ظهرَ الإسلامُ في ظروفٍ شديدةِ التخلف عند العرب والأمم المجاورة لهم ، وبهذا فإن شكلَ الوعي المكرس فيه يقومُ على شكل مثالي ديني ، تلعب فيه الكائنات الغيبية دوراً محورياً مهيمناً على الوجود ، وذلك بسببِ غيابِ العلوم بمختلفِ أقسامها عند أهالي المنطقة البدوية خاصةً.
ومع تطور المسلمين واحتكاكهم بالحضارات التي سبقتهم والمنتجة للفلسفة فإنهم اتجهوا للاستفادة من هذه المنتجاتِ الفكرية المتطورة القديمة، بصفتهم أكثر شعوب الأرض وقتذاك تقدماً.
وهكذا راح المسلمون يستثمرون هذه المنتجات في تطورهم الحضاري المستقل، ومن هنا كيفوها مع الموروثِ الإسلامي الأولي، ومع الموروث الإسلامي الجديد الحضاري الذي تكون حين شكلوا تلك الحضارة ، منقطعين عن المستوى السابق.
والذي قام بهذه العملية ليس المسلمين ككل، ولكن تلك الفئات المثقفةَ التي يعود تكوينها للفئات الوسطى عموماً، وقد أبقت على المنظور المثالي للفترة السابقة، مطورةً إياه في منظور مثالي موضوعي.
بين المنظورين المثاليين الديني الأولي، والديني الفلسفي ، ثمة نقاط تشابه ونقاط افتراق ، في كون الأول يمثل الفئات الوسطى المكية المثقفة ، وهي تقودُ عمليةَ التحولِ في ظروف شديدة التخلف، وبأدوات النضال الجماهيرية.
واعتمدت تصوراتها على الرؤية المثالية الدينية في أبسط أشكالها، حيث الجمع بين الواقع والميراث الأسطوري الفكري القديم، المستفيد من الدينين السماويين السابقين، اللذين هما كذلك مستفيدين من الإرث الفكري للعصر القديم.
وفي الجزيرة العربية أتيحَ للفئةِ الوسطى التحرك بحرية تاريخية نسبية ، لعدم وجود الحكم المركزي القوي، فغدت المثالية الفلسفية واقعية تحليلية – أسطورية – تصويرية – مغيرة للواقع المتخلف. فهذا الجمع المركب الهائل بين أشد فاعليات التغيير ورصد الحياة والاعتماد على الغيب لم يتجل مرةً أخرى.
في حين واجهت المثالية في عصر الحضارة الإسلامية التالية إمكانيات فكرية وعلمية كبيرة، فتخلص أغلبُها من الشكل الأسطوري التصويري، ودخل في الشكل الأسطوري المفاهيمي، متوجهاً إلى المقولاتِ والتركيبِ النظري الواسع واعتماد المنطق الأرسطي وطرح استقلال الطبيعة والمجتمع من التدخلات الغيبية المباشرة الحادة.
لكنه اعتمد المثالية كذلك عبر جعل هذه المقولات تخلقُ العالمَ، وتشكلَ الوجودَ، مع اعترافها بموضوعيةِ هذا العالمِ ووجود قوانين لتطوره. لكن هذه القوانين تتمثل في الجانب الطبيعي بدرجة أساسية ، وإن كان هناك بحث مستفيض في البنى الاجتماعية.
وهكذا فإن الوعي الديني والوعي الفلسفي تماثلا في إعطاء القوى الماروائية إمكانيات تحويل الحياة ، مرة ً عبر الرسول، ومرة عبر الفيلسوف، ومرة باعتماد الجمهور الشعبي للتحويل وعبر الدخول الجريء في الحياة ، ومرة عبر العلوم والانسحاب إلى الزهد كفاعليةٍ سلبية هادمة للبذخ، فهنا حدث تغير في طبيعة الفئة الوسطى القائدة ، فالأولى كانت غير تابعة للقصور، والثانية كانت تابعة.
والأولى إذ غيرت العالم فإنها أسست مدنيةً مسيطراً عليها ثقافياً من قبل مستوى بسيط سابق، في حين أن الثانيةَ كانت أكثر تقدماً ثقافياً لكنها عاجزة سياسياً وتاريخياً!
وهذه التحولات المتضادة أُزيلت بإيجابياتها في المرحلتين، المرحلة الإسلامية التأسيسية، وفي المرحلة الحضارية المدنية، في عصر الانحطاط فلم يبقْ من الثورة التأسيسية والارتباط بين التقدم والجمهور الشعبي، ووجود برنامج نهضوي مطبق على الأرض، ولا كذلك ضخامة الإنتاج الفكري والفلسفي والتداخل مع إنجازات العصور السابقة واستيعابه ثروة الأمم!
وجاء العصرُ الحديثُ متردداً متناقضاً، غير قادر على فهم العصرين السابقين وعصره هو.
أطروحةٌ، فنفيٌ، فنفي النفي، أي عصور ثلاثة متضادة، راحت تتشكلُ على مدى الألفين سنة من عمر العرب والمسلمين، كلُ عصرٍ يقومُ بنفي العصر السابق، ليس بشكل كلي، ولكن بشكل أساسي، والعصرُ الحديث لم يفهم إنه تركيبٌ، وإنه جمعٌ بين العصرين السابقين ونفي لهما معاً.
إذا أخذنا سلسلةَ التطورات التي حدثت خلال القرنين الأخيرين، فسنجدُ ثلاثةَ فتراتٍ كبرى: الأولى تمثلتْ في استيعابِ المنجزات الغربية، الثانية: في تشكيل تجارب لرأسمالية دولة شمولية، توهمت إمكانية تجاوز العصر الرأسمالي، الثالثة عودة متدهورة للفترة الليبرالية الأولى مع عودة كذلك للإقطاع السياسي والديني الشموليين، وبالتالي فإن هذه الفترات في العصر الحديث العربي شكلت هي الأخرى أطروحة فنفي فنفي للنفي، أي أننا نعيش في الزمن الراهن أكثف فترات التجاوز .
كان النهضويون الأوائل في القرنين 19 و 20 يتصورون إن التماثل مع الغرب هو كفيلٌ بخلقِ النهضة، وحين تزعزعَ هذا الوهمُ راح الدينيون يتصورون وهماً آخر هو استرجاع الفترة الأولى من العصر الإسلامي.
أي أن دراسةَ العصرين العربيين السابقين ورؤية تضادهما والخروج بتركيب منهما، وفي ظل ثقافة الحداثة المسيطرة، كان يمكن أن يكشف للعقول قوانين التطور الاجتماعي، وبالتالي أن يؤدي إلى التحكم فيها.
إن عصرنا العربي الإسلامي التحديثي الراهن هو عصر التركيب، للعصرين العربيين السابقين، تداخل معهما ونفي لهما معاً. إنه عصر نفي النفي. وهو لهذا عصر التمثل العميق للحداثة العربية على مر الزمن والصعود بها إلى لحظة نوعية جديدة مقاربة للمستويات العالمية.
