الأرشيف الشهري: أوت 2018

عبـــــــدالله خلــــــــيفة في حوار أجراه الباحث المغربي: أحمد شراك

عبـــــــدالله خلــــــــيفة

حوار بين المغرب والبحرين

الكتابة الروائية والقصصية عند عبدالله خليفة

حوار أجراه الباحث المغربي: أحمد شراك

  •  على صعيد سوسيولوجيا الكتابة والنشر، يُلاحظ المتتبع لإصداراتك القصصية والروائية، بأنها صدرت خارج الوطن ـ البحرين ـ وبشكل خاص في لبنان وسورية والإمارات. فهل يعود الأمر إلى إستراتيجية خاصة في النشر؟ إلى الانتشار باعتبار دمشق وبيروت، عواصم النشر والثقافة؟ إلى انحسار دائرة النشر في المنامة؟

إن ذك يعود بكل بساطة إلى سيرة حياتي الكتابية. فأول كتاب صدر لي سنة 1975، وأنا قابع في السجن، فلم أحصل على نسخة واحدة منه، وحين خرجت في الثمانينيات من ذلك التنور، أم استطع أن أجد شيئاً منه.

وفي سنوات السجن قمتُ بكتابة قصصي ورواياتي الأولى، التي حاولت نشرها بعد خروجي.إن إمكانية العزلة تعطيك قدرة ً على  الإنشاء الشعري، ولكنها لا تملأ يديك بالمال أو الشهرة، فتحاول أن تسوق كتبك ودمك عند دكاكين لا تعبأ بروحك.

إن المنامة بخيلة على أبنائها دائماً، سواء بالنشر أم بالمال أم بالشهرة، ولهذا فإن المطابع تتخصص في الكتب التجارية وملصقات الراقصات ودفاتر البنوك، أما الكتاب الإبداعي فطباعته تعادل شراء سيارة [ جديدة]!

وهكذا فقد ذهبتُ كغيري من الكتاب البحرينيين إلى دور النشر العربية، ونحن البحرينيين ـ بروليتاريا الخليج العربي ـ بحثنا عمن ينشر لنا مجاناً، وقد وجدنا في اتحاد الكتاب العرب بدمشق، ورئيسه علي عقلة عرسان، الرجل القومي الحقيقي، ضالتنا. لقد أصدر لنا الاتحاد العديد من الكتب، وقد طبع لي مجموعة قصصية وروايتين، ورغم إن الاتحاد لا يشارك في المعارض، وتقبع الكتب في صالته  تنتظر بصبر طويل المشترين، فإنه قدم لنا الخدمة النبيلة الأولى الكبيرة.

وبعد ذلك كان علي الاعتماد على نفسي في النشر، بعد أن عملت في الصحافة.ومن المؤكد إن سوريا ولبنان يمثلان رئتين مهمتين للنشر العربي، فرخص الطباعة ودقتها وجمالها وانتشارها لا يمكن مقارنته بمكان آخر. رغم إن دكاكين الجزارة الثقافية هذه تستلم لحمك ودراهمك بكل برود وأنانية.

وهناك نقطة ضؤ في الخليج، فاتحاد كتاب وأدباء الإمارات يحاول أن يشكل جزيرة يسبح إليها المؤلفون هاربين من بحر التماسيح الطباعية، وتاركين أشلاءهم ودماءهم وراءهم.

  • إن المتتبع لتجربتك الروائية على الخصوص ، يلاحظ ـ على صعيد العناوين، بأن رواياتك تتكون، في الأغلب، على صعيد عناوينها من كلمة واحدة أو اثنتين، وهذه الكلمات / العناوين ، كلمات عادية تحمل شحنة لغوية مباشرة، إلا أن النصوص التي تحتويها تتسم بالتجريب من جهة وتعتمد على لغة رمزية شعرية مكثفة من جهة أخرى، وتأسيساً على هاته الإشارة، هل هناك وعي مسبق في اختيار هاته العناوين؟ أم أن الأمر يعود إلى الصدفة؟؟ بعبارة أخرى هل هناك استراتيجية ما، للعنونة بالنسبة لعبدالله خليفة؟

هذه ملاحظة دقيقة، فعناوين مثل [ لحن الشتاء ]، و[ اللآلئ] و[ الرمل والياسمين] و[ امرأة ] و[ الضباب] و[ سهرة] و[ الينابيع ]، هي ومضات ما من ذلك العالم القصصي والروائي، ومحاولة لتركيز اللوحة في بؤرة أساسية، ولكن العناوين في رأيي لا تشير إلى دلالة أيديولوجية محددة. إنها لا تهتفُ وتصطخبُ باتجاه معين.

فـ [ اللآلئ] كلمة تشير إلى جانب أساسي في البناء والحدث، فسفينة الغوص التي تاهت في البحر، قام الربان فيها بالاستحواذ على منتوج البحارة وهو اللؤلؤ، ولعل الذهن  الذي شرد نحو صيغة التأنيث [ اللآلئ ] هو تعبير عن انحباس ذكوري في البحر حيث لا نساء، وفي السجن أيضاً! وتدور الرواية في رحلة تيه البحارة وصراعات حول النجاة واخفاء المحصول الخ …

[ الضباب ] رواية تدور حول [ حشاش] راهن، ومنتمٍ سابق، والحدث هو رحلة الخروج الدامي من هذا التيه. لقد جاء العنوان من داخل عملية التشكيل. تركيزٌ له وبلورة. ليس شكلاً مسبقاً بل نتاجاً له.

[ الينابيع ] كذلك هو ومضة لاكتشاف الخطوط العريضة لمواقف الشخوص والأحداث والتطور، حيث يشير ليس إلى مناطق تدفق الماء التي حفلت بها البلد، بل أيضاً إلى مواقع تدفق الضؤ والألم والحب والمواقف.

هل الوضوح في العناوين يعاكس البُنى الفنية التجريبية والشعرية؟ أتصور إن البنى رغم تدفقها وتكثفها، تحمل سياقات واضحة بشكل ما.

