من أفكار الجاحظ الاجتماعية والفلسفية

عبدالله خليفة كاتب وروائي من البحرين

 كاتب وروائي من البحرين

1 ــ  نقـد [النابتة] ومعناه

عبر الجاحظ عن عقلية موسوعية استطاعت أن تهضم معارف عصرها المختلفة و تدونها و تعلق عليها، في نظرة تجزيئية للمادة الثقافية العربية المختلفة الواسعة التي دونها، وفي ظل ا لمهمات الفكرية و السياسية التي و جد المعتزلة أنفسهم منساقين فيها.

فالجاحظ في كتابه [النابتة](1)، يقوم ببحث التاريخ الإسلامي عبر تحليل رموزه الشخصية فيؤكد سلامة السياق التاريخي و بتسلل الخلفاء الراشدين المعروف ، وينقد سيطرة بني أمية على السلطة بشكل متعسف وعنيف، معتبراً معاوية رأس هذه العائلة الباغية، ويتحول نقد شخوص الدولة الأموية إلى بحث في عنفها وطغيانها، دون أن يكون ذلك جزءً من سياق اجتماعي، فتظهر العائلة الأموية كنبت شرير بلا جذور في التاريخ العربي، و ينقطع هذا التحليل و النقد عن تشكل الدولة العباسية، بل هو يظهر المنصور رأس هذه الدولة بشكل مغاير لحقيقته، فكأن تاريخ القهر والاستغلال قد أنقطع، و لهذا تبدو أراء الجاحظ السياسية كصدى لشعارات الدولة العباسية ، في الخطوط العريضة لها.

من عناوين هذه الرسالة: معاوية يحول الملك إلى كسروية ـ إدعاء معاوية الخلافة كفر ـ جرائم يزيد بن معاوية ـ مزاعم النابتة ـ تناقض النابتة ـ مخازي عبد الملك بن مروان ـ النابتة تقول بالجبر والتشبيه ـ النابتة تقول إن القرآن غير مخلوق ـ كفر النابت ـ الشعوبية و دعواها.

تمثل هذه الآراء نقداً لجماعة يسميها الجاحظ تحقيراً [النابتة]، ومن الواضح انهم من جماعة أهل الحديث التقليديين الذي أشرنا إلى صعودهم المستمر في فضاء هذا العصر، ثم يربطهم بالإمام أحمد بن حنبل، والجاحظ يكتب رسائل عدة حول مسألة خلق القرآن ، باعتبارها ذروة العصر الصراعية ، مما يؤكد إن النابتة هم جماعة أهل الحديث.

إن الخيوط تبدو متقطعة بين الدفاع عن عصر الخلفاء الراشدين، ثم نقد عصر بني أمية ثم الهجوم على النابتة و الدفاع عن خلق القرآن. إن المسائل مع هذا مترابطة، فالنابتة حسب تعبير الجاحظ، كانت تدافع عن معاوية بن أبي سفيان، وبالتالي كل تاريخ بني أمية السابق، وهي النقطة الخلافية المحورية مع هذا التيار، الذي بدأ يؤكد حضوره الفكري و الاجتماعي المؤثر، وخلافاً للمنحى القدري ـ الاعتزالي الذي مثل الصعود المدني النقدي، فإن النابتة كانوا يؤكدون العكس في مختلف خطوط الجبهة الفكرية الصراعية، فعدم سب معاوية كان يعني الدفاع عن التاريخ الإسلامي السابق بعمقه المحافظ، و بقواه الرعوية العربية المتنفذة، و بكل ظلال وعيها، ومستواه الاجتماعي. كما أن ذلك هو نقد من قبل أهل الحديث لهذا الصعود الحضاري المدني المتفاقم، و هو رفض أيضاً لهذا الوعي الذي يعيد إنتاج الدين على ضوء المعطيات الجديدة، ولهذا فإن الهجوم المستمر على الدولة الأموية و رموزها من قبل العباسيين ومثقفيهم، و أبرزهم الجاحظ هنا، يتحول لدى المعارضة [اليمينية] الدينية، إلى دفاع عن الأمويين، وسبق أن تشكل حزب يسمى الحزب السفياني يأمل بعودة الإمام السفياني المنتظر، ورافقته انتفاضات في الشام خصوصاً، ولم يكن ذلك صراعاً بين المركز العراقي الجديد والمركزي الشامي السابق فحسب، بل كان صراعاً بين هذه الأقسام السكانية المتضررة من هيمنة الأشراف العباسيين على الثروة، و لهذا فإن رجال الدين المحافظين كانوا يشعرون بأن الاعتزال يشكل بداية فقه يسحب الامتيازات من تحت أقدامهم، وهم حينئذٍ لا يستطيعون معارضة المعتزلة في دفاعهم عن الإسلام وعن حكم الخلفاء الراشدين، باستثناء السنوات الأخيرة من عهد عثمان، كما يؤكد الجاحظ نفسه، فيبحثون عن نقاط الاختلاف، فيجدونها في الدفاع عن الدولة الأموية ورموزها ، و يستجيب المثال لجانبين مهمين، والأول هو الاختلاف مع الدولة العباسية و المعتزلة وخطهم التحديثي للدين ، و الأمر الآخر وهو الظهور بمظهر الدفاع عن الناس.

