الأرشيف الشهري: أفريل 2015

الفكرُ المصري ودورُهُ التاريخي

88

لم تلعب مصرُ دورَها النهضوي التحديثي المعاصر فجأةً بل عبر مقدمات تاريخية طويلة، وفي التاريخ الوسيط كان انتقال الخلافة العربية من بغداد إلى القاهرة تعبيراً عن بداية هذا الدور العربي المركزي، حيث وقع العراق في أتون الصراعات الدينية وفقد قدرته على لعب دور الطليعة، كذلك كانت علاقة مصر بفرنسا قائدة الثورة في أوروبا علاقة مهمةً ومحورية، فرغم دور الحملة الفرنسية الملتبس بين الاستعمار والتأثير الحضاري النهوضي، فإن علاقات فرنسا بمصر لم تكن ذات صبغة استعمارية، ولهذا فإن تأثيرات الثقافة الديمقراطية التحديثية كانت تسري عبر العلاقات بين البلدين، حيث تقوم مصر كمحطةٍ بتوزيع هذا الاشعاع عربياً بعد غربتله وإعادة تمثله داخلياً.

  افتتح رفاعة رافع الطهطاوي العالم المصري هذه العلاقات، وقد ولد سنة 1801، في طهطا من صعيد مصر، والتحق بالأزهر، وعين رئيساً دينياً لبعثة من الطلاب المصريين المتوجهين إلى فرنسا للتخصص في الدراسات الحديثة، ورغم ذلك فقد عاد هو ليصبح فاتح الطريق للعلوم الحديثة في الثقافة العربية. فقد تعلم الفرنسية وتعمق في اكتشاف علومها وتخصص بالترجمة عنها، ولكنه لم يكتف بالترجمة بل قام بالتأليف والدعوة إلى التحديث، وتسلم مهام رسمية وإعلامية متعددة.

  تكون خطاب الطهطاوي في بداية التلاقح الفرنسي المصري، فكان مرتبطاً بهذه التأثرات الأولى بالحداثة.

  ولهذا، فإن وعي الطهطاوي لم يتشكل في مرحلة الصدام بين الشعوب والاستعمار، وكانت الدولة المصرية، وقد عبر مشروع محمد علي الوطني المستقل على تطور تحديثي مستقلٍ وناجز. وقد تشكل وعي الطهطاوي في ظل هذا المشروع السلمي والحالم والمبذر كذلك، وفي ظل التأثير الفرنسي معاً.

  فقد واجه مشروعُ محمد علي الأشكالَ الفظة من النظام الإقطاعي القديم الرث، لكنه لم يقم بتغيير شامل له، بل فتح المجال لتملك الأرض بشكل شخصي واسع، للأسر الأرستقراطية الألبانية والتركية، وقام بخلقِ قطاعٍ عام لصناعات حربية في الغالب، فشكل التحديث المحدود للنظام الإقطاعي- الديني من دون تغييره الشامل. وقد أدت أعماله العسكرية إلى استهداف مصر للاحتلال بشكل خاص.

  ولهذا كله فإن وعي الطهطاوي سيكون محكوماً بوعي هذه المرحلة التاريخية، وباستيراد التقنيات والعلوم المفيدة في هذا التطوير للنظام القروسطي العربي في مرحلة جديدة.

  من هنا كان وعي الطهطاوي يردد باستمرار دور الحاكم المطلق في تشكيل النهضة، يقول: (فإننا كنا في زمن الخلفاء العباسيين أكمل سائر البلاد تمدناً، ورفاهية، وتربية زاهرة، وسبب ذلك أن الخلفاء كانوا يعينون العلماء وأرباب الفنون وغيرهم)، (تلخيص الإبريز، دار المدى). هذا الذكر لدور الحكم المطلق في إنتاج النهضة، التي تتم من خلال دعم الخلفاء للعلوم، هو إنتاج لوضع المرحلة التي يعيشها الطهطاوي في مصر حينئذٍ، عبر دور أسرة محمد علي في إنتاج نهضة، ويـُفترض أن تكون مماثلة للنهضة العباسية، أو إعادة إنتاج لها، وهذه المرة لا تأتي العلوم من قبل الإغريق بل من خلال الفرنسيس.

  ولا تظهر عمليةُ النهضة هنا سوى في أداور الأفراد، وفي الحالاتِ المشتركة من الازدهار بين عصر المأمون وعصر محمد علي، أما طبيعة العصرين المختلفة، بين نظام إقطاعي مركزي عربي إسلامي يبدأ رحلة التدهور، ونظام إقطاعي مصري وطني في طور النهوض مجدداً وفي زمن دخول التبعية، فهي لا تظهرُ لمثل هذا الوعي، بأدوات معرفتهِ التقنية، بل يظهر المشتركُ بينهما وهو نمو النظام الإقطاعي بشكل نهضوي عبر تشجيع العلماء وترجمة الفكر، وهي عواملٌ جزئيةٌ محدودة مفصولةٌ عن البناءِ الاجتماعي العام.

  يدرك الطهطاوي تطورَ الحياة الاجتماعية التاريخية للبشر، عبر قوانين الصدف المحضة أو عبر التدخلات الإلهية، فهو يفسرُ اكتشافَ النار في بدء التاريخ بالمصادفات.

  رؤيته للصدف كعاملٍ دائم في تشكيلِ التاريخ لا يتضاد مع إعطائه للتدخلات الإلهية ذات الدور، ولكن الجانبين يعكسان غياب معرفة السببيات المتداخلة لنمو التاريخ، وهكذا فإنه ينتزعُ من المواد المعرفية الفرنسية والأوربية عموماً، ملاحظاتها الصغيرة والمعزولة عن تشكل الحضارة، والطهطاوي لا يكتفي بعرض تاريخ النار، بل يقوم بعرض تاريخ المدنيات، عرضاً سريعاً يقتطفُ بعضَ الجوانب الجزئية من التاريخ البشري، كتقسيمه الصحيح الاجتماعي للتاريخ والقادم من المدرسة الفرنسية التاريخية، باعتباره ثلاث مراحل أساسية هي: المرحلة الوحشية، والبربرية، والمرحلة الحضارية. وهو تقسيمٌ مهم نجده عند علماء الأنثروبولوجيا، ولكنه هو يأخذه كطُرفة، ولا يقوم بدراسة للعرب والإفرنج من خلاله.

  ولهذا فإن كتابَ تلخيص الإبريز لا يأخذ طابع الدرس المقارن بين الشرق والغرب، رغم تصنيفه للعرب بأنهم بين البربرية والتحضر، حيث يُعطي الجزيرة العربية الوصف الأول، ويُعطي مصر والهلال الخصيب الطابع الثاني، مدركاً الفروقَ بين مستويات التطور العربي، وتقوم الرحلةُ بعرض الفروق بين تحضر مصر والعرب وتحضر أوروبا وقتذاك.

  إن بؤرةَ العرضِ السياحي تقعُ في مسألة النهضة من خلال شروطها الفردية غير الاجتماعية، أي أن النهضة مرتبطة بإرادة الحكام، ومن هنا يغيبُ تاريخُ مصر السابق، أي كل تلك التطورات التي أدت إلى مجيء محمد علي وتغيب الأزمة المحتدمة في الدولة العثمانية والمنطقة، وتغدو النهضة على طريقة قوله: (فمن هنا تفهم أن العلوم لا تنتشر في عصر إلا بإعانة صاحب الدولة لأهله ، وفي الأمثال الحكيمة: (الناس على دين ملوكهم)، (السابق).

  ولهذا فإن الطهطاوي يضيفُ بأن المتولي على بلاد مصر أراد أن يُرجع (إليها شبابها القديم، ويُحيي رونقها الرميم)، فهذه الإرادة الفردية المطلقة هي التي تصنعُ النهضة، عبر إحضار (أرباب الفنون البارعة، والصنائع النافعة، من الإفرنج ، ويغدق عليهم فائض نعمته) وهو أمرٌ صحيح من الناحية التاريخية فدور محمد علي كان قيادياً أساسياً.

  ولا يقيمُ الطهطاوي هنا قراءةً لطبيعة هذه المهن والصناعات وعلاقاتها بالبناء الاجتماعي، حيث هي مرتبطةٌ بالجوانب العسكرية وبتقويةِ نفوذ الدولة وشرائحها المتنفذة، ولا علاقة هذه الجوانب النهضوية المفيدة حقاً بالبنية الاقتصادية العامة، ولكنه يأخذها كأقوالٍ عامة وجمل إنشائية، كقوله: (وبالجملة والتفصيل، فإن الوالي آماله دائماً متعلقة بالعمار، ومن الحكم المعروفة العمارة كالحياة، والخراب كالموت، وبناء كل إنسان على همته)، (السابق).

  لكنه بطبيعة الحال يلمحُ طابعَ النهضة الراهنة في مصر حينئذٍ فيرى (ترتيب العساكر الجهادية من «الآيات» ومدارس حربية)، وبالتأكيد فإن مشروعَ محمد علي كان ذا طابع عسكري، وكان من الضرورةِ نمو العلوم الطبيعية والصناعية المختلفة، أي كل ما يسرعُ من نمو آلةِ الدولة الحربية، لكن إلى أي حد كان هذا الطابع يسمحُ بنمو الصناعة المستقلة وبالتالي يغيّبُ أو يضعفُ من هيمنةِ الدولة الإقطاعية العسكرية، فإن ذلك يبدو غير مرئي في وعي الطهطاوي وهو يشاركُ في هذه العملية التاريخية. وتسمحُ هذه العمليةُ التاريخية من جهةٍ أخرى (بنشر العلوم والفنون الآتية.. وبكثرة تداولها، وترجمة كتبها وطبعها في مطابع ولي النعم). والمقصود بالفنون هنا هي العلوم الفنية، والتقنيات المختلفة، وكل ذلك يجري في أفق الوالي ومطابعه، لكنها تحدث نهضة واسعة لم تكن ممكنة بوسائل أخرى.

  تتوارى أسبابُ انهيار الحضارة العربية وأسبابُ تشكلِ الحضارة الغربية في وعي الطهطاوي، فهو يربطُ الحضارةَ العربية وتشكلها في إحدى طرائفه بالرحلات، فهو يعتقد إن النهضة وليدة نشاط الناس التنقلي ورحلاتهم فيقول: (ثم لما خمدت عندهم أنوار هذه المعارف وأهملوها، ازدارءً لها، أو لسبب آخر، قلت سياحاتهم، وقام مقامهم طوائف الإفرنج وبرعوا في ذلك، واستفادت الدولة والرعية الفوائد الجسيمة، بالأمور السياسية والتجارية). إن ملاحظته حول أهمية الرحلات في تحريك الحضارة قد استقاها من عصر الكشوف الجغرافية الغربي الذي لعب دوراً بارزاً في الانتقال من عصر النهضة الثقافي والتنويري إلى عصر الثورة الصناعية، وعبره تدفقت المواردُ الذهبية والمعادن إلى أوروبا واتسعت الأسواق، ولكن الطهطاوي يأخذ ذلك الجانب الجغرافي مفصولاً عن البناء الاقتصادي والتاريخي والثقافي العام، ولعله يتخيل إنه عبر رحلته إلى فرنسا التي يكتبُ عنها في كتابه هذا، سوف تحدث ذات العملية النهضوية العميقة التي حدثت في أوروبا، وخاصةً مع المظاهر التي لاحظها من ازدهار التجارة والعمارة في مصر، بعد تصدي الحاكم لإحياء المعارف وهو جانب وحيد. تعرقلُ عمليةَ البحث هذه طريقةُ الكتابة لدى الطهطاوي التي تتسمُ بالتفكك والتجميع بين أساليب شتى متضادة، فهناك الدرسُ والملاحظاتُ العلمية وإدخالُ الطرائفِ و الملُح والأشعار، وهي عمليةٌ تعبرُ عن تغييب الحفر المعرفي في المادة، وبالتالي تغيبُ عملياتُ التحليل والمقارنات والاستنتاجات العميقة.

