الأرشيف الشهري: جويلية 2018

المثقف العربي بين الحرية والاستبداد

كي نعالج هذا الموضوع البالغ الاتساع والتركيب وعلى أسس موضوعية، أي بجعل قضية المثقف جسما فكريا في بنى اجتماعية محددة، فلا بد من رؤية هذه البنى الاجتماعية المتعاقبة في التطور التاريخي العربي، وما هي علاقاتها بالشرائح الوسطى التي تصير فئة المثقفين جزءا عضويا منها، ولنحدد ماهي الآفاق التي أتاحتها هذه البُنى الاجتماعية لهذه الشرائح الوسطى في الحرية وفي الصراع من أجل الديمقراطية، وماذا كانت مواقفها الأساسية.
عرفت المنطقة العربية أولى أشكال التحضر الإنساني ونشوء المدن والمدني ولكنها كانت باستمرار تعجز عن إنتاج نهضة شاملة، وحدثت عمليات تكرار لدورة النهوض المحدود، وعودة التخلف، وفي العصور القديمة كانت الأنظمة العبودية المُعمّمة، النظام المصري القديم والنظام الرافدي، وغيرهما في المنطقة، تحيل السكان الى رعايا عبيد، وتتشكل الفئات التجارية والادارية كتوابع للطبقة المهيمنة، وحدثت ذات الآلية المكررة في النظام الديني الإسلامي، ولآن تستعاد في العصر الحديث، فيما هي هذه الآليات؟ إن علينا بحثها بشكل ملموس، وعام، حتى نأتي على زمننا الراهن، ونبحث لماذا تعجز البرجوازيات العربية عن إنتاج الأنظمة الحديثة بموصفاتها: العلمانية والديمقراطية والمتحررة؟
تبدأ صياغة الثقافة العربية منذ ألإسلام التأسيسي حيث كان نبي الإسلام هو المثقف الثوري الطليعي الأول الذي قاد العرب من مجتمع متخلف مفكك، الى عصر النهضة.
إن ثمة ظروفا موضوعية وذاتية كثيرة جعلت من هذه الثقافة قوة تغيير تاريخية كبرى، ولأول مرة نرى المثقف وهو فرد من فئة التجار المتوسطة، يقيم علاقة تحالفية عميقة مع العاملين، والذين كانوا فقراء وعبيدا، وعبر هذه العلاقة تتشكل المدينة النهضوية التي تزحف عسكريا وسياسيا وثقافيا لتغيير المحيط المتخلف ودمجه في العملية النهضوية التاريخية، عبر تضافر المصالح المادية والروحية لسكان المدينة بسكان البادية، من ثم لتحويل هؤلاء الى قوة تفكيك لهيمنة الدولتين الكبيرتين المسيطرتين على المسرح التاريخي.
إن العلاقة التحالفية بين المثقف النهضوي والعاملين، تتضمن خضوعهم الطوعي لقيادته، المنفتحة عليهم المحبة لهم ولتقدمهم، وهي القيادة التي تقودهم لتحول عميق في مكانتهم الاجتماعية الاسترقاقية والمتدنية، وهم الذين كانوا على هامش الحضارة، فأصبحوا في قلبها.
الثقافة هنا تأتي مستوعبة لمسار التطور القديم الضارب بجذوره في الأرض والنفوس، والتي تبدأ أولا في الثقافة الدينية المناطقية برموزها ودلالاتها، التي تجعل سكان هذه المنطقة متميزين روحيا، أي ثقافيا، عن بقية المناطق الاجتماعية والسياسية العالمية، وليس هذا التميز سوى فعل نضالي متراكم عبر العصور، لإنتاج الاستقلال عن تحكم الغزاة.
كما أنه يمثل العلاقة بين الحاكمين والمحكومين، حيث يقوم الحاكمون بعد سنوات ضارية من الصراع، بتحييد العناصر الثورية من الثقافة الدينية، وتكريس عناصر الخضوع والأشكال الخارجية وتحويل النضال من أجل جعل الملكية عامة والثروة للناس كافة، الى ظهور مجتمع الصدقات حيث الخزانة من احتكار القلة.
كذلك فإن الثقافة الإسلامية التأسيسية استوعبت ليس فقط بقية مناطق العالم، بل أيضا الثقافة العربية السابقة، بتطورها الروحي التعبيري والعبادي والعملي، وبدون ربط العام المناطقي الإنساني، بالعربي الخاص، لا يمكن أن تتشكل ثقافة عربية ــ إسلامية عريضة تستوعب أهل المنطقة.
إن الثقافة التي توجهت لإبعاد الملأ الجشع عن التفرد بالثروة والسلطة، أصبح عليها أن تكون ثقافة دولة وثقافة شعوب، أي أن تعبر عن الحاكمين والمحكومين، المستغلين والمستغلّين، وإذا كانت العلاقة بين الطرفين في هذه الجمهورية لا تتشكل عبر الاستغلال بل عبر التعاون والتوزيع العادل للثروة على عرب الجزيرة والفتوح، فإن عهد الأقليات الحاكمة الملكية المستغلة التي حولت الثروة العامة إلى بستان لقريش، كان عهدُ تفكيك لهذه الثقافة العامة الموحدة الى ثقافات طوائف ومذاهب، تعبيرا عن صراعات سياسية واجتماعية ومستويات متباينة في فهم النص الديني وقد وجدت نفسها تبحث عن مشروعيتها في الدين الواحد.
وقد راح أبرز المثقفين، هؤلاء الذين راكموا فعل الكفاح، منذ ذلك الحين يبحثون عن العناصر البارزة من الثقافة التحويلية الدينية للدفاع عن القضايا الجوهرية التي تأسست في مناخها.
أي راحوا يبحثون عن العناصر الثورية في الثقافة الدينية من أجل استمرار التغيير، ورفض احتكار القلة للثروة، وإذا كانت هذه العناصر قد بدأت برفض القدر كقانون طبقي تفرضه القوة الحاكمة على الناس، فإن هذا الفعل الإرادي غدا هو جوهر الحرية الباحثة عن إزالة الاستغلال والعبودية السياسية.
لكن الحاكمين من جانبهم، وقد تملكوا الثروة والرقاب ، حولوهما، كما كان ديدن اسلافهم الطغاة السابقين، إلى أدوات لغييب تلك العناصر النقدية والمعارضة والتحويلية، فاستخدموا أدوات القهر وشراء الذمم في تغيير المثقفين والثقافة، فإذا كان الأمويون قد ركزوا على تشجيع الشعر البدوي ونزاعاته القبيلة، ولإذكاء نيران العداوة بين القبائل، فإن العباسيين قمعوا بقسوة المثقفين المتمردين: كابن المقفع وصاحب النفس الزكية وبشار وأبي حنيفة وغيرهم على تنوع أسباب القمع وأشكاله.(1 ـ 5)
وإذا كانت عناصر الثقافة العربية الجاهلية بتعبيرها عن حرية القبائل ورفضها للخضوع وضراوة حياتها البدائية، قد مثلت أشكال الاحتجاج الأولى والتمرد، فإن الثقافة المسيطرة للقلة الحاكمة قد كرست عناصر اللغة البدوية المغرقة في خصوصيتها، وذات الإرث الرعوي الضيق، والمستعلي على الأمم الأخرى، وفرضت قاموس الإبل والخيام على المدن، وألغت تواريخ الأمم الأخرى وجذورها الحضارية وجعلتها بدوية . . مما أدى الى تكسر اللغة العربية بين فصحى نخبوية رفيعة ورعوية وعاميات شعبية متدنية.

الوعي والطبقات

أتيح للفئة التجارية في العصر الجاهلي أن تقوم بدورها التاريخي بسبب غياب وجود دولة استبدادية مهيمنة في الجزيرة العربية، فقد ظهرت في فضاء سياسي واجتماعي وجغرافي مشبع فقط بسلطات محلية وقبلية، تم إدماجها في بنية الدولة الصاعدة. كذلك كانت لديها قوة عسكرية جاهزة قوية متمثلة في القبائل الحرة على مدى التاريخ والمكان.
وقد أدت عمليات الفتوح الواسعة الى تبدل الخريطة الاقتصادية والاجتماعية، فالفئة التجارية القائدة والمتحالفة مع الفقراء، والتي تمظهرت ببرامج اجتماعية محددة في عهد الخلفاء الراشدين، أخذت تقل أهميتها الاقتصادية مع اتساع ثروات الأرستقراطية التي عادت الى جسم الحركة السياسية الدينية، ونظرا لكفاءات أبنائها في السياسة والقيادة العسكرية فقد تبوءوا مناصب حكام العديد من الولايات، خاصة الشام ومصر. إن التحالف بين الفئة التجارية الوسطى والعاملين بدأ يتقلقل مع صعود أسر الأشراف الحجازيين، وكان عهد الخليفة عثمان بن عفان هو مرحلة الانتقال الى عودة حكم الأشراف، عبر أغنى فرع لهم وهو بني أمية.
أما التحالف بين التجار المتوسطين والعاملين والذي تمظهر لدى فريق الإمام علي بن أبي طالب، فأعوزته شبكات التنظيم والمهارة السياسية للقائد المؤسس.
ويمثل حكم بني أمية عودة لنظم الاستبداد العريقة في المنطقة، ومع هذا فإن قيام الثورة الإسلامية ودخول الجسم الرعوي الشعبي كقوة مغيرة أدت الى إزاحة النظام العبودي المُعمّم الذي خيم على المنطقة منذ الحضارات القديمة.
وقد اتصف حكم الأمويين والعباسيين ومن تلاهم من العائلات الأرستقراطية الإقطاعية بالارتكاز على أداة الدولة العسكرية والأمنية والثقافية للسيطرة على النظام وجلب الخراج والموارد الاقتصادية لبيت مال الأسرة الحاكمة.
لقد تشكل هنا إقطاعان هما الإقطاع السياسي الحاكم، حيث يهيمن على البنية الاجتماعية بمستوياتها المختلفة، والإقطاع الديني الذي يهيمن البنية الاجتماعية بمستواها الاجتماعي والفكري. وقد بدأ الإقطاع العام منذ عهد عمر بن الخطاب الذي وضع أراضي الخراج الممتازة (الأراضي الصوافي) في ملكية الدولة، من أجل أن تكون ملكا عاما مفيدا للمسلمين، ولكن هذا الإقطاع العام تحول الى ملكية الأسر الحاكمة. وبتحول الإقطاع العام الاقتصادي الى هيمنة الأسر الحاكمة بدأ الصراع الاجتماعي على الثروة العامة، ومن خلالها تمكن الإقطاع الحاكم من السيطرة على البينة الاجتماعية ككل، وتغيير عناصرها المعارضة، عبر التعاون مع الإقطاع الديني الذي صار مذهبيا.
إن تشكل الإقطاع الديني في حضن الإقطاع السياسي العام، عبر القبول التدريجي بالخطوط العامة السياسية التي فرضها على الحياة، واستعادة الإسلام السابق كنظام وليس كثورة اجتماعية. أي بتنحية البحث في مسائل الملكية العامة المسروقة وانتخاب الحكام، في حين تم الأمر على عكس ذلك في عادات وفي الظروف الرعوية المحافظة، التي كانت جسرا مرحليا لإدخال الرعاة لجسم الثورة، أي بتحويلها الى سمات اجتماعية مُطلقة الـخ. .
إن تحويل الإسلام من ثورة الى نظام إقطاعي عبر هذه التنحية وعبر هذا التثبيت، الذي اشتغلت عليه قوى النظام السياسي والديني، يحول النظام الإقطاعي العام، الى نظام إقطاعي ــ مذهبي، حيث تبدأ الصراعات الاجتماعية بالتفاقم، آخذة أشكالا دينية، تتحول الى فرق، ثم الى مذاهب. فالقوة المسيطرة تشكل مذهبها على قياس سيطرتها وانفتاحها وانغلاقها، وعلى حسب أقاليمها ولحظات الصراع المتعددة الـخ. .
وهنا بدأت تتشكل برجوازية مختلفة عن برجوازية العهد الإسلامي الأول المتحالفة مع الفقراء والتي تقود النهضة.

الفئات الوسطى الرحم الاجتماعي للمثقفين

لقد كان النمطان الأساسيان من التجارة والحرف في الإمبراطورية الإقطاعية التي اتخذت من الإسلام عباءة دينية، هما نمط التوريد للاستهلاك الترفي الذي تقوم به الطبقة المسيطرة، أو نمط الاستهلاك الإنتاجي والذي تقوم به الطبقات الشعبية الملبي للحاجيات اليومية ذات الأثمان المحدودة. والنمط الأول وهو الاستهلاك الترفي هو عملية إهدار واسعة ومدمرة للثروة الاجتماعية، وهو الذي ترتبط به الفئات الوسطى، خدمة للأشراف، ويؤدي الى إلحاقها وتوسعها أو انهيارها الـخ. .
ولهذا كان لدينا دائما نمط التجار الكبار القلة، ونمط التجار المتوسطين والصغار الكثيرين. ولا يتشكل النمط الأول إلا من خلال الاتصال بالدولة، التي يقول عنها ابن خلدون بأنها (السوق الأعظم). في حين يعتمد الآخرون على الاتجار بالمواد الشعبية.
ولا يشكل التجار الكبار صلة عضوية بالعلماء الطبيعيين والرياضيين والاجتماعيين، لأن نظام الحرف المغُلق يظل مجرد أداة للاستيراد، أو التصدير، مثل الأسواق التي تظل مكانا جغرافيا للسلع فقط. وليس ثمة صلة معرفية بين التجار والعلماء والحرفيين، ولهذا فإن أدوات الاتصال بين التجارة والحرف والتقنية تظل مقطوعة، فيظل التجار الكبار يتبعون خدمات الترف للقصور سواء كانت للملوك أم الوزراء أم كبار الموظفين أم رجال الدين، أي الأشراف عموما. وهذا ما يجعل التجار الكبار يتابعون كذلك المناخ الديني والثقافي للقصور، أي لا يساهمون في تشكيل أي نوع من الوعي المتحرر. فالسلع والحرف والمال هنا لا تقود إلى التراكم الصناعي والعلمي، فهي جزء من كماليات الترف .(6)*.
إن تبعية مصادر تمويل التجار الكبار للطبقة الإقطاعية يجعل الرأسمال التجاري والنقدي محافظا على الهياكل الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التقليدية، وهي الهياكل التي تخلفا عبر الهجمات البدوية المتكررة عبر القرون، بحيث تغدو المدن كيانات اجتماعية هشة فاقدة للقدرة على إنتاج التحديث.
إن التجار الكبار يتوافقون مع البنية الإقطاعية بمستوييها السياسي والديني، فمسألة احتكار السلطة والنص الديني والإبقاء على تخلف وعبودية النساء والرق الـخ . . تلُغى من أي خطاب لهم، عبر هذا الارتباط الاقتصادي المصيري، حيث كلمة واحدة كافية لاختفاء ثروة كاملة.
أما التجار المتوسطون والصغار والحرفيون المماثلون، فإنهم يعيشون أساسا على موارد الشعب، وهي السلع المعيشية المشتراة بشكل يومي، وهي التي تتيح للسوق البقاء، ولكنها تقوم على الفيض المالي من الطبقة المسيطرة، الذي يقوم أغلبه على منتجي القرى، ولهذا كلما ثار الفلاحون أو تقطعت أراضي الدولة، أو حدثت فيضانات، تدهورت فوائض الدولة وبالتالي تدهورت الحياة المعيشية للجمهور وللتجار الصغار، وحدثت أزمات الغلاء والمجاعات. وغالبا ما تتدهور المدن بعد اتساعها بسبب إن على الريف أن يقوم بإعالة هذه المدن المتضخمة باستمرار، فلا يتحمل ذلك وتبدأ الثورات. وحين تنجح الأرياف والمناطق في تفكيك الدول يتفاقم التدهور في المدن، ولهذا يمكن قراءة مصير تدهور مدينة مثل بغداد، والازدهار المعاكس لمدن الري أو القاهرة أو فاس. ويعتبر زمن النهضة هنا هو وقت تدفق الفوائض الريفية والتجارية والتوازن بينه وبين الاستهلاك البذخي. وتقود هذه الظروف التجار الصغار والحرفيين والفئات الوسطى عموما، الى التمسك بقشور الدين التي كرستها الطبقة المسيطرة بفرعيها، السياسي والديني، ويغدو الزهد ثم التصوف هي البدائل لنظام اقتصادي مضطرب وشحيح وزراعي.
كما حددت الطبقة المسيطرة الطابع الاقتصادي والسياسي والثقافي العام للنظام العربي الوسيط، فإنها ستحدد التوجهات العامة للفئات الوسطى منتجة الوعي والثقافة. فإذا كانت سلع الترفية: سلع البناء كالبلاط والزجاج والعطور والثياب الـخ، حصلت على المكانة الرئيسية بين السلع، وبالتالي تحددت فئات التجار على أساسها، وتحدد البناء السياسي ــ العسكري على أساس جلب الخراج والمكوس، فتمظهرت فئاته حسب ترتيب الصلب والمحافظة عليه وتنميته وهي: الولاة، والقواد، والجباة، وموظفو الدواوين . .
إذا كان ذلك قد حدد ترتيب الفئات الوسطى العليا، فإن الفئات الأدنى منها، في المجال الفكري والاجتماعي، والمتعيشة من هذا النمط التوزيعي، سترتبط بشكل غير وظيفي مباشر، لكون المهمات الدينية والفكرية يجري ترتيبها في أثناء نمو النظام بآلية السيطرة الفوقية.
وهكذا كان تشكل هذا المستوى يجري بتنحية العناصر المضمونية النضالية، وتقوية العناصر الشكلانية الغيبية، أو أشكال الممارسات العبادية، وتضخيم أبنيتها، وكلما نقص المضمون النضالي زاد الشكل الزخرفي والعمراني، وتبقى الجوانب المفيدة من المعاملات التي توسع العلاقات البضاعية وتكرس تقسيم العمل والإنتاج كما تفرضه الطبقة المسيطرة.
ولهذا فإن فئات رجال الدين تتشكل على أساس القرب والأهمية للقوة المسيطرة السياسية، أي القادرة على تسويق السياسة العامة للخلفاء، فيظهر كبار رجال الدين الذين يصيرون جزء من طبقة الأشراف، بحصولهم على الأراضي الزراعية والقطائع. في حين تبقى الغالبية منهم في المستويات المتوسطة والدنيا.
ولأن الدين هو المظلة الفكرية التي يستظل بها النظام، تغدو مؤسساته وإرثه وفئاته، الجزء الآخر من النظام، هو مستواه الفكري الغالب، لأن ثمة أشكالا فكرية تزاحمه كالآداب والعلوم والفلسفة لها مساراتها النوعية في النمو، ولكن قانون الهيمنة الاجتماعية ينطبق عليها كذلك، فيتم تنحية العناصر المعارضة والنقدية والتحليلية للحياة. وإذ تظهر جوانب موضوعية وعلمية ومضيئة في الإنتاج، فإنها تظهر كأشياء وظواهر جزئية، في منظمات غيبية، فتتم السيطرة على الجوانب الموضوعية والنقدية ولا تتحول الى منظومات فكرية تحليلية كاشفة للحياة، مثلما تتقطع فئات الطبقة الوسطى الى شرائح عاجزة عن تغيير المدينة الإقطاعية.
وتظهر جذور المفكرين والكتاب المنتمين الى الشرائح الوسطى بدء من أسمائهم كالغزال واصل بن عطاء، والنظام المفكر المعروف بهذا الاسم، والحلاج والإسكافي الـخ.
كذلك فإن نسبة الشرائح الأكبر، وهذا يعبر عن كون إنتاج الوعي الديني يمثل الإنتاج الأكبر.
ولهذا علاقة بالوعي ووظيفته فالدين التقليدي هنا يمثل اغترابا عن الطبيعة والإنتاج والمادة، مثلما يمثل النظام الإقطاعي الزراعي والحرفي البسيط، غيابا عن الصناعة، وتعاملا بسيطا مع السلع، مما يجعل هذا الوعي يحافظ على الركود الإنتاجي، وإعادة تكرار العلاقات الاجتماعية التقليدية، وباستمرار تدفقها الرعوي والقروي المتخلفين.
وفي الوعي الفكري تتنحى عمليات الكشف والتحليل الاجتماعيين، فإبن المقفع يقُتل حيث دفعته رغبته الإصلاحية وموالاته للأشراف الى مصرعه، والاعتزال يتحول الى اعتزال تابع للسلطة، أو زاهد منعزل، وتتوجه المذاهب الدينية الى المحافظة وتنحية الاجتهاد، والمعارضة، في حين تبدأ الإسماعيلية في النشاط والترويج لفكر الإمام المستور الموجود، وبالتالي عدم تحليل الواقع المرئي واللامرئي الـخ . .
إن الجوانب الليبرالية والديمقراطية في الوعي العربي القديم تغدو ضئيلة المبنى التقليدي المهيمن على الحياة، وأساسه في النظام السياسي، فتعجز الفئات الوسطى عن إنتاج تلك الجوانب لأنها تغدو جزء ملتحما بهذا النظام التقليدي بمستوييه السياسي والديني.

نماذج المثقفين

عندما تنامت أدوات الدولة العباسية العسكرية والأمنية والاقتصادية أجهضت الفكر المعارض، خاصة تحالف المعتزلة والزيدية، ثم ركزت على تصفية الاعتزال الثوري، فظهر الاعتزال التابع للدولة، أي الاعتزال الذي فقد مهماته الثورية التحويلية، فأصبح التوحيد مجردا، والعدل غيبيا، رغم إن مثقفي الاعتزال البارزين كالنظام والجاحظ وأبي هذيل العلاف، ساهموا في إنتاج ثقافة كانت مهمة لتطور التنوير والفلسفة، ولكن استمرار تبعية هذا القسم من من المعتزلة للدولة الاستبدادية أدى الى الانشقاق في صفوف المعتزلة ثم تبرير إجراءات الدولة القمعية والانفصال عن الحركة الاجتماعية المعارضة، فجاءت معركة خلق القرآن لتكون مثالا على انهيار وعيهم المعارض وانفصاله عن المجرى العميق للكفاح.
أما فلاسفة الإسلام كالكندي والفارابي وابن سينا وغيرهم، فقد جاءوا في زمن تفكك الإمبراطورية، وتبدل الإقطاع العام المركزي الى إقطاع لا مركزي، ونشوء الدول المستقلة، وهي لا تختلف في قوانينها الاقتصادية وبنيتها عن المرحلة السابقة، حيث الأشراف يهيمنون على الملكية العامة، والتجارة والفيض المالي تابعان لهم، والفلاحون والحرفيون مصدر إنتاج الفائض الاقتصادي، ولكن الأمر هنا هي أن هذا الفائض الذي كان مركزيا صار يوزع في أكثر من دولة، وينشئ أكثر من فئات وسطى مستفيدة.
ولهذا صار هناك أساسا أوسع للنهضة من العصر السابق، ولكن التناقض الرئيسي الذي كان يحفر في تصدّع النموذج المركزي هو ذاته الذي يعمل في النموذج اللامركزي، وهو هيمنة الأشراف المطلقة في المال الذي يأتي من المنتجين والتجار، فيبعثرونه في البذخ.
وإذا كان أساس المناضلين السابقين من قدرية ومعتزلة وفقه إصلاحي هو التوحيد المطلق، تعبيرا عن دولة مركزية أو عن إقطاع الوجود، مما كان يعني نظام الدولة الإسلامية بدل الإمبراطورية الموحدة، أي نظام الإقطاع اللامركزي. وهو التصوير المشرقي الأوسع، أما التصور المغربي الفلسفي عند ابن رشد فاعتمد رؤية أرسطو وهي أكثر قربا من القراءة الموضوعية للعالم في العصر القديم والوسيط.
وتم تجاوز أدوات الصورة في الفكر، الى المقولة، والى النظام النظري التجريدي المفاهيمي، وتم إعطاء الاستقلالية المشروعة لوعي الطبيعة والمجتمع والفكر عبر سببياتها الخاصة المستقلة، وبالتالي إيجاد منطقة واسعة لتشكل العلوم الرياضية والطبيعية والاجتماعية. وفي هذا المجال تم إنتاج ثروة معرفية هائلة. ولكن التناقض الأساسي بين المالكين المطلقين للثروة والمنتجين، كان يؤدي الى تدهور الدول والدويلات كذلك، ولم تستطع الفئات الوسطى ومثقفوها أن تتوجه الى تجاوز الأنظمة الإقطاعية المستبدة، وعجزت عن انتاج ثورة برجوازية ديمقراطية، نظرا لهيمنة أسلوب إنتاج إقطاعي، وتبعية التجارة والحرف الكبيرة للقصور، وتبعية فئات وسطى عديدة للاقطاعيين.
ولهذا نرى الفلسفة وهي تضع الأساس النظري لديمومة هذا العالم، فالعالم العلوي السرمدي الغيبي، وهدف العالم الأرضي الروحي هو الصعود الى ذلك العالم الغيبي المطلق، تنطبق عليه قوانين المادة أما الروح فخارجة عليها. وقد لعبت فلسفة أرسطو دورا معرقلا في بعض جوانبها للتطور الفكري، فـ(بمقتضى تلك النظرة توجه البحث إلى الوقوف على العلل الصورية التي تشكل المادة بصورها المختلفة، فكانت غايتها تقديم بناء ميتافيزيقي ضخم قوامه المبادئ الأولية والجواهر الثابتة والعلل البعيدة التي تتمثل في المحرك الأول للطبيعة)،(7)*.
وبدلا من الحنفية المترافقة مع إمبراطورية ذات تدفقات مالية وفيرة وفئات وسطى واسعة، حل الانكماش الاقتصادي وجرت الثورات كالثورة البابكية والقبطية وغيرهما التي وضعت حدا لجسد الإمبراطورية المترهل، ولهذا جاءت الحنبلية في عمق العاصمة بغداد وابعدت المعتزلة، وكل هذا تعبير عن صراع مركب، فقد هُزمت الفئات الوسطى التحديثية، لعدم ربطها العدل والتوحيد بتقليص بذخ الارستقراطية، كما أن تدفق الأقوام الرعوية من أتراك وعرب وأكراد الـخ . . على العاصمة، قد قوى المذهب النصوصي الشديد الضيق.
هذه عينات مركزة فقط لرؤية كيفية التطور المعقد للثقافة والمثقفين، ولكن إذا جئنا للحركات والمذاهب المعارضة، فسنجد بأنها تقيم إقطاعا مذهبيا مضادا، بدلا من أن تزيل الإقطاع عامة.
إذا كنا قد قرأنا أسباب ضعف الفئات الوسطى العربية في العصر الكلاسيكي، فإننا هنا لا بد أن نذكر الخصائص الموضوعية التي اتسمت بها، وأهمها ذيليتها وتبعيتها للأنظمة الإقطاعية. ولم تحدث في أثناء هذه التبعية أي مواقف جذرية شاملة نحو وعي ديمقراطي ليبرالي بطبيعة الحال. وتشكلت مواقف مضادة للإقطاع المذهبي الحاكم باتجاه إقطاع مذهبي آخر.
وفي خلال القرنين التاسع عشر والعشرين الميلاديين، أتيح للفئات الوسطى نمو كبير في التجارة والعمليات الاقتصادية الأخرى المختلفة بسبب نشوء نظام عالمي جديد هو النظام الرأسمالي الغربي، الذي أخذ من العقود الأولى من هذا القرن بالتوسع الاستعماري متنقلا من مرحلة تصدير البضائع الى مرحلة تصدير رأس المال.
وإذا كانت هذه المرحلة قد ركزت غربيا على جلب المواد الخام المهمة، فإنها قد وضعت سقفا لنمو الرأسمالية في العالم العربي، كذلك فإن الاحتلالات العسكرية الغربية لم تقوض الأنظمة الإقطاعية ــ المذهبية، بل جعلتها أساسا للنظام التابع الذي أنشأته في كل بلد عربي، ولهذا فإن (الإصلاحات) الرأسمالية التي قامت بها كانت تسهيلا لتدفق التجارة بين البلد التابع والمتروبول.
أي أن الدولة الإقطاعية كهيمنة على جانب رئيسي من الثروة لم يتم إزالتها، ولم يفعل الاستعمار سوى أن يجعل الدولة الإقطاعية/المذهبية المحلية كشريك في عمليات الاستغلال المشتركة للمنتجين. أما الجوانب الأكثر تخلفا كملكية العبيد والحجر الكلي على المرأة فلم يكن بالإمكان استمرارها في المناطق المدنية، وهي المراكز الاقتصادية الكبيرة التي هي بحاجة الى استقرار لهذا النظام الملفق، فهو إقطاعي ــ مذهبي، تسود فيه الشريعة التي تم إنتاجها في قرون هيمنة الإقطاع المطلقة، ولا هي القوانين والنظم الليبرالية الغربية المستوردة.
في مستوى هيمنة الإقطاع، بقيت الأسر الحاكمة التي تملك الخزينة الملكية شرعا، ولكن الإصلاح الاستعماري جعل هيمنتها غير مطلقة، وهنا لأول مرة تطبق مسألة الميزانية العامة، ويتم الفصل قليلا بين جيوب الحاكم وخزانة البلد، لكن هيمنة الأسر الإقطاعية الحاكمة تم في جوانب عديدة من الاقتصاد، ببقاء الأملاك الكبيرة والتحكم في جانب كبير من موارد الخزينة، والموارد التي ستأتي لاحقا، كالبترول.
لقد رفض الاستعمار الغربي نقل الثورة البرجوازية الى العالم العربي، عبر جعل الدولة جسما غير اقتصادي، فقد استمر في جعل الدولة الماكينة الاقتصادية الأساسية، فهي ضمنا تمثل المالك الأكبر، ولا يجب أن يغيب عنا بعض الجوانب الرأسمالية التحديثية التي هي جوانب جزئية لا تلغي كون الدولة هي المالك الأكبر.
إن الملكية العامة التي كانت للأرض يتم التخلي عنها، فتصح الأملاك الزراعية الكبيرة من ملكية طبقة الأعيان أو الشيوخ، حسب التسميات في كل منطقة، وبهذا يحدث لأول مرة التاريخ هذا الانفكاك الواسع بين ملكية الدولة والأرض الزراعية، مما يسمح بنمو للملكيات الخاصة الزراعية بشكل واسع في العصر الحديث. ولكن هذا لا يعني سقوط الإقطاع الزراعي، فهو يصبح الآن مباشرا، بدلا من الشكل العام واللامباشر الذي اتخذه في الغالب الأعم من التاريخ القديم.
ولهذا فإن الأسر الحاكمة عبر تزعزع بعض جوانب سلطتها في النظام السياسي، تقوم بالتعويض عنها من خلال ملكيات الريف والدخول في الحياة الاقتصادية، وبشكل يساعد فيه الموقع السياسي المتنفذ.
هنا نجد ذلك التآلف بين الإمبريالية والإقطاع، وهو الأمر الذي سيضع أساسا للتعاون السياسي والأيديولوجي بين الجانبين في فترات كثيرة من هذين القرنين، 19 ، 20 .

إعادة إنتاج راهنة للإقطاع المذهبي

إن العمليات التحديثية التي يقوم فيها الاستعمار وشريكاه في السلطة، الإقطاع السياسي، والإقطاع الديني، عبر إدخال التعليم النظامي وخروج المرأة المحدود الى الحياة العامة، والعمليات التحسينية الأخرى، فهي تبقى من أجل وظائفيتها الاجتماعية والسياسية، فظهور الجيوش الوطنية المحدودة، والمهيمن عليها من أبناء الأسر الأشراف أو الفئات الوسطى والعليا فيما بعد، لا يمكن أن يحدث دون تعليم وإنشاء أجهزة، وكذلك مجيء المصانع والأدوات التي تنقل المواد الخام، أو تصنعها بعض التصنيع المحدود، والموانئ التي تنقلها الـخ . .
إنها سلسلة وظائفية لحماية المواد الخام، ووصولها الى البلد المسيطر، ولهذا فإن الاقطاعين السياسي والديني يلعبان دورا في ركود البنية السياسية الاجتماعية، واستمرار إعادة إنتاج المواد الخام، والسوق الوطنية كسوق تابعة.
إن التعليم والإدارات السياسية والدينية والسوق الـخ. . هي أنظمة حماية لتدفق السلعة المصدّرة للمتربول كسلعة رخيصة، ولمجيء السلع المُصنعة، وبدون هذا التشكيل المتضاد بين القديم والعصري، بين البلد التابع والبلد المسيطر، لا تنشأ علاقة مستمرة.
إن هذا التآلف بين الاستعمار والإقطاع قد اتخذ جوانب عدة، فالاستعمار الذي هو قمة تطور البرجوازية الأوربية والأمريكية، يقاوم تشكل مثيلته في البلدان التابعة، أي يقاوم نشوء برجوازية صناعية يمكن أن تستولي هي على السوق. وإذا قبل بنشوئها فعلى ضفاف النظام التابع الذي رتب أدواره الأساسية. ولهذا فإن الفئات المتوسطة تغدو ملحقة بإدارة الدولة وبالقطاع العام، أو تغدو ملُحقة بالرأسمال الأجنبي، فهي موزعة بين الإقطاع المحلي، وبين الاستيراد، وفي كلا الجانبين لا تغدو طبقة برجوازية حرة، ولهذا لم تقم بتشكيل وعي نهضوي تحرري شامل. أي بالجمع بين تجاوز الإقطاع والاستعمار معا نتيجة لكونها ليست برجوازية صناعية بدرجة أولى وواسعة.

