الأرشيف الشهري: مارس 2018

صراع اليسار واليمين في الإسلام

في كل حركة اجتماعية تاريخية تتشكل أجنحة متباينة الرؤية، وكل منها يعتقد بأنه المعبر عن هذه الحركة والقريب من جوهرها ومن مبادئها الأصيلة. وخطورة التباين في الحركات الاجتماعية الدينية أنها تقود إلى تكون المذاهب المتمايزة، وتقسيم المؤمنين على أساس عقيدي، غير قابل للتغيير أو التقريب، لأن كل منها يتمسك بأساسياته التي تكونت عبر عصور طويلة، راكم فيها المؤسسون أشكال الاختلاف، رغم أن هذه هي مجرد بنية عبادية أكثر منها مضامين اجتماعية أو رؤى طبقية أو سياسية متميزة. وفي البدايات فقط ظهرت عمليات التمايز الواضح بين الاتجاهات، ولكنها ظهرت كاتجاهات اجتماعية بارزة، فقد ظهر حزبان واضحان في مجرى تكون الحركة الإسلامية التأسيسية وفي تكون الدولة الإسلامية. فقد تشكلت الحركة الإسلامية برفد واسع من الفقراء ورعاة الصحراء الذين انضموا بشكل كثيف إلى الحركة، وقد جاء الفقراء والعبيد إلى الإسلام في مكة، وكان جزء من ذلك موجهاً إلى ساداتهم الذين أرهقوهم بالاستغلال. كانت القواعد الأساسية للحركة الإسلامية قد تكونت من الفقراء وهذا لم يختلف عن الحركة الدينية المسيحية في باكورة نشأتها، فكلا الحركتين ثورتان مميزتان في تاريخ المشرق.

أما التجار الصغار والمتوسطون فقد جاءوا بشكل أقل، ولكن تم الإخاء بين هذين الرافدين الاجتماعيين، ليكونا عماد الدولة السياسي فيما بعد. كان توجه الإسلام للفقراء قد رافقة هجوم قرآني عنيف على كانزي الذهب، ومستغلي الحاجات الاقتصادية عبر الربا، أكثر الأشكال فظاظة للاستغلال الاقتصادي، وكذلك الغش في البيع، إضافة إلى نقد العادات الاجتماعية المرافقة لهذا الاستغلال كغرور السادة وتعاليهم، واضطهاد النساء وقتل الأطفال وعدم مساعدة الفقراء والعبيد، وجاء تعبير «فك رقبة» ليجعل ملاك العبيد يرتعشون خوفاً على مصالحهم، حيث تقوم أفريقيا بشحن المعذبين إليهم. وكان من شأن ذلك كلة نفورٌ من أصحاب النفوذ والجاه تجاه الدعوة الجديدة، التي كانت بشير ثورة سوف تطيح بعالم كامل من التخلف. ومع هذه المعارضة من أصحاب المصالح الكبرى، الذين أججوا السادة في القبائل الأخرى، حيث قالوا لهم بأن الإسلام يهدف إلى الإطاحة بتجارة مكة ومكانتها كعاصمة للعبادة الدينية وبالتالي التجارية، مما جعل الحركة الإسلامية محصورة في مكة وغير قادرة على فك الحصار حولها مدة ثلاث عشرة سنة.

كانت المرحلة المدنية هي تقويض هذا الحصار والتوجه إلى القبائل العربية، وتحول التحالف بين التجار النهضويين المكيين والفقراء، إلى تحالف متنام مع القبائل العربية الكثيفة، وقد أدى تشكيل الدولة إلى سياسة دقيقة واقعية، لا تنقض مكانة مكة التاريخية والاقتصادية والدينية، بل تعطي ذلك الشكل الوثني المتفرق، مضموناً إسلامياً توحيدياً.

كما أن توسع المدينة ونمو ثروات الصحابة أثبت للملأ أن الحركة الإسلامية لا تتوجه لمصادرة ثرواتهم، وإن كان الاكتناز والاستغلال
الربوي مرفوضين، كما أن بقية العلاقات الاقتصادية غير محرمة في الدين الجديد.

وهكذا أخذت مواقف «اليمين المتطرف» وهي المعبرة عن الغلاة من الملأ والذين هم على عداوة شخصية، أو الذين لهم طموحات فردية، بالانحصار والانعزال، في حين تدفق المعتدلون إلي الإسلام مما جعل الموقف السياسي والاجتماعي ينقلب ضد الملأ الدكتاتوري الرافض للإصلاح والتغيير. ولهذا وجدنا قمة الملأ المتمثلة بأبي سفيان بن حرب، وابنة معاوية، حين رأت تجارتها وأرباحها ومكانة مكة الاقتصادية المحورية لا تمس من قبل الدين الجديد، تهاوت معارضتها، وإن كانت رغبتها في السيادة وببقائها على قمة السلطة المكية، ظلت قوية وغدت مكبوتة، ولكنها واصلت المقاومة بأساليب جديدة. إن فتح مكة قد عبر عن انهيار منظومة سياسية واجتماعية، كما عبر من جهة أخرى عن تشكل منظومة سياسية واجتماعية جديدة، كانت لاتزال في طور المخاض التاريخي.

لقد استطاع التحالف الاجتماعي النهضوي أن يشكل السلطة الإسلامية ويعيد تشكيل ملامح الجزيرة العربية، عبر إزالة السلطات القبلية والمناطقية الكثيرة، وراحت السلطة تتركز في المدينة، وغدا لها جيش ينمو بشكل مستمر.

ويُلاحظ على هذا الجيش وهو أداة السلطة الرئيسية، بأن دور القبائل أخذ ينمو ويشكل العامل الأساسي لقوته الضاربة. وهو ينمو حسب مدى قدرة المركز السياسي في تطوير حياته المادية والمعيشية، وهذه لا تأتى إلا عبر الغزوات، حيث أن مسائل الرواتب والاجور، لم تُعرف بعد.

وفيما بعد حين الفتوحات ظهر ديوان العطاء، وقيدت أسماء الجند وظهر سجل بأعطياتهم.

ومن هنا فإن معارك الحركة الإسلامية التي شكلت قوة بشرية عسكرية متنامية قد استدعت قبائل الجزيرة الواسعة، فتشكل رفد بشري هائل على المدن المحدودة، وغاصت كوادر الحركة المثقفة بين جمهور عادي وأمي واسع.

وبهذا فإن ملامح دولة أخذ بالتشكل، وما لبثت الدولة في بضع سنين أن أصبحت دولة أكثر اتساعاً عبر ضم دول مجاورة غنية، فتدفقت الخيرات المادية على الدولة بفضل الجيش وانتصاراته، الأمر الذي جعله يتحول إلى الأداة الأولى الحاسمة للصراع السياسي والاجتماعي.

لكن الفقراء وأبناءهم لم يكونوا بقادة عسكريين، مثل قادة قريش وخاصة الكوادر التي امتلكت تجربة سياسية وعسكرية، الأمر الذي جعلهم يشكلون الضباط والقادة العسكريين المهيمنين على ساحات المعارك، فلمعت أسماؤهم.

وقد أدت إجراءات عمر بن الخطاب العسكرية السريعة إلى اعتماد هؤلاء القادة، وتحولهم إلى أمراء البلدان المفتوحة كيزيد بن أبي سفيان ومعاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص وغيرهم، فاستطاعوا أن يشكلوا لهم شعبية بين هؤلاء الجنود العاميين القبليين، وبهذا أخذت الصراعات الجاهلية الاجتماعية بين بطون قريش تتشكل بصورة جديدة إسلامية هذه المرة.

كذلك فإن الإجراءات السياسية لتولي شؤون الحكم ومنصب الخليفة كانت تتشكل بالصدف وبالصراعات العفوية بين المهاجرين والأنصار.

وبطبيعة الحال كان هناك خوف من تولي بني هاشم مقاليد السلطة السياسية إضافة لتوليها مقاليد السلطة الروحية، ولهذا اتفقت بطون قريش المختلفة أو تحالفت ضمنياً لإبعاد بني هاشم عن منصب الخلافة، خوفاً من ذلك التركز للسلطة.

لكن تركز السلطة كان يجري في الواقع عبر تشكل منصب الخليفة الوحيد، مع غياب المجلس التشريعي أو مندوبي القبائل والمناطق، وقد تشكل ذلك بصفة تشاورية عفوية، دون أن يتحول إلى مؤسسة، وكان الجميع يدرك بأن هناك برنامجاً للثورة، هو في التوزيع شبه المتساوي للغنائم الناتجة من الحروب، ومن هنا فلم يكن ثمة إنتاج سائد يحدد طابع هذه المساواة والتوزيع العادل للثروة، ولهذا حين صودرت الأرض الزراعية الكبرى المفتوحة بالقوة صارت ملكاً عاماً للدولة.

لكن هذا البرنامج للثورة لم يكن على هيئة سياسية مكتوبة، يسجل طبيعة السلطة والمجتمع الخ.. لكن هذا البرنامج غير المكتوب ظل معترفاً به لقرون عديدة.

فارتبط كل شيء في الواقع بمنصب الخليفة، مما جعل السلطة الفردية بكل مغرياتها وانحيازاتها للقبلية أو للأرستقراطية، هي البوابة الأساسية لأية تحولات جذرية قد تحدث.

وكان لا بد لهذه التحولات الجذرية أن تحدث بغض النظر عن الشخوص والعائلات والبطون، فهناك قانون موضوعي ينمو في جسد المجتمع العربي المنظم النامي، وهو قانون تفاوت الثروات بين الأشخاص والقبائل والمناطق، وهذا القانون الذي يحدد هذه الكتل المتصارعة اجتماعياً والذي سيتمظهر سياسياً، حين يلغي جهاز الدولة الوليد بثقله مع إحدى الفروع القبلية والقوى الاجتماعية.

وقد كان تجار قريش الكبار وحتى أثناء المعارك الحربية والتحولات التاريخية، ولدى الوثنيين القرشيين أم المسلمين، يواصلون عمليات البيع والشراء بلا توقف، فيكدسون الأرباح الوفيرة، والتي ازدادت تدفقاً بعد توحد الجزيرة العربية ثم انهالت انهيالاً بعد الفتوحات الواسعة.

كانت أغلبية فترات الخلفاء الراشدين تمثل عملية التوزيع العادل للفيء الناتج من الغزوات وحروب الفتح، لنظراً للرفد الشعبي الواسع للدولة في تشكلها وحروبها وانطلاقها خارج حدود الجزيرة العربية.

فلم يزل الأساس النبوي لتوزيع الفيء مستمراً، أي تحويل الغنائم إلى خمسة أخماس، لكن هذا الأساس تغير جزئياً مع ظهور الملكية العامة للأرض، ورفض عمر بن الخطاب توزيعها على الأساس السابق.

فلم يحصل المقاتلون وهم الجمهور الأساسي للدولة والمجتمع العربي الوليد، إلا على الفيء المباشر للحروب.

وحين تولى عثمان بن عفان وولى أقاربه على الأمصار وقربهم من بيت المال، أخذ هذا التوزيع العام للفيء يختل وازداد مع تملك أقربائه حكم الولايات الغنية.

لقد كان انقسام المجتمع بين كبار أصحاب الثروات والفقراء يسير بقوة، وحتى لو تولى شخصٌ آخر غير عثمان فإن التاريخ سوف يكرر سيناريوهاته وربما مع تغيير الشخوص والمواعيد. ولكن عثمان حدد الشريحة الاجتماعية التي كانت أكثر من غيرها نمواً ودهاءً في تولي المناصب، وقد رأينا كيف كان أكثر هؤلاء ممن عرفوا بدهاة العرب، وكوادرها العسكرية والسياسية.

وكان توجس عمر بن الخطاب من بني هاشم وخوفه من استئثارهم بكل السلطات، قد جعل بني أمية يتسربون إلى داخل قنوات السلطة. وكان عمر يعتقد بأن من الصعوبة نزع بني هاشم من السلطة إذا تولوها، ويسهل ذلك مع فروع قريش الأخرى. وفي هذا التصور جانب من الصحة، فحتى بني أمية تم القضاء عليهم بسهولة بعكس الحكم الديني الطويل لبني العباس.

ومع ذلك فان عدم وجود مؤسسات سياسية للعامة جعل منصب الخليفة المطلق هو المشكلة الاساسية في الصراع الاجتماعي.

فقانون تدفق الثروات على قسم صغير، وارتفاع مكانة اقليم واحد هو الحجاز، كان سيجعل القوى الأخرى والأقاليم في صراع مع هذا المركز الطالع بقوة.

وقد أوضحت أحداث «الفتنة الكبرى» كل هذه الإشكاليات من غياب للمؤسسة السياسية المشاركة مع الخليفة، إلى اختلال توزيع الثروات، إلى بدء تحكم الرجال في الحياة الاجتماعية وحرمان النساء من المشاركة السياسية على عكس الفترة السابقة الخ..

وهكذا راح الفاتحون المجاهدون يحصلون على الفتات، بينما تكدست الأموال والثروات في جيوب بني أمية والأشراف في الحجاز.

ونستطيع أن نقول هنا إن الأشراف بدأوا صياغة التاريخ الإسلامي حسب مصالحهم منذ هذه الفترة، ولكن عبر مصالح منقسمة وتضادات لم يفهموها حينئذٍ.

لقد انفجرت في أحداث الفتنة كل هذه التناقضات، وهي لم تكن بشكل ثورة سلمية أو على هيئة احتجاج حضاري، بل تحولت من حصار للخليفة الكهل إلى تحد لسلطته، ثم إلى هجوم عليه وقتله بطريقة بشعة.

وأدى هذا القتل المنفر والاحتقار حتى لجثة الخليفة السابق ورميها بطريقة غير إنسانية، إلى انفجار العواطف من القريبين منه، سواء كانوا أهله أم أصدقاءه، كما أن المقاتلين الثائرين القادمين من الأمصار، الذين حاصروا الخليفة طويلاً، لم يُعرف منهم المدسوسون المغرضون، أو النزيهون، فقد أخذتهم الحمية الحادة، والتشنج، فغدت العامة الهائجة تحكم العاصمة!

هذه العواطف الحادة فجرت الموقفين الاجتماعي والسياسي، اللذين كانت تتراكم فيهما الثروات عند أناس، والذين لم يعودوا بقابلين الرجوع إلى صرامة عمر بن الخطاب، خاصة من قبل فروع الأشراف المختلفة، ورجال الدين الذين منعهم عمر من تحويل علمهم بالإسلام إلى تجارة بالدين فانفلتوا إلى الأمصار يجمعون النقود، أو يقدمون المعرفة غير المغرضة، وكل أولئك الولاة الذين جعلوا الولاية خزانة للسلب والنهب، وكل هذه الشرائح عّدت عهد عثمان بن عفان عهد الانفتاح واللين.