    يقول رضوان السيد في تعليقه حول طريقة النهضويين الأوائل في عرض مشاهدات الترحال والكتابة:
(إن هذا الأمر كان معروفاً بين المعاصرين للطهطاوي، أي الاستطراد، وإدخال الأخبار والأمثال والأشعار في المؤلفات أياً تكن موضوعاتها…) لكن الطهطاوي مضى في ذلك إلى آفاق أبعد من هؤلاء جميعاً؛ بحيث تضيعُ أحياناً معالم الموضوعات التي يعقدُ عليها الكتاب في سيل لا ينقطع من الاستشهادات والاستطرادات التي تكاد لا تنتهي.)، (حضور التراث في كتابات الطهطاوي، مجلة الاجتهاد العدد 55).
وفي الواقع فإن طريقةَ الأزهريين في البحثِ هي طريقةُ التراثيين التجميعيين، والذين تنقصهم أدواتُ التحليل المركبة، أي أدوات العلوم الحديثة المترابطة، وبالتالي يغدو الموضوعُ رحلةً على مستويات مختلفة، رحلة إلى التراث والشعر وإلى فرنسا وعاداتها الطريفة وأوضاعها السياسية والحضارية المتقدمة.
أما عمليةُ الربط بين الأوضاع العربية السابقة والراهنة والرحلة، فهي أمرٌ غيرُ ممكنٍ بأدواتِ التعبير والتفسير المسيطرة وقتذاك، والتي تعكسُ طريقة في التفكير والمواقف الاجتماعية، حيث الموظف، سواء كان مثقفاً على طريقة الطهطاوي أم رئيساً للرحلة، خادماً للسيد المتواري، وهو الدولة ومع هذا كانت هذه المعلومات المنقولة وقتذاك تعتبر ثورةً للوعي!
ويقول رضوان السيد بأن طريقة التأليف هذه هي: (للتأكيد على البقاء في السياق الثقافي الكلاسيكي العربي والإسلامي، واجتراح التقدم في الوقت نفسه)، ولكنها في الحقيقة ليست مثل كل كتابات المؤلفين العرب الكلاسيكيين، أي هي بخلاف كتابة ابن خلدون التحليلية العميقة في المقدمة، فهي أقرب لكتابات الجاحظ، فهي عودة لبواكير الكتابة العربية النثرية.
إنها لغةُ المثقفين المرتبطين بسلطةٍ نهضوية مستبدة، والتي لم تتكشفْ تناقضاتها الاجتماعية والسياسية بعدُ، والتي تمسُ رؤوسَ الموضوعات الكبيرة بشكلٍ عابر، وهذه الطريقةُ تسمحُ لها بمدحِ الدكتاتور النهضوي وبجلب الموديل الغربي في جوانبه غير المضادة للشريعة.
إن الطهطاوي في رحلتهِ التي استغرقت عدة شهور براً وبحراً إلى عاصمة فرنسا، باريس، كان يقطعُ مسافةً زمانية تاريخية كبرى بين عصرين، وهو إذ يأخذُ تبدلَ أوجهَ المكانِ، لا يأخذُ سيرورةَ الزمان، وكأن الفروقَ بين القاهرة وباريس، هي فروقٌ كمية، وإنها بضعة ميزات سياسية واقتصادية من الممكن نقلها، وليس الأمر في وجودِ بنيتين اجتماعيتين مختلفتين.
ومن هنا يقومُ بعرضِ كلِ ما يصادفه من مظاهر الحياة في إيطاليا وفرنسا، من الأشجار والبراكين وطريقة الأكل والأدوية والتعليم والمدن والحياة السياسية، فتغدو الفصولُ مشاهدات، وليس مقارنات وتحليلات، ومن هنا يقومُ بعرضِ الدستور والبرلمان والحكومة كما يعرضُ قضايا الصيدلة والنظافة لكن كانت هذه هي الإطلالة الأولى للفكر الديمقراطي!
من الواضح إن هذا العرضَ بحدِ ذاته كان يمثلُ عاصفةً للوعي العربي، فهو يقدمُ للمرة الأولى خريطةَ التمدن الشاملة في أوروبا. ويتيحُ له هذا العرضُ المحايدُ البانورامي عدم الدخول في صراع مع السلطتين المهيمنتين: الدولة ورجال الدين. ولا شك إن أي عرضٍ تحليلي ومعمقٍ للديمقراطية على مستوى السلطتين السياسية والروحية، ما كان بإمكانه الظهور.
كان الطهطاوي ينسابُ مع المهمات البسيطة والصغيرة للتمدن، ولا يحفرُ في اتجاهٍ تحويلي عميقٍ، ولهذا قامَ عرضُهُ للبرلمان والدستور والديمقراطية والصراع السياسي بشكلِ أحد فصول الكتاب، لا أن يكون محور الرحلة وجوهرها ولم يكن قادراً على عرض ذلك.
ويقيّمُ الطهطاوي بإيجابية دورَ البرلمان المنتخب الفرنسي، والذي كان محاطاً بسلسلةٍ من السلطات التي تفرغُ دوره فهو يقول عنه:(ووظيفة ديوان رسل العمالات غير متوارثة، ووظيفته امتحان القوانين والسياسات والأوامر والتدبير والبحث عن إيراد الدولة ومدخولها الخ..)، وهذا التحجيم للبرلمان والذي مارسته المَلكية الفرنسية العائدة بعد هزيمة الثورة الفرنسية، لا يقوم الطهطاوي بتشريحه، فهناك عشرات الدواوين الملكية والحكومية ومجلس الأعيان الخ والتي حصرت دورَ البرلمان في مناقشة قضايا الصرف والمكوس على حد تعبير الرحالة العربي.
ولكن الكاتب بعدئذٍ يذكر المواد الدستورية التي تــُفرغ ذلك المجلس من سلطته التشريعية الحاسمة، فالملك هو الذي يستطيع أن(يبطل ديوان رسل العمالات)، أي البرلمان، ولا يسنُ شيئاً إلا إذا (رضي به الملك).
ويدرك الطهطاوي في خاتمة المطاف أن العدل (في قطر من الأقطار فهو نسبي إضافي لا عدل كلي حقيقي)، (تلخيص الإبريز).
لقد قامت المَلكيةُ العائدة في فرنسا بعد هزيمة نابليون بإعادة النظر في الدور المحوري للبرلمان، والذي تعرضَ للتقلصِ في المرحلة الإمبراطورية كذلك، وفي فترة سفر الطهطاوي لم تحلُ بعد ثورةُ 1830 التي أعادت الحياةَ الديمقراطية بشكلها الأول.
وبطبيعة الحال كان هذا المستوى من التطور الفرنسي مناسباً للدولة المصرية الملكية التي يغيبُ عنها البرلمان، وبهذا كان نموذجها الذي يسوقه الطهطاوي مفيداً لمرحلته وعصره. فهو قادمٌ من ملكيةٍ دكتاتورية إلى ملكية دستورية محدودة. ولكن الأهم هو السياق الحضاري الحديث بمختلف جوانبه الذي يعرضه عرضاً يبدو محايداً.
كان نموذجُ النهضة الذي يقدمه الطهطاوي في رحلته وفكره هو هذا النظام البرلماني المحدود والحديث، مقطوع الصلات بالتحليل التاريخي والسياسي، ومطروح كنموذج للنهضة والتقدم لأمةٍ تبدأُ في الوعي والتفتح.
بعد نمو الفئات المصرية الوسطى والعمالية وقيام ثورة 1919، فإن دخول مؤثرات الثورة الفرنسية يغدو أكبر، إن مفكرين وكتاباً عديدين يقارنون بين البلدين، ويدرسون العالم الثقافي الاجتماعي لكل منهما، وتغدو منجزات التطور الفرنسي الديمقراطي خاصة البرجوازي منه ركيزةً للتحليل، وهذا إسماعيل مظهر يقوم بنقدِ الثقافةِ العربية الدينية بإعتبارها معرقلةً التطور، ويقوم بنقد جمال الدين الإفغاني الذي يعتبرهُ إنه لم يقم بدور هام حيث المطلوب ليس تكريس الوعي الديني المحافظ بل نقد وإجراء علمنة فكرية سياسية.
في مقالته (أسلوب الفكر العلمي: نشوءه وتطوره في مصر خلال نصف قرن), (قضية الفلسفة) يعرض إسماعيل مظهر وجهة نظره في النهضة العربية الإسلامية في المنطقة عامة ومصر خاصة، وهو يوجه نقداً شديداً إلى جمال الدين الأفغاني فيقول:
(تعلم السيد جمال الدين الأفغاني منتحياً الأساليب العملية العتيقة التي عكف عليها العربُ منذ القرون الوسطى، فهو بذلك صورةٌ مصغرة أو مكبرة لعصر من العصور البائدة في تاريخ الفكر الإنساني. وهو بنزعته السياسية أشبه الأشياء في عصره بالحفريات التي تعيشُ بيننا بجثمانها وأن رجعت بتاريخها إلى أبعد العصور إيغالاً من أحشاء الزمن).
إن إختلاف الإفغاني عن الرجعيين الدينيين وقيامه بطرح أفكار إصلاحية هامة لا يُؤخذ بعين الإعتبار لدى مظهر، فهو يريد منه دوراً إصلاحياً غير ديني، وأن يتم التخلي عن الثقافة الدينية المحافظة كلياً.
وينتقل إسماعيل مظهر من النقد العنيف للأفغاني إلى النقد العنيف لكل ما أنتجه العربُ فهو في رأيه غير جدير بالحياة فيقول:
(ذاعت بينهم مذاهب فلسفية نقلها المترجمون)، (ولكنك لا تجد عندهم مدارس فلسفية يــُنسبُ إليهم ابتكارها. فليس لهم مدرسة تــُعزى إلى الفارابي أو ابن رشد أو ابن سينا مثلاً)، (وفي الواقع لديهم مدارس مثالية غيبية وفيها جوانب واقعية ولها تطورات ومستويات مختلفة ولا تُؤخذ بتعميم واحد:ع.خ).
ويواصل مظهر حديثه قائلا:
(هذه العقليةُ بذاتها هي التي ورثها السيد الأفغاني عن العرب. عقليةٌ وقفت عند حد الأسلوب الغيبي لم تتعده وتنكبت كل سبيل كان من الممكن أن يسلم بها إلى الأسلوب اليقيني).
يقيم مظهر رؤيةً مثالية فكرية نقدية مناقضة لكل المبنى الديني سواءً عند المسلمين أو عند غيرهم، فهو مبنى انتهى زمنه وتحول إلى ثقافة تجاوزتها مراحلُ التطور. ولم تعرف ما يسميه كذلك (الفكر اليقيني)، وكلا التسميتين ترجعان إلى مصطلحات فرنسية مأخوذة من مدرسة معينة، يقول إسماعيل مظهر:
(إذا كان ناموس جاذبية الثقل أعظم استكشاف وصل إليه العقلُ البشري في عالم الكون والفساد, فإن قانون( الدرجات الثلاث) الذي كشف عنه الفيلسوف الكبير (أوغست كونت) لأكبر اكتشاف وصل إليه العقل البشري في الطبيعة الإنسانية. وإن متابعتنا لشرح هذا القانون لهي النواة التي تدورُ حولها أبحاثنا), (قضية الفلسفة).
يجعلُ إسماعيل مظهر بؤرةَ التطور النهضوي في ابتكارِ النظريات العلمية فهو يبتدئ التاريخ الأوروبي بنظرية الجاذبية، ثم بالوضعية الاجتماعية، والمصطلحات التي يستخدمها هي مصطلحاتٌ مستعارةٌ من هذه المدرسة الأوروبية الأخيرة التي قسمت التاريخَ الإنساني بشكلِ مراحل معرفية، فهو يعتبر بأن هناك( قانونا ضروريا يخضع له العقل)، ولهذا فإن كلَ مدركاتنا وفروع معرفتنا وتجاربنا التاريخية لا بد أن تمر بالمراحل الثلاث:
(الأولى اللاهوتية أو التصويرية التخيلية، والثانية الميتافيزيقية الغيبية، أو المجردة، والثالثة اليقينية الإثباتية أو الواقعة).
ويقومُ بتفسيرِ تعدد هذه المراحل بشكل يعود للعقل نفسه، فيقول:
(أن العقل الإنساني فيه بطبيعته كفاءة لأن ينتحي ثلاثَ طرق مختلفة للتأمل من حقائق الأشياء وطبيعته في كل من تلك الطرق تختلف عن الأخرى تمام الاختلاف، بل لا نبالغ إذا قلنا إنها تتضاد تمام التضاد)، (أما الأسلوب الأول فخطوة ضرورية يبدأ بها العقل في سبيل تفهم الحقائق أو البحث عن مصادرها، وأما الأسلوب الثالث فهو يمثل العقل في آخر حالات ارتكازه على الحقائق البارزة الملموسة. وليس الأسلوب الثاني إلا خطوة انتقالية تتوسط بين الأسلوبين).