نماذج حديثة من المثقفين

إن المفكرين الدينيين في القرن التاسع عشر كالأفغاني ومحمد عبده والكواكبي كانوا يختلفون عمن جاء بعدهم من التيارات الدينية، بسبب نضالهم السياسي الفردي، فهم شخصيات مستقلة عن الهياكل المذهبية، ولهذا وجدوا في الحداثة الأوربية معينا لهم في التصدي للتخلف الشرقي، فهم يمثلون مرحلة العالم الإسلامي وهو بعد لم يصر تابعا للاستعمار، وهو يحاول القيام بنهضة وحرية، دون أن يتنبهوا للدلالات الاقتصادية والسياسية للتحديث الرأسمالي الأوربي.
وقد تركز عملهم على التنوير واستعادة الموروث الإسلامي من وجهة نظر نهضوية وعلى توحيد المسلمين، لكن نضالهم لم يتحول الى تيار واسع.
لم يتحول رأي جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده والكواكبي الى تيار ديمقراطي ديني واسع وجماهيري للإسلام اللامذهبي، ولمحاولتهم توحيد الأمم قفزا فوق الطائفية.
لقد كان هؤلاء المصلحون يقفون خارج الشبكات المذهبية، والعديد من السلطات الاستبدادية السياسية والدينية، وأحيانا بشكل مجرد، ولهذا كان الهجوم على هذه القوى سببا في ذيوعهم وفشلهم في آن، يقول الكواكبي: (جعلوا زكاة الأمة ووصاياها رزقا لهم)، (وجعلوا مداخيل أوقاف الملوك والأمراء عطايا لاتباعهم)،(8)*. ويتضح محاولة تجاوز الطائفية في دعوته الإسلامية الديمقراطية الهامة، كما يقول احد الباحثين حيث: (أدرك الكواكبي بأن فئة العلماء المنورين كانت في حاجة إلى أداة . . لا تكون تابعة أو مرتبطة بحكومة مخصوصة . . ولا تنسب الى مذهب أو شيعة مخصوصة من مذاهب وشيع الإسلام مطلقا)،(9)*.
إن هذه الفكرة هي مضادة لشبكات الإقطاع الديني، وكذلك مضادة للدول وللاستعمار كما سيتضح لاحقا. وقد جاءت في تلك الفترة التي لم يهجم فيها الاستعمار ويبلع الدول الإسلامية، وحيث لا تزال القوى السياسية والدينية المتخلفة متحكمة في المصير العام.
لكن دور المنورين الدينيين الأفراد أصحاب الصوت المدوي كان لا بد أن يتوقف بسبب التدخل الاستعماري الذي قام بتقطيع أجزاء الوطن العربي، وتمسك بالشبكات الطائفية المختلفة وضخ الحياة في خلاياها، واعتبرها الركيزة الإيديولوجية لنظامه.
إن بعث الإقطاع لم ينقطع عن التحديث المحدود الموظف في نهب خيرات الوطن العربي، وهكذا عمل الاستعمار على تقسيم أي شعب عربي، والحفاظ على بنيته الموروثة، ومن هنا هزمت أفكار المنورين الدينيين المستندة الى الإسلام العام وليس الى المذاهب، لكون التوحيد السياسي والديني هُزم لمصلحة التبعية والتقسيم، ولهذا غدت الطائفية هي رديفة العالم العربي التابع والخاضع للغرب.
وبسبب إنهم أفراد يعبرون عن شرائح وسطى وعن مثقفين مستقلين، في زمن لم تتحول المجتمعات العربية بعد الى هياكل ملحقة بالحكومات والشركات الغربية، فإنهم طرحوا خطابا دينيا متنورا، يحتفي بالعلوم والديمقراطية والعلمانية والتحديث وحرية النساء، ولكن حين أطبقت حراب الإنكليز والفرنسيين على العرب، فإن هذا الخطاب لم يتطور، فلم يجد دعاة وجمد التعليم الديني، وسنرى هنا الإمام محمد عبده وهو يتراجع عن الثورة نحو تبني فكرة القبول بالإصلاح التدريجي في ظل التبعية.
إن رؤية الكواكبي على سبيل المثال تركز النقد على الظاهرات الجزئية فهو لم يعي بأن (العلماء المدلسين) و(الجهلة المتعممين) هم جزء من بنية اجتماعية وسياسية واقتصادية، وهم ليسوا جماعات منقطعة عن نظام وعن تشكيلة اقتصادية ــ اجتماعية تنتمي للعصور الوسطى، وإن أداة تجديد الإسلام تتطلب الانتقال الى تشكيلة أخرى، بما تتضمنه من تحرر قومي ومساواة اجتماعية وتحديث شامل، أي مواصلة الثورة المحمدية في أساسياتها وفي ظروف العصر الجديدة أي: تكوين تحالف طبقي بين الفئات الوسطى والعاملين لإنتاج ثورة ديمقراطية وصناعية وعلمانية تتجاوز الطائفيات وتوحد المسلمين في ثقافة نهضوية مشتركة.
ولكن حتى الهياكل الطائفية والسياسية لم تستطع حماية الاستعمار الغربي وأنظمته، فتلك البذور التي نشرها ذلك الرعيل الديني النهضوي حركت الفئات الوسطى الحديثة والجمهور في تشكيلات وطنية حققت الحرية الوطنية، دون أن تستطيع تجاوز هياكل القرون الوسطى.
يقول الأستاذ محمد جابر الأنصاري حول الرحلة التي أسسها محمد عبده: (مثلت توفيقية محمد عبده، انطلاقا من جهود رفاعة الطهطاوي (1801 ـ 1873) فكر النهضة الجديدة الأولى منذ عهد محمد علي (1805 ـ 1840) وبلغت أوجها في عصر إسماعيل (الذي أفل عام 1879). ففي تلك الفترة نشأت أول طبقة متوسطة مصرية عانت عمق الصدام بين الإسلام والحضارة الحديثة، وشعرت بضرورة التوفيق لحماية المجتمع الإسلامي من الانفصام الذي بدأ يتسرب إليه)، (10)*.
ويبدأ عبر الأنظمة التابعة تقوية الشبكات الطائفية والدينية المفرقة للمسلمين، وهذه الشبكات الضخمة الواسعة هي التي ستقوم بعدئذ بضخ المتدينين وإعادة إنتاج الوعي المذهبي العتيق، لعرقلة تطور النسيج الوطني في كل قطر عربي على حدة، وعرقلة خطوط الاتصال والتضامن بين الأمم الإسلامية.
وستكون المفردات مضادة لزمن الأفغاني، فبدلا من الحداثة والحرية السياسية والاجتماعية والوحدة الإسلامية والإنسانية، ستتكرس مسائل الفقه والحلال والحرام والعبادات، مفصولة عن سياق تطور العرب وقضايا الصراع الاجتماعي والسياسي، مما يعني توسع نفوذ القوى المحافظة والاستغلالية وحماية الأنظمة التابعة للاستعمار.
ومن هنا لن يكون النتاج العقلي لهذه الشرائح منفصلا عن التبعية المزدوجة للإقطاع والاستعمار. ولهذا سيتشكل البعث (الإسلامي) كبعث للأبنية الإقطاعية لعصر الأمويين والعباسيين، أي سيكون بعثا طائفيا، وسيعجز هؤلاء عن استلهام الثورة المحمدية، كتوليفة توحيدية ثورية للمسلمين، أي سيعجزون عن رؤية سمات الحداثة والتحالف الاجتماعي النهضوي العربي المبكر.
أي أن الوعي الطائفي وهو يُبعث، سيظهرُ الأشكال المحنطة للدين التي تمكنت القوى الإقطاعية في العصرين الأموي والعباسي، من ترويضها و إفراغها من بعدها الثوري التوحيدي لجماعة المسلمين.
لكن في القسم الآخر من الوعي اللاطائفي، أي في القسم الإسلامي التوحيدي، والذي اندلعت شراراته على يد الأفغاني والكواكبي، والذي راح يلتحم بالفئات المتوسطة والمثقفين الأحرار، سيواصل شعاراته التحديثية مرتكزا على الإرث الديني: الإسلامي ــ المسيحي كتعبير عن الوحدة الوطنية وضرورتها.