ولهذا فإن كل هؤلاء ارتعبوا من المحاسبة القادمة من الخليفة الذي عينه هؤلاء العامة الثائرون وهو الذي حاولوا إبعاده عن السلطة فاستطاعوا إلى هذه اللحظة الثورية التي انفلتت فيها الأمور من ساستهم، وهو الآن على رأس الدولة، وهو الإمام علي بن أبي طالب.

وقد كانت المهام ثقيلة جداً على الخليفة الجديد، وهي تتمثل كلها في إعادة الأمور إلى ما كانت عليه من توزيع عادل للفيء وعودة الثروات المسروقة، وفصل الفاسدين من الولاة، وهي كلها تمثل انقلاباً سياسياً واجتماعياً، كان من الصعب القبول به من قبل الأطراف المتضررة منه أو من تطبيقه.

كان انفجار الموقف السياسي في عهد علي بن أبي طالب، يعكس صراعاً اجتماعياً حاداً بين الكتل الاجتماعية المتباينة وبين الأمصار، فالثائرون الذين عبروا عن بعض العامة عبروا كذلك عن كراهية مبطنة عميقة ضد قريش وضد الدولة، واختلطت الأحقاد الاجتماعية بالأحقاد القبلية والمناطقية، وكذلك بالضغائن الشخصية، وكل هذه لم تُعرف في حينها بل تكشفت عبر مسار الصراع.

وكان لا بد أن يترك هذا الموقف الانفعالي الحاد أثره في أشراف الحجاز الذين تخوفوا من انفلات الأمن، وبطش «الرعاع» ، وكون منصب الخليفة غدا مُهاناً من قبل معتدين لم يتم عقابهم.

كذلك فقد وضع هؤلاء الثائرون مفاتيح السلطة بيد الإمام علي الذي كان من المدافعين عن الخليفة السابق، ومن الرافضين للفوضى، والتصفية الدموية الشخصية. فتولى الإمام مقاليد الدولة في أسوأ الظروف، وكان من الممكن أن يتولى قضية قتل عثمان بطريقة عادلة لو كانت الأمور غير ما هي عليه الآن من فوضى ومن تمردات كثيرة وخطيرة على جسم الدولة الموحد..

ولكن المعارضين لحكمه، لم يكونوا يقبلون أن يتولى السلطة أساساً، فكل ما فعلوه خلال سنوات عثمان سيكون عرضة للمحاسبة الدقيقة، وسوف يُنتزعَّون من ولاياتهم وترجع أموالٌ وتصادر ثروات أخذوها بغير حق شرعي، ولم يكن الإمام مستعداً لأي نوع من المساومات السياسية والاجتماعية.

ويعني كل ذلك بأن سلطة جديدة تتشكل تريد تغيير الخريطة الاقتصادية والسياسية للسنوات السابقة، ولو لجأت للقوة في تنفيذ قراراتها.

ومن هنا ركز المعارضون للسلطة على مقتل الخليفة السابق، لكي يجعلوا حركتهم السياسية الهادفة للدفاع عن مصالحهم شرعية، وذات سند قانوني. فإذا كان قتلة الخليفة لم تطبق الحدود عليهم فأي دولة ستكون هذه ?!

ومع ذلك فلم يكونوا يقبلون مناقشة أية قضية أخرى قبل هذه! ولسان حالهم يقول أما أن تطبق الحدود على «جماعتك» وإلا هي الحرب!

ومن الملاحظ بأن أغلبية فروع قريش أحست بالخطر السياسي والاجتماعي، فها هي مكانة الأشراف تتزعزع، ومكانة الحجاز السياسية الكبيرة تتدنى، لينتقل الخليفة إلى جنوب العراق.

لكن عقاب قتله الخليفة عثمان كان متعذراً لأسباب قانونية وسياسية، فالقتلة كانوا ضمن جمهور غفير كله مشارك في عملية الحصار والمداهمة، ومعاقبة كل هذا الجمهور أمر غير ممكن.

لكن السبب السياسي كان وراء هذا الإغفال للبحث عن القتلة في تلك اللحظة. فلم يكن بإمكان الخليفة الجديد وهو يريد إدارة الدولة وإحقاق الحق الشرعي الذي يؤمن به، وليس معه جنود أو جيش غير هؤلاء العامة الثائرين أنفسهم، أن يقوم باعتقال هؤلاء الجنود أنفسهم. فكيف و بأي جهاز؟!

لقد كان مطلب أشراف قريش إذن هو تجريده من القوة العسكرية التي تلتف حوله، وليس أحقاق الحق إذن. أما قولهم بأن جيش معاوية أو غيره مستعد لمساعدة الخليفة الجديد على الاقتصاص من قتلة عثمان، فهو لإيقاع الفتنة بينه وبين أنصاره، ثم لتجريده من السلطة.

إذن لقد كانت الأنانية الاجتماعية والرغبة في الحفاظ على الامتيازات هي وراء التمردات المختلفة، وكذلك كان الطمع في السلطة كما فعل الزبير بن العوام وطلحة اللذان قادا تمرداً اولياً ضد الخليفة المنتخب، بعد أن عجزا بشكل شرعي عن الوصول إلى الحكم!

وهكذا كان هناك تطرف إلى اليمين وتطرف إلى اليسار، أي أن قوى استغلالية صعّدت الموقف السياسي المشحون، ودفعته للمواجهات العنيفة، أملاً في هدم السلطة الجديدة، وكذلك فإن الملتفين حول الإمام كانوا جماعات متعددة المشارب، يستهدف البعض منها مصالحه الشخصية والفئوية، والبعض منها يستهدف التمرد على عاصمة الدولة، ورفض إمامة قريش.

لقد عبرت أحداث «الفتنة الكبرى» إذن عن طيف من المواقف الاجتماعية والسياسية المتصارعة الذي يعبر عن مواقف عائلات الأشراف المتنفذة، وجماعات المناطق والأمصار المختلفة. وكل هؤلاء لبسوا لبوس الإسلام والدفاع عن الحق.

وهناك أناس اعتزلوا الصراع تماماً، رافضين الانضمام إلى أي جهة من الجهات المتصارعة بالكلام والسيوف.

ومن الواضح بأن قضايا الصراع الاجتماعي والسياسي لم تكن لها قنوات شرعية، وكان منصب الخليفة الوحيد مع غياب هيئات شورى منتخبة من القبائل والمناطق، من أهم الأسباب في وصول الصراع السياسي إلى الصراع العسكري الواسع.

فالمتخاصمون لم يجلسوا على مائدة واحدة ليتحاوروا، ولم تكن ثمة هيئات سياسية وقضائية، ولا حتى شرطة متخصصة في حماية المسئولين، ومع ذلك فإن هذا الصراع السريع الحاد العاطفي، قرر مصير المسلمين لمئات السنين الأخرى.

كانت هناك قوتان تدفعان بقوة للمواجهة: عامة متوترة تريد ثروات، وأشراف متوجسون خائفون مندفعون للمواجهة.

لكن جيش الدولة الذي مثل الشرعية وأغلبية الناس لم ينتصر مع ذلك، وليس الأمر يعود إلى خدعة التحكيم بل الأمور تعود لكثيرين من هؤلاء العامة الذين التحقوا بالجيش وبالفتوح، والذين تناوشتهم نزعتان متضادتان؛ نزعة الرغبة في الحصول على الأموال وتغيير المعيشة بأسرع الطرق، وهم من عامة الجيش والبدو الذين جعلوا التمرد وسيلة للحصول على أموال الفيء والأغنياء.

وهناك النزعة الأخرى نزعة التقشف والزهد، وهي التي برزت لدى الخوارج بشكل واضح فيما بعد، ولدى طائفة القراء، وهذه النزعة غريبة على المسلمين، ولكنها ظهرت لدى هؤلاء الفقراء ليزايدوا في مسألة الإيمان، ويبرروا تطلعهم للسلطة، لأنهم أتقياء وأنقياء.

ولم يتوجه الامام علي لتوزيع الأسلاب والغنائم، أو يحاول توجيه جيشه نحو المكاسب المادية، التي غالباً ما تكون لدى العامة هي الوسيلة الأساسية لانخراطهم في العمليات العسكرية، ولعدم تقاعسهم، كما حدث بشكل مستمر في جيشه، المكون من الكثير من هؤلاء، والذين لم تدفعهم المسائل المثالية المجردة للوقوف معه.

ولهذا فإن جيشه الذي كان منتصراً دوماً، نظراً لروحه المعنوية الكبيرة، ودفاعه عن الجانب المضيء من الصراع، راح يتحلل. ولم تكن القضايا الفكرية المثارة بين الإمام وبين هؤلاء المتسائلين والمتمردين، تعود فقط لقلة الانضباط والطاعة، بل كانت تخفي وراءها عدم توجه جيش الإمام علي للغنائم وغياب ذلك التوزيع
للهبات والمكاسب الذي كان شيئاً مشروعاً في معارك المسلمين ضد أعدائهم.

ولم يكن القائد الأخلاقي المثالي ليقبل بأن تكون قضيته ضد الأشرار والمنافقين موضع مساومة أو من أجل منافع عابرة.

ولهذا راح جيشه يتفكك، ثم وقعت فيه تمردات، وليس خافياً دور بعض عملاء الأمويين ووجود طابور خامس، وعملهم من توسيع شقة الخلاف وتحويل الحوارات المطولة إلى فتنة دموية.

كان جيش الدولة الثورية بلا انضباط وكان ما يوحده هو الفكرة، فإذا تفككت الفكرة انهار الجيش.

وكان قائد الأشراف معاوية ماهراً في تدبير المناورات السياسية، واستخدام المنافع المادية باتساع، وتكوين الخيوط السرية التآمرية، ومع هذا لم يستطع أن يهزم ذلك الجيش الشعبي الثائر الذي هزمه مراراً ولجأ إلى الخداع من أجل أن يتجنب هزمة نهائية.

صراع الطوائف أم صراع الطبقات؟

ليس للعصر الحديث الا منطق واحد في الحياة السياسية الاجتماعية هو منطق الصراع الطبقي.