يقومُ إسماعيل مظهر عبر هذا المنهجِ بإدخالِ العرب والمسلمين في المرحلة الثانية من منهجه طبقاً للمخطط التاريخي المعرفي الذي قال به أوجست كونت، وهو مخطط لأنه يشمل الإنسانية جمعاء, فيضع لها مراحلَ معينةً، كذلك فإنه مخططٌ معرفي لكونه يتعلقُ بالعقل، وبطرقِ التفكير التي سادت حسب قوله هذه المراحل، ووسمت كلَ مرحلةٍ بطابعٍ خاص من التفكير الذي يختلف عن سابقه.
إن العقلَ هنا منفصلٌ عن بنائه الاجتماعي الذي تكون فيه، بل أن العقلَ هو الذي يشكلُ المرحلةَ والتاريخ والبناء الاجتماعي.
هكذا بدلاً من إستمرار مصر في المرحلة الميتافيزيقية الغيبية اللاهوتية، التي يعكسها الدينان المسيحي والإسلامي، فيجب أن تخرج منها نحو الفكر اليقيني، وهو هنا فكر أوجست كونت والمدرسة الاجتماعية العلمانية.
إنه طرح ثقافي يسير لكن هل يتحقق وكيف؟
إن العقل في الدرجة اللاهوتية (يبحثُ في طبيعةِ الأشياء وحقائقها، وفي الأسباب الأولى والعلل الكاملة، يبحثُ في الأصل والماهية والقصد من كل الأشياء التي تقع تحت الحس. وعلى الجملة يبحثُ في (المعرفة المطلقة) وهناك يفرض أو يسلم بأن كل الظواهر الطبيعية ترجع إلى الفعل المباشر الصادر عن كائنات تختفي وراء الطبيعة المرئية). ولهذا فإن الدينيين ينقلون أسلوبهم الغيبي غير المنطقي إلى الظاهرات الحياتية والسياسية بدلاً من الفصل بينها، ولهذا يجب على حد قوله أن يُرفض مبناهم الفكري جملة وتفصيلاً غيباً وواقعاً.
إنها علمانية ساحقة فهي لا تفصل بين الأديان والسياسة بل تريد إزاحة الأديان من الحياة الفكرية الاجتماعية عامة على الأسلوب الفرنسي الثوري في الهجوم على الكنيسة، وهي خطوة غير دقيقة، ولا تجد صدى لها في الواقع المصري والعربي المحافظ.
قيام مظهر بنقل مدرسة أوجست كونت ليس فيه تحليلات للتطور الديني في المنطقة العربية وتناقضاته المتعددة وقراءة مساره التاريخي ومستوياته، بل هو يعمم سماته ويضعه في خانة مرحلة تاريخية متخلفة من تطور الوعي البشري حيث لا بد أن ينتقل الوعي للمرحلة العلمية، ويمثل ذلك نقلة نوعية للوعي المصري لكنها تبقى نقلة فردية وصرخة في الصحراء.
النقلةُ الكبرى التي يريدها إسماعيل مظهر بإزاحة الوعي الديني باعتباره يرجع لوضع تجاوزته البشرية ينطبق على الأقسام العلمانية السياسية الفرنسية والأوروبية غير أنه لا ينطبق على مناطق في العالم الثالث، وقد قامت فرنسا بسبب تطورها الصناعي السياسي وصراعها مع الكنيسة الإقطاعية بطرح ذلك، رغم أن البرجوازية تصالحت بعدئذٍ مع الدين وكرستْ حضوره من أجل تهدئة الصراع الاجتماعي وتحريف وعي العمال. لكن مظهر يقتبس زمنية الثورة لا زمنية الارتداد، خاصة أن الثقافة الدينية الإقطاعية السائدة كانت مهيمنة بدون تنوير أو ثقافة دينية مختلفة.
إن العقل المجرد الذي ينقل ريادته إسماعيل مظهر هو عقل متداخل وليس هو العصا التي تسوق الماشية البشرية نحو المراعي الخضراء، بل هو عملياتٌ فكريةٌ مركبة معقدة ، يتداخلُ فيها اللاعقلُ والعقل، فهناك في المراحل الدينية دينيون عقلانيون نسبيون يرفضون الخرافةَ الواسعة، لكن ذلك ليس مطلقاً ويعتمد التطور العقلاني على الظروف المادية خاصة الصناعة وهو أمرٌ كان محدوداً في مصر، فحتى الزمن الراهن لا تزال القرية الزراعية مهيمنةً والصناعات الصغيرة (ستة عمال إلى عشرة في المنشأة الواحدة) هي السائدة.
ومن هنا فإن إسماعيل مظهر يقومُ بإحضارِ لوحةٍ تقنيةٍ أوروبية، ويقومُ بتركيبها على الجسمِ العربي الإسلامي المسيحي الممدد فوق طاولة التشريح، فهو يرى أن هذا الجسم قد عبر المرحلة اللاهوتية السحرية ولكنه لايزال في المرحلة الميتافيزيقية الغيبية، ولكنه بعد لم ينتقل إلى المرحلة الثالثة اليقينية (العلمية) فإذن لابد من قطع هذا الجزء من الجسم وإدخاله إلى المرحلة الثالثة .
وإذا كان هذا صحيحاً فليس ثمة دراسة لهذا الجسم، أي لا توجد قراءة للمرحلتين السابقتين وكيف تجسدتا وتداخلتا وأسباب تشكلهما وبقائهما الخ.
فهو ينطلق من تكامل ونظافة المرحلة الثالثة التي تشكلت أوروبياً لكي يضع شعاراتها فوق الجسد العربي – الإسلامي – المسيحي، القديم والحديث، دون أن يقومَ بقراءة عبر هذه الشعارات نفسها لذلك الجسد بأن يبين متى وكيف بدأت المرحلة السحرية ومتى وكيف بدأت المرحلة الدينية، أي أن يدرسَ الحضارات القديمة في المنطقة ثم الوسيطة، وبالتالي يصلُ إلى الأسباب التي أعاقت هذه المرحلة الدينية الأخيرة من الانتقال إلى المرحلة (اليقينية)، أي إلى المرحلة الرأسمالية الصناعية المعاصرة لزمنه.
إن مصطلح (اليقينية) سيُعرف عند تيارات أخرى لاحقة بأسماء أخرى تقلل من طابعه الغيبي الميتافيزيقي ليغدو أقرب إلى الرؤية التقنية المستعارة من الثقافة الغربية، فيصيرُ التحليلُ اللغوي التجريبي، أو البنيوية، وغير ذلك من تسميات، تنقلُ آخر منجزات التقنية الفكرية الغربية، وتضعها في أدوات بحثها.
وإذا كان إسماعيل مظهر يمر بسرعة شديدة على خمسة قرون من التحولات النهضوية العربية بتضاداتها المختلفة، فإنه يقف وقوفاً مماثلاً عند نهضة مصر الحديثة بقيادة البرجوازية، دامغاً إياها بالعقم.
فهو يصف ثورة 1919 المصرية بأنها (لم تمس من الحياة الكامنة في الأمة شيئاً) وهو يقصد هنا إزالة طابع الوعي الديني المهيمن، فهو يقارنها بالثورة الفرنسية الكبرى التي قامت على جهود الموسوعيين والفلاسفة الاجتماعيين) بل على مجهود سلسلة من العظماء، تعهدوا الفكر الكامن في طبقات الأمة المنتقاة منذ عهد ديكارت بتلك الفكرات الثابتة التي يذهب أثرُها إلى أبعد غور من أغوار الحياة الخفية في نفس الأفراد والجماعات).
لا يقومُ مظهر بعقدِ مقارناتٍ تحليليةٍ بين فرنسا منتجة المراحل الثلاث، وبين مصر التي استضافت جمال الدين الأفغاني. بين فرنسا التي تشكلُ العلمانيةَ وتضع أسساً لثورة تقنية واسعة، وبين مصر الغارقة في الإنتاج الزراعي وهيمنة الإقطاع وحيث يلعبُ الدينُ أداةَ الوعي الأساسية، لهذا تغدو التقنية المستعارة من فرنسا لديه، غير قادرةٍ على تحليل البناء الديني – السحري المصري الإسلامي المسيحي، حيث هي منتزعةٌ من بناها الاجتماعية، ثم هي تطبقُ بشعارية إلغائية بدلَ أن تغوصَ في تحليلِ البناءِ الخاص لديها ، لترى مستوياته المختلفة.
ورغم قوة حماسية آراء إسماعيل مظهر تبقى فردية لا تتحول لظاهرة واسعة ويتم تعميق درسها، بل يتراجع العديد من التحديثيين عنها ويعودون لنقطٍ سابقة.
تصبح العلاقةُ بين الثورة الفرنسية والوعي المصري مركبةً وعميقة حين يتغلغل طه حسين فيها ويجسدها بشكل أكثر تطوراً، فهو يعبرُ عن خلاصة رؤية الفئات الوسطى الوفدية الحاملة لمشروع النهضة الشامل بين نضالِها وترددها.
حين قال طه حسين: أنا أشك إذن أنا موجود، كانت صيغةً أقل قوة من صيغة ديكارت: أنا أفكرُ إذن أنا موجود!
وطه حسين لم يعلنها صراحة بأنه موجود كأنا طبقية برجوازية تؤسسُّ عصرَ النهضة العربي الحديث، وشكوكيته هنا القادمة من عصر ديكارت والمتأثرة بخطاه، سارت إذن في المنهج العقلي، المتصف بالتجريب، والمعتمد على التحليل العقلي الصرف، بما يسود فيه من فضاء فكري مهيمن، ومتوجهاً إلى الأدب وهو ليس ميداناً حاسماً في المواجهة مع التراث المحافظ، حيث توجه ديكارت إلى الفلسفة والعلوم، وهما الميدانان الحاسمان في الصراع الفكري الحديث، ولهذا فإن طه حسين كان ذا عدة أدبية بدرجة أولى، لكن التأثيرات الفلسفية المضمرة كانت موجودة في هذا الأدب عبر تسرب التحليل الموضوعي للحياة.
إن عودة طه حسين إلى ديكارت، يؤكدهُ المسارُ العربي النهضوي البسيط، الذي لم تهزهُ الثورةُ الصناعية، وحين بدأت مصرُ الدخول فيه، عبرته من خلال الصناعات الاستهلاكية: السكر، والنسيج الخ.
ولم يكن لطه حسين علاقة بالمناهج التجريبية أو بالمادية التاريخية، وقد صارع بقوة المناهج الأزهرية المتخلفة في درس التراث، وكان هذا الصراع الفكري المنهجي هو الذي يؤسس نظرته إلى العالم.
بخلاف المفكرين المصريين الرافضين للبنية الدينية الإسلامية وعدم الدخول في عرضها وتحليلها كإسماعيل مظهر توجه طه حسين للعروض المتعددة عن التراث العربي بغرض تحليله ونقده وتحديثه.
وقد بينت معركةُ كتاب (في الشعر الجاهلي) طابع منهجية أنا أفكر المصرية التي أنتجها طه حسين.
وفي وقت صدور الدراسة اتخذت القوى السياسية المصرية المتصارعة الكتاب القنبلة – والذي لم يهتم الرأي العام فيه إلا بجملٍ صغيرة تشكك في بعض النبوات، والتي حُذفت في الطبعات التالية- اتخذت من الكتاب أداةً لتسوية حساباتها السياسية.
فخطةُ القصر الملكي والاستعمار البريطاني بتقوية الجماعات الدينية المذهبية واضعاف حزب الوفد، اصطادت الكتاب وحرضت الجماعات المتعصبة فما كان من حزب الوفد إلا أن هاجم المؤلف (الموتور)، وبهذا دخل حزب البورجوازية المصرية في سلسلة الدفاع عن النظام الإقطاعي الديني، بدلاً من أن يقود معركةَ العلمانية والديمقراطية بعمق.
بينت معركةُ كتاب (الشعر الجاهلي) المعسكرات الاجتماعية والسياسية والتي ستدخل معركة التحديث العربية بتردداتها وإنجازاتها وهزائمها، وهو هيكلٌ عامٌ اجتماعي واقتصادي لم يتغير نوعياً خلال القرن العشرين بل وربما ازداد ميلاً صوب المحافظين، بسبب اكتشاف الثروة النفطية في المناطق الأقل تطوراً من العالم العربي واستخدامها في نشر المحافظة الدينية.