ويستطيع هذا الخطاب المحافظ المتصاعد أن يهزم الدولة [التحديثية] في خاتمة المطاف، و لكن علينا تتبع ذلك عبر المواد الصغيرة المتراكمة، ومن خلال وعي الجاحظ و عبر الأدلة التي يقدمها لنا.

فالجاحظ يقول في رسالته المعنونة باسم [خلق القرآن] ـ راجع كتاب رسائله السابق ص  165ـ [والنابتة اليوم في التشبيه به مع الرافضة و هم دائبون في التألم من المعتزلة، عددهم كثير و نصبهم شديد و العوام معهم والحشو ..]،(2).

لقد أخذت المعسكرات الفكرية في الظهور وبدت النابتة هي القوة الكبيرة التي تتقدم ومعها [العوام] و[الحشو] وهي ألفاظ تحقيرية أخرى للناس هذه المرة، و تعبر عن نزعة أرستقراطية أخذت تهيمن على المعتزلة المندغمين بالطبقة الحاكمة ، ولا يناقش الجاحظ أسباب هذا الوقوف للعوام مع النابتة والرافضة. وإذا كانت [الرافضة] مع لعن معاوية بطبيعة الحال، فإنها في التشبيه مع النابتة، وهذا الموقف المعقد و المتناقض يشير إلى الأقسام الاجتماعية العديدة التي اتفقت على معارضة الدولة من منطلقات مختلفة، كما يشير من جهة أخرى، إلى المستويات المعرفية المحدودة التي لدى الناس،  والذين لا يتبعون المعتزلة بل الآخرين، رغم إنهم لا يقودونهم إلى الصواب كما يرى الجاحظ، وهو لا يتساءل ما هي قيمة لعن معاوية على حياة هؤلاء الناس، أو ما هي علاقة المفاهيم المجردة كخلق القرآن بتغيير ظروفهم، ولماذا عددهم كبير ونصبهم شديد؟!

إنه وهو يقوم بقطع قضية الخلاف عن الجذور الاجتماعية والمعرفية، يحيلها إلى مسألة مجردة. صحيح إنه يشير إلى الجوانب النفسية المتضادة لدى البشر من حسد وكراهية و ثأر في تشكيل الموقف الفكري الصراعي، لكنه لا يقيم رابطة بين الجوانب النفسية والفكرية وجذورها الاجتماعية، حيث إن هؤلاء العوام يبدون منساقين وراء النابتة و الرافضة بسبب الجهل المحض، وليس بسبب انفراد الدولة بالثروة العامة المادية، وهي أيضاً تحاول الانفراد بالثروة الروحية، فتريد تشكيل الدين بصورة تتوافق مع مصالحها، في كونها دولة واسعة موحدة، وهو الأمر الذي يشاركهم في تأييده المعتزلة، وهذا الاحتكار للدولة للثروتين الاقتصادية و الدينية، يلغيه النمو المستمر للتعدديات المختلفة الدينية والمذهبية، فاحتكار الدولة للثروة المادية يقودها إلى تكييف الدين تكييفاً متفقاً مع ذلك الاحتكار، بحيث ترفض تعدديات الآلهة، وتقوي صورة الإله الواحد، ولكن تعدديات الآلهة بالشكل المسيحي والمانوي غدت محصورة في تجمعات بشرية محدودة، وأخذت صورة الإله الواحد تنتشر و تسود تدريجياً، نظراً للمصالح المترابطة للشعوب و الهيمنة العربية القوية في القرن الأول الهجري خاصة، ولكن مع انتشار هذه السيادة بدأت الشعوب المختلفة تبحث عن مصالحها المستقلة في إطار الوحدة الفكرية الإسلامية كذلك. ونحن في القرن الثاني الهجري لا تزال سيطرة المركز[العراق] قوية، ولكن معارضة المركز قوية و مستمرة كذلك.