نموذجان للمثقف العربي الثوري المعاصر

لقد انقسم المثقفون الثوريون العرب أثناء الاستعمار وفي الكفاح ضده وبعد رحيله الى نموذجين أساسيين: نموذج الليبرالي النهضوي، ونموذج اليساري بتنويعاته المختلفة. لقد قاد النموذج الليبرالي النهضوي حركة الوعي العربي في النصف الأول من القرن العشرين، فيما قاده الوعي الآخر في النصف التالي. ثم وصل كلاهما الى الهزيمة أو على الأقل إلى الانحسار، فلماذا؟
لقد استطاع المثقفون النهضويون الليبراليون تدشين أشكال الوعي الحديثة، في بحث التراث وتشكيل الأنواع الأدبية والفنية، وطرح الحداثة في البناء السياسي الديمقراطي. وكان النموذج الغربي الليبرالي هو القدوة. في التوجه الليبرالي كان النموذج الغربي هو الموديل المستورد، ولم يحاول هذا التوجه غرس هذا النموذج من خلال التطور العربي الإسلامي المسيحي، أي لم يبحثوا الهياكل الإقطاعية الدينية المتوارثة في المنطقة، ويحللوها ويطرحوا البديل الديمقراطي من داخلها ولتجاوزها.
ولدينا كمثال على ذلك التيار الليبرالي النهضوي عند لطفي السيد ومحمد حسين هيكل وسلامة موسى ولويس عوض ونجيب محفوظ. وتتركز خصائص هذا التيار على رؤية النموذج النهضوي الغربي ونقله إلى مصر، ولدى الأخيرين خاصة، أي لدى التيار الليبرالي الذي واصل المعركة ضد الإقطاع الديني ومنه: سلامة موسى ولويس عوض ونجيب محفوظ، وتم طرح النموذج الحضاري المصري القديم، ودون تحليل النموذج العربي الإسلامي المهيمن المتواصل، أي ليس ثمة قراءة لسيطرة العلاقات الإقطاعية المذهبية والدينية، حيث رأوها بأنها هي كل الإسلام، وإنه ليس ثمة بديلا ممكنا، حضاريا وديمقراطيا من داخلها.
في حين نجد طه حسين يقوم بالجمع بين النموذج الحضاري الغربي وتحليل التاريخ العربي الإسلامي ونقده والبحث عن نماذج شخصية متنورة من داخله.
لكن الوعي الليبرالي النهضوي لم يتوصل الى رؤية هيمنة العلاقات الإقطاعية الدينية بعد الثورة المحمدية التأسيسية، وأسباب ضعف الفئات الوسطى، وعجزها عن تشكيل ثورة ديمقراطية برجوازية، وبالتالي لم يقوموا بنقدها وتجاوزها والاستفادة من الميراث الغربي الديمقراطي في ذلك.
إن هذا كان يعتمد على دقة تشخيص الإسلام وتطوراته ورؤية الهياكل الاقتصادية ــ الاجتماعية التي كان ينمو عليها، وبالتالي الدخول الى صميم القضايا الفقهية والاقتصادية والروحية التي هيمن عبرها الإقطاع المذهبي على الجمهور العربي الإسلامي.
أما النموذج اليساري الذي طرح تحديدا تجاوز النموذج الرأسمالي الليبرالي، فيتفق على تشكيل دكتاتورية تتجاوز التخلف العربي، وتشكل القفزة الى التحديث، بدءا من الاتجاهات القومية والبعثية إلى التيار الماركسي.
وقد ساهم في تقوية هذه الاتجاهات تخبط الاتجاهات الليبرالية وعدم قيامها بإنتاج ثورة ديمقراطية تزيل الملكيات الإقطاعية في الأرض وتفصل الدولة عن الدين وتشكل المساواة بين الأجناس الـخ . .
كذلك ساهم في صعود الاتجاهات الشمولية ظهور المعسكر الاشتراكي، وكان تعبيرا عن رأسماليات دولة تقوم بتجاوز الإقطاع بأساليب تعجيلية وعبر الملكية العامة الواسعة.
ولكن رأسماليات الدولة العربية لم تصل إلى هذا المستوى أي لم تقم بتصفية الإقطاع في مختلف مستوياته الاجتماعية، فتعثرت التجربة حتى للانتقال الى الرأسمالية. ولكن المعسكر (الاشتراكي) نجح في الانتقال الى الرأسمالية، لكن غياب الديمقراطية أدى إلى ظهور رأسماليات تابعة للغرب وأزمات عنيفة.
أما رأسماليات الدولة الوطنية الشمولية في الوطن العربي فإنها عجزت عن خلق رأسمالية، وبقيت في المرحلة الإقطاعية حتى الآن. وهي إقطاعية/ مذهبية، لكون المذهب الديني هو شكل التجلي الفكري لهيمنة الدولة.
وقد واصل العديد من المثقفين العرب رفض المرحلة الرأسمالية، طارحين القفز على المسار الموضوعي للتطور، ورفض مسألة النمو الطبيعي للتشكيلات الاقتصادية ــ الاجتماعية. وإذا كان هذا استجابة للمنهج السائد في المعسكر (الاشتراكي) تعبيرا عن رأسمالية دولة لا ديمقراطية، فإن تيارات قومية وبعثية غيبت هذه المسائل من أجل تشكيل دكتاتوريات وطنية.
ولهذا فإن العديد من المفكرين والمثقفين المنتمين لهذه التيارات المختلفة المتوافقة على رفض الرأسمالية، أي على رفض النهضة بالوسائل الديمقراطية، وجدوا أنفسهم يطرحون القفز على الرأسمالية من مواقع شتى، وكان هذا في النهاية انتصارا للعلاقات الإقطاعية ــ المذهبية، التي تدعمت عبر الدعم الغربي، ثم عبر صعود محور الخليج/إيران الذي تركزت فيه وبينه الثروة النفطية، التي تقاسمها الغرب والإقطاع، والتي جددت الحركات المذهبية الإقطاعية القديمة في التاريخ العربي الإسلامي.
ان رفض هادي العلوي وحسين مروة ومهدي عامل وغيرهم المرحلة الرأسمالية من التطور، يقود مثلما كان الأمر لدى لويس عوض وسلامة موسى، الى عدم تحليل التاريخ العربي الإسلامي بصورة دقيقة، أي رؤيته كانتصار للعلاقات الإقطاعية المستمرة حتى الآن، وبالتالي يغدو لديهم ضرورة الانتقال الى الاشتراكية، التي تعني في الحقيقة رأسمالية دولة تسريعية للنهضة.
ويمكننا أن نكون مرنين في هذا الجانب عبر طرح نموذج رأسمالية الدولة الوطنية الديمقراطية، أي عبر نظام يقوده القطاع العام المراقب من قبل برلمان، وبالتالي تبقى مسألة التجديدات الاجتماعية خاضعة للحوار الديمقراطي الطويل، سواء على الصعيد الوطني، أم على الصعيد القومي. ولكن رأسمالية الدولة الوطنية الديمقراطية لا تعني الاشتراكية.
لا شك أن المفكر اللبناني الراحل مهدي عامل من المساهمين البارزين في تحليل الواقع العربي المعاصر من منطلقات نقدية عميقة وخاصة من رافد الماركسية البنيوية، التي قام بتطبيقها على الواقع العربي بصورة حرفية، دون رؤية الاختلافات بين مستوى التطور الغربي، وتطور البُنى الاجتماعية العربية.
ونحاول في هذه الموضوعات قراءة آرائه وتحليلاته لندوة جرت في الكويت في السبعينيات من القرن الماضي، اتخذت لها عنوانا هو (أزمة التطور الحضاري في الوطن العربي)، وقد ناقشها في كتابه (أزمة الحضارة العربية أم أزمات البرجوازيات العربية؟)،(12)*.
يفترض مهدي عامل مسبقا، ودون دراسات، بأن المجتمعات العربية هي مجتمعات رأسمالية. فهو يصر على أن (نمط الإنتاج الرأسمالي المسيطر في البنيات الاجتماعية العربية)،(13)*.
إن هذا يبدو لوعيه شيئا بديهيا، صحيح إنه يقول أن ثمة علاقات ما قبل رأسمالية في الإنتاج غير أنها ليست سوى بقايا.
فيقول بوضوح: (إن فهم تطور بنية علاقات الإنتاج الرأسمالية مثلا في البلدان العربية في الوقت الحاضر، وفهم أزمات هذا التطور يستلزم بالضرورة الانطلاق بالتحليل من هذه البنية بالذات في شكل وجودها القائم في كل من البلدان العربية.)،(14)*.
وليس ثمة من الضرورة بحث جذور هذه البُنى (مع ظهور الإسلام مثلا، أو مع الجاهلية، أو مع بدء العصر العباسي أو الأموي أو الأندلسي أو عصر الانحطاط الـخ . . ، بل هو يبدأ مع بدء التغلغل الإمبريالي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.)،(15)*.
وهو يعترف بأن ثمة (أشكالا من الإنتاج سابقة على الإنتاج الرأسمالي لا تزال حاضرة في البنيات الاجتماعية العربية)، غير أنها ليست سائدة فيه، بل الإنتاج الرأسمالي هو السائد.
ونحن نحاول أن نفهم كيف استطاع الاستعمار أن يجعل من هذه العلاقات سائدة؟ أي كيف استطاع أن يجعل العلاقات ما قبل الرأسمالية لا تسود بل أن تسود العلاقات الرأسمالية؟
لا يقوم مهدي عامل ببحث هذه المسألة تاريخيا، بأن يعطينا أمثلة عن بلد عربي ومنذ القرن التاسع عشر تحول الى الرأسمالية؟ فلا نجد.
ولا أن يقوم بتحديد متى استطاعت البرجوازيات العربية أن تستولي على الحكم وتنشر النظام الرأسمالي الشامل؟ ومن جهة أخرى فهو يؤكد بأن (كثيرا من علاقات الإنتاج الاجتماعية، سواء في الحقل الاقتصادي أم السياسي أم الإيديولوجي، التي تنتمي الى أنماط من الإنتاج بالية، أي بالتحديد، سابقة على الرأسمالية، لا تزال قائمة في البنيات الاجتماعية المعاصرة)،(16)*.
ينطلق مهدي عامل لتحديد هيمنة الرأسمالية على العالم العربي منذ القرن التاسع عشر بشكل مضاد للقراءة الموضوعية، وهو يفترض رأسمالية سحرية تتشكل منذ أن تطأ بوارج بريطانيا وفرنسا الشواطئ العربية، في حين إن الرأسمالية تتعلق بمدى تشكل الرأسمال الخاص في القطاعات الاقتصادية المختلفة، ومدى انتشار العمل المأجور على بقية أنواع العمل في النظام الاجتماعي.
وتتحدد سيطرة البنية الرأسمالية بوصول منتجي البضائع الى سدة الحكم، وإزاحة ملاك الأرض وإقطاعيي السلطة السياسية، وسيادة العمل بالأجرة، وهي كلها أمور لم تتحقق في نهاية القرن التاسع عشر ولا في نهاية القرن العشرين العربيين!
ولكن مهدي عامل يُصادر ببساطة، قبل أن يبحث، فهو منذ البدء يقول: (أزمة البرجوازيات العربية . . ) فأفترض أن هذه البرجوازيات قد حكمت وتعفنت في الحكم وهي مأزومة الآن؟! في حين إن البناء الاقتصادي والسياسي لم تتحقق فيه شروط انتصار الرأسمالية!
ولكن ذلك لا يتعلق فقط بالبحث الفكري بل والأخطر بالمهمات السياسية المباشرة، فيقول بأن:
(المهمة الأساسية لحركة تاريخنا المعاصر بهذا الشكل، لاتضح لنا أن تحققها يمر بالضرورة عبر عملية معقدة من الصراع الطبقي ضد البرجوازيات العربية المسيطرة . .)،(17)*.
ولكن كيف يمكن إسقاط أسلوب إنتاج لم يسُد وطبقات لا تحكم؟
علينا أن نناقش مسالة أسلوب الإنتاج الكولونيالي التي طرحها مهدي عامل، كي نقوم بتفكيك تفكير هذا المفكر، وهي التي اعتبرها حجر الزاوية في نظريته حول تطور العالم العربي.
كما رأينا سابقا، (راجع الفقرة حول التاريخ العربي) إن مهدي عامل يرفض تحليل البنية الاجتماعية العربية الحالية من خلال جذورها، وهو ينتقد المفكرين العرب المجتمعين في الكويت لمناقشة (أزمة تطور الحضارة العربية) بسبب قيامهم بالعودة الى جذور التاريخ العربي، طالبا الوقوف عند العصر الراهن والنظر الى الماضي من خلال البنية الاجتماعية الراهنة.
إن مهدي عامل ينظر للبنُى الاجتماعية العربية الراهنة وكأنها صياغة أوربية غربية، فقد قام الاستعمار الغربي برسملتها، أي بتحويلها إلى رأسمالية ناجزة، وهذه الرأسمالية الناجزة يُطلق عليها اسم «أسلوب الإنتاج الكولونيالي»، وبهذا قام مهدي عامل بخطئين كبيرين مزدوجين، فهو قد قطع السيرورة التاريخية للبنُى العربية الاجتماعية، أي قام بإزالة طابعها الطبقي التاريخي، وهي عملية يقوم فيها بالتمرد على القوانين الموضوعية لرؤية المادية التاريخية عن التشكيلات الخمس: المشاعية، والعبودية، والإقطاع، والرأسمالية، والاشتراكية.
فهو عبر هذه المقولة قد ألغى كون البنُى الاجتماعية العربية بنُى إقطاعية، فحين لا نبحث ألف سنة من التطور الاقتصادي والاجتماعي السابق، ونعتقد أن أسلوبا جديدا للإنتاج قد تشكل، وأسمه الأسلوب الكولونيالي، في خلال بضع سنين، وأن علينا أن ننظر للتاريخ من خلال هذا الأسلوب غير المحدد والغامض، فتتشكل لدينا هنا رؤية سياسية دكتاتورية تحاول أن تفرض نفسها على جسد التاريخ الموضوعي، بمعطيات غير مدروسة.
إن رفض تحليل الماضي، أي بحث التاريخ الإقطاعي للعرب، يتضافر لدى مهدي عامل، ورفض تحليل الحاضر، أي قراءة عمليات التداخل بين الإقطاع والرأسمالية، كأسلوبين للإنتاج موضوعيين في التاريخ العربي الراهن، ويطلب بمناقشة أسلوب إنتاج من اصطلاحاته هو أسلوب الإنتاج الكولونيالي.
ومع هذا فعلينا أن نناقش تسمية أسلوب الإنتاج المقترح، فمهدي عامل لا ينُكر وجود بقايا نظام تقليدي في هذا الأسلوب الذي انتصرت فيه العلاقات الرأسمالية، ودون أن يطرح أية ارقام أو معطيات على انتصار العلاقات الرأسمالية الموهومة، لكنه يعتبر إن العلاقات الرأسمالية المنتصرة في العالم العربي تشكل علاقة تبعية مع العالم الغربي حيث العلاقات الرأسمالية الأقوى، وهذه الأخيرة الغربية هي التي تقوم داخلها بتقويض أساليب الإنتاج الأخرى، في حين تعجز الرأسمالية العربية في علاقتها التابعة من تقويض أساليب الإنتاج السابقة داخلها، وبهذا فإن أسلوب الإنتاج الكولونيالي الذي سادت فيه البرجوازيات العربية يحتاج إلى ثورات عمالية لتقويضه والانتقال إلى الاشتراكية.
تتشكل هذه العموميات الفكرية من منهج مجرد يفرض قوالبه على الواقع الحي غير المدروس، فتلغي مسألة التشكيلة الإقطاعية بجرة قلم، ويتم تحويلها الى تشكيلة أخرى متطورة بقفزة خيالية أخرى هي التشكيلة الرأسمالية الكولونيالية، ثم تحدث القفزة الأكبر الى الاشتراكية . . ولا يزال الباحث لم يحلل الإقطاع العربي وسيرورته السابقة والراهنة.
والغريب إنه في كتابه هذا (أزمة الحضارة العربية . . ) يناقش جملة من المفكرين العرب الذين يقدمون له مادة تحليلية ممتازة، ولو أنه أبعد فرضياته الإيديولوجية المسبقة، أو استفاد بعمق من الماركسية البنيوية التي نقل تطبيقاتها لفهم البنية الاجتماعية، لأمكنه أن يدخل إلى دائرة التاريخ العربي وتشكيلته التي تضطرب أسماؤها لديه. ولكنه حدد منذ البدء هؤلاء الباحثين كمنظرين للبرجوازيات العربية المستولية على الحكم والتي وصلت الى الأزمة وبالتالي يجب نقد وعي هذه الطبقات المسيطرة عبر وعي الطبقات الثورية الـخ . .
حين يناقش مهدي عامل الباحث العربي الكبير شاكر مصطفى يتجاهل مهدي المادة الفكرية الثمينة التي يقدمها شاكر لتوصيف تطور المجتمعات العربية بقوله: (إن الاستمرار الاجتماعي الذي تعيشه الشعوب العربية إنما تحكمه عناصر عديدة في مجموعها التركيب العربي القائم . . وأن لامتدادات التاريخ في هذه العناصر المكان الواسع إن لم يكن الأول . . ) وهذه (العناصر الأساسية الباقية عند أربعة جوانب: أ ـ طرق الإنتاج المادي ب ـ تكوين نظام السلطة ج ـ طبيعة العلاقات الاجتماعية د ـ قيم الفكر التراثية . .)،(18)*.
هكذا نرى لدى شاكر مصطفى نظرة تاريخية موضوعية واقترابا دقيقا من فهم أسلوب الإنتاج الإقطاعي العربي الإسلامي المستمر عبر ألف سنة، الذي يتأسس في نظام السطلة والإنتاج معا، ثم يتمظهر في العلاقات الاجتماعية: الأبوية، هيمنة الذكور، اللامساوة الجنسية، الطائفية الـخ . . ثم يصل النظام الإقطاع إلى المستوى الثقافي: الأمية، الخرافة الـخ . .
إن شاكر مصطفى يمثل مقاربة علمية (ماركسية) من فهم التاريخ، ولكن ماذا يفعل مهدي عامل بمثل هذه المقاربة؟ بدلا من أن يقوم بفهمها ودرس التاريخ العربي يقوم بالمصادرة السريعة، فيقول: (أما أن يكون هذا التاريخ الذي تكونت فيه البنية الاجتماعية للواقع العربي الحاضر، تاريخا يرجع الى ما قبل عشرة قرون خلت، أي الى العصر العباسي أو أواخر العصر الأموي، فهذا ما نختلف فيه جذريا مع الدكتور مصطفى)، ص 45.
فهو يحتار كيف أن هذه البنية المزدهرة يوما ما تصبح هي نفسها سبب التخلف؟ فيقول بلغته المعقدة الغامضة: (فالبنية هذه ليست في حاضرها، من حيث هي بنية، أي كل معقد متماسك، سوى البذرة التي كانتها في الماضي، تنامت، فتنافت وتواصلت في حركة من تماثل الذات بالذات، وما الذات هذه إلا الذات العربية نفسها.)،(19)*.
إن مهدي عامل الذي ينتقد شاكر مصطفى على أنه صار يفكر بمنهج هيجل الجدلي المثالي، يعجز عن اكتشاف رؤية الوعي الموضوعي لدى شاكر مصطفى في فهمه للتاريخ العربي، ويصبح هو هيجليا مثاليا.
فالبنية العربية الإقطاعية زمن الإمبراطورية العباسية كانت نظاما مركزيا، والإقطاع المتحكم في الخراج الهائل يصرفه على البناء الترفي والثقافة المقربة المفيدة للنظام، ثم يتحلل هذا الإقطاع المركزي بسبب ثورات الشعوب، ليجيء نظام الإقطاع اللامركزي، وتظهر الدول والدويلات الإقطاعية، وتكرر بشكل أوسع إنجازات ومشكلات النظام السابق، ثم يهترئ هذا النظام الإقطاعي الديني العام بتشكيلاته المتعددة، ليغدو أنظمة و إمارات إقطاعية صغيرة مذهبية الـخ . .
إن هذه السيرورة التاريخية تحافظ على قسمات عامة أشار لبعضها شاكر مصطفى في المقطع السابق ذكره، حيث يغدو الحكام هم المستولون على القسم الأكبر من الثروة العامة، وتتواشج السلطة والثروة، ويشركون رجال الدين في السيطرة على العلاقات الاجتماعية، أي ينقلون العلاقات الإقطاعية الى البيوت والأحوال الشخصية الـخ . .
واذا لم نقم كما يريد مهدي عامل بقراءة هذه السيرورة التاريخية الاجتماعية التي امتدت خلال ألف سنة، والتي تتغلغل في أبنيتنا الاجتماعية وقوانيننا الوراثية وفي سلطاتنا المطلقة، وفي شعرنا ونثرنا وعاداتنا ولا وعينا، فكيف نقوم بتغيير هذه البنية التقليدية وتشكيل النهضة؟!
إن مهدي عامل يخرق قوانين الوعي على مستوى قراءة الماضي، وعلى مستوى قراءة الماركسية، فعبر قراءة الماضي يتجاهل البنية الإقطاعية وسيرورتها الراهنة، وعلى مستوى الماركسية يقوم باختراع مغامرات سياسية محفوفة بالكوارث، عبر اختراعه مقولة أسلوب الإنتاج الكولونيالي وتصفية البرجوازيات العربية.
فهو بدلا من قراءة الماضي ورؤية أسباب عجز البرجوازيات العربية القديمة عن تشكيل النهضة، والقيام بثورة رأسمالية، وقراءة أسباب ضعف البرجوازيات العربية الراهنة وعدم قدرتها على تغيير أسلوب الإنتاج الإقطاعي وتشكيل تحالف معها لتغيير التركيبة التقليدية يقوم بوضعها في خانة العدو والقفز ضدها الى مهمات غير حقيقية ومكلفة كما دلت تجربة الشعب اللبناني.
يمثل المفكرون الذين تواجدوا في الكويت لمناقشة مسائل النهضة العربية وكيفية إيجادها، نخبة اشتغلت في حقول الدراسات لزمن طويل، وبغض النظر عن اجتهاداتها ومدارسها فإنها تعبر عن عقول مهمة تعارض المجتمعات العربية التقليدية من منطلقات مختلفة، لكن المفكر اللبناني مهدي عامل نظر اليها كخصوم وليس كقوى مساندة للطبقات العاملة العربية في تغيير مجتمعات التخلف، وبهذا كان يرفض العديد من الآراء المهمة التي تقدمها كما فعل مع شاكر مصطفى .
ويعترض مهدي عامل كذلك على زكي نجيب محمود الذي يمثل المدرسة الوضعية أو التجريبية المنطقية في دعوته لأحكام العقل في النظر الى الأشياء، وخاصة في جملته التي قالها بضرورة (الاحتكام الى العقل في قبول ما يقبله الناس وفي رفض ما يرفضونه)، ودعا الدكتور زكي العرب الى التوجه لتمثل الحضارة المتقدمة، واعتبر إن الاحتكام الى العقل ميز الحضارات العقلانية، معطيا نماذج أربعة على حضارات احتكمت الى العقل وهي:
أثينا في القرن الخامس قبل الميلاد، وبغداد في عصر المأمون، وفلورنسا في القرن الخامس عشر، وباريس في عصر التنوير في القرن الثامن عشر.
أي إن زكي نجيب محمود يقدم درجات من صعود البرجوازية عبر العصور، أعطى إنتاجها المادي قدرة على الفهم الموضوعي للطبيعة المجتمع، على درجات متفاوتة.
ويعترض مهدي عامل على هذه التصنيفات ويقول: (وهنا تظهر الدلالة الطبقية لهذا المنطق من التفكير: فانتفاء الطابع التاريخي، أي النسبي، من شكل العقلانية الخاص بالبنية الاجتماعية الرأسمالية يجعل من هذا الشكل الخاص مطلقا، فيظهر ما هو تاريخي ـ أي ما يحمل فيه ضرورة تخطيه ونفيه ـ بمظهر ما هو طبيعي ـ أي يحلم فيه ضرورة تأبده ـ ويظهر الشكل الطبقي البرجوازي للعقلانية بمظهر العقلانية الإنسانية، أي بما هو طبيعي ملازم للحضارة كحضارة . .)،(20)*.
يتحول تقديم زكي نجيب محمود لصور من العقلانية عبر التاريخ في وعي مهدي عامل الى وجهة نظر لـ(البرجوازية المسيطرة)، هكذا بشكل مطلق وكأن زكي نجيب محمود يمثل برجوازية مسيطرة تقوم بإخفاء التناقضات الاجتماعية المحتدمة تحت سيطرتها مثلما تفعل البرجوازية الفرنسية التي درس في عالمها مهدي عامل ونقل لغة النقد الموضوعي ضدها، وليس باعتبار زكي مفكرا يعبر عن فئات برجوازية عربية تعاني من هيمنة تقليدية متخلفة، وحين يقوم باستعادة لحظات من فعل الفئات المتوسطة عبر التاريخ الماضي إنما يريد شحذ عقلها وإرادتها من أجل تشكيل عالم نهضوي عقلاني عربي، يمكن حتى للقوى الشعبية فيه أن تناضل بصورة حديثة.
إن المحطات التي اختارها زكي نجيب محمود للحظات التاريخية التي بدأ فيها أسلوب الإنتاج الرأسمالي بالصعود هي محطات تُظهر هذا الأسلوب الجديد في تشكيلات متنوعة، بدء من التشكيلة العبودية لدى الإغريق، أو التشكيلة الإقطاعية عند العرب، أو بداية انحسار الإقطاع لدى التجار الإيطاليين في فلورنسا، ثم انتصار الأسلوب في الثورة الفرنسية.
وفي هذه المحطات حاول العقل الممثل للفئات الوسطى أن يحرر النظام الاجتماعي من هيمنة الخرافة وتدخلها ومنعها لاكتشاف السببيات العميقة للتقدم ونمو العلوم والتجارة الـخ . . ولكن في الثورة الفرنسية لم تعد ثمة فئات وسطى بل طبقة برجوازية صناعية قائدة منتصرة تعيد تشكيل البنية الإقطاعية.
وبطبيعة الحال فحين يُقال هذا الكلام للجمهور العامل الفرنسي الآن، يغدو هذا مجرد كلام تاريخي، فالبرجوازية الفرنسية الراهنة هي غير برجوازية الثورة، ولكن حين يقول هذا الكلام زكي نجيب محمود في العالم العربي الإقطاعي الطائفي المتخلف، يغدو الأمر ثوريا.
ويجري العكس لدى مهدي عامل الذي ينقل الوعي معارض الفرنسي في الرأسمالية الكلاسيكية، أي في الرأسمالية التي غدت عائقا للإنتاج، الى البلدان الجائعة للتطور الرأسمالي الصناعي خاصة، وبدلا من أن يبحث كيفية نموها وتغييرها للإقطاع، مثمنا البذور النقدية الوضعية والتجريبية، لزكي نجيب محمود ومعاضدا إياه لتوسيع الجبهة المعادية للتخلف والإقطاع، يطالب بإسقاط مثل هذه البذور والمقدمات للتحول الحديث، قافزا الى مهمات غير ممكنة.
وهكذا فحين يظُهر زكي نجيب محمود العقلانية البرجوازية كما يقول مهدي عامل كعقلانية مطلقة، كعقلانية تمثل البشر جميعا، كعقلانية وحيدة، فهذا نتاج لوعي مثالي يغُيب شروط الثورة الديمقراطية في البلدان المتخلفة، معتبرا العقل شيئا تجريديا، وليس مصانع يجب أن تتوسع، ومختبرات علمية يجب أن تنتشر، وعمالة جاهلة يجب أن تتعلم وتتحسن معيشتها، وريف إقطاعي يجب أن يتحدث، ونساء ينبغي أن يدخلن مجال الآلة الصناعية الـخ . .
رأينا في بعض الأمثلة التي سقناها من حوار المفكر اللبناني الراحل مهدي عامل مع شخصيتين ثقافيتين عربيتين كبيرتين، المستوى العام السياسي، الذي يتصدى فيه المفكر اللبناني لوجهات نظر من الفئات الوسطى العربية، وهي تحاول أن تطرح وجهات نظر لتجاوز عالم التخلف والإقطاع العربي.
والمقصود بالمستوى العام السياسي، إن مناقشة كتابه (أزمة الحضارة العربية أم أزمة البرجوازيات العربية؟) من قبلنا في هذه الموضوعات، تعلقت بعرفة رأيه في مسالة التشكيلة الاقتصادية/الاجتماعية السائدة عربيا، وهي مسالة قام مهدي عامل بتضبيبها بشكل شديد، من جهة تمييع حدودها بما يتعلق بالماضي، فيتم قطع العلاقة بتحليل الماضي من حيث إنه سيرورة تاريخية مستمرة الى عصرنا العربي الراهن، أي بسبب استمرار التشكيلية الإقطاعية الدينية الى وقتنا الراهن، وهي تحاول إفراغ التشكيلة الرأسمالية الجديدة التي لم تنتظر انتشارا واسعا، من مضمونها، ولعدم انتصارها.
ومن هنا لا يقوم مهدي عامل بدراسة هذه التشكيلة الماضوية الحاضرة في تطورها وفي اعتقالها للتطور العربي، ويغدو الاقتراح النظري باسم (أسلوب الإنتاج الكولونيالي) شكلا من التموية الفكري والسياسي لعدم حل مشكلات البنية الإقطاعية السياسية الدينية، باعتبارها العائق الأكبر في سيرورة التطور العربي الراهنة، قافزا الى مهمات تعود الى بُنى الرأسمالية المعاصرة الغربية، وهذا في التطبيق العملي السياسي يقود الى انتصار الإقطاع السياسي والديني، عبر توجيه العداء والضربات الى حليف سياسي واجتماعي وفكري للقوى الشعبية، هو قسم من الفئات الوسطى الحديثة ومثقفيها، خاصة للتيارات البرجوازية العلمانية والديمقراطية.
إن مهدي عامل في رفضه لاستمرارية التشكيلة الإقطاعية، وإحلاله التشكيلة الرأسمالية، حتى مسمى علاقات الإنتاج الكولونيالية، رفض الأساس الموضوعي لفهم التطور العربي، ومن هنا يغدو المفكرون الذين فند آراءهم في الكتاب المذكور، أكثر اقترابا من الحقيقة الموضوعية، ومن المهمات السياسية والاجتماعية والثقافية، من مهمات التغيير العربية الحقيقية، رغم مناهجهم التي تعود لاختيارات أيديولوجية للفئات الوسطى، أكثر من قراءته التي يقوم فيها باستيراد أدوات فكرية منهجية غربية ماركسية مهمة، لكنه لا يطبقها التطبيق الصحيح.
ليس ذلك كذلك إلا بسبب مقاربتهما (والمثالان هما شاكر مصطفى وزكي نجيب محمود) للتشكيلة الاقتصادية/ الاجتماعية الإقطاعية الدينية، بمستويات معينة من القرب والتحليل، وهو بدلا من مقاربتهما وتطوير أدواتهما ووعيهما، قام برفض كلي لتلك المقاربة النقدية التشكيلة المحافظة.
إن المشكلة المزدوجة هنا هي في وجود أداة فكرية تحليلية صحيحة لدى مهدي عامل رُكبت في منظومة سياسية خاطئة، بمعنى أنه قرأ البنيوية الماركسية لدى جولدمان وآلتوسير واستوعبها، غير أنه حينما جاء الى تشكيلته السياسية الحزبية العربية التي تطرح تجاوز البرجوازية وهدم سلطتها، ركب أداة نظرية حديثة دقيقة، في رؤية (ماركسية لينينية ستالينية) متخلفة.
وفي الموضوعات السابقة رأينا القضايا التي تقارب مسائل التشكيلة، وهي المسائل السياسية الامة، والتي هي العمود الفقري لمسائل الوعي والفكر والثقافة، وبدون الحل الصحيح لهذه المسألة المحورية فإن القراءة الفكرية كلها تكون محفوفة بالأخطاء.
إن النموذج الذي يختاره مهدي عامل في الفصل الرابع من الكتاب السابق الذكر كذلك، هو الشاعر والمفكر المعروف أدونيس، الذي صاغ دراسة حول الإمام أبي حامد الغزالي في ذلك المؤتمر مُستنتجا ـ أدونيس ـ بأن الفكر الديني: (بقواعده وغاياته، وهو الذي يسود المجتمع العربي، اليوم. ولذلك فإن الإيديولوجية السائدة، سواء في المدرسة والجامعة والبرامج التربوية، والصحافة والإذاعة والكتاب، إنما هي قوة ارتداد نحو الماضي، وقوة محافظة على الراهن الموروث . . فعلاقات الإنتاج الموروثة . . ما تزال هي السائدة . . والبنية الإيديولوجية التقليدية . . ما تزال كذلك هي السائدة)، (21)*.
هذا الكلام يقوله أدونيس في سنة 1974، وبالتالي استطاع أن يشخص الواقع العربي تشخيصا دقيقا بحيث أننا الآن (سنة 2003) ندرك الفجائع المترتبة على هذه السيادة الماضوية. ولكن اليسار حينذاك لم يكن ير مثل هذا التشخيص، كرفيقنا الراحل مهدي عامل، الذي يتصدى لهذه المقولة قائلا ردا وتحليلا للرأي السابق:
( 1 ــ الفكر العربي هو نموذجه، ونموذجه هو الغزالي، فالفكر العربي إذن هو فكر الغزالي.
2 ــ الفكر السائد في الماضي هو الفكر السائد في الحاضر.
3 ــ البنية الإيديولوجية السائدة في الماضي هي البنية الإيديولوجية السائدة في الحاضر.
4 ــ علاقة الإنتاج المتوارثة ــ أي السائدة في الماضي ــ هي علاقات الإنتاج القائمة في الحاضر.
إذن الماضي هو هو الحاضر، لا شيء تغير. (خلاصة)، (22)*.
من الواضح إن مهدي عامل يقوم بتبسيط نظرة أدونيس إلى التاريخ الفكري العربي، فالغزالي لدى أدونيس ليس كل الفكر العربي، بل فكره المذهبي المحافظ، ولكن أدونيس يقول إن هذا الفكر المحافظ المذهبي هو الذي ساد، واذا طورنا مقولة أدونيس كما توصلنا اليها، فنقول إن رؤية الغزالي كانت هي ثقافة الإقطاع السائد. ولكن ثقافة الإقطاع المذهبي متعددة، وحتى تسود قامت بالقضاء على التيارات الدينية المعارضة، وهذه لها حراك وصراع استمر الى وقتنا الراهن، فليس معنى ذلك سكون الخريطة الفكرية الاجتماعية، بل أن لها ألوانا وتضاريس مقعدة. ولكن من الناحية الجوهرية فإن المنظومة العربية الإسلامية لا تخرج عن التشكيلة الإقطاعية، ومعرفة وتحديد التشكيلة هذه هي الخطأ الجوهري لدى مهدي عامل كما بينا سابقا، في حين أنها الصواب لدى أدونيس وشاكر مصطفى، واستمرارية التشكيلة لا يعني الحكم بالثبات المطلق، كما سنعرض لاحقا.
يضع مهدي عامل بعض ممارسات الفلاسفة العرب كابن رشد في دائرة ما يسميه (بالممارسة الإيديولوجية لما يمكن تسميته بالطبقة الأرستقراطية العربية المسيطرة في المجتمع الاستبدادي في القرون الوسطى.)، وبغض النظر عن جملة من المفاهيم الخاطئة في هذه العبارة، فإن مهدي عامل يضع الممارسات النقدية للمفكرين العرب المسلمين السابقين في سياق (مجتمع استبدادي)، وليس في سياق التشكيلة الإقطاعية المعروفة بداهة للمادية التاريخية، ثم يقوم بوضع الحركات والفكر الديني الإسلامي المعاصر في سياق آخر فيقول: (أما في الحالة الثانية، «فالإسلام» موجود بالشكل الذي يتحدد فيه بحقل آخر من الممارسات الإيديولوجية الطبيقة، خاص ببنية اجتماعية مختلفة، يغلب عليها الطابع الكولونيالي، في انتمائها التاريخي الى نمط الإنتاج الرأسمالي.)،(23).
إن هذه البنية الحديثة التي يضع مهدي عامل الوعي الديني السابق فيها، هي بنية يغلب عليها (الطابع الكولونيالي تنتمي تاريخيا الى نمط الإنتاج الرأسمالي)، وهي توصيفات نرى كيف أنها بذاتها قلقة مضطربة، وهو يلجأ الى كلمة (كولونيالي)الأجنبية المنتفخة، لكي يشُعر القارئ بأنها مصطلح غني في حين يمكن القول بأن البنية العربية هي بنية تابعة، ووجود التبعية لا يخلق تشكيلة جديدة، أي أنه حين تقوم الرأسمالية المسيطرة غربيا بإلحاق البلدان الفقيرة الإقطاعية في العالم الثالث باقتصادها، فإن هذه البنية التابعة تظل في تشكيلتها الإقطاعية السابقة، لإن الاستعمار لا يقوم بثورة اجتماعية فيها بحيث يحولها الى نموذجه أو نموذج الرأسمالية، بل يبقيها في بنيتها السابقة ويجري تغييرات سياسية واقتصادية بحيث تقوم بضخ المواد الأولية اليه وتغدو سوقا لمنتجاته الـخ . . لكن عمليات الإلحاق والتغيير الرأسمالية المحدودة تكون في إطار التشكيلة الإقطاعية، أي أن التشكيلة السابقة لم تتبدل بثورة تبدل البناءين، التحتي بثورة اقتصادية، والبناء الفوقي بثورة ثقافية، بل جاءتها عناصر رأسمالية فقامت باستيعابها في قوانين التشكيلة الإقطاعية التقليدية.
إذن عدم فهم مهدي عامل للقضية المحورية وهي قضية التشكيلة يقوده الى سلسلة من الأخطاء اللاحقة، حيث ينفي كون الدين أيديولوجية فكرية مسيطرة في الحاضر، لأنه نفى كون التشكيلة المعاصرة تشكيلة إقطاعية، وبهذا لم يدُرك المهمات الفكرية والسياسية الأساسية الراهنة، وهي تغيير التشكيلة وبناءها الفكري التقليدي.
ولهذا يقوم بنقد أدونيس لأنه يقول بـ(الرأي الماركسي!) باستمرار التشكيلة الإقطاعية ووعيها الديني الأساسي، (ويجب أن نقول هنا وعيها: الطائفي السياسي)، منتقدا إياه بأنه ينقل: (مركز الثقل في الممارسة الإيديولوجية للصراع الطبقي ضد البرجوازية المسيطرة، من صراع ضد إيديولوجية هذه الطبقة، بمختلف تياراتها، الى صراع ضد الشكل الديني أو الطابع الديني من هذه الإيديولوجية . .)،(24)*.
وهنا يواصل مهدي عامل عدم فهمه وخلطه للأمور، فأدونيس في نقده للشمولية الدينية ينقدها في ظل نظامها التقليدي الإقطاعي، أي باعتبار الوعي الطائفي المحافظ تجليا فكريا واجتماعيا للممارسة الإقطاعية المهيمنة على المسلمين (والمسيحيين)، وليس باعتبارها نضالا ضد الشكل الديني، أي بأنها قضية فك علاقة الدين بالسيطرة السياسية والاجتماعية الإقطاعية الراهنة، وتشكيل منظومة سياسية حديثة علمانية.
أي أن مهدي عامل يريد تجيير النقد ضد الدين، ويجعله بإطلاق، وليس ضد الوعي السياسي الطائفي المستغل للإسلام في تأبيد البنية الإقطاعية المتخلفة، وبالتالي يريد توجيه الوعي الفكري ضد البرجوازية العربية الحديثة، باعتبارها سبب الأزمة والعائق، أي أنه في النهاية يقوم بالدفاع غير المباشر عن الإقطاع الديني، أو أنه بالهجوم على البرجوازية الحديثة يفتت الصفوف الموجهة ضد الإقطاع الديني والسياسي.
فلنحلل أكثر التباس المفاهيم والمراحل واستراتيجيات النضال لدى مهدي عامل.
يقول: (فالعلاقة هذه التي تمنع تطور الإنتاج الرأسمالي في شكله الكولونيالي، من أن يميل، في قانونه العام، الى القضاء على علاقات الإنتاج السابقة عليه، في سيطرته بالذات عليها، هي نفسها العلاقة التي تمنع البرجوازية الكولونيالية، في ممارسة سيطرتها الإيديولوجية/ من القضاء على مختلف الإيديولوجيات السابقة على الإيديولوجية البرجوازية، في سيطرتها بالذات . .).
يعتمد مهدي عامل على منطق ارسطي شكلاني يجرد التاريخ من سيرورته الحقيقية، ويضعه في قوالب لا تاريخية، أي لا توجد إلا في وعيه الذي يقع خارج التاريخ الحي.
فهو أولا قد أثبت انتصار الإنتاج الرأسمالي في العالم العربي، في القرن التاسع عشر كما سيقول لاحقا أيضا! لكن هذا الانتصار تم في إطار كولونيالي، ورغم إن البرجوازيات العربية التي انتصرت على أشكال الإنتاج ما قبل الرأسمالية قد انتصرت إلا أنها مع ذلك تحافظ على الأيديولوجيات ما قبل الرأسمالية وهو ذات السبب الذي يجعلها تحافظ على أساليب الإنتاج ما قبل الرأسمالية!
فأولا حين جاء الاستعمار الى العالم العربي في القرن التاسع عشر، كرس الإقطاع والطائفية والأمية، ولم تستطع الفئات الوسطى (البرجوازية) أن تنمو إلا بشق النفس، وخاصة الفئة الصناعية، وبقيت الأبنية الاجتماعية تسود فيها عبودية النساء وعدم خروجهن للعمل والإنتاج، وهيمنة الإقطاع الطائفي الـخ . .
وبهذا فإن نضالات الفئات الوسطى كانت تتحدد في كل بنية اجتماعية عربية، حسب تطورها الاقتصادي الاجتماعي، فإن تنمو فئة وسطى وتقود نضالا ديمقراطيا كان ذلك يحتاج الى عقود، وليس كما يظهر في وعي مهدي عامل اللاتاريخي، بشكل أزرار سحرية، وكأن تشكل علاقات الإنتاج الرأسمالية تتم في الذهن وليس في الواقع الحي. أي أن الرأسمالية تحتاج شروط موضوعية وهي انتشار الصناعة وانتشار العمل بالأجرة وتحرر النساء الـخ . .
ولو افترضنا جدلا بنشوء الرأسمالية الواسعة في نهاية القرن التاسع عشر، وهذا محض خيال، فإن أشكال الوعي الدينية المرافقة للتشكيلة الإقطاعية، لا تنهار بسهولة كبيت من ورق كما يتضمن ذلك وعي مهدي عامل.
إن الوعي الديني المترافق مع التشكيلة الإقطاعية العربية تأسس فوق بنية زراعية/ حرفية/ رعوية، وداخل صراعات اجتماعية (قومية) ومناطقية، وقادته الصراعات السياسية الاجتماعية الى الانقسام المذهبي الكبير في عصر الثورة والمعاضة، بين التيارات المحافظة والتيارات الإقطاعية الناجزة وتيارات الفئات الوسطى الفاشلة، ثم الى الانقسام المذهبي الكبير الثاني حين انتصرت التيارات والدول المحافظة، أي الانقسام بين السنة والشيعة.
إن هذه السيرورة الاجتماعية الإيديولوجية المتلونة بمراحلها وآثارها لا يمكن أن تزول آليا مع الانتصار الموهوم للرأسمالية كما يظن مهدي عامل، بل إن هذا البناء الفوقي يحتاج قرون لكي تتم زحزحة خطوطه المتكلسة، ولكن الأمر أعقد من ذلك لأن هذا البناء الفوقي يتأسس تحت بناء قاعدي لم يتغير كثيرا.
وكما أوضح شاكر مصطفى في عبارته الهامة التي اقتطعها مهدي عامل ورفضه بأن النظام الإقطاعي العربي الديني تتداخل فيه مسألتي السلطة والملكية، أي تتواشج فيه جوانب من البناءين التحتي والفوقي، فالمسيطرون على الثروة والملكية العامة والأوقاف الـخ . . هم الإقطاعيون السياسيون والدينيون، وهو أمر يتمظهر مذهبيا في البلدان ذات المذاهب المتنوعة، ودينيا في الأقطار الإسلامية ذات الاختلاط مع المسيحية، وهذه الهيمنة الإقطاعية تظهر على شكل ملكيات استبدادية وهو أمر استمر حتى منتصف القرن العشرين في بعض الدول العربية وليس في أغلبها، وعلى شكل جهوريات رئاسية أو ملكيات لم تستطيع أن تنُجز مهام الثورة الوطنية الديمقراطية المكتملة، أي في جميع الأقطار العربية الإسلامية حتى الوقت الراهن.
يحكم مهدي عامل على البرجوازيات العربية منذ تشكلها وصراعها ضد الإقطاع والاستعمار، بحكم سياسي واحد، فبعد أن شكلها بشكل ناجز في ذهنه فحسب، وبعد أن شكل الأنظمة الرأسمالية العربية في وعيه فحسب، غدت متطابقة مع البرجوازية الاستعمارية المسيطرة وبالتالي غدت منذ البدء عدوا.
لهذا فإنه لا يقرأ سيرورتها الفكرية والاجتماعية وبالتالي مراحل تطورها ومن هنا لا يرى فرقا بين (ما نراه في ايديولوجيتها من مفاهيم «عصرية» ليبرالية، وما نراه أيضا في بدء «تاريخها الإيديولوجي» من مفاهيم أرادت أن تكون مثيلة مفاهيم الثورة الفرنسية البرجوازية، كما هو الأمر عند رفاعة الطهطاوي ولطفي السيد وغيرهما). (26)*.
ومهما كانت عدم الدقة في المطابقة بين آراء الثورة الفرنسية وآراء الطهطاوي ولطفي السيد، فإن عدم رؤية أهمية آراء المنورين العرب في ذلك الكهف الإقطاعي التي كانت ولا تزال الشعوب العربية تحاول الخروج منه، فذلك يدل على وعي الأرادوية الذاتية الثورية) في إلغائها للقوانين الموضوعية للتطور الاجتماعي، مثلما تفعل في مسألة الوعي بالتشكيلة وبالوعي المهيمن فيها، حيث يلغي مهدي عامل أهمية أفكار البرجوازية النهضوية ويثبت آراء الإقطاع الديني، فيقول بأن الإيديولوجية الدينية: (ليست هي الإيديولوجية المسيطرة، أو التيار الإيديولوجي المسيطر في الإيديولوجية المسيطرة، أو أيديولوجية البرجوازية الكولونيالية المسيطرة)، (27)*.
إذن إنه في عدم وعيه بسيرورة الإقطاع السياسي الديني في الماضي: بقوانين تشكله وصراعاته وظهور الفئات الوسطى بين أشداقه وأسباب انهيارها وغلبته، فإن مهدي عامل لا يرى قوانين استمراريته وانهياره في العصر الحديث العربي، وأسباب ضعف الفئات الوسطى، وصراعها معه ومع الاستعمار.
إن عدم رؤية قوانين البنية الاجتماعية في الماضي، هي ذاتها تتجلى في عدم رؤية قوانينها في الحاضر، ويقود ذلك الى عدم رؤية قوانين التشكيلة الإقطاعية عامة، خاصة عملية تفكيكها وتغييرها المعاصرة، وإذا أحلنا آراء مهدي عامل الفكرية العامة إلى الميدان السياسي، فيعني ذلك تقوية الإقطاع.
فعدم تثمين مقامات الفئات الوسطى في الماضي والحاضر، وتشكيل جبهة سياسية تحديثية واسعة، تراكم الوعي النهضوي وتقود في الخاتمة الى الثورة أو القطع مع المنظومة الإقطاعية، واستبدالها بمنظومة حديثة، يعني تصفية القوى النهضوية وتفكيكها، وبالتالي تصعيد الإقطاع في مستويات البنية المختلفة.
علينا أن نرى إن ثمة عدم دقة تحليلية للإقطاع المذهبي وتطوره في التاريخ العربي ولدى أدونيس كذلك، أي أن أدونيس لا يرى الجذور الاجتماعية لتشكل الحداثة قديما وحديثا، التي تؤسسها الفئات الوسطى العربية، ولكنه يقترب من هذا التحديد بشكل أفضل من مهدي عامل، الذي يقول عن ذلك: (لكن المنطق الذي قاد أدونيس الى عدم رؤية هذا الطابع الطبقي المميز للصراع الإيديولوجي في واقعنا الراهن، هو تلك المعادلة الرابعة التي أقامها بين علاقات الإنتاج السائدة في الماضي وعلاقات الإنتاج القائمة في الحاضر . .)، ويضيف مهدي عامل: (أما أن تكون هذه العلاقات الموروثة نفسها هي هي العلاقات القائمة حاليا، فهذا ما لا يمكن للمنطق العلمي أن يقبل به، برغم وجود الانسجام الداخلي في منطق أدونيس . .)، (28)*.
ومن المؤكد إن الإقطاع العربي الكلاسيكي القائم على ملكية الأرض الزراعية والخراج، لم يعد شاملا، لكن مهدي عامل لم يقم بدرس العلاقات الاقتصادية العربية الحديثة، وكيف أن ملكية الدولة لوسائل الإنتاج تمثل شكلا إقطاعيا حين تغدو تابعة بالوراثة لأسرة أو جماعة سياسية، بدلا من أن تكون هذه الوسائل بضاعة متداولة، ولهذا ثمة استمرارية كبيرة بين حقول النفط وحقول الزراعة، وبين الآثار الاقتصادية والاجتماعية التي تتركها في تقوية الإقطاع الأسري والحزبي الـخ . . ونعرض ذلك كمثال عابر فقط، من أجل أن نرى استمرارية الحياة التقليدية، وبالتالي فإن الحكم العام الذي يطلقه أدونيس باستمرار الوعي التقليدي وهيمنته لا يجانب الصواب.
إن أدونيس إذن عبر تلك الفقرة التحليلية يقربنا من رؤية البنية الحقيقية للحياة العربية، فيما يعمل مهدي عامل على إخراجنا من تلك البنية وإدخالنا في بنية موهومة من قراءته ومعايشته للحياة الغربية، فيريد نقل مهمات الصراع الطبقي فيها، الى بلدان متخلفة، تشكو من قلة البرجوازية والعمال والتصنيع، دون أن يحاول العودة الى مصادر أدونيس في قراءة المجتمعات العربية، في كتابه (الثابت والمتحول) خاصة.
في احدى الفقرات من كتابه (أزمة الحضارة العربية أم أزمة البرجوازيات العربية؟)، يقر مهدي عامل ضمنا بسيادة العلاقات الإنتاجية والاجتماعية التقليدية وهو يرد على أدونيس فيقول: (إن وجود هذه العلاقات السابقة في البنية الاجتماعية الكولونيالية لا يعني أنها العلاقات السائدة في هذه البنية، حتى وإن كانت هي تنتشر على القسم الأعظم من السكان، كما هي الحال في الهند مثلا، أو في كثير من البلدان العربية . .)، (29)*.
إنه يعتبر الإنتاج التابع شكلا تاريخيا محددا من الإنتاج الرأسمالي، فمهما كانت أشكال ما قبل الرأسمالية منتشرة فإن ما يحدد توجه التطور هو النمط الرأسمالي.
وبطبيعة الحال لا يمكن أن نأخذ بهذه الجمل إلا عبر تحليل للأبنية الاقتصادية الاجتماعية المحددة في كل بلد، فرغم أن التطور الرأسمالي هو تطور عالمي عاصف، إلا أن كل منطقة وبلد لهما خصوصياتهما، أي أن الأمر يعود لتطور التشكيلات وتاريخها، وتناقضاتها الداخلية، فالتشكيلة الإقطاعية العربية الإسلامية، عبر سيطرة مختلف الدول الاستعمارية على أقطارها المتعددة، لم تقم هذه الدول الاستعمارية برسملتها بشكل شامل، وحتى بعد مختلف الثورات الوطنية فإن المسألة الديمقراطية لم تُحل، أي أن هذه الأنظمة ظلت على بنياتها الإقطاعية المذهبية، وظلت الدولة طائفية واللامساواة بين المواطنين سائدة، وظلت قوى ما قبل رأسمالية تتحكم في الثروة العامة الـخ . .
لكن مهدي عامل لا يرى ذلك، بل يرى إن هذه الأنظمة أنظمة رأسمالية فيجب أن: (يرفض الدولة البرجوازية، أي هذا الشكل التاريخي الطبقي المحدد من الدولة، ويرفض علاقات الإنتاج البرجوازية الـخ . .)، (30)*.
كما أن القوى العاملة مدعوة (لممارسة العنف الثوري، من حيث هو عنف طبقي، بأدواتها هي وبمنطقها هي وبنظامها هي، من أجل القضاء على سبب وجود العنف الذي هو المجتمع الطبقي)، (31)*.
إن مهدي عامل لا يقول ذلك في فرنسا والولايات المتحدة، بل في لبنان وسوريا والعراق والجزيرة العربية، فبدلا من معرفة ما يحدده شاكر مصطفى وأدونيس من دولة استبدادية طائفية إقطاعية متخلفة، يقوم مهدي بصناعة دولة موهومة هي الدولة البرجوازية، وقد اكتملت علاقات الإنتاج الرأسمالية فيها، وبين النموذج الواقعي الذي يرفض الدخول فيه وتحليله، يجر نموذجا آخر ويريد مجابهته، وهذا الجر يخلق مهمات سياسية وعسكرية مختلفة، فهو هنا يريد إزالة البرجوازية بالقوة، فتتحول هذه الكلمات في يد اليساري اللبناني الى سلاح، ويغدو كل الفلاحين المقتلعين من الجنوب والنازحين على المدن والفقراء، جيش الثورة البروليتارية في مواجهة البرجوازية.
إن مهدي عامل بعد أن حول المجتمع المتخلف الطائفي التابع الجائع الى المصانع والبرجوازية الى (مجتمع برجوازي مأزوم بسيطرة هذه البرجوازية)، لم تعد المهمة سوى اقتلاع هذه البرجوازية لكي تحل الأزمة، وهكذا يُفتح الطريق للحرب الأهلية اللبنانية من البوابة النظرية.
لا يعني ذلك بأن توصيفات أدونيس للمجتمع العربي التقليدي متكاملة ولا أن الحلول التي يطرحها لتجاوز أزمة المجتمعات العربية التقليدية، ولكن ما يطرحه من حلول أقل خطرا وأكثر فائدة مما يطرحه مهدي عامل.
فأدونيس يقول حسب رواية مهدي عامل بأن (شخصية العربي، شأن ثقافته، تتمحور حول الماضي/ القديم). وأنه في الحضارة العربية (لما انتفى الفرد في الموضوع وتغرب عن ذاته في الجماعة أو الدولة أو السلطة أو النظام . . كان الاتباع وكان التخلف، وكان حاضر الإنسان العربي أو ماضيه)،(32)*.
نستطيع أن نقول بأن مقاربة أدونيس للتشكيلة الإقطاعية هي أقرب للحقيقة الموضوعية من مهدي عامل، ولهذا فإن اقترابه من المخرج للأزمة الحياة العربية أكثر جدوى، وهو حين يقول بأزمة تلاشي الفرد المبدع أو هيمنة التقليد في الحضارة القديمة، فهو يشير إلى شيء موضوعي لم يتبينه تمام التبين، وهو سيطرة الهياكل الإقطاعية العامة الاقتصادية والاجتماعية والإيديولوجية، ولهذا فإن الفردية، وتوسع الفئات الوسطى الحرة، وبالتالي انتشار الإبداع لم يحدث بصورة جذرية، وقد تتبعنا ذلك في قراءات سابقة، وبينا جذور الفئات الوسطى وارتكاز قواها الأساسية على الدولة الإقطاعية. وبهذا فإن الفئات الوسطى العربية في الماضي والحاضر، لم تستطع أن تتحول الى طبقات برجوازية كلية، وهذا بخلاف رؤية مهدي عامل التي تقول بأنها ولُدت كبيرة ناجزة بفعل الأزرار السحرية الغربية، ولكنها بعد كما يقول أدونيس كذلك لم تستطع حتى الآن أن تزيح الاتباع وتنشر الحرية بشكل شامل!
تلخيصا وتطويرا لما سبق نشره، يقيّم مهدي عامل تقييما سلبيا المقاربة الموضوعية لأدونيس تجاه المجتمع العربي التقليدي، فهو يقوم بإزاحة التوصيفات (العلمية) لهذا المجتمع، ويضع بدلا منها توصيفات مستقاة من تطور أعلى، هو تطور البلدان الرأسمالية المتطورة، ويضع المهمات التي تواجه الطبقات العاملة فيها الى البلدان محدودة التطور، والتي تعالج مهمات تاريخية مختلفة، وبدلا من تشكيل جبهات موسعة للقوى الحديثة والديمقراطية لإزاحة التشكيلة الإقطاعية الطائفية العربية، فإن يوجه القوى ضد أحد الأجنحة المهمة في كلية التغيير الديمقراطية، ولهذا فهو يجعل ممثلي القوى الليبرالية والعقلانية الفكرية في الندوة المذكورة، كخصوم ألداء وليس كحلفاء في معركة واحدة ضد تشكيلة تجاوزها التاريخ.
وهذا يقوده لعدم تثمين الأحكام الموضوعية التي يطرحها هؤلاء المفكرون والباحثون، وعدم الاستعانة بهذه المواد الفكرية الثمينة لتطويرها عبر المنهج المادي الجدلي، ورؤيتها في سياق التشكيلة الحقيقية.
ولكن مهدي عامل دخل في قراءة التاريخ بذاتية ثورية تسقط رغباتها على التاريخ الحقيقي، بدلا من اكتشاف تطوره، فكان ابتكاره لمقولة (أسلوب الإنتاج الكولونيالي) بداية لخرقة أساسيات المادية التاريخية، حول أساليب الإنتاج المحددة والمكتشفة، وهذا الخطأ المحوري قاده الى سلسلة من الأخطاء النظرية في تحليل الجوانب المحددة في تطور التشكيلة الإنتاجية العربية، السابقة الذكر، فهو قد اعتبر علاقات الإنتاج الرأسمالية منُجزة في حياة المجتمعات العربية منذ نهاية القرن التاسع عشر، وهذا ما دعاه الى عدم تثمين حلقات التنوير المتعددة التي قامت بها الفئات المتوسطة العربية، في الماضي والحاضر، ثم الدعوة الى خلق اصطفاف حاد إلى معسكرين رأسمالي تجاوزه التاريخ، وعمالي يجب انتصاره.
وكان هذا خرقا للمهمات الحقيقية لقوى الثورة والتغيير العربية التي تواجه تشكيلة متخلفة، ولكن الخطوط الفكرية التي طرحها مهدي عامل كانت تتضافر ووضع دولي موات، مما جعلها في حيز التنفيذ، ولكن النتائج المترتبة على هذه الخطوط النظرية والسياسية كانت كارثية خاصة على البلدان التي طبقتها بشكل عنيف، وأهم هذه النتائج إن القوى السياسية ما قبل الرأسمالية، والمذهبية الاجتماعية، هي التي استفادت من تناحر القوى الحديثة، وهي التي برزت الى السطح والفاعلية، حيث ساعدتها عوامل أخرى، مما أوضح بشكل جلي بأن مهمات حركات التغيير العربية لا تزال مواجهة الأبنية التقليدية، وضرورة عدم التحالف مع هذه القوى التقليدية وإبرازها، رغم السهولة التي تبدو بها عمليات التحالف مع هذه القوى الماضوية، وضرورة تكريس تحالف الجبهة النهضوية التحديثية الديمقراطية، حتى لو كانت الصعوبات جمة في طريق تشكيلة وتعزيز عناصره الديمقراطية والعلمانية.
لكون التحالف مع القوى التقليدية وتعزيزها هو تقوية للتشكيلة الإقطاعية وسيرورتها الطويلة في الحياة العربية، لأنها تشكيلة متكاملة ومتجذرة ليس في الحياة السياسية ولكن أيضا في الحياة الاجتماعية والفكرية.
ونظن لو كان المناضل والمفكر مهدي عامل حيا، لكان قد راجع الكثير من أفكاره، التي كان يعززها حينذاك وضع عالمي مختلف . .

