الأرشيف الشهري: ماي 2018

قراءة لـــ إسماعيل مظهر 

الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الاسلامية   في مقالته ( أسلوب الفكر العلمي : نشوءه وتطوره في مصر خلال نصف قرن ) ، (19) يعرض الباحث إسماعيل مظهر وجهة نظره في النهضة العربية الإسلامية في المنطقة عامة ومصر خاصة ، وهو يوجه نقداً شديداً إلى المصلح المعروف جمال الدين الأفغاني فيقول :

( تعلم  السيد جمال الدين الأفغاني منتحياً الأساليب العملية العتيقة التي عكف عليها العربُ منذ القرون الوسطى ، فهو بذلك صورةٌ مصغرة أو مكبرة لعصر من العصور البائدة في تاريخ الفكر الإنساني . وهو بنزعته السياسية أشبه الأشياء في عصره بالحفريات التي تعيشُ بيننا بجثمانها وأن رجعت بتاريخها إلى أبعد العصور إيغالاً من أحشاء الزمن ) ، ( 20 ) .

وينتقل إسماعيل مظهر من النقد العنيف للأفغاني إلى النقد العنيف لكل ما أنتجه العربُ فهو في رأيه غير جدير بالحياة فيقول :

( ذاعت بينهم مذاهبٌ فلسفية نقلها المترجمون ) ، (ولكنك لا تجد عندهم مدارس فلسفية يــُنسبُ إليهم ابتكارها . فليس لهم مدرسة تــُعزى إلى الفارابي أو ابن رشد أو ابن سينا مثلاً ) ، (21).

( هذه العقليةُ بذاتها هي التي ورثها السيد الأفغاني عن العرب . عقليةٌ وقفت عند حد الأسلوب الغيبي لم تتعده وتنكبت كل سبيل كان من الممكن أن يسلم بها إلى الأسلوب اليقيني . ) ، (22) .

يقيمُ إسماعيل مظهر تعميماً فكرياً كبيراً ، عبر جملٍ صغيرةٍ تختزلُ قروناً من التطور والإبداعات والمساهمات النقدية ، فكلُ ثقافةِ العرب والمسلمين خضعت لفكر معين يسميه الفكر الغيبي ، ولم تعرف ما يسميه كذلك ( الفكر اليقيني ) ، وكلا التسميتان ترجعان إلى مصطلحات أوربية مأخوذة من مدرسة معينة ، يقول إسماعيل مظهر :

( إذا كان ناموس جاذبية الثقل أعظم استكشاف وصل إليه العقلُ البشري في عالم الكون والفساد ، فإن قانون ( الدرجات الثلاث ) الذي كشف عنه الفيلسوف الكبير (أوغست كونت ) لأكبر اكتشاف وصل إليه العقل البشري في الطبيعة الإنسانية . وإن متابعتنا لشرح هذا القانون لهي النواة التي تدورُ حولها أبحاثنا ) ، (23) .

يجعلُ إسماعيل مظهر بؤرةَ التطور النهضوي في ابتكارِ النظريات العلمية فهو يبتدئ التاريخ الأوربي بنظرية الجاذبية ، ثم بالوضعية الاجتماعية ، والمصطلحات التي يستخدمها هي مصطلحاتٌ مستعارةٌ من هذه المدرسة الأوربية الأخيرة التي قسمت التاريخَ الإنساني بشكلِ مراحل معرفية ، فهو يعتبر بأن هناك ( قانون ضروري يخضع له العقل ) ، ولهذا فإن كلَ مدركاتنا وفروع معرفتنا وتجاربنا التاريخية لا بد أن تمر بالمراحل الثلاث :

( الأولى اللاهوتية أو التصويرية التخيلية ، والثانية الميتافيزيقية الغيبية ، أو المجردة ، والثالثة اليقينية الإثباتية أو الواقعة ) ، ( 24 ) .

ويقومُ بتفسيرِ تعدد هذه المراحل بشكل يعود للعقل نفسه ، فيقول :

( .. أن العقل الإنساني فيه بطبيعته كفاءة لأن ينتحي ثلاثَ طرق مختلفة للتأمل من حقائق الأشياء وطبيعته في كل من تلك الطرق تختلف عن الأخرى تمام الاختلاف ، بل لا نبالغ إذا قلنا أنها تتضاد تمام التضاد ) ، ( أما الأسلوب الأول فخطوة ضرورية يبدأ بها العقل في سبيل تفهم الحقائق أو البحث عن مصادرها ، وأما الأسلوب الثالث فهو يمثل العقل في آخر حالات ارتكازه على الحقائق البارزة الملموسة . وليس الأسلوب الثاني إلا خطوة انتقالية تتوسط بين الأسلوبين ) ، ( 25 ) .

يقومُ إسماعيل مظهر عبر هذا المنهجِ بإدخالِ العرب والمسلمين في المرحلة الثانية من منهجه طبقاً للمخطط التاريخي المعرفي الذي قال به أوجست كونت ، وهو مخطط لأنه يشمل الإنسانية جمعاء ، فيضع لها مراحلَ معينةً ، كذلك فإنه مخططٌ معرفي لكونه يتعلقُ ب  [العقل] ، وبطرقِ التفكير التي سادت حسب قوله هذه المراحل ، ووسمت كلَ مرحلةٍ بطابعٍ خاص من التفكير الذي يختلف عن سابقه .

إن العقلَ هنا منفصلٌ عن بنائه الاجتماعي الذي تكون فيه ، بل أن العقلَ هو الذي يشكلُ المرحلةَ والتاريخ والبناء الاجتماعي .

إن العقل المجرد تتشكلُ فيه قوى ونزعاتٌ تحددُ هذا التطور وكأن العقلَ يتطور من داخله ، كقوةٍ غيبية مفارقة ، فهو يبدأ مرحلةً ولكننا لا نعرف كيف ولماذا يتحول عنها وينتقل إلى المرحلة الأعلى منها .

إن العقل في الدرجة اللاهوتية ( يبحثُ في طبيعةِ الأشياء وحقائقها ، وفي الأسباب الأولى والعلل الكاملة ، يبحثُ في الأصل والماهية والقصد من كل الأشياء التي تقع تحت الحس . وعلى الجملة يبحثُ في ( المعرفة المطلقة ) وهناك يفرض أو يسلم بأن كل الظواهر الطبيعية ترجع إلى الفعل المباشر الصادر عن كائنات تختفي وراء الطبيعة المرئية ) ، ( 26 ) .

يقومُ هنا بتجريدِ الأفكارِ السحرية البدائية المتعددة عند ظهور الإنسانية الأول ويصفها بأنها [ عقل ] يبحث في [ الأسباب والعلل الكاملة ] في حين إن الوعي البدائي السحري كان يسقطُ مشاعره وانفعالاته على الطبيعة ، فتصبح الظاهرات الطبيعية حيةً تعكس ذاته ، ولهذا فإنه لا يبحث عن العلل الكاملة أو يبحث في طبيعة الأشياء ، وهذه المرحلة الأرواحية تتمظهرُ بعدئذٍ في الأرواح الخيرة والأرواح الشريرة ، وتتحول بعدها إلى كائنات [ تختفي وراء الطبيعة المرئية ] حقاً وكما يقول .

وإسماعيل مظهر هنا لا يبحثُ هذه الظاهرات الفكرية بشكلٍ متكامل مع البُنى الاجتماعية البدائية التي ينشأُ فيها هذا الوعي ، ومن هنا يقومُ بعملياتِ سلقٍ للتطورات الفكرية ، ولا يقرأ عمليات توزعها الجغرافي ، أو تناقضاتها الداخلية ، أو حتى تداخلاتها مع المرحليةِ الدينية على تنوعاتِ هذه الأخيرة ، وصلة ذلك كله بالتطورات الاقتصادية والاجتماعية ، ففي حين تبقى مناطق جغرافية كأفريقيا مستمرةً في المرحلة الأرواحية لضعف تطور قوى الإنتاج ، تتوجه مناطقٌ أخرى إلى مستوى أرقى بسببِ تطورات البنى الاجتماعية – الاقتصادية .

فالعقلُ هذه المفردةُ الفكريةُ ليست مُشكَّلةً بمثل هذا التجريدِ الغيبي ، فهي تعبرُ عن مجملِ العملياتِ الفكريةِ – الفنية التي تجري لجمهور معين لزمن معين ، فإذا كانت تعبرُ عن العملياتِ الفكريةِ الباحثة عن سببياتِ الظاهرات الطبيعية والاجتماعية ، فإن السببيات هنا مُـغلفةٌ بعمليات الإسقاطات الطفولية لهذا الوعي على الأشياء وعلى العمليات الفكرية ، فالآلهة مثلاً تتجسدُ كقبيلةٍ سماوية ، تحكمُ الوجودَ وبإمكانيات خارقة ، وهي بهذا تعبرُ عن عجز القبيلة الأرضية  وطلبها للمساعدة من هذه القوى الماروائية .

لكن ذلك لا يزول إلا بتطور القبيلة الأرضية واستقرارها الزراعي والمدني الخ . . فعملياتُ الاستقرار والصراع الاجتماعي والسياسي تعيدُ تشكيلَ هذه المادةِ الفكرية السحريةِ باتجاهاتٍ يبلورها ذلك التطور المعقد في التمدن وعبر التأثيرات الأجنبية والصراعات السياسية والحربية والتجارة الخ ..

فالعقلُ ليس هو العصا التي تسوق الماشية البشرية نحو المراعي الخضراء ، بل هو عملياتٌ فكريةٌ مركبة معقدة ، يتداخلُ فيها اللاعقلُ والعقل ، أي المراحل السحرية والمراحل التالية الدينية والعلمية والموضوعية ، فكلمة العقل ليست سوى تجريد يمثل عمليات اكتشاف الوجود الموضوعية . .

ومن هنا فإن إسماعيل مظهر يقومُ بإحضارِ لوحةٍ تقنيةٍ أوربية ، ويقومُ بتركيبها على الجسمِ العربي الإسلامي المسيحي المدد فوق طاولة التشريح ، فهو يرى بأن هذا الجسم قد عبر المرحلة اللاهوتية السحرية ولكنه لا يزال في المرحلة الميتافيزيقية الغيبية ، ولكنه بعد لم ينتقل إلى المرحلة الثالثة اليقينية فإذن لا بد من قطع هذا الجزء من الجسم وإدخاله إلى المرحلة الثالثة .

وإذا كان هذا صحيحاً فليس ثمة دراسة لهذا الجسم ، أي لا توجد قراءة للمرحلتين السابقتين وكيف تجسدتا وتداخلتا وأسباب تشكلهما وبقائهما الخ ..

فهو ينطلق من تكامل ونظافة المرحلة الثالثة التي تشكلت أوربياً لكي يضع شعاراتها فوق الجسد العربي – الإسلامي – المسيحي ، القديم والحديث ، دون أن يقومَ بقراءة عبر هذه الشعارات نفسها لذلك الجسد بأن يبين متى وكيف بدأت المرحلة السحرية ومتى وكيف بدأت المرحلة الدينية ، أي أن يدرسَ الحضارات القديمة في المنطقة ثم الوسيطة ، وبالتالي يصلُ إلى الأسباب التي أعاقت هذه المرحلة الدينية الأخيرة من الانتقال إلى المرحلة  [ اليقينية ] ، أي إلى المرحلة الرأسمالية المعاصرة لزمنه .

إن مصطلح [ اليقينية ] سيُعرف عند تيارات أخرى لاحقة بأسماء أخرى تقلل من طابعه الغيبي الميتافيزيقي ليغدو أقرب إلى الرؤية التقنية المستعارة من الثقافة الغربية ، فيصيرُ التحليلُ اللغوي التجريبي ، أو البنيوية ، وغير ذلك من تسميات ، تنقلُ آخر منجزات التقنية الفكرية الغربية ، وتضعها في أدوات بحثها .

وإذا كان إسماعيل مظهر يمر بسرعة شديدة على خمسة قرون من التحولات النهضوية العربية بتضاداتها المختلفة ، فإنه يقف وقوفاً مماثلاً عند نهضة مصر الحديثة ، دامغاً إياها بالعقم .

فهو يصف ثورة 1919 المصرية بأنها [ لم تمس من الحياة الكامنة في الأمة شيئاً ] وهو يقصد هنا إزالة طابع الوعي الديني المهيمن ، فهو يقارنها بالثورة الفرنسية الكبرى التي قامت على جهود الموسوعيين والفلاسفة الاجتماعيين ( بل على مجهود سلسلة من العظماء ، تعهدوا الفكر الكامن في طبقات الأمة المنتقاة منذ عهد ديكارت بتلك الفكرات الثابتة التي يذهب أثرها إلى أبعد غور من أغوار الحياة الخفية في نفس الأفراد والجماعات ) ، ( 27 ) .