وقد وضعت المذاهب الإسلامية الأولى ركائز الوحدة، وكذلك ركائز الاختلاف أيضاً، وقد رأينا كيف عبر المذهبان المالكي و الحنفي عن مستويين اجتماعيين مختلفين للمسلمين، فالمذهب المالكي عبر عن خصائص الجزيرة العربية ببداوتها و مدنها التجارية معاً، في حين عبر المذهب الحنفي عن المصالح التجارية و المدنية بصورة أكبر، وإن لم يخرج من الإرث الرعوي، في حين كانت الجعفرية تعبيراً عن الطموح السياسي المستمر للأشراف العلويين، فهي محاولة لإبعاد العباسيين عن الحكم بدرجة أساسية، ولهذا كان صراع العباسيين والعلويين حول النور الإلهي تعبيراً عن الصراع حول الثروة المادية وامتلاكها. في حين قبل المذهبان المالكي والحنفي السيادة العباسية، خاصة مع فقهاء المذهبين التالين للمؤسسين ، والذين أخذوا يكونون البنية السياسية ـ الاجتماعية المطلقة، أي المتجذرة في الحياة بصورة ثابتة، سواء كانت الدولة عباسية أم أموية، فقد غدا هؤلاء الفقهاء هم السلطة الأيديولوجية الدائمة ، ولكن ظل مصدر الفقهاء الموالك والأحناف واحداً حيث أن النور الإلهي تجسد في القرآن والسنة وبعد هذا أنقطع وصار العقل المسلم قادراً على الاجتهاد ضمن الكليات المستخرجة، وهذا ما جعل هذا الفقه متوافقاً مع البنية السياسية العباسية المسيطرة المركزية، لأنه يعتبر أن النور الإلهي قد أنقطع عن التراسل المباشر مع البشر بانتهاء الرسالة المحمدية، ولابد من تطبيق الأحكام حسب القرآن والسنة التي غدت منتهية، ويمكن الاستخلاص منها أو رؤية العام فيها وتطبيقه على الوقائع الجديدة، مع مراعاة المصالح العامة، مما يعني التوافق المرن مع حاجات الدول وسياساتها المتبدلة. وهذا ما جعل المذهبان الحنفي والمالكي ينتشران في رقع واسعة، يتناغم فيها المستويان المدني(الحنفي) والرعوي (المالكي)، أي الحضاري والبدوي، التجاري والزراعي، بتكوينات متداخلة معقدة ستشهد شيئاً من التبلور في القرن الثالث الهجري . ولهذا نجد أهل المغرب، شمال أفريقيا، يتحولون في هذا القرن من المذهب الخارجي المعارض بشدة والمهزوم بقسوة، إلى المذهب المالكي المتكيف مع الدولة، ولكن الذي يعطي المغاربة هوية متميزة، وكلا المذهبين الخارجي والمالكي نتاج الجزيرة العربية بمستواها الرعوي الغالب، وهو الأمر المقارب لسكان شمال أفريقيا.

في حين كانت الجعفرية تعبيراً عن معارضة للسلطة المركزية، وهي في هذا القرن تنمو بشكل حثيث داخل العراق وإيران ، مما يجعلها في صراع مستمر لتفكيك الهيمنة المركزية، ولهذا تلتقي مع الطموحات القومية المتوارية، ويتشكل نسيج مشترك.

ومن هنا نرى الجاحظ  وهو يحمل على من يسميهم بالرافضة، وهو تعبير حاد، ولكنه ينسجم مع ماكينة الدولة الدعائية في تحقير و انتقاص المعارضة. فهؤلاء يفككون الدولة المركزية، ولهذا فإن لديهم التأويل الخاص للصورة الإلهية، الذي يفكك الصورة السائدة عند العباسيين، مثلما يفككون جسم الدولة المركزي السياسي.

ولكن لماذا صعود [النابتة] وداخل العاصمة العباسية، مركز الحضارة والسيادة؟ أي لماذا تشكلت الحنبلية في عقر دار الخلافة؟

إن الحنبلية تقطع مع المذهبين السابقين: المالكي والحنفي، وهذا القطع غريب أن يتشكل  في العاصمة، خلافاً لهذا التراكم في نمو المذاهب باتجاه التيسير و العقلنة الحضارية، فهي تقف ضد هذا التطور، و تشدد على النصوصية الحرفية المطلقة، وترفض التأويل.

لابد أن نرى المسألة كشكل معقد من التراجع والصراع والتمايز، فالهيمنة الفارسية على الخلافة العربية قد تفاقمت، ووجد الفرس و الموالي في القدرية و الاعتزال و الجعفرية و الحنفية  والزيدية أشكالاً من المساواة، وكانوا الأسبق للحضارة، فاستطاعوا التغلغل في شتى مناحي الحياة ومراكز الدولة، في حين كانت مكانة العرب تتدهور بصورة مستمرة، و قد كانت القبائل المسلحة الغازية العربية هي التي حصلت على الثروة من البلدان المفتوحة، و لكن هذه المكانة العسكرية انخفضت وجاء الفرس، والأتراك الآن، ولم تؤدِ تلك الثروة السابقة إلى مستويات راقية من الوعي لهذه القبائل البدوية، ولكن التدفق الرعوي العربي والتركي والكردي مازال مستمراً خاصة في العاصمة، ومناطق العراق، وأخذ هؤلاء العرب وغيرهم يعبرون عن مستوياتهم الفكرية البسيطة بالعودة المطلقة إلى النصوص الحرفية، وبهذا كانوا يزيحون الفرس عن السيادة، وكذلك أصحاب الأديان الأخرى المهيمنين على الصرافة والتجارة كالمسيحيين و اليهود و الصابئة. إن الحنبلية تعبر عن هذا الصعود المستمر و تغير طبيعة السكان، فتشكل [هجوم] رعوي واسع النطاق من الأتراك والعرب على الهيمنة الفارسية و تحالفاتها، ولكن الانقلاب الكلي لن يتحقق الآن.

إن سكان الجزيرة العربية و بلدان الصحارى التركية والكردية و سكان شمال أفريقيا، الذين أثخنتهم ضرائب العاصمة و الصرف المستمر على بذخ الأغنياء المرفهين، و الذين لم يكونوا يفهمون اللغة المجردة و الفلسفية لمثقفي المعتزلة المرتبطين بالقصور، والذين لم تشكل النهضة في المركز أي تغيير ثقافي لهم، والذين كانوا يتدفقون على العمل في الجيش، إن هؤلاء كانوا ينتمون لمذهب المواجهة مع الفرس المهيمنين، ومع هذه العقلانية الثقافية ، التي لا تتحول إلى نضال اقتصادي لبلدانهم و فئاتهم المحرومة ، أي كانوا في سبيل التصدي لقرن من العقلنة الديني.