  • لاحظ تواصلاً بين القصة والرواية في كتابتك الرواية، يكسوه نفسٌ شعري، وهذا أمر عادي باعتبار تداخل الأجناس وتواصلها، إلا أن الانطباع الذي قد يخرج به قارئ أول بالنسبة لرواياتك هو إنها مجموعة من القصص أو تراكم قصي قصصي يحكمه نفس طويل؟ ومهما كانت انطباعات التلقي، كيف يتصور عبدالله خليفة كتابة الرواية ككيمياء إبداعي؟

قد يكون هذا حكماً جزئياً، أو هو قراءة لعناصر معينة في التجربة. هناك بعض الملاحظات التي أقرأها: كقول أحدهم إن قصصي القصيرة روايات مكثفة ورواياتي قصص مطولة.في الواقع، إنني لا أرى الحدث القصصي إلا باعتباره كياناً واسعاً مترابطاً، يمتد إلى جزئيات الواقع والطبيعة، أي إنه يكون تجربة عميقة مثقلة بأشياء المكان وبملامح البشر الروحية وصراعاتهم الاجتماعية، وبشرائط الطبيعة المتغلغلة في المكان والإنسان.

في البدء، كانت القصة القصيرة بالنسبة إليّ ومض سريعة جداً، ثم راحت تمتلئ وتتشبع بضراوة البنى والأشياء. إن هذا يرتبط بتطور الرؤية والتجربة.

لهذا تأتي الرواية كتتويج لاكتشاف اللحظة الإنسانية في جذورها وسيرورتها، في تشابك الحدث بأغصان الظروف وسكاكينها، وبارتباط الداخل بانفجارات الصراع.

إن حدثاً [ عابراً] كما في رواية [ امرأة ] وهو دهس امرأة غنية لصبي امرأة فقيرة في إحدى القرى، يثير دوامة من الأحداث المرتدة إلى الماضي والنازفة في المستقبل، ويضع خرائط القرية المدهوسة بالتحولات الصراعية موضع الرصد الشعري.

منذ حادث الدهس ودفاع ريم الضاري عن أبنها حتى محاولة قتل جنينها لم استطع أن ألغي حدثاً جزئياً أو جملة.

إن البنائية المتآزرة، سواء على مستوى عناصر السرد أو تشكيل الشخوص والأحداث والدلالات، هي شيء لا يمكن التخلي عنه، إذا أردنا صياغة رواية معاصرة، أما إذا تحولت إلى هياكل عظمية متجاورة، فهي تتقهقر إلى القص الطويل القديم، وتلك بنية توافقت مع حياة مفككة، ونمط اجتماعي عتيق، سواء على صعيد التآزر البنائي أو على صعيد الدلالة.

  • هناك مسافة (لا تُعبر) بين عبدالله خليفة الصحافي وعبدالله خليفة المبدع، إن على صعيد اللغة وإن على صعيد الأسلوب.. فهل لم يكن ممكناً الاستفادة من الكتابة الصحفية في إضاءات كثير من النصوص التي تَّهْربُ إلى الرمزية وتكثيف اللغة بشكل واضح؟ وبعبارة أخرى ما علاقة الصحافة بالإبداع في نظرك؟

■ بالتأكيد على القاص أو الروائي أن يخاف من لغة الصحافة: لغة العرض المباشر والتقارير ومتابعة الأحداث السريعة، لأنه يحاول أن يمسك الأشياء الجوهرية العميقة في هذه المجريات اليومية النابضة كذلك بالألوان والمذاقات المختلفة والتلاشي.

ولقد أدخلت مثل هذه اللغة العرضية والملموسة إلى كتابتي، وبشكل ليس محدداً، ولكن من أجل أن تكون جزءً من مادة الحياة، وأن تُحور وتعدل لتتناسب ومجريات العرض الفني.

إن العديد من النصوص هي مضاءة بذلك، ويعتبرني بعضُ النقاد من الكتاب الواقعيين التقليديين، بعكس ما تشير إليه، وفي الواقع إن مثل هذه الإشكالية المزدوجة ناتجة عن رؤية جانب واحد من الكتابة.

فرصد الواقع بطريقة تسجيلية في مشاهد معينة هو أمر مطلوب لإحداث الإيهام ورصد العالم بشكل موضوعي، وقد كتبت بهذه الطريقة [ الصحفية] ـ وأسمح لي أن أقول إنه لا يوجد أسلوب بهذا الاسم ـ ولكن أن  يستولي الأسلوب الرصدي ” التقريري ” على الكتابة الفنية فهو يقطع أجنحتها ويطفئ بصيرتها، فليس الهدف من الكتابة القصصية عموماً التحليق عن الإنسان، بل اكتشاف الهيكل العظمي لتخلف الأمة وتعريته وعرضه للنور والنار.

ولهذا فإن الكتابة لا بد أن تزاوج بين مسألتين متضادتين، الرصد الموضوعي للعالم، وعدم الانحباس بين ملابساته الجزئية وأحجاره الجانبية.

والكتابة العربية عموماً ضائعة بين التحليق بعيداً عن الواقع، أو الانحشار بين غيرانه، وليس لدينا ذلك التضفير بين الاكتشافات العميقة للواقع، وتكوين اللغة الإبداعية ذات الطبقات الترميزية، إلا فيما ندر.

إن عدم قدرتنا على كشف الهياكل المتعفنة للعلاقات الاجتماعية ـ الروحية، يكمنُ في الوقوف عند الظاهر والاكتفاء بالرصد الصحفي، أو على العكس الغياب في الترميز والتعميم.

إن تضفير هذين الجانبين يعتمد على مواصلة رقابة الواقع التي تتيحها مواد الصحافة وأساليبها، وعدم الاكتفاء بموادها، والأمر يتوقف على الممارسة الكفاحية في تصوري، وليس الموقف التأملي المنعزل.