فطه حسين بتقديمه هذه اللوحة التشكيكية في التراث العربي الجاهلي، انطلق من أسئلة موضوعية بدون قراءة مادية تاريخية للعصر المدروس، بل من جانب رؤية مُسبّقة في اعتماد منهج الشك، ورفض المادة الوفيرة التي تؤكد صحة نسبة كبيرة من هذا الشعر إلى عصره. لكن الأهم في كل ذلك هو اعتماد الدراسة على جوانب فكرية مفصولة عن سياقها التاريخي في الماضي والحاضر، وبالتالي عدم تلاقح مذهب الشك مع أدوات البحث التاريخي الموضوعية خاصة المادية التاريخية، واكتشاف سياق التطور العربي أي أن الأدب الجاهلي كان يعكس جذور دور فئات وسطى كانت تعيد تشكيل مجتمع مفكك قبلي، يدخل العصر التحول المدني.
أي أن الفئات البرجوازية المصرية التي دخلت العصر الحديث كمثيلتها القرشية المكية، دخلته وهي تابعة للبرجوازية البريطانية، ومتداخلة مع الإقطاع السياسي الملكي الحاكم والديني، فلم تستطع أن توسع صرخة ديكارت: أنا أفكر إذن أنا موجود كالبرجوازية الفرنسية.
إن الفئات الوسطى المصرية كانت كلمتها في الواقع: أنا استورد واصدر، وليس أنا أصنع فأنا موجود، فكانت معامل التجريب نادرة، وكان الفكر العقلي الذي تنتجه طالعاً تواً من الأزهر، فلم يستطع أن يقرأ حاجاتها الموضوعية، وأن يقود معركتها التحديثية.
إن اقتراب طه حسين من الفكر الفلسفي نجده في الصفحات الأولى من كتابه: (مستقبلُ الثقافةِ في مصر) الذي يقدمُ فيه خطةً عامة لتغييرِ نظام التعليم في مصر، والجمعُ بين هذا الفكرِ النظري العام وقضيةِ التعليم تحديداً، هو قمةُ عمل النهضويين )العلمانيين)، الذين اقتصروا على البثِ الثقافي وليس العمل السياسي والاجتماعي المباشر، حيث صعّد طه حسين تدريجياً التنويرَ الأدبي ليغدو نضالاً سياسياً تبلور عند التعليم، وذلك بسبب تصور التنويريين المثالي عموماً بكونِ الثقافةِ هي أداةُ تغيير التخلف، لكن هذه الثقافة مصاغةٌ داخل آليات بنية الإقطاع المذهبي وليس لاجتثاث هذه البــُنية مما يؤدي بهذه الثقافة نفسها أن تكرس تلك البنية لا أن تهدمها كما كانوا يتصورون.
إن منطلقات عميدِ الأدب طه حسين شبهِ الفلسفية في مقدمة كتاب(مستقبل الثقافة في مصر) تتطابقُ وخطته لتغيير التعليم في مصر التي أعلنها في هذا الكتاب سنة 1938 ثم طبق أساسياتها حين صار وزيراً للتعليم في حكومة الوفد بعد ذلك.
وفي هذه المنطلقات تغدو مسألة (العقل) بؤرةً مركزية، يقول:
(إن العقل المصري منذ عصوره الأولى عقل إن تأثر بشيء فإنما يتأثر بالبحر الأبيض المتوسط).
ومن هنا فهو يجعلُ العقلَ المصري (أوروبياً) قبل أن تظهر أوروبا الرأسمالية الحديثة، لكن عبر نموذجها الأولي المتمثل في حضارة اليونان، التي قام العقلُ المصري نفسه بتغذيتها بالعلوم والفنون، ولكن هذه التغذيةَ الثقافية تظهرُ في شريط طه حسين التاريخي بلا سببيات وبشكلٍ مجردٍ، ولكنه وهو في هذا التجريد يستدركُ قائلاً إنه من الحق(أن نعترف بأن مصر لم تنفرد بالتأثير في حياة اليونان، ولا في تكوين الحضارة اليونانية والعقل اليوناني، وإنما شاركتها أممٌ أخرى، كان لها حظ موفور من الحضارة والرقي).
إن العقلَ الحضاري إذن هو من نصيبِ جماعاتٍ تعيشُ على ضفافِ البحر الأبيض المتوسط، وكأن في هذا البحر خصائصَ سحريةً تعطيه قدرةَ جعل الشعوب العائشة على ضفافه أن يكونَ لها عقلٌ وحضارة، لا أن هذه الحضارات نتاج أساليب الإنتاج المتقدمة والمتباينة فيما بينها، ولهذا فإن طه حسين لا يعرضُ أسبابَ الديمقراطية اليونانية وانتفاء هذه الديمقراطية من أساليب الحكم الشرقية، ولا مظاهر كون الثقافة اليونانية متعددة من مادية ودينية في حين كان الشرق دينياً شمولياً، ولهذا فإن ميزات هذا العقل المصري أو الشرقي الحضاري عامةً، الشمولي الديني تطابقُ بالعقلِ اليوناني المتعدد الأفكار، وهو أمرٌ يقودُ إلى إخفاءِ التباين العميق بين الثقافة في ظل أنظمة العبودية العامة كما في مصر والعراق والشام، التي سادتها الأديانُ الحكوميةُ المستبدة، وبين اليونان التي عرفت الاتجاهات الفلسفيةَ المادية المتنوعة ثم الاتجاهات المثاليةَ المتعددة بعد ذلك، بسبب تعدديةِ المدن والسلطات وظهور برجوازية حرة ثم تدهورها فيما بعد.
وخلافاً لرأي طه حسين البحري فإن ظهورَ العقل الديمقراطي في اليونان نتاجُ تطور الصناعات والتجارة الحرة غير المحكومة بإدارة الدولة، وهي الظروف التي أتاحت التعليم الحر والثقافة الحرة، بعكس ما فعلته المنشآتُ التعليمية الكهنوتية المصرية والعراقية والشامية إلخ.
إن فصلَ طه حسين العقلَ المصري عن منطقتهِ العربية – الإسلامية – المسيحية الشرقية وتعليقه في فضاءٍ جغرافي لا تاريخي، أي وضعَهُ داخلَ إطار ما أسماه (أسرة الشعوب التي عاشت حول بحر الروم)، يستهدفُ غايات تحويلية شمولية تحديثية، أي بمعنى أن عمليةَ الفصلِ هذه التي تــُشكَّل بمنهجيةٍ لا تاريخية تجريدية، تسحبُ مصرَ من سيرورةِ تكونها الاجتماعية التاريخية الموضوعية الحقيقية، وتعلقها في وعي مُسقطٍ على التاريخ وهو وعيٌ شموليٌ إداري حكومي، وليس بمنهجية ديمقراطية شعبية، فتقومُ هذه المنهجيةُ بفصلها عن تكوينها الحقيقي، وتوجدُ لها رابطةً موهومة، هي رابطةٌ إيديولوجية مُسقطة من مثقفٍ تنويري يستهدفُ غايةً جيدة لكن بشروطِ وعي غير علمية.
ومن هنا يهاجمُ الشكلَ العادي الموضوعي المبسَّط من الوعي العام مصراً على قطعهِ لمصرَ عن نسيجِها العربي الإسلامي المسيحي الشرقي: (فأما المصريون أنفسهم فيرون أنهم شرقيون، وهم لا يفهمون من الشرق معناه الجغرافي اليسير وحده، بل معناه العقلي والثقافي).
إن طه حسين وهو يستهدفُ غايةً نبيلةً وهي ربطُ مصر بأوروبا النهضوية الحديثة يستخدمُ منهجاً أيديولوجياً يعدل فيه أسسَ التاريخ ويشكلُ تاريخه الأيديولوجي الخاصَ الموظفَ لخدمةِ تلك الغاية السابقة الذكر.
يقول: (ومن المحقق أن تطور الحياة الإنسانية قد قضى منذ عهد بعيد بأن وحدة الدين، ووحدة اللغة، لا تصلحان أساساً للوحدة السياسية ولا قواماً لتكوين الدول) ويضيف: (فالمسلمون أنفسهم منذ عهد بعيد قد عدلوا عن اتخاذ الوحدة الدينية واللغوية أساساً للملك وقواماً للدولة).
إن طه حسين هنا يرفض بديهيات التاريخ، فعلى العكس كانت الوحدةُ الدينية- اللغوية أساسَ تكونِ الدول القديمة، فالإمبراطوريةُ الإسلامية قامتْ على تلك الوحدة المزدوجة، وكانت تلك الوحدة في بدايتها عملية نهضوية واسعة، وبهذا فإن الإسلامَ واللغةَ العربية وضعا أساسين لتشكلِ ولنهضةِ أممٍ متعددة، ولكن نظراً إلى سيطرةِ طبقةٍ استغلالية في مركز هذه الإمبراطورية ورفضها عمليات الإصلاح من قبل الفئات الوسطى المدنية، فإن هذه الإمبراطوريةَ تفككت، وبالتالي بدأت اللغاتُ القوميةُ في الظهور وإزاحة اللغةِ العربية في بعض الأقطار، في حين احتفظت أقطارٌ أخرى بهذين الأساسين، فيما عُرف بالدول العربية الإسلامية. وظل هذان الأساسان فيها، حتى حاولت الإمبراطوريةُ التركيةُ تغييرَ الأساس اللغوي العربي لحضارةِ المنطقة فلم تستطع.
والغريب في منطق طه حسين أنه ينقلبُ عن هذا الرأي حين يمنهجُ التعليمَ في مصر معتبراً الإسلامَ واللغة العربيةَ أساس هذه المناهج التربوية حتى في المدارس الأجنبية!
وفي رؤية طه حسين هنا نقرأ تعميمات تجريدية خاصة في تعبيري (الدين) و(اللغة)، فالدين، الإسلام، لم يعدْ هو أساس وحدة الإمبراطورية الإسلامية أو الدولة الإسلامية، بل المذهب، فالأساسُ الإسلامي العام التوحيدي زال، وغدت الدولةُ مذهبيةً، والمذهبُ الديني الموظفُ حكومياً صار أداةَ السيطرة للطبقة الإقطاعية، مُفرغـاً من طابعهِ الإصلاحي ومحوَّلاً إلى أشكالٍ مُفرَّغةٍ من دلالاتها الشعبية النهضوية الأولى.
ولهذا فطه حسين بعد أن انتزعَ مصرَ من سياقها العربي الإسلامي وعلقها في فضاءِ بحرِ الروم حيث تنتمي إلى دائرة الأمم الأوروبية، عاد وأفرغ التاريخَ العربي الإسلامي من دلالاته الموضوعية وتطوره الحقيقي، يقول:
(فأما نحن فقد عصمنا الله من هذا المحظور ووقانا شروره التي شقيت بها أوروبا. فالإسلام لا يعرف الأكليروس ولا يميز طبقة رجال الدين من سائر الطبقات. والإسلام قد ارتفع من أن يجعل واسطة بين العبد وربه. فهذه السيئات التي جنتها أوروبا من دفاع رجال الدين عن سلطانهم لن نجنيها نحن إلا إذا أدخلنا على الإسلام ما ليس فيه وحملناه ما لا يحتمل).
إن هذه لغةً تجريدية لم تدرس المسار الفعلي لتطور الدولة العربية الإسلامية، فعبر تحول الدولة الإسلامية من دولة (شعبية)إلى دولة للأشراف تم إعادة تشكيل الوعي الديني المسيطر، وكذلك غُيرت طبيعة رجال الدين حيث قــُرب الموالون وصارت الأحكامُ تراعي دول الاستغلال، واضطهدَ المعارضون، ونـُحيت مسألة المُلكية العامة العائدة للمجتمع وتم تشكيل أشكال مذهبية معارضة متعددة، ولكن عموماً لم يستطع المدافعون عن الجمهور أن يشكلوا فقهاً مسيطراً، في حين سيطر الفقهُ الموالي لدول الاستغلال على تعدد أوجهها المذهبية.
وبهذا نشأ لدينا أكليروس من طبيعة مختلفة عن الأكليروس الأوربي، الذي كان وحده على السلطة في العصر الوسيط، في حين كان الأكليروس الديني لدينا مجردَ تابعٍ ومشاركٍ للسلطةِ السياسية، لكنه كان اكليروس كذلك!
لقد صارت السلطة دينيةً وصار المذهب سياسياً وكلاهما مشكل من قبل طبقات الأقلية الحاكمة، ولهذا فإن أوجه النهضة الفقهية والأدبية والفكرية المضيئة هي من إنتاج الفئات الوسطى التي حاولت أن تقاومَ ذلك التكريس المحافظ ولكنها لم تستطع أن تحيلها إلى ثقافة سائدة، وقامت قوى الأقلية بإعادة صهر النتاج الديني الثقافي ليصير على ما هو عليه في القرون الأخيرة من تكلس وتبعية للهيمنة الحكومية.