2 ــ  المعرفة والحرية

يرفض الجاحظ أراء المعتزلة في المعرفة، ويدعو إلى رؤية أخرى، فقد أصر العديد من مفكري المعتزلة على أن المعرفة [مكتسبة]، أي أنها نتاج عمل الإنسان وحريته. يقول: [فالذي استخرجه الأذهان منه وتستشهد عليه كعلم التوحيد والتعديل و التجوير وغامض التأويل وكل ما أظهرته العقول بالبحث وأدركته النفوس بالفكر من كل علم وصناعة، كالحساب والهندسة والصباغة والفلاحة، أجدر أن يكون فعله والمنسوب إلى كسبه]،(3).

إن المعتزلة هنا يتصورون أن فعل الإنسان المعرفي هو نتاج وعيه، ويضربون دليلاً على هذا بمثال حسي محدد وهو [فالدليل على أن درك الحواس فعل الإنسان على ما وصفنا واشترطنا من إيجاب الأسباب وتقدم العلل أن الفاتح بصره لو لم يفتح لم يدرك]، (4) . وهم يقفزون هنا إلى نتيجة كبرى، من الإدراك الحسي إلى النتيجة الفكرية ، عبر قولهم : [فالعلم بالله وكتبه ورسله أجدر أن يكون فعله ، إذ كان من أجل نظره علم ومن جهة بحثه أدرك ، فهذا جمل دلائل هؤلاء القوم ورئيسهم بشر المعتمر]،(5).

إن رأي المعتزلة باعتبار الوعي هو المالك لاختياراته الفكرية تبدو، لأول وهلة، غير قابلة للنقض، فمن أسّس المذاهب وعلم التوحيد والمعرفة بمختلف صنوفها هم البشر أنفسهم ومن خلال إرادتهم الحرة، لكن الجاحظ يرفض هذا الاستنتاج الواسع ودرجاته المختلفة عند مفكري الاعتزال المتعددين كالنظام، أستاذ الجاحظ نفسه، والذي يقول إن المعرفة ثمانية أجناس، وخمسة منها بفعل الحواس، ثم المعرفة بصدق الأخبار، ومعرفة المخاطبة، والخيار الوحيد لدى النظام هو العلم بالله ورسله وتأويل كتابه والمستنبط من علم الفتيا وأحكامه.

إن كون المعرفة [اضطرارية] ـ حسب التعبير السائد لديهم ـ ، هو أمر بديهي عندما تقوم الحواس بتلقي المثيرات الخارجية، ليترجمها الدماغ، فلا تستطيع العين إلا أن تفرق بين الكبير والصغير، كما تفرق حاسة الشم بين الروائح المختلفة، وحاسة اللمس بين أنواع المواد الخ.. ولكن النظام ينقل هذا الاضطرار، وتبعية الحواس للعالم الخارجي، إلى مجال الوعي والأيديولوجيا الدينية، حيث يتشكل أغلبها، حسب النظام، اضطرارياً، أي حتمياً، وبدون فعل الإرادة، فالإنسان الفرد يستقي المعلومات عن البلدان والأخبار وغير ذلك من صنوف المعرفة بدون إرادة منه أو حرية، ويقوم الجاحظ بتوسيع هذه المعرفة الحتمية الاضطرارية ليكون الدين جزء منها، فالإنسان لا يختار دينه، بل يجده جاهزاً، يصير جزءً منه دون اختياره أو حريته، فكل المعرفة بهذا الشكل اضطرارية، أي ملقاة على الإنسان من الخارج، من الإرث السابق عليه.

وبين قول أغلبية المعتزلة بأن المعرفة حرية ومسئولية شخصية، وان ليس ثمة إجبار خارجي من أي نوع، وبين قول النظام بأن أغلب المعرفة والاختيارات هي اضطرارية، ومملاة على الفرد من الحواس والمعرفة الاجتماعية والحسية، وهو القول الذي ينطلق به الجاحظ إلى أقصى غايته، منكراً أي حرية هنا؛ إن بين هذين القولين تضاد واسع وكبير، بحيث يجعل الأولين على خطى الحرية الاعتزالية المعروفة، في حين يبدو النظام والجاحظ يشكلان (جبرية) من نوع جديد.

ولكن الأمر ليس كذلك، فالنظام يقوم ببحث موضوع الحرية بشكل أكثر تطوراً. لقد أخذ يحلل قضية الحرية الفردية الإنسانية، لأن الفرد هو بؤرة وعيهم، ولا تأتي سيرورته الطبيعية والتاريخية، إلا كنتفٍ وأجزاء متناثرة وأمثلة بلا سياق تاريخي واجتماعي، وتبدأ الحتمية في صياغة وعي الإنسان منذ طفولته عبر الحواس، فإذا فقد الإنسان بعض الحواس فقد أجزاءً كبيرة من المعرفة والحرية، ثم تتوغل الجبرية الخارجية عبر المعرفة المستقاة من المحيط، وهنا لا يدخل النظام الدين باعتباره جزءً من هذه الحتمية الخارجية التي تسكب في الفرد، أو قل بأن تحليل النظام الاجتماعي يتوقف هنا، ويجعل الفرد حراً في اكتشاف أو صياغة دينه ، عبر عقله الذي استوى ، ولكن الجاحظ يرد عليه بأن عقله لم يتشكل إلا من المحيط ولم يكن ذا حرية في تكوين ثقافته، ولهذا فانه يصبح مؤمناً بهذا الدين أو ذاك حسب نشأته، وليس حسب حريته.