وقد حاولت الأنظمة والتيارات التقليدية لزمن طويل أن ترفض مقولة الصراع الطبقي، وقد استخدمت كل أسلحتها العنيفة والدعائية من أجل الغاء هذه المقولة، التي هي حقيقة راسخة في علم الاجتماع والتاريخ الحديثين، وليس مقولة إيديولوجية كما تزعم المناهج الجامعية العربية المعادية للعلوم.
لقد حاولت الحكومات العربية ومن ورائها الإمبريالية الغربية ومن ثم الجماعات الطائفية أن تلغي جميعها فكرة الصراع الطبقي، وكل هذه الوحدة الفكرية بين هذه الأطياف المختلفة ترينا المدى الاجتماعي الواسع لضرب فكرة معينة، حيث تشعر هذه القوى كلها بأن هذه الفكرة تشكلُ لها هاجساً كبيراً لا تتحمل تداعياته الحضارية والأخلاقية!
هكذا ناور الاستعمار الثقافي في العالم العربي طويلاً من أجل نفي فكرة الصراع الطبقي، وهو أمر يشير إلى تخلي الاستعمار عن جذوره الثقافية الحضارية في الغرب، واعتماده على لصوصية الشركات والحكومات والموظفين الاستعماريين التي تقطع جميعها العلاقات بالإرث الديمقراطي والإنساني في الغرب، إرث جان جاك روسو وفولتير وماركس وهيجل وكتاب التاريخ الفرنسي الموضوعيين، وإنها مجردُ محصلةِ إتاواتٍ وجامعة خراج جديدة.
وهكذا فحين قامت هذه القوى الطفيلية بسرقة العالم المسَّتعمر رفضت استخدام قوانين الصراع السياسي والاجتماعي التي تجري في الغرب الذي جاءت منه، فظهر لديها نموذجان للإنسان؛ نموذج الإنسان المتقدم الذي يُعامل بقوانين الصراع الاجتماعي في أطر سياسية وبرلمانية وهو الإنسان المتحضر المثقف المتميز.
أما النموذج الثاني وهو نموذج العالم المستعمَر فهو النموذج المتخلف الحيواني الذي لا يجب ان تنطبق عليه قوانين الصراع الاجتماعي المتحضر!
ولكن الإنسان المتحضر نفسه دخل في أتون حروب عالمية ومناطقية كثيرة لسرقة المستعمرات وتقسيم أعداد الخدم والمواد الأولية ومن يسرق النفط ومن يسرق القمح ومن يسرق البشر، بحيث إن كتل اللحم المطحونة من هذه الحروب تكفي لدفن بحار
كاملة، مما أغرق لعقود الميراث الديمقراطي في الغرب نفسه!
لم تقنع كلُ هذه الكوارث صناع الفقر والاستغلال والمجازر في الغرب واليابان أن الإنسانية واحدة تنطبق عليها قوانين اجتماعية وسياسية متماثلة، حتى استمر الصراع الاجتماعي على نطاق عالمي في حقبة الحرب الباردة، والتي اخذت فيها كتلة الفقراء والعمال طابع المجابهة العسكرية مع كتلة الرأسماليين الكبار، وكانت كتلة العمال هي الأخرى تعتقد بانتهاء الصراع الطبقي، في حين كان الصراع مستمراً ومدمراً فيها نتيجة لعدم الاعتراف به!
وقد انتهى الصراع بين الكتلتين باعتراف الجميع في الكتلة الغربية والشرقية السوفيتية على السواء، بأهمية وجود الصراع الطبقي ولكن على ان يجري بشكل سلمي سواء على المستوى الوطني أو العالمي.
وبطبيعة الحال اتخذ الصراع الاجتماعي أشكالاً جديدة متدهورة مفككة لهذه الكيانات السياسية الدولتية القومية المركبة، نظراً لعدم الاعتراف الطويل به فى الكتلة الشرقية والتي زعمت أنها حلت إلى الأبد مشكلة الصراع الطبقي، سواء على المستوى الوطني أوعلى المستوى القومي، ونتيجة في الطرف الآخر، لاحتكار السلطة في الغرب للقوى المالية الكبرى!
والآن يجري الصراع الطبقي على النطاق الإقليمي أو العالمي بأشكال تضمن سيطرة القوى المتنفذة الكبيرة بحيث أن لا يؤدي مثل هذا الصراع إلى تغييرات كبيرة في الموازين السياسية العالمية، وأن لا يحل التناقضات الكبرى العنيفة للإنسانية، وان يجعل القوى القومية الكبيرة المتمثلة في الدول الصناعية السبع وروسيا والصين والهند والبرازيل مهيمنة على مناطقها ومستعمراتها ومناطق نفوذها بشكل لا يخل بالتوازن بين الرأسماليات القومية الكبرى!
قام الاستعمار الثقافي للعالم الإسلامي على إنكار مقولات الحداثة، ومن ضمنها مقولة الصراع الطبقي، مثلما شجع السقف الفكري للمرحلة الإقطاعية الطائفية التفكيكية المتخلفة الممتدة من انهيار الحضارة العربية حتى تقطيع أوصال الإمبراطورية العثمانية ونشوء حركة النهضة العربية الأولى.
ان تشجيع الاستعمار للمنظمات الثقافية/الاجتماعية، الأبوية والعشائرية والطائفية، هو من أجل أن يبقى مضمون الفكر العربي عاجزاً عن النقد والتحليل الاجتماعيين، ومرتبطاً بتكوينات ما قبل رأسمالية، بكل ما فيها من سحرية غيبية، ورغم حدوث تطورات اقتصادية وسياسية رأسمالية إلا أن هذه التطورات لم تتبور فكرياً تحديثياً على صعيد الوعي الشعبي خاصةً، في حين ان بعض الأفكار تسربت إلى النخب التي ظلت عاجزة عن توسيع أفق الحداثة الفكري داخل الجمهور.
كذلك فان المؤسسات السياسية التي أقامها الاستعمار أثناء وبعد رحيله اعتمدت على مظلة الأفكار الأبوية والطائفية، فقد عمل الاستعمار وورثته على الإبقاء على البنية التقليدية بكل هياكلها الأساسية، ولاستمرار الثقافة الخرافية السحرية، والطائفية والأمية والذكورية سائدة بين الشعوب.
وحتى حين نشأت الحركات القومية والدينية المختلفة، فإن هذه الحركات واصلت إعادة إنتاج ثقافة الطوائف والتخلف، حيث أضفت على (العرب) طابعاً سحرياً كأمة غير مقسمة طبقياً، ومتحدة في جوهر غيبي خارج تحليل التاريخ.
وهكذا تأسس القوميون والبعثيون والجماعات المذهبية المختلفة على أساس إنكار الصراع الطبقي داخل الأمة، وداخل الطوائف المختلفة، وداخل الأوطان، وداخل القبائل، وكان هذا الإنكار يعبر عن الطابع الدكتاتوري العميق داخل هذه الحركات، والذي تجسد عملياً في قمع عنيف ومتنوع لكل من يطرح تقسيم الأمة والطائفة والوطن والقبيلة والمذهب!
وترافق هذا القمع مع تأجيج مشاعر حادة ضد كل من يطرح الانقسام الاجتماعي، وحتى فى دراسة التاريخ اعتبرت الإشارات إلى انقسام الأمة العربية و(الامة) الإسلامية كارثة فكرية وخطراً يهدد سلامة الفكر العربي!
وأخذت تسميات تاريخية قديمة تسعتيد نفسها كتسمية (الشعوبية) وأُعتبر الباحثون الاجتماعيون المدققون والأحزاب اليسارية كشعوبيين جدد، وهراطقة وملحدين وشيوعيين خونة!
ولم تستطع هذه الأفكار أن تتصدى للمد الفكري التقدمي العالمي الجارف، وتحولات ما بعد الحرب العالمية الثانية، وإذا كان الوعي الطائفي لم ضعف بسبب هذا المد فذلك يعود إلى أن التغيرات التي جرت فى الخمسينيات كانت مداً وطنياً هادراً أسكت القوى الطائفية مؤقتاً بحكم هديره الانفعالي، وليس بقدرته على التحليل والنقد والتجاوز.
كذلك فإن التسييس التحديثي العلماني اقتصر على النخب المضحية، وبقيت الجماهير في أشكال سياسية هلامية وفي شعارات حماسية، وليس في تنظيمات وحقول إنتاج تعيد تشكيل مهن ووعي هذه القوى العاملة، فقد ظل الهيكل الاقتصادي العتيق مع بعض التطورات الحديثة الصغيرة التي لا تقوم بإعادة تشكيل البناء الاقتصادي عامة، ولا على التثوير التقني والعلمي لهذه القوى.
كذلك فإن تحديث القوى العلمانية والديمقراطية كان شكلياً نخبوياً فهو لم يقم على حرث الأرض الاجتماعية بالتحليل العميق، وبقراءة المذهبية السياسية كتدهور في حركة الإسلام الديمقراطية والثورية، وبعجز النظام الإقطاعي/الطائفي الذي شكلته القوى الحاكمة المتعددة، عن إنتاج الحداثة وفهم الإسلام معاً.
وهذا قد جعل الحركات العلمانية واليسارية العربية نفسها لا تخلو من جذور غائرة للطائفية، وهكذا تم فهم الصراع الطبقي في التاريخ الإسلامي بأنه صراع الأماميات المذهبية المتعددة ضد السنة، وإن الأماميات هي التي تحمل النضال الثوري للكادحين في حين كان السنة ممثلين للقوى الاستغلالية.
وهكذا حدث التباس عميق فى الوعي، مما عبرعن إسقاط صراعات معاصرة على فهم التاريخ، وعن قصور في أدوات التحليل، وعجز عن فهم أسلوب الإنتاج الماضوي/الراهن وتناقضاته العميقة.
ولكن كان لهذا القصور انعكاساته على تطور الصراع السياسي الحديث!
إن عجز اليسار العربي عن فهم مسار الصراع الطبقي في الماضي والحاضر، كان أكبر ثغرة فكرية في فهمه وفي قدرته على اتخاذ مواقف سياسية مؤثرة ومتنامية.
إن عدم القراءة الموضوعية العميقة للصراع الطبقي قد أدى إلى تداخله والصراع الطائفي، واتخاذ الأخير بديلا عن الأول، لقصور في الرؤية والفعل السياسي معاً.
لقد تمت قراءة الصراع الطبقي فى التاريخ الإسلامي بوصفه صراعاً بين الطوائف، فثمة طائفة ثورية وطائفة محافظة، وهذا التعميم حدث الالتباسُ فيه لكون الطوائف الكبيرة التي حازت على السلطة وثروات الفتوح وحكمت الأمم الأخرى، شكلت وعياً إيديولوجياً معبراً عن سيطرتها، في مجموعة من المذاهب التي عرفت مذاهب السنة الأربعة الرئيسية، والتي أخذت تتمظهُر فقهياً وفكرياً وسياسياً على مدى قرون فيما عرف باسم أهل السنة، ولكن هذا التمظهر شكلته الدولُ المسيطرةُ وأجهزتها، فهي تقوم بإزاحة العناصر المعارضة والنقدية فى فقه المذاهب الأربعة، وتشكلنها، أي تجعلها شكلية ومُسيسّة لسيطرتها، والأمر لم يجر فى المذاهب الفقهية فقط بل فى المذاهب الفلسفية والتيارات الاجتماعية، كتيار الاعتزال الذي قُمع وأُفرغ من نضاله الدمقراطي!
والامر لا ينطبق على مذاهب السنة بل أيضاً ينطبق علي المذاهب الإمامية المتعددة، بدءاً بالزيدية التي تحولت من حركة معارضة إلى جماعة إقطاعية عبر بني بويه وفي اليمن، وكانت منفتحة في المغرب، والإسماعيلية التي كانت حركة اغتيالات وتمرد فصارت عبر الحكم والهيمنة على الجمهور جماعة قصور ونحلة
سرية وهيمن عليها الإقطاع كذلك، وأصبح آغا خان زعيمها الروحي يوزن بالذهب في الزمن المعاصر! ولا تشذ الإثناعشرية من هذا التاريخ حيث كانت معارضة أسرية منذ البداية، أي تريد الحكم لآل البيت العلوي ثم انتقلت إلى هيمنة رجال الدين الكبار الذين تداخلوا مع السلطات في إيران وبعض المناطق، أما الجمهور الشعبي المستقل فعجز عن تشكيل صوته الخاص!
وهكذا فإن المعارضات المذهبية اكتسبت طابعاً تقليدياً غير قادر أن يصوغ وعي الحداثة والديمقراطية، بعد أن تشبعت بالهيمنة الطبقية العليا.
ومن هنا قامت هذه الهيمنة الطبقية المذهبية العليا، وفي مختلف المذاهب، بمعارضة كافة أشكال الوحدة بين المسلمين وهذه الوحدة تفترض مبدأ الصراع الطبقي بداهةً وضرورةً، حيث لا توجد وحدة قوية دون صراع!
ولم تعارض أي سياسة استعمارية أو وطنية إلا حين تتعرض لسيطرتها الخاصة، وحين تقوم بالتحديث الذي تعتبرهُ قضاءً على تلك السيطرة المطلقة على الطوائف. لكن الجتمع الإسلامي الحديث لا يمكن أن يتقدم إلا على ضوء الحداثة، وعلى تفكيك الطوائف وتحويلها إلى شعب موحد منصهر في بوتقة وطنية، وبوتقة الوطنية تفترض انقسامه الحديث إلى طبقات لا إلى طوائف، حيث تتصارع الطبقات على توزيع الثروة وتطوير البنية الاجتماعية المتخلفة، وصراع الطبقات إذا تم بشكل حضاري سلمي يقوي الأوطان أما الصراع الطائفي فهو يقوضها، ولا بديل عن أحدهما، فإما تطوير وأما هلاك!
إن الصراع الطبقي يتماشى مع آليات الحداثة، ولا يتعارض مع الانتماءات المذهبية والعقائد الدينية، ولكن الصراع الطبقي يفكك الهيمنة التقليدية للقبيلة والطائفة والأمة، فلا يصبح لزعماء الطوائف سيطرة على الجمهور، بل يتوجه الجمهور لمصالحه الطبقية في النقابات والأحزاب.
وإذا كان أعضاء الطائفة ينقسمون إلى عمال ورأسماليين وتجار ومزارعين، فمن المستحيل تشكل وحدة سياسية واقتصادية بينهم، بسبب تعارض المصالح، فهذا في نقابة عمالية وذاك في منظمة لأرباب العمل، ويقوم زعيم الطائفة بتشكيل وحدة خيالية للطائفة المنقسمة المتصارعة، والتي تجد أقسام وحدتها النضالية ليس في كتل من طائفتها بل في كتل من طوائف أخرى أقرب إلى شقائها أو أرباحها او مصاحها!
وهكذا يصبحُ الشكل الطائفي السياسي عائقاً امام تطور الوعي الطبقي للقوى الشعبية المختلفة، والتي هي بحاجة إلى مثل هذا الوعي لوحدتها ودفاعها عن مصاحها وتصعيد رموز سياسية إلى النقابات والبرلمان يعبرون عن هذا الوعي ويجسدون تلك المصالح!
ويحتاج الفقراء والعمال أكثر من غيرهم إلى مثل ذلك لأن القوى الأخرى تجد السبيل لتحقيق مصاحها عبر ثروتها وصوتها المسموع.
وكما قلنا فإن قوى اليسار التي وهنت قواها في بعض المناطق العربية فقدت القدرة على تصعيد مثل هذا الوعي الطبقي، نظراً لانقطاعها عن الجمهور لشتى الأسباب، وحيث وجدت ان الطوائف ذات الظروف الصعبة تطرح مسائل العدالة الاجتماعية فقد اعتقدت بأن هذا هو الوعي الطبقي ولكنه تشكل عبر الشعار الطائفي!
هنا يتضافر الوعي الانتهازي والفرصة السياسية، فمع انقطاع أدوات التحليل الموضوعية، يقوم بعض ممثلي الفئات الوسطى الذين وهنت قواهم الفكرية والسياسية المدافعة عن العاملين، باقتناص الفرصة واستغلال الحركات الطائفية من أجل مصاحهم الشخصبة وليس من أجل مصالح الحركتين السياسية والاجتماعية.
وهنا تأتي مفاهيم السنة والشيعة والمسيحيين وتحويلها إلى مفاهيم كاريكاتيرية، (حيث يوجد الفقراء المسلمون تكون القضية والكفاح والتضحية، وحيث يوجد الأغنياء المسيحيون أو السنة توجد الكوارث!).
هكذا تم التعامل مع القضايا المعقدة للتركيبة الطبقية والثقافية اللبنانية مثلاً !
ولكنها لا تقتصر على الانتهازية السياسية بل تجمعها مع الانتهازية الفكرية فتقوم بالتنظير لمثل هذا السقوط، لأنها هنا تخدع فقراء وعمال الطوائف المختلفة، وتسلم قيادتهم لقوى استغلالية متخلفة، وتجعل العاملين يتذابحون، فيتم منع تطور وعي العمال الطبقي المستقل ويتحولون إلى أدوات في يد قوى توظفهم من أجل مصاحها وارتفاعها السياسي الخاص.
وهكذا راينا بعض الحركات القومية والدينية واليسارية تصعد رموزاً وقيادات سياسية شمولية طائفية تقوم بذبحها واستغلال الثروات وتخريب التطور عامة.
علينا أن نقول: إن الطوائف يعاد تشكيلها مع النظام الاقتصادي الحديث، فهي تصطف فى طبقات مختلفة، ولكن ذلك يتعلق مدى تطور النظام الرأسمالي في البلد المعني، أي مدى تحوله من نظام إقطاعي مذهبي تشكل على مدى القرون السابقة، إلى نظام غير طائفي وحديث، أي ألا تكون لافتة الطبقة المسيطرة على النظام السياسي لافتة مذهب ديني معين، بل أن تكون خارج المذاهب، وأن تتشكل بفكر الحداثة، أي لا تنتمي لطائفة معينة، بل تنتمي لكل الطوائف، لأنها تعبر عن طبقة ولا تعبر عن طائفة أو عن عائلة أو قبيلة أو عن وطن أو عن أمة!
هكذا ينزاح الفكر القبلي والطائفي والوطني والقومي بمعنى أن الطبقة الحاكمة لا تزعم أنها معبرة عن الشعب كله أو الأمة كلها أوعن الطائفة كلها، فهذه تعميمات خادعة، وغير ممكنة سياسياً واجتماعياً، فهي تعبر عن شريحة من طبقة أو عن طبقة كلها أو عن مجموعة من الطبقات، بحسب تحديدها لأهدافها السياسية والاقتصادية الانتخابية وتصويت الجمهور لها، الذي من الممكن أن ينحسر في انتخابات أخرى، وتجد أن تعبيرها الطبقي تقلص أو زال!
ومن هنا تبدأ القوى السياسية بإدراك تمثلها الاجتماعي الطبقي الحقيقي، وليس الموهوم الذي افترضته مسبقاً، بحسب وعيها الذات بأيديولوجيتها غير الموضوعية وغير الدقيقة!
إن للتعبير الطبقي هو تمُثل انتخابي، لأنه لا يوجد حزب يستطيع أن يعبرعن طبقة بشكل كلي، وأبدي، بل قدرته تتمثل في دمج أهدافها الاقتصادية والاجتماعية فى برنامجه، ولهذا فإن الجماعات الطائفية ليس لديها برنامج طبقي، فلا تستطيع أن تعبر عن طبقة، ولهذا تعيش الجماعات الطائفية في مخاض سياسي لا تعرف كيف تخرج منه، وفي بلبلة فكرية واجتماعية، وهي لا تستطيع ذلك سوى عبر الخروج من تشكيلتها الطائفية، أي عبر اتحادها الفكري مع جماعات من خارج طائفتها والخروج من تسييس المذهب.
ومن هنا يغدو تفكيك الإقطاع الديني والإقطاع السياسي، وتكوين الطبقات والوعي الطبقي الحديث عمليات متداخلة، لأن الوعي الطائفي يعجز بشكل مستمر عن تمثل تطور العملية الاجتماعية الديمقراطية، كما أن آليات السيطرة الحكومية الشاملة تفتقد مبرراتها وتتشكل حالات استقطاب بين المجموعات المتحدة المصالح.
ومن هنا ضرورة أن تلعب العناصر الديمقراطية داخل الطوائف حراكاً سياسياً لتكوين حركات سياسياً مؤثرة تنسلخ من التكوينات الطائفية/السياسية، نحو التكوينات السياسية الوطنية.
ومن هنا ضرورة ألا يرتبط ممثلو القوى الدينية أنفسهم بجماعة طائفية معينة وأن يطرحوا الخيارات السياسية المتعددة أمام المنتمين إلى الطائفة الواحدة حسب مواقعهم الاجتماعية وخياراتهم الفكرية، كذلك أن تتحول الدولة من آلة فكرية دينية إلى دولة خدمات متداولة بين القوى السياسية الفائزة في العملية الانتخابية، لا شأن لها بتمثيل مذهب معين.
عبر هذا يمكن الحديث عن تجاوز مسأة الطائفة الحاكمة والطائفة المحكومة، وهذا سوف يطرح قضايا عديدة متعلقة بالتعليم والثقافة وتطور الفقه المشترك وبقاء خصوصيات الطوائف العبادية.
وفي هذه العملية المخاضية الديمقراطية ستواجه التجارب بطبيعة الحال المتطرفين والمتعصبين من كل الطوائف الذين سيرفضون التزحزح عن الأشكال الطائفية السياسية، باعتبارها الممثلة للطائفة، وسيكون هؤلاء متعاونين مع القوى القومية
والحكومية الرافضة وفي تباين في جسم الأمة والشعب والطائفة!
وهذا يعبر عن احتكار سلطوي داخل الطوائف والدول، وزعامات تقيم سيطرتها على سلطة اصبحت متجاوزة من قبل التطور السياسي.
وهذا الاحتكار السلطوي الاقتصادي هو العقبة الأساسية أمام الديمقراطية الحقيقية، وأمام أن تكون الدولة والمجتمع في صراع اجتماعي وليس في صراع طائفي.
ومن هنا تترافق الإصلاحات السياسية مع الإصلاحات الاقتصادية : تفكيك القطاع العام من سيطرة الدولة، ومراقبة ثروة البلد من قبل المجالس والقوى السياسية، وتطوير أوضاع الفقراء والنساء من التخلف والأمية والفقر .. الخ.