ولهذا فإن خلاصةَ طه حسين تبدو مضادةً للواقع: (فالمسلمون إذن قد فطنوا منذ عهد بعيد إلى أصل من أصول الحياة الحديثة، وهو: أن السياسة شيء والدين شيء آخر، وأن نظام الحكم وتكوين الدول إنما يقومان على المنافع العملية قبل أن يقوما على أي شيء آخر).
ولننتبه هنا إلى كلمة (أصل من أصول الحياة الحديثة) وهي كلمةٌ لم يصرح بها طه حسين وهي كلمة (العلمانية) أي فصل الدين عن السياسة، ولكن هذا الفصل لم يحدث إلا بشكلٍ جزئي، فالحكامُ كانوا سياسيين ولكنهم مذهبيون كذلك، أي أن سيطرتهم على المنافع العامة جعلتهم يسيسون الدين بشكل معين، إلا أن عملية الفصل الشاملة بإعطاء الإسلام حريته لم تحدث، وظلوا مهيمنين على إنتاج الدين وإنتاج الثروة معاً، واستمر ذلك حتى زمن طه حسين وهو يكتب كتابه.
إن كتاب (مستقبل الثقافة في مصر) الذي كتبه طه حسين هو محاولة لإنتاج عقل حديث، ولكنه يعجز عن إنتاج مثل هذا العقل، كما فعل ديكارت في فجر التحديث الأوروبي؛ فديكارت الذي توجه نحو الفلسفة أنتج معرفة لادينية، أي معرفة تفتحُ الطريق لنمو التجريبية الخالصة ولتحرير العلوم الطبيعية من أسر الكهنوت. في حين توجه طه حسين إلى الأدب، وشكل عقلاً مجرداً لا تاريخياً، كرس المحافظة الدينية الميهمنة على المناهج التربوية.يقول:
(ولا يخطر لأحدٍ من أشد الناس محافظةً أن يحظر درس بشار وأبي نواس ولا أن يطلب من السلطان تحريق ما ورثنا من آثار الفلاسفة والزنادقة الذين لا يرضى عنهم الدين..). ولكن هذا الذي يستبعده حدث بعد ذلك بسبب طبيعة المناهج والثقافة التقليدية المُكرسة!
فقدت الثورةُ الفرنسيةُ خطَها المتميز داخل الوعي المصري فلم يواصل العديد من المفكرين خطوطها المتكاملة من ديمقراطية وعلمانية، فهذان الجانبان تعرضا للبتر فغدت الحداثة الوطنية التي يحفرون لها بقوة غير مكتملة ومتناقضة ومضطربة.
ويمثل الناقد والباحث لويس عوض شخصية ليبرالية ونضالية على مدى عقود القرن العشرين المهمة عربياً (1914 – 1990) ويمثل إحدى حالات التفكك والالتباس.
كان مولده من أسرة مصرية مسيحية ريفية من الشرائح الوسطى، حيث كان الأب موظفاً وذا انتماء سياسي عاطفي بحزب الوفد، ووجه ابنه نحو الثقافة الإنجليزية. وقد استكمل الابنُ هذا المشوارَ عبر دخوله الجامعة واختياره الأدب الإنجليزي ميداناً لتخصصه، وكان معلموه هم أساتذة التنوير والليبرالية الفكرية (البرجوازية) كطه حسين وسلامة موسى، ومرة أخرى نرى الأدب كأداة اشتباك اجتماعية وليس الفلسفة والعلوم.
يعبر لويس عوض بشكل نموذجي عن المثقف الليبرالي الذي كرس نفسه لاستلهام الحداثة الأوروبية ونقل تأثيراتها إلى الشرق بشكل ثقافي عام ولم يحولها لعلم سياسي، وهو بهذا يشارك الرعيل الأول الذي خاض النضال الديمقراطي والوطني منذ بداية القرن العشرين، وأسس تجربة الوفد وتجلياتها السياسية والفكرية المختلفة المضطربة، وحاول البعض إصلاحها من دون نجاح.
لقد عمل لويس على نقل تأثيرات الديمقراطية العامة في الوعي والثقافة بشكل خاص، حيث كان معظم إنتاجه أدبياً، ثم توسع في ستينيات القرن 20 لقضايا تطور الفكر المصري ومسائل الاشتراكية وغيرها.
تظللت ليبراليته وخطه الفكري السياسي بنشأته في الطائفة القبطية، وأسرته المنتمية إلى الفئات الوسطى، والمحاطة بمجتمع إسلامي ريفي، تهيمن عليه العلاقات الإقطاعية الدينية، والتي غدت في وعي لويس عوض بأنها ممثلة الإسلام.
وبهذا غدت العائلة المسيحية، ومن ورائها العالم الغربي المسيحي، التحديثي، الرأسمالي، هو البديل لمجتمع شرقي ديني إقطاعي.
لم يكن الممكن في الوعي الليبرالي اليميني القيام بقراءة مادية تاريخية للشرق وللمسلمين ولهذا فإن لويس عوض يقدم قراءة دينية مسيحية للإسلام، وللعرب، قراءة تعتبر تاريخ الإقطاع هو تاريخ المسلمين، وليس نضال الفئات الوسطى العربية من أجل نظام تحديثي ديمقراطي.
إن البدائل هي الحداثة والعلمانية والديمقراطية الغربية، ولا بد في سبيل ذلك من إزاحة هذا المجتمع الديني واستبداله بمجتمع النهضة والحداثة كما يتصور.
تتكون هذه التناقضات المطلقة بين التكوين الشرقي الإسلامي غير العلماني وغير الديمقراطي، وبين التكوين الحديث الغربي المسيحي، من قضايا الاضطهاد التي واجهها المسيحيون في الريف المصري خاصة، يقول في مذكراته:
(كنت أسمع هذا الكلام نحو 1923 وأنا في الثامنة من عمري فحفر في وجداني وعقلي آثاراً عميقة وعمق وعيي السياسي للمسالة الطائفية في مصر وخارج مصر) ويضيف أن أسماء أسرته مشتقة من التوراة والإنجيل)، وهو رغم عقلانيته وعلمانيته يقول: إن بعض أفراد العوضية يحسون إحساساً عميقاً ليس فقط بفرعونيتهم ولكن أيضاً بأنهم من نسل ملوك مصر القديمة، وأنا شخصياً ورغم عقلانيتي الشديدة استسلم أحياناً لهذا الوهم)، (مذكراته).
إن هذا الصراع الذي يعبر عنه لويس عوض هو نتاج الصراع الاجتماعي الذي جرى في مصر، وخاصة في الريف، من توغل العرب وخاصة القبائل الرعوية، محمية من الأنظمة الاستبدادية للاستيلاء على أراضي الفلاحين الأقباط، وهو الصراع الذي اتخذ طابعاً دينياً، عبر الهجوم على الأقباط ومظاهر عبادتهم، ولجوء الأقباط إلى التمترس في دينهم، دفاعاً عن أرضهم ومصالحهم وتطورهم الروحي المستقل.
وإذا كانت المدنُ المصرية التي تنشأ ويختلط فيها المسلمون والأقباط، فإنها لا تغدو مدينة برجوازية حرة، تبعد الدين عن السلطة، فهي مدن إدارية للإقطاع المذهبي ولهذا فإن لويس عوض يحمل رفضاً لهذا المضمون العميق من الصراع، ولكنه يأخذ في وعيه الصراع بين الإسلام كدين للرعاة وبين الحداثة القادمة من الغرب المسيحي. إن العرب والبدو والإسلام تأخذ في وعيه طابعاً واحداً مطلقاً مثل وعي سلامة موسى، كما يأخذ الغرب والعلمانية والحداثة طابعاً مطلقاً آخر، وليس بالإمكان لقاء الجانبين.
إن لويس عوض يعبر عن هذه الفئات من الشرائح الوسطى المسيحية التي بدأت برفض الإقطاع الديني، القادم من بلاد العرب، وقد أخذت هذه الشرائحُ في بداية القرن العشرين تكّونُ مزيجاً مصرياً مشتركاً في علمانية غامضة الملامح الفكرية، والاجتماعية، ولهذا فإن التكوين الديني والقومي يبقى غامضاً في برنامج حزب الوفد، الذي لا يتغلغل في جذور هذه العلمانية، طارحاً فكرة القومية المصرية، أو الشخصية الفرعونية، وهي كلها محاولات أيديولوجية لتشكيل تحالف من شرائح الطبقة الوسطى مبهمة الملامح الفكرية السياسية.
إن الرعيل النهضوي التحديثي ذا المرجعية البرجوازية يتكون في هذا المناخ، وخاصة الجيل الذي أعقب ثورة 1919 والذي كان لويس عوض ونجيب محفوظ وغيرهما منه أقطابه، وليست روايات محفوظ وأعمال لويس عوض بعيدة عن أصدائه.
إن الوعي النهضوي الذي كرسه بعض المفكرين المصريين لا يشير إلى وجود نهضات عربية ما، وبالتالي لا يرى مراحل واتجاهات وطبقات في التاريخ والوعي العربي الإسلامي، ويحيل هذه التلاوين إلى وجود واحد هو الإقطاع الديني. إن اتجاه نجيب محفوظ ولويس عوض وسلامة موسى في التغييب الكلي للزمن العربي الإسلامي، سوف يقابله مستقبلاً الحضور الكلي للزمن العربي الإسلامي ممثلاً في العقاد وطه حسين وغيرهما وبأشكال محافظة.
إن الشرائح الوسطى المصرية في وصولها ومشاركتها في السلطة منذ العشرينيات، أخذت تفقدُ طابعها العلماني والتحديثي، وليس ذلك لأسباب فكرية محضة، بل لعوامل اقتصادية واجتماعية متنامية في صفوفها، حيث أخذ حزب الوفد يضم أكثر فأكثر شرائح من الطبقة الإقطاعية، وغدت طبقة الأعيان مؤثرة في قراراته وتراجعت فئات (الأفندية).
إن هذا انعكس على توجهات الوفد الذي تراجعت شعاراته العلمانية، وراح النفوذُ الديني يتغلغل إلى صفوفه.
لقد أصبحت المعركة لكسب أصوات المسلمين وهم الأكثرية مسألةً حيويةً للأحزاب والقوى الحاكمة. فيما توجه الاستعمار والسراي الملكي كما أشرنا من قبل (الإقطاع الحاكم السياسي بجناحيه) لاستغلال الإسلام ضد الوفد والحداثة والعلمانية، أي بتحريك الإقطاع الديني الاجتماعي لوقف تصاعد نمو الفئات الوسطى ومشروعها الوطني التحرري الديمقراطي مسلمين ومسيحيين. إن الوفد دخل المعركة بلا فكر مكتمل وعبر العفوية السياسية والآراء المحافظة لكبار قادته.
ومن الممكن أن نرى في آراء لويس عوض نفسه، لوحةً تكشف هذه القضية وتلاوينها.
لقد وقف ضد توجهات طه حسين والعقاد ومحمد حسين هيكل لقراءة الإسلام، وقف ضد قراءاتهم جميعاً وليس ضد قراءة معينة للإسلام، ليس لأن هذه القراءات جميعها تمثل موقفاً معادياً للحداثة، بل لأنها تقرأ الإسلام، وهم كذلك لم يكونوا قادرين على طرح موقف مصري علماني لا يتنكر لجذور طائفيته السنية والمسيحية القبطية.
إن قراءة الإسلام حسب هذا الطرح (العلماني) تمثل نكوصاً نحو التخلف، وهنا نرى مثالاً عن التضادات المطلقة لوعي لويس عوض. فإن هذه القراءات عن الإسلام متباينةٌ في اجتهاداتها، ففي حين مثلت قراءتا العقاد ومحمد حسين هيكل وعياً يمينياً لتوظيف الإسلام لمصالح القوى الأرستقراطية في المجتمع، مثلت قراءة طه حسين رؤيةً تقدمية عبر كشفها الصراع الاجتماعي بين العرب وانحيازها للقوى المضطهدة ومن أجل التقدم خاصة في كتابه (الفتنة الكبرى). وبهذا فإن لويس عوض قد وضع الإسلام كما تضعه القوى المحافظة كوعي لمصلحة المستبدين، أي فقد القراءةَ الموضوعية لرؤية الإسلام في مساره الحقيقي المركب المتنوع.