تنقلنا هذه الآراء الجاحظية إلى مستوى متقدم في فهم الوعي الديني والفكري عامة، حيث تقوم بتشريح الجبرية الفكرية المهيمنة على وعي الفرد، وتبدد الوهم بتصور الحرية المحضة، عبر ربطها الفرد بجسمه وبمحيطه، أي بالمؤثرات الموضوعية الطبيعية والاجتماعية التي تقوم بسبكه في قوالبها.

يقول: [يقال لهم: حدثونا عن العلم بالله ورسله، وتأويل كتبه وعن علم القدر وعلم المشيئة والأسماء والأحكام، أبا كتساب هو أم اضطرار؟ فإن زعموا أنه باكتساب، قيل لهم: أو ليس خلاف ذلك أجمع باكتساب؟]،(6).

إن المعرفة إذن كلها اضطرارية، فلا تتشكل بالحرية، فهي مأخوذة من الأجيال السابقة ومن الرسل، والجاحظ يخلط هنا بين التأسيسات الأولى للأديان وبين التراكمات والأفعال الإضافية التالية، والتي يجمع فيها اللاحقون أفكار السابقين ويضيفون إليها، وبهذا القطع فإن الجاحظ ينفي قدرات المحدثين في تطور الأديان، ويسد الأفق الذي فتحه النظام.

إن وصول الجاحظ إلى هذه الجبرية التي قامت حركة المعتزلة على تقويضها يجعله يتدارك المسألة ويقول:

[فأول ما أقول في ذلك أن الله ـ جل ذكره ـ لا يكلف أحداً فعل شيء ولا تركه إلا وهو مقطوع العذر زائل الحجة ولن يكون العبد كذلك إلا وهو صحيح البنية معتدل المزاج وافر الأسباب مخلى السرب عالم بكيفية الفعل حاضر النوازع الخ..]،(7).

ولكن كيف يحدث ذلك و[العبد] مُصاغ من قبل المحيط، ومتشكل منذ البدء في قالب ديني ما؟

إن الجاحظ يحل هذه الإشكالية عبر إيجاد توازن أخلاقي في النفس، عبر تحكم [العقل] في النوازع الطبيعية، [ومتى قويت الطبيعة على العقل أوهنته]،(8). ولن تقوم النفس بذلك إلا إذا كانت [معتدلة وأسبابها متساوية وعللها متكافئة، فإذا عدل الله تركيبه وسوى أسبابه وعرفه ما عليه وماله، كان الإنسان للفعل مستطيعاً في الحقيقة وكان التكليف لازماً له بالحجة]،(9).

ويغدو الرسل هم واسطة نقل الأوامر الإلهية إلى البشر، فلم تتشكل المعرفة الدينية والأخلاقية عبر التطور الاجتماعي والسياسي، فانهم لا [يعرفوه من الحركة والسكون والاجتماع والافتراق والزيادة والنقصان]، بل عبر الرسل ،وإن كان ثمة رجالاً من الموحدين [قد عرفوا وجوهاً من الدلالة على الله بعد أن عرفوه من الرسل]،(10).

إن تأكيد الجاحظ على الأديان والرسل بشكل عام، وتشكيل منظومة موحدة من المثل الدينية والأخلاقية، يعبر عن هذا المضمون المدني التعددي للمدينة الإسلامية، التي أصبح يؤثر فيها الموحدون، وهم المعتزلة، مستهدفين خلق أطر دينية عامة جامعة للمؤمنين ، يقع الإسلام في بؤرتها الفكرية.

وتبقى الحرية التي يطرحها الجاحظ هنا دينية أخلاقية، تتشكل من الفضائل والاعتدال وهي مستقاة من الغيب، التي تظل الدولة حارسة على تطبيقه، فالحرية الاعتزالية والجاحظية تتحد مع هيمنة الدولة المطلقة على الثروة العامة، منقطعة عن تيار الحرية الاجتماعي الذي أسس القدرية والمعتزلة وبلورها في مراقبة أموال[الأمة]، فتغدو الحرية الآن أخلاقية دينية ، ومُثُلاً متوسطة، واقتراباً من الأديان [السماوية] الأخرى، تعبيراً عن فئات وسطى متعددة الأديان تابعة للخلافة، في العاصمة السياسية، وقد فقدت القدرة على قيادة الجمهور، ولم تعد تشكل علاقات فكرية وسياسية به، تستهدف مراقبة المال العام وعدالة توزيعه، ولهذا فان [الجبرية] تعود للوعي الاعتزالي، عبر إرجاع تكون البشر للظروف الخارجية، فالناس لا يصنعون تاريخهم ، والناس لا يظهرون كفكرة وقوة اجتماعية صاغت التاريخ الديني والإسلامي، بل يظهر الفرد المجرد ويتركز النظر حول كيفية تطور معرفته ، التي تغدو حتمية خارجية، وليست ممارسة فردية واجتماعية وتاريخية، مرتبطة بالدولة والمجموعات الاجتماعية المتصارعة المختلفة.