تغدو المقارنة بين مصر المحتلة من قبل السيطرة الإقطاعية التركية التي كرست البناء التقليدي المتخلف لعدة قرون ، ثم لم تفلح إقطاعية أسرة محمد علي في تغييرها بشكل كبير ، ثم جاء الاحتلالُ البريطاني وكرس البناء الإقطاعي وجعله تابعاً ، وبين فرنسا المنسلخة عبر عدة قرون من السيطرة الإقطاعية والتي شكلت رأسمالية صناعية متجذرة في أرضها ، تصبح هذه المقارنة لا تاريخية ، ومطالبة مظهر بأن يعيدَ المثقفون المصريون التاريخ النهضوي الفرنسي بشروط وضعهم الخاص ، أمراً غير ممكنٍ ، وبهذا فهو يفصل مراحل أوغست كونت التي تشكلت في تلك البيئة الفرنسية المتطورة عقلياً ، عن تاريخها الخاص فهي تتويجٌ فكري بحثي لنهضوية فرنسا وأوربا في تحليل التاريخ الفكري السحري والديني السابق لتجاوزه ، ونقل مثل هذه الأداة البحثية إلى وسطٍ آخر متخلف ، لم تكن له الشروط الاجتماعية والمعرفية من معامل وجامعات ونخب ثقافية واسعة وجمهور كبير متعلم ، هو زراعة لنبتة في شروط مغايرة .

ولهذا لا يقومُ مظهر بعقدِ مقارناتٍ تحليليةٍ بين فرنسا منتجة المراحل الثلاث ، وبين مصر التي استضافت جمال الدين الأفغاني . بين فرنسا التي تشكلُ العلمانيةَ وتضع أسساً لثورة تقنية واسعة ، وبين مصر الغارقة في الإنتاج الزراعي وهيمنة الإقطاع وحيث يلعبُ الدينُ أداةَ الوعي الأساسية ، لهذا تغدو التقنية المستعارة من فرنسا لديه ، غير قادرةٍ على تحليل البناء الديني – السحري المصري الإسلامي المسيحي ، حيث هي منتزعةٌ من بناها الاجتماعية ، ثم هي تطبقُ بشعارية إلغائية بدلَ أن تغوصَ في تحليلِ البناءِ الخاص لديها ، لترى مستوياته المختلفة .

هذه العمليةُ الإيديولوجية الشعارية الرافضة لبناءٍ قديم لا تقوي وجودَ هذه الأداةَ المعرفيةَ المنقولة من وسطٍ إلى وسط آخر ، ومن مرحلة تاريخية إلى مرحلة تاريخية مختلفة ، بل هي تضعفها ، عبر فقدان التحامها بأرضيةِ التحليل ومواده .

ولهذا فإن مثلَ هذه الصرخات التقنية التحديثية لا تقود سوى إلى صرخات واسعة من الجانب المضاد ، من البناء الغيبي الثقافي السائد الذي يُهاجَّم بكليته ، فيتمُ استبعادَ هذه التقنيةِ المفيدة في بعض جوانبها من دائرة الوعي الواسعة بوصفها منتجات تقنية هادمة ل [ إرث الأمة المقدس ] .

وهكذا فإن أمين الخولي يقوم بالرد على إسماعيل مظهر بأسلوب مضاد فيقول :

( إن هذا الإسلام شيءٌ آخر غير ما تسمعونه عن الأوربيين من أمر اللاهوت . إن لديهم كنيسة وسلطة ورجالاً يربطون ويحلون ، قد وقفوا في سبيل العقل .. الخ .. ) ، ( 28 ) .

ــــــــــــــــــــــــــ
( 19 ) : ( 20 ) ، ( 21 ) ، ( 22 ) : ( قضية الفلسفة ، ص 504 ) .
( 23 ) ، ( 24 ) ، ( 25 ) ، ( 26 ) : ( المصدر السابق ، ص 503 ) .
( 27 ) : ( المصدر السابق ، ص 505 ) .
( 28 ) : ( مقالة الخولي أسلوب الفكر العلمي ، المصدر السابق ، ص 508 ) .
ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ  

انظر عبــدالله خلـــــيفة: الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الإسلامية ، الجزء الرابع ، تطور الفكر العربي الحديث /فصل: التحديثيون العلمانيون ، وهو يتناول تكون الفلسفة العربية الحديثة في مصر خاصة والبلدان العربية عامة، منذ الإمام محمد عبده وبقية النهضويين والمجددين ووقوفاً عند زكي نجيب محمود ويوسف كرم وغيرهما من منتجي الخطابات الفلسفية العربية المعاصرة , 2015 .

http://www.civicegypt.org/?p=76780

قراءة لــ طه حسين

الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الاسلامية   للعقل العربي الحديث قصةُ تكونٍ ، ونسميه عقلاً ، بهذا التجريد ، لأنه أراد أن يكون بهذه الصفة ، وصفة العقل تعني بأنه يستخدم السببية في قراءة الظواهر ، فالعقل هنا منهج في فحص الأشياء واكتشاف قوانينها .

وهذا الاستيرادُ من الغرب لكلمة العقل ، وطرق استخدامها ، هو جزء من مناهج الفئات الوسطى العربية وهي تستعير من قاموس قريناتها الغربية ، أدوات لمماثلة تجربتها وتحقيق سياق نهضوي مشابه .

وقد عبر ديكارت في بدء العصر الحديث عن منهجية العقل هذه قائلاً :

[ أنا أفكر إذن أنا موجود] .

وإذا قمنا بقراءة لهذه الأنا ، فهي ليست أنا فردية محضة ، بل أنا المثقف الفرنسي في بدء الحداثة ، وهو يحاول أن يجد سياقاً مبرراً لتطور الوعي خارج الدين ، فالوعي البرجوازي هنا يتشكل بين عالم العصر الوسيط الغارب ، والعصر الحديث الذي لم يتشكل كلياً بعدُ . ونحن سنأخذ وعي ديكارت في هذا الفصل كوعي اجتماعي عام مؤجلين رؤية تفاصيل هذا الوعي عبر تداخله لاحقاً مع تطور الوعي العربي وهو يخرج من مرحلته الأدبية إلى مرحلته الفلسفية ، حيث ذاك تكون المقارنات داخلية معبرة عن أبنية فلسفية عبر العصور ولكن هنا لا نزال في الأفق العربي الثقافي الأدبي عموماً . فهنا ديكارت مجرد أداة معرفية هي الشك .

وعيُ ديكارت يقول أنا أفكر معرفياً خارج الدين ، إذن أنا كفكر حديث موجود ، ولكن تفكيري يخرج من [ الأنا] ، من هذه الطبقة الحديثة الفردية ، التي لم تعلن بعد العلمانية الكلية ، ولا تزال بعدُ بين الدين والحداثة ، بين وعي العصور الوسطى العقلي ، ووعي الحداثة العقلي الجديد ، ( 29 ) .

إنه عقلٌ حديث لا يرفض كلياً العقل الديني القديم ، ومن هنا يكون دليل ظهور تفكيره وجود الله ، ولهذا يقول لو لم يكن الله موجوداً لم أستطع أن أفكر ، فلأنني أفكر فمعنى هذا إن الله موجود .

إن عقل الحداثة البرجوازي وهو يسوق فرديته ، لا ينسلخ هنا من البنية الاجتماعية الإقطاعية التي لا تزال مهيمنة ، في النظام الملكي وفي سلطة الكنيسة الكبيرة ، ولكون عقل الحداثة البرجوازي الفرنسي هذا لم يصبح بعد عملاقاً ، كما سيجري الحال في القرون التالية بعد القرن السابع عشر هذا ، بعد تراكم مشروعاته ، فإنه يستمد شرعيته من الماضي ، فأنا ديكارت هي تعبير عن الفئات الوسطى التي لم تصبح بعد طبقةً قائدةً لمشروع الحداثة ، أي أن شرائح هذه الطبقة لم تزل بعدُ مبعثرةً ، في تكوينات تجارية ، وعقارية ، وصناعية ، ولم تصبح الثورة الصناعية والعلمية قوة لإنتاج الرأسمال الصناعي العملاق .

ولهذا فإن صيغة [ أنا أفكر. .] تعبر عن العقل النظري ، عن عدم تلاقح العقل بالمعمل ، عن ضعف التحام الفئات البرجوازية الفرنسية ، ومثقفيها ، بالإنتاج الصناعي .

أنا أفكر وليس أنا أعمل ، أو أصنع ، فأنا موجود ، أي أنني جنين الطبقة البرجوازية أتشكل عبر هذا الوعي العقلي ، معطياً الكنيسة والملكية حصتيهما من المصداقية العقلية ، فلهما مشروعية العقل الديني السياسي القديم ، ولكنني أنا جنين الطبقة القادمة ، لي مشروعية وعيي ، واعترف لهما بأساس الوجود الاجتماعي الإيديولوجي .

يعبر العقلُ البرجوازي الفرنسي في ميلادهِ الديكارتي ، عن مستواه التقني المحدود ، حيث لا تتناسجُ هنا أدواتُ العقل والمعمل ، وبينهما هوةٌ سببها مستوى تطور الصناعة الفرنسي المحدود قياساً بجارتها القائدة إنجلترا وزميلتها التابعة هولندا ، حيث بدأ المشروع الصناعي الواسع ، حيث انتجت إنجلترا [ فرنسيس بيكون ] لا ديكارت .

بين منهجي الفيلسوفين مستوى التطور الصناعي العلمي المتداخل ، فعندما يقول ديكارت أنا أفكر ، يقصد تفكيره المستقل في المكتب ، ورؤيته الفردية ، الباحثة عن الأسباب في ظواهر طبيعية واجتماعية مدروسة بشكل نظري عقلي ، معزول عن شبكة الطبيعة والمجتمع .

يواصل ديكارت منهجية العقل الباحث السابق في القرون السابقة ، ولكنه يفصله عن العقل الديني ، وهو لا يفصله ليربطه ب [ التجريب ] بل بالتحليل والبحث النظري ، فتعبر جملة أنا أفكر ، أي أنا فكرٌ عقليٌ مستقل عن الدين الذي له منهج مختلف في قراءة الطبيعة ، فمنهجي ، يقول ديكارت ، منهجٌ عقلي مستقل ، يبحث في الظواهر بموضوعية ، وبلا سببيات مُسبقة ، وهو يكتشفها داخلها عبر البحث والتأمل ، الذي هو المصداقية الأساسية في العقل .

لكن العقل العربي ( البرجوازي ) لم يبدأ ديكارتياً ، بل كانت جملته :

[ أنا أستورد . . إذن أنا موجود ! ] .

لم يكن نصيب فرنسيس بيكون المفكر البريطاني وهو يؤسس منهجية علمية في الحضارة الغربية ، كنصيب ديكارت ، في عمليات الاستيراد العقلي العربي ، فقد حظي الأخير باهتمام كبير في هذا الوعي وهو يحاول أن يردد صرخة ديكارت :

[ أنا أفكر إذن أنا موجود ! ] .

لا يعود ذلك إن العقلَ المصري الحديث ، وهو بؤرةُ العقل العربي في وقت تشكله ، لم يعرف بيكون ، أو أن العلاقات الثقافية الفرنسية – المصرية وهي العلاقة التي تشكل بها الوعيُ الحديث المصري وهو يرى العالم كانت كبيرة ، بل أن الأمور تعود إلى جوانب أكثر تعقيداً .

لقد كانت اللغة الإنكليزية أكثر حضوراً في الترجمة والبحث ، وكانت الهيمنة البريطانية قوية على العقل المصري والعربي عموماً .

 ونقصد بالعقل هنا ، طريقة تفكير الشرائح الوسطى العربية التي استعارت لفظة العقل ، لتجعلها بديلاً عن لفظة الوعي ، ولتجعلها بهذا لغة تجريدية ، تــُصادرُ بها عملياتَ البحثِ الملموسة والموضوعية في البُـنـى الاجتماعية .

لكن مع هذه السيطرة البريطانية السياسية ، فإن الوعي البرجوازي المصري وهو يتشكلُ في مخاضهِ الفكري ، كان يتوجه إلى النموذج الفرنسي لا النموذج البريطاني في تشييد منهجية البحث . ومن هنا قال عميد الأدب العربي ، طه حسين يقول : أنا أفكر إذن أنا موجود ، وأعلن تبنيه لمنهجية الشك .

لكننا قبل أن نقرأ طه حسين في مقولته الديكارتية الإيجادية ، علينا أن نعرف لماذا رفضوا فرنسيس بيكون ؟

إن فرنسيس بيكون هو أبن الحداثة البريطانية ، ومنذ سنة 1600 بدأ ظهور منهج فكري جديد في تاريخ العالم وهو [ المنهج التجريبي] .

[وكان العصر الحديث هو الذي ظهرت فيه أعظم المذاهب التجريبية ، أعني مذاهب فرانسيس بيكن ، وجون لوك ، وديفد هيوم ] ، ( 30 ) .      

ويقوم هذا المذهب التجريبي على اعتبار الإدراك الحسي هو مصدر المعرفة ومعيارها النهائي ، فجان لوك يعتبر ذهن الإنسان صفحة بيضاء حين يُولد . ولكن بيكون لم يقصر المعرفة على التجارب بل اعتبر العقلَ أداةَ تحليلٍ وجمع تالية للتجربة ، وبهذا وضع الوعي الحديث على أساس متين .