 

خاتمة

تناولنا في هذا البحث علاقة المثقف العربي بالتكوينات التاريخية الكبرى، حيث بدأت العملية التاريخية المستمرة حتى الآن بظهور الإسلام، كشكل من أشكال الثورة الاجتماعية التي تمت في مجتمع رعوي، وحيث لم تظهر تشكيلة اجتماعية حينئذ، أي لم تحدث سيادة لعلاقات إنتاج معينة، ولعب الدين كثقافة نهضوية دوره في تشكيل قفزة حضارية للقبائل الرعوية، ولكن هذه العملية التحويلية انتقلت الى بلدان المشرق الزراعية ذات التاريخ العبودي المعمّم، التي فلح الإسلام والعرب في تفكيك طابعها العبودي القديم، وانتقلت الى النظام الإقطاع المركزي في عهدي الدولتين الأموية والصدر الأول من عهد الدولة العباسية، ثم الإقطاع اللامركزي في العهود التالية.
وقد تشكلت ثقافة المعارضة على أساسيين:
الأول: عبر التغيير الداخلي والإصلاح والثورة وهذا ما عكسته حركة الاعتزال والزيدية والمذاهب السنية القياسية، ولكن هذه عبرت عن فئات وسطى تابعة للأشراف، أي للدولة المتحكمة في الموارد، والتي تمكنت من استخدام إمكانياتها في اعادة تشكيل الإسلام والقضاء على المعارضة الإصلاحية والثورية داخل النظام الاجتماعي، بسبب أسلوب الإنتاج المعتمد على ملكية الأشراف للأراضي الزراعية الكبرى والثروة العامة. وبهذا فإن قادة المثقفين الإصلاحيين داخل النظام الاجتماعي لم تستطع أن تطوره.
الثاني: عبر الثورات والتمردات من الخارج، وهي التي اعتمدت فكريا تكفير النظام أو خلق بديل إقطاعي أسري آخر، وتلاقت مع ثورات الشعوب الرافضة للحكم المركزي، مما أدى الى تفكيك النظام المركزي، وإعادة إنتاج علاقاته الإنتاجية والثقافية على مستوى الأقليم، وبالتالي تكرار نهضته على نحو أوسع، وتكرار أزماته على نحو أعمق وأحد.
فلم تستطع العناصر العقلانية والديمقراطية في إنتاج المثقفين العرب والمسلمين أن تتناسج وأسلوب إنتاج جديد، هو بطبيعة الحال الأسلوب الرأسمالي، حيث كانت الفئات الوسطى المقتدرة تابعة للإقطاع، فغدت أغلبية أشكال الثقافة العربية تابعة للإقطاع العام أولا، ثم للإقطاع المذهبي بعدئذ.
فهيمنت المذاهب المعارضة في مرحلة نمو الفئات الوسطى داخل الإمبراطورية الموحدة، كالقدرية والمعتزلة والزيدية، ثم في مرحلة إلحاق الفئات الوسطى بالإقطاع تم تشكيل المذاهب الدينية التابعة للسلطة والتي تتوجت بالانقسام السني الشيعي.
إن العناصر العلمية والديمقراطية والثورية في الاتجاهات المعارضة وأعمال العلماء والفلاسفة لم تستطع تأسيس نظام جديد، بسبب تقطع صلاتها ببعضها البعض، وعدم قدرتها على تشكيل منظومة نقدية للواقع، تتجسد في برنامج تحولي ديمقراطي يعيد تشكيل حياة الفلاحين والنساء ويغير السلطة الشمولية.
وفي العصر الحديث برزت العناصر العقلانية والديمقراطية في عملية الانبعاث مع إعادة هيمنة الأنظمة الإقطاعية التابعة كصفة ترافقت ونشوء المنظومة الإمبريالية، كوعي الأفغاني والكواكبي، وتنامت هذه العناصر الديمقراطية في الحركة الليبرالية والوطنية، ولكن الاستعمار كجزء من البنية الإقطاعية المذهبية أعاد تفعيل الشبكات الإقطاعية الطائفية للتصدي لعملية التحرر والتقدم العربية.
وتشكلت في القرن العشرين فكرة تجاوز الرأسمالية كتيار هائل في الشرق، ونخرطت التيارات العربية الوطنية في هذه العملية، وأخذت تتجه لتجاوز الرأسمالية، وقامت بفعل مشابه للتيارات العربية الدينية في العصر السابق، بعدم حل إشكالية المنظومة الإقطاعية وتصفيتها، وبالتالي الدخول في مرحلة رأسمالية تحديثية علمانية وديمقراطية، أي عبر إنجاز مهام الثورة الوطنية الديمقراطية بشكل شامل، وتصفية الإقطاع في مستويات البنية المختلفة، ففي المستوى السياسي، بإزالة الأنظمة المذهبية والمستبدة، وفي المستوى الاجتماعي الثقافي بتحرير النساء والإسلام من هيمنة الإقطاع الديني.
ولكن التيارات المعارضة العربية اتجهت للتصالح مع البنى الإقطاعية ومعارضة الليبرالية، وقد أخذنا نماذج من بعض المفكرين وقمنا بتفكيك منظوماتهم الفكرية، وخاصة المفكر اللبناني الراحل (مهدي عامل)، وراينا الى أين تقود عمليات القفز على المنظومة الحديثة. وكيف كان المثقفون الليبراليون والديمقراطيون العرب أقرب إلى المهام الحقيقية للتاريخ عبر إعادة تغيير المنظومات العربية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
دراسة نشرت في المسار: مجلة اتحاد الكتاب التونسيين، العدد 63/64 ماي، جوان،جويلية 2003.
هوامش:
(1): (تتباين أشكال المثقفين الثوريين في هذه المرحلة فابن المقفع هو كاتب داخل طبقة الحكام الجدد، يمتلك حسا حضاريا مستنيرا، فاعتبر الثورة العباسية لحظة تاريخية في الإصلاح المنشود الذي تركزت عليها كتاباته، فدعا الخليفة لخطة إصلاحية اجتماعية وسياسية متكاملة، ونظرا لكتابته عهد أمان محكم لأميره المتمرد على الخليفة المنصور فقد وقع في صراعات الطبقة الحاكمة الدموية وراح ضحية لذلك.
● راجع بصدد دور ابن المقفع:
(1): (مقدمة الأدب الصغير والأدب الكبير، من كتابة إنعام فوال، دار الناشر العربي، ط 2، 1996، بيروت، ص 9.
(2): (ضحى الإسلام، ج 1، ص 195).
○ أما الإمام أبي حنيفة النعمان فهو الفقية المستقل الذي قام بتطوير عناصر القياس والرأي التحديثي في المدينة الإسلامية، وناصر القوى المعارضة، فعاقبه نفس الدكتاتور أبوجعفر المنصور حتى الموت في سجنه.
(3): (حول دور الإمام أبي حنيفة النعمان راجع: (حمد أبوزهرة، الإمام أبوحنيفة النعمان: حياته وعصره، دار الفكر العربي، ط2.)
○ ومحمد النفس الزكية هو الذي قاد تحالف المعتزلة ــ الزيدية لإسقاط الدولة الأموية وبعد ذلك ضد الدولة العباسية، ولكن موازين القوى العسكرية التي شكلتها الدولة الأخيرة عبر الخراج واستنفار بدو خراسان تمكنت من القضاء عليه.
(4): راجع بهذا الصدد: محمود إسماعيل: فرق الشيعة، فصل الزيدية: الدعوة . . الثورة . . الدولة، ص 31، سينا للنشر، ط 1، 1995.
○ أما بشار بن برد فهو الشاعر الذي انبثق من الحركة الاجتماعية للمولدين، التابعين للقبائل العربية المهيمنة، وظهرت فيه مشاعر وشعارات التململ على هذا الوضع الذي لا يتسم بالمساواة، وقاده الى التعصب للفرس كرد فعل، وقُتل بسبب سخريته من الخليفة المهدي.
(5): راجع: بشار بن برد، دراسة وشعر، دار الرائد …….
* : جميع الهوامش سقطت (مع الاسف) من عدد المسار مجلة اتحاد الكتاب التونسيين، العدد 63/64 ماي، جوان،جويلية 2003.

عبــدالله خلـــــيفة: المثقف العربي بين الحرية والاستبداد

الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الاسلامية

تطور الوعي الديني في المشرق القديم

 جذور الصراع

 لقد حدث الاستقرار الزراعي في منطقة المشرق بعد العصور الحجرية القديمة والمتوسطة ، التي كان الناس فيها صيادين وجامعي ثمار ، وفي العصر الحجري الحديث ، وفي قمته  ، بدأ الانقلاب الزراعي ، ونجد في الحضارة (التاسية) المصرية الشكل المزاوج بين الصيد والزراعة ، وفي حضارة (البداري) ، المصرية كذلك ، حدث الشكل الزراعي المكتمل ، فظهرت القرية الزراعية ،  (1) .

 من هذه القرية الزراعية الأولى تطورت المدينة المهيمنة على بقعة زراعية ما ، وظهرت فيها دولة المدينة ، وتشكلت السلطة الأولى في المعبد الديني التي يبرز فيها الكاهن أو الساحر. لقد  كان لهيمنة المعبد على الإنتاج دورها  في التضفير بين الدين والدولة ، وفي السيطرة  المركزية  في  دولة المدينة. إن ازدواجية دور الكاهن/ الحاكم ، أو الساحر / الملك ، يضفي سيطرة شاملة من قبل الدولة على المدينة  من خلال الدين . والحقيقة  إن الآلهة  ليست  هي التي  تحكم  المدينة  حقيقة ، ولكنه الساحر ـ الحاكم أو الملك ـ الكاهن ، ولكن السحرة والكهنة لا يحكمون إلا من خلال هذه  الميثولوجيا ، فهذه الأساطير هي التي تبقى دائمة ، ويتم عبرها تشكيل السيطرة السياسية  المتحولة الملموسة. إن الملوك والكهنة في المدينة وهم يسيطرون  على المعبد  ، مركز الملكية الإنتاجية العامة ، يسيطرون كذلك على إنتاج الوعي وخطوطه العريضة .(2).

 ومن المؤكد إن ثمة جذوراً عميقة  وبعيدة  لهذه  السيطرة ، في الملكية المشاعية وفي الأدوار الهامة التي  تلعبها  العناصر المثـقفة ، والتي هي من ثمار الانقسام بين العمل الذهني والعمل  اليدوي ، وهي التي  ستشكل المدخل للانقسام الاجتماعي بين المالكين والعاملين ، فالسحرة والملوك  وإداريو المعابد ، وهم  يسيطرون  على  إدارة المعابد يمثـلون هذه القوى الذهنية وقد بدأت بالتحكم في العمل اليدوي والخيرات التي ينتجها. إن الانقسامات الاجتماعية الأخرى تبقى متوارية ، فالانقسام بين الرعاة  والمزارعين لا يتضح هنا ، لكون القبيلة التي  انتقلت إلى  الزراعة  بدأت  ذلك من زمن موغل في القدم ، ويعتمد الأمر على إنتاجية الزراعة الهامة  المركزية  في  هذه الحقبة ، وكون الرعي يظل مهنة صعبة وملحقة بالقرية أو المدينة .(3).

 وهذه السيطرة  المتوارية  للزراعة  على الرعي ، تغدو  سيطرة  واضحة  متصاعدة للرجال على النساء ، عبر هذا  الانقلاب  الذكوري  المستمر . لكن في قلب الانقلاب يظهر  العنصر المثقف  والسياسي ، يظهر  العمل  الفكري  وهو  يسيطر على العمل اليدوي ، مثلما تتركز السلطة الروحية والسياسية  تدريجياً  في نموذج وحيد في دولة المدينة.

 إن الإنفكاك الذي  حدث  في صيغة  الكاهن ـ الملك ، باتجاه  هيمنة الملك ، تعود إلى تنامي   أجهزة الدولة ، وأتساع مهماتها ، من إدارة الدفاع وشن الحروب وتوسع الدولة ـ المدينة  ، فالصرف  المستمر على  الطبقة  المسيطرة  المتشكلة  حديثاً ، أو قديماً ، يتطلب التوسع في الأراضي المملوكة للمعبد ، وسيكون هذا قانون من قوانين التطور والهلاك  في  المدينة / الدولة المسيطرة . فهذا التوسع يتطلب النمو  المتواصل للقوى العسكرية، وسيعتمد  ذلك على  حجم القبيلة  أو القبائل  المستقرة ،  ويؤدي إلى ضم مناطق الجيران وإلحاق  المناطق الرعوية أو الزراعية بسيطرة  المدينة ـ الدولة ، مما يقود إلى أتساع الموارد والسوق التجارية ، وهذا  يؤدي إلى المركزة في إدارة الدولة السياسية ، وتغلب الملك على الكاهن ، وصيرورة الكاهن ملكاً ، والملك كاهناً .  لكنه يؤدي من  جهة  أخرى ، إلى الاصطدام  بالجيران  وقيام  المناطق  الأخرى  والمدن والقبائل الرعوية بالهجوم على المدينة / الدولة ، التي غدت (الكنز) الذي تجمعت فيه تراكمات العمل المحلي والمناطقي ، لتتشكل عملية إعادة توزيع.

إن هذه العمليات الطويلة من الصراع  والإنتاج  والتراكم تؤدي إلى التوسع المستمر في دولة المدينة نحو التكوين  الكبير ،  سواء  كان  على هيئة دولة من عدة مدن ، أو على  شكل إمبراطوريات ، تجري فيها هذه  العمليات الصراعية التحولية على نطاق المنطقة ، لكن قانون هيمنة القصر / المعبد يظل سارياً ، فالقصر هو الذي يهيمن على المعبد ، فالسوق ، فالإنتاج وكافة مظاهر الحياة الأساسية .

 وفي الوقت الذي تجري فيه هذه  العمليات الصراعية الاجتماعية ، فإن الجانب الديني لا ينفصل عنها ، فهو جزءٌ رئيسي من تكونها ، من حيث إنه نتاجٌ عامٌ لتشكلها وأداة لترابطها ولوعيها  بالعمليات الاجتماعية ، فيظهر  بأنه  هو الذي  يصوغ تاريخها ، وليست هي التي تشكله.

( إن الآلهة كانوا يرقبون عن كثب أحداث الساعة  وقضاياها  البارزة عند قيامهم بالتحديد السنوي لمصير بابل وأهلها ، كما كانوا  يؤكدون وجودهم  الطاغي في كل مكان ، وتأييدهم أيضاً  للنظام السائد وسلطاته المستمدة منهم. ) ،(4) .

 ومن الواضح إن الآلهة لم يكونوا يؤكدون ذلك عبر وجودهم المباشر ، بل عبر الأجهزة السياسية والكهنوتية . لقد  تم ظهور (مجمع للآلهة) الذي  يباشرون منه سلطاتهم المتعددة ، والمجمع  يشير إلى العائلة الملكية  الإلهية ، أو القبيلة  النوار نية الحاكمة في  الأعالي ، وهي ترميز للطبقة الملكية / الكهنوتية التي يتمثـل فيها النور والعلو والسيادة . وإذا جئنا  إلى قراءتها ، في  بعدها الاجتماعي ، فالأسرة الإلهية المتعددة المتصارعة المتضامنة ، تشير إلى تعدد  المستويات السياسية في المدينة ، فهناك الأسرة  الملكية الحاكمة الحقيقية ، وهناك الكهنة في المعابد المختلفة والإدارات المختلفة . وإذا  كان  الرجال قد فرضوا سلطتهم  العامة  على النساء ، إلا  أن  النساء  متواجدات  في الأعمال الزراعية  وفي الحياة العامة بقوة ، وهذا ما يشير إليه الحضور الهام للإلهة الأنثويات ، أنآنا، وعشتار ومثيلاتها في المشرق.

لكن ظهور الإله المهيمن في الأسرة الملكية الإلهية يبدو واضحاً في كل تشكل سياسي عام ، بهيمنة (آنو) وتصاعده المستمر في الميثولوجيا الرافدية ، حيث يشير إلى هذه الوحدة السياسية المتعاظمة في جنوب ووسط العراق . إن أنليل  يظل مستمر الوجود معبراً عن عدم الانطفاء للمناطق السومرية  النهرية ، كذلك فإن (مردوخ) يكبر مع تعاظم نفوذ الدولة البابلية ، وكذلك يتصاعد إله (أشور) مع أتساع إمبراطوريتهم.

السلطة والمجتمع الزراعي

 إن هذه المجمعات من الآلهة تشير كذلك إلى عدم الانصهار في عملية  سيطرة دولة المدينة على المدن  والمناطق  الأخرى ، حيث  تقوم  بترك  السلطات المحلية في سيطرتها ، وتأخذ (الغنائم أو الأسلاب أو الخراج) منها ، فتتحول الآلهة المناطقية إلى المجمع العام للآلهة وكتوابع للآلهة الكبرى ، مثـلما  يحدث بالنسبة  للمناطق التي تغدو مُلحقة بالمدينة ـ المركز ، أو مثـلما يحدث بالنسبة للحكام الإقليميين الذين يغدون ولاة أو نواباً للملك. (5).

 إن المدينة / الدولة ، حيث الزراعة هي العمل الإنتاجي الأساسي ، وتأتي الحرف والتجارة كمهن مُكملة ، تقوم  بإعادة إنتاج نفسها على  مستوى  دوائر تتسع دوماً ، ملتهمة الدوائر الأخرى دون أن تلغيها ، وهدف العملية الحصول على الفوائض المالية دون أن تحدث عمليات تقدم كبرى في الإنتاج.

 فكما أن الحرف الهامة متخصصة في الإنتاج  للقصر ، وكما  تتبع العمليات الثقافية من تنجيم وفلك وطب حاجات الأرستقراطية المختلفة ، فكذلك  تتبع الآلهة تبدلات وأهداف الحكام . وعلينا  أن  نرى التبدلات الكبرى للآلهة كحصيلة  للصراعات الشاملة غير المرئية في العراق ، بمعنى أن  نقرأ أسباب العلو المستمر للإله (آنو) والانطفاء التدريجي للآلهة الأخرى.

لقد أعطى السومريون أولى الملامح  والملاحم لكيفية نشؤ  الآلهة ، لقد  ازدهرت ( الثقافة السومرية في الجزء الأسفل من حوض دجلة والفرات  وحول الشواطئ العليا  للخليج العربي ، منذ مطلع الألف الرابع قبل الميلاد ) .(6).

 وتقول أسطورة  الخلق السومرية بأنه في بدء الكون ، لم  يكن ثمة أحد سوى الآلهة الأنثوية( نمو) ، وهي المياه الأولى التي أنبثق عنها كل شيء ، وقد أنجبت الآلهة نمو ولداً وبنتاً ، والأول هو (آن) إله السماء المذكر ، والثانية (كي) آلهة الأرض المؤنثة ، وكانا ملتصقين مع بعضهما ، وغير منفصلين  عن أمهما ، وتزوج الأخوان وأنجبا (أنليل) إله الهواء الذي كان في مساحة ضيقة  بينهما ، حتى قام  بإبعاد أبيه عن أمه . رفع الأول فصار سماءً ، وبسط الثانية فصارت أرضاً، وكان يعيش في ظلام دامس ، فأنجب  أبنه نانا إله القمر ، الذي أنجب بدوره (أوتو) إله الشمس .

 ويفسر فرس السواح هذه الأسطورة بشكل  طبيعي ، فيقول إنه في البدء لم يكن سوى المياه التي صدر عنها كل شيء وكل حياة ، وفي وسط المياه  ظهرت أرضٌ ، متحدة بالسماء ، ومن اتحادهما ظهر الهواء ، ولم يكن القمر السابح في الهواء إلا أبناً له الخ .. (7) .

 لا شك إن التفسيرات الطبيعية والاجتماعية والنفسية التي ساقها المؤلف فرس السواح (8) ، لها جذورها ، ولكن الآلهة  تعبير كذلك عن السلطات المختلفة ، وهنا نجد الأسطورة الدينية تحدد التحولات السياسية التاريخية بين المجتمع الأمومي والمجتمع الذكوري . حيث مثلت الأم  ذلك  المجتمع الراكد المحدود ، من  وجهة  نظر صائغي الأسطورة ، وهي التي كانت فيه سيدة  الوجود المائي الزراعي ، والمجتمع الأمومي هو الذي شكل الزراعة عند شواطئ الأنهار ، وعبر تراكماته  الاقتصادية والبشرية ، أوجد العائلة  الأبوية الأولى ، حيث لا  تزال الأم  قوية  فيها ، ولكن الابن  شكلّ الانقلاب الذكوري عبر الانفصال عن سلطة  الأم  والأرض  والزراعة  فيها ، وعبر الصعود إلى السماء . إن ظهور السماء المنفصلة عن الأرض ، وتشكل السلطة الأولى المفارقة للمنتجين ، عبر الإله (آنو) ، حيث سيهيمن في الأعالي ، تعبر عن الانقلاب الذكوري القديم الأول ، الذي وضع التمايزات الأولى بين السلطة السياسية والمنتجين المزارعين. لقد كانت السماء في  وعي القدماء هي مصدر المطر والنور  والهواء ، أي كل ما يغذي الأرض  والزراعة ، فهي الأصل في  وجود هذه الحياة . ويعبر ذلك عن وعي المهيمنين على المعابد والمدينة ، الكهنة والملوك ، الذين ارتفعوا عن العمل في الأرض ، وصاروا قوة مسيطرة فوقية، أصبحت تتماها والسماء الرفيعة، وتضع السمات (النورانية) على وجودها الاجتماعي ، لكنها  بعد  لم  تستطع الانفصال الكلي المطلق عن الأم والمنتجين.

 هكذا فإن انبثاق (آنو) يضع الانقسام العام في التاريخ الديني الأسطوري والاجتماعي ، بين السماء والأرض ، بين الرجل والمرأة ، بين المالكين  والمنتجين ، بين المسيطرين ذهنياً وسياسياً و العاملين . ولهذا  فإن صفات  الخلق والنور ستعطى للوعي ، أي للقابضين على إنتاج الفكر والسلطة ، في حين إن صفات المادة  والطين والعمل والعبودية ستعطى للمنتجين الماديين.

إن عناصر التضاد بين السماء  والأرض ستلعب أدواراً كبرى  في  مختلف  تجليات الوعي الديني ، وستغدو الأرض والمرأة أكثر فأكثر، مصدراً  للشر والفساد وتتشكل من طبقات الأرض السفلى مستويات  الجحيم الخ ، في حين  ستكون السماء مركزاً للنور والقوى المشعة الخيرة والملاذ للأرواح الطاهرة.

 إلا إن ذلك  كله تعبير عن السلطة السياسية  والفكرية والاجتماعية ،  وتمركزها في الطبقات العليا ، التي ستعيد إنتاج النور والعلو  والسيادة ، عبر المقولات المنتجة في كل عصر ، وهي هنا  في العصر السومري المتداخل في فضاء العراق الجنوبي البابلي لاحقاً ،  تستعين  بمواد الأسطورة  في تفسير  نشؤ  الكون وتشكل السمات الرئيسية للمجتمع .

 كذلك تشكل الإله السومري الخاص وهو (أنليل) . إن صعود أنليل مترافق مع تبلور سلطة المدينة / الدولة ، الشكل الأولي لظهور السلطة والحضارة  في بلاد الرافدين ، ويعبر هذا التواصل بين الأب آنو  والابن أنليل عن هذه  السيرورة الاجتماعية المتراكمة بين المجتمع الأبوي في انقلابه الأول  بالسيطرة  على النساء والفضاء الاجتماعي ، وبين تبلور ذلك كسلطة مدنية محددة في الأجيال اللاحقة.

 وتقول  الأسطورة  الشعرية : أنظر  إلى  نيبور عماد  السماء  والأرض  هي / أنظر إلى نيبور المدينة / ترى أسوارها العالية /.. هناك  أنليل  فتاها  الغض /  هناك ننليل فتاتها  الشابة)  ثم  تبدأ الأسطورة  في  تمجيد الإله المسيطر : ذو العينين البراقتين ، السيد ذو العينين  البراقتين / الجبل  العظيم ، أنليل الأب../ الراعي ، سيد المصائر ..) .( 9) . 

 لقد تشكلت المدينة كدولة ذات  موارد  زراعية  ومائية  وفيرة  وتجارة  ولها أسوار ويهيمن فيها المعبد والإله الذكوري ذو الأهمية  القصوى (الراعي ،  سيد المصائر) التي تقول  عنه قصيدة أخرى (أنليل مليكك ، أين مضى؟) . وبهذا  فإن الخطوط العريضة بين المستوى الديني  والمستوى الاجتماعي التاريخي قد تشكلت ، وصار الوعي  وهو يستهدف إجراء العمليات التغييرية ، يعيد إنتاج الأسطورة ، أو إنه يقوم بعملياته التحويلية السياسية ثم يضفي على الأسطورة التغيرات المناسبة لهيمنته.

 مستويات الغيب المهيمن

 تمثـل صيغة التحول السابقة الخلية الأساسية  في البنية الاجتماعية للمجتمع الطبقي ، في المشرق ” العربي ” ، كما يظهر في التاريخ المكتوب ،  بجانبيه المادي  والروحي ، فحيث يغدو الكاهن / الملك مهيمناً على المعبد  والملكية العامة الزراعية ، فإن الجوانب الثلاثة : السياسية والفكرية  والإنتاجية  تتداخل ، وتصير نظاماً اجتماعياً  يتبادل التأثير بين مستوياته الثلاثة.

 إن الملكية الزراعية المعتمدة على الري ، تتطلب تسارع أدوات السلطة لضبط عملية الري في  الجنوب العراقي ، الذي  بدونه لا تتشكل الزراعة ، مما يؤدي إلى تـنامي الأجهزة العامة ، وإبقائها على الملكية العامة القبلية  والقروية ، وتصاعد  نفوذ الدولة على المناطق المجاورة ، وجعل  إله المدينة  يشكل الوحدة الفكرية لأهلها ، ثم يتمدد إلى المدن والمناطق التالية ، فيصعد على الشبكة الواسعة من الآلهة الصغرى المختلفة ، فيبدو الإله وكأنه هو الذي  يصنع التطور ، وتبدو الحركة  الطبيعية والاجتماعية كنتاج لمجّمع الآلهة ، أي لهذه القبيلة الإلهية الترميزية للوجود البشري القبلي المسيطر في سيرورته التاريخية.

 إن الانقسام بين آنو وكي ، بين الإله الذكوري المهيمن والآلهة الأنثوية المهيمن عليها ، يشير إلى التضاد الواسع بين الرجل والمرأة ، بين الإدارة السياسية ـ الدينية والعامة ، متخذاً من المظهر الطبيعي بالتضاد  بين السماء والأرض  جسده الفكري ، فيتشكل هنا التضاد  كذلك  بين الغيب  والمرئي ، بين التصورات  الذهنية  المفارقة والحياة ، بشكل أولي وغير تجريدي ، لكون  كافة الآلهة  تتكون في الملموس ، في التجسيدات المادية  والتمثلات  البشرية. أي لكون الوعي البشري عند  المنتجين الذهنيين والمنتجين اليدويين متقارب ، مثل التقارب الاجتماعي بين الحاكمين والمحكومين.

 وإذا كان ثمة غيب  سماوي  يبرز  في الأعالي ، فإن  ثمة  غيباً  يتشكل  في طبقات الأرض السفلى ، حيث يغدو  هذا الغيب السفلي مسئولاً عن ظاهرات الموت والأمراض والغياب البشري الأرضي ، ويتوحد هذا  الغيب  الأدنى بالكائنات  [الدنيا] ، أي بالحشرات والزواحف ، والعديد من الحيوانات التي ترافقت مع الموت . إن الموتى في هذه الحقبة ينزلون إلى طبقات الأرض السفلى  حيث  (ويخاطب الرجل العقرب كلكامش الذي يريد النزول إلى عالم الأموات قائلاً : إنه من غير مستحيل ، يا كلكامش، لم يعبر أحدٌ مسالك الجبال الوعرة . حتى بعد مسافة اثني عشر فرسخاً يحلك الظلام ، ولا يعود هناك نور) ، (10) .

 وفي  الزمن  السومري  فإن الآلهة الأنثى هي التي تنزل تلك  الطبقات السفلى الرهيبة ، مما يؤكد استمرار بقايا المرحلة الأمومية ، معطية دلالة تفسيرية للزمن ولتحولات الطقس ، حيث الغياب والحضور للشمس والقمر والشتاء والربيع ، وفيما بعد سيكون هذا النزول للإله الذكر (تموز) ، معرباً عن التغلغل الذكوري  الواسع في المنظومة الإلهية ، وعن توظيف هذا العالم السفلي لتحولات أخرى كبيرة.

 إذن فإن  الغيب ، المعبر عن سيطرة الطبقة العليا، وسواء كان  سماوياً أم  أرضياً سفلياً ، هو الذي  يمسك بدفة الوجود البشري ، عبر تمثلات المرحلة الراهنة . إن التضاد  القصي  بين السماء  والأرض السفلى ، هو تضاد تجسده الصور الحادة بينهما ، فالأولى لها النور  والمطر  والهواء ولها الوجود السرمدي ، في حين إن  الأخرى  تتصف  بالظلام  والفساد  والأمراض . إن الوعي البشري هنا يتمثل تناقض الحياة والموت ، والصحة  والمرض ، والربيع والجفاف ، والحلم والواقع الخ .. ولا شك  إن  هذه التضادات  الوجودية  والاجتماعية مرتبطة  كذلك بالتناقض بين الناس والسلطة ، فالسلطة السياسية   والكهنوتية هي الحياة  والنور  والبقاء الأبدي ، حيث أعطى الملوك  لأنفسهم صك التوحد مع الآلهة ، والإلغاء التام للناس ، مثلما يحدث في الحياة السياسية حيث تتصاعد الهيمنة المطلقة للحكام . إن ثمة هوة  إذن بين السماء والأرض السفلى . لكن كلتيهما تمتلكان الحضور  والسيادة  في  الوعي  الغيبي ، بلونين  متضادين ،  في  حين  تبقى الأرض غائبة . وفي التضاد المطلق بين السماء والأرض السفلى ، بين النور الأقصى ، والظلام والمرض والموت يتشكل التضاد بين الإله النوراني الخير والشيطان ممثل الشر ، وهذا التضاد الذي سيتطور في إنتاجه عبر ثـقافات شعوب المشرق المتداخلة.

إن هذه  الخطوط  العريضة لتشكل الدين ستغدو  هي الملامح  الجوهرية للمراحل اللاحقة.  فوجود مدينة  تطلع من عماء المياه الأولى ، من الغمر ، ومن  الزراعة الأمومية ، ليسود فيها الذكر وقوته  العضلية ، ملتحماً بالثور الحيوان الأقدر على شق التربة ، عبر  الأدوات المعدنية ، لتتكدس الثروة  في المعبد فيديرها  الملك الكاهن ، فترسم في السماء الرموز الإلهية لهذا  التحول الأرضي . إن هذه المدينة التي تلحق الريف والأقسام الرعوية  بسلطانها ، ستعيد إنتاج نفسها في جغرافيا وتاريخ المشرق ، وفي البدء ستكون هذه المدينة مدينة زراعية خارجة من  فيض  المياه ، وسيشكل هذا وحدة صراعية بين المؤسسة السياسية الصاعدة المتحكمة ، وبين القاعدة السكانية الفلاحية .

 إن  الجغرافيا الطبيعية أعطت لهذه المدينة مصدراً  للثروة ، فتصاعد  دور المعبد  فيها ، وفي المراحل  الجنينية الأولى يحدث التداخل بين الكهانة والملكية ، حتى إذا ازدادت ثروة العمل البشري ، حدث الانفصال بين  فئتي  الهيمنة السياسية  والدينية ، دون أن يُـلغى التداخل ، وبدون  أن  ينتهي الصراع.

والمدينة ليست مدينة صناعة ، بل مدينة زراعة وتجارة  وحرف ، ويلعب القصر [وتابعه المعبد] دور الفاعل الرئيسي في تطورها  أو اندثارها ، فمختلف تجليات الإنتاج تــُلحق به ، لكونه يسيطر على الملكية العامة ، مثلما  يسيطر على  الملكية  العامة الثقافية ، أي الدين ومنتجاته.

 صعود التضاد بين الزراعة والرعي

إذا كانت الحرف والتجارة لا تستطيع أن تكون إلا داخل المدينة ، فإن الرعي لابد أن يتشكل وينمو خارج المدينة . وفي البدء أيضاً كانت الزراعة هي أساس تشكل المدينة ، فظهرت المهن الأخرى في أسواقها ومركزها . لكن الرعي أمتلك خاصية تجاوز المدينة وحقولها ، والنمو في البراري. وقد أعطت التطورات الإنتاجية خاصة ، الرعي ، إمكانية الانفصال المستمر عن المدينة والزراعة ، دون القدرة على الإنفكاك الكلي منهما . وعبر ظهور تقسيم العمل والتبادل راحت هذه الأقسام الاقتصادية بالنمو ، كل حسب موقعه من علاقات الإنتاج . لقد تحرر الرعي من الهيمنة المباشرة للسلطة واستغلالها ، رغم عدم قدرته الكلية على الخروج من الاستغلال في عملية التبادل مع هذه المدن.

ومنذ بداية تشكل الإرث الفكري الديني في المنطقة كان هناك استشعار لتشكل التناقض بين الرعي والزراعة ، بين المنتج الرعوي الذي يبدأ   بأستنئاس الحيوان والعيش في البراري وصنع سلع خاصة ، وبين المدينة ـ الدولة ذات المحيط الريفي الزراعي ، والتي تغدو دائرة إنتاجية وسياسية متكاملة . إن  الرعاة يغدون خارجها باستمرار ، تدفعهم عملية البحث عن المراعي إلى الانتشار في المناطق البعيدة ، حيث تتوسع الرقع الزراعية وتنمو المدن ملقية إياهم أكثر فأكثر في الصحارى الكبرى . ويصبح النمو الطبيعي لهذين الفرعين من الاقتصاد الواحد تضاداً عميقاً ، فالمدينة تقوم بالانتشار وتوسيع رقع سيطرتها ، وهي في بداية تشكلها تجمع بين الزراعة والرعي ، حينما تكون أقرب للقرية ، ولكنها بعد ذلك تغدو متخصصة في إنتاجها ، مما يجعلها بحاجة إلى الإنتاج الرعوي . إن التخصص يؤدي إلى نمو الإنتاج المتنوع ، ولكن الرعاة يصيرون مشكلة عبر مستواهم الاجتماعي والفكري المختلف والمضاد للمدينة . والمدينة باعتبارها مركز التراكم المالي والثقافي ، تغدو في مواجهة للأقسام الريفية والرعوية ، التي تزداد انفصالا عنها.

 وإذا كانت المدينة هي قرية في البداية ، ثم تنمو قدراتها الاقتصادية والسياسية والعسكرية ، نافية الأقسام الرعوية ، فإنها كذلك تعلو على أساسها الريفي ، وبعدئذ تنفصل بشكل كبير عنه ، عبر تكدس الفوائض المالية فيها. لكن القرية تظل في المحيط الحضري المسيطر عليه ، في حين يفلت الرعي من هذه السيطرة ، ويتخذ لنفسه مسارات مختلفة.

 وفي البدء نرى في الأساطير السومرية تنافساً غير دموي بين الآلهة الزراعية والآلهة الرعوية في [الأسطورة السومرية ، تحكي لنا أن الإله إنليل Enlil  أراد أن يعمر الأرض ، فخلق لذلك مخلوقين أخوين ، «إيميش» للعناية بالحيوان ، و«إيتين» وجعله فلاح الآلهة] .( 11) .

إن المدينة السومرية التي لا تزال لا تعرف التضاد التناحري بين الزراعة والرعي ، تشكل وحدة تناغمية بين الاقتصاديين الوليدين ، ولهذا فإن الإله أنليل ممثل دولة المدينة السومرية ، يجعل للفلاحة إلهاً تابعاً له ، بينما الآخر هو للعناية بالحيوان . ونجد الجانبين الزراعي والرعوي متداخلين بصورة كبيرة : فإينتين [وجعل سمك البحر يلقي بيضه في المستنقعات والأهوار/ وجعل من نتاج النخيل والأعناب الدبس والخمر / وأكثر من ثمار الأشجار حيثما نبت الكلأ / وجعل الحقول تكثر من غلا لتها ] في حين إن إيميش هو الذي [ أوجد الشجر والحقول / وجعل حظائر الماشية والأغنام كثيرة / وأكثر من نتاج المزارع / وجعل الكلأ يغطي الأرض / وملأ البيوت بغلال الحصد/ وجعل الأهراء زاخرة ممتلئة] ، (12).

 إن التداخل كبير بين الشخصين الرمزين ، كالتداخل في المستويين الاقتصاديين ، إلا أن الفلاحة هي التي لها الألوهية ،  وفيما بعد سينمو التضاد وسيعلو الراعي في الأساطير. فالآلهة أنانا السومرية تعتزم اختيار زوج فيشير لها الإله أوتو إله الشمس باختيار الراعي المكتنز أشياء كثيرة والذي يزخر باللالىء والأحجار الكريمة ، لكنها تفضل الفلاح «أنكيميدو» (الذي يكثر من إنتاج الزرع / الفلاح الذي يكثر من إنتاج الحبوب) ، (13).   

  وفي نهاية القصة تفضل أنانا الراعي.

 وتفضل التوراة كذلك الراعي على الفلاح ، [وكان هابيل راعياً للغنم وكان قايين عاملاً في الأرض . وحدث من بعد أيام أن قايين قدم من ثمار الأرض قرباناً للرب ، وقدم هابيل أيضاً من أبكار غنمه ومن سمانها ، فنظر الرب إلى هابيل  وقربانه ، ولكن إلى قايين وقربانه لم ينظر] (تكوين 4 / 12) . ولكن الحدث المساق عبر الرؤية التوارتية الرعوية هنا يحيل الفلاح إلى قاتل.

إن ذلك يعبر عن المسارات التي تشكلت في المشرق [العربي] بتعمق الانقسام بين المزارعين والرعاة.

 إن المزارعين المستقرين في بيوتهم وفي مدينتهم المحصنة ، أخذوا يتخوفون من القبائل غير المستقرة التي تعيش في الصحارى ، والتي تواجه مواسم متباينة من نزول المطر أو عدمه ، وتدفعها ظروف الفقر والمجاعات إلى الهجوم على المناطق الزراعية والمدنية. وتشكل المناطق الحضرية الجيوش لملاحقة وإبادة الجماعات [البربرية] و[الوحشية] ، وتتشكل مناطق زراعية ، ومناطق رعوية ، وتنمو القبائل والجماعات و«الأمم» منقسمة بين التكوينين الكبيرين.

