظهرُ هنا سحابةُ الخليفةِ الأموي المسيطر حيث يكون مطرُها النفطي في بعضِ الجيوب، وهو أمرٌ يجعلُ الرأسمالَ الخاصَ الصناعي خاصةً ذليلاً وتابعاً لرأسمالِ المصانع الاستخراجية المملوكة لجناحٍ معينٍ مهيمنٍ في السلطة.
لكن التعبيرات الإيديولوجية لا يمكن أن تتخفى تماماً، ورغم إن مذهب الجعفرية هو مذهبٌ مناضلٌ في تاريخ المذاهب الإسلامية، لكن جرى له ما جرى لبقيةِ المذاهب الإسلامية من تحكمِ الدول الغنية وهيمنتها عليه، ومن الصعب ظهور التعبير عن عامة المسلمين من خلالِ عباءاتِ هذه المذاهب بعد هذه القرون الطوال من التحكمِ وإعادة الإنتاج.
ومع هذا فإن ذلك لا يعدم من وجودِ علماء مناضلين يظلون إستثنائيين بين الجموعِ التابعةِ للدول، والتي تفتي بمعاشِها لمن بيدهِ الأرزاق، أما أن يتابعوا بدقةٍ بين ما يجري في الواقع وكيفية تمثُله دينياً وتجسيده سياسياً حداثياً وديمقراطياً فذلك أشبه بالمستحيل.
ولكن يكفي أنهم يشيرون لما هو عامٌ ديمقراطي هو في مصلحةِ الأغلبيةِ الشعبية، ولهذا جرى إنحيازُ ثلةٍ من علماء الفقه الشيعي (للثورة الخضراء)، رغم البطش الكبير بها، وقد دعتْ هذه النخبةُ للحريةِ وانتقدتْ تزويرَ الانتخابات، لكنها لم تستطعْ أن توحدَ العامة والخاصة من أجل الديمقراطية. ولذلك أسبابٌ تاريخية طويلة.
إن الأدواتِ الفكريةَ المستخدمة من قبلِ طليعة الثورة الخضراء هذه متواريةُ، ذاتَ ظلالٍ كثيفة، معقدة، لا تزالُ في مرحلةِ تقيةٍ فكرية، تتلبسُ الأرديةَ التقليديةَ في محاولتِها للتعبيرِ عن نضالٍ ديمقراطي، واقصى تجلياتها كانت لدى عبدالكريم سروش، الذي توجه حتى للإرث الفكري النبوي وقامَ بتحليلهِ، لكن منظري الثورة الخضراء ظلوا في الأردية الدينية، وهي أرديةٌ محافظةٌ، تجعلهم مع الطبقة الغنية التقليدية المتحكمة في الثروة، وهم في ذات الوقت يريدون التحديث والديمقراطية!
لا يعني هذا ضرورة الخروج من الأردية الدينية، بل تعني فصل البرنامج السياسي عن الدين، الدين الذي قامتْ نفسُ هذه القوى المتحكمة في القرون السابقة بتفصيلهِ على مقاسِ الحكام المسيطرين على الثروةِ العامة، بطريقةِ الغيمة الأموية وتوزيع خيراتِها.
ولهذا فإن الفئةَ الخضراءَ تمثلُ مرحلةً إنتقاليةً تتوجهُ نحو إبعادِ قيادة الحرس الثوري عن التحكم في الدولة، وهي قضيةٌ بالغةُ الحساسية والأهمية لإيران والمنطقة، وتغدو معركةً جبهويةً تخصُ معظم الإيرانيين من أجل تفادي مخاطر العسكرة والحروب، ولتوجيه الفوائض نحو التنمية الداخلية والسلام، ومن هنا حرص قادة الجماعة على عدم توسيع الشعارات والتحليلات، وإقتصارها على نقطة سياسية تكتيكية، لكنها تعبرُ كذلك عن جثومِهم بين الطبقة الغنية المسيطرة، وإعادة العلاقة بين كتلِها السياسية والاقتصادية، لا أن تخرجَ أو تُزاحَ هذه الطبقة كلياً.
كما تعبر التكتيكات المستخدمة في نضال الشوراع السلمي عن هذه العقلانية السياسية المحدودة، التي تضغط حتى تحقيق مطلبها. ولو تحقق مطلبها الراهن فإنه لن يتم تغيير فرد رئيس الجمهورية بل خاصة وأساساً سيتم تغيير الفئة المسيطرة من القوى الحاكمة وهي الحرس الثوري. وبالتالي فإن تغييراً جذرياً لن يحدث لبُنية النظام، ولكن إصرار القوى المحافظة على عدم التنازل سوف يوسعُ الأهدافَ والتغييرات لتغدو الحريات أعمق ويتوجه النظامُ لسياساتٍ مختلفة وهذا سيظهرُ في حينه وفي ملابساته.
≣ العسكر يعودون من نافذة الديمقراطية
لا بد أن تكون الديمقراطية في الشرق عملية صعبة تاريخية مؤلمة، طويلة، فيكون لها متعرجات وهبوط والتفافات، مثل قطار يسير في أرض غير صناعية، وغير ممهدة، يصل أحياناً ولا يصل في أحيان أخرى!
وإذا كانت الديمقراطية هي شأنٌ إستنثائي في تاريخ الشرق فإن العسكر لهم تاريخ غير إستثنائي ومهيمن!
وقد كانت كل القبائل والدول السابقة هي دولٌ عسكرية، لأن القبائل كانت مسلحة، وتفرضُ أنظمة عسكرية، فالتاريخ السابقُ هو جذورٌ للجيوشِ العصرية، التي ليستْ هي سوى نفس القبائل والجماعات المسلحة ولكن صارت منظمة ومشكلة بالأنظمة والأسلحة الحديثة.
وفي المرحلة الليبرالية العربية والإسلامية المبكرة في التاريخ الحديث حاولت قوى التجار والمثقفين أن تشكل أنظمة ديمقراطية مستوحاة من الغرب، حين كانت الجيوش الغربية مسيطرة، فأعطتها بعضَ المساحة للتعبير ولكنس المخلفات التقليدية الأكثر ضرراً على التطور، لكن الجيوشَ العربية ظهرت من جديد، واستعادت القبائل والقوى القروية الإقطاعية نفوذهَا من خلال الجيوش التي انضم إليها ابناؤها، وراحت تزيحُ النفوذ الليبرالي الديمقراطي والنفوذ الاستعماري معاً.