إنك تستفيد من مواد الحياة وعروضها الكرنفالية البائسة أو العظيمة. وتصل إلى القوى الميتة التي تُمسك برقابنا وأنفاسنا منذ بدء النهضة، وتعرض الأمر في مشرحة الرواية.

ومن المؤكد إن ذلك سيثير تناقضات أسلوبية كالغموض والترميز والشعرية الواسعة، أو العودة للنثر اليومي، لكن تقوم رحلة الرواية على الجمع بين الماء والنار، بين التغلغل في الجوهري وعرض المباشر، بين الشعرية والنثرية، بين الجوهرية والفوتوغرافية، بين الغموض والوضوح الخ…

  •  في روايتك الأخيرة [ الينابيع] التي ظهر منها الجزء الأول الموسوم ب [ الصوت]، أريد أن أسألك هل هناك ضرورة / ضرورات تيمائية ( باعتبار الرواية تاريخية) تفرض جمالية خاصة ونوعاً خاصاً في الكتابة الروائي، وعلى رأسه هذا النفس الطويل والمتعدد (رواية في أجزاء)؟

الضرورة تعود إلى الكاتب ومشروعه.

 أن ( ينهي ) عملية التحليل الفنية الواسع لبلده، تطوراتها وتناقضاتها وبشرها.

أن يوهج ما يحاول التاريخ الزائف وحديد الواقع، أن ينفيانه.

أن يضيء كل تلك الكفاحات البسيطة، وذلك العذاب الطويل الغارق في النسيان والغياب.

أن يجعل أؤلئك البشر المجهولين في الأزقة وتحت عربات الزمن وفي آبار النفط المشتعلة، باقين، مضيئين عبر الزمن. أن يجسد أصابع الإنسان الباقية فوق البحر لتحل كل الألغاز المطروحة من قبل الضواري.

أن يعيد ترميم سيولة التاريخ والثمار، حيث شكلت أهرامات من الرؤوس المقطوعة والمنازل القميئة والأرواح المتقزمة، جهة العماليق المنقرضين، وأكداس النقد والأبنية الشاهقة والنفوس الزجاجية، جهة العماليق المسيطرين.

لكل شعب ملحمته، إعصاره الخاص، الذي اندفع فيه ليقاوم الأصنام والرؤوس المتوحدة ومصائد البشر. وهذا مشروع لملحمة، صورة كبيرة واسعة لرجال ونساء أعادوا صياغة التاريخ والإنسان.

الضرورة تعود إلى حلم الكاتب.

 أن يجعل من رمل التاريخ لغة شعرية ولوحة تشكيلية لتصادم الينابيع القصوى للخير والشر، لتصادم القوى الكبرى، أن يرتفع عن المادة الخام للتاريخ، وللصحافة، للواقع، ليرى الشلالات الدفينة لتكون الأفكار العظيمة والنفوس النبيلة.

  •  إذا كان عبدالله خليفة لا يصدر رواياته ومجاميعه القصصية في داخل البحرين، فإن البحرين مع ذلك تشكل هاجساً حقيقياً في كتابته خاصة على صعيد التفضية والفضاء، حيث يحرص ـ وبقوة ـ على هذا الانتماء.. ويحاول أن يكون صوتاً لهذا البلد الشقيق، الذي بدأ يشهد تململاً حقيقياً على صعيد الكتابة والإبداع، وعلى صعيد الفعل الثقافي والمبادرات الثقافية.. فأين يضع عبدالله خليفة نفسه داخل هذا المشهد: البحرين الروائية بشكل مخصوص؟؟

 ■البحرين تشكل إحدى المُسرعات الحضارية في منطقة الخليج والجزيرة العربية، وعلى الرغم من صغرها، وربما بفضله، فقد تكونت تجربة نهضوية منذ أواخر القرن الماضي، ولعبت طليعية البحرين في الاقتصاد، سواء باعتبارها بؤرة في إنتاج اللؤلؤ وتشكيل التجارة، ثم باعتبارها أول بلد تدفق النفط فيه، في تسارع الإنتاج الثقافي وتكوين التيارات الفكرية ـ الفنية.

وبدأت القصة القصيرة منذ الأربعينيات، وانهمرت بغزارة وبحداثة في السبعينيات، ثم تحولت إلى الرواية في الثمانينيات. والنتاج الروائي قليل ولي أكبر حصة فيه.

والواقع، إن البحرين ليس فيها تململ على صعيد الكتاب، بل يوجد فيها نشاطٌ غزير وطويل عبر نصف القرن التالي، فثمة عشرات المجموعات القصصية وعشرات الدواوين ومئات المسرحيات وكتب الأطفال والدراسات الفكرية، ولدينا رواد في الشعر والفكر السياسي وغير هذا كثير، وكل ذلك في شعب أقل من ربع مليون!

وساهمتُ في هذا الزخم منذ أواخر الستينيات بمئات القصص والمقالات والدراسات الفكرية والنقدية، وقد ظهرتْ في القصة القصيرة التي اشتغلتُ عليها عدة اتجاهات، أهمها الاتجاه الواقعي، والاتجاه التجريبي، اللذان تصارعا وتمازجا واختلفا، ومثلت الرواية امتداد هذا الصراع والتحول.

وقد عملتُ ضمن الاتجاه الواقعي، بتطوراته واخفاقاته وتحولاته المختلفة. الآن صعدنا فوق هذه التضاريس المحدودة مستثمرين دلالاتها الإيجابية.