 ونجد كيف نظر المصريون القدماء وهم في واديهم الخصب إلى الأمم الرعوية كأجانب ، ووضعوا الإله (أست) الشيطاني كرمز للرعاة ولعالم ما وراء النهر. ولم يحدث تداخل كبير بين العالم المصري الزراعي والرعاة إلا عبر الهكسوس وشعوب البحر الغازية ، ولهذا لم تتفاقم القوى العسكرية والعنف في المجتمع المصري مثلما حدث في المجتمع العراقي ، حيث التداخل الكبير بين المزارعين والرعاة . ولكنهم بعد طرد الهكسوس خرجوا إلى المشرق وكونوا الإمبراطورية ، ثم اعتمدوا على القوى العسكرية المرتزقة فحدث انهيار عميق في الحضارة المصرية . ولكن لا بد من القول هنا إن الرعاة كانوا دائماً يعيشون على أطراف الوادي وفي سيناء.

 وإذا كان الجمهور الفقير أو الغني في دولة المدينة ، أو المملكة ، المحكوم بأجهزة القهر ، أو بفائض المال ، لا يستطيع تاريخياً أن يغير النظام الاجتماعي ، حيث إن الدولة هيمنت عليه وقسمته ، فإن الرعاة المنتشرين في الفيافي وهم الأحرار والمسلحون يستطيعون ذلك حين يمتلكون العناصر البشرية والمادية والفكرية التي تجعلهم في مستوى أقوى .

  ولهذا نجد إن [الأمم الزراعية] فقدت كثيراً من القدرة على التغيير الثوري الداخلي ، في حين صار الحراك الاجتماعي في أغلبه من [الأمم الرعوية].

 إن ذلك يعود إلى أن الطبقة المنتجة الفلاحية ُمفككة في قراها الكثيرة المتباعدة ، وليس لديها قدرات عسكرية كبيرة ، في حين تستطيع الطبقات الحاكمة تخصيص جيش مُجهّز منفصل عن المزارعين ، وهي تجده عادة في القبائل أو الأقسام غير العاملة في الزراعة وفي المرتزقة ، ثم إنها تطبق العيش الإجباري في القرية وتمنع الخروج منها، فتجعل الفلاحين عبيداً في الأرض . وهذا هو النمط المسمى العبودية المُعممة.

 وحين تأتي قوى غازية تكون غالباً من هذه القبائل المسلحة الحاكمة أو المنتشرة في الصحارى ، أو أن المدن العبودية المسيطرة تستخدمها أو تستأجرها . لقد كانت الأقوام السامية الأولى كالبابليين والآشوريين والآراميين والعبريين ، أو القوى الإقليمية الغازية فيما بعد كالفرس والمقدونيين والرومان ، أو الأمة السامية الأخيرة وهي العرب ، هم حلقات من الأندياحات الرعوية الكبيرة ، وقد فطن إلى ذلك مؤرخنا أبن خلدون ، (14).

 إن الفترات والمراحل التاريخية تعطي لكل حملة  رعوية طابعها ومداها وآثارها ، وهي إذ ترتبط بمستوى تلاحم القبائل الفكري والعسكري ، عبر المناطق الرعوية التي تكونت فيها ، وبصلاتها وبتحولاتها و بمستوى إنتاجها وثقافتها ، فإن سيطرتها وديمومتها تتحدد بمستوى مقاومة المزارعين كذلك ، الذين لم يكونوا خارج التاريخ ، رغم إن الأمم المسيطرة ستجعل الأمر يبدو كذلك .

 صراع الرعاة والفلاحين على مستوى إقليمي

 إن الأمم الغازية [الرعوية] قد مرت بمراحل وتطورات اجتماعية وفكرية كبيرة ، ولا يمكن دمغها في تكوين مجرد كلي ، ولهذا فإن علينا تتبع الخطوط العريضة لنموها ، والمحصلة الأخيرة لتحولها إلى قوى غازية ، ولماذا تعجز أفكارها الأكثر تطوراً ربما من وعي المشرق [العربي] أن تخترق نواته الصلبة.

 فالاخمينيون الإيرانيون ، القبائل الرعوية الفارسية ، والتي سيطرت على المناطق الإيرانية ، وحدث التمايز بين إدارتها الملكية وجمهورها القبلي ، اعتمدت على الفكرة المجوسية في الصراع بين إلهي النور والظلام ، لكنها لم تتدخل في صياغة أديان المنطقة المستعبدة لها ، تاركة الجمهور الشرقي في معتقداته ، ولكنها استمرت في استغلال الشعوب بالطريقة القديمة ، عبر ترك المناطق الزراعية في انفصالها ، وإرسالها للضرائب أو الخراج ، وكأنها عبر حفاظها على هذه الفسيفساء واختلافاتها ، تضمن صراعاتها الجانبية وتبعيتها. وكان هذا بخلاف الأسلوب الآشوري المعتمد على الاستغلال البشع وفرض الإله واعتماد العنف كوسيلة وحيدة للسيطرة.

 لاشك إن للفرس الاخمينين  دوراً في تطور المنطقة الفكري رغم هذا الاستعباد ، ففكرة النور والظلام ، و مسألة إله الخير والشر ،  قامتا باختزال الشبكة المعقدة من آلهة الخير والشر ، وبلورتها في الإله الواحد أو الشيطان ، ولا شك إن هذا مثـل تقدماً روحياً على صعيد الوعي ، مما يعبر عن تقدم المنطقة باتجاه الوحدة السياسية والثقافية. وقد وضع ذلك [الحدود] الفكرية بين إيران والعالم الخارجي ، المعادي أو التابع ، وجعلها جزءً مهماً من المشرق.

 وتتشكل عبر هذا الوعي الصراعي بين النور والظلام اتجاهات الحركة الاجتماعية الإيرانية المختلفة ، فحدود النور ودوره أو اختلاطه بالظلام وغير ذلك من المسائل الغيبية ، تلعب دوراً هاما للوعي ، الذي يحولها إلى فعل اجتماعي ، وتتمكن هذه المسائل المجردة من إقامة التحالفات [النورانية]  ، حين يتسع الأفق الوطني الإيراني لشعوب مؤثرة أخرى.

 وعرفت تجربة الشعب الإيراني غنى خاصاً في بلورة سمات المشرق ، فالزرادشتية مثلت المرحلة الأرستقراطية في الهيمنة المنفصلة عن الناس العاملين وتكوين الدولة [القومية] ، ثم تشكلت المانوية كاتجاه صوفي غنوصي معبر عن فئات وسطى رافضة لاستبداد الملكية المطلقة وبذخها وحروبها ، وتتوجت العملية الثورية الإيرانية بالمزدكية وهي التي جسدت نضال الفلاحين من أجل الأرض .

 لقد عبرت المسيحية عن الآهات العميقة للفلاحين ، ولكنها  تراوحت  بين  الثالوث الإيراني ، أي بين قوى الأشراف والفئات المتوسطة والفلاحين ، فالأب ، مثل آن أو أيل ، الإله المفارق الذي يغدو غير مفارق ، بالتحامه بالابن الذي هو مثل تموز وأدونيس ، يختزل كل ديانات واحتفالات الربيع ، فلا ينفك عن إرثه الأمومي ، لكنه يعبر عن القوى السياسية والثقافية الفاعلة في خلق الصلات بين الأب [السلطة المطلقة المفارقة] والناس ، وهم حينئذٍ الفلاحون الغامضون في المنظومة.

إن حدوث التداخل بين المسيحية والمانوية أمر يشير إلى الطابع المعبر عن الفئات الوسطى حينئذٍ ، وخاصة لأولئك المثـقفين المكافحين بصورة سلمية ، والذين يحاولون تشكيل علاقات مختلفة عن نظام العصر القديم ، أي عن نظام الآلهة / الملوك ، إلى نظام الآباء / الأبناء ، وهو أمر يشير إلى الأضرار الفادحة ودمار ثروات المنطقة بالبذخ والحروب ، فيغدو نموذج المتقشف والراهب الذي يعمر الصحراء بالزراعة مؤشراً لضرورة تجاوز نظام العبودية المعممة في المشرق .

 لكن غزاة آخرين يقدمون من مناطق تداخلت فيها العلاقات الرعوية / الزراعية ، فالمقدنيون الذين هيمنوا على الحضارة الإغريقية كانوا نفياً قبلياً أرستقراطياً لحضارة المدن الحرة المتنوعة ، فوضعوا حداً لاضطراب  هذه المدن بين طرق مختلفة للتطور ، ولم يعد بالإمكان نمو الطريق الرأسمالي ، وقد كانت الحضارة الإغريقية بتناقضاتها العميقة ، تتوجه إلى انهيار نموذج دولة المدينة الديمقراطية ، وبدء العودة إلى الدولة الاستبدادية المهيمنة على العالم الزراعي ، في حين تتآكل الحرف والصناعات ، فتتدهور الأسس المادية للعلوم ، وتتزايد في الفلسفة الاتجاهات المثالية ، وتتويجها المعروف هو الصوفية .

 ولم تنتشر الثقافة الإغريقية في المشرق ، بشكل متساوق لمراحلها، فالمشرق الذي يحضر نفسه للعودة إلى ديانة الخصب بشكل موسع ، والذي رأى رعاة غزاة جدداً ، كان يتوجه لنفي التعددية الوثنية المفتتة لصفوفه [الوطنية] ،  وكان يبحث ويؤكد العناصر شديدة الغيبية ، المعارضة لثقافة الحضارة اليونانية العقلية المختلفة ، فالعقل اليوناني عنى للسواد الأعظم استغلالا وظلاماً. وحين عكف الرهبانُ و«الصابئة» على هذا الإرث اليوناني فإنهم قاموا بوضعهِ على سرير المشرق الديني ، فقطعوا أطرافه الماديةَ وضخموا في اتجاهاته المثالية والصوفية.

 لقد رأوا في اتجاهاتهم حماية لاستقلالهم السياسي وانبعاثا لهم ، وتفكيكاً لدولة الخصم الناهبة المسيطرة ، عبر مستوى موادهم الفكرية ، ومستوى جمهورهم الأمي الزراعي والبسيط.

وكانت الدولة الرومانية شكلاً متطرفاً من سابقتها . وقد أدت أعمالها العنفية والاستغلالية إلى التحضير لصعود القوى الإقليمية [الوطنية] ومن الداخل الرعوي هذه المرة.

 وقد مثـلت هذه الفقرة قفزة في التحليل ، بسبب التداخل الشديد بين الخارج والداخل في المنطقة ، ولكننا نعود في الفقرة التالية لمتابعة مسار التطور الرعوي الداخلي.

 بداية حضور الرعاة

 في أسطورة  الخلق  البابلي المسماة [اينوما ايليش ، أي عندما في الأعالي] المكتوبة في مطلع الألف الثاني قبل الميلاد ، نجد بعض الثيمات المشابهة للخلق السومري ، فلا تزال الأم هي الخصم ، وهي هنا (تعامة) لكن يوجد إلى جانبها إله ذكر هو أبسو ، وقد حدث نمو الآلهة الشابة الجديدة في أحشاء الآلهة القديمة مما سبب إزعاجاً لها ، ويحاول أبسو إبادتها ، لكن الإله الشاب (أيا) ينزع العمامة الملكية عن رأس آبسو، ويضعها على رأسه ثم يذبحه. فخططت تعامة لإبادة الآلهة الشابة التي ذعرت ، ثم أرسلت إليها الإله [مردوخ] الذي قتلها ، والذي صنع الأرض والسماء من جسدها ثم خلق الإنسان من دماء إله سجين وقتيل الخ ..

 إن بابل وهي تتحول إلى مدينة مهيمنة تستعيد الأسطورة السومرية في مرحلة حضارية مختلفة ، مثلما تعيد تشكيل السيطرة السياسية في وسط وجنوب العراق ، ولكنها أيضاً تبدأ من الأسس العامة السابقة للمجتمع السومري ، حيث  القصر والمعبد يتحكمان في الملكية العامة ، والملك يصعد ليتحد بالإله مردوخ ، لقد أعطى البابليون الإله [أيا] مكانة الأب الأول ، إرث الانفصال الاجتماعي والسياسي عن المجتمع الأمومي ، ولكن آبسو يشير إلى صعود الرجل في هذه القبائل الرعوية الأكدية التي استولت على العالم الزراعي بشكل متدرج ، مثلما استولت على ثروته الروحية .

 إن هذه العملية التغلغلية الرعوية في عالم الفلاحين ، ستتكرر بشكل مستمر ، وتعيد إنتاج نفسها في طبعات متعددة ، ويتكشف الطابع الرعوي في هذه الدموية التي يتصف بها الإله مردوخ ، التي تبتعد كثيراً عن الروح المسالمة التي اتصفت بها الأساطير السومرية الأولى ، وستقوم الدولة البابلية  بتوسيع المدى الجغرافي للحضارة السومرية ، دون تغيير الأسس العامة للنظام الاجتماعي ، ولكن الطابع التوسعي المستمر لسلطة المدينة / الدولة ، سيؤدي إلى التهام الجيران، بحثاً عن الفوائض المالية والثروات ، ويقود هذا إلى الحروب ، وظهور مدينة ـ دولة جديدة ، عبر قبائل أو أمم جديدة ، يغلب عليها الطابع الرعوي ، لتقوم بالتوسع وإعادة إنتاج الإرث الديني السابق ، عبر إلهها الخاص ، أو ملكها الكاهن الخ..

 إن الرعويين الساميين وهم يبدأون التحكم التدريجي في منطقة المشرق [العربي] سيكونون متداخلين مع الأقوام الزراعية الأولى، بشكل كبير . ولكن الرعاة فيما بعد سيتسعون ويهيمون . إن الأكاديين ، بفرعيهم البابلي والآشوري سيكونون القوى الأولى من الأقوام الرعوية المهيمنة وسيجعلون السيطرة تعم المشرق ، وهم الذين سيقومون بالتوسعات الحربية والسرقة المسلحة الواسعة والدموية للمناطق الأخرى ، فيتعزز الطابع الإمبراطوري ويتحول الإله ـ الملك إلى الضراوة والوحشية الهائلة.

  ولاشك إن العبرانيين هم أيضاً من هؤلاء الرعاة الذين تاهوا بين الأمم القوية ، ثم سيأتي الكنعانيون ، الذين سيندغمون بالزراعة والتجارة ، ثم سيأتي الآراميون ، الموجة قبل الأخيرة للرعاة ، وأخيراً سيكون العرب التتويج النهائي لتطور الرعاة وانتقالهم إلى المناطق الزراعية.

مقاومة أولى للاستبداد

 في هيمنة الملك / الكاهن على المدينة لا تتشكل السلطة الشاملة الدموية إلا بصورة تدريجية تاريخية ، فهذه السيطرة المتشكلة في عالم زراعي ، لم يفقد ترابطه القبلي ، ولا جذوره الأمومية ، تتوقف على النمو المتواصل لرقعة المدينة ـ الدولة ، وقد أعطى السومريون هذا الاتساع البطيء الطويل للانتقال من المدينة / الدولة إلى الدول / المدن المتعددة . وقد لعبت قوى الإنتاج ووسائل المواصلات النهرية والحيوانية المحدودة دورها في النمو البطيء للتوحيد السياسي . لكن الأكاديين، القبائل الزاحفة على الوسط العراقي قامت بتسريع العملية التوحيدية . ولهذا فان الفئات التجارية المختلفة ، كانت تنمو وتتسع . وكان هذا مجالاً للتطور الفكري والاقتصادي المتنوع.

وكذلك كانت مجالس القبائل والمدن الاستشارية تشارك الحكام في إدارات الحياة الاقتصادية والاجتماعية.

 لكن الصعود المستمر لآلة الدولة العسكرية كان يقضي على هذه الأشكال الجنينية من الديمقراطية ، حتى إذا وصلنا للحكام المطلقين فإن هذه المؤسسات تتوارى ، وتصبح البنية الاجتماعية ، بمختلف مستوياتها موظفة لهؤلاء الملوك، الذين يجرون بلدانهم للحروب التوسعية التي تعود على سكان الدولة بالكثير من الموارد والعبيد ، وتوسع المداخيل والتجارة ، والإنتاج الثقافي ، غير إن الشعوب المغلوبة والأقوام الرعاة البعيدة ما يلبثوا أن يشنوا الحروب ويثوروا ، ويؤدي ذلك كله إلى الخراب للمالك الزاهرة ، وإلى سؤ الأحوال والمذابح.

 في الصعود المستمر للطغيان السياسي، أو في أزمنة صعود دور الملوك والكهنة الحضاري [التقدمي] في البدء ، تتشكل الأدبيات الدينية، التي لا تضع في اعتبارها دور الناس ، وهو الجمهور المؤسس للمدينة وإنتاجها ، حيث ذوبان جمهور القبيلة في سيطرة زعماء العشائر ، المترافق مع نمو الأجهزة القسرية ، وعبر غلالة الدين التعميمية السحرية، وفي الاحتفالات الطقوسية ، خاصة طقوس الربيع والخصب ، ولكن مع تفاقم الآثار السلبية لهذا التفرد المطلق للطبقة الملكية / الكهنوتية ، والاستغلال البشع ، وكوارث الحروب ، فإن كل هذا يؤدي إلى تململ بعض المثقفين والأصوات المتفردة الحساسة ، مثل شكاوى الفلاح المصري الفصيح ، والمثقف البابلي الذي يقول مخاطباً إلهه بلغة شكوى واحتجاج: [الطعام وفير في كل مكان ، لكن طعامي الجوع/ في اليوم الذي قسمت الأنصبة على الناس / كان نصيبي هو الألم والعناء.](15).

 إلا أن أفراد المثـقفين هؤلاء يختلفون عن الجمهور العام ، إنهم قادرون على إنتاج وعي غير ديني ، ولكن الجمهور العادي الأمي المنخرط في آلة الدولة العسكرية والاقتصادية والفكرية، لا يستطيع إلا أن يتقبل الوعي الديني المكرس عبر آلاف السنين ، ويتحسس مظاهره وأدواته عله يجد منفذاً ُيسّرب من خلاله معاناته. وهكذا وجد في طقوس الخصب ، التي فيها الموت والميلاد ، وعذاب إله ما ، صلة روحية واجتماعية غامضة ، بهذا الإله على مستوى ملموس ، يلغي به الاستقطابية الشديدة بين السماء والأرض ، بين الفوق والتحت ، بين الحاكمين والمحكومين ، حيث يتحمل الإله جزءً من عذاب الجمهور ، ويكون معه في احتفالاته الطقوسية ، ولا يشكل ذلك خطورة لدى الطبقة الحاكمة من أتساع ونمو مكانة هذه الإله ، الذي سيكون مسؤولا عن العالم السفلي ، أو يعطى أية وظيفة غيبية أخرى تبعده عن المسألة الأرضية للحكم وموارد الخصب.

 إن المجمع الإلهي قادر بعد زمن من الصراع على إعادة تشكيل الإله ، وتوظيفه بما يخدم سيرورة النظام الاجتماعي والديني ، ولكن هذا لا يمنع من احتواء النظام الغيبي على تمردات من قبل بعض الإلهة الذين يسرقون أشياء مقدسة ومن خيانة بعض الآلهة للأوامر المركزية من قبل الإله المهيمن ، الذي أراد فناء البشر لأنهم أزعجوه بكثرة شغبهم ، مما دفع الإله لأن يخبر بموعد الطوفان القادم ، فقام هذا ببناء سفينة استطاعت أن تنقذ الجنس البشري من الغضب الإلهي . إن هذه الثغرات التي تتشكل للفعل البشري داخل المنظومة الإلهية المهيمنة في عليائها ، ليست من فعل البشر ، بل من فعل الآلهة ، حسب بناء الأسطورة ، ولكن بعض البشر يحصلون على مكانة خاصة لدى هذه الآلهة ، تجعل آلهة ما يساعدونهم أو ينقلون لهم أخباراً أو أدوات وقوى مهمة.

 هكذا نجد البشر وهم يخلقون المجمع الإلهي المسيطر عليهم ، حسب مراحل سابقة طويلة ، يخلقون كذلك أشكال التأثير على هذا المجمع ، حسب فعل بشري جديد ، ولحاجات جديدة ، وفي داخل المنظومة الغيبية المسيطرة خلال هذه المرحلة . ومن هنا فإن الاستغلال الطويل للطبقة المسيطرة ومغامراتها العسكرية وتفردها بالحكم و[ الخراج ] ، يقود الجمهور الفقير إلى تصعيد آلهة المعاناة والتحول كتموز ، الذي يتجاوز آلهة الانفصال والانعزال ، خاصة آن أو أيل ، ذلك الإله الذكر ممثـل السلطة المفارقة ، ولكن هل يستطيع تموز أن يتغلب على الهوة بين الحكام والمحكومين ، وهل تستطيع الاحتفالات الطقوسية الربيعية ، بما فيها من أفراح واندماج بين الملوك والفلاحين ، أن تشكل تحولاً في حياة الجمهور المستغل ؟

 إنها بكل تأكيد تضع أسساً ثقافية جديدة لعالم المشرق [العربي] ، عبر صعود دور الفلاحين ، المُسيّطر عليهم كذلك من قبل القوى المهيمنة ، التي تدخل الإله المعذب المتضافر مع الدورة الزراعية ، والذي يكون جزءً حميمياً من عالم هؤلاء ، فتخلق أدوات جديدة للسيطرة عليهم ، وكذلك مخارج ومتنفسات للحلم ، بحيث يصير الغيب القادم ، جزءً من الحلم الشعبي بديمومة جديدة ، ويبدأ العالم الآخر في الصعود بحيث يغدو ملكية عامة مشاعة ، وبديلاً عن الملكية العامة المسروقة . ويظهر توحد المشرق [العربي] هنا في تشكل نموذج شبه موحّد للإله المعّذب ، فتموز نجد إلى جنبه أدونيس في فينقيا أو بلاد كنعان ، أو أوزوريس في مصر . إن وحدة الآلام والأحلام هذه تشكل خلفية هامة لوحدة السكان في المنطقة ، ولما هو مشترك بين المنتجين. كما تعبر كذلك عن الاغتراب وهيمنة الدول والمستغلين . (16).

  إن الغيب القادم المأمول ، وبطبيعة الحال لم يأت بلا نضال ، إذا كان  مشاعاً بشكل كلي فلن يفيد النظام الاجتماعي وسيطرة الحكام الذين قبلوا به ، بعد مسيرة طويلة من الرفض واحتكار اليوم الآخر ، ولهذا فإن تعديلات وتحويرات هامة تشكلت على هذا القبول ، بحيث يكون المنتقل إلى العالم الخالد ، مواطناً صالحاً في حياته ، لم يهن الآلهة ووصاياها ، أي لم يتمرد على نظام السيطرة الذي وضعه الملوك ــ الكهنة. ولا شك إن ثمة قيماً إنسانية هامة في هذه الوصايا ، فليس الأمر مخططاً شريراً ، بل هو عملية صراع معقدة ، متداخلة ، بين ما هو استغلالي أناني وما هو شعبي باحث عن الخير ، وعلى العموم فإن حصول منفذ من نظام القهر [الدنيوي] ، الذي سدت الآفاق في تبديله والقضاء عليه ، سيكون كذلك عملية معقدة تنمو عبر التفاعلات ، بين جنة ديلمون التي صنعها الخيال والحلم السومري ، في مياه الينابيع والنهر وعلى جزيرة البحرين ، وبين المحرقة ـ المزبلة التي ظهرت شرق القدس ، والتي أسمها [جهنم]  ، (17).

 إن تصعيد عناصر المقاومة في الدين تم على نحو بطيء وطويل ، فاليوم الآخر لم يكن إلا من نصيب الطبقة العليا في مصر ، ومع صعود عبادة أوزوريس تمت «دمقرطة» البعث ليكون من نصيب الجميع ، وأخذت الأعمال الحسنة تغدو هي المعيار ، وبطبيعة الحال فإنها لم تكن  تفلت   من ميزان المسيطرين ، لكن عبرها تشكلت عجينة مشتركة للمؤمنين.

 وفي هذه المادة الثقافية المشتركة تتم عمليات التعبير عن الآلام والصبر والانتظار والغضب والحلم.

الدين كوعي (وطني) متباين

 يغدو الدين كفكرة مصاغة من قبل القوة الاجتماعية العليا فكرة قبلية و(مدنية) ووطنية ، لأنه كشكل للوعي لم ينفصل عن وعي الجماعة ، لكن يُلاحظ الفرق الكبير بين الدين في المشاعية والدين في المجتمع المنقسم اجتماعياً ، حيث كانت سمات الأمومية والخصوبة والتعاون تظلل آلهته ، في حين تصاعدت جوانب القوة والعنف والهيمنة مع آلهة النظام الطبقي ، مما يعبر عن تصاعد دور الدولة كجهاز قسر وتحكم.

 وفي الفترة الأكادية التي يظهر فيها عنف الألوهية وشراستها ، تبدو كمرحلة مختلفة عن ألوهية العصر الأمومي الخصوبية ، وعن المرحلة اللاحقة وهي التي ستنمو بالتضاد مع آلهة الساميين الرعويين الباطشة ، والتي تغدو تركيباً من مرحلة الأمومية وصعود الإله الذكر المعبر عن مرحلة الدولة والطبقات ، في توليفة متجاوزة للعهد (السامي الأكادي) وسيكون ذلك تجميعاً مشرقياً ، وإن كان بصورة متفرقة ، لإله الخصوبة وقد صار ذكراً ، وتجلت فيه فعل الطبقات المقهورة كذلك ، بعد أن كانت الصياغة الأساسية في المجتمع المشرقي الطبقي ، من فعل الطبقات القاهرة.

 لكن فعل هذه الطبقات المقهورة يتجلى من خلال إرثها الزراعي ، حيث تتشكل الآلهة المقاومة المعَّذبة المتمزقة ، وهو ما يعكس تغييب الفعل البشري في الطبيعة ، وجعل ذلك في رموز متفردة مفارقة في نهاية المطاف ، تزيل ملامح ما هو سياسي واجتماعي .

 إن الدين لا يعبر فقط عن القاهرين بل عن المقهورين أيضاً ، فالطبقات المتعددة ترى الإرث الديني بصور مختلفة ، وقد عكست المرحلة التموزية على سبيل المثال ، فعل الطبقات الشعبية ، خلافاً للعصر السابق ، ولكن القوة المسيطرة تقوم دائماً بالتسلل إلى البنية الدينية التي غدت شعبية فتوظفها لما لم تكن لها بداية ، عبر نزع المضمون النضالي العميق لها ، وتحويلها إلى أشكال عبادية مُفرغة من ذلك المضمون ، ومؤدية إلى التهدئة الاجتماعية والاستسلام.

 ولهذا سنجد في الميراث الديني عموماً هاذين الجانبين المتضادين المتداخلين ، جانبي المقاومة والاستسلام ، جانبي الكفاح للتغيير أو تأجيل الأهداف إلى الغيب.

 وإذا كان الجمهور ، حسب وضعه التاريخي ، لا يجد سوى المادة الدينية ، فإنه سيقاوم داخل غيبها المموه ، وسوف يكسر بعض المحرمات والمقدسات السابقة ، ويشكل مقدسات جديدة يحرك بها التاريخ المجّمد ، في امتيازات الحكام ، وهذه اللحظة هي التي تنفث حرارة بنقد الظالمين ، فترى إن التاجر لا يدخل من خرم إبرة حسب الإنجيل ، وإن المرابين والمستغلين مدانين وإن للفقراء ملكوتاً قادماً ، وبعدئذٍ حين يكون الدين في موقع تاريخي مختلف ، وتتغير علاقته بالطبقات المتصارعة ، وينتقل من التعبير عن طبقة مستغلة إلى التعبير عن النظام الاجتماعي ، أو عن كل القبائل ، أو عن الوطن كله ، حينئذٍ تتبدل صياغاته وتستقر توجيهاته العامة في شكل تصالحي غامض ، ثم تبدأ الطبقة المسيطرة ، أو الطبقات المسيطرة ، حسب المناطق والدول ، في إعادة تشكيله ونزع مضمونه الثوري الذي تشكل في المرحلة الأولى ، حين كان وليد الطبقات المقهورة.

 ولكن عملية إعادة إنتاج الدين لا تتوقف ، فهذا التكييف الفوقي ، يقابله تشكيل تحتي ، والأشكال الخارجية من العبادات التي تحاول الطبقة المسيطرة تحويلها إلى قيد اجتماعي للسيطرة اليومية والأهداف السياسية قد تتحول إلى شكل مضاد الخ..

الزراعة كاقتصاد مهيمن

 إن مساهمة فرعي الاقتصاد الأساسيين: الزراعة والرعي في تطور المنطقة ، يعتمد على عناصر مختلفة كاستئناس الحيوان وتطور الأدوات المعدنية ، وهذه العوامل كبيرة الأهمية لكون عالم الزراعة سيبقى بلا تطورات جذرية ، في حين إن استئناس الإبل والخيول وجلب المواد الحديدية ، الذي سيكون من مساهمة الأقوام الأكثر بربرية وهم (الهكسوس) ، ملوك الرعاة ، والذين جاءوا في منتصف الألف الثاني قبل الميلاد وأحدثوا الكثير من الخراب كذلك ، إن هذا سيؤدي إلى الفعالية الكبيرة للرعاة على حساب المزارعين. إن انتشار الحديد والخيل وتغلغل الإبل في الجزيرة العربية ، سيروض المناطق الأكثر أتساعا وصحراوية في المنطقة ، والتي ستتمتع باستقلالها شبه المطلق ، في منطقتها الصعبة الوعرة، وقد حاول الرومان مرة واحدة غزوها في حملة فأصيبوا بكارثة (18).

 لقد كانت الزراعة وتوابعها: الحرف والتجارة، هي سيدة المنطقة فيما قبل غزو الهكسوس ، لكن القرون التي تلت بدأت تصعد أقوام الرعاة كالآراميين ، الممهدين الأخيرين للعرب جنساً ولغة.

وإذا كانت الزراعة لم تنفصل كلية عن الرعي في حقبها الأولى ، وقد حدث الانفصال حين تمكن الرعاة من استئناس الحيوانات ذات الأهمية القصوى في تطورهم وهي الخيول والإبل ، فإن الرعي لم ينفصل كلية عن الزراعة ، فحين تتواجد الظروف المائية الكافية كان يمكن الجمع بين الاقتصادين ، إلا أن الانفصال الكبير قد حدث ، ووجدت الساحة الأكبر لتطور الرعاة ، وهي الجزيرة العربية ، فيما بعد مجيء الهكسوس.

 ويلاحظ أن الممالك العربية الأمومية في شمال الجزيرة العربية ،(19) ثم الممالك السواحلية المتعددة في اليمن والحجاز والبحرين وعمان ، كانت أقل رعوية من الداخل ، وذلك بسبب نشؤ المدن والزراعة. إلا أن العمق الرعوي هو الذي كان يتحكم في الحركة التاريخية للعرب ، حيث لم تستطع أي مدينة أن تفرض نفسها على الرعاة الأشداء وعبر المنطقة الهائلة الاتساع.

 ويمكن ملاحظة بدايات التطور الحضاري لدى العرب الشماليين القيسيين ، في مدائن صالح ولدى المناذرة والغساسنة والأنباط ، وفي الشريط الحضاري للحجاز، والذي تناثرت فيه المدن التعدينية ، حتى جاءت مكة تتويجاً لمخاض اقتصادي واجتماعي طويل ، (20).

الزراعة والفروع الأخرى من الاقتصاد

 تشكلت المدن في المشرق من القرية الزراعية ، التي كان المعبد ثم القصر شكلي التطور السياسي الديني المهيمن فيها ، فمن الزراعة في المشرق الخصب تشكلت السلطة السياسية التي سيطرت على خريطة المدن والمجتمع ، ومن خلال فائض الزراعة ثم الحرف والتجارة كانت تتشكل الحياة الاجتماعية والثقافية المختلفة.

 إن الزراعة لا تمثل تشكيلة اقتصادية ـ اجتماعية ما ، مثلها مثل الرعي، والحرف ، فهي مهن وعمليات إنتاجية وتوزيعية متعددة ، لكنها كانت حرفة واسعة ، بل المصدر الأساسي للإنتاج ، حيث تواجدت الأنهار الكبري ، وأنتجت أوسع الحقول الزراعية. وقد هيمنت الدولة هيمنة مطلقة ، بسبب ما رأيناه من صعود سريع للأجهزة الاقتصادية والسياسية ، فخضعت الحرف والتجارة للتطورات الزراعية مستفيدة من فيضها ومؤثرة عليها بن ، إلا أنهما خضعتا لتطورها في النتيجة النهائية ، فعلى طريقة توزيع الفائض الزراعي يتحدد التطور الحرفي والتجاري.

 لقد كانت الطبقة المسيطرة تستلم الفائض الزراعي بصورة عينية أو بصورة ـ عينية نقدية ، ثم تركزت الفوائض بشكل نقدي شبه كلي في سيرورة التاريخ ، حيث يمكن تحويل النقد إلى أي بضاعة أخرى. وعبر هذا الاستلام تتكون مؤسسات الدولة ، فهي ليست سوى خزانة لتراكم استغلال الفلاحين ، وبعد الخزانة تتشكل المؤسسات التي تقوم بحسابها أو الدفاع العسكري عنها.

ولا تلعب التجارة والحرف دوراً مستقلاً في تطوير الاقتصاد ، فهما مربوطتان بفوائض الزراعة ، التي تتحكم بها الخزينة الملكية ، والتي تغدو مشروعاتها الاقتصادية والاجتماعية رهن بذاتية الحاكم المطلق ، أي بأسباب مرحلته ، وأسرته ، ورغباته ، وأفكاره ، وسنه الخ..

 وهكذا فإن الزراعة التابعة للطبيعة تبعية شبه مطلقة ، ستهيمن على الحرف والتجارة من خلال تحكم الأسرة الحاكمة أو القصر ، مما يلحق هاتين المهنتين كذلك بالتبعية للطبيعة و” أقدارها “. وكأن كل شيء سيتعلق بالحاكم المطلق «الإله».

 إن ذاتية الحاكم لا تنفصل عن طبقته ، ومرحلتها وصراعاتها ، وهي لا تلعب دورها الحاسم إلا من خلال هذه العوامل الموضوعية. وإذا كان الحاكم قد توحد بالإله ، وغدا جزءً منه ، أو امتدادا أسرياً ، أو تجسيدا نورانياً له ، فما ذلك إلا شكلاً للسيطرة الشاملة للحاكم على المدينة و(الرعايا)، أو المملكة ، أو الإمبراطورية الخ ..