فقد جمعتْ الجيوشُ نفوذ القوى القديمة وألبستها عباءة العداء للاستعمار، ولكن ذلك كان من جانب معين ضربة للتطور الديمقراطي، ولعدم تراكم وتوسع الحريات، وبقاء مجمعات التخلف في الريف والحياة الاجتماعية وفي الحياة الفكرية التي وضعت على أفواهها أشرطة عسكرية مانعة للتغيير والنقد!
وفي المرحلة الليبرالية الجديدة التي نعيشها الآن بعد أن استنفدت الأنظمة العسكرية نفسها وطورتْ أشياءَ قليلة وخربتْ أشياءَ كثيرة، ولم يبقْ منها إلا المتردية والنطيحة، وما سمحَ الاستعمارُ والتخلف، بدأ مجيء العسكر لكن من خلال ثغرات ونوافذ الأنظمة الحالية المترجرجة بين الليبرالية والشمولية!
ظهر العسكر في تركيا بشكل مختلف، ليمنع الأنزلاق نحو الأنظمة الدينية الشمولية، ووضع إطاراً للحداثة، ولعدم التجارة بالدين على حساب النهضة، لكن لدينا قفزَ العسكرُ من ثغراتِ الأنظمة المتكونة حديثاً غير الحاسمة في إنتمائها للوطنية وللحداثة والعلمانية والمستمرة في التجارة بالدين.
في دولٍ تسللَّ العسكرُ عبر عودة خدماتهم الحربية وتحول الجيش إلى الأداة الرئيسية للنظام في مجابهة عدو غاشم، ولم تستطع القوى المدنية التي أحضرتهم وقوت ساعدهم أن تعيدهم مرة أخرى للثكنات ليؤدوا واجبهم في التطور العسكري بل استغلوا مواقعهم العسكرية والتصنيعية الحربية ليفرضوا أنفسهم على الاقتصاد والإعلام والسياسة!
وهذا يعود للاضطراب في تشكل الأنظمة الجديدة، وعدم تطورها من خلال النسيج المدني السابق، وفرض تشكيلات غير عسكرية نظامية ومليشيات وأحزاب على الجيوش النظامية!
هي من قبيل عمليات إدخال الغوغاء لضرب التقاليد العسكرية النظامية الوطنية وكسر الانضباط ولكن يقوم بها الزعماءُ والضباط الكبار في البلد المعني، مثل الحرس الثوري في الصين فيما سُمي بالثورة الثقافية أو مثل عزل الجيش الإيراني الوطني وترفيع الحرس الثوري كجماعات من المتاجرين بالأجهزة العسكرية والمواد الاقتصادية، واللجان (الثورية) في ليبيا وخزعبلات ثورة الانقاذ السودانية التي جعلتْ البلدَ كله يهرول عالمياً من أجل أن يُنقذ!
هي عملياتٌ تشعرُ بالخوف من الجيش وتتمردُ عليه عسكرياً لإضعاف قوى في السلطات لا تقبل المغامرات السياسية، أو قوى في المجتمع المدني لها آراء مختلفة عن المسار السائد المضر، أو لإضعاف الجيش نفسه، فالأنظمة تشعر بأنها هشة وتخاف من القوة المنظمة الوحيدة والقوية وهي الجيش!
ويحدث العكس أحياناً حين تقوم القوى السياسية المدنية بتطوير النظام الاجتماعي وتعمل على تغييره من السلبيات المتجذرة فيه، وتخلق تعددية حزبية وفكرية، لكن القوى العسكرية والتقليدية في الجيش تتحالف لضرب هذه التجربة خوفاً على مصالحها التي سوف يجهز عليها مثل هذا التطور.
فتلجأ للانقلاب أو لتزوير الانتخابات أو لغيرها من الوسائل بحيث تبقى وتتاجر في حياة المواطنين.
وهي ترفعُ الشعارات البائدة لشحن مشاعر الشعب كمحاربة الفقر وتحرير فلسطين من الصهيونية، وهي لا تريد سوى تركيز السلطة في يدها، ووقف المسار الديمقراطي العميق في البلد!
وهذه كلها تحدث لعدم تجذر المسار الديمقراطي الهش في البلد، ولتفكك العلاقات الوحدوية بين قوى المعارضة، وتجذر القوى الشمولية في أجهزة الحكم خاصة في الأدوات العسكرية المختلفة، مع غياب حاضنة ديمقراطية دستورية عريقة.
هبوط العسكر بالمظلات فوق التجارب الديمقراطية وتضييع ثروات ضخمة وإدخال البلدان في حروب طاحنة مع دول أخرى، وظهور مجانين في هذه التجارب لم يبق شيء لم يدعوه لأنفهسم سوى النبوة والألوهة، رغم تجرؤ بعضهم على مناوشة المقدسات والتدخل في حيثياتها، كل هذا مثل خراباً واسعاً وهدراً لإمكانيات أمة كبيرة حولوها إلى خرائب.
≣ توازنات الديمقراطية والعلمانية
لا بد أن يكون التقدم السياسي على جانبي الديمقراطية والعلمانية معاً، فلا يمكن إعطاء القوى الطائفية السياسية مجالاً واسعاً للنمو، بدون أن تتخلى هي كذلك عن دكتاتوريتها التي تريدُ فرضها على الناس.
ولكن في خلال هذه السنوات المهمة زادت شهيتها لاحتكار القرارات وفرض هيمنتها المتخلفة، والتدخل في الاقتصاد من غير طريق الإصلاح الحقيقي.
ولقد لعبت ميوعة (اليسار) دوراً كبيراً في فتح شهية القوى الطائفية السياسية، فهو لم يتبصر في سنوات الأزمة الأولى خطورة وضع هذه القوى على كتفيه الواهنتين ومن ثم راح ينشرها ويقدمها لتحتل مكانه وتزيحه وتتلاعب به في خبث سياسي.
في تلك السنوات انبروا للدفاع عن هذه الطائفية السياسية وتخريبها، وغاب حتى وجود قراءة سياسية اجتماعية تغوص في جذور الأزمة وتجلياتها، ومعنى الوعي الديني المحافظ الطائفي اليميني وعدم تعبيره عن العرب والمسلمين، ووحدتهم، ونضالهم المشترك، ودور قوى الاستخبارات والضباط الكبار في الدول الطائفية في تفجير أوضاع المنطقة واستثمارها لعسكرة اقتصادهم، وغير هذا كثير من القضايا التي لم تتطرق لها تلك المعالجات السطحية.
المعالجات السطحية تشكلت من رخاوة وعي المنفيين واستهبالهم أي فرصة للهجوم على نظام جامد هو الآخر، بعد ذوبان تيارات اليسار وتمازج قواعدها بالأميين والدينيين الطائفيين، وتجسيد ذلك في تبدلهم الشديد من رفض واحتقار الشعائر الإسلامية إلى التغني بفضائلها بين ليلة وضحاها.