  • فيما يخص علاقة الثقافي بالسياسي، كيف ينظر عبدالله خليفة إلى المشهد السياسي في البحرين أيضاً؟ هل هناك تغير في الرؤية؟ هل هناك مصالحة مشاكسة؟ خاصة وأن روايتك الأولى [ اللآلئ] عبرت بشكل رمزي عن مرحلة الخيمة المظلمة!؟

المشهد السياسي في البحرين معتم، فمنذ حل المجلس المنتخب سنة 1975، وكنا ضحايا لذلك العنف، ونحن في حالة طوارئ دائمة. ورغم إن البلد عرفت تطورات اقتصادية كبيرة مع ارتفاع أسعار النفط، وشهدت البنية الاجتماعية ازدهاراً واسعاً، إلا أن الاحتكار السياسي وغياب التعددية أدى إلى تضاؤل احتواء الدولة للمجتمع ودخول البلد في حالة عجز مالي وسياسي متفاقم.

في حالة الطوارئ الممتدة ثلاثة عقود ركزت الدولة على اجتثاث التيارات الحديثة العلمانية، مما وسع وانهض الحركات الأصولية، وهذا أدى إلى نزاع دامٍ على مدى الأربع سنوات الماضية وخسارة مئات الملايين من الدولارات وعشرات القتلى وآلاف الموقوفين الخ..

ولا يبدو أن في الأفق رؤية سياسية تصالحية ناضجة تستوعب هذه الخناجر الدامية وتُدخل المجتمع في مجرى ديمقراطي.

  • سؤال أخير في نص هذا الحوار يتعلق بالمغرب السياسي والثقافي في آن، فما علاقات عبدالله خليفة مع المغرب الثقافي خاصة الروائي منه إبداعاً ونقداً؟ وعلاقته مع المغرب السياسي، خاصة تجربة التناوب السياسي التي يشهدها المغرب بعد تشكيل حكومة التناوب من طرف المعارضة بزعامة اليوسفي الكاتب الأول لحزب الاتحاد الاشتراكي والوزير الأول في الحكومة المغربية الحالية؟

المغرب نموذج مبهر للعرب. شيء متألق مختلف يلمع أمام القافلة العربية الصحراوية الطويلة، يحدوها للتوغل في العالم المتمدن الحديث، وعبور محيط الظلمات والطائفيات والإقطاعيات.

وكان انتصار أصدقائنا التقدميين المغاربة في الانتخابات التشريعية وتشكيلهم وعملهم لتحويل المغرب لصالح القوى الشعبية، مبعث اعتزاز وفخر هائل في الجزيرة العربية، وقد كُتبت العديد من المقالات التي أطرت هذه التجربة العظيمة، ومثلت أول تجربة تداولية عربية.

ونحن نتمنى على الأخوة المغاربة  الديمقراطيين رص الصفوف، والتعاون العميق الموحد للمزيد من التأثير في الواقع.

أما الأدب المغربي والرواية المغربية فهما مدرستان لنا. نحن نتعلم من أدباء المغرب وروائييها الكبار. لقد العديد من الروايات المغربية الكلاسيكية والجديدة وتتبع بعض الكتب النقدية التي ترصد هذه التجربة ككتاب الناقد نجيب العوفي عن المقص المغربي، وكانت لنا لقاءات مع أدباء المغرب في مؤتمرات الأدباء العرب، ونحن فخورون بإنتاج أشقائنا المبدعين المغاربة، سواء على مستوى الأدب أم على مستوى السياسة والواقع.

 عبـــــــدالله خلــــــــيفة في حوار أجراه الباحث المغربي: أحمد شراك

 

 

الوعي الديني والبنية الاجتماعية

  عبـــــــدالله خلــــــــيفة

لقد نما الإسلام عبر التضاريس الطبيعية والاجتماعية المتداخلة المركبة، وقد رأينا كيف كان الطابع معقداً ومتضاداً عبر تأثير الرعاة والصحراء على المدن ونموها، ولأن هذه المدن تتشكل بقيادة الطبقة المسيطرة، وليست باعتبارها سوقاً، حيث يأتي السوق كمُلحق وليس كقوة قائدة، فقد قام الأشراف بتراثهم الرعوي والمحافظ  بتثبيت هذه الأسس الاجتماعية والفكرية للماضي، مع استلال مضمونه الكفاحي، أو جعله أشكالاً أو عادات مُفرغة من المضمون التقدمي.

فالقبيلة والأسرة الأبوية التي كانت نمطاً اجتماعياً مهيمناً في البداوة تم سحبها إلى فضاء المدينة الاجتماعي، وغدت أفخاذ هذه القبائل تغدو أحياءً، وبالتالي كان هناك قواعد مادية بشرية واقتصادية لإعادة إنتاج الموروث البدوي. ونجد ذلك من الكوفة في عصر عمر بن الخطاب حتى مدينة المحرق البحرينية في القرن العشرين.

إن الإقطاع السياسي الحاكم يتحول على مستوى الحياة الاجتماعية إلى إقطاع أسري أبوي، وكذلك إلى عبودية إذا كان ثمة علاقات رق، أو استخدام للخدم العبيد والجواري.

وبطبيعة الحال، فإن المدينة المقامة بإرادة سلطوية، تقوم بتنمية التجارة والصرافة الخ، وتتحدد العمليات المالية هنا بمدى موارد السلطة وكيفيات الصرف. وهذا من جانب معين يقوم بتفكيك الإقطاع الأسري، عبر تطور وعي هذه الأسر، لكنه لا يقضي على الإقطاع الُمرحّل من العصر البدوي الذكوري القبلي السابق، إلى المدن، ويتوقف الأمر هنا على الموارد التي تدخل السوق والحرف وما إذا كانت تتجه للتوسع الخ..

فالمدينة ليست مدينة برجوازية بل مدينة إقطاعية، تنشأ فيها قطاعات رأسمالية محدودة ومرتبطة بالسلطة أو بحاجات الناس البسيطة. ولهذا لا تستطيع أن تغدو مدينة برجوازية إلا عبر تغيير السلطة.