لقد اعتبر بيكون الفلسفات السابقة بأنها أشبه ببيوت العناكب ، فهي تصنعُ بيوتها من داخل نسيجها ، في حين إن الفلسفةَ العلمية الحديثة هي مثل النحل ، تصنع بيوتها من خلال رحيق الطبيعة وعبر التجربة .

إن فلاسفةَ التجريب الإنكليز هم ظواهر إنسانية عقلية هي حصيلة للتطور الصناعي والعلمي البريطاني ، وقد بدأت عملياتُ التصنيع في بريطانيا مبكراً ، ولم تظهر هنا صرخة ديكارت أنا أفكر إذن أنا موجود ، بل صرخة مختلفة ، هي أنا أصنع فأنا موجود .

وبدلاً من مثقفي فرنسا العقليين الذين يفكرون من خلال مكاتبهم ، ويتابعون الفلسفات العقلية القديمة ، كفلسفة أرسطو ، التي كانت نادرة التجريب ، وقائمة على التأمل ، فإن المفكرين البريطانيين اندفعوا للمعامل يحّكمونها في دراسة المواد .

إذن فإن فرنسيس بيكون وجان لوك بدأا في تشريح أفكار البشر الفلسفية العقلية النظرية ، فبدأت منظومات التأمل الميتافيزيقية والسحرية في الانهيار .

ولا بد هنا من أخذ دور العالم الإيطالي الكبير جاليلو جاليلي الذي سدد الضربات الهامة للمنظومة الفلكية العتيقة التي جعلت الأرض محور الكون ، وحددت السماء عبر منظور خرافي ، لكن بلد جاليلو ( إيطاليا ) لم تستمر في عملية الثورة العلمية ، حيث أخذت بؤرة الثورة تنتقل إلى غرب أوربا .

إن انتقال الوعي العلمي التجريبي إلى بريطانيا التي كانت المعمل الأول للثورة الصناعية هو الذي فجر عصر الحداثة . ولهذا كان فرنسيس بيكون مؤسس المنهج التجريبي ، وهو المنهج التي أثبتت القرون التالية إنه الأهم في إنتاج ( عقل ) حديث .

لقد وضعت المدرسةُ البريطانية  ما يسمى بالعقل الحديث لدراسة المادة عبر المعامل ، وحينئذٍ لم يكن المجتمع قد أُدخل في هذه الدراسة ، فتركزت العملية العلمية على فحص المواد الطبيعية .

وبدلاً من فلسفة العصور الوسطى الدينية التي ربطت قوانين المادة من خارجها ، بدأ الوعي الحديث باكتشاف قوانين المادة من داخلها . وهنا أخذت فروعُ العلوم الطبيعية : الكيمياء والفيزياء والرياضيات ، في التحول إلى قيادة للوعي المعاصر . لقد اتسعت الاكتشافاتُ والاختراعات في هذه الفترة ، وخاصة اكتشاف إسحاق نيوتن لقانون الجاذبية ، الذي تداخلت فيه الفيزياء والقوانين الرياضية ، فبدأ الاحتلال البشري العلمي للسماء ، أي للمجموعة الشمسية ، أي في المساحات الكبرى التي يمكن تطبيق قوانين حركية ميكانيكية واسعة عليها ، وكان في هذا الاحتلال إعادة لجعل قوانين الطبيعة داخلها .

لقد سدد نيوتن ضربات حاسمة إلى منظومات العصر الوسيط الفلكية ، وللآراء أرسطو عن هيمنة فلك ما تحت القمر ، وأرواح الكواكب وهيمنة النجوم الخ . .

لقد أعطى القرنان السابع عشر والثامن عشر مادة علمية ضخمة في كشف المادة والمكان ، الأمر الذي أدى إلى تطور هائل للصناعة المترافقة مع الكشوف الجغرافية واتساع العالم الغربي جغرافياً واجتماعياً ، ولكن في القرن التاسع عشر بدأ الفكر التاريخي بالنمو والتبلور عبر دارون وماركس والعديد من العلماء الآخرين ، فلم تعد المادة الطبيعية فقط هي المدروسة بل المادة الاجتماعية ، التي بدأ تطبيق قوانين مختلفة على دراستها .

وإذا كان المنهجان العقلي والتجريبي هما السائدان في الوعي البرجوازي ، الذي رفض القراءة التاريخية والاجتماعية لتطور الوعي والتاريخ ، فإن هذا كان يعبر عن تحييد العلوم وابعادها عن الصراع الاجتماعي الدائر في المجتمع الغربي ، وبين المجتمعات الغربية والعالم المستعمر .

إن ديكارت وبيكون يظلان يمثلان الخطين الأولين للمنهج العقلي والتجريبي والميكانيكي في هذا الوعي ، ولكنهما سيمتزجان في توليفات تالية ، وسنجد تداخلاتهما في مناهج مختلفة ، كمنهج ماركس الذي جمع بينهما وعبر قراءة التطور التاريخي للمادة المدروسة ، فالبضاعة لديه تتحول إلى الجرثومة الأولية لتضادات الأسلوب الرأسمالي للإنتاج ، والذي يقومُ بدراسة قوانين ظهورها ونموها ، مستعيناً بالإحصاءات الدقيقة عن هذا التطور الاقتصادي التاريخي المركب وذلك في كتابه [ رأس المال] . وهنا نجد إنجازات العلوم التجريبية البريطانية المتمثلة في الاقتصاد السياسي البريطاني ، الذي يقوم بفحص وتشريح الاشتراكية الخيالية الفرنسية بالأخص ، ويدمرها عبر التحليل الموضوعي للحياة الاقتصادية . هذا لا يعني إن ماركس لم تكن لديه استنتاجات سياسية مُسبّقة فرضها على البحث العلمي كذلك إضافة لتباين مراحل تطور فكره : مرحلة الشباب ، فمرحلة أقصى اليسار ، ثم مرحلة النضج الأخيرة .

لكن العلومَ ، حسب رؤى البرجوازيات الأوربية ، أخذت تدخلُ في أزمةٍ عميقة . فالمناهجُ الاستقرائية تركز على المادة المفصولة عن شبكتها الطبيعية ، وتعجز القوانين الميكانيكية عن قراءة الحركة الدقيقة للجزئيات ، وأخذت الاحتمالية الكلية واللادرية ، وخاصة شكوكية الفيلسوف البريطاني ديفيد هيوم ، عن الاعتراف بقانونية وموضوعية قراءة المادة ، في تشكيل أزمة ثقة بالعلوم ، وسوف نتابع العلائق بين الفكر الغربي بتعددِ اتجاهاته والفكر العربي بمختلف اتجاهاته من خلال تطور هذا الأخير نحو التجريد الفلسفي .

إذن حين قال طه حسين : أنا أشك إذن أنا موجود ، كانت صيغةً أقل قوة من صيغة ديكارت : أنا أفكر إذن أنا موجود !

وطه حسين لم يعلنها صراحة بأنه موجود كأنا طبقية برجوازية تؤسس عصر النهضة العربي الحديث ، وشكوكيته هنا القادمة من عصر ديكارت والمتأثرة بخطاه ، سارت إذن في المنهج العقلي ، المتصف بضعف التجريب ، والمعتمد على التحليل العقلي الصرف ، بما يسود فيه من فضاء فكري مهيمن ، ومتوجهاً إلى الأدب وهو ليس ميداناً حاسماً في المواجهة مع التراث المحافظ ، حيث توجه ديكارت إلى الفلسفة ، وهي الميدانُ الحاسم في الصراع الفكري ، ولهذا فإن طه حسين كان ذا عدة أدبية بدرجة أولى ، لكن التأثيرات الفلسفية المضمرة كانت موجودة في هذا الأدب عبر تسرب الاتجاه الميكانيكي والوضعي والجدلي الواقعي لكن ليس فيها منهج حاسم .

أنا أشك إذن أنا موجود ، اعتبرها طه حسين طريقة لإعادة إنتاج عقل عربي حديث ، يقومُ في البدايةِ باستعمال الشك وتوسيعه في كافة ظاهرات البحث والدرس ، وقد اعتقد إن استخدام هذا المنهج وتطبيقه على ظاهرات الثقافة كفيل بتوسيع استخدامه في كافة القراءات للمجتمع العربي المتخلف .

لكن زمان ديكارت كان قد انقضى عليه أكثر من قرنين ، انطلقت فيه مناهج أخرى ، وفي العقل البرجوازي نفسه ، كان المنهج التجريبي قد انتزع مكان الصدارة .كذلك كان المنهج الدارويني الاجتماعي والمنهج المادي التاريخي والجدلي الماركسي ، قد اثبتا حضورهما في الوعي الحديث .

إن عودة طه حسين إلى ديكارت ، يؤكدهُ المسارُ العربي التقليدي الراكد ، الذي لم تهزهُ الثورةُ الصناعية ، وحين بدأت مصرُ الدخول فيه ، عبرته من خلال الصناعات الاستهلاكية : السكر ، والنسيج الخ .

ولم يكن لطه حسين علاقة بالمناهج التجريبية أو بالمادية التاريخية ، وقد صارع بقوة المناهج الأزهرية المتخلفة في درس التراث ، وكان هذا الصراع الفكري المنهجي هو الذي يؤسس نظرته إلى العالم ، فهذه [ التجربة ] الشخصية كانت المعمل لإنتاج وعيه .

كان [ الشيخ ] التقليدي ماثل في وعيه ، وهو الذي يراه كعائق أمام تحديث العلوم ، لكنه أخذ الشيخ الديني كطرائق في البحث ، وكأساليب في درس التراث ، وليس كبُنية اجتماعية عتيقة ، أي كجزء من منظومة سياسية تقليدية هيمنت على المسلمين ، ولهذا فقد شهر سيفه أي قلمه في وجه هذا الشيخ المفصول عن النسيج الاجتماعي ، وعن منظومةِ الإقطاع الغارزة حرابها في الجسد الاجتماعي ، وحين كان يكتبُ عن أبي العلاء المعري ، فقد اتخذ صنوه من العصر العربي القديم ، ليس للاشتراك في العاهة الجسدية والتغلب عليها فقط ، بل لمستوى الوعي المتقارب بين الرجلين ، المعري في عصره العربي الإقطاعي المتفتت ، وطه حسين في عصره العربي الإقطاعي المتفتت والمتُكون مجدداً .

وإذا كانت الشكوكية والسخرية والنقد المرير اليائس قد ظللت فيلسوف معرة النعمان ، فإن الشكوكية البناءة المتفائلة ستكون النسيج الروحي لعميد الأدب ، وهو يحاول أن يُخرج الأمة من الظلام إلى النور ، مثلما هو يشكل خطاه على الأرض الدامسة ، جامعاً بين فرنسا الحرة وإعادة تشكيل مصر الحرة .

وقد بينت معركة كتاب [ في الشعر الجاهلي] طابع منهجية أنا أفكر المصرية التي أنتجها طه حسين . فالشك قاده إلى التشكيك المعقول بصحة الشعر العربي الجاهلي ، لكن هذا الشك لم تسنده قراءات اجتماعية واقتصادية في بنية العرب الجاهلية قبل الإسلام ، فقد أخذ الظواهر التعبيرية وإشكالياتها الحقيقية في معزل عن اللوحة الاجتماعية التاريخية المتكاملة . فأصدر حكمه بعدم حقيقية هذا الشعر الجاهلي . وقد عبر المنهج الشكوكي هنا عن قراءة عقلية فنية وفكرية غير غائصة في الجذور الاجتماعية للشعر والنثر الجاهليين ، فجاءت أحكامهُ غير دقيقة علمياً . فكان للمنهج العقلي الشكوكي هنا نتائج مضادة للجوانب التي يبتغيها من نشر المنهج العقلي الباحث . لكن أسئلة طه حسين المهمة والكبيرة أدت إلى بداية البحوث في تاريخ العرب ، والتي سينجزها باحثون آخرون . في حين ظل هو على عناده من مسألة الشعر الجاهلي المنحول ، فأضاع فرصة في قراءة جذور التكون الإسلامي .

وفي وقت صدور الدراسة اتخذت القوى السياسية المصرية المتصارعة الكتاب القنبلة – والذي لم يهتم الرأي العام فيه إلا  بجمل صغيرة تشكك في بعض النبوات ، والتي حُذفت في الطبعات التالية للكتاب – اتخذت من الكتاب أداة لتسوية حساباتها السياسية .

فخطة القصر الملكي والاستعمار بتقوية الجماعات المذهبية واضعاف حزب الوفد ، اصطادت الكتاب وحرضت الجماعات المتعصبة فما كان من حزب الوفد إلا أن هاجم المؤلف ( الموتور) ، وبهذا دخل حزب البورجوازية المصرية في سلسلة الدفاع عن النظام الإقطاعي الديني ، بدلاً من أن يقود معركة العلمانية والديمقراطية بعمق .