تعتمد تلك المعالجات السطحية على كتابة (البيان)، وهو بيان هزيل فكرياً، يُصاغ من جمل جاهزة، لا ترفدها أي دراسات أو فهم للبنية ولصراع الطبقات، وتعتمدعلى عقلية الإله الطيب أو الشيطان الآثم، فهنا الخير وهناك الشر، هنا النضال والنور وهناك الرجعية والتخلف والتبعية والظلام، وبما أن الطرف الحكومي هو الرجعي فالبضرورة يكون الطرف الآخر هو التقدمي، وبما أن الأول هو العتمة فلا بد أن يكون الطرف الآخر هو النور.
ولهذا فإن تغيير عقلية (البيان) كانت بحاجة لدرس عميق للنظرية وتطبيقاتها ولفهمها للدين وتركيباته، ولكن هذا ما كان ممكناً، وقد انتصرت القوالب والتسطيح والنظرات الجزئية وردود الأفعال.
ثم ازداد هذا البناءُ تراجعاً، بقبول الإغراءات المادية وتكوين تشكيلات سياسية فضفاضة لا قدرة لها على الفعل، مكونة من كم غير فاعل في الحياة، ومن أشكال منعزلة ونخبوية.
فيغدو التعلق بالقوى الطائفية والسياسية المحافظة هو طوق النجاة، مع غياب أي حفر سياسي بين الناس، وبعدم التوجه إليهم في بيوتهم وحياتهم ومناطق أعمالهم، إلا من بعض المبادرات العمالية الواقعية في هذا الجانب، وبعدم نقد المرحلة السابقة، عبر درسها وقراءة الخطأ والصواب، ولكن ذلك لم يحدث لأن العقلية السياسية لم تتقدم في العمق.
ومن هنا يجب الحذر الشديد من تسويق الطائفيين ونشرهم في الحياة على ظهور الليبرالية واليسار الواهنة.
ولماذا دائماً على القوى الوطنية أن تدفع ضريبة الدم في مراحل طويلة وعلى مدى أربعين سنة، وضريبة إنتاج الوعي في الأضرابات والسجون وكذلك ضريبة العزل السياسي عن مقاعد البرلمان وإفشال رموزهم، ثم يـُفرش البساط الأخضر لمن يرفضهم ويُفشلهم وينشر وعي الخرافة الدينية لا الإسلام بعكس ما انتجه اليسار سابقاً من وعي موضوعي ثم وهنت عقوله في استمرار صنعه؟
لماذا لا يتقدم هؤلاء المتاجرون بالإسلام خطوةً واحدة من أجل فهم الدين والوطن وينسون الارتباطات الخارجية وخيوطها المتسربة في العظام؟
لماذا لا يفرجون عن النساء الأسيرات في الحظائر ويعطونهن أبسط الحقوق؟ وهل يا ترى من يمنع الحقوق عن أهله يستطيع تقديم الحقوق لخصومه؟!
إن تقديم التنازلات المستمرة للطائفيين من قبل اليسار يشجعهم ويصور لهم أنهم معبرون عن جزء من شعب، في حين أنهم معبرون عن الجهل والتخلف في هذا الجزء من الشعب أو ذاك، عن التجارة بالدين والسياسة، والتوجه للمنافع الشخصية، لا عن التضحية التي يدفعها دائماً العامة الفقراء.
تتشكل الميوعة السياسية هنا من غياب وعي طبقي ملتحم بالعمال والنساء والحداثة، ومن غربة تجاه التراث، ومن عدم إستيعاب للفكر الديمقراطي التحديثي، فتتكون هنا فئاتٌ صغيرة فقدتْ جذورَها بتراثها الحزبي، وعجزتْ عن إنتاجِ تيارات مُجدِّدة ومراكمة ومصعّدة لتاريخها النضالي السابق، فتتحول إلى أفراد يخيطون و(يبيطون) في الحياة السياسية بدون ارتكاز على ديمقراطية حزبية وأفق نضالي مسقبلي.
لا بد أن تتوازن عمليات الديمقراطية والعلمانية والعقلانية، فلا يمكن تقديم الكراسي للملالي باستمرار دون أن يتحولوا هم بدورهم إلى شخصياتٍ سياسيةٍ وطنية تحديثية، وأن يرفعوا أيديهم عن أموال وأحوال البسطاء والنساء واليتامى.
لا يمكن جعل الجماعات الطائفية مستيدة على كراسي البرلمان من دون أن تتخلى عن دكتاتوريتها التي تقيمها على شحن العامة بالكراهية للعقلانية والعلمانية والحريات العامة.
ثم أن لا يكون للطائفية ومنتجيها وطن محدد ووطنها غيمٌ ديني غامض لا أحدَ يعرفُ ملامحَهُ السياسية ثم إذا نزلوا للوطن من هذا الدخان فتتوه، وجعلوه أوطاناً، فالوطن وسيجوه بأسلاك شائكة سياسية!
إن التقدميين والليبراليين والديمقراطيين الوطنيين عامة لا يمكن أن يقدموا تنازلات دون أن يتقدم الطائفيون إلى الوطنية المتجذرة في هذا التراب، ويطلقوا سراح قوى كبيرة داخل صفوفهم تعاني القمع الاجتماعي والقهر الجنسي.
وسنعمل دائماً على إطلاق سراح هذه الجماهير وتقدمها ومن أجل عيشها الكريم وتقدم فكرها ودينها.
والمحاولات لزيادة نفوذهم وسيطرتهم على العمال والنساء والأطفال لن تنجح مهما سوقها المتذبذبون وكرسها المتشددون، فهم يعملون ضد عقارب الساعة، وكلما نجحوا قليلاً أثاروا الاصطدامات والمشاكل وستتمزق صفوفهم هم قبل غيرهم ويحصدون نتائج أعمالهم.
إن غياب الحفريات المعرفية داخل هذه التشكيلات الطائفية ورؤية جذورها المرتبطة بقهر الأغنياء للفقراء، وبسيطرة المستبدين على المسلمين على مر التاريخ منذ سقوط حكم الخلفاء الراشدين، ولتنحيتهم للعقلانية والوطنية، وكل هذا يفرضُ مواجهة مثل هذه التنازلات وعقلية التدني السياسية، لأن فيها تصديعاً لنضالنا الوطني، ومحاولاتنا المستمرة لخلق تعاون واسع لحل مشكلاتنا الاقتصادية المتفاقمة، وأحوالنا الاجتماعية الصعبة.