إي أن العداء الديني والشخصي تغلب على العقل في شخص لويس عوض. وهذا المسار الذي كرسهُ سلامة موسى، لم يستطع لويس عوض رؤيته أيضاً في إبداع نجيب محفوظ، الذي غادر مرحلته التاريخية الروائية، وغادر مرحلته الفرعونية كذلك، حين كتب (الثلاثية). لقد مثلت الروايات التاريخية عند نجيب محفوظ بطولة الفرعون، في حين مثلت الثلاثية بطولة الشعب.
نستطيع أن نقول عن انقلاب لويس عوض على العقاد يمثل مسيرة طبيعية في مسيرة وعيه الديمقراطي، فالعقاد في بدء حياته الفكرية كان هو صوت الدستور والحرية، ولكن منذ سنة 1935 كما يقول عنه (أصبح حرباً عواناً على الدستور وحكم الشعب والمدافع الأول عن حكم الصفوة، وتوقف عداؤه للإنجليز.. وتقارب مع الملك فاروق حتى قال فيه شعراً ونثراً. وأعلنها حرباً عواناً على مجانية التعليم وعلى مطالب العمال والفلاحين).
إذن فإن تضاده مع العقاد يبقى واضحاً، حيث استمر لويس عوض في خطه الوطني والديمقراطي، لكن تضاده مع طه حسين الذي اتخذ مسيرة مضادة للعقاد، والذي بدأ حياته الفكرية السياسية بالهجوم على سعد زغلول: زعيم الرعاع كما وصفه، ثم تحول إلى مناضل ووزير وفدي، هو الذي يكشف طبيعة تنوير لويس عوض الغربي المستورد وغير المتجذر في الإرث الوطني المسيحي الإسلامي المصري.
فعلى عكس لويس عوض قام طه حسين بكشف بعض تناقضات التاريخ العربي الإسلامي، منحازاً إلى جانب التقدم والمضطهدين فيه، في بعض أعماله الأساسية، أي إنه دخل في صميم تغيير جوانب من البنية الإقطاعية الموروثة. أي أن طه حسين من جهته، لم يطرح في الثقافة أو السياسة، ضرورة تغيير جذري للمنظومة الإقطاعية الدينية السياسية.
إن اتخاذ لويس عوض موقفاً معادياً بشكل جوهري للبنية التاريخية التي شكلها العرب في المنطقة، يجعل تحليلاته واستنتاجاته لنتائج وتطورات هذا التاريخ، غير موضوعية.
ففي رفضه للشعر العربي الكلاسيكي يرفضه بشكل مطلق، معلناً وفاته بعد وفاة أحمد شوقي. وهذه العملية ليست بحثاً مشروعاً عن تطور في الشكل الشعري العربي، ولكنها تتجاوزها إلى محاولة إلغاء النوع الشعري العربي، عبر العودة إلى العامية ونقل أشكال شعرية غربية متعالية على سيرورة تطور الشعر العربي، تجد بعضَ حيثياتها في قصيدة إليوت. يقول أحدُ الباحثين عن عمله الشعري والنقدي:(محاولته التنظير وأثر ثقافته الغربية وطغيانها عليه، بحيث جرفه ذلك إلى كثير من التطرف والتعصب اللذين – بالإضافة إلى أنه لم يكن شاعراً – أديا به إلى إخفاق دعوته وإلى محدودية أثر ديوانه، بسبب ركاكة ورادءة النماذج الشعرية التي نظمها من ناحية، ومن ناحية أخرى بسبب نظم كثير من هذه النماذج بالعامية، كذلك بسبب تكلف كثير من النماذج وإثقالها بالإشارات والألفاظ الأجنبية من ناحية ثالثة).
تتوارى هنا كذلك فكرة رفض الجسم العربي الثقافي بكليته، ولكن حتى هذه الفكرة تحتاج إلى غوص في النوع الشعري وفي الواقع، إنتاجاً وتحليلاً، وهذا ما لم يفعله، ولهذا فإن النوع الشعري البديل لكل النوع الشعري العربي لم يتجذر، لأنه مغامرة في الهواء.
إن لويس عوض وهو يعيدُ إنتاجَ علمانية سلامة موسى المتغربة، أي التي لا تتغلغل في الإرث العربي الإسلامي المسيحي، لكي تحصل على مواقع متجذرة في الأنواع الفنية، لا يستطيع أن يكونها، لأن ذلك يفترض عكس ما يريد وهو دخوله إلى الجسم العربي الإسلامي المرفوض لديه. أي أيجاد ديالكتيك داخل هذا الواقع والتراث، وبدون وجود سمات متضادة، يستحيل حدوث صراع ونمو وتجاوز.
نكتشف عبر الجوانب الإيجابية التي طرحها لويس عوض عبر العلمانية والديمقراطية والتحديث التي أصر عليها، جوانب أخرى تمثل نقصاً هي بمثابة الإشكاليات التي عاشتها هذه المفاهيم.
وتعود مختلف هذه الإشكاليات إلى موقف لويس عوض الوطني المتشدد، الذي يرى مصر في نسيج تاريخي وثقافي ولغوي مختلف عن العرب، ومنفصل كلياً عنهم.
ففي كتابه (مقدمة في فقه اللغة العربية) هو الكتاب العميق الثر في اللغات، يوضح آراءه، فيقول إن العرب ليسوا من الجزيرة العربية بل هم مهاجرون من منطقة القوقاز، وبالتالي هم آريون، وجذور لغتهم من اللغات الهندو – أوربية، وإن مصر وشعبها قبلهم، وإنهم هم الذين اثروا عليهم وطوروهم. وإن الكثير من كلمات اللغة المصرية دخلت العربية.
والواقع إن الآراء مختلفة في أصل العرب، فهناك نظرية تقول بمثل ما يقول لويس عوض، وهناك نظريات أخرى تقول بسكنهم الجزيرة وإن الشعوب السامية كالبابليين والكنعانيين هم من الجزيرة العربية، وهي أمور أكدتها الآثار والأبحاث المختلفة، أما الأصل البعيد الذي يستغرق آلاف السنين فهو أمر جائز لكنه غير مبرهن عليه. لكن من الغريب أن نجعل هذا الأصل البعيد جذراً لاختلافات اجتماعية وسياسية ودينية راهنة!
أما الأمر المؤكد والعياني والذي ينكره لويس عوض فهو إن العرب المسلمين لعبوا دوراً تحويلياً نهضوياً كبيراً أعادوا به تشكيل المنطقة، وجعلوا المسيحية الشرقية جزءًا من التشكيلة الاجتماعية الإسلامية العامة، أي من البناء الحضاري التعددي والمتنوع في المنطقة، كالعديد من المكونات الأخرى: اليهودية، والزنجية والهندية، التي تم ضمها واستيعابها في قوانين حضارة العصر الوسيط، التي عرفت الإدغام والضم، أكثر من التداخل الديمقراطي، والتلاقح العضوي.
ولم يتحول كتاب فقه اللغة العربية إلى قراءة لهذه الحضارة العربية الإسلامية المسيحية الخ بل هو يعيد إنتاج الصراعات الدينية بشكل (علمي) حديث، ويتجلى هنا ذلك التضاد المطلق الذي أشرنا إليه منذ البدء، وهو التضاد بين العرب والإسلام من جهة وبين الحضارة والحداثة من جهة أخرى، وهو يُدخل في القطب الأخير مصر، حيث هي أيضاً في تضاد مع العرب، ولكنه لا يدخل زمنها العربي الإسلامي الوسيط ليحلله ويكشف عناصره المتضادة، بل هو ينفيه كلياً.
أما التحليلات الموسعة فهي لحضارة الغرب التي نثمن اهتمامه بها ونقله لآثارها الإنسانية العظيمة، وخاصة للعصر التنويري الذي انشغل به لويس عوض وقدم عنه كتاباً هاماً، لكنه لم يأخذ كذلك الفكر الغربي كتكوينات متضادة، فهو يقف عند فكر عصر النهضة، ولا يقوم بتحليل العصر الإمبريالي الغربي.
وهو إذ ينتمي لتيار الاشتراكية الديمقراطية الغربية، فهو يغدو رائداً لمسيرته الديمقراطية الاجتماعية، والتي تتجلى بتاريخه السابق في العهد الملكي، كذلك باستمرار نضاله من أجل الديمقراطية في العهد الجمهوري العسكري، والتي يدفع فيها من عمره سجناً وحصاراً معيشياً وغربة، ولكنه لم يتنازل عن آرائه فضرب مثالاً عظيماً للأجيال.
وتمثل عملية اعتناقه للفكر الاشتراكي الديمقراطي كذلك استباقاً لتحولات العالم والمنطقة، وهذه تحتاج إلى دراسة متفحصة في الواقع، لأنه في سنواته الأخيرة قدم مجموعة من الأعمال الفكرية التي تتناول تيارات العصر الحديث وجوانبه الأدبية.
يعتبر سلامة موسى الكاتب العربي، أحد القلائل الذين أثاروا الجدل الفكري على مدى القرن العشرين، بسبب جرأة أفكاره وثباته الفكري الطويل لغرس قيم الوعي بالنهضة، عبر الكتابة والدعوة المستمرة لعدة عقود. أنتج مجموعة من المؤلفات الشعبية التنويرية التي أثرت في أجيال من العرب، وبسطت لهم المفاهيم التجديدية.
كان أبوه من الموظفين الكبار في الإدارة، فحصل على فرصٍ كبيرة للقراءة والدراسة والسفر والتفرغ للفكر والاطلاع، ولكنه لم يفلح في الدراسة المنظمة سواء على مستوى الدراسة الابتدائية أو الثانوية أو الجامعية، وهو يقول إن ذلك كان بسبب محدودية المناهج ورغبته في الخروج من قيودها، ولكن من الواضح أيضاً إنه لم يكن ذا قدرة على التركيز الدراسي والبحثي العميق، فاتسمت كتاباته بالسهولة الشديدة والتنوع والتضارب في الأفكار والرؤى، رغم أنها كانت تدعو للنهوض بشكل عام.
وقد سافر إلى باريس، بشكل مغاير لسفر الطهطاوي، حيث كانت مرحلته تمثل نقلة في تطور الفكر المصري، حيث توجه إلى اليسار الأوروبي تحديدا، خاصة الاشتراكيين والتطوريين، والصداقة مع أعلام الفكر الغربي كبرنارد شو. وقد ذُهل من دفاع اليسار الأوروبي عن قضية الشعب المصري، ودور برنارد شو خاصة في فضح محاكمة دنشواي الشهيرة التي قتلت مجموعة من الفلاحين غير المذنبين.
فوجئ في الغرب بكثافة الاهتمام بالحضارة المصرية القديمة، وغيابها شبه الكلي عن الثقافة المصرية المعاصرة وقتذاك، فكرس جزءًا كبيراً من وقته لزيارة المتاحف والاطلاع على الحضارة القديمة.
كذلك سافر ودرس في لندن الحقوق من أجل جلب شهادة، ولكنه كعادته لم يستمر في ذلك، وساح في الثقافة والأدب والعلوم، وحين عاد ركز على النشر، وكان أول كتاب له هو (مقدمة السوبرمان) سنة 1912، ثم أصدر سلسلة من الكتب، ورأس تحرير مجلته الخاصة، التي كرسها لنشر فكر الحداثة كما يراه.
يعبر كتيبهُ هذا، أي مقدمة السوبرمان، عن هذه العملية الفكرية التي يتضافر فيها العمق والسذاجة، وتتحدُ النوايا الطيبة بغياب الدرس العميق، ففكرة السوبرمان هي فكرة نيتشوية، دعا إليها نيتشه، لخلق عرق متميز، يغدو بمثابة الإنسان الأعلى، الذي يتخلص من الإنسان الضعيف، وكانت هذه الفكرة تفتح فيما بعد الباب لعمليات التطهير والمذابح في العروق (الخسيسة) عند النازيين.
وبطبيعة الحال فإن سلامة موسى أخذ الفكرة بحسن نية، دامجاً إياها في فكرة علمية أخرى، هي نظرية التطور لدارون. فهذه الفكرة الكبرى في القرن التاسع عشر والتي فجرها العالم البريطاني دارون بكتابه (أصل الأنواع)، كشفت للمرة الأولى إن العالم الحيواني خضع لتطور كبير، بدءًا من ظهوره في الحياة البحرية، ثم ارتقائه سلم التطور حتى ظهور أنواع الثدييات التي منها الإنسان.