 

أسئلة الصمت والقهر في الاستفاقة على أوجاع التاريخ ! 

العقل والديمقراطية في وعي جورج طرابيشي

العقل والديمقراطية في وعي جورج طرابيشي

 (1939- 2016)

في رفضه لأطروحات عابد الجابري، يتفق جورج طرابيشي مع محمد عابد الجابري في القبول بمصطلح العقل، هذا التعبير العام المجرد، وهو لا ينقض الجابري في استخدام هذه المفردة بل لأن الجابري يقصر(العقل) على اليونانيين في حضارتهم.

 ولهذا يقول في ملاحظة جانبية عن المسالة العقلية:

 «فإننا سنلاحظ، ودوماً من منظور اعتقادنا بوحدة البنية العقلية عند البشر كما بوحدة العقل الحضاري في الحوض الشرقي للبحر الأبيض المتوسط..)، راجع كتابه نقد نقد العقل».

 وهو يؤكد طابع هذا العقل المجرد في مواقع أخرى، كقوله عن عصر التدوين في العصر العباسي:

 «بهذا نرى فاعلية منقطعة النظير قام بها العقل العربي الإسلامي فى طور تكوين نفسه بنفسه». ويضيف «عرفت الثقافة العربية فالقرون الرابع والخامس والسادس، أي بما فيه ‹لحظة الغزالي› حتى إلى ما بعدها، عصراً ذهبياً ترسخت فيه جذور العقل العربي الإسلامي المكوَّن وامتدت رقعته دون أن يتوقف قرينه العقل المكوِّن عن ممارسة فاعليته»، نقد نقد العقل العربي، ص٢٢.

 يتحول العقل هنا إلى تكوين له عناصر خالدة، وهذه العناصر موزعة بأشكال مختلفة بين العقول اليونانية أو الشرقية، فكل عقل به عنصر الخرافة والعلم، وليس ثمة عقل يخلو من هذين العنصرين، فاليونانيون لديهم كمية كبيرة من الخرافات، مثلما أن الشرقيين لديهم نصيب من العلم، ولكن الجانب الشرقي من حوض البحر الأبيض المتوسط عرف العقل المشترك، بمعنى انه امتلك نصيباً متقارباً من الخرافة والعلم.

 يشكل طرابيشي مفردة العقل بشكل تاريخي أفضل قليلاً من الجابري، لأنه ينزل إلى الظروف التاريخية ولكنه يأخذها كحيثيات مادية وثقافية صغيرة، ينقض بها لا تاريخية الجابري، ولكنه عبر هذه الخلفيات التاريخية الموسوعية، لا يمنهج وضع هذا العقل، أي هذا المصطلح التجريدي.

 في مناقشته مثلاً للسحر والعلم والعلاقة يبنهما يصور علاقتهما كمية وليس نوعية، فالسحر ليس جزءاً محايداً في العلاقة المشتركة بالعلم، بل في علاقة صراع، إنه يغدو شكلاً معرقلاً أكثر وأكثر لنمو مضمون معرفى موضوعي بالأشياء، مثلما يحدث هذا مع الدين الذي يغدو شكلاً معرلاً لنمو تلك المعرفة، وهما يصبحان إطااً ميتافيزيقياً بشكل متواصل، فى حين تغتني معرفة الحياة بشكل موضوعي.

 فالقدرات عن الإمكانيات الخارقة للساحر واستدعائه لقوى الطبيعة من أجل الصيد تتراجع لصالح معرفة طرق الصيد وطرق عيش الحيوان وطرق تكاثرها، وهذه العملية تنبثق منها سلسلة من العلوم. وتظل قدرات الساحر موجودة بقوة إذا لم تحدث تطورات موضوعية لعالم الصيادين الخ..

 وإذا كان فى أشد لحظات السحر تطرفاً يوجد مضمون واقعي ضئيل فإن هذا المضمون لا يمكن أن يتطور إذا لم يصارع المضمون السحري الانفصالي عن معرفة الوجود، وإذا تطور المضمون الواقعي فإن الشكل السحري يتضاءل.

 ولهذا فإن الأديان البدائية كانت متخلفة عن الأديان السماوية، لأن الأخيرة تراجعت عن التحكم الكلي فى مواد المعرفة وفى نموها، أي تركت للوعى معرفة الظاهرات الطبيعية والاجتماعية وأسرارها، وإن كانت قد جعلت الوجود مصنوعاً لقوى غيبية. لكن هذه القوى الغيبية لم تعد متكاثرة ومتداخلة بشكل واسع كآلهة الإغريق، فأخذت تنسحب تدريجياً من الوجود المرئي والطبيعي والاجتماعي، لكن ظلت مراسلاتها وقيادتها لهذا الوجود سعتمرة.

 إن سيطرتها تكمن في النظام العام للمجتمع: شرائعه والعلاقات الأساسية فيه، وعلاقته بالعالم الغيبي. فهي تتحكم في التشكيل العام للمجتمع، بمعنى خلق سلطة دينية ممثلة للغيب، تنظم البناء السياسي والروحي للمجتمع. وهذا البناء يمتد من حياة الفرد العادية حتى بعد الموت، وكيفية العلاقات بين الجماعات، وبين المجتمع الممثل للمنظومة الدينية والمجتمعات الأخرى الخ..

 إن التغير بين الأديان البدائية والسماوية ليس جذرياً في الواقع، بل هو في اتساع الجتمع الموحد، ونمو الحاجة إلى تشكيل مجتمعات واسعة وإمبراطوريات. أي أن المسالة تعود إلى تطور أوضاع الجماعات وتبدل أنظمتها وأفكارها، وبالتالي حاجتها الماسة إلى المعرفة الموضوعية عن المواد والطبيعة والجسم الإنساني والأخلاق الخ… وهذا ما يؤدي إلى تضاؤل دور القوى الماورائية الشامل، وهي أمور تعبر عنها العلاقات بين السحروالدين والعلم. وهذا التضاؤل يبقى جزئياً ويترك للمناطق الروحية والنفسية وتاريخ الماضي الكلي، والمستقبل، لذات القوى الغيبية، فالعلم ينمو فى إطار أيديولوجي مسبق، في المناطق التي يُسمح له بالتطور فيها، أو تسمح له المواد المعرفية المتوافرة. وإذا حاول اختراق هذه المناطق المحظورة فلا بد له من الحرية والإمكانية المعيشية والمهنية للوجود والاستمرارية. وهذا ما أتاحه مناخ المدن الإيونية الصناعية، الذي تطلب تطور المعرفة بالأشياء والطبيعة ووفر الحرية للصناع والعلماء، وايضاً إمكانية العيش، بدلاً من انه في الوقت الذي تتطور فيه المجتمعات تقوم فيه بإعادة النظر في موروثها حسب تطورها الموضوعي، إنتاجها، جغرافيتها، علاقاتها بالأمم المجاورة الخ…

ولهذا فحين يقرر طرابيشي أن ثمة وحدة عقلية بين الناس في القسم الشرقي من البحر الابيض المتوسط، وأن هناك استمرارية فكرية بين الحضارات المصرية والرافدية واليونانية، لا يضع هذه الاستمرارية داخل سيرورتها الموضوعية، بل يقوم بتجريدها، فالحضارات المشرقية كانت أنظمة عبودية معممة، أو دولاً اسعتبدادية شاملة، في حين كانت اليونان تشكل تجربة مدن متميزة تتراوح ما بين الحرية والاستبداد، ولهذا فان عناصر السحر والدين كان يُعاد إنتاجها بشكل مستمر في الدول المشرقية، ويتم إلحاق العلم بخدمة القصور ومعابد الكهنة، في حين أن مناخ المدن الحرة والحرفية والصناعية اليونانية كان يتيح المجال لتفكك السحر والدين ونمو العلم، بالتالي فإن تراكم المعلومات العلمية في الشرق كان يفيد اليونانيين بلا شك ولكن في بُنى اجتماعية مختلفة.

 فالقضية ليست وجود عناصرالسحر والدين والعلم لدى الشرقيين واليونانيين بنسب متفاوتة متقاربة، ولا أن عقائد السحر كانت منتشرة عند العامة بشكل واسع في كل هذه الدول، بل في صعود العلم بشكل نوعي في اليونان، وفي إغنائه للفلسفة، وفي كسره لهيمنة رجال السلطة والدين على انتاج الوعي، هذه الهيمنة التي ظلت مستمرة في مصروالشام والعراق، في حين أنها كُسرت فى تطور المدن اليونانية، أي في شروط اجتماعية مختلفة، وليس لعناصر فى العرق. فالمسالة ليست وحدة عقلية بين هذه الحضارات، بل في تمايز شروط انتاج الوعي في هذه الحضارات، فالمسالة ليست عناصر فكرية جزئية متناثرة هنا وهناك، بل في كيفية نمو الكل الاجتماعي ومستوياته الاقتصادية والاجتماعية والفكرية.

 ولهذا فحين نقرأ وضع اليونانيين القدماء تجاه ذلك الثالوث السابق الذكر «السحر والدين والعلم»، علينا أن نقرأه على ضوء هذا التركيب المتداخل والمتصارع، في بنية اجتماعية مختلفة عن دول المشرق ومعقدة كذلك بين مختلف المدن اليونانية نفسها التي لم تصهرها تجربة واحدة.

 فما يشير إليه طرابيشي حول تصاعد الدجل والسحر في أثينا في نهاية الحرب البولونيزية هو أمر صحيح، لأن عناصر البنية ومستوياتها ليست ثابتة، فالوعي الموضوعي مرتبط لدى السكان بمستوى السيطرة على الطبيعة وتنامي الصناعة والتجارة، ولا يأتي من الفراغ، وحين تتعرض هذه العناصر للتدهور فمن المؤكد أن العناصر الغيبية والخرافية الموجودة فى الوعي العام ستعاود النهوض والانتشار بقوة أكبر.

 وطرابيشي يفسر تقدم الوعي الموضوعي، ويسميه العقل، بسبب تلك المواد الفنية وهي الطباعة والورق، فيقول: أن سر النهضة فى شرق المتوسط يعود إلى أسباب من أهمها:

 «وإلى ثورة الابجدية ينبغي أن نضيف ثورة (تصنيع) ورق البردى كحامل للمادة المكتوبة»، نقد نقد العقل ص ٧٣.

 ولأن الفينيقيين هم الذين قاموا بهذين الإنجازين الحضاريين فقد سبقوا اليونانيين إلى إنتاج الفلسفة.

أو يعيد العملية أحياناً إلى البحر: «وإنما الطبيعة البحرية لحضارة الشعبين هي التي حتمت لقاءهما» نفسه ص ٨٨.

 وهذه العناصر صحيحة، ولكنها كانت موجودة لدى الصينيين والمصريين، فالعناصرالمادية الجزئية هذه وجدت في المدن الإيونية جنباً إلى جنب مع التجارة الحرة، وظهور طبقة متوسطة مستقلة، وهذه الشروط الموضوعية المتمايزة عن الطبقة الوسطى المصرية التابعة للفرعون، حيث إن أدوات قمعه كافية لا لأن تخفف العقلانية بل لأن تزيل الرؤوس نفسها.