≣ الإسلام دين الديمقراطية والعلمانية
حين حدث الانقلاب على الأسس الاجتماعية للحكم في(الفتنة الكبرى) وما بعدها من نتائج استمرت ليومنا هذا، انقلبت تلك الأسسُ رأساً على عقب.
لم يكن ثمة ضرورة لأحزاب تقوم على أساس ديني، لأن الحكم هو للأغلبية الشعبية، وكان كبار الأغنياء قد أُبعدوا عن السيطرة على السلطة، ولهذا لم يخطرْ في بال عامة المسلمين أن تظهرَ أحزابٌ سياسية دينية، لأن الإسلام هو صوتُ الأغلبية العاملة.
وفي بداياتِ الانشقاق اعتبرتْ الأحزابُ السياسية المتوارية تحت لافتاتٍ دينية، إنها مع ذلك الميراث الرافض للأحزاب السياسية الدينية التي تمثل خروجاً عن دربِ السلف!
أخذت فئاتُ كبار الأغنياء التي وصلت للسيادة السياسية في صفوفِ مختلفِ الفرقاءِ المتصارعين على الحكم والثروة، وراحت تصورُ نفسَها أنها الوريث لما قامتْ بتحطيمهِ وإلغائهِ من التاريخ لجماعة المسلمين!
وحين جاءَ أي حكم مذهبي سياسي في هذه الطائفة أو تلك قام على نفس أساس الهيمنة الطبقية، فيصور نفسه بأنه الممثل للدين الحقيقي، وفي ذات الوقت له خزائنها المليئة بالمال والسندات والأراضي، وحين تقول فئة أنها ممثلة الإسلام تقوم باحتكار الثروة العامة وتحويل حزبها العسكري السياسي إلى القوة المهيمنة على العاملين. كان تاريخ الأغنياء الحاكمين المحدودي العدد بين أغلبية الفلاحين والبدو والفقراء.
وفي ذلك التاريخ تكونت جذور الجماعات الطائفية السياسية المعاصرة، فكانت الجماعاتُ السابقة تقتطعُ خيوطاً صغيرة من النصوص وتركبها على مصالح جماعة حاكمة في مختلف تضاريس العالم الإسلامي، وتحيل نفسها إلى حارسة للمذهب، وبالأحرى إلى معتقلة لتطور المذهب وتعبيره عن الناس.
فكان الحكام المستبدون يرون مدى شعبية هذا المذهب أو ذلك، ومدى قدرته على تكريسه لسطوتهم، ويكونون على أتم الاستعداد لتغيير المذهب وجعله سائداً في البلد الذي يحكمونه متى ما كان مفيداً لتكل المصلحة
غدا مثل هذا التسييس ميراثاً عميقاً متجذراً، توظفه الجماعاتُ السائدة لانفصال دولة عن أمبراطورية، أو في هدم أمبراطورية، ويوظفه المغامرون السياسيون إذا ما ركبوا على أجساد القبائل المطايا للوصول للكراسي.
والدائرة تدور والطاحونة تفرمُ عظامَ الناس، والقصور تمتلئ ثم تتحول لخرائب، وتتجدد ثانية بالمتع والعطايا والكنوز ثم تـُهدم وهكذا دواليك، وإستغلال الإسلام يقوم به أي لص أو مغامر أو ثائر كذلك، لكنه يتحول مثلهما، فلا عقول تتسع ولا معرفة عميقة تتراكم، ولا حضارة تبقى.
كان هاجس الوحدة قوياً في الإرث الأول، لأن الأرثَ وحدَّ مصالح الأغلبية، رفض صعود الطبقية العليا، الفرعونية، والملأ المالي، وجماعات الربا الفاحش، وأبناء الأكرمين، فاستخدم الملأ البنكي والسلطوي والجمهوري والملكي ورقة التوت الرقيقة؛ الصدقات، والتظاهر بالتقوى، والشكليات الديكورية الخارجية، ليتظاهروا بوحدة موهومة غير حقيقية للمسلمين، تفرقها كل يوم الضرائبُ على كواهل الناس، وتراكمات الثروة هنا وتراكمات الحرمان هناك، السجون المفتوحة هنا والسفرات والصناديق المُهّاجرة هناك.
صارتْ الأقفاصُ المذهبية السياسية ضرورية، للحفاظ على هذه الهيمنات، رغم أنه حتى الهيمنات الطبقية الحداثية تصاعدتْ في أغلبية الدول الأخرى دون الحاجة لمثل ورقة التوت تلك، والحالُ اليائسُ يقول أسرقونا لكن دعوا عنكم التلاعب بالدين!
لكن الوحدة الدينية المأزومة الموهومة هذه تزيد الانشقاقات والحروب والمعسكرات، لأن مئات الملايين تؤمنُ بها، ويظهر مغامرون من كلِ حدبٍ وصوب، يتنطعون لمثل هذه المهمة الجليلة المستحيلة الآن، فيركبون الطائرات للمغامرات ويتمردون بالجيوش ويقتطعون أجزاء من الدول لإقامة دول قطع اليد، والديكورات سهلة، والأكسسورات برخص التراب، ويقدم متعلمون جبالاً من الكتب للحفاظ على التفاسير العتيقة والتعصب الديني والتعصب القومي.
ويزداد حرج بعض رجال الدين العقلانيين من هذه التجارة بالمقدسات، لكن الأغلبية ماضية في المزاد الرهيب، فيتوارى هذا البعضُ ويقدمُ السياسيين دون أن تحدثَ عملية فصلٍ عميقةٍ بين المقدسِ والسياسي، بما كان أساساً للتوحيد، وما هو صار أساساً للصراعات على أموال الدنيا، بما كان تراثاً عزيزاً سامياً توحيدياً، وما هو عراكٌ على الإبل والنقود ونهب الأراضي!
وقد وصلتْ العملياتُ الصراعية إلى ما هدَّم دولاً (إسلامية) ،(بل قلْ تاجرت بالإسلام)، ونرى أمامنا جحافل المسلمين المساكين وهم يحملون عفشهم البائس مثلهم ويرفعون أطفالهم على أكتافهم، ليفروا من الصواريخ والقنابل، والطائرات (الإسلامية) تضربُ منازلـَهم وقراهم ومزارعهم، والجماعات الرافضة (الإسلامية) تطلقُ عليهم قذائفـَها وتحرقُ مزارعَهم وعالمهم الهادئ الساكن!