إن هذا الاغتراب عن متابعة سيرورة تطور المعرفة والحرية في التاريخ الإسلامي، داخل حقلها الاجتماعي والتاريخي، يعود إلى الخط الفكري الأساسي للاعتزال الذي ركز على بحث الغيب بدرجة رئيسية، وليس بحث المجتمع والوعي فيه، ثم انفصل عن إرثه المعارض، وكان الجاحظ يمتلك إمكانيات ثقافية وفكرية كبيرة، واستطاع عبرها أن يتغلغل في كافة مستويات الثقافة والتاريخ الإسلاميين، فلم يكتف بالبحث المجرد، ولكنه مع هذا لم يربط بين عمليات البحث الاجتماعي والفكري والمقولات النظرية الاعتزالية [التحررية] تعميقاً لها، وربطاً بينها وبين النضال الاجتماعي.

3 ــ موسوعي في خدمة الحضارة والدولة

لقد اتفقت أراء المعتزلة العامة مع المسار السياسي للدولة العباسية عبر الاتفاق على التوحيد الإلهي والسياسي، ومثل الجاحظ أكبر تمثيل علاقة التعاون بين السلطة والمثقف الاعتزالي، مقدماً خدمات فكرية كبيرة لمنحى الدولة الاجتماعي والسياسي. فجاء مقاله حول (خلق القرآن) ومقاله عن (مناقب الترك) في هذا الاتجاه. وبحثه الأول عن القرآن تشكل في خضم الصراع بين الدولة وما يسميهم الجاحظ ب(النابتة) وهم الفرقة السلفية التي بدأت بالبروز حينئذٍ، وسنبحث لاحقاً أبعاد هذه المعركة الفكرية ـ الاجتماعية المعقدة، ولكن يهمنا الآن الإشارة إلى جوانب في هذه المقالة وهي عن اختلاف الجاحظ مع أصحابه المعتزلة حول مسألة خلق القرآن و هم الذين أكدوا أن القرآن هو الجسم دون الصوت، أو قول النظام ومن جاء بعده ((ممن يزعم أن القرآن حق وليس تأليفه بحجة وأنه تنزيل وليس ببرهان ولا دلالة))(11).

والجاحظ يختلف مع هذه الآراء بقوله [والقرآن على غير ذلك جسم وصوت، وذو تأليف وذو نظم وتقطيع، وخلق قائم بنفسه مستغن عن غيره، ومسموع في الهواء ومرئي في الورق، ومفصل وموصل، ذو اجتماع وافتراق، ويحتمل الزيادة والنقصان والفناء والبقاء]،(12).

ان الجاحظ في هذه الآراء، وهو يتفق مع المعتزلة في التيار العام،  ومع اتجاه الدولة في فرض فكرة خلق القرآن، يشكل اجتهاداته الخاصة داخل التوجه العام، فهو لم يقم برفض هذه العملية الغيبية التجريدية في بحث مسألة خلق القرآن، بل كان من ضمن أصوات المعتزلة، سواء المنفصلين عن الدولة، أم أولئك الملتحقين بالخدمة لها، وهذه القضية التي تشكلت فوق أنقاض الانهيار الداخلي العميق للجماعة من حركة نضالية شبه مستقلة، إلى كونها مجموعة من الأفراد الملتحقين بخدمة السلطة أو المنعزلين، قد جعلت المعتزلة يتغلغلون في تحليل الظاهرة القرآنية و يختلفون في هذه التحليلات، وهنا يقوم الجاحظ بالافتراق عن أصحابه، موجهاً البحث نحو مسائل لغوية وفكرية، اجتماعية و تاريخية، محاولة بعض المعتزلة تجريد القرآن وجعله جسماً لا صوتاً يرفضها الجاحظ ويعرض رأيه السابق، الذي يبدو غير مكتمل، فنجد المقالة  ُتبتر فجأة وتتوجه إلى مسألة تعذيب الإمام أحمد بن حنبل. و هو يقول في خاتمة الموضوع السابق: [وكلما احتملته الأجسام ووصفت به الأجرام فمخلوق في الحقيقة دون المجاز و توسع أهل اللغة]،(13). فهو يجعل القرآن مخلوقاً لله بكل صفاته المعنوية.

إن هذه الآراء الاعتزالية الجاحظية خاصة، تفتح باب تحليل القرآن تحليلاً لغوياً و تاريخياً، وهي ستضع حجر الزاوية لتحليل القرآن من وجهة نظر عقلية، فنجد إن الغيبية الاعتزالية تصبح فهماً للتطور التاريخي للإسلام عبر كتابه الأول، لكي يتحول إلى الوثيقة الحضارية الأساسية للمرحلة، وهي مرحلة العصر العباسي الأول.

انه وثيقة حضارية لكي تحدث عملية قطع مع الجوانب المتخلفة للمرحلة السابقة، من حيث عدم اعتبار العرب الوحدة السكانية المطلقة، ولأجل تعاون الأديان المتعددة والسكان المختلفين، ومن أجل التفتح الحضاري وتغييب حضور الجن مثلاً في الحياة البشرية الخ..