بينت معركةُ كتاب ( الشعر الجاهلي ) المعسكرات الاجتماعية والسياسية والتي ستدخل معركة التحديث العربية بتردداتها وإنجازاتها وهزائمها ، وهو هيكلٌ عامٌ اجتماعي واقتصادي لم يتغير نوعياً خلال القرن العشرين بل وربما أزداد ميلاً صوب المحافظين ، بسب اكتشاف الثروة النفطية في المناطق الأقل تطوراً من العالم العربي .

ولكن يهمنا هنا استلال الخيط الفكري العقلي التحديثي وهو يتكون في المواد الاجتماعية البسيطة.

فطه حسين بتقديمه هذه اللوحة التشكيكية في التراث العربي الجاهلي ، انطلق من أسئلة موضوعية بدون قراءة مادية تاريخية للعصر المدروس ، بل من جانب رؤية مُسبّقة في اعتماد منهج الشك ، ورفض المادة الوفيرة التي تؤكد صحة نسبة كبيرة من هذا الشعر إلى عصره . لكن الأهم في كل ذلك هو اعتماد الدراسة على جوانب فكرية مفصولة عن سياقها التاريخي في الماضي والحاضر ، وبالتالي عدم تلاقح مذهب الشك مع أدوات البحث التاريخي الموضوعية ، واكتشاف سياق التطور العربي ، وأهمية الإسلام كثورة تجديدية في حينها ، وأهمية رؤية دور مكة التجاري البرجوازي كمدينة تحاول أن تشكل عالماً نهضوياً ، تم إدخاله بعد هذا مع تكون الإقطاع وتطوراته في عمليات الفتوح وبسبب آثارها الاقتصادية . أي أن الأدب الجاهلي كان يعكس جذور دور طبقة برجوازية (حرة) كانت تعيد تشكيل مجتمع أبوي ، يدخل تواً العصر الطبقي .

أي أن الفئات البرجوازية المصرية التي دخلت العصر الحديث كمثيلتها القرشية المكية، دخلته وهي تابعة للبرجوازية البريطانية ، ومتداخلة مع الإقطاع السياسي الملكي الحاكم والديني ، فلم تستطع أن تطلق صرخة ديكارت : أنا أفكر إذن أنا موجود !

بل كانت كلمة طه حسين أنا أشك ، فأنا حائر ، تائهٌ بين الطرق الاجتماعية .

إن الفئات الوسطى المصرية كانت كلمتها في الواقع : أنا استورد واصدر ، وليس أنا أصنع فأنا موجود ، فكانت معامل التجريب نادرة ، وكان الفكر العقلي الذي تنتجه طالعاً تواً من الأزهر ، فلم يستطع أن يقرأ حاجاتها الموضوعية ، وأن يقود معركتها التحديثية . 

 لنلقي نظرةً تشخيصيةً حول فكرته عن العقل .

إن اقتراب طه حسين من الفكر الفلسفي نجده في الصفحات الأولى من كتابه : ( مستقبل الثقافة في مصر ) الذي يقدمُ فيه خطةً عامة لتغييرِ نظام التعليم في مصر ، والجمعُ بين هذا الفكرِ النظري العام وقضيةِ التعليم تحديداً ، هو قمةُ عمل النهضويين  )العلمانيين ) ، الذين اقتصروا على البثِ الثقافي وليس العمل السياسي والاجتماعي المباشر ، حيث صعّد طه حسين تدريجياً التنويرَ الأدبي ليغدو نضالاً سياسياً تبلور عند التعليم ، وذلك بسبب تصور التنويريين المثالي عموماً بكونِ الثقافةِ هي أداةُ تغيير التخلف ، لكن هذه الثقافة مصاغةٌ داخل آليات بنية الإقطاع المذهبي وليس لاجتثاث هذه البــُنية مما يؤدي بهذه الثقافة نفسها أن تكرس تلك البنية لا أن تهدمها كما كانوا يتصورون .

ولهذا فإن منطلقات عميدِ الأدب طه حسين شبهِ الفلسفية في مقدمة هذا الكتاب تتطابقُ وخطته لتغيير التعليم في مصر التي أعلنها في هذا الكتاب سنة 1938 ثم طبق أساسياتها حين صار وزيراً للتعليم في حكومة الوفد بعد ذلك .  

وفي هذه المنطلقات فإن مسألة ( العقل ) تغدو بؤرةً مركزيةً في عمليةِ إنتاجِ المفاهيم وتطبيقها ، ولهذا يقول :

( فهل العقل المصري شرقي التصور والإدراك والفهم والحكم على الأشياء ، أم هل هو غربي التصور والإدراك والفهم والحكم على الأشياء ؟ وبعبارة موجزةٍ جلية أيهما أيسر على العقل المصري : أن يفهمَ الرجلَ الصيني أو الياباني ، أو أن يفهم الرجلَ الفرنسي أو الإنجليزي ؟ ) ، ( 31 ) .

يعممُ طه حسين الوعيَّ المصري وتياراته في أزمنته المختلفة في تعبيرٍ متجوهر هو ( العقل ) مما يُعطي لهذا العقل خصائصَ عامةً مجردةً خارجَ الزمان والمكان . فالعقلُ المصري يغدو بهذا الوعي واحداً سواء كان في زمنِ التاريخ المصري القديم في زمن الفراعنة أم كان في زمن التبعية لليونان والرومان أو زمن الدخول في السيطرة العربية أو في زمنه الحديث ، فكل هذه التشكيلات التاريخية والسيرورة الاجتماعية لا تغير من طبيعة العقل المصري الواقف فوق الوجود .

ولهذا فإن ( العقلَ ) المصري وهو يشتبكُ مع الغزاة والعقول الأخرى يظل محتفظاً بهويته الجوهرية حسب منطق طه حسين المثالي المفارق ، وهذا العقلُ الذي يجعله حضارياً بشكلٍ ميتافزيقي منذ أن ظهر في الوجود ، يصطدمُ مع التأثيرات الشرقية غير العقلانية مثلما غزا الفرسُ مصرَ رغم أنهم كانوا تعددين بخلافِ ما يعرضُ طه حسين هنا أي لم يفرضوا ديناً : ( ومعنى هذا كله واضح جداً : وهو أن العقل المصري لم يتصل بعقل الشرق الأقصى اتصالاً ذا خطر ، ولم يعش عيشة سلم وتعاون مع العقل الفارسي ، وإنما عاش عيشة حرب وخصام ) ( 32 ) .

إذن إذا كان هذا العقلُ متجوهراً على نفسه وخارج الشرق وهو فيه ، كيف يستمدُ مقوماتِهِ وكيف ينتجُ عقلانيتَه ؟

يقول الدكتور طه حسين بأن بناءَ العقل يتمُ من خارجه عبر المحيط الجغرافي فيقول : ( أن العقل المصري منذ عصوره الأولى عقل إن تأثر بشيء فإنما يتأثر بالبحر الأبيض المتوسط ) ، ( 33 ) .

ومن هنا فهو يجعلُ العقلَ المصري ( أوربياً ) قبل أن تظهر أوربا الرأسمالية الحديثة ، لكن عبر نموذجها الأولي المتمثل في حضارة اليونان ، التي قام العقلُ المصري نفسه بتغذيتها بالعلوم والفنون ، ولكن هذه التغذيةَ الثقافية تظهرُ في شريطِ طه حسين التاريخي بلا سببيات وبشكلٍ مجردٍ ، ولكنه وهو في هذا التجريد يستدركُ قائلاً بأنه من الحق ( أن نعترف بأن مصر لم تنفردْ بالتأثير في حياة اليونان ، ولا في تكوين الحضارة اليونانية والعقل اليوناني ، وإنما شاركتها أممٌ أخرى ، كان لها حظٌ موفورٌ من الحضارة والرقي . . ) ، ( 34 ) .

إن العقلَ الحضاري إذن هو من نصيبِ جماعاتٍ تعيشُ على ضفافِ البحر الأبيض المتوسط ، وكأن في هذا البحر خصائصَ سحريةً تعطيه قدرةَ جعل الشعوب العائشة على ضفافه أن يكونَ لها عقلٌ وحضارة ، وليس أن هذه الحضارات نتاج أساليب الإنتاج المتقدمة والمتباينة فيما بينها ، ولهذا فإن طه حسين لا يعرضُ أسبابَ الديمقراطية اليونانية وانتفاء هذه الديمقراطية من أساليب الحكم الشرقية  ( الحضارية ) ، ولا مظاهر كون الثقافة اليونانية متعددة من مادية ودينية في حين كان الشرق دينياً شمولياً ، ولهذا فإن ميزات هذا العقل المصري أو الشرقي الحضاري عامةً ، الشمولي الديني يُطَّابقُ بالعقلِ اليوناني المتعدد الأفكار ، وهو أمرٌ يقودُ إلى إخفاءِ التباين العميق بين الثقافة في ظل أنظمة العبودية العامة كما في مصر والعراق والشام ، التي سادتها الأديانُ الحكوميةُ المستبدة ، وبين اليونان التي عرفت الاتجاهات الفلسفيةَ المادية المتنوعة ثم الاتجاهات المثاليةَ المتعددة بعد ذلك ، بسبب تعدديةِ المدن والسلطات وظهور برجوازية حرة .

وخلافاً لرأي طه حسين البحري فأن ظهورَ العقل الديمقراطي في اليونان نتاجُ تطور الصناعات والتجارة الحرة غير المحكومة بإدارة الدولة ، وهي الظروف التي أتاحت التعليم الحر والثقافة الحرة ، بعكس ما فعلته المنشآتُ التعليمية الكهنوتية المصرية والعراقية والشامية الخ ، ولهذا فإن الموادَ الثقافيةَ المشرقية المقدمة إلى اليونان المفيدة والمؤدية للتطور لم تؤخذ في زنازينها الحكومية الغيبية المشرقية ، بل أُدرجت في أبنيةِ مدنٍ يونانية مختلفةِ الاتجاهات ، وفي المدن الديمقراطية أدى ذلك إلى فلسفات مادية ومثالية موضوعية كفلسفتي ديمقراطيس وأرسطو ، وفي مدن استبدادية وعبر نمو الاستبداد في المجتمع اليوناني عامةً أدى ذلك إلى ظهور فلسفات مثالية دينية معادية للعقل الخ . .

إن فصلَ طه حسين العقلَ المصري عن منطقتهِ العربية – الإسلامية – المسيحية الشرقية وتعليقه في فضاءٍ جغرافي لا تاريخي ، أي وضعَهُ داخلَ إطار ما أسماه ( أسرة الشعوب التي عاشت حول بحر الروم ) ص 14 ، يستهدفُ غايات تحويلية شمولية تحديثية ، أي بمعنى إن عمليةَ الفصلِ هذه التي تــُشكَّل بمنهجيةٍ لا تاريخية تجريدية ، تسحبُ مصرَ من سيرورةِ تكونها الاجتماعية التاريخية الموضوعية الحقيقية ، وتعلقها في وعي مُسقطٍ على التاريخ وهو وعيٌ شموليٌ إداري حكومي ، وليس بمنهجية ديمقراطية شعبية ، فتقومُ هذه المنهجيةُ بفصلها عن تكونها الحقيقي ، وتوجدُ لها رابطةً موهومة ، هي رابطةٌ إيديولوجية مُسقطة من مثقفٍ تنويري يستهدفُ غايةً جيدة لكن بشروطِ وعي غير علمية .

ومن هنا يهاجمُ الشكلَ العادي الموضوعي المبسَّط من الوعي العام مصراً على قطعهِ لمصرَ عن نسيجِها العربي الإسلامي المسيحي الشرقي : ( فأما المصريون أنفسهم فيرون أنهم شرقيون ، وهم لا يفهمون من الشرق معناه الجغرافي اليسير وحده ، بل معناه العقلي والثقافي ) ، ( ولكني لم أستطع قط ، ولن أستطيع في يومٍ من الأيام ، أن أفهمَ هذا الخطأ الشنيع أو أسيغ هذا الوهم الغريب . ) ( 35 ) . 

إن طه حسين وهو يستهدفُ غايةً نبيلةً وهي ربطُ مصر بأوربا النهضوية الحديثة يستخدمُ منهجاً إيديولوجياً يحطمُ فيه أسسَ التاريخ ويشكلُ تاريخه الإيديولوجي الخاصَ الموظفَ لخدمةِ تلك الغاية السابقة الذكر .

 يقول : ( ومن المحقق أن تطور الحياة الإنسانية قد قضى منذ عهد بعيد بأن وحدة الدين ، ووحدة اللغة ، لا تصلحان أساساً للوحدة السياسية ولا قواماً لتكوين الدول ) ويضيف : فالمسلمون أنفسهم منذ عهد بعيد قد عدلوا عن اتخاذ الوحدة الدينية واللغوية أساساً للملك وقواماً للدولة . ) ، ( 36 ) .