وقد دمج سلامة موسى هاتين الفكرتين، ولكن عبر تطبيقهما على المستقبل، حيث سيظهر في اعتقاده إنسانٌ متطور يختلف عن الجنس السائد حالياً. وهذه الفكرة هي التي عزفت عليها النازية، المتنامية منذ ما بعد الحرب العالمية الأولى، وهي التي دمجت أيضاً بين الارتقاء المزعوم بالإنسان الحيوان وبين الاشتراكية.
هذه الفكرة التي بدأ سلامة موسى حياته الفكرية بها، تعبرُ عن ذلك المزيجِ الفكري المضطرب، فقد مزجَ بين فكرةٍ علمية هي نظرية التطور، التي قدم حولها كذلك سلسلةً من الاستعراضات الشيقة المهمة، وبين فكرةٍ أيديولوجية خطرة ليست سوى واجهة للعنصرية، وهكذا فإن سلامة جمع بين فكرين متناقضين، الأول هو فكر التطور الموضوعي للأجناس وللمجتمعات، والفكر الآخر هو فكر الفاشية البيولوجية، لكنه لم ير الدلالات المتوارية وراءها. ولديه هنا ذلك الخلط الذي استمر طويلاً بين البيولوجيا والاجتماع، بين التطور العضوي ذي القوانين الخاصة، والتطور الاجتماعي، مما يعبر هنا عن داروينية اجتماعية.
في رؤيته للنهضة وكيفية تحقيقها فإن سلامة موسى يواصل موقفه المبسط لها، فهو ببساطة يدعو للالتحاق بالنهضة الأوروبية، وترك العروبةَ والإسلام والماضي، وركوب القطار المتوجه إلى الحداثة.
يقول في أحد كتبه من سنوات أواخر العشرينيات من القرن الماضي وهو(اليوم وغداً):
(فالرابطة الغربية هي الرابطة الطبيعية لنا، لأننا في حاجة إلى أن نزيد ثقافتنا وحضارتنا، وهي لن تزيد من ارتباطنا بالشرق بل من ارتباطنا بالغرب. إننا إذا ارتبطنا بالغرب تعلمنا فلسفة عالية وأدباً راقياً ووقفنا على اختراعات عديدة واكتشافات لا حصر لها)، ومن عناوين هذا الكتاب:
لسنا شرقيين، الدم الشرقي فينا جلبه علينا العرب، الجامعة المصرية هي أداة الثقافة الحديثة، الأزهر هو أداة الثقافة المظلمة، ليس علينا للعرب أي ولاء، لغة المتنبي ليست لغتنا، الرابطة الشرقية سخافة، الرابطة الحقيقة هي رابطة الثقافة وهي رابطتنا بأوروبا..
يقول:
(إن الرابطة الحقيقية، التي تثبت عن قاعدة، وترسخ ولا تتزعزع، هي رابطة الحضارة والثقافة، هي رابطتنا بأوروبا، التي عنها أخذنا حضارتنا الراهنة، ومنها تثقفنا ثقافتنا الجديدة. أجل، يجب أن نرتبط بأوروبا، وأن يكون رباطنا قوياً. نتزوجُ من أبنائها وبناتها، ونأخذ عنها كل ما يجد فيها.. وننظر للحياة نظرها.. ونجعل أدبنا يجري وفق أدبها، بعيداً عن منهج العرب، ونجعلُ فلسفتنا وفق فلسفتها، نؤلف عائلاتنا على غرار عائلاتها.. ونرسلُ أولادنا إليها ليتعلموا علومها ويتخلقوا بأخلاقها، فالرابطة الغربية هي الرابطة الطبيعية لنا).
يعبر هذا الوعي عند سلامة موسى عن لغة التبسيط في تشكيل النهضة، فالنهضة هي استيراد كاستيراد البضائع، فهي علاقة كمية فتعبيره (أن نزيد) يعبر عن هذه الفكرة، فما علينا لكي نلتحق بأوروبا سوى أن نكثر من استيراد كافة الأشياء النهضوية كالاختراعات، وإذا كانت هذه الأشياء من الممكن استيرادها فعلاً وهي مفيدة جداً، فإن ذلك لا ينطبق على المؤسسات الفكرية، والعلاقات الاجتماعية التاريخية، فكيف يمكن أن ننقل عمليات التحول التي جرت أوربياً في عدة قرون؟ هل نشحنها أم نقلدها؟!
إن الوعي الاستيرادي لتجار الجملة واضح هنا، ويتوجه سلامة موسى إلى الدعوة لنقل تلك المنتجات الغربية، ولهذا لابد من الانفصال عن الرابطة العربية والإسلامية، وعن العلاقةِ مع الأمم الشرقية المتخلفة، بل وعن التاريخ العربي والدم العربي، وهذا ما يمكن أن يحدثَ قطيعة مع التراث ومع الواقع والبشر، وبالتالي لا تتشكل أي جسور بين جذر النهضة والعالم المحيط.
إن الرباط بأوروبا وبعالم النهضة عموماً أمر مطلوب للعالم العربي المتخلف وهام، لكن ما يطرحه سلامة موسى هنا هو التطابق والجلب الكامل، وهو يعبر عن العجز عن إنتاج نهضة في الواقع المختلف، وهو أمر كان يتطلب تحليلات معمقة لم تكن من قدرات سلامة موسى.
إن هذه التبسيطيةَ تتحققُ في الواقع عبر انسلاخ مجموعات من الفئات الوسطى عن البنية الاجتماعية الإقطاعية، وهذا الانسلاخ لا يحدث إلا عبر جلب مظاهر حضارية غربية مستوردة، لا يحدث لها أي تجذر في تلك البنية، لأنها تتشكل كقشورٍ ملونة فوقها.
إن ارتباطَ مصر بالعرب أو بالشرق ليس ارتباطاً لغوياً أو ثقافياً، بل هو ارتباط منظومة اجتماعية متماثلة، متعددة مستويات التطور، هي المنظومة الإقطاعية – المذهبية العربية في طور أزمة العلاقة مع التطور الرأسمالي الحديث.
وما يقوله سلامة موسى عن الانسلاخ من منظومة والالتحاق بأخرى، هو وهم طبقي، أي أنها أفكار وممارسات تتحقق عند مجموعات في الشرق تتوهم إنها تتحضر عبر استيراد النهضة وليس عبر إنتاجها، وهي هذه الفئات المستوردة للبضائع الغربية والأفكار الغربية. فالرحيل إلى أوروبا والزواج من بناتها والدراسة فيها أمر مكلف وغير ممكن للملايين الفقيرة!
هكذا يكّون سلامة موسى الأفكار النهضوية لشريحة من الفئات الوسطى الحديثة، ذات المستوى المعيشي الجيد، والتي لا تدخل في علاقة صراع عميقة وواسعة مع الغرب الإمبريالي، مثلما لا تدخل في عملية صراع مماثلة مع الشرق الإقطاعي، ولكنها في الوقت الذي تريد فيه المماثلة والذوبان في الغرب، فإنها تريد الانسلاخ من الشرق.
إن هذه الطريقة الاستهلاكية والاستيرادية للمنتجات الفكرية والسلعية الغربية، لا تترافق مع عمليات إنتاج فكرية وسلعية وطنية، ولهذا فإن سلامة موسى لا يقيم مصنعاً لإنتاج الوعي الوطني، بقدر ما يفتتح دكاناً لجلب البضائع من المركز، وبطبيعة الحال فإنه يريد تطوير وتقدم البلد عبر ذلك، ولهذا يحرصُ على جلبِ أفكار النهضة والتطور وحرية المرأة والعلمانية وأهمية العلوم ونشر الأدب الشعبي والتخلي عن أدب الأبراج العاجية وضرورة تعلم الرقص الرفيع وهي جوانب مهمة ومفيدة.
إن الأفكار المهمة الجديدة التي يطرحها المفكر سلامة موسى كانت ذات أثر كبير في تطور الشباب خاصة وهي تقدم أحياناً كمقالات مطولة وقصيرة في أغلب الأحيان، وتتجه إلى عرض الفكرة والترويج لها، بدون تحليلات معمقة. وكثيراً ما تقوده هذه الأفكار الشعارية إلى الاصطدام مع القوة الاجتماعية المحافظة.
علينا أن نعتبر فكرته بضرورة تغييب الرابطة العربية والإسلامية من تطور مصر الحضاري المنتظر، هو خطأ فكري مزدوج، فهو خطأ في قراءة سيرورة مصر، المتكونة بشكلٍ عربي وإسلامي ومسيحي في العصر الوسيط، حيث حدثت نهضةٌ كبيرةٌ بفضل هذه المرحلة، ولكن النظام الذي هيمن غيّب تلك الإنجازات، فيبدو التطور العربي الإسلامي عند سلامة موسى كفعلٍ سلبي فحسب، فهو يغفلُ العناصرَ الديمقراطيةَ والنهضوية في هذا السياق، مركزاً على الأشكال التي سيطر بها الإقطاعُ الديني على المسلمين والمسيحيين، معتبراً هذه الأشكال هي كل ما أنتجه العرب والمسلمون.
ولا شك أن فرز هذه العناصر المتضادة يحتاج إلى دراسات معمقة، وتحليلات في البنية الاجتماعية ومستوياتها، وهي أمور لم يقم بها سلامة موسى، فيجد أمامه الثقافة العربية الإسلامية كثقافة محافظة يجب الإطاحة بها، وحتى هذه الإطاحة تبقى غير مبلورة، بل هي شعارات موجهة ضد لغة عربية عتيقة وعادات متكلسة، وهو أمر صحيح، وقد أسهم هو في زحزحة هذه اللغة المقعرة الجامدة، بلغته الرشيقة السهلة الواضحة. ولكن مسائل إزاحة الجمود والتخلف في ثقافة هي غير إلغائها، بل هي في درسها والجدل معها، وفرز ما هو سلبي وإيجابي فيها، ويبقى وعي سلامة موسى غير قادر على كشف هذه اللوحة المعقدة والمركبة للثقافة العربية والإسلامية.
ليس لأنه يأتي إليهما من الخارج، بل لأنه لم يدرسهما بشكل عميق، وأغلب قراءاته هي للنتاج الغربي عموماً، وهو يريد إدخال شعارات هذا الغربي المتطور إلى عالم يرفضه ويريده أن يتغير من خارجه.
إن رغبته في تشكيل مصر بالصورة التي يريدها، حيث لم يقم بالكتابة عن أي بلد عربي آخر، ودوره في هذه الكتابة الطويلة وخلق القراء، لا تؤدي إلى نتائج كبيرة في الواقع والمناخ الثقافي الفكري، وعلى العكس فإن المناخ يتجه إلى نقيض أفكاره، وجهده في خلق تنوير يُستبدل برواج الاتجاهات السلبية والمحافظة.
وهذا المصير الفكري والاجتماعي هو غير مسئول عنه، ولكن هذا المصير يحدد كيف تضيع سنوات من العمل الفكري وتتدمر بذور التنويريين، لكنها تحقق انتصارات مع موجة الثورة الجديدة.
كان التطور الاجتماعي والفكري في مصر يتجه بخلاف آراء سلامة موسى القائلة بضرورة اعتماد التدرج الاشتراكي في عمليات الإصلاح، فالمدينة الإقطاعية التي أسستها السلالة الملكية كانت تتجه إلى الانفجار، والتحولات الرأسمالية على مدى قرن كامل، لم تستطع تشكيل تحول رأسمالي جذري، على صعيد تشكيل سلطة ديمقراطية أو على أساس نمو تحديثي في كل مستويات البنية، فبدأت المدنُ تتضخم سكانياً من جراء تطورات رأسمالية متضادة، وبدأ الريف يضغط، ونستطيع أن نعتبر سيطرة الضباط الأحرار هو انتصار للفلاحين المتوسطين بثقافتهم الدينية والحديثة المتداخلة، بحيث حافظوا على التعايش بين النظام الإقطاعي وجوانب من التطور الرأسمالي، وعبر سيطرتهم على رأسمالية الدولة، انتقلوا إلى صفوف الأغنياء، وأدى هذا التطور العسكري، إلى استنفار القوى المحافظة وعودتها بعدئذٍ إلى الهيمنة بشكل أقوى من السابق.