وتجمع الدولة (الإسلامية) الأموالَ وعَرق الملايين في مخازنها للجماعات المقربة، والإقاليمُ النائية (الإسلامية والمسيحية وغيرها من الملل) محرومة، عطشة للماء، ويقول رئيسهم (الإسلامي) للجمهور (سنعطيكم الماء!)، ويصيرُ ابناؤهم الضباط حكامَ البنوك والشركات الدنيوية و(الإسلامية)، ليواصلوا ثقافة الفتنة الكبرى، أي ليضعوا مخططات تدهور الدول الإسلامية وتمزقها، وبدلاً من الأفراس ورباط الخيل يُعدون به عدة لضرب المسلمين، يستخدمون قذائف الهاون ومدفعية الدبابات سلاحاً يرهبون به المطالبين عن أخذ أنصبتهم المتواضعة في الميزانيات والأموال التي انتجوها.
انظرْ إلى خرائط الرعب في إفغانستان وباكستان والسودان والجزائر، سيول من الحروب وضحاياها الفقراء، ولا جماعة طائفية قامتْ بالتبدل والتوبة من هذا الميراث الدامي.
ليس ثمة أكثر أسى من رؤية ما يجري في باكستان الآن مئات الآلوف من البشر يتشردون في لحظة، هنا يفقدُ الناسُ بيوتـَهم الرثة، وهناك في أمريكا يفقد الأغنياءُ فللهم الفارهة من الفساد المالي والبذخ، صورتان تمثلان وجهين لعملة دولارية واحدة، فبؤسُ باكستان تغذى من دكتاتوريات عسكرية استخدمتْ الدين مطية، ونهبتْ خيراتِ البلد ورحلـّتها للغرب، وتلاعبت بهذه الثروة قوى مالية غربية كبرى إلى درجة الجنون بذخاً وعسكرة. ولكن هؤلاء الفقراء الباكستانيون يتعرضون للموت في كل دقيقة، وأولئك الأغنياء يُعرض عليهم التعويض!
≣هشاشة الهياكل الديمقراطية
هشاشة الهياكل (الديمقراطية) في العالم الثالث واضحة جلية، فهي تعتمد على إرادة حاكم يتطلع لتغييرات إيجابية، وتبدل صفحة الماضي، ومواكبة دول العالم المتحضرة حتى لا تكون بلده عرضة للاضطرابات والعقوبات والتدخلات، وقد تكون مجرد تلاعب بسيط من قبل الطبقة الحاكمة لتهدئة نزاعاتها وتقاسم الحصص وعدم السماح للأحزاب المعارضة لكيان البلد في الانتشار وقد تكون تراكما موضوعياً كما هو الحال في أمريكا اللاتينية التي وصلت شعوبها لمستوى متقدم مقارنة بدول العالم الثالث الأخرى، نظراً لتجذر الأحزاب الوطنية واليسارية بين الجمهور العريض، أو قد تكون عملية خداع كبيرة تقوم بها الطبقة الفاسدة البيروقراطية للحفاظ على سيطرتها على الأملاك العامة كما هو الشأن في روسيا.
ورغم تقدم روسيا الكبير على الصعيد الاقتصادي إلا أن ذلك كان بلا تقاليد ديمقراطية، وهو أمرٌ لا يحدث إلا بأن تظهر قوى سياسية علنية تمارس المعارضة لمدة طويلة، وتشكل علاقات قوية مع الشعب، ولهذا فإن عقلية الاستبداد ومناخ الطاعة لأولي الأمر وسيطرة الشعارات الدينية – الحديثة الشمولية تهيمن على الرأي العام كما هو الشأن في إيران وسوريا وليبيا وغيرها فلا تخلق ديمقراطية.
إن الديمقراطية تحتاج لتحضير طويل بين الجمهور العادي الأمي، أساس الشعب في العالم الثالث، بأن يزيل خوفه من الدول ومن رجال الدين ومن رجال السياسة المتسلطين، وأن يمتلك الجرأة على نقدها، ومعرفة مصالحه المستقلة، وأن تكون ورقة الانتخاب خاضعة لمصلحته المستقلة وإرادةً لتطوير هذه المصلحة باتجاه رقي وتنور الشعب.
أي أن يكون الشعب علمانياً بدرجة أولى، ويدرك أن حبه لدينه أمر مختلف عن قضايا السياسة، فقضايا السياسة تخضعها الأحزاب لمصالحها الذاتية الخاصة، وهي تستعمل الكثير من شعارات الدين والدنيا لمصالحها وصعود جماعاتها، والعملية الديمقراطية تتطلب برامج لتغيير محسوسة في حياة الناس معدة بشكل خطط وبرامج في حال وصول هذه الأحزاب إلى البرلمان.
ولا تستطيع الأحزاب أن تقوم بذلك إلا إذا كانت أحزاباً علمانية، أبعدت المذهبية والدين والقومية عن برامجها، فبرامجها تخص تطوير معيشة المواطنين والمهاجرين على أي مذهب أو دين أو قومية يكونون.
وحتى هذه البرامجية العلمانية المجردة من كل هوى مذهبي أو قومي، تحتاج لسنوات من أجل تفهم الواقع وتدرك الطرق لتغييره ورفع معيشة الناس وحفظ سلامتهم ما داموا يسكنون هذا البلد أو ذاك.
ولا بد من صراع طويل بين البرامج الحديثة ل (الرأسمالية الخاصة) و(الإقطاع) و(العمال)، وهي القوى الثلاث الأساسية المتحكمة في أموال الدولة وعملها في العالم الثالث، أي المتحكمة في خبزها وزيتها ولحمها.
فالديمقراطية ليست حرباً ضد الدين أو معه، ولكن هي تشكيل لعلاقات سياسية بين الطبقات الكبيرة المتصارعة حول الملكيات والأجور والدخول وسياسات الأدخار والتأمين وسياسة البيئة والهجرة الخ.
إن العلاقات السياسية التي تجري من وراء كواليس الدين والمذاهب والقوميات، وتخلق الحروب بينها، تتأطر في الديمقراطية وتصبح صراعاً بين من يملكون ومن يعملون وتحدث تطورات بين هذين البرنامجين الأساسيين.
أي أن الصراع الديمقراطي العلماني يدور حول المصالح، وليس حول أن هذا المذهب أفضل من ذاك، ولا أن هذا القسم من المواطنين له الدرجة المميزة في الجنة.
إن انتقال الأحزاب والجمهور للعلمانية الديمقراطية مسألة تتعلق بمثل هذا الصراع، وبتغيير الهياكل السياسية في كل بلد تجري فيه مثل هذه العملية التحولية.