إن طه حسين هنا يرفض بديهيات التاريخ ، فعلى العكس كانت الوحدةُ الدينية – اللغوية أساسَ تكونِ الدول القديمة ، فالإمبراطوريةُ الإسلامية قامتْ على تلك الوحدة المزدوجة ، وكانت تلك الوحدة في بدايتها عملية نهضوية واسعة ، وبهذا فإن الإسلامَ واللغةَ العربية وضعا أساسين لتشكلِ ولنهضةِ أممٍ متعددة ، ولكن نظراً لسيطرةِ طبقةٍ استغلالية في مركز هذه الإمبراطورية ورفضها عمليات الإصلاح من قبل الفئات الوسطى المدنية ، فإن هذه الإمبراطوريةَ تفككت ، وبالتالي بدأت اللغاتُ القوميةُ في الظهور وإزاحة اللغةِ العربية في بعض الأقطار ، في حين احتفظت أقطارٌ أخرى بهذين الأساسين ، فيما عُرف بالدول العربية الإسلامية . وظل هذان الأساسان فيها ، حتى حاولت الإمبراطوريةُ التركيةُ تغييرَ الأساس اللغوي العربي لحضارةِ المنطقة فلم تستطع .

والغريب في منطق طه حسين أنه ينقلبُ عن هذا الرأي حين يمنهجُ التعليمَ في مصر معتبراً الإسلامَ واللغة العربيةَ أساس هذه المناهج التربوية حتى في المدارس الأجنبية !

وفي رؤية طه حسين هنا نقرأ تعميمات تجريدية خاصة في تعبيري ( الدين ) و ( اللغة ) ، فالدين ، الإسلام ، لم يعدْ هو أساس وحدة الإمبراطورية الإسلامية أو الدولة الإسلامية ، بل المذهب ، فالأساسُ الإسلامي العام التوحيدي زال ، وغدت الدولة مذهبيةً ، والمذهبُ الديني الموظفُ حكومياً صار أداةَ السيطرة للطبقة الإقطاعية ، مُفرغَّـاً من طابعهِ الإصلاحي ومحوَّلاً إلى أشكالٍ مُفرَّغةٍ من دلالاتها الشعبية النهضوية الأولى ، كما أن ( اللغة ) العربية الفصحى تيبست ثم أصبحت محصورةً في دوائر ضيقة بسببِ سياسةِ تلك الطبقات الإقطاعية في تقليصِ الثقافة والتعليم وحياة المنتجين المادية وبالتالي أدى هذا إلى تكونِ وصعودِ اللهجات العامية الخ . .

ولكن هذين الأساسين – أي الدين واللغة – تشكلا في زمنِ الدول التقليدية ، أي في زمن سيطرة الإقطاع ، وبالتالي فإن مسار التعميم لدى طه حسين، كما هو سائد كذلك في الوعي العربي التقليدي عامةً ، ليس دقيقاً فالانتقال من الإسلام العام إلى المذاهب هو أمر مختلف ، بمعنى أن انتقاله من شكلٍ إلى شكلٍ آخر ، هو بسببِ جملةٍ من التغيرات والصراعات التي انعكست على البنية الداخلية في الدين . أي بسبب انتقال الإسلام من دين شعبي إلى دين حكومي مُسيَّطرٍ عليه من قبل الأقليات الاستغلالية .

ولهذا فطه حسين بعد أن أنتزعَ مصرَ من سياقها العربي الإسلامي وعلقها في فضاءِ بحرِ الروم حيث تنتمي إلى دائرة الأمم الأوربية ، عاد وأفرغ التاريخَ العربي الإسلامي من دلالاته الموضوعية وتطوره الحقيقي ، يقول :

( فأما نحن فقد عصمنا الله من هذا المحظور ووقانا شروره التي شقيت بها أوربا . فالإسلام لا يعرف الأكليروس ولا يميز طبقة رجال الدين من سائر الطبقات . والإسلام قد ارتفع من أن يجعل واسطة بين العبد وربه . فهذه السيئات التي جنتها أوربا من دفاع رجال الدين عن سلطانهم لن نجنيها نحن إلا إذا أدخلنا على الإسلام ما ليس فيه وحملناه ما لا يحتمل . ) ، ( 37 ) . 

إن هذه لغةً تجريدية لم تدرس المسار الفعلي لتطور الدولة العربية الإسلامية ، فعبر تحول الدولة الإسلامية من دولة ( شعبية ) إلى دولة للأشراف تم إعادة تشكيل الوعي الديني المسيطر ، وكذلك غُيرت طبيعة رجال الدين حيث قــُرب الموالون وصارت الأحكام تراعي دول الاستغلال ، وأُضطهد المعارضون ، ونـُحيت مسألة الملكية العامة العائدة للمجتمع وتم تشكيل أشكال مذهبية معارضة متعددة ، ولكن عموماً لم يستطع المدافعون عن الجمهور أن يشكلوا فقهاً مسيطراً ، في حين سيطر الفقهُ الموالي لدول الاستغلال على تعدد أوجهها المذهبية .

وبهذا نشأ لدينا أكليروس من طبيعة مختلفة عن الأكليروس الأوربي ، الذي كان وحده على السلطة في العصر الوسيط ، في حين كان الأكليروس الديني لدينا مجردَ تابعٍ ومشاركٍ للسلطةِ السياسية، لكنه كان اكليروس كذلك !

لقد صارت السلطة دينيةً وصار المذهب سياسياً وكلاهما مشكلان من قبل طبقات الأقلية الحاكمة ، ولهذا فإن أوجه النهضة الفقهية والأدبية والفكرية المضيئة هي من إنتاج الفئات الوسطى التي حاولت أن تقاومَ ذلك التكريس المحافظ ولكنها لم تستطع أن تحيلها إلى ثقافة سائدة ، وقامت قوى الأقلية بإعادة صهر النتاج الديني الثقافي ليصير على ما هو عليه في القرون الأخيرة من تكلس وتبعية للهيمنة الحكومية .

ولهذا فإن خلاصةَ طه حسين تبدو مضادةً للواقع : ( فالمسلمون إذن قد فطنوا منذ عهد بعيد إلى أصل من أصول الحياة الحديثة ، وهو : أن السياسة شيء والدين شيء آخر ، وأن نظام الحكم وتكوين الدول إنما يقومان على المنافع العملية قبل أن يقوما على أي شيء آخر . ) ، ( 38 ) . 

ولننتبه هنا إلى كلمة ( أصل من أصول الحياة الحديثة ) وهي كلمةٌ لم يصرح بها طه حسين وهي كلمة ( العلمانية ) أي فصل الدين عن السياسة ، ولكن هذا الفصل لم يحدث إلا بشكلٍ جزئي ، فالحكامُ كانوا سياسيين ولكنهم مذهبيون كذلك ، أي أن سيطرتهم على المنافع العامة جعلتهم يسيسون الدين بشكل معين ، إلا أن عملية الفصل الشاملة بإعطاء الإسلام حريته لم تحدث ، وظلوا مهيمنين على إنتاج الدين وإنتاج الثروة معاً ، واستمر ذلك حتى زمن طه حسين وهو يكتب كتابه .

إن عدم تحليل طه حسين لسيرورة الإسلام بشكل موضوعي ، أي تعليقه في فضاء مجرد من الصراع الاجتماعي ، في الماضي ، يقوده إلى إنتاج نفس الخريطة المجردة في العصر الحديث . أي على إبقاءِ الدينِ خاضعاً للأقليةِ الغنية المسيطرة على الثروة والسلطة .

ولهذا فإن طه حسين وهو يكتب كتابه السابق الذكر ( مستقبل الثقافة في مصر ) كان يتصور عملية الفصل بين الدين والسياسة قد تمت لدى المسلمين وليس ثمة حاجة للنضال من أجلها ، وأن مصر الدينية الإقطاعية في عصره مماثلة في وجودها الاجتماعي لأوربا الرأسمالية العلمانية ، وهذا التصور قد تشكل بسبب عدم قراءته للتطور الاجتماعي المختلفِ بين المشرق وأوربا ، فهو أولاً يعزلُ مصرَ عن نسيجها الجغرافي الاجتماعي ، معلقاً إياها في فضاءٍ إيديولوجي تنويري مثالي ، جاعلاً إياها متجوهرةً مرتفعةً عن بُنى التاريخ الموضوعية ، ثم ينقل هذا التجوهر إلى مفردات الدين والعصر . فتنتفي الفروقُ النوعية بين تطورِ مصر الإقطاعية المذهبية وتطور أوربا الرأسمالية العلمانية . فكلاهما سواء ولا تحتاج مصر لتكون أوربية كاملةً سوى إلى اندماج ثقافي حداثي وليس إلى تغيير سياسي واجتماعي كبيرين . أي أنه يقفزُ على مهمةٍ كبرى لم تنجز .

إن كتاب ( مستقبل الثقافة في مصر ) الذي كتبه طه حسين هو محاولة لإنتاج عقل حديث ، ولكنه يعجز عن إنتاج مثل هذا العقل ، كما فعل ديكارت في فجر التحديث الأوربي . فديكارت الذي توجه نحو الفلسفة أنتج معرفة لادينية ، أي معرفة تفتحُ الطريق لنمو التجريبية الخالصة ولتحرير العلوم الطبيعية من أسر الكهنوت . في حين توجه طه حسين للأدب ، وشكل عقلاً مجرداً لا تاريخياً ، كرس المحافظة الدينية الميهمنة على المناهج التربوية .

فصياغته لعقلٍ مجردٍ لا تاريخي ولا طبقي ، جعله يجردُ الدين واللغة والثقافة عموماً من كونها أدوات في الصراع الاجتماعي ، فالفكر الديني المحافظ الذي كرسه الإقطاع المذهبي عبر القرون السابقة ، ليس هو منتجٌ إسلاميٌ عام ، بل هو منتجُ الأشراف والقوى العليا التي هيمنتْ على المسلمين والمؤمنين عموماً . ولهذا فبدون فحصِ ونقد هذا المُنتَّج المتنوع وتقديمه خاماً مسيطراً على العقول عبر التعليم ، لا يؤدي ذلك إلى خلق عقل ( تنويري ) بل يؤدي إلى توسيع المحافظة الدينية اليمينية ، وحين يخطط ثم يبني طه حسين تعليماً متوسعاً ديمقراطياً في امتدادته ، ثم يقدمُ نفسَ المادة الدينية المحافظة فهو يقوي الاتجاهات غير التنويرية التي أراد تغييرها . إنه يوسعُ التعليمَ لكي تسيطر عليه القوى الشمولية خلافاً لأمنيته .

يقول :

( ولا يخطر لأحدٍ من أشد الناس محافظةً أن يحظر درس بشار وأبي نواس ولا أن يطلب من السلطان تحريق ما ورثنا من آثار الفلاسفة والزنادقة والمجان الذين لا يرضى عنهم الدين . . ) ، ( 39 ) . 

إن هذا الذي يستبعدُ طه حسين في زمنه وقوعه قد حدث فعلاً في زمن تالٍ ، وهذا يعودُ لأن قادةَ الفئات الوسطى الفكريين والسياسيين ، طرحوا مفاهيمَ مجردةً كمسائل العقل والدين واللغة والثقافة عموماً ، ولم يدرسوها كمنتجات في بُنى اجتماعية متضادة القوى والطبقات ، وبالتالي قاموا بالترويج لفكر العصر الوسيط المحافظ ، وكانوا يقولون بأنهم يعيدون إنتاج أوربا الحديثة مصرياً وعربياً .

إن طه حسين يجعلُ طبيعةَ الدولة المصرية المعاصرة وطنية عامةً مجردةً : ( أول واجبات الدولة أن تحمي بعض المصريين من بعض) ، فتغدو الدولة هنا جهازاً فوق الطبقات ، مثلما جعل الثقافةَ وعياً فوق الطبقات ، وجعل فلسفةَ ديكارت والفلسفة الأوربية الحديثة عموماً شكلاً إنشائياً : أنظر قوله ( إن الذين يزعمون أن ديكارت كان خلواً من الروح إنما يقولون سخفاً ويهذون بما لا يعلمون ) ، ص 67 . فهل هي قضية ديكارت الروح أم قضيته فصل الفلسفة عن الدين وخلق اتجاه تجريبي علماني ؟

 وتغدو الديمقراطيةُ لدى طه حسين كذلك تنويراً ثقافياً وليس بنيةً حديثة ذات قوانين مختلفة عن قوانين بنى العصر الوسيط .

إن هذه اللغةَ الإنشائيةَ الخطابية غير التحليليةِ غير الفلسفيةِ ، لن يكون بإمكانها أن تناقشَ القضايا المحورية في البنية الاجتماعية المعاصرة ، أي أن تربط مسائل الثقافة وعلاقتها بالتشكيلات التاريخية ، وأن تقرأ أنواعَ الوعي المرتبطة بالطبقات ، وأن تحدد مسارَ التحول ونشاط القوى الفاعلة الثورية ، وبهذا فإن هذه الرؤية لا تصل إلى المفاهيم المجردة الفلسفية العامة كالضرورة والسببية والحرية والقانون الاجتماعي والطبيعي الخ . . وهي عبر وعيها الأدبي تريد أن تقيمَ استراتيجية اجتماعية كبرى ، ويترافق هذا مع فئات وسطى متداخلة مع الإقطاع ، فتغدو الحداثة متداخلةً مع المحافظة الدينية ، وتصير العلمانية في نسيجٍ كهنوتي ، وتعجزُ الفئاتُ الوسطى عن التحول إلى طبقة وسطى قادرة على تجاوز التشكيلة الإقطاعية المذهبية .