فأخذ إنجازات الثورة المحمدية، والجوانب الإيجابية من نضال الفئات الوسطى التحديثية في العصر النهضوي الأموي – العباسي السابق، وتشكيل نضال نهضوي للفئات الوسطى المتحالفة مع العاملين بشروط الحداثة المعاصرة.
وهكذا فإن إنجازاتِ التحالف الشعبي الديمقراطي الإسلامي النهضوي الجريء في اقتحامهِ العالم، يُضاف إلى تراكميةِ الثقافة الفكرية الموسوعية والانفتاح وعقلنة الفقه وعصرنته، وقد تم كل ذلك بوعي ديني مثالي مسيطر على أجهزة الحكم، تعبيراً عن القوى العليا مرة في تحالفها مع العاملين ومرة في انقطاعها عن التحالف مع العالمين.
وبهذا فإن طيفاً اجتماعياً واسعاً لا بد أن يتشكلَ ليعيدَ إنتاج الحضارة العربية المستقلة الحديثة ، وهذا التحالف الذي في جوهره تحالف الفئات الوسطى والعاملين ، له مضمون اجتماعي هو إعادة تغيير طابع الدولة ، في ملكيتها الاقتصادية الشاملة، وفي مذهبيتها السائدة المتحكمة، وفي تحرير كافة هذه الجموع من الدولة الإقطاعية – المذهبية، وفي خلق طبقات وسطى وطبقات عاملة حرة، تتداول السلطة حسب برامجها المقبولة للجمهور .
وعمليةُ إجراءِ الإصلاحات في جسم الدولة – المجتمع الاقتصادي والديني والاجتماعي والسياسي، يعتمدُ على سلسلة من الإصلاحات في ظاهرات الوعي المختلفة .
إن جسمَ الدولةِ – المجتمع الذي يعيش النظام الإقطاعي المذهبي ، يعيش المفردات الدينية الشمولية، كخلفيةٍ متحكمة فيه عبر القرون.
وإذا كانت صورُ الإلهِ الواحد هي التي تهيمنُ على الكون فإن الحاكم الواحد هو الذي يهيمن على السلطة – المجتمع. إي أن هذه (الصور) تعبيرٌ عن مذهبيات شمولية تفكيكية للجسد الإسلامي، وتقارب هذه الصور، أو ظهور صورة مختلفة مميزة عن العصور القديمة، سيكون تعبيراً عن الإصلاحات العميقة الجارية في البــُنى ، وللتقارب العربي والإسلامي والعالمي .
وقد قامت الفلسفاتُ في العصر الوسيط الإسلامي بخلقِ وسائطَ غيبيةٍ متعددةٍ في المشرق الإسلامي، ثم في المغربِ الذي أخذ يتخلصُ من هذه الوسائط بحكمِ توجههِ السني العقلي، بحيث غدت فلسفةُ ابن باجة – ابن رشد تشقُ الطريقَ نحو مثاليةٍ موضوعية صافية من الغيبيات المشرقية الواسعة.
لقد استغرقت العمليةُ بين التكوين الديني الصوري القصصي الميثولوجي الحكمي، وبين تكون الفلسفة المثالية بمعمارها التعددي المفاهيمي عدة قرون، ثم إلى أن تكونَ مثاليةً موضوعية جنينية في الأندلس على بضعة قرون أخرى. وهذه المثالية الموضوعية الجنينية ترحلت إلى أوربا لتبدأ رحلةً جديدة في بُنى اجتماعية مختلفة وتكونُ فتيلَ النهضة الفكري فيها.
وحين وصلت الفلسفةُ من أوربا للعرب والمسلمين محملةً بكل هذا الزخم التحولي المتضافر الداخلي، فإنها لم تـُفهم من قبل الجيل الأدبي، جيل التنوير الأول، فقد كان تاريخُ أوربا الوسيط والنهضوي والمعاصر معروضاً أمامه، بشكلٍ غامض، بحيثيات سياسية واجتماعية واقتصادية وفكرية ، فكانت الوقائع الاجتماعية المباشرة كمظاهر التقدم في مختلف جوانب الحياة هي الطافحة على سطح الوعي النخبوي، وهذا ما كان يمثل له صدمةً على صعيد أنه كان عبر موروثه يعتبرُ نفسَه محور العالم والبقعة الأكثر حضارة فيها، ودينه يمثل أرقى تكون ٍ فكري.
ومن هنا كان هذا الوعي ينقلُ وقائعَ الحياة والثقافة بعناصرها المشتتةِ متقبلاً المظاهرَ الحديثة الأكثر وظيفية ونفعيةً والتي تغدو عبر التجارة مستخدمةً في حياته، محتفظاً ببنائه التقليدي المحافظ، حيث يعبرُ هذا الاحتفاظ عن جانبي الاستخدام الوظيفي وبقاء أسس النظام التقليدي التي تسيطرُ عليه القوى الاجتماعية العليا، ومهما كانت التغيرات السياسية التبدلية في هذه القمة فإنها لم تغير هذا البناء، إن لم تحافظ عليه بقوةٍ أشد.
من هنا كان الوعيُ التنويريُ أدبياً ثقافياً تقنياً عاماً، لا يستطيع أن يطرحَ المنظورَ الفلسفي الواسع الشامل النقدي، وأن يشكلَ نظراتٍ عامةً إلى الوجود ، حيث أن وجودَهُ الاجتماعي هو ذاتهُ مقلق وغير مفهوم له.
فكان عليهِ أن يعي أساسياتِ وجودهِ (الوطني) أولاً، أي أن يقومَ بخلقِ لحمةٍ في بنائه السياسي التابع والمتخلف، وهو أمرٌ يجعل البنى العربية والإسلامية المفتتة تقومُ ولهذا فإن الاحتكاكَ بأوربا كان يتيحُ استخدامَ بعضِ الأسسِ السياسية الاجتماعية الأوربية في العمل لتشكيل هذه البُنى، وكلُ بنيةٍ عربية وإسلامية لها ظروفها وسيرورتها الخاصة، والمتداخلة مع السيرورات الأخرى كذلك.
إذن كان الوعي وهو يشكلُ البنيةَ العربية التقليديةَ – الحديثة، يمرُ بمرحلةِ التأثر الأوربي – والعودة إلى الماضي، عبرَ استخدامِ مفهومِ النهضة، وهو الذي كان يتيحُ استعارةَ الأشكال الأوربية وتركيبها فوق الجسد القديم، مع الزعم بأنه يتحدث ، فهو يغرفُ من الماضي (المجيد)، وكذلك يستفيد من الخبرة الأوربية، التي كانت (وليدة التأثير العربي) .
ولكن لم يكن يدرسُ هذا التداخلَ العربي – الغربي في سيرورته التاريخية المعقدة والمتوارية، أي أن يدرسَ رحلةَ المثالية الموضوعية وتبدلاتها العميقة في أوربا، من الرشدية الُملاحقة إلى الديكارتية المنفصلة كثيراً عن تقاليد الفلسفة الدينية للعصر الوسيط.