فماذا أعدت الأحزاب لتغيير المدن؟ وما هي سياستها في الهجرة؟ وما هو برنامجها البديل لوزارة العمل؟ وكيف تريد تغيير الشوارع والجغرافيا الوطنية؟
كان السكان في أمريكا اللاتينية يشتبكون حول المذهبين البروتستنتي والكاثوليكي وحول من هو الأمريكي الأصلي، الأسباني أم الهندي الأحمر، وكل هذه الخزعبلات، لكنهم الآن يختلفون كمواطنين وكطبقات كل له برنامجه لإدارة الأملاك العامة وتنظيم أسواق العمل وسن قوانين التجارة وغيرها.
وقد عملت الأحزاب في هذه القارة التابعة للحضارة الأوربية عامة عبر عقود طويلة من العملين السري والعلني حتى ترسخت كأحزاب تمثل المواطنين، فالحزب الذي كان يمثل الهنود الحمر صار للمواطنين كافة، نظراً لرقي الثقافة عند المواطن العادي وتضاؤل تعصبه للقبيلة والمنطقة.
وبهذا فإن الديمقراطية نشأت في القواعد الشعبية أولاً، حين رأى ملاكُ الأراضي أن مصالحهم ستتبع تنظيم حزب موحد لهم، ورأى التجار والصناعيين مثل ذلك، وكذلك رأى العمال، وبهذا فإن الهيئة الاجتماعية الوطنية وممثليها حولوا صراعاتهم في الغابات والمدن بالأسلحة وبحروب العصابات الطويلة إلى حوار مصالح واتفاقات داخل مجالس تشتغل لتغيير القوانين والظروف كلٌ من موقفه ومصلحته وهذا رغم تشعبه وصعوبته ومرارته، أفضل من إستخدام قوة النيران في العمل السياسي.
هذا يعتمد على ظهور ممثلي القوى الأساسية هذه، لكن إذا ظلت جماعاتُ البرجوازية الصغيرة تصرخ وتشعلُ الجملَ الثورية كل ساعة، وهي لا تمثل أي طبقة رئيسية، بل تتراقص فوق حبال السياسة من يمين إلى يسار، وتجعجع بالمفردات الدينية والقومية، وكل يوم لها موقف، فإن صراع المذاهب والمناطق يغدو هو السائد.
ودون حدوث هذا المناخ المؤسس للديمقراطية فإن الدول وجيوشها خاصة تظل هي المتحكمة في هذه اللعبة السياسية، وتظهر لها في كل فترة (ديمقراطية)، فمرة هي التي تعمل من أجل الديمقراطية ومرة أخرى هي التي تضع حداً لفساد الديمقراطية، ومع موت قائد الديمقراطية يظهرُ قائدُ الجيش منقذ الديمقراطية والذي يمنع الفوضى!
وهكذا نرى تفجر الانقلابات في بقع كثيرة، ويجد البرلمانيون المسترخون في مقاعد الحروب الكلامية أنفسهم فجأة في السجون، ويعبرُ رئيسُ الجمهورية المُقال عن آرائه في قريته المحاصرة بالدبابات.
حين يبذل التجار والصناعيون والمقاولون جهوداً وقوة اقتصادية وسياسية على خلق أحزاب جماهيرية وتكوين برامج تحفظ مصالحهم على المدى الطويل، وحين يبذل العمال وممثلوهم مثل هذه الجهود في التعلم ودراسة السياسة والاقتصاد بدلاً من الثرثرة ولعب الورق، ويجد ملاك الأراضي والعقارات أن تكوين حزب يحفظ مصالحهم وأن يشتغلوا السياسة المستقلة الخاصة من فوق الطاولة لا من تحتها يدبرون المكائد وبناء الأضرحة والمقامات، فإن الديمقراطية وقتذاك تتشكل، وتغدو لهذه القوى الاجتماعية الكبيرة سياسات تطوير للمجتمع وللخريطة الفعلية على الأرض لا في الأحلام الضبابية. أي حين تحدث الانتخابات على أساس موضوعي وطني لا أن تـُسرق مقاعد الدنيا والآخرة لجماعة.
≣ حريات النساء مقياس للديمقراطية
كلما ازدادت حريات النساء كان التقدم الاجتماعي أكبر، وتواجه الدول والجماعات المحافظة اليمينية و(اليسارية) اختباراً قوياً لمدى إيمانها بالديمقراطية اللفظية حتى الآن، ويتحدد ذلك بمدى قدرتها على إحداث تطورات كبيرة في حياة النساء في وضع يهيمن فيه الذكورُ هيمنة مطلقة في هذه الدول والتنظيمات.
تعود الهزائم التي حلت بأنظمة التحرر والقومية والليبرالية الضعيفة إلى عدم إيلائها لهذا الجمهور القابع في البيوت والتراث المجمد عناية كافية، فقد قادت هذه الأنظمة جماعاتُ الذكور المحافظين، ومهما كانت إيجابياتها على صعيد محاربة الاستعمار والتخلف فإنها تركتْ النساءَ في ظلام العصور الوسطى.
وقد بدأت الأنظمة الليبرالية تقدماً هاماً على هذا الصعيد فتفجرت شعارات تحرر النساء وظهر منظرون لهذه الحريات على صعيد الحريات الاجتماعية والسياسية المحدودة، لكن تلك الحريات لم تصل للعمل الصناعي وتحجيم العائلة الأبوية الكثيرة الأعداد والقابعة في الأمية والجهل والأساطير، وفي قوانين الاعتقال التي تـُبرر بأسم الدين.
بل أن الأحوالَ ازدادتْ سوءً مع الأنظمة والحركات القومية العسكرية والدينية الشمولية، فقد تضخمتْ المدنُ العربية الصغيرة بأعدادٍ هائلة من الريفيين والبدو التي حملتْ الأشكالَ المتيبسة المحافظة وحاربت بها التطورات الوطنية والليبرالية الصغيرة في المدن العربية.
وهكذا تحملتْ النساءُ تراجعات الحركات السياسية العربية وتصاعد ذكوريتها، فامتدت الدكتاتورية من البيوت إلى الشوارع والأحزاب والجماعات والحكومات.