لكن القبائل أو الأفخاذ وقد غدت مؤسسة حاكمة، تتمركز فيها السلطة والثروة،   تقوم بتأبيد التراث الذي ارتكزت عليه في الحكم، وهنا يمكن أن نرى عدة مراحل لعلمية التثبيت تلك، فالزمن الراشدي الأموي العباسي يثبت الأسر القرشية بإرثها العربي، وهنا كانت عملية استعادة الإرث العربي الإسلامي ذات صياغة عربية بدوية تحديثية، دون أن تتخلى عن الأسس الاجتماعية القبلية والذكورية والأرستقراطية، أي أن المدن أصبحت مضارب جديدة عبر هيمنة شيخ القبيلة الذي صار خليفة، وهذا الجانب الأساسي لن يتم التخلي عنه في أية تطورات متنامية، أي أن الإقطاع السياسي الحاكم، يكرس مستوى اجتماعياً ملائماً لقيادته. وهذا المستوى الاجتماعي من البُنية هو الذي يقوم الدين بتشكيله.الدين الذي سُحبت منه المواقف الأساسية في الثورة التأسيسية: التوجه نحو التحديث، وتحالف التجار والقوى العاملة، وتغيير التاريخ بالارتكاز على تطور حياة الجمهور المعيشية.

ولكن لأن الصراعات السياسية والفكرية تجري في المستوى السياسي فإن المستوى الاجتماعي يتكرس من كل الفرقاء المتصارعين السياسيين.أي أن تعدد الزوجات وعقوبات العنف واستخدام العبيد والحجر على النساء وتبعية الوعي والثقافة للقصور الحاكمة الخ.. إن هذا المستوى الاجتماعي لن يكون محط خلاف بين الفرق الدينية، التي أخذت تتحول إلى مذاهب بدءً من القرن الثاني الهجري.

فالتحول إلى مذاهب لم يكن يصب في إعادة تشكيل هذه المستويات الاجتماعية المتحجرة، لأن المسيطرين على إنتاج المذاهب انفصلوا عن العاملين، وغدت لهم مصلحة مشتركة في الإبقاء على تخلف وتبعية المنتجين. ومن هنا نرى تضادهم مع مضمون الثورة الإسلامية التأسيسية، ولهذا يركزون على الشكل لدرجة التعصب والعنف.

 ولهذا فإن خلافات المذهبيين تغدو شكليةً أكثر فأكثر، مثل كيفية الوضؤ، أو الوقوف في الصلاة، وإذا كان المستوى الإيديولوجي يبدو متضاداً، عبر الاستناد على النص المستقل عن الأئمة أو الموروث عنهم، فإن هذا المستوى الفكري يتحول هو الآخر إلى أشكال مُفرغّة من بحث القضايا الجوهرية للتحول مثل الملكية العامة والخراج والاستغلال الخ..

وهكذا فإن الإقطاع السياسي وقد أسس الدولة المركزية، أو الذي انفصل عنها، فإنه يقوم لا بتكريس حكمه السياسي فحسب، بل بتكريس المستوى الاجتماعي، التقليدي، الذي تهدف ديمومته إلى إعادة إنتاج الطاعة لدى الجمهور المستلب الإرادة.

ويلعب الوعي دور الوساطة بين المستوى السياسي والمستوى الاجتماعي، فالمثقفون الذين ينتجون الوعي والمرتبطون بالأشراف وخدمتهم، يصوغون المبادئ الدينية ويحيلونها إلى أشكال، أي يقومون بنزع وظيفتها التحويلية الأولى، ومواقفها الموجهة ضد الملكية الاستغلالية، ويركزونها على العبادات والمعاملات والعقيدة، ومن ثم تزداد بُعداً حتى عن هذا المستوى، أي تتحول إلى محض عبادات وتستوعب أكثر فأكثر المراحل السابقة للدين كالسحر والخرافة القديمة. [ راجع هنا حديث أبن الماجشون عن قرار عمر بن الخطاب بجعل ملكية الأراضي الخراجية المفتوحة ملكاً لعامة المسلمين.]

وبطبيعة الحال فإن صياغات المثقفين لمستويات الوعي الدينية في كل مرحلة تختلف، لكونها مرتبطة بمدى قوة الدولة وطابعها وكيفية توزيعها لثمار العمل، ولكن إذا حللنا هذه الصياغات بدءً من نهاية القرن الثاني الهجري وأوائل القرن الثالث فنجد ما قلناه سابقاً من بروز التمذهب  الذي كرس البنية الإقطاعية بمستوييها السياسي والاجتماعي. وكان دور المثقفين المذهبيين المتعددين هو تكريس هذا الاختلاف عبر الأشكال الدينية التي تناسب بدلات القوى المسيطرة المتعددة الألوان..

ولهذا سيختلفون حول كيفية الصلوات وعدد الكواكب والنجوم والأرواح التي تهيمن على الفضاء الروحي، ولكن سيتفقون على استغلال العبيد والنساء.

وتغدو الاختلافات بين المجموعات الإقطاعية السياسية والدينية منصبة على الأشكال، وهي تحولها إلى أدوات للحكم أو لمعارضة الحكم ولكن ليس لتغيير أوضاع الجمهور.

إن هذا يستنزف البشر والنص الديني معاً، فالمدينة الإقطاعية الدينية وهي تدمر الريف والبادية بشكل مستمر، باستغلالهما وتفتيتهما، تقوم بتدمير نفسها أيضاً، بتوجه السلطات البذخية فيها، فلا تنهض الصناعة، ولا تلتحم بالعلوم، وتغدو قوة المدينة الاقتصادية مركزة على التجارة والإنشاء اللذين يصبان في البذخ، مما يجعل المدينة على مرور الوقت تنهار من الداخل وتفقد سيطرتها على الخارج.

فالتضخم المتواصل في عدد سكانها، والذي يكون من التوالد غير الطبيعي في العائلات الأرستقراطية، والذي يتكون بسبب الشهوات والفراغ، أو بسبب النزوح المستمر من الريف والبادية، أو بسبب تكوين فرق الارتزاق العسكري، أو بسبب التضخم السكاني المستمر في القرية والصحراء والذي يتشكل لأسباب إنتاجية ولمواجهة قسوة الطبيعة وتخلف الإنتاج وهيمنة الرجال كذلك.