 ولهذا كانت المدن المصرية والعراقية مدناً سياسية يقيمها القصر أو الكهنة، ولا تظهر من شروط التجارة الحرة، وهذا هو الأمر نفسه الذي جعل مكة تؤسس النهضة العربية.

 كذلك فان العناصر العلمية التي يقول طرابيشي: إنها موجودة بتماثل لدى هذه الحضارات، أمر صحيح في جانب وخاطئ في جانب آخر، فالأمرلا يعود لوجود العناصر بل لفاعليتها، بمعنى ماذا يمكن أن تقوم به في بنية عبودية مُعممة كمصر وبنية عبودية خاصة في اليونان? أي في بنية عبودية تهيمن عليها الدولة هيمنة مطلقة، وبنية عبودية لا تهيمن عليها الدولة، وتتشكل فى مدن تجارية وصناعية? ومن هنا فالعناصر العلمية تنمو بشكل مختلف في. كل النظامين، حيث تتبع في النظام الأول حاجات القصر والمعابد الدينية، في حين تتبع في النظام الثاني حاجات الصناعة والتجارة، وبالتأكيد هناك جوانب مشتركة كصحة الإنسان.

 وبالتالي فإن أقسام العلم وتطوراته تكون مختلفة في كلا النظامين، ففي حين تتطور علوم التحنيط والتنجيم في مصر فإن علوم الرياضيات والفلسفة تتطور فى اليونان، فالأمر يعود هنا لقوانين البنية الاجتماعية، وليس للألوان والأعراق.

 إن الأحكام العامة المثالية التي يطلقها جورج طرابيشي كصنوه الذي يعارضه محمد عابد الجابري، كلها أحكام مثالية تجريدية فلسفياً، تبدو تضاداتها حين تُقارن وتحلل عبر التاريخ.

 فهو يقول في إحدى أفكاره:

 فالإشكالية المركزية التي تحرك العقل العربي الإسلامي في افقها هي إشكالية النقل والعقل، نظراً إلى أن هذا العقل اشتغل في ظل هيمنة وعي دين شمولى، ونظراً إلى الحضارة العربية الإسلامية، هي نموذج مكتمل) حضارة كتاب، قامت من الأصل على (أصل متقدم مسلم بأطلاق) على حد تعبر الشاطبي السابق ص ٩٧.

 هذه من الأفكار التي ظل يرددها الوعي اللاتاريخي عن تاريخ العرب، ولديهم هذه فكرة لا تقبل النقض، فالتناقض بين النقل، ويقصدون به القرآن تحديداً وبين أفكارهم (الحديثة) أو العقل كما يسمونه، فهل المسالة قائمة حقاً على التضاد بين النقل والعقل، وأنه لو حل هذا الاشكال انسابت الحضارة العربية في ركاب التقدم سواء في العصر الوسيط أم الآن؟

 ومنذ البداية نلاحظ هذا المنهج اللاتاريخي، عبر تجريد القضية ووضعها في فراغ تاريخي. فاللحظة التاسيسية الإسلامية لم تكن في تناقض مع اللاحق، بقدر أن اللاحق لم يستطع أن يطور فاعليته الكفاحية. فقد كانت ثورة، وجعلت قوى بشرية واسعة تتجاوز التخلف، ولكن القوى الثورية داخل هذا المسار لم تستطع التغلب على القوى المحافظة، التي فرّغت الثورة من محتواها، بخاصة في توزيع الملكية والملكية العامة، وحينئذ بدأ تاريخ مختلف. إن المدينة الحرة في تاريخ العرب مكة أُستبدلت بعدئذٍ بعاصمة الملوك والأشراف المطلقين. والثورة الإسلامية التي بدأت بتحالف بين التجار والعاملين، لم تستطع الفئات الوسطى في مدينة الحكم المطلق ذاك، أن تشكل إعادة إنتاج لها. وهنا لم تستطع بغداد أن تكون كأثينا فيها طبقة متوسطة حرة. وتشكلت الفرق الدينية لتنشئ حكماً اقطاعياً مختلفاً، أوظهرت داخل المدينة لتكون تابعة للاقطاع المسيطر.

 فإذن الأمر لا يعود لتناقض (العقل) المتكون حينذاك مع النص القرآني، بل لعجز هذا العقل عن قراءة الواقع والتاريخ. أي عجزه عن فهم القرآن. أو قل عجزه عن إنتاج ثورة أخرى تستكمل المسيرة النهضوية التي بدأت في مكة، وعجزه عن إقامة تحالف بين الطبقة الوسطى والعاملين لإنتاج ثورة تجديدية عميقة للمسلمين.

 إن النقل لو فهم في مضمونه الاجتماعي العميق، باعتباره مسيرة تقدمية في زمنه، عبر قراءة قوانينه، وإعادة إنتاجها فى عصر مختلف، لأمكن اكتشاف الفارق بين الثورة والثورة المضادة، بين النهضة وحكم الأشراف المطلقين.

 إذن كان التناقض حقاً بين وعي شكل الثورة، ووعي عاجز عن الثورة، بين نقل استطاع تغيير التاريخ بأدوات زمنه البشرية ومحدوديتها، ونقل عكف على تبرير الواقع وإفراغ الثورة من محتواها.

 إن فرق القدرية والمعتزلة والخوارج والعلوية الخ.. انتقلت للعمل في النظام الإقطاعي المطلق، الذي ورث آليات السحق عند الأنظمة العبودية المعممة السابقة، وبالتالي لم تظهر مدينة حرة واحدة، تحكمها الطبقة الوسطى أوالعاملون، بخلاف العرب الاوائل الذين جاءوا من صحراء لم تطبق فيها دول ذات جبروت مطلق عليهم، فاستطاعوا إحداث التغير التاريخي. ولهذا فإن الفرق المعارضة داخل النظام الإقطاعي المركزي اما تشكلت كفرق للنظام المسيطر، واما أسست أنظمة منفصلة.

 من هذا كله فإن الأفكار العامة التجريدية التي يقولها جورج طرابيشي حول تضاد النقل مع العقل، وهي أفكار شائعة في الوعي العربي، ينبغي أن تدرس في ضوء مناهج مختلفة، تصنل إلى التضادات العميقة للتاريخ والفكر، لا أن تكرر المعتاد والساذج من الآراء.

 وهي جزء وعينة من آرائه المثالية التجريدية التي يغرقها بالأمثلة التاريخية، التي فيها أحياناً الكثير من الفائدة والمتعة للقارئ، ولكن جوهرالأمور يُفلت بعيداً.

عبدالله خليفة كاتب وروائي من البحرين

عبدالله خليفة

تنوير يعقوب صروف

تنوير يعقوب صروف

(1852 – 1927)

 يعتبر يعقوب صروف من الرعيل الأول في النهضة العربية الحديثة، فقد تخرج من الكلية السورية الإنجيلية التي ستُعرف فيما بعد بالجامعة الامريكية سنة ١٨٧٠، وعمل في الكلية التي تخرج منها مدرسا في مواد الرياضيات والفيزياء والكيمياء.

 وقد توجه منذ وقت مبكرللربط بين الثقافة العلمية والحياة الاجتماعية، بمنهج معين، وشارك في تأسيس المجمع العلمي الشرقي، ولصروف كذلك تجربة ثقافية,عالمية، اذ أخذ الدكتوراه من جامعة أمريكية، وزار الغرب، وصادق المنور الآخر فارس نمر الذي كانت له أهميته في الثقافة العربية الحديثة المبكرة.

 إن نمو الاتجاهات الحديثة في لبنان وسوريا وبين المسيحيين خاصة، ليس بالأمر الغريب، فقد لعب المسيحيون في الحضارة العربية السابقة دوراً ثقافياً كبيراً، وأدت جذورهم الاجتماعية كفئات وسطى مدنية، دورها في تميزهم وسط الجمهور العادي، وإذا كانوا قد لعبوا دورهم كطليعة ثقافية، فإن الجمهور العربي المسلم سوف يلتحق بهم لاحقاً وبكثافة، كما حدث في العصر العباسي، وفي بدء العصر الحديث العربي كذلك، فهنا ظاهرات متشابهة لها قوانين معينة، تتمظهر في كل عصر حسب تطوره الاجتماعي والاقتصادي، ولا بد لنا من قراءة هذه الطليعية الراهنة عبر يعقوب صروف نموذجا .

 لقد كان ليعقوب صروف نشاطات اجتماعية وفكرية كثيرة، ولكن البؤرة المركزية فيها، هو إنشائه لمجلة المقتطف ونشره للعلوم المختلفة. لقد ظهر العدد الأول من المجلة سنة ١٨٧٦.

 ان إصدار المجلة وكتابة مقالاتها عمليتين ليستا بسيطتين في تلك الظروف، فكان هو الذي يكتب معظم مقالات المجلة، وفي السابق كان يساعده ويندغم في عمله فارس نمر، ولكنه بعد فترة تخصّص في المجلة، فكان هوالكاتب أيضاً لكل أبوابه كباب الصناعة وباب الزراعة وباب تدبير المنزل وباب التقاريظ وباب المسائل والاخبار، وقد يمضي عليه أسبوع كامل وهو يبحث عن المادة اللازمة لمقالة واحدة، بل قد يمضي عليه أيام وهو يبحث عن كلمة واحدة. ناصيف نصار، «الفلسفة في معركة الإيديولوجية»، دار الطليعة، ط١، ١٩٨٠، ص٤٤.

 والهدف الذي يبتغيه صروف من نشر هذه المعلومات هو علاقتها بالصناعة، دون أن يحدد لنا العلاقة التي يتصورها بين العلوم والصناعة، ولكنه يقول: «إن الصناعة مؤسسة على العلم… فالأحرى بنا أن نقصد العلوم من حيث تؤدي إلى الصناعة جادين في تلك، غير مهملين هذه» (السابق، ص٤٠)، فالعلاقة بين العلوم والصناعة هنا علاقة غير مرئية، بل هي عملية ربط تقريظية أكثر منها بحثا فيها، وهذا التقريظ للعلوم والصناعة سيكون بهذا المنوال الخطابي حيث يأمل من الطلاب «إحراز العلم وإتقان الصناعة وإحياء رسمها وترميم باليها لشدة افتقارنا إليهما كليهما» (السابق ص٤٠).

 ان صروف عبر هذه المجلة الرائدة سيقوم بالدعاية للعلم والصناعة والحداثة التقنية دون ربطها بأية جوانب اجتماعية وسياسية، ولهذا يقول: «العلم والصناعة والزراعة دعائم الحضارة، بل روح العمران، والاسباب اللازمة لارتقاء نوع الإنسان الخ.. » نفسه، ص٤٦.

فعمله التثقيفي يقوم على نشر المعلومات العلمية والتقنية التي تظهر في الغرب وترويجها في الشرق، لكن أي علم وأي زراعة وأية ظروف اقتصادية واجتماعية وفكرية تتشكل فيها هذه المعلومات، وهل من الممكن أن تتجذر وكيف؟

 إنه يقول إن مهمته هي بسط العلوم أمام أهل الشرق، وقد كانت هذه مهمة صعبة كذلك، فالمجلة حين دخلت العراق مثلاً واجهت معارضة حتى من المثقفين، الذي وجدوا فيها تبدلاً عما ألفوه من مطبوعات فرفضوها فترة حتى أصبحت مألوفة بعد جهد.

 اعتمد يعقوب صروف في نشره للعلوم على جوانبها التقنية، ويمكن القول إن هذا التركيز عنى هذه الجوانب يعكس عملية توظيف غير مودلجة بشكل مباشر، نظراً لصدور المجلة في سوريا ولبنان وهما حينذاك خاضعتان للسلطة العثمانية الإقطاعية المتخلفة، فكان في نشر العلوم بحد ذاتها عملية كفاحية.

 وهكذا كان صروف وهو ينشر مجلته يركز على هدفها التحديثي  فيقول: «التمدن الأوروبي كما لا يخفى عليكم أيها السادة والسيدات تمدن ليس منا ولا لنا، ولا ننتفع منه النفع الحقيقي إلا إذا نقلناه إلى بلادنا وغرسناه في ترابنا» .

 يغدو نقل المعلومات العلمية والتجارب الصناعية الحديثة هو هدف يعقوب صروف بدرجة كلية، ومنهج النقل هذا منهج ميكانيكي، فهو تناول مادة من منطقه ونقلها إلي منطقة أخرى، وحسب أسلوب صروف هنا، فنحن أمام نبتة تنتقل من جهة جغرافية إلى أخرى، في الأولى نجد الظروف جيدة، وفي الثانية نجد الظروف سيئة، ولكن

المنطقتين المتضادتين، ليس لهما تاريخ وجذور، فهو لا يقوم بدراسة بنية الإنشاء وأسباب نجاحها، ولا بنية الاستيراد وأسباب عدم ظهورها.

 فنحن أمام عقلية نقل معلومات علمية وليس أمام عقلية علمية، حيث يتطلب من العقل العلمي قراءة المشكلة وتحديد ظروفها وجذورها التاريخية والراهنة، أي يتطلب تحويلها إلي قضية سياسية واقتصادية وفكرية، وبالتالي تكوين رأي أوحركة لتغييرها.

 إن تعبير «لا مستقبل لسوريا ما لم تغزل خيوط تمدنها وتنسجها في نولها»، الذي يقوم على مفردات الصناعة اليدوية، هو تعبير إنشائي فضفاض، وهو يقود الوعى النهضوي التقني هنا إلي فضاء غير سياسي واجتماعي، فتغدو الحداثة التقنية أداة بيد قوى مالية واقتصادية عربية مجهولة الصلات والأهداف التاريخية. صحيحٌ ان

الخطاب هنا يعكس العداء للإقطاع الشرقي العثماني، ولكنه عداء مضمر، لم يتبلور في رؤية، فيمكننا أيضاً أن نعده عداءً دينياً للإسلام، لأنه كان عاماً مجرداً، ولهذا ربما يغدو عبر هذه الرؤية إن الإسلام المجرد هذا هو سبب تخلف المشرق، وليس التركيبة الإقطاعية المذهبية، كما تمظهرت في الإقطاع العثماني، بصفته آخر أشكال الإقطاع المذهبي المعروفة حينئذ، ولعله لو كان إقطاعاً دينياً يرتدي عباءة المسيحية، لربما كان ليعقوب صروف موقف آخر.