إن الجاحظ وهو يفسر القرآن باعتباره كتاباً إلهياً مخلوقاً، بشكل نسبي، يرفض توجه (النظام) بعدم اعتبار القرآن حجة و برهاناً، والجاحظ هنا يستجيب لنظرته العامة، في العودة الأخيرة والمطلقة إلى الله. إن كون القرآن برهاناً يستجيب لرأيه في كون المعرفة البشرية جبرية وضرورية، بمعنى إن الناس وجدوا رسالات مختلفة ساروا عليها، وغدت هي إرثهم الجبري، بلغة عصرنا. فالجاحظ لكي يؤكد أهمية وحدة الأمم والأديان، تحت لواء الدولة العباسية الموحّدة، وضرورة تجاوز الحديث عن إزالة الأديان الأخرى، يقوم بإعادة الاعتبار للأديان المختلفة، بل وحتى للمراحل التاريخية المتعددة الأفكار والأديان في الحياة العربية بحقبها المتتالية.

فهو يشير إلى عدم رضاه لهدم آثار الأمم السابقة، فيقول:

[لأن من شأن الملوك أن يطمسوا على آثار من قبلهم، وأن يميتوا ذكر أعدائهم، فقد هدموا بذلك السبب أكثر المدن وأكثر الحصون، كذلك كانوا أيام العجم وأيام الجاهلية، وعلى ذلك هم  في أيام الإسلام، كما هدم عثمان صومعة غمدان، و كما هدم الحصون التي كانت بالمدينة، و كما هدم زياد كل قصر لابن عامر، كما هدم أصحابنا(العباسيون) بناء مدن الشامات لبني مروان]،(14).

إن هذه النظرة المتقدمة التي يطرحها الجاحظ ترتكز على رؤية تعددية على مستوى الراهن، وبالتالي على صعيد الماضي، وهو لا يوفر نقده حتى على العباسيين، الذين أسماهم (أصحابنا)، وفي هذا دلالة على التعاون السياسي والفكري، والافتراق كذلك، فالتوحيد الذي يطرحه الجاحظ ليس إزالة فكرية للآخرين المختلفين، بل هو استيعابهم في المنظومة الحضارية الإسلامية، بأفقها المنفتح، وعدم هدم آثارهم المادية والفكرية، ولا شك إن ذلك أولى بفرق المسلمين كالأمويين. والجاحظ هنا يحدس بنظرة عبقرية أهمية التراكمات المدنية، وكون الحضارة في المنطقة قامت على النفي والقطع وليس على التراكم والإضافة.

والجاحظ يقول ذلك رغم هجومه الفكري الواسع على الفرق الإسلامية الأخرى، التي ترفض التوحيد الاعتزالي. فوعيه (الديمقراطي) يظل جزئياً، ومقتصراً على جوانب متفرقة من الحياة الاجتماعية والفكرية، فهو لا يتحول إلى نظرة شاملة، خاصة في مسألة احتكار السلطة من قبل العباسيين، و هو الظرف التاريخي الجوهري و الشامل الذي أعاد تشكيل المنظومات المذهبية والفكرية المختلفة تبعاً لسيطرته. و لكنه وهو في بغداد و يعيش من تقديم كتبه للمتنفذين في الدولة، لا يستطيع إلا وأن يقبل الهيمنة السياسية و الاقتصادية المطلقة للعباسيين، وقبوله بها أيضاً لم يمنعه من الاختلاف أحياناً معها، في مسائل فكرية هامة.

إن الجاحظ، وهو يعرض هذه المسائل كلها عن خلق القرآن وهيمنة الله المطلقة على الوجودين الطبيعي و التاريخي، يناقض أفكاره و يلغي دور العمل البشري، الذي يؤكد فاعلياته في كل أعماله الفكرية، و يعود سبب هذا التناقض إلى كونه لم يربط بين الفاعلية الإلهية و الفاعلية البشرية على نحو تاريخي. فالمعتزلة، و الفكر الإسلامي، لم يستطيعا رؤية التاريخ البشري، و ضمنه الإسلامي باعتباره ممارسات إنسانية مرتبطة بظروف وإرث وصراع، فجعلوا الخلق الإلهي مباشراً ومتدخلاً ملموساً، وليس باعتباره خلقاً أولياً للوجود ثم تركاً لهذا العالم ينمو بقوانينه الخاصة، الطبيعية والتاريخية، نظراً لعدم القدرة الشاملة على هذا الاكتشاف.

لقد أضطرب الوعي العقلاني الإسلامي في قراءة الظواهر المختلفة، فهو يؤكد مرة على قدرته على المعرفة والحرية و الفعل، و مرة أخرى ينفيها، نظراً لأولية العلوم الطبيعية والاجتماعية في هذه المرحلة، وبدايات التراكم المعرفي، والجاحظ هو نفسه يقوم بهذه العملية العلمية والتاريخية، ويكشف فاعلية الإنسان، ولكنه لا يستطيع أن يربطها بالتاريخ الإسلامي، ليقوم ببحث تشكل التاريخ العربي و أسبابه، رغم إننا وجدناه يبحث الظلم الأموي، ويكتب عن الترك، وعن تفوق السودان على البيضان وعن ظواهر اجتماعية مختلفة، كسوء أخلاق كتاب الدواوين و القيم المختلفة والجواري والقيان والنساء والحب والبخلاء الخ..