إن النص الديني الموجه عبر هيمنة مثقفي الأشراف وخدمهم الفكريين، يضمرُ على مستوى المضمون، لفقدان الركائز الاجتماعية التي تغذيه بالحياة، فبدلاً من التحالف بين التجار المكيين والعبيد والفقراء، كما كان الإسلام في ثورته الأولى ، يتبدل إلى خضوع التجار للأرستقراطيات اللاهية، وبالتالي يغدو الهجوم على الملأ المكي القديم هجوماً شخصياً أو إيمانياً محضاً مقطوع الجذور بدلالاته الاجتماعية، أو أن التحالف الكفاحي بين التجار والعبيد والفقراء كما كان سابقاً والذين غدوا جميعاً صحابة ثورية، يصير الآن في العصر العباسي الأول وما يليه، تبعية تجار للقصور، أو استغلال نهم للفقراء.

وفي حين كان الإسلام الأول يعتمد على تغيير التاريخ من خلال مصلحة الجمهور ومشاركته، بغض النظر عن المستوى الذي تجلى فيه ذلك الاستخدام والتغيير، فإن المذاهب والفرق الدينية تقوم على تجميد التاريخ واستغلال الجمهور لمصالح شخصية ومن أجل الوثوب إلى الحكم الذي يعيد إنتاج التخلف.

إن هذا يؤدي إلى غربة النص عن مضمونه، أي عن الظاهرات التحويلية الشعبية التي تشكل في مجراها، فيزداد النص تركيزاً على أشكاله الخارجية، ويعادي أكثر فأكثر عمليات التحويل الحديث و(العدالة).

ومن هنا كانت مسيرة فرق المعارضة الدينية المتوجهة لقراءة النص كنص غيبي، تتدهور بشكل مستمر، فالقدرية تضمحل، والمعتزلة تُضرب فتتحول إلى شخوص تابعة للسلطة المستغلة، والزيدية تغدو نائية وموجهة لحكم  الأشراف في المناطق البعيدة كاليمن والمغرب وشمال إيران، والإماميات تتحول إلى معارضة ساكنة متوارية، عبر بدايات الإثنا عشرية، أو معارضة متنامية تصل للسلطة في القرن الثالث الهجري عبر الإسماعيلية، ولكن هذه القيادة والانتصارات فيما بعد تكون من خلال قيادة الأشراف وليس التجار، وكذلك يتم استغلال الفقراء ولا يقوم التحالف الثوري معهم، وتصير العمليات برمتها وثوباً للسلطة من أجل هذه العائلات وترفها.

وهذا ما يجعل النص الديني مستمراً في غربته عن مضمونه، فيتفكك، أي يتحول إلى مذاهب.أي إلى تفسيرات تائهة في أشكاله وحروفه المقطوعة الصلة بجذوره.

التحول إلى مذاهب تعني إن ثمة حقائق متعارضة في الدين، أي أن هناك حقيقة دينية، وهناك محاولة قوية أو محاولات للقضاء على هذه الحقيقة الدينية، التي تعنى لدى المثقفين أو الجمهور العدالة والسعادة في الدارين.

إن أساس الانقسام في الوعي الديني ناتج عن انقسام اجتماعي في صفوف المؤمنين، فهناك أقسام غدت مُلتحقة أو تابعة للسلطة، وهناك أقسام تجد نفسها مستغلة بشكل أساسي وبالتالي تصطف في المعارضة.إن القسم الأول ينطبق على الرعاة الذين شكلوا وهيمنوا على المدن وصاروا جنوداً وإدارات ثم عامة موالية أو ثائرة على السلطة، ثم رُفدوا بالعوام العسكر الترك والأكراد الخ، فغدوا هم التربة الاجتماعية للمذاهب السنية. والتكوين الرعوي الواسع وقوة المدن والسلطات المنبثقة عنها، هي ما جعلت لهذه المذاهب السيادة الكبيرة على المنطقة المشرقية من العالم الإسلامي، في حين كانت له السيادة المطلقة في الإقليم الغربي، نظراً لتجذر الطابع الرعوي فيه.

 إن القسم الزراعي الذي واجه هؤلاء الرعاة وادغم معهم أو صارعهم، تحمل عبء الاستغلال الأكبر، ونظراً لذلك أخذ هذا القسم بالمذاهب المعارضة، في مخاض معقد (قومي) واجتماعي وثقافي فداخله قوس من المذاهب الإمامية والمسيحية. وتداخل المذاهب الإمامية بالمذاهب المسيحية والإرث القديم أنتج العديد من الظواهر المشتركة.

وبطبيعة الحال يغدو القانون الاجتماعي هو هو، سواء على المستوى المركزي حين انتقل العرب إلى الإمبراطورية، أو في أزمنة التفكك، ففضاء مكة والجزيرة العربية الاجتماعي الذي لم يشكله الحكم الاستبدادي، هو غير المشرق الزراعي الشمالي المشكل على أساس العبودية العامة منذ فجر التاريخ.

إن كل قسم في الوعي الديني يقول إن الحقيقة الدينية معه، ولكن كما رأينا فإن النص الديني يُفرغ باستمرار من محتواه، وتنتقل هذه العملية التفريغية إلى المذاهب، فتغدو الاختلافات ليس من أجل الوصول إلى المضمون الثوري المُضيّع، بل إلى الاختلاف حول الأشكال المتباينة.

وبطبيعة الحال تمتلك الأديان آلية لمواجهة عدم تحقق الوعود الاجتماعية الدنيوية بالإحالة على الغيب، أو بروز عقبات شيطانية الخ..

وتزداد هذه العملية تعقيداً وشكلانية مع ازدياد الاختلافات، وتزداد عملياً الغربات الدينية المختلفة، وهذا ما يفتح مجالاً للمعرفة الحدسية، بعد أن فشلت أدوات النصوص الحرفية في اكتشاف مضمون العقيدة التحويلي.