إن ثمة عدةَ قرونٍ أخرى بين الرشديةِ الُملاحقة وبين الديكارتية الأوربية، وهذه السيرورة لن تــُدرس عبر هذا الوعي الأدبي – الفني العربي وهو يقابلُ أمثالَهُ في الإنتاجين الأوربي والعربي القديم، لكن هذا الدرسَ المتعددَ الأشكالِ سوف يضعُ مادةً ثقافية كبيرة للمرحلة التالية وهي مرحلة الوعي الفلسفي.
وهناك عناصرٌ فلسفيةٌ مشتتة في داخلِ هذه المرحلة، فكان التأكيدُ على الخلق الإلهي للعالم ، يتداخلُ مع الإيمانِ بالضروراتِ الموضوعية للوجود ، وهو أمرٌ يشيرُ إلى هذه الثنائيةِ بين الجذورِ المتواصلة الحضور، أي بين النظامِ المحافظ بصورةِ الألوهيةِ المطلقةِ التي صنعها خلال سيطرته الطويلة، وبحكامه المطلقين، وببنائه الاجتماعي الذكوري – الأرستقراطي – وثقافته السحرية – الدينية، وبين ضروراتِ التحديث التقنية.
فكان التقنيون فوق الجسدِ المحافظِ يستوردون المنجزاتِ البنائيةَ والتقنية والأدبية والديكورية الخ.
إن فكرةَ الخلقِ الإلهي والسببية المحدودة، تتماثل وعملية التداخل العربي – الغربي في مرحلةِ الاستعمار والتجارة وإنتاجِ المواد الخام، فهما تتيحان الحفاظَ على النظام التقليدي بأسسهِ الدينية، التي يتم تصورها بأنها(جوهر الأمة)، وأيضاً بتطويرِ بعضِ الجوانب في الحياة الأكثر إلحاحاً كتغيير الحرف و نمط المدن والإدارة ونظم التعليم الخ.
إن الحوارَ بين فرح انطون ومحمد عبده يمثلُ هنا ذروة الصراع الفكري، والمثقفان المعبران خلال هذا الصراع يكشفان لنا حول ابن رشد، كيفية عدم حسم الوعي العربي استيعابِ لحظةِ ابن رشد وتجاوزها تاريخياً، بمعنى ضرورة قراءتها في تطورها التاريخي العربي – الأوربي، فقد غدت لحظةُ ابن رشد وفلسفته متجّاوزةً تاريخياً في الإنتاج الغربي عموماً، وحتى في الفلسفات المثالية الموضوعية، ودع عنك الفلسفة الهيجلية والماركسية.
أي أن فلسفةَ ابن رشد وصلت إلى فكرة تحييد صورة الإله المهيمنة على الوجود والمتدخلة، والتي تعكسُ المجتمع العربي الرعوي – الزراعي البسيط، عبر هذا التداخل الذي أقامه ابنُ رشد بين الأرسطية ومنجزات الحداثة الإسلامية.
لكن هذه الفلسفة الرشدية لم تدخل في القوانين الموضوعية المتجسدة في تكون الطبيعة والمجتمع، أي بفهم الحركة، وأن تلعب دوراً في تطوير الحرف والصناعة والمدن.
وهذا ما جرى أوربياً، فكان أمامَ الفلسفةِ المثالية الموضوعية الإسلامية مادةً ثقافية غنية.
ولكن في لحظة الصراع حول فلسفة ابن رشد عادت القضايا القديمة للفلسفة العربية، دون استيعاب لمفرداتها ومراحلها ومضامينها، إذ تمظهرَ الحوارُ حول الخلق الإلهي ومداه، وتردد فرحُ أنطون بين مثالية موضوعية وعودة لهيمنة النجوم والكواكب.
يعبرُ هذا الحوارُ عن البحثِ في السببياتِ وبمدى قدرةِ العقل على تحدي اللاعقل، وتثبت كذلك تردد العقل بشكله الديني والليبرالي عن معركة العقل الحاسمة وعدم استيعابه للعلوم المختلفة فهو نتاجٌ لتراكمٍ نهضوي بسيط .
إن المثاليةَ الموضوعية هنا عبر تجسيدها عند الإمام محمد عبده لم تتجرد كلياً، أي لم تصبح ذات مفاهيم مجردة واسعة وكلية، بحيث تدخلُ في تحليل الوجود تحليلاً مفاهيمياً مجرداً فتجعل القانون الكلي الشامل بلا استثناء، وتدخل بالتالي في كشف قوانين الطبيعة والمجتمع العربي الإسلامي الإنساني.
لكن هذه العمليةَ كانت أكبر من قدرات الإمام الذي أخذ يوقف ثوريته الدينية ويلتحق بالنظام الإقطاعي المذهبي ، وعبر رؤيةٍ إصلاحية جزئية.
إن ما حدسهُ السيدُ جمال الدين الأفغاني بضرورة إيجاد ثورة بروتستانتية في الإسلام هو أمر ظل في مجال الحدس، وهو يعبرُ هنا عن ضرورة تشكيل ثورة ديمقراطية في الإسلام ، عبرت عن قصورها تلك الاجتهاداتُ الفقهيةُ الجزئية، وعدم تشكيل مثالية موضوعية تامة التكوين ، وهو أمرٌ يتطلب الغوص في التاريخ والقرآن والبنى الاجتماعية.
أي أن (البروتستانتية)الإسلامية هنا هي استكمال للوعي الاجتهادي السني التحديثي باتجاه المفارقة عن الإقطاع المذهبي في الجسم الديني الأساسي للمسلمين .
إذن فإن ذاك القصور نجده في العلمانيين والليبراليين الذين وسعوا عمليات التحليل الاجتماعي والسياسي للبنى العربية التقليدية واعتمدوا على الاستيراد التقني .
لقد توصل فرح أنطون إلى مثالية موضوعية تامة عن قانونية الوجود بدون القبول بخرق لهذه القوانين ، وكان هذا يتطلب الغوص في تجسيد هذه المثالية الموضوعية على النصوص الدينية والمجتمع ، ولكن هذه العملية لم تبدأ ، لأنه انشغل بقضايا الحياة الاجتماعية والسياسية بدون ربطها بمقولات الفلسفة .
إن عمليات التغيير العربية تتجه إلى جوانب أكثر عمقاً بطبيعة تطور الحياة ، وسواء بسببِ من اهتراءِ القديم ، أم من هجوم الجديد، وهذا يمكن ملاحظته في تعمق الأشكال الأدبية كالقصة والرواية والمسرح، وتوجهها نحو عمليات تحليل الواقع بصورٍ متزايدة، وكذلك عمليات اتساع العلوم ونمو تخصصاتها ، والتبدل المستمر بين حجم الزراعة وحجم الصناعة، واستعادة المدن العربيةِ دورها النهضوي ، وبدء إلحاق الريف والبادية بتحولاتها.
ومن هنا فالسببيةُ سوف تتزايدُ عملياتها في الوعي ، وتصبح الظواهرُ المشتتة في الوعي التنويري الأولي أكثرَ ترابطاً ، فلم تعدْ العمليةُ هي استلالُ عنصرٍ وحيد من التراث ، أو من الغرب ، بل أخذت عمليات النظرة التركيبية بين الثقافة والوجود الاجتماعي والتاريخي ، تتشكلُ في العقل النهضوي الجديد ، وأصبح العالمُ العربي الإسلامي بتطوراته الكبرى مرئياً في هذا العقل ، ولكن في ظاهراته الفكرية الروحية المستقلة عن البنى الاجتماعية التي يتشكلُ فيها .