 ويمكن هنا أن نتصور كذلك، من جهة مقابلة، إن الحداثة التقنية هذه، وقد فقدت طابعها التاريخي والوطني والقومي، تغدو في حاملها الغرب الاستعماري شيئاً مهماً ومفيداً، حيث ان صروف قد جرد هذه الحداثة من طابعها الاجتماعى السابق ودلالاتها، لتغدو أداة تقنية، مجرد قوى إنتاج مفسرة على أوجه عديدة، بدلاً من أن يشكلها في رؤية وطنية واجتماعية، كعلاقات إنتاج تاريخية.

 وهو يشكلها عبر تضادات جغرافية، فهناك أوروبا التحديثية والنهضة، وهنا التخلف، وهذا يشير إلي طابع علماني كذلك، ولكنه علماني بلا جنور إسلامية مسيحية، حيث لم يقم كذلك بفحص العلوم. والنهضة من جوانب تاريخية مناطقية، ولهذا يغدو الوعي تقنياً تابعاً للغرب، مواكباً للفئات الوسطى الاستيرادية، التي بدأت النمو بشكل كبير في هذه الفترة، جالبة البضائع المادية والفكرية من الغرب وخاصة: فرنسا.

ولهذا فإن حديث صروف عن الصناعة والعلوم يغدو إنشائياً مجردأ، وليس بحثاً حقيقياً في كيفية تشكيل الصناعة. ولهذا فإن الفئات الوسطى المسيحية وهي تنمو بشكل حديث سوري، تقوم بإعادة إنتاج دورها التاريخي في العصر الوسيط الإسلامي، حيث كانت تابعة للاقطاع المذهبي الإسلامي بألوانه المختلفة، ولكن الإقطاع  الذي وصل بقيادته التركية إلي الحضيض وغدا لقمة سائفة للسيطرة

الاستعمارية، غدا مرفوضاً وبدأت الجسور تتشكل مع الغرب المتصاعد، ذي النفوذ المتعاظم في المشرق، وإذا كانت البقعة السورية قريبة من فم هذا الإقطاع المحتضر، فإن البقعة المصرية بعيدة عن سيطرته، وهناك من الممكن أن يتكّشف المضمون الحقيقي لهذا الوعي النهضوي ليعقوب صروف وجملة من النهضويين السوريين المهاجرين.

 في فضاء مصر السياسي والاجتماعي كان يمكن للفئات السورية اللبنانية أن تجد مساحة أكبر لإنتاج الحرية، ولكن لكونها فئات منتقلة ومهاجرة فخضوعها للفضاء السياسي الذي هاجرت اليه كان أقوى.

  كذلك فإن الفئات المتوسطة السورية اللبنانية هذه سوف تحمل علاقات الإنتاج الإقطاعية المذهبية في أي مكان تذهب إليه، على الرغم من الاشتغال الكثيف في عمليات رأس المال، لكون تلك العلاقات هي التي تحكم بلد المنشأ وجذور الوعي.

 فيعقوب صروف وهو يشتغل على رسملة الحياة «أي جعلها رأسمالية» يجعلها بلا أهداف سياسية موجهة لتشكيل مجتمع رأسمالي حر، مما يجعل عملياته التحديثية تابعة لعلاقات الإنتاج الإقطاعية السائدة.

 ومن هنا فان خطاب مجلة المقتطف في مصر التي تم الهجرة إليها يتضاءل فيه الجانب التحرري الوطني الذي كان أقوى في بلاد الشام، نظراً لاصطدامه بالأتراك المسلمين، ولكن في مصر التي تنامت فيها السيطرة البريطانية، فإن هذا الجانب سيخفت، نظراً لنموها حسب تصورها تحت مظلة حداثة غربية مسيحية مهيمنة، وستبدوهذه الحداثة في وعي المجلة وأصحابها بمثابة إنقاذ للشرق، وليس باعتبارها حداثة محدودة تحافظ على علاقات الإنتاج الإقطاعية الدينية هنا، التي ستقاوم بضراوة هذه الحداثة الشكلية.

 أي أن يعقوب صروف سوف يركز على تطور العلوم وانتشارها في مصر، كتقنيات، وليس كمنهج علمي، ومن هنا فإن التجريبية لديه محدودة، سواء على مستوى التجربة العملية أم على مستوى الوعي النظري، فهو يقول:

«الاعتقاد والمشاهدة، بين ثلاثة أنواع من الحوادث: نوع يؤيده الاختبار. ونوع لا يؤيده الاختبار ويناقض الحقائق العلمية، ونوع لا يؤيده الاختبار ولكنه لا يناقض العلم» (السابق 54،55)، فكيف لا يؤيده الاختبار ولكنه لا يناقض العلم؟ وهكذا يقوم بفتح النوافذ للوعي غير العلمي، بدلاً من أن يجعل التجريبية شاملة.

 وهذا التردد والتناقض في المستوى المنهجي النظري، يتشكل كذلك عبر نضاله من أجل نشر العلوم والوعي النظري بالصناعة دون أن يدرك الآفاق التاريخية الوطنية المشرقية لهما. فهو يظن انه لا يوجد حاجز يمنع الأقطار العربية من المشاركة مجدداً في الحركة العلمية الصناعية العالمية.

ويرى مؤلف الكتاب السابق ان الحديث عن نشر العلوم والصناعة دون التطرق إلى نظام الحكم غير ممكن، فالنظام ذو علاقة وثيقة بذلك، ولكن طرح مثل هذه الموضوعات لدى صروف «كانت عملاً ثورياً، قليل الحظ من النجاح، وبعد، فهو لم يكن بطبعه وفلسفته والتزامه ميالاً إلى الأعمال الثورية» (نفسه ص5٧).

 ومع ذلك فإن العلاقات وثيقة بين العلوم والصناعة وعلاقات الإنتاج، فالنظام الإقطاعي الذي تهيمن عليه بريطانيا في مصر، أو فرنسا في سوريا، كانت مساحة التطور الصناعي فيه محدودة، وبالتالي فإن أي تحول جذري فيه يتطلب تجاوز هذه العلاقات الإقطاعية المهيمن عليها استعمارياً، التي اخترقها بعض العلاقات الرأسمالية دون أن تزيح البنية القديمة.

 ولهذا فدون نقد جذري لهذه البنية يجعل الوعي النهضوي مُلحقاً بها، وخاضعا ً لمستواها الإيديولوجي، وغير قادر على الخروج من مدارها، فالمسالة هنا هي أحجام المنشات الصناعية وأنواعها وأعدادها، ومستوى تطور العمل المأجور، وطبقة الفلاحين وحجمها وتطورها ونسبة تحولها إلى الصناعة وإلى العمل المأجور والتصنيع، ومسالة السوق الوطنية وتطورين البرجوازية الصناعية الوطنية، وعلاقة التعليم والثقافة بالتطور التقني الصناعي، ونسبة تحرر المرأة ودخولها إلى السوق والصناعة الخ..

 أي أن المسألة ليست شعارات عن النهضة والصناعة والعلم، بل دراسات وتغلغلٌ للمنهج العلمي في قراءة الظاهرات الطبيعية والاجتماعية والفكرية، وتقود القراءة الأولى الشعارية إلى الضمور والشكلانية والالتحاق بعمليات التحديث الأجنبية، وهوالمسار الذي أخذت مجلة المقتطف تتوجه اليه.

 في حين ان القراءة الثانية لن تستطيع رؤية المقتطف أن تحققها، لفصلها عمليات التحرر الوطني والاجتماعي عن العلوم، وهذه القراءة الثانية سوف يحققها اليسار المصري الذي استفاد ولا شك من المنورين  السوريين ودورهم الفكري، ولكنه سوف يتجاوزهم نظراً لتوحيده عمليات التنوير الثقافي بالكفاح السياسي.

عبدالله خليفة كاتب وروائي من البحرين

عبدالله خليفة

التنوير الرومانتيكي عند جبران خليل جبران

إن قدرة المسيحيين العرب على خلق التنوير المبكر في القرن التاسع عشر في المشرق العربي تحديداً، حيث لا نشهد مثل هذا التنوير في المغرب، تعود إلى كون الفئات الوسطى المسيحية التي تشكلت في الشام، ذات ظروف اجتماعية وثقافية أفضل من المسلمين الذين كان الإقطاع الديني مطبقاًعليهم بصورة أشد من إطباقه على المسيحيين.

 فنظراً لصغر العائلات المسيحية وارتباطها بالمهن الحرة وبداية نمو المدن السورية «سوريا ولبدنان حينذاك» والتاثيرات الغربية الثقافية والسياسية المتدفقة بقوة في هذا الوقت، أمكن لأفراد ورموز من هذه العائلات أن يتحرروا نسبيا من النفوذ الديني الإقطاعي، وبدأت عملية تحرير الوعي العربي الحديث من الوعي الطائفي والتقليدي. وهو أمر كما قلنا مراراً يماثل دور هذه الجماعات المسيحية في العصر الوسيط حينما قامت بذات الوظيفة في نمو النهضة الفكرية العربية، ولكن الآن تتشكل الظواهر في بُنى مختلفة وظرف عالمي جديد.

 ولدينا هنا الآن نموذج الشاعر جبران خليل جبران وخطواته ومساهماته في عملية النهضة العربية الجديدة، التي سنحاول منها اكتشاف مساهمته في هذه العملية.

 وبطبيعة الحال سوف تتسع عمليات التحرر للفئات الوسطى العربية اجتماعياً وسياسياً، على مدى التاريخ القادم فيما بعد جبران عبر القرن العشرين كله، وسوف يتعقد الوعي ويغدو ذا مستويات عدة، بدءاً من جبران مرورا بطه حسين وانتهاء بعابد الجابري وأدونيس وغيرهما، لكن وعي الفئات الوسطى وحركيتها التاريخية لن يخرج عن التشكيلة الإقطاعية، ولن يقطع للخروج إلى التشكيلة الرأسمالية الحداثية المكتملة.

 وجبران خليل جبران شاعر وفنان عربي سوري ولد سنة 1883، من أب فقير كان يعمل راعياً، في أسرة مسيحية، وقد دمر الأب هذه الأسرة بسبب سكره وعدم مراعاته لها، لولا قوة شخصية الأم التي أنقذت هذه الأسرة وهاجرت بها إلى أمريكا ببوسطن، وهناك عاشت بين المهاجرين العرب، وتربى جبران فى الوسط العربي الأمريكي، عاجزاً عن تعلم اللغتين العربية والإنكليزية، لولا عودته لوطنه وهناك بدأ يتعلم بشكل مدهش.

 هذا التعليم المحدود، والمآسي المستمرة على هذه الأسرة الصغيرة، التي مات معظم أفرادها بشكل متتال في أمريكا، وخيبات الحب المستمرة التي عانى منها جبران سواء من معلمته الأمريكية أم من مراسلته عبر البحار والتي لم يرها وهي مي زيادة، قد أطلقت في جبران نزعات الشطح الديني والصوفي والشعرية القائمة عليهما، وتغييب التصوير البنائي التحليلي للحياة.

 ومن خلال هذا التصوف الديني الشعري حاول أن يعبر عن معارضته الشديدة للنظام الاجتماعي الإقطاعي الثقيل ومحدود الانفتاح في ذلك الحين.

 يقيم جبران تناقضات كلية بين الطبيعة «النقية» والمجتمع الفاسد، بين عوالم الأرواح الحرة وبين المواد والأشياء الوضيعة.

 ويذكرنا هذا بموتيفات الفلسفة العربية الدينية القروسطية لدى الفارابي وابن سينا وغيرهما، وهما اللذان شكلا تضاداً عميقاً بين عالم الأرواح النقي والمادة الوضيعة، معبرين عن الرؤية الدينية للفئات الوسطى العربية في العصر السابق، في علاقتها بالنظام الأرستقراطي الحاكم، حيث اتفقت معه في هيمنة الدين والقوى الفوقية على الناس، الذين هم مثابة المادة الدنيا غير القادرة على الفعل التاريخي المستقل.

 واعتماد جبران خليل جبران على هذه الموضوعة الأساسية للفلسفة المثالية السابقة، هو امتداد لتاريخ طويل من هيمنة الأرواح والبنى الفوقية الروحية على الجمهوروعلى تحليل الواقع.

 وتساهم غربتا جبران: الغربة الاجتماعية والغربة الجغرافية في تذكية تلك المادة الصوفية الدينية وجعلها بديلا عن الغربتين والتحليل.

 يجسد جيران كثيراً التضاد العميق بين عالم الأرواح والطبيعة من جهة وعالم الكون والفساد الأرضي من جهة أخرى، وفي الفصل الثاني من «الآجنحة المتكسرة» يقول صورأ نفسه المتنازعة بين قوتين: (قوة تحلق به السحاب وتريه محاسن الكائنات من وراء ضباب الأحلام، وقوة ظاهرة تقيده بالأرض وتغمر بصيرته بالغبار وتتركه ضائعاً خائفاً في ظلمة حالكة)، (ص ١٢، من نسخة دار المدى، سنة ٢٠٠٣).

 ثم تتمظهر وتتجسد هذه الكائنات اجتماعياً في الفصل التالي حين يتغنى بإله الربيع، وهي احتفالية غائرة منذ تموز وأدونيس، المعبرين عن قوى الطبقة العليا الزراعية في إعادة إنتاجها وتملكها للطبيعة والمجتمع، في ميثولوجيا الخصوبة والفداء في العصر القديم، وستتجلي لاحقاً احتفالية الفداء في المسيحية، أو في تضحية الحسين، ي العصر الوسيط المسيحي – الإسلامي، يقول:

(الربيع روح إله غير معروف تتطوف في الأرض مسرعة، وعندما تبلغ

سوريا تسير ببطء متلفتة إلى الوراء مستأنسة بأرواح الملوك والأنبياء الحائمة في الفضاء)، السابق ص ١٤.

 هذه الهيمنة للأرواح على الفضاء الروحي المشرقي، هي هيمنة اجتماعية وسياسية للقوى الأرستقراطية والدينية المتنوعة والتي جسدت عمليات سيطرتها التاريخية الطويلة بهذا الوعي الديني والسياسي الروحي المُفارق، والموجود وراء الأشياء والطبيعة.

 يتجسد التضاد العميق الذي لا يُحل بين ما وراء الطبيعة والواقع، بين عالم الأرواح النقي وعالم الفساد الأرضي، في الكثير من سرد جبران الذي عادة يقتحم البناء القصصي:

(الشبيبة أجنحة.. ترتفع بالفتيان إلى ما وراء الغيوم فيرون الكيان مغموراً بأشعة ملونة.. ولكن تلك الأجنحة الشعرية لا تلبث أن تمزقها عواصف اختبار فيهبطون إلى عالم الحقيقة – وعالم الحقيقة مرآة غريبة يرى فيها المرء نفسه مصغرة مشوهة)، ص ١٩.