وهنا تبدأ مرحلة مفارقة لمرحلة الاعتماد على النصوصية، التي أنتجت عقلاً دينياً تابعاً لها، بأشكال مختلفة، عبر كل المذاهب السابقة، أي تبدأ المرحلة الصوفية والفلسفية في الوعي الديني.وتقوم الصوفية على إنكار سياق النص، علىإنه ظاهر، وبالتالي فإن الحقيقة لا تكمن في الظاهر، بل في الباطن، ولكن هذا الباطن لا تجسده الصوفية نضالاً اجتماعياً، وتحالفاً أساسياً بين التجار والفقراء، بين الطبقة الوسطى والمنتجين، تجاوزاً للبنية الإقطاعية، بل تقيم دكتاتورية غيبية للقطب على المريدين، وتصبح هذه الدكتاتورية شديدة التنوع والتشظي بفعل الشطحات والمجاهدات الداخلية الغامضة للأقطاب، ويذكرنا هذا بتشظيات الخوارج، وإن كان بصورة مضادة.

أما المذاهب الفلسفية الدينية فأكثر تعقيداً، وقد أتاح القسم [ العقلاني] منها إمكانية قراءة الطبيعة والمجتمع قراءة موضوعية بأدوات الزمن، لكن غيبيته في القسم الميتافيزيقي، تتشارك مع المذاهب الدينية الأخرى وخاصة الإمامية منها.ولكن لأن الفلسفة الدينية غدت مقطوعة التحليل بالسياق الاجتماعي التاريخي، وارتبطت بالتبعية لشرائح من طبقات الأشراف المختلفة، فقد أصابها ما أصاب الحركات المعارضة التي تجمدت عند هذا الأفق نفسه، كالقرامطة والإسماعيلية والدروز والزيدية الخ..

وبطبيعة الحال، كان كل هذا يشتغل في فضاء نظام إقطاعي زراعي حرفي بسيط، كانت إمكانيات التجاوز التقني والصناعي والعلمي، معدومة فيه.

إن اعتماد قسم من النص الديني على امتداده النصوصي، باعتبار إن هذا الامتداد النصوصي يقوده إلى النص المنبع القادم من النور الغيبي، يغدو بالنسبة إليه شرط الحقيقة الدينية، بغض النظر عن ملاءمتها للعصر أو تناقضها مع العقل أو أهميتها للتطور.

إن النص في هذه الحالة يغدو رجوعياً باستمرار، ولكن ليس إلى جوهر العملية الثورية الإسلامية الأولى، وهنا تحدث غربتان على مستوى الماضي وعلى مستوى الحاضر.

فهو يغدو غريباً تجاه الماضي، فلا يفهم سببيات الثورة الإسلامية وشروطها، أي عمليات تفاعلها الاجتماعية والسياسية والعسكرية مع الجمهور، ليس لشيء سوى لموقفه المحافظ وتبعيته لقوى القهر والاستغلال في زمنه، ولهذا يقوم بإعادة النص المفرغ من دلالاته الثورية إلى زمنه، لكي يمنع اكتشاف هذا المضمون.

تتحول هذه العملية إلى حلقة مفرغة، فتزداد عمليات التدمير الذاتي والشكلانية النصوصية والشطحات والخرافات، أو النصوصية الحرفية الميتة الخ..

إن شروط التغيير وهي تحويل نظام الملكية العامة التابعة لأسر الأشراف، وتحرير الفلاحين والمرأة والعبيد، كانت هي أساس وجود هذه الأنظمة والتيارات، وبالتالي كانت إمكانية تشكل ثورة ديمقراطية معدومة، وكان وجود طبقة برجوازية حرة صناعية مستحيلاً، فراح العالم الإقطاعي الديني يعيد إنتاج نفسه على نحو تفتتي ومأساوي بشكل مستمر، حتى جاء الأتراك والصفويون وأقاموا نظامي الإقطاع المذهبيين الشاملين بنفس الأسس القديمة حتى العصر الحديث.

 عبـــــــدالله خلــــــــيفة: الوعي الديني والبنية الاجتماعية 

عبــدالله خلـــــيفة تحليل عميق لثقافة التسطيح

 

عبــدالله خلـــــيفة تحليل عميق لثقافة التسطيح
http://www.ssrcaw.org/ar/show.art.asp?t=2&aid=608116
http://www.alayam.com/alayam/Variety/745638/News.html