 إن التجارة بالتحاقها بالقصر تكون قد فقدت قدرتها على تفكيك الملكية الزراعية العامة الشاملة. فرأس المال الكبير لا ينمو إلا عبر الأرباح المتراكمة وهي التي ستأتي من التجارة بالمواد الهامة والثمينة التي يستعملها القصر ، ثم القصور الملكية المتعددة ، ومن ثم بذخ الطبقة الحاكمة كلها من وزراء ورجال دين وتجار كبار الخ.. ولهذا فإن رأس المال لا يتعامل علمياً بالحرف وأدواتها وآلاتها إلا إذا كانت ستلعب دوراً في إنشاء قصر أو عمل مركز رصد للحاكم أو قبر الخ .. ولهذا فإن العلوم ستغدو مجموعات من المعارف المُفككة ، وليست مناهج علمية تغربل المعلومات المختلفة وتنميها.

نمو الرعي في الجزيرة العربية

 وإذا كانت الزراعة هي أساس تشكيل الفائض الاقتصادي الأساسي وتوزيعه ، في المناطق الحضرية النهرية ، فإن الرعي هو أساس تشكيل الفائض الاقتصادي الأساسي في المناطق الصحراوية . ورغم أن الفوائض هنا قليلة ومحدودة ، إلا أنها تظهر وتتدفق على المدن والأسواق . فالرعي لن يكون سوى ملحق أخير باقتصاد المدينة ، حيث يسيطر الحاكم المطلق ، وسيقوم بتبادل سلعه التي ينتجها من قطعانه مستبدلاً بها السلع الضرورية كالمواد الغذائية والملبوسات والأسلحة. ولن تلعب هذه الفوائض دورها إلا في المدن الصحراوية والقرى ، التي ستمد الرعاة بالوسائل التي تجعلهم يتغلغلون أكثر وأكثر في الصحراء ، وخاصة رعاة الإبل ، الذين عبرهم ستتم عملية الانتشار الأوسع في الصحراء ، وخلق القبائل الأشد فقراً وتوحشاً. وسيبدو هؤلاء الرعاة الجماعات الأكثر تضاداً مع بذخ المدينة ومراكزها الكبيرة خاصة .

 وكلما أنتشر هؤلاء الرعاة ، احتاجوا إلى المزيد من الأبناء الرجال ، فتتسع قبائلهم ويشتد الفقر في مستوياتها التحتية ، في حين ينفصل رؤساء القبائل والعشائر ، ويكونون أرستقراطية خاصة ، تشكل مصدراً آخر لاستغلال الرعاة ، ويستطيع هؤلاء الزعماء أن يحولوا القبائل إلى شرطة سياسية وعسكرية واقتصادية للدول التي تريد خدماتها ، أو لخفر قوافل التجارة ، أو إنهم يتحولون بأنفسهم إلى لصوص وقطاع طرق فيشنون الغارات على القبائل الأخرى أو المدن العامرة بالثراء.

 لكن لحمة القبائل لا تتفكك مهما كانت عمليات التخلخل الاجتماعي داخلها ، ومهما ظهر الصعاليك والمتمردون ، ومهما أستغلهم رؤساؤهم ، فالوحدة القبلية أقرب للتكوين البيولوجي منها بالتكوين الاجتماعي ، فهي التي تكونت وتحجرت في الصحراء وقاست وصمدت لقسوتها. إن القبيلة تغدو هي الرحم الطبيعي للفرد ، ولهذا فإن القبائل عبر هذه الوحدة الصخرية تغدو قوى اجتماعية كبيرة منظمة في مواجهة مدن مستغلة ومفككة.

 إن القبيلة هي أشبه بوحدة عسكرية متنقلة ، قادرة على الترحال والصمود في أقسى الظروف المناخية والاقتصادية ، وهي قوة موحدة وقتالية جاهزة ، وتمتلك مواردها واستقلالها الروحي والمادي ، وهي لهذا تصبح قوة مؤثرة في مواجهة المدينة ذات المصالح المتباينة ، خاصة عندما تبدأ مؤسسات المدينة في التفكك والضعف . وتصبح الأمور أشد خطراً حين تتآلف القبائل وتتحالف ، وتكون قبيلة كبرى.

ظهور الرعاة على المسرح التاريخي

 وقد تباينت التطورات الدينية بين القسمين الحضاري الزراعي والرعوي الجنوبي ، مثـلما حدث الانقسام الاقتصادي بين الجانبين ، ولكن التكوينين لم يكونا متضادين بشكل مطلق ، فالجانب الرعوي والذي يمكن أن يتحول إلى قرى ، أو قد يسكن المدن فيتحضر ، يتأثر بمنتجات المدن المادية والروحية ، لكن هناك تباينات واسعة مع ذلك ، فنحن نجد الهكسوس في احتلالهم لمصر يعبدون الإله الشيطاني فيها (ست) ، متوجهين إلى شبه توحيد ، رافضين شبكة الآلهة المصرية المعبرة عن حشود من العالم الزراعي المسالم ، وظهر التوحيد اليهودي بعد الانقلاب التوحيدي الاخناتوني ليعبر عن حلم هؤلاء الرعاة المشردين بتكوين دولة.

 هنا نجد مثالاً ملموساً حول تضادات الأمم الرعوية والزراعية ، فالقبائل اليهودية عبر توحيدها ، تحاول أن تشكل سلطة سياسية وفكرية داخلها أولاً عبر الالتفاف حول إلهها (يهوه) ، رغم إنها لم تستطع بعد أن تتخلص من عبادتها لأيل الإله الكنعاني ، وهو الصيغة الأخرى لآن الرافدي ، الإله المتعالي الذي لم ينفصل كلياً عن بقية الآلهة المتشكلة في مناخ الخصب ، فهو إله المدينة ــ الدولة، التي رأينا كيف ظهرت بالهيمنة على الملكية العامة الزراعية.أما يهوه فهو إله المدينة التي لم تتشكل بعد ، أي إله الرعاة الحالمين بتشكيل دولة. وحين قام الإله بذلك عبر تشكل الدولة ومؤسساتها ، نجد التوراة تشكو من ملوك إسرائيل الذين لم ينفصلوا كلياً عن أيل وعن تقاليد المشرق (العربي) ذات التعدد الإلهي.

 فقد عاد الإله الرعوي إلى منطقة أيل ذات الخصب الزراعي .

 إن ظهور اليهود والعرب على مسرح التاريخ في المنطقة أحد المؤشرات على صعود دور الرعاة . وصحيح أن الرعاة كانوا قد ظهروا عبر عمليات الهجوم والاكتساح من قبل الهكسوس و«الكاسيين» ، والعديد من المؤرخين والباحثين يقول بأن اليهود والعرب هم من هؤلاء الغزاة ، (21) ، إلا أنه لأول مرة نجد الرعاة كجسم اجتماعي وسياسي مستقل ، وينبثق من داخل تكوين المنطقة ، أي من مفرداتها الثقافية.

 وتتمكن القبائل اليهودية من تكوين دولتين مستقلتين بعد قرون ، إلا أن الدولتين اليهوديتين المقامتين لا تفلحان في الصمود على مسرح المنطقة ، بسبب وقوعهما بين الدولتين الكبريين الرافدية والمصرية ، أساس الكيان الاستبدادي الراسخ في المشرق.

 هنا نجد الإله الرعوي يتحول إلى إله دولة ، دون أن يستطيع الإفلات من تقاليد المنطقة لقد أوضحنا كيف انبثقت الدولة ـ المدينة في المنطقة الزراعية عبر نماذج العراق وسوريا ، مما مثـل وحدة صراعية بين الإله المتعالي الذكوري المسيطر وبقية الآلهة الذكورية والأنثوية ، فهذه الوحدة يشدها قطبان دولة مسيطرة متعالية واقتصاد زراعي بتقاليده الأسطورية ، مما يمنع الأنفكاك بين قطبيها. إن آنو لا ينفصل عن تموز ، وآيل لا يلغي بعل. ورع لا يزيل أوزوريس.

ومشكلة الإله يهوه إنه يحاول أن يلغي أيل بعد أن جثم في موقعه ، لكون التميز اليهودي ومشروع احتلال فلسطين يصطدم بتواجد هذا الإله . وليس هذا فحسب بل أن كراهيته لبعل أشد ، حيث تتجسد التقاليد الطقوسية الفلاحية. وهو إله يسعى في ذله الطويل أن يعوض عن هذا الاستعباد والدونية ، دون أن يمتلك القدرات البشرية والمادية الكافية لكرامته. ولا تفعل سلسلة الأنبياء والمعجزات في تصعيد التكوين السياسي الزراعية ، وفيما بعد ، في عهد الأسر البابلي يعتبر ذلك التداخل هو سبب الكوارث والنكبات التي حلت على بني إسرائيل ، دون أن يخطر بباله إن وقوعه على طريق مرور الإمبراطوريات ، ومحاولته التميز والتفرد الإلهي بقدرته البشرية القليلة في ذلك المكان هي أ سباب كوارثه المتلاحقة.

تناقضات يهوه

 هكذا رأينا الإله الرعوي محملاً بالبروق والرعود ، أي بعناصر القوة الرمزية، وهو يخرج من مصر بتقاليدها الزراعية ، داخلاً في منطقة زراعية أخرى ، فلا يستطيع الإنفكاك من شريط العالم الأخضر بتقاليده الطقوسية ، إلا عبر تكريس نفسه في العزلة ، والعيش في الصحراء ، واستثارة التقاليد الحربية حتى يقتحم الأرض (الموعودة). إن هذا الحراك الرعوي أنتج الإله شبه المجرد ، رغم إن المرحلة الفكرية للشعب (المختار) لم تكن قادرة على تجسيد الإله إلا بشكل حسي . فالرعاة مثلهم مثل الفلاحين ، لا يستطيعون الوصول إلى التجريد ، خاصة وإن الإله المجرد غير ممكن تشكيله في المرحلة الدينية الأولى في المشرق ، حيث تتطلب العلاقة بين القائد السياسي (النبي) والجمهور الأمي ترابطاً قوياً يتيح للقائد تحريك الجسم الرعوي، الذي يتم تدريبه وتوجيهه، لاحتلال المنطقة الزراعية المقصودة.ولهذا فإن تشكيل الإله المجرد أمر غير ممكن وغير مفيد، ومع هذا فإن هذا الإله لا بد أن يكون مختلفاً عن آلهة الأمم المجاورة ، وهي الفضاء الفكري الوحيد المتاح.وهي كلها آلهة مجسدة ومنظورة.

 إن المهمات السياسية المطلوبة من نمط الإله ، والمستوى الفكري لحملته المدعوين لتنفيذ تلك المهمات ، هي التي تجعل صورة الإله اليهودي تنوس بين التجريد والملموسية ، بين أيل وبعل. إن هذه الانفصالية غير ممكنة للشعب العادي ، وإذ تحدث العملية شبه التجريدية للإله فهي لا تدوم ، سواء إذا غاب النبي لوقت وجيز ، أو إذا أسس خلفاؤه مملكته.

 إن الرعاة أنفسهم مرتبطون بالتقاليد الزراعية الأقوى حضوراً حتى ذلك الحين.وهم في ذات الوقت مرتبطون بالفضاء الفكري للمنطقة ، والمتسم بالتجسيم المادي للآلهة ، والتجسيم ليس سوى تعددية للآلهة تعكس تعدد مستويات السلطات في العالم القديم المفكك اقتصادياً ، سواء على مستوى المدن أم الأقاليم أم القبائل أم الأسر ، وكل هذه تخلق آلهة، والآلهة المضادة كذلك وهي الشياطين والعفاريت ، فالأبيض النوراني يخلق الأسود الشرير ، وقد نشأت الدولة الاستبدادية في المشرق عبر تجاوز هذه التقسيمات وعبر السيطرة عليها ، فآن أو أيل يهيمن بشكل علوي ، ويترك شبكة الآلهة الأقل ، أو السلطات المحلية المختلفة، تعمل وتستقل ذاتياً، وهذا ما يتيح الوحدة و التعددية والاختلافات والصراعات بين الآلهة ، مما يشكل إمكانيات للدراما المسرحية والسياسية والفكرية ، مثـل هذا المناخ يمكن أن يبرر الصدامات والتباينات في العالم الأرضي ، الذي هو حسب الوعي السائد ، لا يمتلك إمكانية تشكيل مصائره بنفسه ، بل يعتمد على القدر الإلهي ، وعلى خرق هذا القدر عبر مساعدة آلهة أخرى ، فيمكن رد مختلف تباينات الوضع الإنساني ، إلى اختلافات علوية ما.

 إن ألواح القدر التي تكتب وتقدم في بدء موسم احتفالات الخصب في بابل ، معبرة عن مقادير الإنتاج التي يقدمها الناس ، هي التي تحدد مصائر السكان لسنة كاملة غير قابلة للنقض ، وقد يكون في هذه الألواح طوفان أو هجوم أجنبي أو خير عميم ، وفي الواقع فإن الأقدار لا تعرف إلا بعد حصولها ، ومن ثم تكتب لاحقاً ، ولكن هذه الطريقة توضح الحالات التجسيمية التعددية للوعي الديني ، ولكن مع صعود الإله الواحد المسيطر بشكل مطلق على الوجود ، تدريجياً أم دفعة واحدة ، فإن هذه الإمكانيات للصراع والتباين الإلهي ـ البشري تزول ، حيث يغدو الوجود من صنع إله واحد ، ويحدث التساؤل في الوعي الديني التوحيدي عن أسباب الخلل والتناقض في الحياة المخلوقة من صنع إله واحد .

 إن الضرورات السياسية في مصر في عهد إخناتون ، حين أراد أن يجهز على سلطة الكهنوت ويمركز السلطة في يديه ، وجهته نحو تعميم عبادة آمون ، مثلما قادت الضرورة القبائل اليهودية إلى إله واحد مخصص لها ، لم يصبح الإله الكوني الوحيد إلا بعد أن تفاقمت الهزائم والكوارث على هذا المشروع السياسي ، فوجه الحاخامات الشعب اليهودي نحو الإله الواحد تجسيداً مطلقاً لحلم زال.

 لكن توجيه الأمور نحو ظهور إله واحد لا بد أن يعيد النظر في الإرث الديني التعددي والتجسيمي السابق ، فيزيل كل عوامل الصراع الإلهي ـ السياسي ، ويمركز السلطة في ذات وحيدة ، في سلطة واحدة مطلقة.

 إن الفلاسفة فيما بعد سوف يتصارعون بشدة حول هذا الإله الوحيد ، الذي رأينا كيف تتجه صورته إلى التجريد أكثر فأكثر ، نظراً لحاجات الشعوب للمركزة السياسية أو تكوين دولة جديدة، ولن يعرف هؤلاء الفلاسفة كيف يجمعون بين إله مجرد، وهو أيضاً ذو تدخل وملموسية  وحضور مادي ، عبر مناهجهم المجردة واللاتاريخية.

 إن الحاجة تدفع لبروز الوعي بإله وحيد مجرد ، لتذويب الوحدات السياسية ـ الاقتصادية المتباينة وتشكيل دولة موحدة ، ولتجمع السلطات بين يديها، ولكن تجميع السلطات في لحظة تاريخية ما لابد أن يقود في لحظة أخرى إلى تفكيك هذه السلطة المركزة ، فتتراوح صورة الإله المجرد بين لحظتين متضادتين: التجريد الأقصى والوحدانية ، وبين التعددية والملموسية المباشرة.

 في التجريد الأقصى تقع صورة في العزلة والنأي عن الوجود المادي ويستحيل معرفة كيف تتم العلاقة بين المجرد الكلي والأشياء ، وفي التعددية والملموسية ، تقع صورة الإله في دائرة الامتداد والحركة والتجسيم.

 إن الرعاة وهم يريدون تشكيل دولتهم يستعينون بفكرة الإله الوحيد ، تعبيراً عن الرغبة في الدولة الموحَّدة ، وحين يقتحمون البلاد الزراعية ، يريدون الاحتفاظ بهذه الواحدية ، التي يرفضها سكان المناطق الزراعية.

 إن صورة الإله الوحيد المطلق تظهر إذن وهي لا تزال في دوائر التجسيم ، لم تصر شيئاً مجرداً، لكونها تمثـل تطوراً في نمو الأساطير ، وليس نتاج الفكر المجرد. إن الأسطورة العبرية ، وقد تشكلت من رغبة في تشكيل دولة وإله خاص مسلح ، تحتك وتصارع أساطير أمم المشرق (العربي) ، ثم يقوم مثـقفوها بالاستفادة من التراث الرافدي والمصري ، ليغنوا صورة إلههم الفقير روحياً ، والمنتزع من براكين البحر الأحمر ، فيأخذوا من هذا الإرث مسألة الخلق الأول لأبي البشر وقصة نوح وأيوب وغيرها من القصص والعناصر ، وتلغى تعددية الآلهة بما يتوافق مع مركزية السلطة وواحدية الإله. ثم يعود هذا الإرث إلى فلسطين ليبدأ نزاع جديد.

 لقد أنتصر الإله الرعوي بإرث المناطق الحضارية ، فعرف العبرانيون كيف يستغلون ثروة أمم المشرق الروحية والمادية ، ودون أن تتشكل الدولة ـ الحلم.

 ولكن حين جاء الإغريق ثم الرومان المحتـلون لم يستطع هذا الإله أن يكون أداة مقاومة ، فهو لم يكن موجهاً للأمم الغريبة (الأغيار) ، وهو مع تواجده في منطقة الخصب الزراعي ، وقف نائياً ورافضاً تقاليدها وطقوسها الاحتفالية الربيعية ، وهي ذات المكانة المركزية في حياة الفلاحين ، إن عداءه لأيل وبعل ، كان يدفع أمم المشرق لإنتاج وعي جديد يتجاوز الديانات الوثنية من جهة ، والديانة الرعوية الانعزالية اليهودية ، من جهة أخرى.

 إن نمو المسيحية من رحم اليهودية لم يحدث إلا بسبب إنتاج اليهودية لصورة لإله غير وثـني ، وهي التي ستكون تجاوزاً للتفتيت السياسي ، ففيها حلم توحيد المشرق (العربي) عبر سلطة واحدة، هي نفي للماضي المتشرذم ، وللهيمنة الأجنبية ، وهي كذلك استعادة لآن وأيل ورع ، وقد تخلصوا من ثيابهم الوطنية ، ولكن المسيحية هي أيضاً تموز وبعل وأدونيس وأوزوريس ، هي الابن الفادي ، والإله الذبيح ، أي هي أيضاً استمرار للاحتفالات الطقسية القديمة ، إرث شعوب المشرق الزراعية الطويل. هكذا يغدو الأب والابن تجاوزاً للمسميات وتوحيداً لها في أسمين عائلين مجردين وعامين ومخصوصين. لكن المسيحية وقد اعتمدت اللاعنف ، وتغلغلت بين الفلاحين وسكان المدن والعبيد ، عجزت عن الوصول لتوحيد سكان المشرق العربي ، مركز الفعل الحضاري في الشرق الأدنى ، وخاصة الأقسام الرعوية الواسعة ، التي أصبحت تمتلك قدرات سكانية كبيرة. ثم دخلت المسيحية في انقسامات وتم استيعابها من قبل الإمبراطورية الرومانية ، فلم تستطع القيام بمهمات توحيد المنطقة و«تحريرها».

 إن الأديان المشرقية : اليهودية والمسيحية والإسلام تمثـل إذن درجات المقاومة المتصاعدة من الحلقة الأقل حضوراً إلى الحلقة الأوسع والأقوى سكاناً.

 التوحيد العربي

 كانت هذه المهمة من نصيب القوم الرعاة وهم العرب ، الذين أتاحت ظروف جزيرتهم العربية ، المحكمة الإغلاق أن يتكاثروا فيها ويتطوروا ، ولا توجد منطقة رعوية بها هذه الخصائص الفريدة ، حيث القرب من المناطق الحضارية المركزية ، واستيعاب منجزاتها ، والنأي أيضاً عن سيطرتها .إن عشرة قرون من الاحتلالات الأجنبية للمشرق الذي أخذت تتشكل فيه جذور للعروبة ، والتي تمتد من عمق الجزيرة حتى بوادي الشام ، لم تظهر فيه قوة محلية قادرة على طرد الغزاة ، وقد أصبحت السيطرتان الرومانية والفارسية عبئاً ثقيلاً على المنطقة ، حيث تذهب الفوائض المالية إلى العاصمتين فتهدرانها في البذخ والحروب ، ولهذا فإن المناطق الرعوية والريفية تعيشان أزمة اقتصادية . ومن المعروف كيف تدهورت حياة أسرة هاشم بن عبد مناف ، وكيف تفاقمت الديون وحياة الفقر في مكة على سبيل المثال.

 وقد أخذت الجزيرة العربية منذ زمن بعيد الإرث الثقافي للمشرق ، وخاصة للقبائل والشعوب السامية الشمالية ، وقد كان الاحتكاك بين الجانبين كبيراً وعميقاً على مر التاريخ.

(يبدو أن مفهوم  «آن» ـ (السيد) ظهر في التاريخ في حوض النهرين الأدنى قبل الألف الرابع ق . م. وظل كصفة للقوة والسلطة المطلقتين اللتين توحي بهما السماء (الله بمفهومنا) مترسخاً في الذهنية الحضارية السورية لأكثر من ألفي سنة. وفي العصور المتأخرة ساد هذا المفهوم أيضاً في العربيتين الشمالية والجنوبية) ، (22).

 ويذكر المؤلف في العديد من الصفحات الأماكن التي التصقت بآن وأيل في مختلف أنحاء المشرق كظهران وجيزان وغمران ، أو سعد إيل وتيم إيل (23) .

 إن تحرك إيل أو آن نحو المناطق الأشد رعوية كان لا بد أن يؤدي إلى تغيرات في بنيته ، فقد ظهر في عالم المدينة ـ الدولة ذات المحيط الزراعي ، وداخل شبكة من الآلهة المتعددة ، تعبيراً عن الوحدة الصراعية بين الدولة المتعالية والجسم الفلاحي.

 لم يحدث الإنفكاك بين صورة الإله المجردة ومحيطه الزراعي إلا في لحظتين سياسيتين ، هما لحظة الإله آتون ولحظة الإله يهوه ، وكلتا اللحظتان تشيران إلى مشروعين سياسيين تحوليين هامين في المنطقة ، فإخناتون حاول الإطاحة بتعددية السلطات الدينية والسياسية ، وتركيزها في يديه ، فواجه الكهنة ولكن لم يستطع أن ينتصر لأسباب تاريخية واجتماعية عميقة ، فتكوين الإله المجرد المفارق كلياً للأرض الاجتماعية الزراعية التي تكون منها ، وظل على علاقة صراعية متداخلة بها ، أمر لم يحدث ولم يتشكل.

 إن هذه الإمكانية ممكنة فقط في حالات مخاض العالم الرعوي عن مشروع تكوين سياسي جديد ، ولعل ثمة علاقات بين إخناتون والعالم الرعوي ، أي أن ثمة مواداً مشرقية تغلغلت في الوعي المصري السائد وراحت تحفزه للتوحيد الاجتماعي وتذويب الوحدات الاقتصادية والسياسية والفكرية المفككة ، في تكوين سياسي واحد وصلب . إلا إن هذا يحتاج إلى أساس اجتماعي مختلف ، أي إلى تنام لعلاقات اقتصادية لا تسود فيها الحياة الزراعية. وكان هذا أمراً غير ممكن موضوعياً في مصر.

 واللحظة الثانية ، وقد أشرنا إليها سابقاً ، وهي لحظة الإله يهوه ، المنتزع من عالم غير زراعي، والتي أعطته فترته السياسية التكوينية ، بين المشروع وتجسيده ، إمكانية التجريد والعلو فوق العالم الزراعي وبنيته ، دون أن يتمكن من المفارقة والتجريد الحقيقي ، فظل إلهاً ملموساً لقبائل تريد غزو أرض زراعية ، وحين حكمتها ، لم تستطع إلا أن تتردد بين صورتي الإله المختـلفتين. ولم يصبح هذا الإله مجرداً ومنفصلاً عن البنية الزراعية إلا حين أصبحت الجماعات اليهودية مالية وتجارية ، وانفصلت بشكل كبير عن فلسطين ، وغدت قوة النقود واستغلال الأمم الأخرى هو ما يوحدها.

 ونستطيع أن نلاحظ إن ثمة قوة مقاومة للاحتلال الروماني والفارسي عبر هذا الحراك الفكري الذي تشكل من المخاض الاجتماعي السياسي الطويل في المنطقة على مدى عشرة قرون ، فإذا كان اليهود قد جمعوا فسيفساء الوعي الديني وأدلجوه لصالح تجربة القبائل اليهودية لتشكيل وطن أو للعودة إليه ، فإنهم كذلك ناضلوا من أجل الإله الواحد الذي يحاول أن ينسحب من التقاليد الزراعية الوثنية التعددية ، فيدعو للقوة وعسكرة القبائل ، لكن المادة البشرية اليهودية المحدودة لم تكن مؤهلة لخلق الوحدة وطرد الغزاة.

 في حين إن المسيحية التي كانت أبنة التطور الفكري والسياسي للمنطقة ، استطاع مثقفون ينتمون للحضارة الإغريقية ـ الرومانية أن يحولوها إلى استجابة فكرية أيديولوجية لحاجات الإمبراطورية الرومانية في التوحيد والتجميع. ومن هنا تغلغلت المسيحية في العالم المسيطر والعالم المسيطر عليه ، في البلد المهيمن والبلدان المهيمن عليها والمنهوبة. ولم يعد ثمة فرق بين من يستغل ويتلقى العذاب ، ومن يقوم بالاستغلال والتعذيب ، عبر مجموعة من الأفكار التي راحت تنمو وتتجير لصالح توليفة من الانسجام والتوفيق بين الأطراف المختلفة المتصارعة ، سواء عبر أفكار تتجاوز اليهودية المحصورة ، أي عبر إلغاء «الخطيئة»  الأصلية الذي يعني تجاوز اليهودية واستيعابها ، ومن خلال نشر ثـقافة اللاعنف والتسامح ، بحيث يتشكل مخرج تاريخي لنظام العبودية المتعدد الألوان بين الغرب والشرق ، وتستعيد الزراعة دورها التاريخي ويتم تخفيف العبودية الخ .

 وهكذا فإن المسيحية عبر تطورها ، الخاضع لهيمنة الثـقافة الإغريقية ـ الرومانية ، انفصمت حينئذٍ عن الحاجات السياسية والاجتماعية الملحة للمشرق ، وغدت وعياً سياسياً يتجه لتغيير بؤرة السلطة في العاصمة السياسية للإمبراطورية. وغدت تخفيفاً من الهدر الإلهي التعددي الوثني وتركيزاً له واختزالاً لبذخه ، فصار انتصار التثـليث موظفاً للحاجات السياسية للإمبراطورية أكثر منه للشعوب ، وخاصة المشرقية ولشعوب شمال أفريقيا المستغلة كذلك ، وسوف يكون تغلغل المسيحية في عالم الغرب الزراعي أكثر منه في عالم المشرق الزراعي ـ الرعوي.

 وقد أستمر الغليان المسيحي في المشرق ، مركز إنتاج الفكر الديني ، وظهرت حركات المعارضة المسيحية الكبيرة فيه ، مما يعبر إن صراع المصالح ، صراع الطبقات ، لم توقفه المظلة التسامحية ، وعبرت النسطورية عن مهاجمة قلب العقيدة الرسمية التي شكلتها الدولة ، فألغت التثليث الإلهي ، وهذا ما فعلته الفكرة الآريوسية بإنكار أن يكون المسيح إلهاً.

 إن هذه الإنشقاقات الفكرية كانت الشكل الفكري للاستقلال السياسي ، ولكن كما أوضحنا أعلاه ، كان المسيحيون العرب والمشرقيون بلا قوة عسكرية كبيرة ، وكما قلنا كذلك فإن التغيرات الثورية الداخلية كانت شبه مستحيلة للسكان المزارعين والعامة المدنيين ، ومثـلت المسيحية ذاتها شكلاً للتوافق والتصالح والمسالمة.

 لقد أخذت الاتجاهات التوحيدية تنمو في الجزيرة العربية ، بسبب المصالح المشتركة لقبائلها العربية ، ولتنامي العلاقات الاقتصادية والفكرية بينها ، وكانت العبادات الوثنية ، التي عبرت عن مصالح مستقلة للقبائل والمناطق، لم تعد تستجيب لعلاقات التوحيد الاجتماعية والسياسية المتصاعدة.

 إن شبكة الإلهة الوثنية عبرت عن مكانة مركزية منهارة للمرأة ، فقد سيطرت الإلهات الأنثى : اللات والعزى ومناة ، على القبيلة الإلهية ، ولكن الإله الذكوري (هبل) كان يتمتع بمكانة خاصة، غير أن سيطرة الآلهات الأنثويات يمثل تناقضاً كبيراً مع تنامي العلاقات الأبوية الذكورية القوية، ولم يكن ثمة من المرحلة الأمومية سوى بقايا أسماء ، وكانت كافة أسس الحضارة قد تشكلت بين القبائل المسماة عدنانية ، وهي التي كانت ضاربة في البداوة ، بخلاف القبائل القحطانية التي استقرت في اليمن وكونت دولاً ، غير إنها لم تستطع القيام بالتوحيد السياسي للمنطقة ، لأسباب تتعلق كذلك بالبنية الزراعية المفككة ، وقد ضعفت الزراعة مع انهيار سد مأرب ، وعودة الكثير من القبائل اليمنية للارتحال والبداوة. إن هذا قد وضع كذلك أسساً للتقارب بين التجمعين العربيين الكبيرين ، إلا أن التمايز القبلي سيظل لفترة طويلة.

 لقد أدى هذا إلى المزيد من التدهور المعيشي لغالبية السكان ، وأزداد ذلك باستمرار الحروب ، كما أشرنا ، بين الإمبراطوريتين الفارسية والرومانية، وكذلك الحروب الأهلية العربية .

لقد تضخم عدد القبائل الرعوية في الجزيرة ، وأصبح العدنانيون (القيسيون) القوة الكبرى فيها ، وتشكلت لهم مدن هامة ، خاصة مكة التي أخذت تلعب دوراً توحيدياً تجميعياً ، وكان موقعهم المتميز الواسع في الشمال والغرب قد جعلهم قادرين على توحيد الجزيرة وقبائلها.

كيف كانت استجابة الوعي الديني للعمليات الاقتصادية والاجتماعية التوحيدية ؟

 بطبيعة الحال كان العرب في وضع استقبال طويل للمؤثرات العربية الشمالية خاصة ، حيث كان التداخل والتفاعل الطويل.

 (في أوغاريت ، ومنذ الألف الرابع قبل الميلاد ، قام أتباع إيل وبشكل حاسم ، بإلغاء كل حضور للأرباب من الطقوس الدينية للبلاد ، فبعل أقوى الأرباب الأوغارتيين ، صار الآن شيطاناً أكبر ، وزعيماً للأبالسة ، وكذلك عشتار التي أصبحت علة للانحلال الخلقي ومصدراً للإباحية الجنسية.)، (24).

 إن حصول الصراع بين أتباع أيل وبعل ، بين الإله الممثل للسلطة العليا ، وآلهة البنية الزراعية، هو ظاهرة أخذت تتنامى في المنطقة الشمالية من المشرق ، بسبب تصاعد العمليات التوحيدية السياسية ، وبسبب تدفق الرعاة المستمر ، الذين أخذوا يجعلون المنطقة بدوية أكثر فأكثر. كذلك فإن مهمة توحيد المنطقة وطرد الغزاة ، كانت تنمو عبر القرون. لكن هذا الصراع ظل مستمراً دون حسم بسبب التداخل بين البنيتين الرعوية والزراعية ، وعدم قدرة المؤسسات السياسية على الانفصال الكلي عن الجمهور.

 لقد رأينا كيف توغلت الآلهة الشمالية في الجزيرة العربية ، وكان إندغام أسمي أيل وآن بمناطقها ومدنها وأسماء البشر والآلهة فيها مؤشر على الترابط والتلاحم بين الجزئين العربيين ، ولكن تطور مكانة أيل خاصة ، يعبر عن النفوذ الفكري المتزايد للشمال السوري مثلما أخذت البادية السورية تصبح امتداداً لتدفق الرعاة من الجنوب.

(لاحظ جورجي كنعان في كتابه (تاريخ الله) أن النقوش التي عثر عليها في الإمارات الآرامية تتضمن إشارات واضحة إلى التطور الذي لحق باللفظ (إيل) منذ الألف الأول ق. م . من حيث البنية والمدلول ، فمن حيث البنية ترددت في النقوش صيغ متعددة لــ «إيل» مثل (ال ه) ، (ال ها) ، (ال هه) ، (ال هم) ، (اله ى ا) . ومن حيث المدلول تحولت الصفة (إيل) عند العرب القدماء إلى لفظة (الله) فكان من الطبيعي أن يدخلوه في تركيب أسمائهم مثل : ماء الله ـ سعد الله ـ الخ) ، (25).

 وفي اليمامة كانت عبادة (الرحمن) منتشرة ، وهو أسم يجمع بين الرحم ، وهو صلة القرابة المقدسة ، والإله آن .

 لا نستطيع أن نقول إن إيل قد تخلص من الآلهة الزراعية ، وصار تجريداً كاملاً ، فالبقع الزراعية قد شهدت الاحتفالات الطقوسية الاخصابية ، وقد كانت جذور الحج الوثني إلى مكة تحمل سمات ذلك ، عبر شرب الخمور ولبس ملابس قليلة وتقديم الذبائح إلى الأصنام.

 لكن ضخامة الجسم العربي الرعوي ، وضآلة المناطق الزراعية ، وعملية التوحيد المستمرة في بنية الجزيرة العربية ، والدور القيادي المكي في ذلك ، جعلت عملية التجريد الواسعة تكبر في رمز الله ، نفياً للإلهة الأنثى الملحقة به وهي (اللات) ، تعبيراً عن الانفصال الحضاري الكامل عن المجتمع الأمومي ، ولكافة شبكة الآلهة المفتتة للجسم الاجتماعي ، و تعبيراً عن تشكل المؤسسات السياسية الحاكمة وصعود الحاكم الفرد كذلك ، والانتقال إلى الحضارة.

هنا حدثت عملية التجريد الثالثة دون صعوبات هائلة كما حدث في عمليتي آمون ويهوه ، بسبب محدودية الإرث الزراعي وطقوسه ، والدور الكبير الذي تلعبه القبائل الرعوية ، فغدت عملية التوحيد الدينية والسياسية عسكرة لهذا القبائل وتوجيهها نحو التوسع وتغيير طابع المنطقة وطرد القوى الأجنبية منها وإحداث عملية تقدم حضارية كبرى بها.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فصل من كتاب: انظر عبـــــــدالله خلــــــــيفة/ الاتجاهات المثالية في الفلسفية العربية الإسلامية، والذي يعرضُ فيه المقدمات الفكرية والاجتماعية لظهور الإسلام والفلسفة العربية.

المصادر :

(1): (راجع: تاريخ الشرق الأدنى القديم، د. محمد أبو المحاسن عصفور، دار النهضة العربية1984، بيروت ص 60 ــ 62).

(2): (فبما أن البشر قد خلقوا لخدمة الألوهة (…) فان كل مدينة دولة قد كانت استثمارة للألوهة خاصة ببنية قرابية (مجتمع) مخصوصة، ومكرسة للألوهة المطلقة في شخص أحد أرباب الكون المخلوق) (الميراث العظيم، أحمد يوسف داود، سلسلة القسام الفكرية،1991 دار المستقبل، دمشق، ص302).