وفيما بعد يضيفُ النظامُ العسكري الوطني الشمولي مشكلات أخرى إلى هذا التصدع الداخلي لتطور الفئات الوسطى باتجاه الحداثة والديمقراطية ، فهو يزعزع فئاتها الصناعيةَ ويخلقُ بيروقراطيةً اقتصادية كبيرة تتوجه إلى الفساد ، مما يكرس المحافظة الدينية ويؤدي إلى ضمور العقل النقدي .

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

(29) : ( وهو ( أي ديكارت ) يستدل أولاً على أن وجود الأنا يستتبع حتماً وجود الله ، وإلا لما كانت للانا فكرة عن كائن لا متناهٍ ، ثم ينتقل إلى الاستدلال على أن الأشياء المحيطة بنا لا بد أن تكون موجودة بدورها ، وإلا لكان الله خادعاً . وتلك حجة لاهوتية تبدو غريبة حقاً حين تصدر عن رياضي ممتاز مثل ديكارت . ) ، (نشأة الفلسفة العلمية ، تأليف هانز ريشنباخ ، ترجمة فؤاد زكريا ، المؤسسة العربية للطباعة والنشر ، ط 2 ، 1979 ، ص 43) .

(30) : ( المصدر السابق ، ص 78) .

(31) : ( مستقبل الثقافة في مصر ، مطبعة المعارف ومكتبتها بمصر ، بلا تاريخ ، الجزء الأول ، ص 7 ) .

( 32 ) ، ( 33 ) ، ( 34 ) ، ( 35 ) ، ( 36 ) ، ( 37 ) ، ( 38 ) ، ( 39 ) : ( المصدر السابق ، صفحات : 10 ، 11 ، 13 ، 15 ، 16 ، 56 ، 17 ، 58 ، على التوالي ) .

 ــــ ـــ ـــ ـــ ــ  ـــ

انظر عبــدالله خلـــــيفة: الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الإسلامية ، الجزء الرابع ، تطور الفكر العربي الحديث/فصل: التحديثيون العلمانيون ، وهو يتناول تكون الفلسفة العربية الحديثة في مصر خاصة والبلدان العربية عامة، منذ الإمام محمد عبده وبقية النهضويين والمجددين ووقوفاً عند زكي نجيب محمود ويوسف كرم وغيرهما من منتجي الخطابات الفلسفية العربية المعاصرة , 2015 .

عبـــــــدالله خلـــــــيفة السيــــرة الذاتيــــةعبـــــــدالله خلـــــــيفة السيــــرة الذاتيــــة2014-11-09عبـــــــدالله خلــــــــيفة كاتب وروائي
من ذاكرتنا الوطنية ـ كتب : عبدالله خليفةمن ذاكرتنا الوطنية ـ كتب : عبدالله خليفة2025-02-18عبـــــــدالله خلــــــــيفة كاتب وروائي
في الأزمة الفكرية التقدمية : عبـــــــدالله خلــــــــيفةفي الأزمة الفكرية التقدمية : عبـــــــدالله خلــــــــيفة2025-02-26عبـــــــدالله خلــــــــيفة كاتب وروائي

أسئلة الصمت والقهر في الاستفاقة على أوجاع التاريخ ! 

وعي النهضة عند سلامة موسى

  يعتبر سلامة موسى الكاتب العربي، أحد القلائل الذين أثاروا الجدل الفكري على مدى القرن العشرين، بسبب جرأة أفكاره وثباته الفكري الطويل لغرس قيم الوعي بالنهضة، عبر الكتابة والدعوة المستمرة لعدة عقود.

  كان أبوه من الموظفين الكبار في الإدارة، فحصل على فرص كبيرة للقراءة والدراسة والسفر والتفرغ للفكر والإطلاع، ولكنه لم يفلح في الدراسة المنظمة سواء على مستوى الدراسة الابتدائية أو الثانوية أو الجامعية، وهو يقول: إن ذلك كان بسبب محدودية المناهج ورغبته في الخروج من قيودها، ولكن من الواضح أيضاً انه لم يكن ذا قدرة على التركيز الدراسي والبحثي العميق، فاتسمت كتاباته بالسهولة الشديدة والتنوع والتضارب في الأفكار والرؤى، رغم أنها كانت تدعو للنهوض بشكل عام.

  وقد سافر إلى باريس، بشكل مغاير لسفر الطهطاوي، حيث كانت السرعة في السفر والتوجه إلى اليسار الأوروبي تحديداً، وخاصة الاشتراكيين والتطوريين، والصداقة مع أعلام الفكر الغربي كـ برنارد شو. وقد ذهل من دفاع اليسار الأوروبي عن قضية الشعب المصري، ودور برنارد شو خاصة في فضح محاكمة دنشواي الشهيرة التي قتلت مجموعة من الفلاحين غير المذنبين.

  فوجئ في الغرب بكثافة الاهتمام بالحضارة المصرية القديمة، وغيابها شبه الكلي عن الثقافة المصرية المعاصرة وقتذاك، فكرس جزءاً كبيراً من وقته لزيارة المتاحف والاطلاع على الحضارة القديمة.

  كذلك سافر ودرس في لندن الحقوق من أجل جلب شهادة، ولكنه كعادته لم يستمر في ذلك؛ وساح في الثقافة والأدب والعلوم، وحين عاد ركز على النشر، وكان أول كتاب له هو (مقدمة السوبرمان) سنة 1912، ثم أصدر سلسلة من الكتب، ورأس تحرير مجلته الخاصة، التي كرسها لنشر فكر الحداثة كما يراه.

 يعبر كتيبه هذا، أي مقدمة السوبرمان، عن هذه العملية الفكرية التي بتضافر فيها العمق والسذاجة، وتتحد النوايا الطيبة بغياب الدرس العميق، ففكرة السوبرمان هي فكرة نيتشويه، دعا إليها مفكر الفاشية الألمانية: نيتشه، لخلق عرق متميز، يغدو بمثابة الإنسان الأعلى. الذي يتخلص من الإنسان الضعيف، وكانت هذه الفكرة تفتح فيما بعد الباب لعمليات التطهير والمذابح في العروق (الخسيسة) عند النازيين.

  وبطبيعة الحال فإن سلامة موسى أخذ الفكرة بحسن نية، دامجاً إياها في فكرة علمية أخرى، هي نظرية التطور لـ دارون. فهذه الفكرة الكبرى في القرن التاسع عشر والتي فجرها العالم البريطاني دارون بكتابه (أصل الانواع)، كشفت لأول مرة ان العالم الحيواني خضع لتطور كبير، بدأ من ظهوره في الحياة البحرية ثم ارتقائه سلم التطور حتى ظهور أنواع الثدييات التي منها الإنسان.

  وقد دمج سلامة موسى هاتين الفكرتين، ولكن عبر تطبيقهما على المستقبل، حيث سيظهر في اعتقاده إنسان متطور يختلف عن الجنس السائد حالياً. وهذه الفكرة هي التي عزفت عليها النازية. المتنامية منذ ما بعد الحرب العالمية الأولى, وهي التي دمجت أيضاً بين الارتقاء المزعوم بالإنسان الحيوان وبين الاشتراكية.

  هذه الفكرة التي بدأ سلامة موسى حياته الفكرية بها، تعبر عن ذلك المزيج الفكري المضطرب، فقد مزج بين فكرة علمية هي نظرية التطور التي قدم حولها كذلك سلسلة من الاستعراضات الشائقة، وبين فكرة ايديولوجية خطرة ليست سوى واجهة للعنصرية، وهكذا فإن سلامة جمع بين فكرين متناقضين، الأول هو فكر التطور الموضوعي للأجناس وللمجتمعات، والفكر الآخر هو فكر الفاشية البيولوجية، لكنه لم ير الدلالات المتوارية وراءها. ولديه هنا ذلك الخلط الذي استمر طويلاً بين البيولوجيا والاجتماع، بين التطور العضوي ذي القوانين الخاصة، والتطور الاجتماعي،  مما يعبر هنا عن داروينية اجتماعية.

  في رؤيته للنهضة وكيفية تحقيقها فإن سلامة موسى يواصل موقفه المبسط لها، فهو ببساطة يدعو للالتحاق بالنهضة الأوروبية، وترك العروبة والإسلام والماضي، وركوب القطار المتوجه إلى الحداثة.

  يقول في أحد كتبه من سنوات أواخر العشرينيات من القرن الماضي وهو (اليوم وغداً).

  «فالرابطة الغربية هي الرابطة الطبيعية لنا، لأننا في حاجة إلى أن نزيد ثقافتنا وحضارتنا، وهي لن تزيد من ارتباطنا بالشرق بل من ارتباطنا بالغرب. اننا اذا ارتبطنا بالغرب تعلمنا فلسفة عالية وأدباً راقيًا ووقفنا على اختراعات عديدة واكتشافات لا حصر»، ومن عناوين هذا الكتاب:

لسنا شرقيين، الدم الشرقي فينا جلبه علينا العرب، الجامعة المصرية هي أداة للثقافة الحديثة، الأزهر هو أداة الثقافة «المظلمة»، ليس علينا للعرب أي ولاء، لغة المتنبي ليست لغتنا، الرابطة الشرقية سخافة، الرابطة الحقيقة هي رابطة الثقافة وهي رابطتنا بأوروبا.

  يعبر هذا الوعي عند سلامة موسى عن لغة التبسيط في تشكيل النهضة، فالنهضة هي استيراد كاستيراد البضائع، فهي علاقة كمية فتعبيره «أن نزيد» يعبر عن هذه الفكرة، فما علينا لكي نلتحق بأوروبا سوى أن نكثر من استيراد كافة الأشياء النهضوية كالاختراعات، وإذا كانت هذه الأشياء من الممكن استيرادها فعلاً وهي مفيدة جداً، فإن ذلك لا ينطبق على المؤسسات الفكرية، والعلاقات الاجتماعية التاريخية، فكيف يمكن أن ننقل عمليات التحول التي جرت أوروبياً في عدة قرون؟ هل نشحنها أم نقلدها؟

  إن الوعي الاستيرادي لتجار الجملة واضح هنا، ويتوجه سلامة موسى إلى الدعوة لنقل تلك المنتجات الغربية، ولهذا لا بد من الانفصال عن الرابطة العربية والإسلامية، وعن العلاقة مع الأمم الشرقية المتخلفة، بل عن التاريخ العربي والدم العربي، وهذا ما يمكن أن يحدث قطيعة مع التراث ومع الثقافة المتخلفة، وبالتالي تتحقق النهضة.

  هذه التبسيطية تتحقق في الواقع عبر انسلاخ مجموعات من الفئات الوسطى عن البنية الاجتماعية الإقطاعية، وهذا الانسلاخ لا يحدث الا عبر جلب مظاهر حضارية غربية مستوردة، لا يحدث لها أي جذر في تلك البنية، لأنها تتشكل كقشور ملونة فوقها.

  إن ارتباط مصر بالعرب أو بالشرق ليس ارتباطاً لغوياً أو ثقافياً، بل هو ارتباط منظومة اجتماعية متماثلة، متعددة مستويات التطور، هي المنظومة الإقطاعية – المذهبية العربية في طور أزمة العلاقة مع التطور الرأسمالي الحديث.

  وما يقوله سلامة موسى عن الانسلاخ من منظومة والالتحاق بأخرى، هو وهم طبقي، أي أنها أفكار وممارسات تتحقق عند مجموعات في الشرق تتوهم انها تتحضر عبر استيراد النهضة وليس إنتاجها، وهي هذه الفئات المستوردة للبضائع الغربية والافكار الغربية.

  هكذا يكّون سلامة موسى الأفكار النهضوية لشريحة من الفئات الوسطى الحديثة، ذات المستوى المعيشي الجيد، والتي لا تدخل في علاقة صراع عميقة وواسعة مع الغرب الإمبريالي، مثلما لا تدخل في عملية صراع مماثلة مع الشرق الاقطاعي، ولكنها في الوقت الذي تريد فيه المماثلة والذوبان في الغرب، فإنها تريد الانسلاخ من الشرق.

  إن هذه الطريقة الاستهلاكية والاستيرادية للمنتجات الفكرية والسلعية الغربية، لا تترافق مع عمليات إنتاج فكرية وسلعية وطنية، ولهذا فإن سلامة موسى لا يقيم مصنعاً لإنتاج الوعي الوطني، بقدر ما يفتتح دكاناً لجلب البضائع من المركز، وبطبيعة الحال فإنه يريد تطوير وتقدم البلد عبر ذلك، ولهذا يحرص على جلب أفكار النهضة والتطور وحرية المرأة والعلمانية وأهمية العلوم ونشر الأدب الشعبي والتخلي عن أدب الأبراج العاجية وضرورة تعلم الرقص الرفيع . . الخ.