يمكن هنا أن تتشكل لمحاتٌ من العرض الاجتماعي ، لكن الوعي يظل مستقلاً ، وبه سببياته الداخلية المترابطة الأعمق ، والمنفصلة عن البنى الاجتماعية .
ومن هنا تبدأ المثالية الموضوعية في الظهور والتشكل ، واقفةً فوق قاعدتها الدينية للمنطقة ، القاعدة الإسلامية – المسيحية ، فيستمر العالمُ مخلوقاً من قبل الصور الإلهية التي يصنعها الوعي الديني – الفلسفي الحديث ، بتنوعات مغايرة عن الصور القديمة ، أي أن المثاليةَ الموضوعيةَ الرشديةَ هنا تعودُ ولكن بغنى ثقافي أتاحته القراءاتُ المعاصرةُ الواسعة ، فلم تعد النجومُ والكواكبُ روحيةً مهيمنة على الوجود الأرضي إلا في بعض أنماط الوعي الشعبي السحرية ، وغدا الاحتكاك بالأعمال الفلسفية الأوربية مغذياً للاختزال في زمنية البحث والتشكيل الفكري .
لكن الاستيرادَ من جهةٍ أخرى يؤدي أحياناً إلى القفز إلى مستويات جديدة واختزالية ، للمدارس ، وخاصة في النزعات الحديثة كالوضعية المنطقية ، والمادية الجدلية ، نظراً لبطء المثالية الموضوعية في التشكل وتوقفها أحياناً لأسباب خاصة ، مما يؤدي إلى عودة المثالية الذاتية بشكل فلسفي وصوفي .
إن تشكلَ المثاليةِ الموضوعية سيظهرُ لدى بعض الدارسين والمتخصصين في الجامعات أو الحوزات الدينية كما رأينا في النموذجين المدروسين وهما يوسف كرم ومحمد باقر الصدر ، وقد لاحظنا أن نصوصهما الفلسفيةَ تتشكلُ في حالةِ مواجهةٍ مع الفلسفاتِ التجريبية الذاتية أو مع المادية الجدلية .
فهما يرفضان التصورية أو المثالية الذاتية حين ترفضُ هذه المثاليةُ الاعترافَ بأساسياتِ الوجودِ العامةِ فتقومُ بحصرِ مركز الوعي في الذاتِ المفصولة عن الوجود الموضوعي ، ويقوم المفكران المسيحي والمسلم كلٌ من جهته ، بربطِ الوعي بالوجود والاعتراف بموضوعية المعرفة ، وهذا يفتحُ البابَ لقراءة المجتمع ونقده والمطالبة بإصلاحه بهذا الشكل أو ذاك .
وإذا كان يوسف كرم لا يدخل في عملية التحليل والنقد الاجتماعية ، أي لا يربط بين هذه المثالية الموضوعية وقوانين الوجود الطبيعية والاجتماعية ، فإن محمد باقر الصدر يتوسع في هذه العملية ويبحث عن سببياتِ الوجودِ الطبيعية والاجتماعية ، دون تحديد مدى قانونية المثالية الموضوعية هذه .
فهو هنا يواجهُ فلسفةَ المادية الجدلية في مرحلة الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين حيث تتقابلُ على أرض العراق هذه المعسكرات المتضادة بشكلٍ حاد ، وتقودهُ عمليةُ ( تفنيدِ ) المادية الجدلية إلى الاعتراف بموضوعية الوجود وسببياته ، لكن قانونية الوجود الاجتماعي تصيرُ مرفوضةً لديه ، فالبُنى الاجتماعية بقوانينها الموضوعية تتحولُ إلى سببيات جزئية مثالية ، أي أن تغيرات المجتمع تعود لديه إلى أسبابٍ تربوية وفكرية ذات أساسٍ غيبي في نهاية المطاف . وبهذا فإن قانونية الوجود راحت تتكسر ، وأخذتْ المثاليةُ الموضوعيةُ عموماً تتوقف أو تتراجع إلى أشكال فلسفية مثالية ذاتية أو تعود للتصوف ، وهو شكلٌ مثالي ذاتي كذلك . فظهور واتساع البرجماتية والتجريبية المنطقية والوجودية ، خلافاً للبواكير المشجعة لنهوض المثالية الموضوعية ، تعود لعدم قدرة المثاليات الموضوعية في التطور ، فالشكل الديني المحافظ حبسها عن النمو ، فيوسف كرم عبر مسيحيته ومحمد باقر عبر أثنا عشريته ، كانا يجعلان المثالية الموضوعية تابعةً للوعي الديني المهيمن ، وإذا كان الاعترافُ بقانونيةِ الوجود الموضوعة تحت عدة أقواس ، مهماً في الوجود الطبيعي فإنه في الوجود الاجتماعي أكثر أهمية ولكن أكثر صعوبة وخطورة .
ولكن هنا لا تظهر عملية نقدية جذرية للمجتمع عبر المثالية الموضوعية ، فهي سوف تعيدُ سببيات الحياة الاجتماعية إلى التربية والوعي ، وليس إلى بنية المجتمع الطبقية الحاسمة . رغم اتفاق مثالية محمد باقر الصدر مع المادية الجدلية على وجود قطاع عام هام في إسناد الطبقات الفقيرة وعلى دوره في عملية التنمية والقبول بالإصلاح الزراعي في حدود .
وهكذا فإن المثالية الموضوعية بأساسها الديني سوف تقدم أساساً فكرياً للعلوم الطبيعية ، في المادة الصماء عادة ، ولكن في المادة الحية أي في الأجسام البشرية وفي تطور البيولوجيا فإنها سوف تعود إلى أفكارها الدينية النصوصية دون القدرة على التأويل الهام في هذا الجانب .
فنظرية التطور في البيولوجيا تغدو مرفوضةً باعتقاد أنها تناقض التصور الإلهي بنزول الإنسان كاملاً من السماء ، وهكذا فإن أساسيات التاريخ تبقى مشكوكاً فيها ، رغم أن محمد باقر الصدر لا ينفي تعاقب التشكيلات المشاعية والعبودية والإقطاع والرأسمالية لكنه يرى أن أسبابها تعود لوعي الأفراد والخصائص الروحية .
إن عمليات التغيير العربية تتجه إلى جوانب أكثر عمقاً بطبيعة تطور الحياة، وسواء بسببِ من اهتراءِ القديم، أم من هجوم الجديد، وهذا يمكن ملاحظته في تعمق الأشكال الأدبية كالقصة والرواية والمسرح، وتوجهها نحو عمليات تحليل الواقع بصورٍ متزايدة، وكذلك عمليات اتساع العلوم ونمو تخصصاتها، والتبدل المستمر بين حجم الزراعة وحجم الصناعة، واستعادة المدن العربيةِ دورها النهضوي، وبدء إلحاق الريف والبادية بتحولاتها.