وكان التراجعُ ظاهراً على صعيد الملابس، وأدوات الزينة، وفرض الهيئة الذكورية على النساء، وتحجيم الجمال ودوره الخلاق، ونشر القبح، والأشكال الرهبانية وأمراض السمنة، ولكن النساء كن حتى في مثل هذا التصاعد للدكتاتورية كن يقاومن داخلها، بتغيير اللباس والبحث عن علماء دين يتسمون بالنزاهة والبعد عن الإقطاع، وهم نادرون محاصرون، فعاد عهد الجواري على نحو كثيف، وربحَ الكثيرُ من الرجال حريات البذخ واللهو والأسراف وتضييع ثروات الأمم الإسلامية. ولكن الأغلبية من النساء يتسمن بالخضوع ويزايدن على رجال الدين في محافظتهم فيزددن عبودية، نظراً لعدم درايتهن بالإسلام والحداثة، وعدم تمييزهن بين الإسلام كثورة نهضوية توحيدية ومشروعات الحركات الطائفية الرجعية التمزيقية لجسد الأمم الإسلامية.
ساعد في هذا إستيلاء قواد القرويين والبدو على مقدرات المنطقة النفطية وبثهم للشعارات المحافظة، وتصاعد مشروعاتهم وتكاتفهم وتكوينهم أحلافاً منظمة، وتمزق الحركات العلمانية والوطنية والتحديثية.
صار بعض الرجال يطارد بناته لأنهن يكتبن ويقرأن، أو لأنهن يظهرن على المسرح يشاركن في عروض مسرحية خلاقة، فكان الوأد الجاهلي المتعدد الأشكال للبنات.
في حين وجدنا في مرحلة سابقة آباءً أميين يفخرون بكتابة وحضور بناتهم الفكري.
لا يعود هذا الحضور المحافظ لهذه الجماعات أساساً بل للتكوينات الاقتصادية الأساسية في كل بلد، فالحكومات العربية لا يهمها النسيج السكاني الاجتماعي برجاله ونسائه بقدر ما يهمها السيطرة على الثروات في مشروعاتها غير المراقبة، والتي تخضع لراهن الربح والفائدة المادية، وليس لهدف تقدم السكان ككل.
لدينا في البحرين عدة آلاف من النساء لا يشتغلن في الخارج بل يعملن في بيوتهن الخاصة، وهناك الملايين في كل بلد عربي بمثل هذا الوضع، في حين تأتي العاملات والموظفات الأجنبيات للإستيلاء على وظائفهن، ولا يهتم رؤوساء الشركات بالعاملين فما بالك بتطور الحضور النسائي في الأعمال المختلفة؟!
يعتمد الحضور النسائي التحرري على تطور معيشة الطبقات الفقيرة، ومدى اتساع تعليمها، فهي المكان الأساسي لتواجد الذكورية المحافظة والشمولية، وكلما ترقت في أجورها ووظائفها ومساكنها وثقافتها صعب تغلغل القوى الشمولية بينها.
كما يؤدي هذا إلى عمل النساء واتساعه، وهو أمر يعمق كذلك من تطور معيشة هذه الطبقات، فلا ترغب في التوجه للمزايدات السياسية، وتعطي البنات حقهن من العمل والتعليم والثقافة.
إن طبقات معدمة جاهلة لا يمكن إلا أن تجعل نساءها أكثر تخلفاً وإنتاجاً للتخلف.
ومهما فعلت الأنظمة والحركات الدينية الشمولية من اضطهاد للنساء فإن الكثيرات يجدن ثغرات في نظام القمع الشامل هذا، فكل هذه الدول والجماعات الدينية المحافظة لها ظاهر وباطن، إدعاء بالتدين وتكالب على المنافع ولذائذ الحياة، فتظهر أنظمتها وحركاتها بهذا الشكل المشروخ المنافق، فاليافطات تقول طهر ونقاء وصرامة، والباطن عمولات ومحرمات، سوق علنية (بيضاء) وسوق باطنية سوداء، أغلب الأشياء محرمة في الظاهر وصارمة ولكن في الباطن كل شيء مسموح وحسب أفضل الأسعار.
ولهذا فإن الكثير النساء المتمتعات عموماً بالدهاء يجاملن هذه الحركات والأنظمة وينسقن مع أغنيات الفضيلة الزاعقة فيها، ولكن يكون لهن باطهن ومكرهن الخاص.
غرائز البشر وأخطائهم ونواقصهم لا يمكن القضاء عليها بالخطب التي يعتقد المحافظون إنها الوسيلة المثلى، ويجاورها العقوبات الصارمة، وهو أسلوب في ردع الإنسان ثبت فشله، وليس أفضل من المكاشفة والوضوح وتغيير الإنسان عبر ظروفه الموضوعية، ودعوته لخيارات الخير، ويبقى هو سيد مصيره، فإذا تجاوز القانون خضع لعقوباته.
فوفر للنساء خيارات العمل والثقافة والرقي ثم حاسبهن على خياراتهن. أما أن تقمعهن وتسود عيشتهن فسوف يمكرن بك ويجعلنك أضحوكة وأنت تعتقد أنك سيد الفضيلة.
لكن الدول والحركات المحافظة لا توفر ذلك لأغلبية النساء، فهن عاطلات في البيوت، يخضعن للسحر والثقافة المتردية للفراغ، فيجدن في الأزياء والعطور ومناكدة الأزواج وسؤ تربية الصغار وجودهن الزائف وقد أُنتزع وجودهن الحقيقي.
فتجر النساءُ الرجالَ المحافظين لهذا المستنقع الاجتماعي، فيخلق الرجالُ بيئات متعة زائفة، ومجتمعات ذكورية خاصة بهم، ونفقات بذخية تدمر الأسر، فيكون المجتمع قد خسرَ رجاله ونساءه معاً.
ونتاج ذلك حشود من النسوة في المحاكم ومعذبات ومطلقات وعيال مشردين، ويقوم الفقهُ الذكوري الجامد بمنع الإصلاح عن طريق الشرع، وعقاب الرجال الفاسدين.
≣ معاني الديمقراطية في الشرق
تحتاج المجتمعاتُ الشرقيةُ إلى عشرات السنين للاقتراب من الحالة الديمقراطية، فباستثناء المجتمع الهندي والياباني فليس ثمة إمكانية حالياً لتشكيل ديمقراطيات في آسيا وأفريقيا. المجتمع الهندي مجتمع فريدٌ من نوعه، عرف تعايش الأديان والقوميات، فأضفى عليها حزبُ المؤتمر في صراعه مع الاستعمار البريطاني صفة قانونية عميقة. بينما المجتمع الياباني أعطتهُ العزلةُ والتحولاتُ الداخلية الصناعية إمكانيةَ الاقتراب من الديمقراطية فتشكلت فيه بصورة فاشية كما بدا ذلك في الحرب العالمية الثانية، حتى جاء الاحتلالُ الأمريكي فجعله في ظل الديمقراطية الغربية وبهيمنة الطبقة الرأسمالية فيها.