(3): حول هذه المدينة المسيطرة على الفضاء التاريخي نقرأ: (مساحة المدينة ميلاً مربعاً، وبساتينها ميلاً مربعاً آخر، وتبلغ حفر الطين ميلاً مربعاً، وكذلك أرض الفلاة المحيطة بمعبد عشتار. ثلاثة أميال مربعة ومساحة من أرض الفلاة تكون مدينة أوروك) (ملحمة جلجامش، من كتاب (أساطير من بلاد الرافدين، ترجمة نجوى نصر، دار بيسان،199، ط 1).

(4): ( جذور الاستبداد ، عبد الغفار مكاوي ،عالم المعرفة ، العدد192 ، ص59، الكويت).

(5): إن هذه البنية الاقتصادية ـ الاجتماعية هي أساس النظام، في حين تتبدل الهياكل السياسية دون مس كبير لأسس البنية، يقول مؤلف كتاب (الميراث العظيم) حول تجربة مصر: (لكن وجود الدولة المركزية لم يكن يعني ـ على ما يبدو ـ تغيير الشيء الكثير في جوهر التركيب الجمعي وحتى الإداري. فقد ظلت المدينة ـ الدولة أساساً في تكوين الدولة القطرية، وهو ما تتكشف عنه متابعة الدراسات المكتوبة في تاريخ مصر القديمة.)، ( الميراث العظيم، ص 299.).

(6): (مغامرة العقل الأولى، فرس السواح، دار علاء الدين، ط1، ص31.)

(7): ( المصدر السابق صفحات:32، 33 ).

(8): (راجع كذلك المصدر السابق، ص94 ـ 97).

(9): (المصدر السابق، ص 39).

(10): (أساطير من بلاد الرافدين، دار بـيسان، ترجمة د. نجوى نصر،1991 ، ص 124).

(10): (الإسلام وملحمة الخلق والأسطورة، تركي علي الربيعو. المركز الثقافي العربي، ط1،1992، ص114.).

 (11) :(المصدر السابق، ص 115.).

(12): (المصدر السابق، ص 119.).

(14): (يقترب أبن خلدون من رؤية تاريخ المنطقة وهيمنة القوى الرعوية فيها في كلامه عن ضرورة الاعتبار لما:(وقع في العرب لما انقرض ملك عاد قام به من بعدهم إخوانهم من ثمود ومن بعدهم إخوانهم العمالقة ومن بعدهم إخوانهم من حمير ومن بعدهم إخوانهم التبابعة من حمير أيضاً ومن بعدهم الإذواء كذلك جاءت الدولة لمضر وكذا الفرس لما أنقرض أمر الكينية ملك بعدهم الساسانية حتى تأذن الله بانقراضهم أجمع بالإسلام وكذا اليونانيون أنقرض أمرهم وأنتقل إلى إخوانهم من الروم وكذا البربر بالمغرب الخ ..)، (المقدمة، فصل في الملك إذا ذهب عن بعض الشعوب من أمة فلا بد من عوده إلى شعب آخر منها ما دامت العصبية، 116، طبعة دار العودة).

(15): (جذور الاستبداد، ص 168).

(16): (وكان طبيعياً أن يصنع خيال الحكماء الشعبيين في وقت المحنة والظلم، إلهاً يشاركهم محنتهم ومظلمتهم، فيموت جوراً، كما يموت المسخرون حول الأهرامات العتيدة، وتنطبع الأسطورة الجديدة بطابع جديد على الفكر المصري، فتحول همها إلى الفقراء، ومشاكل العوز والحاجة، وآمال الضعفاء وطموحاتهم، وتصور الحل الأمثل لهذا الوضع الاجتماعي المختل، لتصبح الأوزيرية هي التعبير الأيديولوجي عن الثورة الشعبية)، ( أوزيريس وعقيدة الخلود في مصر القديمة ، سيد محمود القمني ، كتاب الفكر ط 1، 1988، ص144.).

(17): (تاريخ جهنم، جورج بنوا، منشورات عويدات، ط 1، بيروت).

(18): (المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، د. جواد علي، الجزء الثاني، الفصل الثامن عشر : العرب والرومان ).

 (19): (أشارت تلك النصوص الرافدية، المدونة في القرن التاسع قبل الميلاد ، إلى ملكات عربيات ..)، كتاب (رب الزمان، سيد محمود القمني، الناشر مدبولي الصغير، الطبعة الأولى، ص 194).

(20): (النبي موسى وآخر أيام تل العمارنة، سيد القمني، المركز المصري لبحوث الحضارة، الجزء الثاني، ص 238).

(21): (يقول لويس عوض في كتابه ( فقه اللغة العربية): (ولا شك أن العرب حين نزلوا شبه الجزيرة العربية إنما نزلوا على سكان أصليين كانوا فيها من قبل ، كان منهم العماليق الذين نعرف من قصة ” الخروج ” في التوراة أنهم كانوا مستقرين من الحجاز إلى جنوب فلسطين من قبل خروج بني إسرائيل وهؤلاء أستطعنا تحديدهم بجحافل الهكسوس المطرودين من مصر في القرن الخامس عشر ق. م.)، (سينا للنشر ، ط1، ص52 .).

(22): (تاريخ الله: إيل ـ العالي ، جورجي كعان ، بيسان للنشر والتوزيع ، بيروت ، ط 2 ، ص 179.).

(23): (راجع الصفحات180 ــ 204 من المصدر السابق).

(24): (فرس السواح، لغز عشتار، ص349).

(25): (الأحناف ، عماد الصباغ، دار الحصاد، ط 1، ص 26).

عبـــــــدالله خلــــــــيفة: تطور الوعي الديني في المشرق القديم

إبراهيم العُريّض ــ الشعر وقضيته

 

٢٠١٨١٢٠٣_١٨٤٩٥٩

                     إبراهيم العُريّض

                   ✨ الشعر وقضيته
                    ○ بيان العريض الشعري ودلالاته المضيئة الباقية

  الشاعر والباحث الكبير إبراهيم العريض من الشخصيات القليلة في الجزيرة العربية والخليج الذي استطاع ان يبلور نظرة عميقة في رؤية الشعر وتطوره، حتى ان كتاباته النقدية والشعرية القصصية والملحمية لا تزال تخصب الواقع الثقافي وتحرض العقول على الكشف الادبي والبحث النقدي، خاصة كتابه (الشعر وقضيته في الأدب العربي الحديث). الطبعة الثانية سنة 1974، مطبعة حكومة الكويت.
  الرؤية العربية الرصينة والكلاسيكية عند إبراهيم العريض كانت ضرورية للأجيال الشعرية الشابة في الجزيرة العربية والوطن العربي، لكنها ابتعدت عنها، ولم تتلاقح معها، وتستفيد من اعماقها وخبراتها.
  الشعر لدى إبراهيم العريض كائن ذاتي وموضوعي معا، فهو وليد الذات الشخصية وتجاربها وعطائها، وهو ايضا نتاج الاحوال الاجتماعية والظروف الموضوعية. فالعريض يقوم بخلق جدلية عميقة بين ما هو شخصي وخاص وذاتي، وبين ما هو موضوعي وعام.
فما يصر عليه البعض من ان الانتاج الشعري وليد النبع الداخلي الخاص المحض،   وشكل من تجلياته الغامضة غير المحددة في سياق، هو أمر مرفوض من الاستاذ الناقد، كذلك فان تصور البعض الآخر بأن الشعر والادب عامة، هو انعكاس للظروف الخارجية والعامة، هو أيضا امر غير صحيح.
  والعريض يتغلغل أولا في الاسباب الموضوعية لتكون الشعر، معددا تجلياتها المتعددة، ابتداء من الظواهر الطبيعية المختلفة، التي تترك تأثيراتها المتباينة على نفوس ولغات الشعراء، مرورا بظروف الحياة، حتى الجذر العميق للحياة البشرية المتمثل في (العلاقات الاجتماعية التي عادة تنشأ جيلا بعد جيل بين أفرادهم، ذكورا واناثا وشيوخا وشبابا، وفئات واحزابا، ثم ظلت تتجدد وتتكاثر في المجتمع الواحد، وفي اكثر من مجتمع بين الرؤوس والاتباع، أو الملوك والسوقة، أو السادة والعبيد) ص 452.
  هذه الاسباب الموضوعية هي التي يحددها العريض كأساس مادي لتشكيل الظاهرة الابداعية، الشعرية خاصة، فالانقسامات الجنسية والجيلية والطبقية، هي التي تلعب دورا حاسما في صنع الاساس الموضوعي العام للابداع.
والعريض في بحثه عن الجذور الخلفية للظاهرة الذاتية، يعتبر كافة العوامل السابقة ذات أدوار متساوية في صنع الظاهرة، فالاجيال والانقسام الاجتماعي تظل مؤثرات متكافئة ومتداخلة في تشكيل الأدب، ولا يلعب مؤثر منها دورا حاسما ومطلقا، مقتربا بهذا من نظرية العوامل المتعددة في صنع التاريخ والثقافة.
  ومن خلال هذا الاساس الموضوعي لتشكل الشعر ينطلق العريض الى تاريخية الشعر وتوزعه على الزمن الاجتماعي، محافظا على هذا الهيكل المادي لتكون العملية الابداعية.
  فهو يتبع الانواع الشعرية الثلاثة وهي الملاحم والمسرحيات والأغاني، أي الشعر الملحمي والدرامي والغنائي، في تجليها الاغريقي وخطها العلمي المستمر حتى الآن، معتبرا هذه الانواع أو الاصناف الادبية الرئيسية اساس تكون الظاهرة الشعرية العامة. وهو يرتبها حسب أهميتها ونموها التاريخي كذلك.
فالملاحم والمسرحيات الشعرية هي التي انبعثت أولا، في ظل الاحتفالات الباخوسية واحتفالات الشعوب القديمة بآلهاتها وأعيادها الربيعية والموسمية، ثم انبثق الشعر الغنائي بعدئذ، بعد انفصام المجموعات العشائرية وظهور الملكية الخاصة والشعور بالذات الفردية.
  والعريض لا يقوم بتحليل أسباب تشكل هذه الانواع الشعرية تاريخيا، معيدا اياها الى جذورها الاجتماعية والروحية، لكنه يبحث عن أسباب تشكلها بشكل عام عند الاغريق، ثم تعثر تشكيلها عند الشعوب الاخرى، وخاصة لدى الهنود والفرس.
  وهنا يقف العريض عند الأسباب الروحية في تشكل الشعر، حيث يرجع تطور اليونانيين الابداعي الى «نظرتهم» المؤنسنة للآلهة، وكيف انزلوها الى مصاف البشر، في حين كان عجز الهنود المسرحي يرجع لنظرتهم الصوفية، «وسموهم» بالإنسان الى مصاف الآلهة و«الزفانا»، أي الفناء في الوجود الأكبر.
وهذه الخلاصة هي نظرة مهمة للجانب الروحي وتأثيره الحاسم على الابداع، وان كانت المسألة تعود ايضا الى ظواهر متشابكة وأهمها المستوى الاقتصادي الاجتماعي للشعب الاغريقي، حيث المدن التجارية الحرة الديمقراطية، التي لعبت دورا حاسما في توجيه الارث الثقافي اليوناني، والشرقي القديم، نحو تعددية الاصوات، وتعميق ثقافة الحوار ــ الديالوج، والانسنة وحب الحياة والطبيعة، مما ولد الابعاد الدرامية خاصة.
في حين كان الشعب الهندي يعيش نظام الاستبداد الآسيوي والمشاعة الحرفية المغلقة، فتكون لديه نظام الطبقات المغلق والصوفية، وهي الحرمان المصعد والمتظاهر بالسمو. وهذا جعل نتاجه الشعري دينيا.
ويصل العريض هنا الى خلاصة هامة لافكاره، فيقسم الشعر الى منحيين، هما اللذان يخترقان ويشكلان ظواهره كلها، وهما المنحى «الواقعي» الذي يكون ذات الشاعر وخصوصيته، وهو ما نسميه في الوقت الراهن «الخاص»، وهو الذي يؤسس الشعر الغنائي والذاتي، حين ينطلق الشاعر متغنيا بأفراحه وآلامه، مصورا هذه الذات في تقلباتها وهجائها للآخرين أو مدحها لهم، وهي كلها ظاهرات ذاتية داخلية، لأن الشاعر يصف عواطفه واعجابه بدون تجسيدات موضوعية كأن يمسرحها في نماذج.
وهناك المنحى «المثالي» حين يخرج الشاعر من ذاته فعلا، عبر تقميص وتجسيد ذوات اخرى وشخصيات وأفكار مغايرة. وهو ما نسميه البعد الدرامي والملحمي للشعر، وهو أكبر من صفة «العام» المقابل للخاص. وأقرب تعبير له هو المنحى الموضوعي في الشعر. لأن تعبيري «الواقعي» و«المثالي» أقرب للفلسفة منهما للنقد الأدبي.
وتطور الشعرية لدى الشاعر هو في سيره من الذاتي الى الموضوعي، في نموه من ذاته نحو ذوات أكبر وتجسيدات موضوعية أشمل، كما يرى العريض.
ان الانواع الملحمية والدرامية هي الانضج والأهم شعريا، كما يرى العريض، في حين يبقى النوع الغنائي هو الأقل تطورا، ومن هنا، كما يضيف، نجد عمالقة الشعر الانساني هم صناع الملاحم والمسرحيات كـ هوميروس واسخيلوس وشكسبير وغيرهم. وهذا ما يجعل الشعر العربي ذا مكانة متدنية في الادب العالمي نظرا لسيطرة الغنائية عليه.
ان هذه الرؤية انقلابية في النقد العربي الحديث، فبدلا من أن يغدو الشعر العربي قمة من القمم في العطاء الشعري العالمي، يغدو في مكانة محدودة، نظرا لضعف الألوان والأصوات المتعددة داخله، وصدوره عن عالم صحراوي قليل العمق، مكرور التجربة، يعيد انتاج نفسه عبر الحقب، فلا يصنع ملاحم ولا مسرحيات بل قصيدة تصف وتمدح وتهجو، واذا تطورت في العصر العباسي فذلك عبر ادخال الفلسفة والحكمة داخل هذا الصوت الذاتي المسيطرة.
ويقول العريض هذا المعنى لكي يجنب عمالقة الشعر العربي كالمتنبي وأبي العلاء المعري ذلك الحيز الذي وضعهم فيه التصنيف النقدي الذي شكله.
والعريض مصيب في نظرته العمومية المجردة، فالشعر الغنائي ظل أقل مستوى من الشعر الملحمي والدرامي، نظرا لتأسيس هذين النوعين على بنى واسعة متكاملة تعتمد بنائية الصورة وتشكل النماذج والحبكات القصصية العميقة، التي ظلت تحاور البشر عبر العصور، رغم انطلاقها من ظروف مختلفة.
وعدم قدرة العرب على صياغة النوعين من الادب تعود لطبيعة تطورهم ومرحلتهم التاريخية. فهذان النوعان ارتبطا بالمرحلة الوثنية الطقوسية واحتفالاتها ومدنها وزراعتها، ومن الغريب المستبعد ألا تكون الشعوب العربية قبل الاسلام قد عرفت هذين النوعين، خاصة إذا عرفنا ان الشعوب السامية، الشجرة التي ينتمي اليها العرب، قد عرفت الملاحم الشعرية كملحمة جلجامش وغيرها. ويجوز ان تكون المرحلة الدينية الجديدة قد طمست الآثار الشعرية القديمة المرتبطة بتعددية الآلهة.
وفي وقت كتابة بحث الاستاذ العريض سنة 1954، لم تكن الدراسات الخاصة بوعي الشعري واللغوي والاسطوري قد وصلت الى ما هي علية الآن.
وكما شهد الشعر العربي تطورات جمة في النهضة العباسية، عبر نمو المدن والاحتكاك بالشعوب الاخرى. فانه شهد تطورات أخرى باحتكاكه بالحضارة الغربية ويعتبر العريض، مستشهدا بنازك الملائكة، أن أسباب التطور الشعري تعود إلى التأثر بالحضارات الأكثر تقدما وهذا أمر فيه بعض الصواب ولكن أمر التطور العميق يعود لتغيرات اجتماعية وروحية تجري في الأمة ذاتها يسرعها الاحتكاك الخارجي وينميها.
وهكذا فان الغرب ساهم في خلخلة العمود الشعري العربي. وخلق الأشكال الشعرية الجديدة، غير ان الدلالات والمناخ الفكري يعود للتربية العربية فالتطورات الفكرية المتصاعدة هي التي كسرت شكل القصيدة الكلاسيكية، وأفضت الى الاشكال الجديدة.
ومنذ وقت مبكر حذر العريض من الانطلاقات الفوضوية في شكل القصيدة، مطالبا بالحفاظ على بنية مرنة وكلاسكية، بل ومقدرا حتى قصيدة التفعيلة كما يكتبها نزار قباني، وكان هذا وعيا ناضجا لم تستفد منه الحركة الشعرية في البحرين كثيرا فيما بعد، نتيجة القطيعة بين الاجيال، وعدم أخذ تجربة العريض الغنية بعين الاعتبار.
في مختارات العريض للشعر المرافقة لهذا البحث، يقدم مختلف أنواع القصيدة الحديثة، والعديد من الاصوات الرومانسية والثورية والذاتية، معبرا عن تعددية جميلة ورصينة.
وكل الاصوات المتعددة التي يقدمها العريض كعبدالوهاب البياتي وفدوى طوقان وعلى محمود وايليا أبوماضي وأحمد الصافي والجواهري وعمر أبوريشة ونزار قباني، تؤكد الابعاد المتعددة التي يريدها العريض للصوت الشعري، وهي جزء من نظرته الى الذات الشعرية، حيث يعتبرها متعددة الموجات والمراحل، ولا يمكن سبر أغوارها، فهي لا نهائية التطور.
فالشاعر من الممكن أن يعبر عن اصوات متعددة، ومواقف مختلفة، ويلبس أقنعة كثيرة، وتبقى ذاته مستمرة التشكل، ولهذا فان الصنف الشعري الغنائي، المعبر بجلاء عن الذات، هو النوع المبسط، قليل العمق ومعدوم الاقنعة، في حين ان الصنفين الدرامي والملحمي هما الاقدر على اخفاء ذات الشاعر، واعطاء صوره بقاء وتنوعا، كما يتيحان له البقاء وسط التحولات والتقلبات.
نظرة الاستاذ العريض هنا لم تتوجه الى مسألة تشابك الاصناف الشعرية، حيث انه من الممكن ان تحوي أبعادا درامية وملحمية، والعكس صحيح كذلك.
ومن هذه الزاوية، يمكن رؤية جدلية الاصناف الشعرية، تعبيرا عن جدلية الانواع الادبية كذلك، فالشعر والقصة والمسرحية، يمكنها ان تتصل، محافظة على انواعها المستقلة. وفي النوع الواحد كالشعر، لا توجد حدود كبيرة، رغم أهمية الحفاظ على قانونية الصنف أيضا. فقد خلق احمد شوقي قصائد غنائية شعرية لا دراما شعرية.
وفي تجربة العريض المهتمة بالتشكيل الموضوعي للشعر، أي بتجسيده قصصيا وملحميا، كذلك، الغنائية المتفجرة، المتقطعة، الملتحمة. ومن هنا كان اعتماد العريض على التسلسل المنطقي والزمني والبنائية الصارمة، اقترابا منه لمعمار القصة المتعدد الاقنعة.
هل نقول ان كل ما طرحه العريض عن الشعر وأصنافه وذات الشاعر وأقنعته المختلفة، ليس سوى بيان العريض عن شعره وعالمه الابداعي الواسع؟
أليس كل هذا الوعي عن الآخرين وأفكارهم، سوى تجسيد لصوت العريض ونظراته؟

 القصة الشعرية عند إبراهيم العريض
اشتهر الشاعر إبراهيم العريض كشاعر قصصي كبير، استطاع ان يخلق القصيدة القصصية الرومانسية الطويلة، بعد عمليات خلق شعرية دؤوبة، ان هذا الروح القصصي العالي كان مثار ملاحظة واسعة من قبل العديد من الدارسين والشعراء.
يقول عنها الاستاذ حسن الجشي في مقدمة ديوان العريض:
[ويبدو ان العريض اكتشف نزعة القص عنده من خلال قصيدة «مي» التي كانت تحتل مكانة بارزة في نفسه، ولعل فرحة الاكتشاف هذه هي لتي جعلت هذه القصيدة اثيرة على قلبه، بيد ان الاهم من ذلك انها كما قلنا بداية نقلة جديدة تحول بعدها العريض من القصيدة الغنائية البحتة التي ضاقت بأحاسيسه ورؤاه وخبراته الانسانية الى القصيدة الموضوعية ذات الطول المديد في حركة متطورة . .] ديوان ابراهيم العريض، طبعة دولة الكويت سنة 1979.
ويضيف الاستاذ الجشي داخلا الى نسيج تجربة العريض الشعرية القصصية:
[ان اكثر قصصه . . ذو بنية مركبة ولهذا نجد منه التعميم والبناء العضوي، والتخلص من الخطابة ومن الاسلوب الوعظي الذي يشيع في قصص مطران الشعرية . . وهو في هذا البناء يستخدم الحوار والمناجاة واحياناً المونولوج الداخلي . . ويتميز الرد القصصي عنده بطابع فني غالباً . .].
ويقول عن شعر العريض القصصي الاستاذ غازي القصيبي ما يلي:
[لقد ارادت طبيعة العريض له ان يكون روائيا وأراد هو ان يكون شاعراً فكان لكل منهما ما أراد، واصبح شاعراً روائياً، أو روائيا شاعراً، ان العريض لا يستطيع ان يكتب قصيدة دون ان يحولها الى رواية أو على الاقل اقصوصة] غازي القصيبي، قصائد أعجبتني، دار ثقيف للنشر والتوزيع، 1982، ص 69.
سنأخذ قصيدة «بين عشية وضحاها»، ص 145، من الاعمال الشعرية الكاملة، كمثال تطبيقي لهذا النفس القصصي، الذي لفت الأنظار وسنحاول فض بعض اسرار هذا النص الأدبي، في عملية نموه القصصي، بالدرجة الاولى.
القصيدة تتكون من فقرتين رئيسيتين، حددهما الشاعر برقم (1) و(2)، وبدا ان العنوان ينطبق على تقسيم الفقرتين، فالرقم الأول يقابله «عشية»، والثاني يقابله «ضحاها»، فهاتان الفقرتان الكبيرتان، تقسمان الزمن الى ماض، وحاضر، أو هما تجسدان حكاية، لها أولها، ولها خاتمتها، والفقرة الكبيرة الأولى هي عن الحاضر، الذي ينقلب الى ماض، والحاضر يبقى كنهاية للحكاية، وبين الماضي والحاضر هناك خط الحكاية المضفور من علاقة حب سريعة خاطفة بين فتى صياد وفتاة غنية، في ليلة عاصفة، في بنية اجتماعية متناقضة، لا تسعف الحب ان ينمو ويتشكل، وتؤدي بالحبيب الى الافتراق التام القاطع، ثم التلاقي بعد عشرين سنة، في موقع آخر، لم تتغير فيه البنية الاجتماعية المتناقضة، بل تغيرت احوال الحبيبين، فصار الفتى الصياد الفقير فناناً شهيراً، وصارت الحبيبة زوجة وأماً، وبقى شيء واحد لم يتغير هو ذاتا الحبيبين المفعمتان بحب فاشل.
هذه الحكاية لا يلقيها علينا الشاعر دفعة واحدة، بل هو يرسمها لحظة بلحظة، وينميها عبر الوسطين «الطبيعي» و«الاجتماعي» أي مظاهر الطبيعة وأحوال المجتمع، لكن سرعان ما ينزاح «الاجتماعي»، ليبقى «الطبيعي» مسيطراً على اللوحة، ولهذا فان التنمية الشعرية القصصية، عبر تشكيلها للمناخ المحيط بالشخصيتين، تعطي فرشة موضوعية، الى حد ما. وارضية لتنقل «البطلين»، تفسر بها افعالهما وحياتهما، ولكن نظرا لانزياح «الاجتماعي»، وسيطرة «الطبيعي» فان تلك الارضية تختفي.
في الفقرات الشعرية الصغيرة داخل الفقرة الشعرية الكبيرة، هناك محافظة كمية على عدد الابيات، حيث تبقى بشكل ثابت تسعة ابيات، ما عدا نهاية الفقرة الكبيرة الأولى، حيث يزيد بيتان، وما عدا نهاية الفقرة الكبيرة الثانية حيث ينقص بيتان.
الهندسة البنائية الدقيقة تتشكل منذ ضربات الفرشاة الأولى حيث التصوير للقرية بمناخاتها الطبيعية والاجتماعية، واللقطة الأولى هي لقطة عامة للقرية في شكلها الواسع، الرابض عند البحر، ويبدو واضحا طابع القص الذي يسيطر على العملية الشعرية، يقطعها ويوزعها، لكي ترسم ملامح الاشياء والظاهرات.
على شاطئ البحر في قرية تلـوح بعـزلتهـا الـدائمـة
كأن الدجى لفها بالسكون فما برحت دهرها نائمة
فتصوير المكان المحدود للقرية، سرعان ما يندفع الى رسم زمانها، ليندغم هذا الوقت الليلي، الغروبي، بحياة القرية العميقة، الغائرة وراء الظاهرات المباشرة، فكأن لحظة العزلة المكانية، والانحباس عند البحر، هو اللحظات الدائمة المستمرة لتخلفها، لنومها في الظلام، ومفارقتها «للحضارة» والمدنية.
فيغدو الانحصار المكاني، والظلمة، بوابة سريعة لدخول عالمها الداخلي الحبيس في العصور القديمة.
وليس الانحصار المكاني، إلا تتمة للانحصار الزماني، فالزمن رغم مروره الدائم فوق هذه القرية، إلا انها تبقى خارجة، فهذه الشمس «عروس النهار» تطل عليها، لكنها لا تلبث في جوها إلا «حالمة»، لا مغيرة، وهذا البدر يطبع قبلة طويلة، لكنها لا تؤدي الى خصب وتبديل، فيبقى كل شيء كما كان.
والوصف هنا متسلسل، متتابع، منطقي، تتداخل فيه بكثرة حروف العطف تربط بين الصور المنسابة بتلقائية، وتجمعها في لوحة مكثفة، تصف عالم القرية، حتى تصل في خاتمة الفقرة الصغيرة، الى كشف القوة المضادة لعالم القرية، انه البناء الشامخ المطل عليها.
وفوراً يكشف الشاعر، هذا التناقض الكبير في البنية الاجتماعية، التي يرصد بطله فيها. فهذا البناء:
يقيم به نائب . . أمـره مطاع . . وسطوته غاشمة
فلو ايقظ البحر امواجه لمــرت بــأعتــابــه لاثمــه
ان التداخل بين الاجتماعي والطبيعي يبرز هنا كذلك. فالقرية ليست محصورة في شق مكاني فحسب، بل في زاوية اجتماعية كذلك، فهي تنحشر اسفل هذا البناء الشامخ، وتركع تحت سياط هذا النائب ذي السطوة.
ويواصل الشاعر رصد هذا التناقض، عبر وصف شعور اهل القرية تجاه هذا «النائب»، وحياتهم الصعبة داخل تلك الأكواخ.
المقطع الصغير التالي يتجه لرسم صورة «البطلة»، الشخصية الأنثوية الرئيسية في الحكاية. وهذا الاتجاه الأول والاساسي للتركيز على الشخصية الانثوية ، ليس عفوياً، فهذا جزء من الوعي الرومانسي، النهضوي، تكون المرأة غالباً لدى العريض ينبوع الحب وبؤرة الصدام الدرامي ــ القصصي، وغالباً ما تكون هذه المرأة تعيش في عالم مبهر، غني، مرفه، وأيضاً: شاعري، وطاهر، فهي ليست سوى الجمال والنقاء اجتمعا في الانسان.
إن البطل ذا المنبت الارستقراطي، غالباً ما يكون محور الحكاية، أما البطل الفقير، فهو يخرج عادة من دائرة الوصف القصصي، وهذا يعبر عن حدود النزعة الرومانسية لدى الشاعر في تحليلها للحياة والنموذج الانساني، هذه الصورة الرومانسية لا ينثرها الشاعر في قصيدته، بل هو يخلقها عبر الفعل القصصي، الذي سيبدأ بعد، يتوقف تدفقه، مقطع مقتضب حول الطبيعة، وقد طالعتها هذه المرأة الشابة «الخود». حيث ترى الشمس في حالة عشق للإله، والبحر يصير انثى تلملم اردانها امام النسيم الذكوري، تغدو العلاقة بين النسيم والبحر علاقة حب مطردة وكأنها اشارة لما سوف يجري لاحقاً.
ومرة اخرى يظهر التضفير بين الطبيعي والاجتماعي، ولكن الاجتماعي الآن، هو النفسي المحض، المشاعر والعواطف، وقد انفصلت عن تربتها. يتم التركيز منذ الآن على عواطف المرأة والرجل.
فها هي المرأة ترى قارباً نشطاً يحمل فتية متجهين للصيد، فتعلن التمرد على القصر وتنطلق الى البحر.
مثل هذه الحركة القصصية تبدو غريبة، إبان الثلاثينات من هذا القرن، ولكن الشاعر لا يصف واقعة فعلية جرت في الخليج. أو في الهند، بل هو يشكل علاقة غرامية «خيالية»، استقت من بعض جوانب الواقع، لكن تم تغييرها واطلاقها، عبر هذا الوعي الرومانتيكي.
وتركيز الشاعر القاص على الفتاة، هو لكون المنبت الارستقراطي غير معبأ بمشكلات وتضاريس القرية، كما هو حال الفتى، وسوف يتيح نموذجها السياحة خارج التفاصيل الملموسة للواقع، فالمرأة سرعان ما تحررت من سجن القصر والقرية معاً، وطارت كالحمامة، أو النجمة، وبدا أن كل شيء في الطبيعة يمارس الحب معها، وخاصة هذا النسيم الذكوري الذي يقبلها فيصير ندى.
ولكن هذه اللقطات الجزلة، سرعان ما تتحول الى لقطات عاصفة، فيثور الموج. وينكسر زورقها، فتغدو الطبيعة عاملا داخلاً في الحدث كذلك، ومؤثراً ملموسا في تشكيل العلاقة بين الحبيبين المنتظرين، فتلك الكف التي سارعت لانقاذها من «الغيب» هي لذات الفتى الذي سيكون الحبيب، والتي تتعهدها بالعلاج وتسمعها الانغام الجميلة من عودها.
[ونعجب هنا كيف لم يقم القصر بحملة بحث عن الفتاة الضائعة، وكيف سمحت الظروف المتخلفة القروية لتلك العلاقة بين فتى وفتاة ان تنمو؟ انه الوعي الرومانسي في قطعه للمشاعر من سياقها البيئي، وامتلاك هذه المشاعر لطبيعة القص].
ان العواطف الطاهرة والموسيقى النورانية القادمة من وراء الغيب، كلها تجتمع لخلق العلاقة الغرامية بين البطلين، ويتشكل الحب تلقائيا عفوياً، وكأنه جاء من مصدر نوراني، وليس علاقة انسانية مباشرة.
ان هذه العلاقة الغرامية الرومانسية ــ الصوفية، هي فوق الوقائع المباشرة والملابسات اليومية، ولهذا فان كل التغيرات القادمة والسنين، لن تفعل شيئاً في تغيير «الداخل»، فما الخارج، بتكويناته الاجتماعية ومظاهره، سوى قشرة رقيقة «زائفة».
ولكن ثمة شيئاً ينفجر ويدمر هذه العلاقة، وهو مع ذلك جزء من هذا الخارج «العابر». انه انتماؤها للقصر، وعلية القوم، والاب النائب الشرس، ان التناقض في البنية الاجتماعية، بين القصر والقرية، يعود هنا، بصورة حديثة، مجسدة، عبر التناقض بين الفتى والفتاة.
لِمَ لَمْ يعتبر الفتى هذا التناقض جزءاً من هذه القشور الخارجية، ولم يكتف بالداخل النوراني العميق؟ لم حول هذا التناقض الخارجي الى بتر لهذه العلاقة «المقدسة»؟
ان الفتاة تقر بظلم أبيها، وهي تعود الى بيتها، في منولوج تعليقي على الحدث السابق، ولكنها تصل الى لحظة تنويرية خاصة، ان رد حبيبها على ظلم ابيها هو ظلم ايضاً، ولكن بحقها. إن الحبيب لم يتميز عن الأب، فلم ينسج من سيطرة الخارج، ليسمو فوق التضاريس الاجتماعية، بل انحشر فيها، ولم يرتفع كما ارتفعت هي، فأكتمل حبها وتطهرها.
وغــاظــك ان ابـي ظــالم ألست بظلمك لي صاحبه؟
وبهذه الفقرة انتهى الحاضر، وصار ماضياً، وانتقل الزمن عشرين سنة، تبدلت فيها الاشياء، وهي المظهر، ولم تتبدل القلوب، وهي الجوهر.
وهنا تبدو العلاقة منقطعة، معدومة، بين القرية والقصر، فلم يكن ثمة تفاعل، فالفتاة تنقطع كلية عن الفتى، وتتجه لخدمة زوجها واطفالها، وتنجب طفلة هي نسخة منها. وكأن دورة الحياة الرومانسية تعيد آليتها بشكل دائم عبر هذا التكرار. فأيضا الابنة هي قمة الفتنة والطهر والعذوبة، وهي ايضا ستتجه لرؤية البحار السابق، وقد تحول هنا، بعد دورة الزمن هذه، الى فنان موسيقي كبير.
والشاعر القاص لا يضيع نسجه القصصي هباء، فرغم استطالته في وصف الابنة، إلا انه يستخدمها كصورة من الأم فقط، وكوسيلة لتنمية الحدث القصصي، وبعث المشاعر الداخلية العميقة التي لم تمت، فلقد هصرت سنوات الزواج المرأة، واذبلت ابتساماتها، ولا تشتعل هذه الابتسامة إلا عندما تذكر حبها القديم، والبحار المنقذ، فكأن الزواج هو جزء من الظاهر، والحب هو وحده الفرح الحقيقي المفقود.
وتتجه الأم والابنة الى الحفلة الموسيقية، وتكون ثمة صدفة جديدة في سلسلة المصادفات، أو قمتها، وهي الالتقاء بالبحار السابق، الموسيقي حاليا، وهو يعزف العود ويحرك الجماد.
ان هذه اللقطة الأخيرة، هي قمة كل المشاعر والحدث، فالموسيقي يرى المرأة، ويعرفها بسرعة، فمظاهر العشرين سنة لا تستطيع ان تحجب الجوهر، ويعزف بوله لها، ويندم في غنائه على تضييعه للحب، وتسأل الفتاة امها، عن هذا المغني المعذب، فتخبرها الأم، ببساطة، انه أحبها يوما، وليست كلماته الغزلية، المشبوبة الاداء الآن، سوى كلمات طالعة من قلب اقفر ومات! وتنتهي الحكاية.
وهكذا عندما وصل الفتى البحار، الموسيقي الناضج حاليا، الى ذات الموقف الرومانسي المكتمل، تكون هي قد ابتعدت عنه، رغم ان ذاتها كانت مليئة بحبه.
هذه المفارقات العاطفية سببتها تلك البيئة الاجتماعية المتناقضة، والوعي المندس في شقوقها، لا الطائر المحلق بعيدا عنها، ان الموسيقي الآن قد حل اشكاله الخاص مع البيئة، وارتفع، ولم يعد بحاراً فقيراً، ووصل الى مرتبة الحبيبة الاجتماعية، والآن هو قادر فحسب، على ان يحبها حقا، وان تكون له، ولكنه لم تعد له.
ان التمسك بالبيئة الاجتماعية ومراتبها، هو قشور حسب وعي إبراهيم العريض ورؤيته الرومانسية، سواء كان هذا التمسك سلباً ام ايجاباً، ثورة أو قمعا، وهذا هو سر المأساة. فلو ارتقى البحار في تلك اللحظة القديمة، عن غضبه، وارتقى الى «الجوهر» الانساني، الى النقاء والطهر الروحي، بعيدا عن «مظاهر» الفقر أو الغنى، القرية أو القصر، كما فعلت الفتاة «النقية» لكان سعيدا الآن.
هنا نرى رؤية العريض، التي ترى الصراع الاجتماعي، ولكنها تعتبره من القشور، لأن الجوهر الانساني الخالد يسمو فوقه. ولا يمكن للفنان ان يبقى حبه إلا بالسمو فوق النزاع «العارض»، ولا يحدث الرقي والنور، إلا عبر هذا التجاوز للتضاريس الاجتماعية ولا يمكن للقرية، بالتالي، ان تصعد، للنور، للنهضة، إلا عبر هذا التسامي.
وإذا كانت القرية ككل لم تصعد، فان الفنان ابنها، ارتقى، عبر احدى أدوات النور، وهو الفن، وحين وصل، الى ذات المكانة الاجتماعية، اكتشف، ان كل تلك المستويات المتناقضة، هي مجرد مظاهر، ولكن في اثناء الرحلة، كان قد فقد حبيبته.
ان آلية الوعي الرومانسي تتحكم في البنية الفنية هنا، فالطبيعة قوة اساسية متداخلة ومؤثرة في الاحداث والمشاعر، وتمتلك كينونتها النقية، والمشاعر المرتفعة فوق الزمان والمكان هي القوة المهيمنة في نسيج الحياة، وهي كالمواهب والأفكار من مصدر علوي، والصدف هي التي تلعب الدور الحاسم في تنمية الاحداث، كوجه من اوجه تجلي القدر المهيمن على نسيج العالم.
والشاعر يعتمد في تجسيد هذا الوعي الرومانسي على قوانين نمو الحدث القصصي في جزء من الواقع. فيجسد الجو العام للحكاية، وينمي الحدث، ويرسم الشخصية المحورية، من خلال تصاعد الحدث، لكن هذا الحدث ينسحب تدريجيا من أفقه الاجتماعي، ليجنح في عالم المشاعر، وهي مشاعر شخصية واحدة، اثيرية، حالمة، وليس عبر تعدد المشاعر وتناقضها، وحتى حين يحدث التناقض النفسي يدور في سياق العاطفة الرومانسية وحدها.