 ولا يقوم جران بتصوير عالم الحقيقة المشوهة هذا، حيث هو مربوط بعالم مغاير هو العالم الروحي النوراني، وكل شيء صادق في العالم الأرضي(الدنس) هو من إنتاج الروح، ولهذا فإن الحب لا ينبثق من علاقات حياتية متنامية بل هو يتدفق من الأعلى، من عالم الأرواح، فحين يرى حبيبته سلمى لأول جلسة يهتف:

 (إن للجمال لغة سماوية تترفع عن الأصوات والمقاطع، وهكذا شاءت السماء وعتقتني على حين غفلة من عبودية الحيرة والحداثة لأسير. حراً في موكب المحبة).

 وتغدوهذه الحبة الرومانتيكية المتدفقة من الأعاني النوارتية متضادة مع شرائع البشر وتقاليدهم.

 غن التضاد بين المنطقة البيضاء النوارتية، والتي هي هنا الحب، وبين المنطقة السوداء ، التي هي هنا شرائع البشر وتقاليدهم، سيقوم الشاعر بالتعبير عنها، في كتابه عن المحبة، وستغدوالأنوار والنبوة والمثل وغيرها هي الطاقة الروحية المغيرة لعالم الدنس والفقر الروحي.

 إن التضاد بين الروح والمادة من القضايا التي لم تحل تناقضاتها الفلسفة المثالية الدينية في المنطقة، وجبران يواصل إنتاج هذا التضاد غير المحلول بشكل تصويري شعري، فيقول عن جمال سلمى حبيبة الراوي:

(بل كان غريباً كالحلم أو كالرؤيا أو كفكر علوي لا يُقاس ولا يُحد ولا يتسخ بريشة المصور)، فالدخول إلى تجسيد الحياة وتحليلها يغدو اتساخاً.

 ولهذا فإن جبران يحول الظاهرات التاريخية العميقة والواسعة إلى عمليات نوارنية شخصية فيقطرها في شعاع وحيد:

 (كل ما نراه اليوم من أعمال الأجيال الغابرة كان قبل ظهوره فكراً خفياً في عاقلة رجل أوعاطفة لطيفة في صدر امرأة.. الثورات التي أجرت الدماء كالسواقي وجعلت الحرية تُعبد كالآلهة كانت فكواً خيالياً مرتعشاً بين تلافيف دماغ رجل فرد عاش بين ألوف من الرجال… التعاليم السامية التي غيرت مسيرة الحياة البشرية كانت ميلاً شعرياً في نفس رجل واحد منفصل بنبوغه عن محيطه) السابق ص ٢٩، ٣٠.

 إن التحولات الاجتماعية الكبرى في التاريخ لا تغدوعبر هذا الوعي عمليات تراكم فكرية واجتماعية وسياسية لمجموعات بشرية، بل هي وليدة لإنتاج وعي فردي مفصول عن هذه السيرورة، وهنا يقطع جبران حتى مع عملية تراكم الوعي التاريخي العربي، فذلك عودة لوعى ما قبل ابن خلدون وغيره، الذي يقرأ التحولات على ضوء التراكم والصراع الاجتماعي.

 إن تصور جبران للثورات أنها نتاج فعل فردي، وبالتالي فظهور الأديان هى عملية فردية محضة، لبشر مفصولين عن المجتمعات التي يعيشون فيها، وتتشكل لديهم الأفكار عبر الرؤيا والغيب، هي عملية ستجعله لا يدرس الأديان باعتبارها ثورات اجتماعية تاريخية، تداخلت فيها الصراعات الاجتماعية والقيادات الفكرية الطليعية، وبالتالي قامت بردم الهوة بين الفكرة والواقع، بين السماء والأرض، بين النور والمادة، بل سوف يُسقط عليها أفكاره المختزلة الصوفية، لعدم قدرته على خلق فعل ثوري على المستوى المعاصر، أوعلى مستوى القراءة، فعل يجمع المثالي والواقعي في تكوين مشترك.

 إن عدم استطاعة جبران التضفير بين النور السماوي والفعل الكفاحي، لا تعود فقط لمثاليته الغيبية، بل لغربته الاجتماعية والجغرافية كذلك.

 إن جبران يقف أمام الواقع المتخلف كفارس قادم من الغيب، ويقوم باستثمار مفردات ديانته المسيحية، وقد انفصلت عن تاريخها الكفاحي الاجتماعي الطويل، وتحولت إلى لغة صوفية، وبالتالي فقد القدرة على تحليل هذه الديانة كثورة شعبية، ولهذا فهو يأخذ بعض المفردات كالمحبة ويشغلها فى فضاء رومانتيكي، يقول كلماته الجميلة في كتاب النبي:

 (المحبة تضمكم غلى قلبها كأغمار حنطة / المحبة على بيادرها تدرسكم لتظهر عريكم / المحبة تغربلكم لتحرركم من قشوركم / المحبة تطحنكم فتجعلكم كالثلج أنقياء / ثم تعدكم لنارها المقدسة، لكي تصيروا خبزاً مقدساً يُقرب على مائدة الرب المقدسة).

 ومن الواضح هنا تدفق قاموس الريف المهبط الاجتماعي للمسيحية، وتتشكل عملية البعث الروحية عبر التسامي عن التضادات الاجتماعية والسياسية، وبتشكيل وحدة رومانتيكية بين البشر بعد إزالة جذور التناقض بينهم، التي لا تزول بل تُقصى، فيُعجن المجموعُ الاجتماعيُ فى خبزٍ ديني بدلا من أن يَكتشف تضاداته ويحلها. فالاختلافات والمسئويات المعيشية المتباينة والفكرية المختلفة، تصبح قشوراً، وتتكفل المحبة باستخراج الجوهر الروحي الداخلي، لأن التكوينات الاجتماعية والتاريخية، وهي المُشكلة على الأرض هي مجرد قشور وأنسجة خارجية.

 إن تصوره بأن التعاليم السامية كانت ميلاً شعرياً عند فرد واحد، منفصل عن عصره، وبالتالي عن واقعه وتراثه، تجعل التعاليم السامية ليست نتاج الجدل بين القائد والواقع، وبالتالي فإن الانفصال الذي يعيشه جبران عن الواقع وقواه، ليس مهماً، بل هو قادر على ردمه كما فعل الطليعيون الآخرون السابقون، النين كانوا منفصلين وشكلوا ثوراتهم بفكرهم المفارق، أي الذي جاء من اللاواقع، من المنطقة النورانية، مصدر الخير والجمال… الخ.

 نستطيع أن نقول إن هذه هي قراءة جبرانية للتحول فى المنطقة، ومحاولة لتكرارها في أوائل القرن العشرين وقتذاك. وقد أعطى فقدان القوى الاجتماعية الفاعلة، وعدم بروز التناقضات فى صفوفها، إمكانية فكرية لجبران لخلق عملية تاريخية من هذا الانسجام الاجتماعي البكر، الذي لم تفجرهُ الصراعات الطبقية الضارية بعد، أو التي لم تظهر في مشاهد وعى جبران، لأن التاريخ السوري اللبناني السابق حافل بها.

 لكن هذه القراءة تُلغي ما هو أرضي وتربط كل شيء بالسماء. يقول الراوي لسلمى حين نشأ حبهما من أول ومضة شعاعية روحية:

(إن حياة الإنسان يا سلمى لا تبتدئ فى الرحم كما أنها لا تنتهي أمام القبر، وهذا الفضاء الوسيع المملوء بأشعة القمر والكواكب لا يخلو من الأرواح المتعانقة بالمحبة والنفوس المتضامنة بالتفاهم،)، الأجنحة المتكسرة، ص ٣٣.

 إن وجود الأرواح الحائمة في الفضاء وتداخل الكواكب بها، يشير إلى مفردات مغمورة في الفلسفة العربية الدينية للعصر الوسيط، حيث الكواكب أرواح. وهي التي تهيمن على الحركة الأرضية.

 يصور جبران خليل جبران الإقطاع المهيمن على الحياة الاجتماعية والروحية كقوى فردية وكاختلال روحي، وليس كبنية اجتماعية موضوعية، استمراراً لنهجه الفاصل بين الروحي والاجتماعي، بين الراهن وجذوره، فالمطران المهيمن على بلدة سلمى “فارس كرامة” يطمع في ثروة ابيها الكهل، ويقوم بفرض إرادته على الكهل وابنته فيزوجها من ابن أخيه الفاسد. ويقول الراوي عن المطران:

(هذا الرجل هو مطران تسير قبائحه بظل الإنجيل فتظهره للناس كالفضائل)، (جامعاً في قبضة الشريعة الفاسدة روحاً سماوية بذات ترابية).

 وكما يفعل جبران في فصل الفكرة عن جذورها الموضوعية وتطوراتها، فهويفصل كذلك الفرد عن الجماعة التي ينتمي لها، فالمطران يبدو ممثلاً للشريعة الفاسدة، وبالتالي فهو يشيرإلى تاريخ جماعي واجتماعي، وإلى وجود شريعتين: فاسدة ونقية، لكن لا نعرف لماذا هيمنت الشريعة الفاسدة، حيث بدت في تكون فرداي مستقل عن الوجود الجماعي والإرث التاريخي وتحولاته.

 مثلما أن سلمى وأباها والراوي، الذي هو المولف جبران نفسه، حيث لا مسافة موضوعية فنية بين الكاتب وأثره، يكونون الشريعة النقية، ولكنها ليست في موقع السلطة، بل ليست في موقع التاثير والمقاومة. إنها مُضمرة متوارية في الذوات الفردية المُحاصرة بالكهنوت، الذي يهيمن على الثروة الروحية، فهو الذي يُنتج مفاهيم هذه الثروة ويجعلها متداولة لمصلحته المادية، أي عبرها يقوم بالاستيلاء على الثروة المادية، ليوسع كذلك من سيطرته الروحية.

 وبخلاف المطران فإن الشخصيات الخيرة المُستلبة تَذوبُ في الصراع ولا تقوم بإنتاج شريعتها النقية، أي لا تقوم بفهم المسيحية كثورة اجتماعية قام الكهنوتث بالسيطرة فيها على المعنى والمضمون، وتنحيته، وحولها إلى عبادات مُفرّغة من دلالاتها الثورية السابقة.

 ولهذا فإن هذه الشخصيات الخيرة تتلاشى عبر الموت أوالصمت، فسلمى تتزوج من الشخصية الفاسدة، وأبوها يموت، وهي تلد طفلاً يموت فتموتُ معه، والراوي يقف على القبر راثياً، دون أن ينقد عجزه.

 ولا تختلف بقية آثار جبران عن هذا المنحى، ففي مسرحيته «لعازر وحبيبته» المنشورة حديثاً في صحيفة النهار البيروتية بتاريخ كانون الأول ٢٠٠٢، نرى لعازر الذي أحياه السيد المسيح حسب الرواية الإنجيلية، وهو مستغرق في الطبيعة، متصلاً بحبيبته في السماء، قاضياً معها زمناً خارج الزمن الأرضي، وهذه اللحظة الدهرية بالنسبة اليه كانت لأسرته أمه وشقيقته عدة ساعات من النهار، ولكن الزمن الميتافيزيقي والزمن البشري الموضوعي متباينان، مثلما أن لعازر يرى الوجود المادي وضيعاً فلا يحب أن يمتد جذراً في الأرض المظلمة (مثلما يأبى أن أتلقى الزبدية من أيد ذابلة وأستمدث الحياة من كؤوس الطين).

 وهو لهذا يرى بعثه حرماناً لاتصاله بحبيبته، ذلك الاتصال السرمدي النوراني، ويقول لعازرلمريم أخته:

(أنت وأنا وهذه الحديقة مجرد وهم، بل ظل للحقيقة). إن هذه العبارة لابد أن تذكرنا بمُثُل أفلاطون، لكنها هنا تندمج بصوفية عريقة في المشرق، في حين ان أسرته الصغيرة البشرية الأرضية تواصل حيثيات الوجود العادي. ولكن لماذا لم يكن بعثاً لعازر الجبرانى اندماجاً في هذه الحياة الأسرية وتطويراً لها وبحثاً عن حبيبة أرضية حقيقية، وتغييراً داخل الحياة؟

 إن هذا السؤال يعبر عن التضادات العميقة في الأدب الجبراني، وعن غياب الفعل الثوري الجبراني على مستوى الواقع والموروث، فيتشكل النقد لظاهرات من الواقع، ويغدو الحل الاتجاه غيباً، ولهذا فإن لعازر حين سمع أن السيد المسيح قام، اتجه إليه، مندمجاً في مسيرته، مستعداً للفداء.

 إن هذا الموقف هو بشكل فلسفي عام، لأن لجبران نظرات إصلاحية اجتماعية جزئية، يؤكد مشاركته في أحداث الأرض الواقعية، وهو ليس الداعية للانقطاع الكلي.

ولا يتسع المجال هنا لعرض نلك.

عبدالله خليفة كاتب وروائي من البحرين

كلُ شيءٍ يتغير إن التناقضَ هو أساسُ حياة البشر، وبدون تناقض يزول البشر.