  وكل هذه تقدم أحياناً كمقالات مطولة وقصيرة في أغلب الاحيان، وتتجه إلى عرض الفكرة والترويج لها، بدون تحليلات معمقة. وكثيراً ما تقوده هذه الافكار الشعارية إلى الاصطدام مع القوة الاجتماعية المهيمنة، أي الاقطاع بنوعيه السياسي والمذهبي.

  وإضافة إلى الطابع الاستفزازي فإن غياب التحليل العميق للشعار المراد جلبه ونشره في الشرق يؤدي إلى نتائج عكسية.

  لكن علينا أن نعتبر فكرته بضرورة تغييب الرابطة العربية والإسلامية من تطور مصر الحضاري المنتظر، هو خطأ فكري مزدوج، فهو خطأ في قراءة سيرورة مصر، المتكونة بشكل عربي وإسلامي في العصر الوسيط، حيث حدثت نهضة كبيرة بفضل هذه المرحلة، ولكن النظام الذي هيمن غيب تلك الإنجازات، فيبدو التطور العربي الإسلامي عند سلامة موسى كفعل سلبي فحسب، فهو يغفل العناصر الديمقراطية والنهضوية في هذا السياق، مركزاً على الأشكال التي سيطر بها الاقطاع المذهبي على المسلمين، معتبراً هذه الأشكال هي كل ما أنتجه العرب والمسلمون.

  ولا شك أن فرز هذه العناصر المتضادة يحتاج إلى دراسات معمقة، وتحليلات في البنية الاجتماعية ومستوياتها، وهي أمور لم يقم بها سلامة موسى، فيجد أمامه الثقافة العربية الإسلامية كثقافة تقليدية يجب الإطاحة بها، وحتى هذه الإطاحة تبقى غير مبلورة، بل هي شعارات موجهة ضد لغة عربية متكلسة، وهو أمر صحيح، وقد ساهم هو في زحزحة هذه اللغة المقعرة الجامدة، بلغته الرشيقة السهلة الواضحة. ولكن مسائل إزاحة الجمود والتخلف في ثقافة هي غير إلغائها، ويبقى وعي سلامة موسى غير قادر على كشف هذه اللوحة المعقدة والمركبة للثقافة العربية والإسلامية.

  ليس لأنه يأتي إليهما من الخارج، بل لأنه لم يدرسهما بشكل عميق، وأغلب قراءاته هي للنتاج الغربي عموماً، وهو يريد إدخال شعارات هذا الغربي المتطور إلى عالم يرفضه ويريده ان يتغير.

إن رغبته فى تشكيل مصر بالصورة التي يريدها، حيث لم يقم بالكتابة عن اي بلد عربي آخر، ودوره في هذه الكتابة الطويلة وخلق القراء، لا تؤدي إلى نتائج كبيرة في الواقع والمناخ الثقافي الفكري، وعلى العكس فإن المناخ يتجه إلى نقيض افكاره، وجهده في خلق تنوير يُستبدل برواج الاتجاهات السلبية والمحافظة.

  وهذا المصير الفكري والاجتماعي هو غير مسئول عنه، ولكن هذا المصير يحدد كيف تضيع سنوات من العمل الفكري وتتدمر بذور التنويريين، من دون أن يروا آفاق عملهم.

  كان التطور الاجتماعي والفكري في مصر يتجه بخلاف آراء سلامة موسى بضرورة اعتماد التدرج الاشتراكي في عمليات الإصلاح، فالمدينة الاقطاعية التي أسستها السلالة الملكية كانت تتجه إلى الانفجار، والتحولات الرأسمالية على مدى قرن كامل، لم تستطع تشكيل تحول رأسمالي جذري، على صعيد تشكيل سلطة ديمقراطية أو على أساس نمو تحديثي في كافة مستويات البنية، فبدأت المدن تتضخم سكانياً من جراء تطورات رأسمالية متضادة، وبدأ الريف يضغط، ونستطيع أن نعتير سيطرة الضباط الأحرار هو انتصار للفلاحين المتوسطين بثقافتهم الدينية والحديثة المتداخلة، بحيث حافظوا على التعايش بين النظام الإقطاعي والنظام الرأسمالي، وعبر سيطرتهم على رأسمالية الدولة، انتقلوا الى صفوف الأغنياء، وأدى هذا التطور العسكري، إلى استنفار القوى المحافظة وعودتها بعدئذ إلى الهيمنة بشكل أقوى من السابق.

   موسى ناضل من أجل نمو التحديث والليبرالية والإصلاحات الاجتماعية التي يسميها الاشتراكية، ولكن ما حدث هو نمو الاتجاهات الشمولية، ولم يسهم في رصد هذا الصعود بسبب أدوات تحليله المبسطة، أي عدم قراءة البنية الاجتماعية وبالتالي لم يشكل تياراً يقاوم هذا الاكتساح المستقبلي، رغم اهتمامه الشديد بالمستقبل، وذلك عبر عدم جمعه بين العروبة والإسلام والتحديث، بين العلمانية وتحليل الجذور التاريخية للأمة، بين الانتماء للشرق والانفتاح على ثمار الأمم النهضوية، بين الدفاع عن الديمقراطية وتقدم الأغلبية. . الخ.

  هذه التركيبة الجدلية كانت تستدعي دراسات على مستويات الماضي والحاضر، الشرق والغرب، وهذه الإمكانية التوليفية لم تكن ممكنة لجيل كامل من النهضويين، تقاطع وعيهم بين قطبين، قطب الشرق والتراث، وقطب الغرب والمعاصرة، وهو أمر يعكس هيمنة الفئات الوسطى غير الصناعية، والمستوردة، التي تستورد الموديلات الجاهزة من الماضي أو من الحاضر الغربي، وليست قادرة على التصنيع وإعادة تشكيل الواقع، وهو أمر يتطلب تغيير المواد الخام التراثية والراهنة، تبعاً لتطور مصالح الأغلبية من الشعب والأمة.

  إن الشعارات السهلة والتنويرية لا تقود إلى محصول كبير، فمن السهل المطالبة بزوال الأزهر كمؤسسة دينية ولكن من الصعب دراسة هذه المؤسسة وتيارات الوعي فيها، وطرح اجتهادات في الخطاب الديني نفسه، وهذا ما أخذت التيارات النهضوية العربية الجديدة تعيد النظر فيه، وبدأت دراسات علمية فى هذه الجوانب.

  والدراسة العميقة تودي إلى غياب الشعارية والتسييس الُمبسّط والخطر وتقترب من رصد الحالة الموضوعية للتطور، واحتمالاتها المختلفة، وبالتالي تغدو أكثر تبصراً على صعيد التأثير اليومي.

  بطبيعة الحال أسهم سلامة موسى في نشعر ثقافة تنويرية ونهضوية في حدود معينة، وهناك أجيال من الشباب تدين له بالفضل بسبب دعواته للعلم والثقافة والتمدن، وقد شرح العديد من النظريات ببساطة، ولكن يبقى أن يؤخذ تراثه بقراءة جديدة وبحذر علمي.

  وهناك دراسات كبيرة كتبت عنه، ولكنها إما أن تمدحه بإفراط أو ترفضه بتعصب شديد، ولهذا فإن دراسة موضوعية عنه، وتجميع كتبه في طبعات جديدة كاملة، هي أمور ضرورية لاكتشاف وعينا العربي المعاصر بشتى جوانبه.

  لقد كتب عنه الباحث المغربي عبدالله العروي في تقويم أقرب إلى الدقة حين وصفه بانه نموذج لـ سبنسر، وهو المؤلف البريطاني الذي مزج بين الداروينية البيولوجية والحياة الاجتماعية.

  وليس صحيحاً ما قاله المفكر محمود أمين العالم عن سلامة موسى ورفضاً لرؤية العروي: إن سلامة موسى له جذور بابن خلدون وغيره من المؤرخين والباحثين العرب.

عبــدالله خلـــــيفة : وعي النهضة عند سلامة موسى

 

وعي النهضة لدى الطهطاوي

  رفاعة رافع الطهطاوي عالم مصري من رواد النهضة العربية، ولد سنة ١٨٠١، فى طهطا من صعيد مصر، التحق بالأزهر، وعين رئيساً دينياً لبعثة من طلاب المصريين المتوجهين الى فرنسا للتخصص فى الدراسات الحديثة، ورغم ذلك فقد عاد هو ليصبح فاتح الطريق للعلوم الحديثة في الثقافة العربية. فقد تعلم الفرنسية وتعمق فى اكتشاف علومها وتخصص بالترجمة عنها، ولكنه لم يكتف بالترجمة بل قام بالتأليف والدعوة للتحديث، واستلم مهام رسمية وإعلامية متعددة.

  يعبر عصره عن مرحلة انتقال مناطقية وعالمية بين عصر الثورة الصناعية والاستعمار، حيث بدأت ثمار التقدم الغربي تشكل منظومات اقتصادية وسياسية رأسمالية غربية، لا تزال خاضعة لرأسمالية المنافسة والحريات الداخلية، والتوسع التجاري على الصعيد العالمي، وهذا ما أدى الى أن يكون خطاب الطهطاوي مرتبطاً بهذه العملية من العلاقات التجارية والتعاونية العالمية، وإن كانت صراعات الدول الرأسمالية الغربية أخذت بالبروز، وكانت الحملة الفرنسية على مصر فى طفولة الطهطاوي قد عبرت عن هذه الإرهاصات في التحول من مرحلة الرأسمال التجاري الى الاستعمار.

  ولهذا فإن وعي الطهطاوي لم يتشكل في مرحلة الصدام بين الشعوب والاستعمار، وكانت الدولة المصرية، عبر مشروع محمد علي قد راهنت على تطور تحديثي مستقل وناجز. وقد تشكل وعي الطهطاوي فى ظل هذا المشروع السلمي والحالم والمبذر كذلك.

  فقد واجه مشروع محمد علي الأشكال الفظة من النظام الإقطاعي القديم الرث، لكنه لم يقم بتغير شامل له، بل فتح المجال لتملك الأرض بشكل شخصي واسع، للأسر الأرستقراطية الألبانية والتركية، وقام بخلق قطاع عام لصناعات حربية فى الغالب، وشكل هذا التحديث المحدود للنظام الإقطاعي الديني. وقد أدت أعماله العسكرية الى استهداف مصر للاحتلال بشكل خاص.

  ولهذا كله فإن وعي الطهطاوي سيكون محكوماً بوعي هذه المرحلة التاريخية، وباستيراد التقنيات والعلوم المفيدة في هذا التطوير للنظام القروسطي العربي فى مرحلة جديدة.

  من هنا كان وعي الطهطاوي يردد باستمرار دور الحاكم المطلق فى تشكيل النهضة، يقول: «فإننا كنا في زمن الخلفاء العباسيين أكمل سائر البلاد تمدناً، ورفاهية، وتربية زاهرة، وسبب ذلك أن الخلفاء كانوا يعينون العلماء وأرباب الفنون وغيرهم»، تلخيص الإبريز، دار المدى، ص15.

  هذا الذكر لدور الحكم المطلق في إنتاج النهضة، التي تتم من خلال دعم الخلفاء للعلوم، هو إنتاج لوضع المرحلة التي يعيشها الطهطاوي في مصر حينئذٍ، عبر دور أسرة محمد علي في إنتاج نهضة، يفترض أن تكون مماثلة للنهضة العباسية. أو إعادة إنتاج لها، وهذه المرة لا تأتي العلوم من قبل الإغريق بل من خلال الفرنسيين.

  وكما تغيب شروط نهضة العباسيين عن وعي الطهطاوي، إلا من خلال الدور الفردي للمأمون، أو لغيره من الخلفاء، فكذلك تغيب شروط الاتصال مع اليونانيين، من حيث بنى المعرفة المنقولة ودور الوسطاء في عمليات النقل، وطبيعة هذه المواد المنقولة، وأثارها.

  ولا تظهر عملية النهضة هنا سوى فى أدوار الأفراد، والحالات المشتركة من الازدهار بين عصر المأمون وعصر محمد علي، أما طبيعة العصرين المختلفة بين نظام إقطاعي مركزي عربي إسلامي يبدأ رحلة التدهور، ونظام إقطاعي مصري وطني في طور دخول التبعية، فهي لا تظهر لمثل هذا الوعي، بأدوات معرفته التقنية، بل يظهر المشترك بينهما وهو نمو النظام الإقطاعي بشكل نهضوي عبر تشجيع العلماء وترجمة الفكر، وهي عوامل جزئية محدودة مفصولة عن البناء الاجتماعي العام.

  يدرك الطهطاوي تطور الحياة الاجتماعية التاريخية للبشر، عبر قوانين الصدف المحضة أوعبر التدخلات الإلهية، فهو يفسر اكتشاف النار في بدء التاريخ فيقول: «ثم حصل اتفاق أن بعضهم رأى شرارة نار من الصوان، بمصادمة حديدة أو نحوها ففعل مثل ذلك، وقدم وأخرج النار وعرف خاصيتها»، تلخيص ص ١٣.