ومن هنا فالسببيةُ سوف تتزايدُ عملياتها في الوعي، وتصبح الظواهرُ المشتتةُ في الوعي التنويري الأولي أكثرَ ترابطاً، فلم تعدْ العمليةُ هي استلالُ عنصرٍ وحيدٍ من التراث، أو من الغربِ، بل أخذت عمليات النظرة التركيبية بين الثقافة والوجود الاجتماعي والتاريخي، تتشكلُ في العقل النهضوي الجديد، وأصبح العالمُ العربي الإسلامي بتطوراتهِ الكبرى مرئياً في هذا العقل، ولكن في ظاهراته الفكرية الروحية المستقلة عن البنى الاجتماعية التي يتشكلُ فيها.
يمكن هنا أن تتشكل لمحاتٌ من العرضِ الاجتماعي, لكن الوعي يظل مستقلاً, وبه سببياته الداخلية المترابطة الأعمق, والمنفصلة عن البُنى الاجتماعية.
ومن هنا تبدأ أشكال الفلسفة المثاليةُ الموضوعيةُ في الظهورِ والتشكل, واقفةً فوق قاعدتها الدينية للمنطقة, القاعدة الإسلامية – المسيحية, فيستمر العالمُ مخلوقاً من قبل الصورِ الإلهية التي يصنعها الوعي الديني – الفلسفي الحديث, بتنويعاتٍ مغايرةٍ عن الصورِ القديمة, أي أن المثاليةَ الموضوعيةَ الرشديةَ هنا تعودُ ولكن بغنى ثقافي أتاحته القراءاتُ المعاصرةُ الواسعة, فلم تعد النجومُ والكواكبُ روحيةً مهيمنة على الوجود الأرضي إلا في بعضِ أنماطِ الوعي الشعبي السحرية, وغدا الاحتكاكُ بالأعمالِ الفلسفية الأوروبية مغذياً للاختزال في زمنيةِ البحثِ والتشكيل الفكري.
لكن الاستيرادَ من جهةٍ أخرى يؤدي أحياناً إلى القفز إلى مستوياتٍ جديدة واختزالية, للمدارس, وخاصةً في النزعات الحديثة كالوضعية المنطقية, والمادية الجدلية, نظراً لبطءِ المثالية الموضوعية في التشكلِ وتوقفها أحياناً لأسبابٍ خاصة, مما يؤدي إلى عودة المثالية الذاتية بشكلٍ فلسفي وصوفي.
إن تشكلَ المثاليةِ الموضوعية سيظهرُ لدى بعض الدارسين والمتخصصين في الجامعات أو الحوزات الدينية كما في النموذجين وهما يوسف كرم ومحمد باقر الصدر, وقد اتسمت نصوصهما الفلسفية بحالةِ مواجهةٍ مع الفلسفاتِ التجريبية الذاتية أو مع المادية الجدلية.
فهما يرفضان التصورية أو المثالية الذاتية حين ترفضُ هذه المثاليةُ الاعترافَ بأساسياتِ الوجودِ العامةِ فتقومُ بحصرِ مركز الوعي في الذاتِ المفصولة عن الوجود الموضوعي, ويقوم المفكران المسيحي والمسلم, كلٌ من جهته, بربطِ الوعي بالوجود والاعتراف بموضوعية المعرفة, وهذا يفتحُ البابَ لقراءة المجتمع ونقده والمطالبة بإصلاحهِ بهذا الشكل أو ذاك.
وإذا كان يوسف كرم لا يدخل في عملية التحليل والنقد الاجتماعية, أي لا يربط بين هذه المثالية الموضوعية وقوانين الوجود الطبيعية والاجتماعية, فإن محمد باقر الصدر يتوسع في هذه العملية ويبحث عن سببياتِ الوجودِ الطبيعية والاجتماعية, دون تحديد مدى قانونية المثالية الموضوعية هذه.
علينا أن نرى في ظهور المثالية الموضوعية لدى يوسف كرم المسيحي, ومحمد باقر الصدر (الأثناء عشري), ليس فقط تجلياً شخصياً للفلسفة الدينية, المشرقية القديمة وهي تستعيدُ نشاطها في المشرق العربي – الإسلامي – المسيحي مرة أخرى, بل هي تجلٍ عام كذلك, لكنها الآن فقدت الوسائط النجومية الكوكبية التي كانت ترافق فكرة الإله أو صورته في عملية صنع الوجود.
ولهذا فإن عملية الفقه النقدي لدى محمد باقر الصدر مهمة في تدشين حفر تحليلي للواقع يترابط والمنظومة المثالية, لكن من موقعِ الخصام العنيف مع المادية الجدلية والاشتراكية والرأسمالية, وهو أمر قاد إلى عدم تطوير لحظته الفلسفية المهمة فيما بعد اغتياله.
فهو هنا يواجهُ فلسفةَ المادية الجدلية في مرحلة الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين حيث تتقابلُ على أرض العراق هذه المعسكرات المتضادة بشكلٍ حاد, وتقودهُ عمليةُ (تفنيدِ) المادية الجدلية إلى الاعتراف بموضوعية الوجود وسببياته, لكن قانونية الوجود الاجتماعي تصيرُ مرفوضةً لديه, فالبُنى الاجتماعية بقوانينها الموضوعية تتحولُ إلى سببيات جزئية مثالية, أي أن تغيرات المجتمع تعود لديه إلى أسبابٍ تربوية وفكرية ذات أساسٍ غيبي في نهاية المطاف.
وبهذا فإن قانونية الوجود راحت تتكسر، وأخذتْ المثاليةُ الموضوعيةُ عموماً تتوقف أو تتراجع إلى أشكال فلسفية مثالية ذاتية أو تعود للتصوف, وهو شكلٌ مثالي ذاتي كذلك. لكن نمو المثالية الموضوعية من منطلق ديني, لن يتوقف فسنجد اتساعاً فيها عبر المذاهب السنية هذه المرة, وبشكلٍ موسوعي, خاصة في أعمال محمد الجابري وحسن حنفي.
لكن بعد أعمال يوسف كرم نجد ظهور واتساع البرجماتية والتجريبية المنطقية والوجودية, خلافاً للبواكير المشجعة لنهوض المثالية الموضوعية, ويعود ذلك لعدم قدرة المثاليات الموضوعية على التطور, فالشكل الديني المحافظ سياسياً حبسها عن النمو, فيوسف كرم عبر مسيحيته ومحمد باقر عبر (أثنا عشريته), كانا يجعلان المثالية الموضوعية تابعةً للوعي الديني المهيمن والشمولي, وإذا كان الاعترافُ بقانونيةِ الوجود الموضوعة تحت عدة أقواس, مهماً في الوجود الطبيعي فإنه في الوجود الاجتماعي أكثر أهمية ولكن أكثر صعوبة وخطورة.
ولكن هنا لا تظهر عمليةٌ نقديةٌ جذرية للمجتمع عبر المثالية الموضوعية, فهي سوف تعيدُ سببيات الحياة الاجتماعية إلى التربية والوعي, وليس إلى بنية المجتمع الطبقية الحاسمة. رغم اتفاق مثالية محمد باقر الصدر مع المادية الجدلية على أهمية وجود قطاع عام في إسناد الطبقات الفقيرة وعلى دوره في عملية التنمية والقبول بالإصلاح الزراعي في حدود.