التنوير الاجتماعي عند فرح أنطون

كتب : عبـــــــدالله خلـــــــيفة

فرح أنطون  هو من المثقفين الشوام الذين هاجروا إلى مصر هروباً من القمع العثماني، وكسربه المهاجر اشترك في الجهود الثقافية المتنامية في مصر وهي تحت الاحتلال البريطاني، وقد أصدر جريدته [الجامعة] بالإسكندرية، منذ أوائل القرن العشرين، ونشر فيها مقالاته ورواياته، وقد أدت بعض كتاباته إلى معارك شهيرة مع الإمام محمد عبده والتيار الديني عامة.
ليس تحت أيدينا ثمرة هذه المعركة وهو كتاب [في أبن رشد وفلسفته]، ولكن روايته المعروفة والمنشورة مجدداً وهي [الدين والعلم والمال]، والتي كتب مقدمتها جابر عصفور موضحاً إن كتابة فرح أنطون للرواية الفكرية يأتي في سياق دور المثقفين النهضويين في ذلك الوقت لنشر المعرفة: كما فعل جورجي زيدان في رواياته التاريخية، التي اهتمت بعرض التاريخ الإسلامي بشكل قصصي.
وبطبيعة الحال، فإن اختيار فرح أنطون وجورجي زيدان للرواية كأداة عرض للأفكار، يعبر عن هذه العملية في تثقيف القراء، وبالتالي هذا أدى إلى تغيير طابع اللغة العربية المثقلة بزخارف العصر الوسيط، وجعل هذا النوع [ الرواية] ذا طابع شعبي.
ولهذا فإن فرح أنطون وهو يعرض مسألة التيارات الفكرية المعاصرة في ذلك الوقت، لم يطرحها كبحث فكري يتغلغل في هذه التيارات فحصاً وتحليلاً، بل جعل عملية البحث أشبه بقصة، فهناك راوٍ، وهناك شخصيات يقابلها، وموضوع يكشفه وهو موضوع ثلاث مدن متضادة، هي مدن الدين والعلم والمال.
لقد جعل التيارات الفكرية: التيار الديني، والتيار العلمي، والتيار المالي، أجساماً جغرافية وتاريخية مُجسدة في تكوينات. فلم تعد هذه التيارات متداخلة وأجزاء من تكوين تاريخي في مجتمع واحد، بل جعلها مدناً.
وهو يقيم تاريخاً خاصاً لتكون وانفصال هذه المدن، يقول الشيخ شارحاً ذلك للراوي البطل وهو الفنان المتجول:
[وقد حدث هذا الانقسام على ما نرى منذ زمن بعيد، فإن أولئك الفتيان والفتيات الذي أسسوا هذه الجمهورية الصغيرة بعد اشتغالهم بزراعة الأرض وإتقان المصنوعات أصابوا من نصيباً من الثروة والسعة، فلما تزاوجوا وتكاثروا جاء أبناؤهم أرقى منهم وأكثر ميلاً إلى الشئون النفسية، فعكف بعضهم على التجارة وبعضهم على العلم وبعضهم على الأدب وبعضهم على الدين]، [الدين والعلم والمال، دار المدى، ص27].
يقيم فرح أنطون تاريخاً خيالياً لهذه المدن، فهناك مجموعة من الشباب تقوم بإنشاء جمهورية تعاونية تتوسع وتتنوع في الإنتاج المادي والروحي. وبغض النظر عن الإمكانية الاجتماعية لمثل ذلك، إلا أن فرح سرعان ما يقفز على سياق التجربة، وهو لم يعلمنا بجذور هذا التعاون وطبيعة الملكية والإنتاج، وكيف يمكن لأساس اجتماعي تعاوني أن يتفكك، وهل المسألة تعود لتطور الأجيال؟
إن هذا يعطينا فكرة عن عدم درس فرح أنطون للتجربة المشاعية في المشرق، وإنه أخذ فكرة الجمهورية المشتركة هذه من أفكار الاشتراكيين الخياليين أمثال روبرت أوين وسان سيمون وشارل فورييه، الذي قام بعضهم بالفعل بتجارب فاشلة لمثل ذلك.
ولكن فرح أنطون ينقلها إلى مدار آخر. فهي ليست تجربة اشتراكية بالفعل، وهي ليست عودة لاكتشاف الجذور التاريخية للشرق، بل هي فكرة قصصية لأمر آخر. إنها تبرير لوجود مثل هذه المدن الخيالية على هيئة تيارات فكرية.
ولهذا فإنه يتقدم لتمرير هذه الفكرة وتجسيدها:
[فلم يمر زمنٌ طويل حتى قام النزاع بينهم على ساق وقدم].لا يقدم المؤلف أي حيثيات معقولة في تفسير هذا النزاع، فكيف يتشكل نظامٌ اجتماعي دون تداخل بين رجال المال والعلم والدين؟ وهل مسألة تغير الأجيال دون تبدل في الملكية وعلاقات الإنتاج يمكن أن يؤدي إلى هدم تجربة تعاونية؟!إننا نرى هنا مفهوماً مثالياً للتاريخ متوارياً. ويضيف:
[ فارتأى بعض منهم زيادة في توسيع المعيشة على السكان أن ينشئوا بلدتين أخريين قريبتين من البلدة الأصلية. ثم رغبة في حصر النزاع في مكان واحد أو منعاً للنزاع قرروا أن تسكن كل طبقة في بلدة، فطبقة المال تسكن في البلدة الشرقية، وطبقة العلم في البلدة الغربية، وطبقة الدين في البلدة الجنوبية]، [نفسه ،ص27].
هنا جملة من الإشكاليات، فمحاولة فرح تصوير التيارات الفكرية الأساسية في المجتمع الحديث الغربي، في الواقع، على شكل مدن، تبدو غير متنامية بشكل منطقي اجتماعي وفني في آن، ولكن فرزه كذلك للمدن هو فرز يأتي على أسس متناقضة، فمدينة المال، وهي مدينة أصحاب الثروة والرأسماليين، هي مدينة طبقية، حقيقية، أما مدينة أهل العلم، فهؤلاء فئة مستخدمة ذات اتجاهات متعددة، في حين كان ينبغي أن تكون مدينة العمال أو الفعلة، كما سيذكر لاحقاً. لأن مدينة العمال يمكن أن تكون جسماً اجتماعياً متبلوراً، حتى في مساكن وأحياء، لكن فرح أنطون لم يفعل ذلك، وجعل فئة العلماء ومن ثم فئة رجال الدين تكوّنان مدينتين مختلفتين.
وهو فيما بعد سوف يحتار في فئة العلماء لأنه يجعلهم عمالاً تارة، ومدافعين عن العمال تارةً أخرى. فهل كان يريد عرض طبقات المدينة الحديثة وصراعها أم عرض الصراعات الفكرية؟ هذه العملية ستكون متداخلة.
إن هذا التأثيث المتردد لطبقات المجتمع وتياراتها ستكون له نتائجه في سيرورة المدن، وتصوره للحضارة الحديثة.
لكن علينا قبل ذلك أن نعرف لماذا قام باختيار المدن كنموذج لعرض التيارات.
لقد ظهر أسم الفيلسوف الفارابي في هذا الكتاب [ص 42]، وهي إشارة بكون المؤلف فرح أنطون يعرف الفارابي وتجربة كتاباته، فالفارابي الذي أسس في الفلسفة العربية عملية التداخل بين التيارات الفكرية والاجتماعية وبين المدن، حيث كانت لديه تعبيرات: المدن الجاهلة، المدن الفاسقة، المدن الضالة، المدن الفاضلة..
وقد مرّكز الفارابي في مدنه سمات اجتماعية فكرية متداخلة، فالمدينة الجاهلة على سبيل المثال هي التي عرفت الحقيقة ولكنها لم تطبقها وانهمكت في شئون حياتها اليومية من أكل وتوالد الخ.. والمدينة عرفت الحقيقة وتوجهت لضدها من أنانية وفجور الخ..
هذه الفكرة الفارابية استلهما فرح مزاوجاً بينها وبين فكرة الاشتراكيين الخياليين عن الجمهورية الصغيرة ذات المشروعات الإصلاحية في مزاوجة مركبة ضعيفة عموماً في بنائها.
والفارق بين فكرة الفارابي عن المدينة المثالية من جهة، وفكرة فرح أنطون وفكرة الاشتراكيين الخياليين من جهة أخرى، إن الأول اتخذها نقداً للحياة الأرضية وطلب العيش فيها، رافضاً إياها مقدماً حياة الغيب والذوبان في المطلق والفيض، معتبراً الزهد شكلاً من هذا الرفض للحياة الدنيا (الوضيعة)، وهو أمر كان يعبر عن رفضه للبذخ الأرستقراطي الهائل في عصره، متساوقاً مع الإيديولوجية الدينية الزهدية المتصاعدة في الحياة.
وإذا كان الفارابي يدعو للغياب عن تطوير المدن والتوجه للعزلة والزهد، فإن فرح أنطون والاشتراكيين الطوباويون يصورون المدن أو يناضلون من أجل إنشائها بهدف تطوير الحياة الدنيوية ورفع مستوى معاش الإنسان وثقافته، وهو هدف مغاير للفارابي الذي انسدت أمامه آفاق التغيير الاجتماعي الخلاق.
ولهذا فإن الأبيات التي أستشهد بها فرح أنطون في كتابه وهي كما نوه لها من نظم الفارابي، إذا صحت الرواية، أقول إن هذه الأبيات في تضاد مع ما يريده أنطون، تقول الأبيات المنسوبة للفارابي:
أخي خل ذي باطـــــــــــــل        وكن للحقائـــــــق في حيز
فما الدار دارُ مقامٍ لنـــــــــــا       وما المرءُ في الأرض بالمعجز
ينافس هذا لهذا علــــــــــــى      أقلِّ من الــكلم الموجــــــــز
وهل نحن إلا خطوط وقعــــــ        ن على نقطة وقع مســـتوفز
محيط الــسماوات أولــــى بنا         فماذا التنافس في مركــــــز
نرى هنا التضاد واضحاً بين رؤية الفارابي لضرورة عدم التنافس الأرضي، واعتبار الدار دار عبور، وكون الإنسان مجرد نقطة، في حين ينتظره محيط السماوات. إن هذه الفلسفة الغيبية المفارقة، المهمّشة لدور الإنسان وعالمه، يستشهد بها فرح أنطون وهو في سبيل بناء فلسفة دنيوية تحويلية للإنسان، تركز على تغيير واقعه؟! ولهذا فإن قول الشيخ التالي للمتخاصمين قبل ترديده للأبيات يعبر أفدح تعبير عن هذا التناقض:
[هل إن حطام الدنيا وخيراتها الزائلة ومسراتها الفانية تستحق هذا الاقتتال الشديد عليها.].
لكن هذا لا يمنع من وجود خط سري ديني زهدي لدى فرح أنطون كما سيظهر لاحقاً.
وفي الواقع إن مهمة كتاب فرح أنطون هي النضال من أجل هذه الخيرات وهذه المسرات، المسروقة من الأغلبية العاملة، ولقد كان ومازال الاقتتال عليها هو مضمون التاريخ الاجتماعي، وهو القتال الذي رفض أن ينخرط فيه الفارابي مفضلاً العزلة وتقديم مشروع مؤجل ومغيّب، ودخله فرح أنطون نفسه، ولكنه هنا لم يستطع سبر غور مدن الفارابي، ولم يكتشف تضادها مع مشروعه، ولم يأت لذكرها إلا من أجل سند شرعي من التراث العربي الإسلامي يسوغ به مشروعه عن مدن مختلفة.
ينطلق فرح أنطون لتشكيل كتابه وعرض تجربة اجتماعية من فكرة [ اليتوبيا]، وهي تعني كما يقول إنه لمح في أثناء الدراسة [ عصراً يسميه مؤرخو اليونان العصر الذهبي ويسميه كتاب المسيحية عصر الفردوس الأرضي فبقى منه في فكره أثر كان يحضر فيه كلما رأى زحام الحياة وجهادها بين أفرادها]، ص28.
يبدو هنا إن فكرة المؤلف تشوبها كذلك نوازع دينية، خاصة في تعبيره عن الفردوس الأرضي وهي فكرة خالجت الأديان أو بعض تياراتها، من أجل خلق مجتمع العدالة الأرضية، المفقود دائماً، والذي يُراد أن يكون أرضياً وليس مؤجلاً ليوم الدينونة، ولهذا برزت لدى المسيحيين فكرة الفردوس الأرضي، ولدى المسلمين فكرة ظهور المهدي وتحقيق العدالة الشاملة الخ..
ويتضح الطابع الديني في تصوره من اعتقاده بوجود مدن فاضلة نقية، أي فراديس انتقلت من السماء إلى الأرض، ومن ظهور الشيخ المعتدل في القصة الذي يبدو كأنبياء الشرق.
لكنه فيما بعد يقوم بعرض وجهات نظر المتخاصمين الاجتماعيين، فرجال المال يقولون:[ شكوانا من بعض الطامعين الذين يثيرون خواطرهم( أي خواطر العمال)علينا ويحرضون طبقتهم على طبقتنا].ويطالبون الحكومة بإبعاد هؤلاء المحرضين ليستتب السلام.
أما أهل العلم فيهاجمون أهل الدين قائلين:
[تراهم يكثرون التزلف للأغنياء، وأرباب الأموال ويجارونهم.. ويلهون الشعب بالتدجيل عليه ليشغلوه بالأوهام والأحلام عن مصالحه الحقيقية].
أما شكوى رجال الدين فهي من:[أولئك الجاحدين الكفرة الذين يبثون روح ضلالهم وكفرهم في النفوس].
ولعل البرنامج العلمي العمالي الاشتراكي هو الذي يتردد في كتاب فرح أنطون الصغير هذا بوفرة، وهو ينقل أوضاع العمال الفرنسيين المحسوبة بالفرنك، أكثر من تصويره لأوضاع العمال المصريين أو العرب، وهو يبدأ ببرنامج اشتراكي فيقول زعيم العمال:
[فعلى الأمة إذاً أن تتولى إدارتها بنفسها وتوزع أرباحها بين أبنائها، أي أن الحكومة تجعل من نفسها التاجر الكبير الوحيد الذي تنحصر في يده المتاجر والمصانع والمزارع وتستخدم أفراد الأمة وتعطيهم أجرتهم..]، ص45. أما دعوة رجال المال فهي على النقيض ترك السوق الحرة تعمل بقوانينها.
ويقف رجال العلم والدين على طرفي نقيض، فرجال العلم مع العمال، ورجال الدين مع أرباب الأعمال، وهكذا ينقل فرح أنطون الصراع الاجتماعي الفرنسي بحذافيره إلى أجواء مصرية لم يحدث فيها مثل هذا الاستقطاب.
ولكنه هو يؤيد خطاً وسطاً معتدلاً ويتمثل ذلك في آراء شيخ العلم، وهو صورة لرجل الدين الشرقي وقد لبس مسوح الاشتراكيين، وهو يحاول أن يوفق بين الدين والعلم، وبين الرأسمالية والاشتراكية، ليس من خلال برنامج اجتماعي واقتصادي مرحلي معقول، بل أيضاً من خلال عبارات إنشائية أيديولوجية ليس فيها تشخيص دقيق للدين وللعلم.
لكن هذه الوسطية لا تنجح في تهدئة رؤساء العمال الغاضبين، ولا توجد في مدن فرح أنطون أي داع للاضطرابات، لكن هؤلاء الرؤساء يفجرون الأوضاع ويرد عليهم الآخرون والجيش فتحترق المد الثلاث!
وهذه أيضاً من الأجواء الأوربية والفرنسية تحديداً، ومناخ كومونة باريس يظلل المشهد الناري قبل الأخير. ومن المدهش إن نصيحة فرح أنطون للاعتدال سبقت محاولة العمال المصريين التي استولوا فيها على بعض المصانع في حركة اشتراكية متسرعة وأثناء الحكم الوطني الأول لسعد زغلول الذي قمع الانتفاضة العمالية بقسوة. ويبدو إن هؤلاء العمال والاشتراكيين المصريين لم يقرأوا تحذير فرح أنطون في كتابه الذي صدر قبل عشرين عاماً من عملهم.