 من المعارك الادبية في البحرين
○ إبراهيم العريض في مواجهة كاتب مجهول

مقابلة صغيرة قامت بها مجلة «القافلة» في سنة 1954، بالبحرين مع الاستاذ إبراهيم العريض ادت الى حدوث مناقشة أدبية ساخنة لبعض قضايا الأدب، وطرحت أسئلة جوهرية حول ماهية الأدب وعلاقته بالمجتمع. سوف نقرأ جزءاً من هذه المقابلة، وبالأخص المقاطع التي استدعت الحوار بادئ ذي بدء:
القافلة . . تسأل والأستاذ إبراهيم العريض يجيب:
● أنت ــ وإن تواضعت ــ استاذ روحي لجيل من الشباب البحريني الحي وأديب عالمي . . فما هي النصيحة التي تقدمها للأدباء الناشئين من الجيل الجديد؟
○ نصيحتي للأدباء الناشئين من الجيل الجديد بألا يقطعوا صلتهم بمصادر الثقافة العربية القديمة. فبدونها لا يمكن أن يقوم للعرب كيان قومي. وهلكت أمة لا تاريخ لها. ولست أعني بهذا بأن يعيشوا عالة على عصرهم فان لكل عصر مشاكله الخاصة. والشعب الذي يتنكر لشئون عصره يصبح في حكم الأموات إذ تلفظه الحياة.
ولقد كانت مصيبة الأمة العربية طوال العصور هي في تصور أبنائها انهم يستطيعون ايقاف عجلة الزمن.

■ المثل الأعلى للجمال
● ما هو المثل الأعلى للجمال؟
○ الجمال نسبي. فلا يمكن أن يكون له مثل أعلى. فكل ما هذب ذوقك ووسع احساسك بالحياة وزادك بها على تطاول العمر متعة وسروراً وكان عاملاً على رفع هذه الغشاوة عن عينيك بحيث ترى الدنيا زاهية الالوان لا مجرد سواد أو بياض. كل ذلك بالنسبة اليك والى من لهم علاقة بك هو الجميل.
● يتهمك كثير من المعجبين بك بأنك انطوائي تضن على أبناء مجتمعك بما من الله عليك من شاعرية فذة وتفكر سليم . . لماذا لا تحاضر في الأندية الادبية فترضي المتعطشين الى ادبك؟
○ لا أدري كيف يجتمع الاعجاب والتهمة في آن؟! على ان كلمة «انطوائي» مطاطية تستطيع أن تحملها ما شئت من معنى . . ولن تصل بها الى نتيجة. ولو أردنا التحديد لقلنا ان من الادب ما يعالج مشكلة الفرد في ظروفه الغابرة وهي لا تتجاوز زماناً بعينه في هذا المكان أو ذاك، كالقضايا التي تعرض على المحاكم أو كالوصفة الخاصة التي يصفها الطبيب الى مريض مثلاً تحت العلاج، فهذه لا بد من تغيرها من يوم الى يوم. وكذا أدب الصحافة. ومن الادب ما يتجاوز هذه النظرة الضيقة الى أفق الحياة الأوسع حيث تلبس المشكلة رداءها الانساني وتخرج من نطاق الفردي بحيث يسري حكمها على «الإنسان» في كل زمان ومكان فلا تعود قضية خاصة.
ويضيف الاستاذ العريض:
ولقد كنت دائماً أهتم من الادب بهذا الجانب الذي يرى المشكلة انسانية قبل كل شيء، أي لا تخص زيداً أو عمرواً من الناس فحسب بل تتعداهم الى «الإنسان» الجانب الذي لا يتقيد لذلك في الحكم لها أو عليها بظروفها العابرة التي قد تختلف باختلاف الأحوال. ولعل من هنا فضل القصة ــ عند بعضهم ــ حتى على وقائع الحياة. وصح اعتبارها باباً من أبواب الادب الرفيع اليوم وان كانت محض خيال، وترى لذلك شعري كله قصصاً . . حتى ما دار منه حول مأساة فلسطين.

■ أين الحقيقة؟
ويثير هذا الرأي حفيظة أحد القراء ــ ولا أظنه إلا أحد الكتاب ــ فيكتب في زاوية «آراء حرة» مقالة بعنوان «أين الحقيقة!»:
اريد أن أقول للأستاذ العريض ان هذا الادب الصحافي الذي يعالج هذا المجتمع الصغير. الذي هو جزء من المجتمع الانساني الكبير هو أدب انساني ايضاً، وكذلك أرض الشهداء. أما اخت شيرين وورقة التين وبيني وبينها وزهرات من خميلة الخيام وغيرها فليست أدباً انسانياً وليس الاستاذ العريض أديباً بالمعنى المفهوم، أديباً لا يجده زمان ومكان كطاغور مثلا الذي تغنى ببلاده وصور ريفها ومدنها وعاش وطنه بقراه وسهوله وبساطته وغموضه حياً خالداً في ادبه.
اما ما (يقوله) الاستاذ الفاضل على الادب اليوم من أن القصة تأخذ مجالاً بارزاً فيه ويفضلها بعضهم حتى على وقائع الحياة رغم انها خيال محض (فخطأ) الآن. الأدب اليوم لا يحتضن من القصة إلا ما يصور وقائع الحياة ويعالج المجتمعات الانسانية قبل كل شيء. فـ غوركي وهوارد فاست وتولستوي وغيرهم من أعلام القصة لم يكتبوا خرافات وأساطير خيالية، وإنما كتبوا قصصاً واقعية من صميم الحياة (….) فمن صميم الشعوب اغترف هؤلاء العمالقة أدبهم، من وقائع الحياة، لا الخيال المحض.
هناك تناقضات عديدة بين رأي الاستاذ العريض وذلك الكاتب المجهول. انهما يقفان على طرفي نقيض، ويتقبلان بشكل غير جدلي، الأمر الذي يشير الى وحدة الرؤية رغم الاختلاف.

محاولة للقراءة
سنحاول هنا أن نقرأ الحوار على ضوء وقته.
للعريض تصور خاص ذاتي للجمال وهو ان الجمال ما يجعل عينيك تريان كل شيء زاهياً. ان «الجميل» هنا هو أمر خاص بالفرد، بالذات الخاصة المنعزلة عن الآخر، فكل ما يجعلها تتمتع وتسر كان جميلاً.
لكن لدى الكاتب المجهول ان الجمال هو في رؤية الواقع على مرارته. ان تركيزه «الواقع» و«الحياة» و«الوطن» وان في اكتشافه رغم وجود السوء والقبح والتعاسة فيه، هو الأمر الباعث والخالق للجمال في الادب، هو أمر هام هنا جداً. فالكاتب يريد جر العريض الى مصدر الجمال ومقياسه الحقيقي والموضوعي، وليس الى الذات وأحاسيسها الفردية المنعزلة.
وتتضح شقة الخلاف بين المفهومين عندما يؤكد الاستاذ العريض ان الادب لا يعالج مشكلة الانسان في «ظروفه العابرة» بل يتجاوز المكان والزمان.
أما الكاتب فيرى على العكس ان في الغوص وراء هذه «الظروف العابرة» والاتجاه الى الواقع بكل مظاهره وبشره هو مهمة الادب.
وحقاً كيف يمكن الارتفاع عن «الظروف العابرة»؟ وهل يمكن للأدب أن يكون خارج الزمان والمكان؟
ولم يكن أدب العريض نفسه خارج الزمان والمكان، بل كان داخله، ولكن اتجه الى مناطق بعيدة وأزمان مختلفة، الى «فلسطين» والى «الاندلس» وغابت ملامح البلد، أي البحرين، في زمن العريض ذاته، عن أدبه بشكل واضح.
أي ان الخلاف ليس هو حول الخروج من الزمان والمكان بشكل مطلق، وذلك مستحيل، ولكن الخلاف يتركز على الخروج من زمان ومكان محددين والزمن هو النصف الثاني من القرن العشرين والمكان هو: البحرين.
ان الادب المتواضع المتواجد حينذاك حاول أن يتجه بقوة الى الحياة، وكان أدباً «صحفياً» كما وصفه العريض. لأنه اهتم بالكثير من القضايا «العابرة» فعلاً كتعدد الزوجات، ضرر الطلاق، الشعوذة . . الخ.
ان هذا حقاً لم يتوغل في الحياة، ولم يتجذر فيها بسبب ان الوعي الفني المتشكل حينذاك فحسب لم يكن بعيداً عن «الوعي الصحفي» كانت الرغبة في التأثير السريع، وكذلك عدم التمكن من فهم واستيعاب ادوات الادب والفن، ومناخ الخطابة السائد، من الأسباب التي أدت الى عدم تحول هذا الادب الصحفي الى أدب حقيقي.
ولكن على الرغم من ذلك فلو ان الادب الصحفي قدر له ان ينمو في بيئة صحفية مستمرة، ومناخ مزدهر، لأمكنه فعلاً أن يتجاوز صحفيته وسرعته الى الادب وهذا ما بدأ يتشكل بعد ذلك في مرحلة تالية من نمو الصحافة البحرينية، ولكن مع فارق جوهري هو نمو وعي اجتماعي مختلف.

  تضــاد غير جـدلي
ويتضح التضاد غير الجدلي بين العريض والكاتب المجهول في الحديث عن «الخيال» فالأدب لدى العريض هو خيال محض، فهو يعتبر القصة من أبواب الادب الرفيع وان كانت «محض خيال». وهنا يبدو الخيال في تصوره متعارضاً بشكل مطلق مع الحقيقة والواقع.
أما الكاتب الآخر فيندفع الى الجهة المعاكسة تماماً فيرفض ذلك «لأن الأدب اليوم لا يحتضن من القصة إلا ما يصور وقائع الحياة . .» فيبدو الخيال هنا خارج الادب، فينتمي الكاتب بهذا الى «الوقائع» الى «صميم الحياة» بينما العريض يتوجه كلياً الى «الخيال».
هنا نجد مفهوماً غير حقيقي عن الادب، فالخيال ــ وهو ميزة جوهرية في الابداع ــ يقف على طرف نقيض من التصوير الادبي الذي يجب ان يكون «واقعياً» أي بمعنى أن يسجل ويعكس بشكل حرفي ما يدور في الحياة.
وهذا الرفض للخيال، رغم خطأه الطفولي، مبني على عداء واضح للأدب الذي لا يتجه لاكتشاف الواقع، للأدب المنتمي الى مدرسة «الفن للفن».
نجد أن ثمة نقيضين هنا لا يتآلفان جدلياً: الواقع المباشر والخيال، فالأدباء الحقيقيون في تصور الكاتب المجهول هم المتجهون الى هذا الواقع والمبتعدون عن الخيال، الذي ليس سوى هروب وكلام فارغ. أما في تصور العريض فالأدباء الحقيقيون هم المغمورون بهذا الخيال والمبتعدون عن هذا الواقع المباشر المتغير الزائل الصالح للصحافة.
ان ادب العريض كما لاحظ الكاتب فيه الكثير من تجاهل الواقع المحلي، تجاهل للفقر والعذاب والاضطهاد الاجنبي انطلاق الى قضايا وجدانية شخصية أو اتجاه لأدب يتحدث عن قضايا «قومية». انه أدب يفتقد التماس مع الواقع البحريني، فهو أدب بهذا المعنى، غارق في الخيال، ويسكن «البرج العاجي» ولا ينزل الى السوق والحارات.
في تلك الفترة، أي في سنة 54 وما تلاها، كان ثمة زخم وطني تحرري كبير في البحرين، فقد اندفعت الطبقة الوسطى للصراع المباشر مع الانجليز واستغلت الصحافة والأندية وكافة الاشكال المتوفرة لنشر الوعي واستقطاب الناس لآرائها.
وكان العريض بؤرة أدبية هامة، وشخصية لامعة على المستويين المحلى والعربي، فكان أمر جذبة لهذا الصراع الدائر، والاستفادة من كتاباته وآرائه، مطروحاً بقوة لدى المثقفين البارزين في الطبقة.
وكان هذا الحوار والتعليق ــ الذي يبدو انه من أحد كتاب المجلة نفسها ــ والمناقشات التي تلت هي جزء من عملية التأثير في هذه الشخصية الادبية البارزة.
لكن المسألة كانت أكبر من ذلك. فإبراهيم العريض قد كرس لنفسه منحى مختلفاً، فهو ذو علاقة وثيقة بالوضع السائد، وقد أبعد أدبه بشكل عام عن نقد هذا الوضع، واتجه الى موضوعات بعيدة محافظاً بهذا على استمراريته في الكتابة وعلاقاته معاً.

 الموقــف والظــرف
ان «الظروف العابرة» وهو التعبير الذي ورد في الحوار معه يشير الى هذه الأحداث الصاخبة في الخمسينيات والمشكلات السياسية المتفجرة، وهي قضايا رئيسية وكبيرة ولكنه يعتبرها «عابرة» و«هامشية»، والمهم لديه هو الدخول الى القضايا التي تبقى وتستمر خارج هذه الظروف المتغيرة.
وهذا الرأي غير الجدلي، الذي لا يربط بين الآني والمستقبلي ولا يتصور العلاقة الوثيقة بين المشكلات الحالية ووضع الانسان العميق، يريد في الحقيقة أن يبتعد عن اتخاذ موقف تجاه الواقع.
ان ظروف الخمسينيات لم تكن ظروفاً عابرة، بل كانت صراعاً جوهرياً وأساسياً ليس في البحرين فحسب ولكن على مستوى العالم ان الصراع بين الشعوب والاستعمار هو صراع أساسي وملمح رئيسي من ملامح تاريخ الانسان المعاصر.
انه صراع ملحمي له ظلاله المختلفة، فهو صراع القديم والجديد، الشر والخير، السلبي والايجابي، اللااخلاقي والاخلاقي، السيطرة الاجنبية والتحرر، الاغنياء والفقراء الـخ . . وعلى ذلك فهو مادة هامة جداً للأدب.
ونفس هذا الصراع كتب عنه العريض، ولكن عندما تعلق بفلسطين، أي انه لم يكن ضد الكتابة عن هذا الصراع «العابر» بشكل مطلق!
ان الكاتب المجهول كان يعرف ذلك، وتفريقه بين كتابات العريض المختلفة دليل على ادراكه الصحيح لجوانب أدبه المتناقضة، ومحاولته لتوجيه هذا الادب نحو الواقع المحلي، أي لحل التناقض داخل ذلك الادب!
وهو في طرحه أسماء مثل «غوركي» و«هوارد فاست» و«تولستوي» قد استوعب بحسه ان الادب العميق يستطيع أن يضفر بين المشكلات الآنية وأوضاع الانسان الجوهرية، فليس ثمة تناقض بين تحليل الانسان في واقع محدد، وان يكون الادب باق وخالد. بل على العكس ان تأثير الادب في الاجيال القادمة نتاج ادراكه العميق لمشكلات وقته.
لكن الكاتب المجهول لم يستطيع ان يستوعب ذلك نظرياً، اضافة الى ان الفهم المنتشر للأدب وقتذاك بين طليعة المثقفين هو الادب المتجه لمعالجة قضايا مباشرة. وليس ذلك الادب الواقعي الرفيع كما وصل لدى تولستوي وغوركي.
ان وعي مثقفي الطبقة الوسطى تركز على شحن الناس ببعض القضايا والهموم الساخنة وبشكل قريب من الصحافة وليس الادب. كما لم يكن بإمكانهم التغلغل الى عمق مشكلات المجتمع ونماذجه.
وأسباب هذه الظاهرة ترجع لتاريخية هذا الوعي. فهو وعي لم يكن يقف فوق أرضية صلبة من النهضة التعليمية والثقافية، كما يرجع للطابع «المؤقت» لصراع الطبقة ضد الاستعمار، فهو صراع تريده سريعاً، خفيفاً، يتركز حول بعض المطالب الهامة وليس صراعاً يتجه لتغيير شامل وجذري.
هذا ما يتعلق بالطبقة «الوسطى» القائدة للزخم، أما الناس فكانوا في وضع ثقافي متخلف جداً، ولذا كانت مشاركة المعبرين عن طموحهم في الادب، تكاد أن تكون معدومة.

 التحــديث والتغــريب
من هنا كان العريض غير ملتفت الى هذا النوع من «الشغب» الادبي، فقد عمل من بداية الثلاثينات في نشر وعي مؤمن بالحضارة الغربية وقيمها. وكان التحديث لديه لا يصطدم بذلك التملك الاجنبي، بل على العكس يفترض الصداقة والتعايش معه.
ونجد في المقابلة ايحاء بذلك، فهو بعد أن يوجه نصحه للأدباء الناشئين بعدم قطع صلتهم بمصادر الثقافة العربية القديمة يطالبهم بعدم الوقوف عند تلك المصادر والانقطاع اليها ثم يضيف «ولقد كانت مصيبة الامة العربية طوال العصور هي في تصور أبنائها انهم يستطيعون ايقاف عجلة الزمن».
لقد كان الصراع الفكري وقتذاك يدور بين تيارين فكريين هامين استحوذا على وعي مثقفي الطبقة الوسطى وهما التيار القومي بروافده وبين التيار «التحديثي» الغربي.
وإذا كان التيار الاول هو الذي قاد عملية الانطلاق الوطني وكرس الاهتمام بالتراث بدرجة اساسية فان التيار الآخر كان في موقع الرفض لتلك الانطلاقة والتأكيد على منحى آخر.
فاستعادة المواقع التراثية، أو العودة الى الماضي العربي الزاهر، أو توقف الزمن على حد تعبير العريض، لن يؤدي الى نتيجة حقيقية، فالزمن يندفع باتجاه الغرب، والتماثل معه والذوبان فيه. وهذا هو الحل!
من هنا تصور العريض ان ذلك «الشغب» سيكون «عابراً». وان الطبقة الميسورة «المأزومة قليلاً الآن» والمتمردة ستعود من جديد الى الحضن الدافئ. وهذا ما كان فعلاً فالأغلبية الساحقة من مثقفي البرجوازية البحرينية تركوا تلك القضايا العابرة الساخنة واندمجوا في المناخ العام الدائر حول المركز الغربي. وما عادوا يرددون أسماء تولستوي وغوركي، بل ان الحياة الادبية الجديدة في الستينيات عندما استعادت هذه الاسماء بشكل اكثر نضجاً اثيرت زوابع حولها!

 ســــوء تفـاهـــم
ان اهتمام العريض لم يكن موجهاً لإلغاء «التغريب» بل على العكس كان يؤكده. ولهذا راح يؤكد من بداية الثلاثينيات على قيم «العلم» و«التعلم» و«الفن والأدب الانساني» و«حرية المرأة» و«الحب» و«العقل» و«النهضة» . . وكل هذه هي معايير للطبقة الوسطى «الخالدة» أي ان هذا هو برنامجها عبر كل المراحل والتطورات الآنية.
أما أن تتجه الى أبعد من ذلك فهو أمر «عابر»، نتاج أزمة طارئة، ولحظة صدام لا تلبث أن تزول، وسوء تفاهم «عائلي» ومن ثم تعود الامور الى مجراها الطبيعي.
ان العريض بحسه كان يفهم طبقته التجارية العقارية، التي تعيش بالتوكيلات الاجنبية، وغير الصناعية، وغير الواسعة والمحاطة بأناس أكثر حدة وجذرية منها، لهذا فهم الشاعر الافق البعيد لها.
لقد شارك في أوائل الخمسينيات في كل نهضتها الادبية، بل وكان من الممهدين لمثل هذه النهضة، ولكنه لم يؤيد فورتها الآنية. وبقى «منعزلاً» و«انطوائياً» عن ندواتها وأدبها الصحفي الصاخب السريع، منتظراً انتهاء عاصفتها.
وسرعان ما ارتدت الطبقة الى رؤية واندمجت في المناخ «التحديثي التابع» ولم تعد تطرح بعد ذلك الدرس القوي أي تغيير جذري وصمت كتابها وابتعدت عن الادب الساخن العابر، بل وعن الادب برمته!

 ✨ المثقفون البحرينيون وإبراهيم العُريّض

لسنوات طويلة ظل الأستاذ إبراهيم العريض الشاعر والناقد الوحيد الهام المعروف من البحرين، ولربما من منطقة الخليج والجزيرة كلها، وظل اسمه يتردد في المحافل الادبية والمجلات الثقافية العربية المشهورة، منذ الثلاثينات وحتى الستينيات.
لقد قام العريض بإبداع جوانب جديدة في أدب المنطقة، وواكب نشوء القصيدة الرومانسية واسهم بنصيب وافر من انتاجها، واتجه الى خلق الملحمة الشعرية، ثم ركز، بعد وفرة الإنتاج الشعري والملحمي، على كتابة النقد وتحليل الشعر، بدءا من نظراته النقدية المتفردة إلى أدب المتنبي وانتهاء برؤيته للإنتاجات الشعرية العربية المعاصرة له حينذاك.
والملاحظ في هذا الإنتاج الشعري والنقدي الوفير، قلة الاهتمام برصد الثقافة في المنطقة، وعوالم الحياة فيها.
ان انتاجه الشعري يرتكز على موضوعات تراثية أو عربية بعيدة كقضية فلسطين، وهو نتاج يحوم بعيدا عن مشكلات وطنه وقضاياها، الأمر الذي جعل العريض ظاهرة ملفتة للنظر، ومحل تساؤل وخلاف، من قبل التيارات الادبية التي تشكلت وتغيرت طوال هذه الحقبة المديدة.
لقد كان العريض مثار اعجاب مثقفي الثلاثينات والأربعينات البحرينيين، الذين رأوا عربيا فتيا يقدم من الهند، وهو لا يكاد يفقه من اللغة العربية شيئا، ويقوم بتعلمها واستيعابها والتفوق فيها الى درجة ان يصبح فقيها فيها ومرجعا لشواردها وعوالمها القصية.
ثم لا يكتفي بذلك بل يصبح ضليعا في لغة ثالثة هي الفارسية، اضافة الى عبقريته في اللغة الانجليزية التي ينتج بها شعرا!
ثم يقوم بالتجديد في أنواع الأدب. يؤسس المسرح التاريخي ويشكل القصيدة العاطفية النابعة من الأنا، غير المادحة والمتسولة، التي تعج بظاهرات الطبيعة الحية. ويطور هذه القصيدة الى ان تكون قصة، لها كل خصائص القصة، من شخصيات وأحداث وعقدة ونمو، وتتحول هذه القصة ايضا الى ملحمة، تتطور كثيرا عن أن تكون قصة محدودة لشخصيات مغمورة، بل تكون قصة لقضية كبيرة.
هذا كله جعل المثقفين «البسطاء» حينذاك يرونه كبيرا، ورمزا لما يريدون أن يقوموا به من انهاض للثقافة والمجتمع.
وقد قام المثقفون المتنورون حينذاك بتأسيس مجلات نهضوية هامة في المنطقة كـ«صوت البحرين» و«القافلة»، واتجهت الثقافة العربية في منطقة الخليج إلى التطور، والتغلغل في ظاهرات الحياة وأزمات المجتمع ووجود المستعمر، مما أدى إلى بروز انواع ادبية جديدة، كالقصة الواقعية والمسرحية «الاجتماعية» الارتجالية وغيرهما.
ومن هنا وجه هؤلاء المثقفون الجدد نقدا الى ادب العريض الشامخ، وخاصة الى جوانبه «الخيالية» والمغرقة في الرومانسية، ودعوا في مقالات نشرتها «القافلة» في الخمسينيات إلى ان ينزل العريض الى الشارع وان يعبر بقلمه عن هموم الناس.
ولكن العريض كان له أفقه المختلف. بل لقد كان مبهورا بقصيدة مدح وجهها الى ملكة بريطانيا في عيد ميلادها، حسب ما طرح في العدد الخاص الذي أصدرته مجلة كتابات عنه.
لقد كان العريض ارستقراطيا في نظرته للحياة، واعتبر العالم ينقسم الى نخبة مميزة، دورها الاصلاح والثقافة والتوجيه، وعامة تعيش ظروفا صعبة لا تؤهلها للصعود الكبير أو تغيير الحياة.
ومن هنا فإن صعود تحالف المثقفين والعامة في حركة 54 ــ 56 ، لم يأبه له العريض، ولم يكن ذا اثر صغير أو كبير، في انتاجه الشعري والفكري.
ورغم الاهمية الكبيرة لصعود تحالف المثقفين والعامة، الا انه كان وامضا، سريعا، لم يؤسس إنتاجا ثقافيا هاما وراسخا فكلها قصص مبعثرة في المجلات، ومقالات سياسية واجتماعية كثيرة ووفيرة، ولكنها ضائعة في أرشيف غامض ومعتم.
ان معظم مثقفي الاربعينيات والخمسينيات المهتمين بالإنتاج الإبداعي، على وجه الخصوص، والذين تعاطفوا بهذه الدرجة أو تلك مع حركة الحياة، تجمدوا في أشكالهم الكلاسيكية الميتة، أو توقفوا كلية عن إنتاج القصص الادبية وتوجهوا الى المسلسلات الاذاعية الفكاهية الخفيفة.
في حين استطاع كاتب واحد فقط أن يفر بجلده، ويعيش في الكويت، ويكتب قصصا قصيرة مختلفة عن إنتاج المرحلة السابقة، وانضج منها. لكنه تخلى عن الأدب بعد سنوات عدة ايضا.
الكتاب الذين كانوا مهتمين بالنقد الأدبي والفكري سرعان ما توقفوا كذلك وتساقطت القامات الصغيرة القصيرة التي كانت تحاول ان ترتفع الى قامة العريض، الذي بدا وحيدا وغريبا في الساحة الخالية.

تغيرات جديدة
لكن الساحة التي فرغت من انتاج جيل الاربعينيات، والتي لم تشهد ميلاد انواع ادبية ناضجة، مثل التي رسخها إبراهيم العريض، واصلت نموها الداخلي وتخمرها، عبر بنية اجتماعية جديدة راحت تحضر جيلا تعليميا وفكريا مختلفا.
إن هذا الجيل الجديد طلع من الحارات البسيطة، وكانت قراءاته مركزة على الوطن العربي والأدب الانساني، تشده الموجات الواقعية والطليعية، وراح يهضمها بصورة سريعة وطائشة في اكثر الاحيان. كيف لا وهو قد نبت من بين عامة اميين، لم يسمعوا حتى بابن بلدهم إبراهيم العريض ولم يقتنوا كتابا له؟
وحين راحت نتاجاته الشعرية والقصصية تظهر على صفحات جريدة اسبوعية يتيمة، بدا ان حسا أدبيا جديدا يزهر في واقع كان يبدو مجدبا وعقيما، منذ انكسار الخمسينيات الذي لم يبق جريدة أو مجلة أو كتابا أو مثقفا.
لقد أثار هذا الأدب الجديد البلد أن قصائده المتفجرة على المنابر، والورق، وقصصه الكثيفة المليئة بخرائط الحارات العميقة وجروح الغواص وألم السائرين المعدمين في الصحراء لأجل قطرة نفط، قد لفت انتباه الناس. لم يكن ثمة تليفزيون مسيطر يجذبهم، ولا وسائل تسلية غامرة، ولا تفتت سكاني واغترابي، كان الناس قريبين الى بعضهم البعض، كسكان مدينة واحدة مكتظة بالآمال والهموم.
لهذا جاء هذا الأدب كلغة متميزة، غريبة ومألوفة، ووجد الناس ان صوتهم الداخلي، المتوتر، المحموم، تجسد ايقاعات وصورا ونماذج، فمدوا أيديهم لهذا المولود واحتضنوه بحب.
وكطالع من زمن المراهقة الأدبي، فإن هذا الأدب نظر نظرة تصغير لأدب العريض وازدراه بشدة، فهو ليس إلا وليد خيال شاحب مفارق للواقع والموقف «الثوري».
لا بد من القول ان الخلفية الاجتماعية وقلة التجربة والثقافة المبسطة، لعبت دورا في محدودية هذا الجيل الأدبي الجديد ونظرته الضحلة الى تاريخه الثقافي، والى العريض.
ولهذا فقد وقع الاصطدام بين هذا الجيل والعريض أو اصدقائه. فقد لفت هؤلاء النظر إلى الاخطاء النحوية واللغوية الكثيرة في كتابات الشباب. والى انتمائهم للشعر غير العمودي المارق عن اللسان العربي. ورأوا أن مصير هذا الأدب هو مثل مصير سابقه العامي، والمبسط الرؤى. كما لفتوا الانتباه إلى رموزه غير العربية والإسلامية، وفجاجة دعواته النضالية ومباشرته الفظة.
لقد كان هذا النقد متوجها، في الواقع، الى الثأر، من رؤية الجيل الحديث للعريض، ودعوته لإلغاء الأدب السابق الارستقراطي والمرتبط بالأجهزة.
ومن هنا اتجه أحد شعراء هذا النقد الثأري، والمدافع عن العريض ورؤاه، وهو أحد الأسماء البارزة في عالم الشعر اليوم، إلى التخفي باسم مستعار، وكتابة قصائد سافرة فكهة باسم هذا الجيل الجديد، معتمدا على صور الحمالين والبؤساء، في مرادفة كاريكاتيرية لشعراء الدفاع عن الانسان!
وقد استفز شعار الجيل الجديد (الكلمة من أجل الإنسان) الخطابي المنتفخ، أفراد الجيل السابق، وحملوا عليه حملة شعواء.
وقد اشترك العريض في هذه المواجهات بصورة غير مباشرة. فقد اعرض عن مدح من قدموا له قصائدهم، بل ودعاهم للكتابة في شأن آخر، وهو النثر، لأنه المجال الحقيقي لموهبتهم.
وللمفارقة الغريبة، فإن دعوة العريض هذه، قد وجدت اصغاء وتنفيذا لها، ولكن بعد مرور عشرين سنة!
وفي ذلك الوقت ثار هؤلاء الشعراء على النصيحة. واندفعوا في كتابة اشعار جميلة، وبرزوا بروزا كبيرا في البحرين، أو الوطن العربي، لحق بهم القصاصون والنقاد الى درجة انه تشكلت كوكبة معروفة من المبدعين والمنتجين الثقافيين البارزين.
وفي ذلك الحين كان العريض قد قل انتاجه الى درجة كبيرة، وكان ابرز اعماله الاخيرة ترجمة رباعيات عمر الخيام من الفارسية الى العربية، والكتابة عن المتنبي، شاعره الاثير.
لكن المكانة الكبيرة التي نالها العريض ظلت صلدة، رغم هذا التنائي المستمر لشخصه وانتاجه، وتحوله الى رمز غامض وبعيد.
وهذه المكانة كان لا بد ان يصل اليها الجيل الجديد وان يصل الى ذات النأي والبعد، ولكن لأسباب مغايرة.
فقد انكسرت الرومانسية الثورية، وجاء الواقع الصلد ليفرض خياراته الحقيقة على المنتجين الثقافيين الحالمين. فتصدعت القشرة الثورية. وحل الخيار الفردي والانزوائي والشكلاني.
لم يعد الجيل الأدبي الجديد، الذي صار قديما، وذا شيخوخة مبكرة، قادرا على اجتراح الأفعال الكبيرة والمغامرة الجريئة. ركن الى مأثر بسيطة، وعاد بعضه الى الشعر التقليدي، أو القصة التقليدية الساذجة، أو الغامضة التجريبية البعيدة عن الجمهور، أو الأعمال التلفزيونية والاذاعية الخفيفة.
هنا وجد هذا الجيل نفسه وجها لوجه مع العريض. لقد رأى فيه ذاته، أو نأيه البعيد عن قضايا الواقع وأزمات الحياة الحادة. فمد يده إليه لا من زاوية اكتشاف عوالمه واستيعابها وتجاوزها، بل لتحية هذا الانزواء عن الواقع الحقيقي الحي وتثمين الكتابة المجردة.

كتب: عبدالله خليفة كاتب وروائي من البحرين