وهكذا فإن المثاليةَ الموضوعيةَ بأساسها الديني سوف تقدمُ أساساً فكرياً للعلوم الطبيعية, في المادة الصماء عادةً, ولكن في المادة الحية أي في الأجسام البشرية وفي تطور البيولوجيا فإنها سوف تعود إلى أفكارها الدينية النصوصية دون القدرة على التأويل الهام في هذا الجانب.
فنظريةُ التطور في البيولوجيا تغدو مرفوضةً باعتقاد أنها تناقض التصور الإلهي بنزول الإنسان كاملاً من السماء, وهكذا فإن أساسيات التاريخ تبقى مشكوكاً فيها, رغم أن محمد باقر الصدر لا ينفي تعاقب التشكيلات المشاعية والعبودية والإقطاع والرأسمالية لكنه يرى أن أسبابها تعود لوعي الأفراد والخصائص الروحية.
لكن المثالية الموضوعية كما قلنا ستأخذ دفعةً قويةً عبر أعمال الجابري وحسن حنفي, وعبر الجذور المذهبية السنية, التي كانت ذروة التطور الفلسفي المحافظ للمسلمين في العصر السابق, وهي هنا تربط نفسها بالمناهج الظاهراتية والبنيوية, مؤكدةً على الصنع الإلهي للعالم, وهو بدايةُ الاعتراف بإسلامية المجتمع, لكن هذا الصنع يتوقف عند أبواب الطبيعة والمجتمع والوعي, حيث تظهرُ بعدَ الأبواب القوانينُ الموضوعية لهذه الظاهرات.
لكن لدى الجابري وحنفي يحدثُ تعثرٌ في العثور على هذه القوانين وخاصة في مجالي المجتمع والوعي, فالمناهج الظاهراتية والبنيوية تفكك الظاهرات الفكرية عن قواعدها الاقتصادية – الاجتماعية, ثم تقطعها وتفتتها, وتستلُ خيوطاً مجردة منها, فتصل إلى استنتاجات فكرية وسياسية كبيرة خاطئة.
لدى حسن حنفي كانت المدارس الفكرية والفلسفات بلا جذور طبقية, لكي يصل في خاتمة المطاف إلى ضرورة بقاء النظام السياسي – الديني القديم مع ملئه بمادة معاصرة. لكن الأمر يعود الآن إلى تغيير هذا النظام نفسه. أي أنه يرى بقاء النظام الإقطاعي المذهبي المستمر خلال ألف عام, وليس في تشكيل نظام ديمقراطي علماني لا ديني.
لقد وجدنا كيف تعثرت المثاليةُ الموضوعيةُ وتوقفت عند يوسف كرم ومحمد باقر الصدر، ثم كيف توسعت لكن بقيت الأسئلة الكبرى لم تـُحل، ففهمُ السببيةِ يتمُ من الخارج هنا، وعلى الرغم من أن الصدر يتفوقُ على يوسف كرم بالوصول إلى السببيات الداخلية فإنه يؤكد أن التناقض الداخلي في الظاهرة ليس هو الخالق لحركتها، بل السبب يعودُ إلى حركة خارجية وهو ما يقربه في خاتمة المطاف من كرم ولكنه يقرُ بوجود حركة جوهرية داخلية كما قال صدرُ الدين الشيرازي.
ولهذا فهو يرفضُ قوانينَ الجدل، قوانين التناقض والتحول من كم إلى كيف ونفي النفي، معتمداً كذلك على السببيةِ، وهكذا فإن مرحلةَ القانون لا تتشكل هنا، وهي مرحلةٌ تقودُ إلى عمليات أبعد تحليلاً للبُنى الاجتماعية وسيرورتها وارتباطها بالعملية التاريخية العالمية.
وهي عمليةٌ تجوهرُ التاريخَ والوجود الاجتماعيين كالقول بوجود أمة إسلامية (خالدة)، أي خارج القانون، وهو أمرٌ يتشابه مع طفولية المادية الجدلية في مناخها العربي حيث تطابقُ الأمةَ العربية مع أممٍ أخرى فتستوردُ قوالبها.
إن هذا الصعودَ المتعثر للمثالية الموضوعية من الأفغاني ومحمد عبده، حتى يوسف كرم ومحمد باقر الصدر وحسن حنفي، راوح بين الاعترافِ بالقانونية الموضوعية للوجود وبين خرق هذه الموضوعية في استثناءات معينة، ولم يستطع أن يقترب من سببيةٍ كبرى تجاه البنى الاجتماعية، وهذا يشيرُ إلى أن القوى العقلية في الفئات الوسطى راحت تميلُ خلال هذه العقود التي تجلى في هذا الميل، في مختلف الدول الإسلامية التي عبر نتاج هؤلاء المفكرين والفلاسفة عن حركتها غير المبلورة فكرياً، لم تقدر أن تخوض معارك اجتماعية وسياسية لعقلنةِ الوجودِ الاجتماعي. إن عقلنة الطبيعة الصماء هو أمرٌ ذو جذور قديمة، وكذلك فإن تدفقَ المعارف العلمية الغربية وضروراتها للحياة العربية لا يترك مجالاً هنا للتردد تجاه علوم الطبيعة.
وإذا افترضنا أن الفئات الوسطى خاضت معارك على الصعيد السياسي للتحرر الوطني، فإن معاركها على صعيد تغيير المجتمع التقليدي لم تكن واسعة، ولهذا فإن وجودَ فلسفاتٍ نظرية طبيعية وتحويلية اجتماعية مترابطة ووثيقة لم تكن ملحة.
إن النظرات هنا جزئية، فقد يكون ثمة تغلغل تراثي كبير، لكن لم يُفهم هذا التراث على أساس التغيرات الراهنة وبضرورةِ إعادة تشكيل الوطن – الأمة بشكلٍ حديث وجذري.
إن الربطَ بين القسم المثالي الموضوعي الطبيعي والقسم المثالي الموضوعي الاجتماعي يحتاج إلى أدواتٍ تحليليةٍ للتاريخ والمجتمع، وقد كانت كلُ أدوات الماضي قاصرةً عن الوصول إلى هذا المستوى، كما أن عمليات الاستيراد من ثقافة الغرب التاريخية والاجتماعية كانت تتجمدُ عند استعارة الأدوات كما لدى إسماعيل مظهر أو سلامة موسى، وحتى التحديثيين الليبراليين والدينيين الأواخر، فهم ينقلون بعض عمليات التحليل وبعض الأدوات لكن لا يقومون بتحليل شامل يصل إلى أساسيات البنى وهياكلها.
في حين أن المناهج الظاهراتية والبنيوية تدرس المباني الخارجية للوعي والمدارس رافضةً وجود ارتباط موضوعي وقانوني بين الوعي وأساليب الإنتاج. فحسن حنفي مثلاً رغم ضخامة ثقافته لكنه لم يدرس أساليب الإنتاج ولم يعقد إلا صلات وامضة بين مستويات البنية الاجتماعية، ولم يتوصل إلى كون الثقافة الدينية التقليدية هي جزءٌ من بناء إنتاجي فاته أوانه.