  رؤيته للصدف كعامل دائم في تشكيل التاريخ لا يتضاد مع إعطائه للتدخلات الإلهية ذات الدور، ولكن الجانبين يعكسان غياب معرفة السببيات المتداخلة لنمو التاريخ، وهكذا فإنه ينتزع من المواد المعرفية الفرنسية والأوروبيه عموماً، ملاحظاتها الصغيرة والمعزولة عن تشكل الحضارة، والطهطاوي لا يكتفي بعرض تاريخ النار، بل يقوم بعرض تاريخ المدنيات عرضاً سريعاً يقتطف بعض الجوانب الجزئية من التاريخ البشري، كتقسيمه الصحيح للتاريخ باعتباره ثلاث مراحل أساسية هي: المرحلة الوحشيه، والبربرية، والمرحلة الحضارية. وهو تقسيم مهم نجده عند علماء الانثربولوجيا، ولكنه هو يأخذه كطرفة، ولا يقوم بدراسة للعرب والإفرنج من خلاله.

  ولهذا فإن كتاب تلخيص الإبريز لا يأخذ طابع الدرس المقارن بين الشرق والغرب، رغم تصنيفه، للعرب بأنهم بين البربرية والتحضر، حيث يُعطي الجزيرة العربية الوصف الأول، ويُعطي مصر والهلال الخصيب الطابع الثاني، مدركاً الفروق بين مستويات التطور العربي، وتقوم الرحلة بعرض الفروق بين تحضر مصر والعرب وتحضر أوروبا وقتذاك.

  وكما رأينا سابقاً، فبؤرة العرض السياحي تقع في مسألة النهضة من خلال شروطها الفردية غير الاجتماعية، أي أن النهضة مرتبطة بإرادة الحكام، ومن هنا يغيب تاريخ مصر السابق، أي كل تلك التطورات التي أدت إلى مجيء محمد علي وتغيب الازمة المحتدمة في الدولة العثمانية والمنطقة، وتغدو النهضة على طريقه قوله: «فمن هنا تفهم أن العلوم لا تنتشر في عصر إلا بإعانة صاحب الدولة لأهله، وفي الامثال الحكيمة: الناس على دين ملوكهم»، السابق، ص ١٦.

  ولهذا فإن الطهطاوي يضيف بأن المتولي على بلاد مصر أراد ان يُرجع «إليها شبابها القديم، ويُحيي رونقها الرميم»، فهذه الإرادة الفردية المطلقة هي التي تصنع النهضة، عبر إحضار «أرباب الفنون البارعة، والصنائع النافعة، من الإفرنج، ويغدق عليهم فائض نعمته».

  ولا يقيم الطهطاوي هنا قراءة لطبيعه هذه المهن والصناعات وعلاقاتها بالبناء الاجتماعي، حيث هي مرتبطة بالجوانب العسكرية وتقوية نفوذ الدولة وشرائحها المتنفذة، ولا علاقة هذه الجوانب النهضوية المفيدة حقا بالبنية الاقتصادية العامة، ولكنه يأخذها كأقوال عامة وجمل إنشائية، كقوله: «وبالجملة والتفصيل، فإن الوالي آماله دائماً متعلقة بالعمار، ومن الحكم المعروفة العمارة كالحياة، والخراب كالموت، وبناء كل إنسان على همته،»، السابق، ص١٧.

  لكنه بطبيعة الحال يلمح طابع النهضة الراهنة في مصر حينئذٍ فيرى «ترتيب العساكر الجهادية من (الايات) ومدارس حربية» وبالتأكيد فإن مشروع محمد علي كان ذا طابع عسكري، وكان من الضرورة نموالعلوم الطبيعية والصناعيه المختلفة، أي كل ما يسرع من نمو آله الدولة الحربية، لكن إلى أي حد كان هذا الطابع يسمح بنمو الصناعه المستقله وبالتالي يغيب أو يضعف من هيمنه الدولة الإقطاعية العسكرية، فإن ذلك يبدو غير مرئي في وعي الطهطاوي وهو يشارك في هذه العملية التاريخية.

  وتسمح هذه العملية التاريخية من جهه أخرى «بنشر العلوم والفنون الآتيه.. وبكثرة تداولها، وترجمة كتبها وطبعها في مطابع ولي النعم»، والمقصود بالفنون هنا هي العلوم الفنية، والتقنيات المختلفة، وكل ذلك يجري في أفق الوالي ومطابعه.

  تتوارى أسباب انهيار الحضارة العربية وأسباب تشكل الحضارة الغربية في وعي الطهطاوي، فهو يربط الحضارة العربية وتشكلها في إحدى طرائفه بالرحلات، فهو يعتقد إن النهضة وليدة نشاط الناس التنقلي ورحلاتهم فيقول: «ثم لما خمدت عندهم أنوار هذه المعارف وأهملوها، ازدارءً  لها، أو لسبب آخر، قلت سياحاتهم، وقامت مقامهم طوائف الإفرنج وبرعوا في ذلك، واستفادت الدولة والرعية الفوائد الجسيمة، بالأمور السياسية والتجارية».

  إن ملاحظته حول أهمية الرحلات في تحريك الحضارة قد استقاها من عصر الكشوف الجغرافية الغربي الذي لعب دوراً بارزاً في الانتقال من عصر النهضة الثقافي والتنويري إلى عصر الثورة الصناعية، وعبره تدفقت الموارد الذهبية والمعادن إلى أوروبا واتسعت الأسواق، ولكن الطهطاوي يأخذ ذلك الجانب الجغرافي مفصولاً عن البناء الاقتصادي والتاريخي والثقافي العام، ولعله يتخيل انه عبر رحلته إلى فرنسا التي يكتب عنها في كتابه هذا، سوف تحدث ذات العملية النهضوية العميقة التي حدثت في أوروبا، خاصة مع المظاهر التي لاحظها من ازدهار التجارة والعمارة في مصر، خاصة بعد تصدى الحاكم لإحياء المعارف..

  تعرقل عملية البحث هذه طريقة الكتابة لدى الطهطاوي التي تتسم بالتفكك والتجميع بين أساليب شتى متضادة، فهناك الدرس والملاحظات العلمية وادخال الطرائف و المُلح والأشعار، وهي عملية تعبر عن تغييب الحفر المعرفي في المادة، وبالتالي تغيب عمليات التحليل والمقارنات والاستنتاجات العميقة.

  يقول رضوان السيد في تعليقه حول طريقة النهصويين الاوائل: «إن هذا الأمر كان معروفاً بين المعاصرين للطهطاوي، أي الاستطراد، وإدخال الأخبار والأمثال والأشعار في المؤلفات أياً تكن موضوعاتها. . » لكن الطهطاوي مضى في ذلك إلى آفاق أبعد من هؤلاء جميعاً؛ بحيث تضيعُ أحياناً معالم الموضوعات التي يعقدُ عليها الكتاب في سيل لا ينقطع من الاستشهادات والاستطرادات التي تكاد لا تنتهي»، حضور التراث العربي في كتابات الطهطاوي، مجلة الاجتهاد، العدد الخامس والخمسون والسادس والخمسون.

  وفى الواقع فإن طريقة الازهريين فى البحث هي طريقة التراثيين التجمعيين، والذين تنقصهم أدوات التحليل المركبة، أي أدوات العلوم الحديثة المترابطة، وبالتالي يغدو الموضوع رحلة على مستويات مختلفة، رحلة إلى التراث والشعر وإلى فرنسا وعاداتها الطريفة وأوضاعها السياسية والحضارية المتقدمة.

  أما عملية الربط بين الأوضاع العربية السابقة والراهنة والرحلة، فهي أمر غير ممكن بأدوات التعبير والتفسير المسيطرة وقتذاك، والتي تعكس طريقة فى التفكير والمواقف الاجتماعية، حيث الموظف، سواء كان مثقفاً على طريقة الطهطاوي أم رئيساً للرحلة، خادماً للسيد المتواري، وهو الدولة.

  ويقول رضوان السيد بان طريقة التأليف هذه هي: «للتاكيد على البقاء في السياق الثقافي الكلاسيكي العربي والإسلامي، واجتراح التقدم في الوقت نفسه»، ولكنها في الحقيقة ليست مثل كل كتابات المؤلفين العرب الكلاسيكيين، أي هي بخلاف كتابة ابن خلدون التحليلية العميقة في المقدمة، فهي أقرب لكتابات الجاحظ، فهي عودة لبواكير الكتابة العربية النثرية.

  إنها لغة المثقفين المرتبطين بسلطة نهضوية مستبدة، والتي لم تتكشف تناقضاتها الاجتماعية والسياسية بعد، والتي تمس رؤوس الموضوعات الكبيرة بشكل عابر، وهذه الطريقة تسمح لها بمدح الدكتاتور النهضوي وجلب الموديل الغربي في جوانبه غير المضادة للشريعة.

  إن الطهطاوي في رحلته التي استغرقت عدة شهور براً وبحراً إلي عاصمة فرنسا، باريس، كان يقطع مسافة زمانية تاريخية كبرى بين عصرين، وهو إذ يأخذ تبدل أوجه المكان، لا يأخذ سيرورة الزمان، وكأن الفروق بين القاهرة وباريس، هي فروق كمية، وبضعة ميزات سياسية واقتصادية من الممكن نقلها، وليس الأمر في وجود بنيتين اجتماعيتين مختلفتين.

  ومن هنا يقوم بعرض كل ما يصادفه من مظاهر الحياة في إيطاليا وفرنسا، من الأشجار والبراكين وطريقة الأكل والأدوية والتعليم والمدن والحياة السياسية، فتغدو الفصول مشاهدات، وليس مقارنات وتحليلات، ومن هنا يقوم بعرض الدستور والبرلمان والحكومة كما يعرض قضايا الصيدلة والنظافة.

  ومن الواضح ان هذا العرض بحد ذاته كان مثل عاصفة للوعي العربي، فهو يقدم لأول مرة خريطة التمدن الشاملة في أوروبا. ويتيح له هذا العرض المحايد البانوارمي عدم الدخول في صراع مع السلطتين المهيمنتين: الدولة ورجال الدين. ولا شك أن أي عرض تحليلي ومعمق للديمقراطية على مستوى السلطتين السياسية والروحية، ما كان بإمكانه الظهور.

  لكن كان الطهطاوي ينساب مع المهمات البسيطة والصغيرة للتمدن، ولا يحفر في اتجاه تحويلي عميق، ولهذا فإن عرضه للبرلمان والدستوروالديمقراطية والصراع السياسي يشكل أحد فصول الكتاب، لا أن يكون محور الرحلة وجوهرها.

  ويقيم الطهطاوي بإيجابية دور البرلمان المنتخب، والذي كان محاطاً بسلسلة من السلطات التي تفرغ دوره فهو يقول عنه: «ووظيفة ديوان رسل العمالات غير متوارثة، ووظيفته امتحان القوانين والسياسات والأوامر والتدبير والبحث عن إيراد الدولة ومدخولها الخ..»، وهذا التحجيم للبرلمان والذي مارسته الملكية العائدة بعد هزمة الثورة الفرنسية، لا يقوم الطهطاوي بتشيريحه، فهناك عشرات الدواوين الملكية والحكومية ومجلس الأعيان.. الخ، والتي حصرت دور البرلمان في مناقشة قضايا الصرف والمكوس على حد تعبير الرحالة العربي.

  ولكن الكاتب بعدئذ يذكر المواد الدستورية التي تُفرغ ذلك المجلس من سلطته التشريعية الحاسمة، فالملك هو الذي يستطيع أن «يبطل ديوان رسل العمالات»، أي البرلمان، ولا يسن شيئاً إلا إذا «رضي به الملك.»

  ويدرك الطهطاوي في خاتمة المطاف أن العدل «في قطر من الأقطار فهو نسبي إضافي لا عدل كلي حقيقي»، ص 101.

  لقد قامت الملكية العائدة في فرنسا بعد هزمة نابليون بإعادة النظر في الدور المحوري للبرلمان، والذي تعرض للتقلص في المرحلة الإمبراطورية كذلك، وفي فترة سفر الطهطاوي لم تحل بعد ثورة 1830 التي أعادت الحياة الديمقراطية بشكلها الاول.

  وبطبيعة الحال كان هذا المستوى من التطور الفرنسي مناسباً للدولة المصرية الملكية التي يغيب عنها البرلمان، وبهذا كان نموذجها الذي يسوقه الطهطاوي مفيداً لمرحلته وعصره. فهو قادم من ملكية دكتاتورية إلي ملكية دستورية محدودة.

  ولكن الأهم هو السياق الحضاري الحديث بمختلف جوانبه الذي يعرضه عرضاً يبدو محايداً.

  كان نموذج النهضة الذي يقدمه الطهطاوي في رحلته وفكره هو هذا النظام البرلماني المحدود والحديث، مقطوع الصلات بالتحليل التاريخي والسياسي، ومطروح كنموذج للنهضة والتقدم لأمة تبدأ في الوعي والتفتح.

عبــدالله خلـــــيفة : وعي النهضة لدى الطهطاوي