ويلاحظ في رؤيته، هذا التناول الجزئي للظواهر، وفصلها عن جذورها، فهو يعتبر البخل، مثلاً، ظاهرة ذميمة و مصدراً للفكاهة، دون أن يربطها بتراكم رأس المال، وحاجة هذا المال إلى النمو و التوسع، وخوفه من الزوال و المصادرة، و كون الفئات الوسطى في المدينة الإسلامية حديثة النمو ومعرضة لشتى أخطار السوق والدولة، في حين إنه لا يدين إسراف الطبقة الحاكمة في بناء القصور وبذخ الحفلات، ويعود ضعف هذا التفسير أيضاً عدم تخلصه من الوعي الرعوي ـ الزراعي والأرستقراطي المتعود على الإسراف، والمتكل على الغيب، و ليس على تراكم الربح و التخطيط الاقتصادي.

وهذا يعبر كذلك عن أن التحاق مثقفي الطبقة الوسطى بالأشراف يتشكل ليس في قضايا أساسية كمسألة التوحيد، بل أيضاً في تبعيتهم لمعايير تلك الطبقة في المجالات الأدبية والاجتماعية والسياسية. ومن هنا تغدو مقالته حول [مناقب الترك] جزءً من الحملة الدعائية التي تقوم بها الدولة للترويج للأتراك الذين بدأوا يتغلغلون في عاصمة الخلافة، ويصبحون القوة العسكرية الهامة في الجيش، وهذا التبييض الذي يقوم به الجاحظ للأتراك، يتناقض مع المعاناة الشعبية من مجيء هؤلاء البدو واستيلائهم على وظائف أساسية للعرب. و هو يقوم في هذه المقالة بذكر مناقبهم الجسدية القوية و قدراتهم العسكرية وشجاعتهم الخ.. دون أن يدرك إن هذا التوغل الرعوي الواسع سيعيد مركز الحضارة العربية إلى لحظة سابقة، إلى لحظة كان العرب الرعاة يبدأون فيها بالتحضر، وإذا كان العرب قد حملوا إرثاً فكرياً هاماً، فإن الأتراك كانوا يفتقدون إلى ذلك، وبسبب ذلك فإن الاعتزال، وهو النظرة الدينية المتقدمة، سوف يُهزم ويطارد. إن هذه العملية المتضادة، بقيام مثقف اعتزالي كبير بمدح ظواهر ثقافية واجتماعية متخلفة، تشير إلى الوشائج بين الوعيين القديم والجديد، بعدم قدرة الأخير على التخلص من العباءة الإقطاعية، وكون الفئات الوسطى تعيش و تتنفس غبارها، ويغدو المنهج الجاحظي مجموعات من الملاحظات والاستطرادات والنكات لتعليم وتسلية أرباب النعم من الموظفين الكبار والخلفاء. ويتشكل عداء غريب بين هؤلاء المثقفين الاعتزاليين، ومنهم الجاحظ، وبين العامة، حيث لا يذكرهم الجاحظ إلا بألفاظ نابية : كــ(السفلة) و(الرعاع) و(الحشو). فالإنتاج الثقافي التنويري الاعتزالي يتوجه في لحظته تلك إلى الأشراف، وليس إلى العامة، فالعامة تريد ربط هذه المقولات النظرية، إذا فهمتها، بلقمة عيشها، وبنقد الأشراف و سرقتهم للمال العام، ولكن الخطاب الاعتزالي وقد فقد قدرته على الكفاح و استعادة إرث آبائه المقاومين، لم يكن بمقدوره خلق خطاب من هذا النوع، وفمه ممتلئ بذهب (المعز). ولكن هذا لا يعني غياب التأثير في الجمهور المتعلم، وعدم القيمة الأدبية والفكرية لهذا الإنتاج، الذي سيلعب دورا هاماً متنامياً على مر التاريخ. كذلك فإن لهذا الأدب حيله التعبيرية كمدح الجاحظ للبشر ذوي اللون الأسود في تحدٍ ضاحك للعنصرية والطبقية البيضاء، و إن كان ذلك بشكل عنصري .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصادر:

(1): (رسائل الجاحظ دار و مكتبة الهلال ، بيروت طبعة 1، 1987 ).

(2): (ص 173.).

(3) : (رسائل الجاحظ، الرسائل الكلامية، دار ومكتبة الهلال، بيروت، 1987، ص 117).

 (4): (السابق ص 110

(5): ( السابق، ص 111).

 (6): (نفسه ص 113).

 (7): (السابق ص 116).

 (8) : (نفسه،(ص 116 ).

 (9): (نفسه، ص 117).

 (10) : (نفس المصدر السابق ورقم الصفحة). 

(11): (رسائل الجاحظ الكلامية، مصدر سابق ص 166).

(12): (نفسه، ص 168).

(13):  السابق 168).

(14): (نقلاً عن معتزلة البصرة و بغداد، د. رشيد الخيون، دار الحكمة، ط ،2002،2).

 عبـــــــدالله خلــــــــيفة : من أفكار الجاحظ الاجتماعية والفلسفية

 

أضف تعليق