وهذا ليس له أسبابٌ ذاتيةٌ فحسب بل أسبابٌ موضوعية كذلك، في انقسام الفئات الوسطى بين التبعية للغرب والتبعية للحكام، أي للإقطاع السياسي الحاكم وللإقطاع الديني المهيمن على المستويات الاجتماعية للبنى.
إن الهيكل التقليدي للدولة راح يستعيد سيطرته على المجتمع منذ زمن الاستعمار ولم تتمكن الفئات الوسطى من هدم هذا الهيكل التقليدي، بل زاد تطوراً وراح يوسع الفئات الوسطى المستفيدة منه، ومن هنا فليس نمو الجماعات الدينية شيئاً عابراً بل جزءً من تقوية يقوم بها النظامُ السياسي التقليدي لهذه الفئات من أجل تجذير مواقعه تجميد الديمقراطية والتطور، أي تغييب قانونية العلوم، وقانونية الدساتير التي تحدُ من سلطتها المطلقة. ولكن وهو يقويها تنفتحُ عملياتُ التطرف الأقصى، حيث يختفي القانون العلمي والاجتماعي والدستوري بشكل عاصف.
وهذه العمليةُ تزدادُ قوةً مع صعود الدول الأقل تطوراً وهي الدول النفطية في الجزيرة العربية وإيران، فتضخُ مادةً دينية لا عقلية وأسطورية في الوعي العربي الذي يزداد تدهوراً. فترتبطُ هذه الفئات الوسطى بالأنظمة المستبدة وتراثها الديني الشمولي، فهنا معنى تبعية الفئات الوسطى للإقطاع، وطموح تياراتها الأشد تطرفاً في الوصول إلى سلطة مطلقة عنيفة *.
في حين أن الفئات التجارية والاقتصادية المرتبطة بجهاز الدولة الذي يغذيها، والتي تقيمُ علاقات اقتصادية مع الغرب وتستفيد منه، ولها رؤى تحديثية، تشكل تبعية مغايرة، تبعية استيراد الأشكال والمنتجات الغربية، وطرح تحديث شكلاني في أغلبه، ينمو في هيمنة غربية لا قانونية سواء عبر تحليل البنى الاجتماعية أو في عدم وجود قانون دستوري محلي وعالمي، يقننُ توزيعَ الثروات، فتظهرُ فوضى وانتقائياتٌ ووعيُّ تقني مفصول عن علاقات الإنتاج، وتوجهٌ للرساميل العربية الفكرية والمالية إلى الخارج، وليس إلى الإنتاج الداخلي والصناعة لحفر البنى المتخلفة وإعادة تشكيلها تحديثياً وديمقراطياً قومياً تحررياً.
وهكذا فإن المصالحَ المنغرسةَ في هذه الفئات لخارجها، للطبقة السائدة بأجنحتها الغربية – المحلية، تمنعها من رؤية الأفق البعيد ومصالحها كطبقةٍ لذاتها، ومن هنا فممثلوها الفكريون والسياسيون، يقومون باقتطاعِ جوانبَ من التراثِ أو من الغرب أو من كليهما معاً، من دون الوصول إلى تعميماتٍ نظرية تربطُ الطبيعة والمجتمع في كلٍ تحول.
إن تقنينَ الطبيعةِ أمرٌ ليس ابتكاراً هنا فهو محسومٌ حتى في الفلسفة الدينية القديمة كما أنه عملٌ مطلوبٌ للعلوم الطبيعية ولبناء المنشآت المادية والحياة الاقتصادية بمختلف جوانبها، أي لتطوير قوى الإنتاج الشديدة التخلف، ولكن تقنين الحياة الاجتماعية يتطلبُ تغييرَ طبيعةِ الحكم التسلطية وإزالة الملكيات الكبيرة في الزراعة وتغيير طبيعة التحكم الذكوري الشديد لبناء أسر مختلفة، وتعليل مصادر الوعي والثقافة وتكوين نظرات للجمهور وإزالة الأمية الخ..
وكل هذا التغيير الجذري للمجتمع لا تستطيع أن تقوم به فئاتٌ وسطى متذبذبة، تميلُ قممها للتعاون الوثيق مع الطبقة الحاكمة، أي أنها لا تتوجه لإجراء تغييرات عميقة في الخريطة الاجتماعية – السياسية.
وهذا على المستوى الفكري النظري يلجمُ تطورَ المثالية الموضعية باتجاه بحث الحياة الاجتماعية، فتلوذ بالصمت أو تطرح بعض المطالب في التغيير الإصلاحي المتدرج.
من هنا لم تتشكل الحاجاتُ الضرورية المحركة لتفعيل نظراتها في مجال ربط التقنين الطبيعي بالتقنين الاجتماعي، أي أنها لم تقم بتشكيل نظرة واسعة لكلا الحقلين بمعيار فكري نقدي تحليلي واحد.
إن هذا التوقف نلاحظه في قلة المفكرين والفلاسفة في هذا الاتجاه، فيمكننا أن نضيفَ بعضَ الأسماءِ القليلة للأسماء السابقة التي درسناها في هذا الكتاب، لكن هذا لن يغيرَ اللوحةَ العامة.
إن الاعترافَ بوجود قوانين موضوعية كاملة للطبيعة، يتطلب الاعتراف بوجود قوانين موضوعية للمادة، وهكذا فإن الفلاسفة الدينيين في هذه المرحلة لم يعترفوا بوجود قوانين الصراع الموضوعية داخل المادة وأنها تتطور من ذاتها.
فإن الإيمان بوجود خالق مهيمن لا يتناقض مع الاعتراف بقانونية المادة الداخلية وكون الطبيعة تعملُ من تلقاء ذاتها، أي بقوانينها المستقلة، ولكن هنا لم تستطع الفلسفة الدينية أن تقومَ بالتركيب الفلسفي الضروري بين هذين الجانبين.
وبهذا فإن ميدانَ التاريخ والمجتمع كان أكثر صعوبةً في التقنين، فهنا تتدخلُ العملياتُ المباشرة للإرادات البشرية، ويواجه الوعيُ مسائلَ التراثِ الديني المكتوب وتفاسيره المختلفة لطبيعة المجتمع والتاريخ والثقافة.
ترافق مع نشوء المثالية البطيء المتعثر نمو المثالية الذاتية ببطءٍ وتعثر كذلك، فقد كانت أعمال التجريبية المنطقية وترجمة الفلسفة الوجودية والبرجماتية تتصاعد، كما رأينا في أعمال زكي نجيب محمود وعبدالرحمن بدوي وغيرهما، وكان لهذا النمو عدة أهداف وخاصة هدفه الرئيسي بعزلِ الدين عن ظاهرات الوعي الحديث وحفر مجرى تحديثي بدون الدخول في معركة معه بل تحييده، ولهذا ركزت التجريبية المنطقية على العلوم الطبيعية وتشكيل مجرى تبريري لها، وهي قد أخذت هذا المجرى منذ الفلسفة الإسلامية الوسيطة، فلم تدخل المعركة الحقيقية وهي معركة العلوم الاجتماعية.