كتب: فهد المضحكي
تتميز رؤى عبدالله خليفة بالمنهجية العلمية وبالروح النقدية للظواهر الاجتماعية والسياسية والثقافية.
كانت تحليلاته ودراساته وابداعاته تتعامل مع الاشكاليات بوعي تفيض منه القدرة على النفوذ إلى جوهر التناقضات والصراع الاجتماعي والطبقي.
ورغم تنوع كتاباته الغزيرة فان اهم ما ينظمها نسق فكري منهجي قاعدته الفكر الماركسي.
ولهذا كان خليفة لا يقف عند حدود التسطيح؛ بل يتوغل في جوهر مشكلات الواقع السياسي والاجتماعي والثقافي؛ دفاعاً عن العدالة والمساواة والحقوق والارتقاء بالابداع على صعيد القصة القصيرة والرواية والاعمال الفكرية كباحث متمكن من ادواته.
وهو صاحب قدرة لم تعرف اليأس وتضخم الذات والنفاق السياسي والاجتماعي والازدواجية.
الحديث عن خليفة هو الحديث عن البحر والبحارة والمهمشين، هو الحديث عن الحارات الشعبية والكادحين والمستقبل.
عبدالله خليفة كغيره من دعاة التغيير رفع صوته في وجه الظلم والظلام والتخلف والاستبداد والاستعمار والاستغلال، وسخّر حياته وقلمه وفكره في سبيل التحرر والتقدم والديمقراطية، وبالنهوض بالرؤية الابداعية في المشهد الثقافي المحلي والعربي.
بهذا الوعي كتب النصوص بوضوح فكري وبوعي يدعو الى التغيير وثقافة التنوير.. كتب عن العنف الذي ينتهجه الاسلام السياسي وفصل الدين عن السياسة وقمع الانظمة الطائفية.
وإذا ما أردنا رصد ذلك فانه يبدو واضحاً في مقالاته ودراساته وإبداعاته الأدبية.
يقول عن التسطيح السياسي ومخاطره (الحوار المتمدن 11-9-2014) ليس امتحان الحركات الدينية المحافظة وتغلغلها بين الجمهور الا دليل قوي على تدهور العقلانية العربية، وغياب الديمقراطية، وتلكؤ عملية التنمية، وفشل قوى الثقافة ان تنشر تنويراً أو تحديثاً بسيطاً.
ويقول في رؤيته هذه لقد عبّر صعود هذه الحركات عن وضعنا الحالي، فلا يجب ان ينسحب اي طرف من المسؤولية، ويقول لقد نبهتكم وقلت لكم وما إلى ذلك من تبريرات ليس فيها أي فعل ملموس عميق قام به هذا الطرف.
في حين يرى ان الثورات التي وقعت في بلدان الوحدة الوطنية ابعدت القوى المذهبية المفتتة للصفوف وبدأت تاريخاً آخر. ومنطقة المشرق العربي مؤسسة الفرق والمذهبيات السياسية لها شأن آخر تماماً، فبلدان الصرعات الدينية السياسية بحاجة إلى مسارات أخرى من التوحيد الوطني النهضوي المتدرج المتصاعد.
اما اليسار – عن تصوره – فهو كائن مسحوق لا نستطيع ان نلومه لكثرة الجراح التي اصيب بها، وبقاياه لم تقدر ان تشكل سياسة اجتماعية مؤثرة فسارات مع ما هو طافح.
وفي تحليله هذا راح يغوص وراء المسببات فيرى ان المذهبيين السياسيين الشموليين مفتوحة لهم كل الساحات، وعبر اعادة انتاج الكتب الدينية القديمة ونشر الخطوط العريضة الاسطورية القائمة على قصص وتواريخ قديمة وامثال شائعة واقوال مسطحة من خلال الجمهور البسيط، ثم رفد هذه الثقافة الشعبية بخطوط سياسية دكتاتورية مؤدلجة لكل فترة، فإن الجمهور الواسع صار تحت هيمنة محافظة خطيرة، تقوده إلى الوراء التاريخي، بحيث لا يستطيع إلا ان يتوجه نحو دولة دينية شمولية تعدهُ للمذابح، ويجافي الدول العلمانية المنقذة إياه من المصير الرهيب الذي ينتظره.
وهكذا فإن هذه الثقافة يراها مقطوعة الصلات بالحداثة والتحليل السياسي الموضوعي وهي ما تجعل الجمهور مخدرا مستعدا للانقلاب السياسي الخطر على معيشته وسلامته وتقدمه، بل انه حتى هؤلاء (المثقفين) يصبحون فقاعات سياسية مع الشحن والتأثير المسرحي الكبير!
وبغياب التنوير وسيادة ثقافة الجهل من جهة وثقافة التسطيح من جهة أخرى تتشكل ظاهرة الردة المضادة عن الوطن والعقلانية والتقدم.
ولم تكن ثقافة التسطيح عند خليفة سوى ثقافة مكملة لثقافة التخدير، ثقافة التسطيح هي الأقوى، عبر تصعيد قوى لا تدري بشيء مما يجري في الأعماق، مقطوعة الصلة بتاريخ المنطقة وصراعاتها الاجتماعية وآدابها وفنونها ومذاهبها، فهي لا تدري حتى بأعماق الاسلام التي تجري الصراعات السياسية والاجتماعية المعاصرة في حياضه في استخدامه للسياسة المضادة للعصر والديمقراطية، ثم يقوم السطحيون بقيادة الاعلام والثقافة والتوجيه المعنوي ويشكلون البناء الروحي للمنطقة غير قادرين على مقاومة الاختراقات الطائفية والعنفية أو قراءة مجمل هذه اللوحة المعقدة -السياسية- الثقافية.
كل ذلك يتداخل -في رأيه- مع توجهات فوضويين مغامرة، وانقطاع القراءة العميقة المنتجة من قبل بعض المتعلمين السياسيين وهو ما أدى إلى انفصالهم عن القدرة على تكوين عقلي تحديثي نقدي مستقل، فحين نطالع شخوص اليسار المراهق نجد عدم العودة إلى المراجع وغياب الدرس واستعمال الجملة السياسية المتفجرة المقطوعة السياق عن التحليلات العميقة للمجتمع والأمة العربية والأمة الفارسية (تحت قيادة الدينيين المحافظين) باعتبارهما مركز الصراع السياسي الراهن في منطقة الخليج. وينحازون إلى الثانية من دون دراية مع الانقطاع عن التاريخ القومي العربي ومنجزات الوعي القومي السابق، وفي تقديره ان هذه الاصوات تركز على نفخ الآلام الشعبية الجزئية وتحويلها إلى كل اللوحة الاجتماعية، ثم لا تجد سبيلاً إلى حلها سوى الانفجار أو يجري استعراض الآلام السياسية القديمة واجترارها، وتداخل عذابات المناضلين السابقين بالرموز الدينية فتجرى احتفالات متشابهة وتتداخل خطابات الطائفيين مع خطابات (التحديثيين) والمناخ العامي يسيطر على هذه الفرق، وترى كذلك عدم القدرة هنا على معايشة الواقع الراهن، وتحليله والبحث عن مسارات تطور ممكنة معقولة فيه، وكأن الأمل مقطوع بسبب هيمنة الماضي.
الأيام العدد 10716 السبت 11 أغسطس 2018 الموافق 29 ذو القعدة 1439