نحن نفهم الديمقراطية باعتبارها حالةً سياسيةً تعني سيطرة الطبقة الوسطى على السلطة، فهي كذلك دكتاتورية، لكنها دكتاتورية تقدمُ للطبقات الشعبية مستوى من الحريات أفضل من المجتمعات الاستبدادية، لكن ما عدا ذلك فممنوع، وهذا تعبير عن مستوى تطور.
وبطبيعة الحال تنشأ فتراتٌ استثنائيةٌ تغدو فيها الطبقاتُ متقاربةً حينما يسقطُ نظامٌ استبدادي قديم، أو يواجه المجتمع مستعمراً ما فتتوحدُ الجهود، فتنشأ حالةُ نهوضٍ اجتماعية كبيرة، لكن تكون مؤقتة بطبيعة البناء الاجتماعي البشري المحدود في ظلِ إنتاج راهن عاجز عن خلق مساواة حقيقية، وفي ظل تنامي مصلحة طبقة عليا دون بقية الطبقات.
إن الانفراجات الشرقية والتبدلات السياسية التحديثية ليست هي حتى بمستوى الديمقراطية الرأسمالية الغربية، فهي صراعاتٌ داخليةٌ بين قوى اجتماعية تقليدية لم تصل احداها لتكون قوة ديمقراطية، وكل مجتمع يحمل بصمته الخاصة في ذلك، فليس ثمة فورمة لوصف مثل هذه الصراعات المختلفة.
فهناك قوى تقليدية ربما تريد وراثة قوى تقليدية حاكمة سابقة، للحصول على بعض امتيازاتها الاقتصادية ومواقع نفوذها، ويبدو ذلك في نوعية الأحزاب المناطقية أو المذهبية عادةً التي تعبرُ عن الاختلاف مع النظام السابق، غير أنها لا تختلف معه في تشكيل جماعة جديدة تقبض على مفاتيح السلطة.
ولعل هذا القبض يتم في مناطق جغرافية مبعدة عن التأثير في السلطة السابقة، فتظهر بصفة حكم أقاليم أو جمهوريات أو قوميات كما حدث ذلك في سقوط النظام السوفيتي أو العراقي، لكنها تظل سلطات شمولية جديدة، اتاح لها التحول السياسي المغمور بعاطفية قومية أو دينية شديدة، أن تحصل على أصوات كبيرة للوصول للحكم.
بطبيعة الحال هناك لحظة تقدم حتى في هذا التحول، فالنظام الشديد المركزية لم يلتفت إلى مشكلات الأقاليم أو المناطق المحرومة، أو الأثنيات المغبونة، فتأتي الأنظمةُ الجديدةُ لتعدل مثل هذه السياسات إلى حين، وهذا يعتمد على مهارة القيادة السياسية، لكنها لا تستطيع أن تخلق ديمقراطية، فهي ترتب الأوضاع ترتيباً خاصاً لكي تسيطر وتبعد الآخرين، معتمدة على الحماس القومي أو الديني.
إن المستوى الغربي الرأسمالي الديمقراطي صعب على الدول الشرقية، فغالباً ما يكون (الديمقراطيون) الشرقيون اصحاب نفوذ كبير في الدولة، يريدون إعادة توزيع حصص الامتيازات الاقتصادية، في حين إن الديمقراطيين الغربيين يكونوا ممثلي طبقة رأسمالية غنية لا يحتاجون لأجهزة الدولة لكي يثروا من خلالها، بل إنهم جاءوا ليكرسوا حكم طبقتهم كلها وربما يقدمون انجازات للطبقات الشعبية في بعض جوانب الأجور والأسعار والخدمات، وتكريس حكم طبقتهم يعني وضع سياسات اقتصادية تتعلق بمستوى الضرائب أو بتحفيز التصدير، حسب وضع الطبقة الاقتصادي الصراعي، مع طبقات أخرى في بلدان منافسة، أو لتحفيز الطبقة المنتجة في بلادها أو دفعها لمزيد من العمل، وهذا البرنامج المؤقت قد ينجح وقد يفشل وقد يُكرس في انتخابات جديدة أو يُهزم، ليظهر برنامجٌ آخر أكثر مقاربة للوضع ولمصالح المجموعات السكانية الأوسع، وهذا ما يفسرُ التناوبَ المستمر بين أحزاب اليمين واليسار في الغرب.
لكن الجماعة التي تحكم في الشرق أو القوة السياسية التي تصل للسلطة في الدول الشرقية، لم تكرس نظاماً لحكم طبقة معينة من خلال الإرادة الحرة للسكان، وهذا ما يجعلها دائماً في تحالف مع العسكر، ومن هنا فليس ثمة ديمقراطية شرقية بل عمليات طبخ سياسية تقوم بها القوى المؤثرة على الساحة.
وللوصول إلى مستوى الغرب أو الاقتراب منه يلزم الكثير من الثقافة العلمية والسياسية مع وجود قطاع خاص قوي ووطني، فليست الديمقراطية الهندية بلا عوامل موضوعية، فبدون القطاع الخاص الصناعي والتجاري الكبير الذي تكون والمعتمد على قوى عمالية هائلة، لم يكن بالإمكان جعل التعددية الفسيفسائية السياسية لتدخل في منافسات ضارية من أجل الحكم.
ولهذا كل ما يُرجى في مثل هذه الأوضاع والحالات التخفيف من قبضات الدول والجماعات القومية والدينية وخلق قطاعات خاصة لا تعتمد على الأثراء الحكومي، ترافقها ثقافة تحررية ودينية مستنيرة، توجه الجمهور لانتخاب الأفضل فهماً للظرف السياسي والقادر على دعم مثل هذه التحولات باتجاه الديمقراطية.
إن تكريس مرحلة انتقال للديمقراطية هي مسألة أجيال ومعارك وتنوير وتثقيف هائل، لتفكيك سيطرة الدول عن المال العام، ومنع أية قوة أخرى من الانقضاض على هذا المال العام، فهي عملية صراع مع كل القوى الشمولية.
≣ الديمقراطية التخريبية
تعبر (الديمقراطية) العربية عن صراع سلطات عليا، وليس عن نقل السلطة للشعب.
ولأن الديمقراطية هي نقل السلطة للشعب، ولأنه لا يوجد شعب بل توجد طوائف متصارعة، فتغدو هذه الديمقراطية صراعاً على السلطة الفوقية، ويجري توريط الناس بهذه الصراعات!
دمر صدام حسين الشعب العراقي، وقامت سلطته بسحق تكوينه الوطني الحديث، ودمر الطائفيون اللبنانيون الشعب اللبناني الذي توحد في ومضات باهرة من التاريخ المدني…