كان جعلُ الحقيقةِ تجريبيةً ذاتية، وعدمُ قراءة القانون العام في الظاهرات، عمليةً تحصرُ الفلسفةَ بنتائجِ المعامل غير الموجودة باتساع في المنطقة، وهذا ما جعل التجريبيةُ المنطقية لا تتغذى على هذا الفتات العلمي، فلم يكن هناك تلامس بين التجريبية العربية ونتائج هذه العلوم، ولا تحليلات غنية أو فقيرة لها، مما جعل زكي نجيب محمود يترك هذه اليافطات الغربية البراقة ويدخل في تحليل للتراث والوعي السائد بتلك التجريبية الانتقائية التي رفضت قراءة القوانين في البُنى الاجتماعية.
اعتمد زكي نجيب محمود على تطبيق معيار الفائدة، فالظواهر والنتاجات المفيدة لـ(الأنا) الاجتماعية التي يعبرُ عنها هي التي تــُنقلُ من التراث، وهو كذاتٍ تحديثيةٍ يتوجهُ للظواهر المفيدة والمضيئة القديمة ويحاول بعثها، لكن هذا هو معيارٌ ذاتي، قد يعودُ لجماعةٍ تماثل المفكر هنا، ولكن ثمة جماعات كبرى سوف تستعيد ما هو مفيد لها، وقد تتعارض العمليتان، أو قد يقوم وعي زكي نجيب بتبرير الاستعادات غير المضيئة الأخرى.
فيشكل هذا معياراً ذاتياً لا يقوم بدرس التراث درساً علمياً، ويكشف مختلف تجلياته وتناقضاته بغض النظر عن الفائدة الذاتية.
وهذا ما تفعلهُ الوجودية حين تتراءى لها ظاهرات التاريخ بوصفها أعمالاً فرديةً عبقرية، فكأن إضاءات التاريخ هي إنجازات (الأنا الفردية).
وكل هذه الاقتطاعات من التاريخ والتراث تقودنا إلى إسقاطات ذاتية على الوجود الموضوعي، وليس إلى عملية تشريح علمية لتلك السيرورة التاريخية والفكرية المركبة والمعقدة.
وهنا سنجد أن الفئات الوسطى التي انبثق منها هؤلاء المفكرون تركز على أناها الذاتية، فمصالحها الشخصية – العامة هي في بؤرة نظرتها، وهي تقطعُ وشائجها بهذه الفئات نفسها التي تنبثق منها، فهي لا تقيمُ دائرة واسعة بشرية، ويتركز عملها على النشر، وهذا النشر الواسع والمهم لا يقود إلى انتشار مثل هذا الوعي.
إنه يقود إلى الاهتمام بالواقع والتراث وبعثِ نصوصٍ مهمة ونشر معلومات قيمة ولكن لا يحيل هذه النظرات الفردية إلى تيار مؤثر، لكنه ينشر فكرة النفعية ويبررها، وهو وعي يقوي الوعي التقليدي الذي ينظر للواقع والتراث من جانب تكريس هياكله المحافظة وتوظيف العناصر السلبية من التراث ولكن بذات النظرة النفعية وإن كانت الأهداف مختلفة كلياً.
فكما رأينا عبدالرحمن بدوي وكيف راح يعثر عبر بحوث طويلة وشاقة على البذور المضيئة الفردية، وهي في معزل عن التشكيلتين الإقطاعية التي انبثقت داخلها، فلم تستطع فرديتها أن تفجر ثورة نهضوية كبرى داخلها، وفي معزل عن التشكيلة الرأسمالية التي استقى منها تلك الفرديةَ غير المرئية كنتاجٍ فاعل للجماعات، فأدى العزل للذات في هذين التاريخين إلى أن تنحصر الذاتية في زمنية انسحاق هذه الفردية المثقفة وتفكك روابطها في الغرب، في حين يعيشُ هو مرحلة مختلفة في تاريخ العرب المعاصر.
إن غياب الرؤية العامة للتشكيلات والطبقات ومسارات التطور تجعل من هذه النظرات التجريبية الذاتية ومن النزعات الفردية الخلاقة تائهة وسط مخاضات التغيير والسيطرة، فنجد التجريبية المنطقية ذات مناخ غربي وأمريكي تحديداً، ثم تؤيد أي إصلاحات تحديثية من دون رؤية البنى الاجتماعية التي تتشكلُ فيها تلك الإصلاحات، أي قد تكون الإصلاحات المحدودة أداةً في قيام الإقطاع المذهبي بتجديد نفسه، وليس أن تقوم بمراكمة وعي نهضوي قطعي مع هذا البناء، بعد أن فقدت روابطها مع فئاتها الوسطى التي تنتمي إليها، ويفترض أن تتوجه لتراصها وتطوير فاعليتها الاجتماعية والسياسية النضالية كي ترى نفسها طبقة لذاتها، وليس فقط فئات تابعة للإقطاع السياسي والديني.
وقد تترابط هاتان المدرستان مع نزعات أخرى كالقومية والوعي الديني، فتصبحان لهما مسحة عربية – إسلامية، فتغدو التجريبية المنطقية تقنية تكنوقراطية يوظفها مثقفون وعلماء في مجال تطوير العلوم وقوى الإنتاج، بغض النظر عن الدلالات التوظيفية والأبعاد الاجتماعية.
وهو أمرٌ يحيل العلوم الطبيعة والاجتماعية إلى قوة تقنية خاضعة لاستخدام الطبقة المسيطرة على المصانع والمؤسسات العامة والجامعات خصوصاً، ويفتحُ الطريق كذلك لنشر المدارس التقنية الحديثة التابعة للقوة المسيطرة، سواء كانت في الغرب أم في البلدان العربية والإسلامية، كتدفق مستمر منذ البنيوية ومدارس الحداثة وما بعد الحداثة.
وهذه الفئة المثقفة التقنية سوف تأخذ العلوم بدون جذور أو دلالات عامة، أو كظاهرات في بــُنى اجتماعية ذات قوانين، وهو أمر يشكل الفئة المثقفة التكنوقراطية الخاضعة لأي سياسة رسمية.
لقد وضعت التجريبية المنطقية الأساسَ الفلسفي لمثل هذه التيارات، وروجت للذاتية والنفعية، وقطعت المسار الغربي الفكري الديمقراطي التحويلي، أي تلك المدارس الباحثة عن قوانين الظاهرات.
*( تظهرُ إحصاءات أنه في عام 1970، مثلت الزراعة 17 بالمائة من الناتج القومي العربي بالمقابل مع 39 بالمائة للصناعة (التحويلية والاستخراجية والكهرباء والغاز والمياه) و44 بالمائة للخدمات. وفي عام 1975 انخفض نصيب الزراعة إلى 9 بالمائة من الناتج القومي العربي، كما انخفض نصيب الخدمات إلى 30 بالمائة، وارتفع نصيب الصناعة بفروعها الثلاثة إلى 56 بالمائة، وارتفع ناتج النفط من 25 بالمائة عام 1970 إلى 52 بالمائة عام 1975)، (المجتمع العربي في القرن العشرين، مصدر سابق، ص 302).