إن سلامة موسى ناضل من أجل نمو التحديث والليبرالية والإصلاحات الاجتماعية التي يسميها الاشتراكية، ولكن ما حدث هو نمو الاتجاهات الشمولية، ولم يسهم في رصد هذا الصعود بسبب أدوات تحليله المبسطة، أي أنه لم يقرأ البنية الاجتماعية وبالتالي لم يشكل تياراً يقاوم هذا الاكتساح المستقبلي، رغم اهتمامه الشديد بالمستقبل، وذلك عبر عدم جمعه بين العروبة والإسلام والمسيحية والتحديث، بين العلمانية وتحليل الجذور التاريخية للأمة، بين الانتماء إلى الشرق والانفتاح على ثمار الأمم النهضوية، وبين الدفاع عن الديمقراطية وتقدم الأغلبية الشعبية.
هذه التركيبة الجدلية كانت تستدعي دراسات على مستويات الماضي والحاضر، الشرق والغرب، وهذه الإمكانية التوليفية لم تكن ممكنة لجيل كامل من النهضويين، تقاطع وعيهم بين قطبين، قطب الشرق والتراث وقطب الغرب والمعاصرة، وهو أمر يعكس هيمنة الفئات الوسطى غير الصناعية والمستوردة، التي تستورد الموديلات الجاهزة من الماضي أو من الحاضر الغربي، وليست قادرة على التصنيع وهدم النظام الإقطاعي – المذهبي، وهو أمر يتطلب تغيير المواد الخام التراثية والراهنة، تبعاً لتطور مصالح الأغلبية من الشعب والأمة.
إن الشعارات السهلة والتنويرية لا تقود إلى محصول كبير، فمن السهل المطالبة بزوال الأزهر كمؤسسة دينية ولكن من الصعب دراسة هذه المؤسسة وتيارات الوعي فيها، وطرح اجتهادات في الخطاب الديني نفسه، وهذا ما أخذت التيارات النهضوية العربية الجديدة تعيد النظر فيه، وبدأت دراسات علمية في هذه الجوانب.
والدراسة العميقة تؤدي إلى غياب الشعارية والتسييس الُمبسّط والخطر وتقترب من رصد الحالة الموضوعية للتطور، واحتمالاتها المختلفة، وبالتالي تغدو أكثر تبصراً على صعيد التأثير اليومي.
بطبيعة الحال أسهم سلامة موسى في نشر ثقافة تنويرية ونهضوية في حدود معينة، وهناك أجيالٌ من الشباب تدين له بالفضل بسبب دعواته للعلم والثقافة والتمدن، وقد شرح العديد من النظريات ببساطة، ولكن يبقى أن يؤخذ تراثه بقراءة جديدة وبحذر علمي كبير.
وهناك دراسات كبيرة كتبت عنه، ولكنها إما أن تمدحه بإفراط وإما ترفضه بتعصب شديد، ولهذا فإن دراسة موضوعية عنه، وتجميع كتبه في طبعات جديدة كاملة، هي أمور ضرورية لاكتشاف وعينا العربي المعاصر بشتى جوانبه.
لقد كتب عنه الباحث المغربي عبدالله العروي في تقييم أقرب إلى الدقة حين وصفه بأنه نموذج لسبنسر، وهو المؤلف البريطاني الذي مزج بين الداروينية البيولوجية والحياة الاجتماعية.
سنأخذ مثالاً ملموساً أخيراً على رؤيته:
في مقدمة كتابه (هؤلاء علموني) يشيد سلامة موسى بالتجربة الحضارية الديمقراطية الغربية: (رأيتُ شعوباً لكل منها الكلمة العليا التي تتضحُ في الانتخابات البرلمانية. ورأيت مشاكل الشعب تدرس في البرلمان الذي له وحده حق تعيين الوزارات وإسقاطها).
تتشكل لدى سلامة موسى لغة عاطفية مثالية، فهنا الديمقراطية تغدو لا طبقية، حيث (الشعب) هو الذي يحكم، كذلك نجد نظرية التطور تتحول إلى ما يشبه الدين لديه (وتحملتُ بهذه المعرفة مسئولية وأحسست ديناً. ولم ينقص من هذا الدين أنني وقفت على مئات الخرافات التي وقع فيها الإنسان).
وتتحول الأفكار لديه إلى نشاط ثقافي مفصول عن البناء الاجتماعي وقوة مفارقةً: (ولكن الدنيا تغيرت بالكتب، وعندنا على ذلك المثل الأكبر، فإن كتب الدين قد غيرت النفس البشرية إذ عينت لنشاطها اتجاهاً وأكسبتها أهدافاً لم تكن تعرفها من قبل).
إن الحركات الاجتماعية تغدو كتباً، فتنفصل الأفكار عن صراع الطبقات، وتتحول الأفكار لديه إلى ما يشبه القوة الدينية فكأنها تمتلك من ذاتها إمكانية النمو والتغيير، (وهناك كتبٌ قد غيرت نفوسنا كما لو كانت ديانات جديدة)، وتصير نظرية التطور شكلاً من الوعي الصوفي(فهي إحساس وشهوة تنبضُ بهما عروقنا وتخفق بهما قلوبنا) (أحس بتلك الوحدة الوجودية حتى لأقول كما يقول ذلك القديس المسيحي: أخي الطير وأخي الشجر وأخي الوحش).
وكما يتشكل التجريد للمجتمع الرأسمالي الحديث فيتشكل التجريد للتطور التاريخي فهناك مجتمع زراعي راكد وهناك مجتمع صناعي متحرك، وهذه التعميمات تمنع سلامة موسى من مغادرة هذه التنميطات غير العلمية بالدخول إلى علاقات الإنتاج المختلفة ودرسها في البنى المختلفة.
وهذه التنميطات العامة المجردة تتواصل إلى كل المدارس والشخصيات التاريخية فهذا يكون داعية التجربة وهذا ديكارت داعية العقل.
وقد ظل أربعين سنة- كما يقول- غير قادر على حسم موضوع أساس التطور المقدس لديه، فهل هو الوسط أم تنازع البقاء؟. وهذا التنازع الذي ظل في نفسه يوضح صراعه بين المثالية والمادية، فحين يعطي لعناصر تنازع البقاء الدور الأساسي في تشكيل التطور، فهو ينحاز هنا إلى جوانب فكرية إيديولوجية معاصرة مُسقطة على فهم التطور الموضوعي للأجناس والأنواع، في حين أن فكرة الدور الأساسي للوسط في تشكيل هذه الأنواع كانت فكرة متأخرة لديه، مما يعبر عن انتصار الفكرة الموضوعية أخيراً عنده، ولكن بعد عدة عقود، وهو أمرٌ يشكلُ عدم قدرة على الحفر العميق في نظرية التطور، التي اتخذت طابعاً بيولوجياً أكثر منه اجتماعياً، ثم حين تحولت إلى طابع اجتماعي اقتصرت على فهم مثالي تبشيري، ومن هنا كان ذلك العجز عن الحفر في تاريخ المنطقة ليس الاجتماعي فحسب، وهو أمر مركب، بل تاريخها السياسي كذلك، ومن هنا نجد معلميه الغربيين، فلا يشير إلى أنبياء المنطقة أو مفكريها وفلاسفتها ودورهم التحويلي النهضوي، إلا عبر مفردات عامة عن الإسلام والمسيحية واليهودية وأدوارها المهمة.
وحدث ذلك أيضاً مع فكرة كبرى لعبت في حياته دوراً مماثلاً لنظرية التطور، وهي مشتقةٌ منها، هي أفكار الفيلسوف الألماني نيتشه، ونظرية السوبرمان، وهنا تداخلت الروح الدينية الصوفية لدى سلامة موسى بالفكر الأوروبي، لكن الفاشي هذه المرة، يقول:
(وقد عرفتُ نيتشه في 1909 وكنتُ منغمساً في نظرية التطور) ص81، (وهبط عليّ كما لو كان وحياً أو كشفاً) وبعد ذلك بعقود استطاع سلامة موسى أن يفهم الأبعاد الفاشية للسوبرمان، مما يجعل من إمكانية التحليل الاجتماعي الموضوعي وبالتالي ظهور استخلاصات فلسفية علمية لديه أمراً غير ممكن.
النهضة بصورة مُبسطة، في وقتٍ افتقد العالم العربي مثل هذه العروض لفترة طويلة.
أخذت المؤثراتُ الفلسفية والسياسية الفرنسية الثورية تأخذ لها أبعاداً جديدة مع ظهور الحركة العمالية السياسية المصرية، فتواصلت الصلاتُ بشكل جديد، وتصاعدت الحركة الاشتراكية والنقابية وظهر مفكر مثل محمود أمين العالم جعل من التحليل الماركسي للظاهرات الاجتماعية والفكرية ميدان عمله الرئيسي، وذهب إلى فرنسا واحتك بتطوراتها المختلفة، وفي الوقت ذاته ظهرت المدارسُ الشكلانيةُ والتجريبية البرجوازية التي كان رائد احداها – وهي التجريبية المنطقية – زكي نجيب محمود الذي كان ظاهرة بحثية واسعة أيضاً وغنية بالانتاج، وكان الصراع بين المدرستين معبراً عن الصراع بين طبقتين اجتماعيتين هامشيتين رغم دورهما العالمي الجديد الكبير، فقد تصاعدت قوى الاقطاع الريفي ثم المدني خاصةً في مصر وتحول العسكر إلى قوة مهيمنة اتجهت الى الالتحام مع رأسمالية الدولة وتراوح دورها بين الثورية والمحافظة.
وقد عبرت كل من المدرستين السابقتي الذكر الماديةُ الجدلية والتجريبيةُ المنطقية عن حراكها الاجتماعي السياسي الخاص، وغدتا قوتين متضادتين.
توجهت التجريبيةُ الى نقد جوانب الانتاج العقلي، واعتبرتهُ تغييراً عميقاً للواقع، فركزت على الجامعات والبحوث ونشر الفكر، فيما توجهت الماديةُ للصراع الاجتماعي السياسي وتحليل وتنظيم الجماهير، واعتبرت التجريبيةُ دورَها في تحليل لغوي لانتاج العلوم، وليس في فرض وجهة نظر معينة عليها، فغدت فلسفةً خافتةَ الصوت النقدي، تسير وراء الثقافة المحافظة، فيما جلجلت الماديةُ بالمعارك الفكرية والسياسية، مما جعل منهما خصمين مثلما حدث ذلك بين زكي نجيب محمود ومحمود العالم.
يعتبر زكي نجيب محمود أن كتاب (تهافت الفلاسفة) للغزالي وضع حداً لتطور الفكر الفلسفي العربي الإسلامي، خلال سبعة قرون، وهو استشهاد يعبر عن طريقة الباحث في التقاط حدث جزئي وسحبه من شبكته الاجتماعية الثقافية العريضة، وتحويله إلى عنصر مطلق فيما كانت أزمة الفلسفة أزمة نظام إقطاعي متفسخ.
وهو في بحثه (الفكرُ الفلسفي في مصر المعاصرة) ينطلق من هذه النقطة ليرصد كيفية ظهور وتطور الفلسفة في مصر الحديثة.
يقول:
«وكان قوام الفكر الفلسفي – في هذه الحركة الشاملة – هو الدعوة إلى الحرية وإلى التعقيل»، والقيودُ جاءت من (الحكم التركي بصفة خاصة) وهي قيود «الجهل والخرافة في فهم الناس للظواهر والأحداث وهو أيضاً قيد النص المنقول الذي يفرض نفسه على الدارسين فرضاً، بحيث لا يكون أمام هؤلاء الدارسين من منافذ التفكير المستقل إلا أن يعلقوا على النص بشروح»، «وأما التعقيل فهو أن نجعل احتكامنا إلى العقل دون النزوة والهوى».
كذلك تصبح عناصر العقل، والحرية، والنص المنقول؛ أي الفكر الديني، عناصرَ جزئيةً مفتتة، وهذه هي طريقة زكي نجيب محمود في عدم الخوض في التحليل الاجتماعي والفكري التشخيصي للواقع، وانتقاء عناصر محددة ملموسة واعتبارها هي سبب جمود الفلسفة خلال سبعة قرون، فكما أن كتاب الغزالي أوقف الفلسفة فقد جاءت كتبٌ أخرى بعد سبعة قرون لتعيد المياه إلى هذه القنوات الناضبة.
إن هذه العناصر لا تتشابك وقوى اجتماعية إلا بصفة عناصر ثقافية مُنتزعة هي الأخرى من الشبكة كعنصري (الجهل والخرافة) وتتحد هذه بـ(النص المنقول)، وهو الفكر الديني على اختلاف عناصره وتعدد اتجاهاته، فهو يحيله هنا إلى نص منقول، كتعبيرٍ عن شيءٍ ملموس، وليس باعتباره علاقات سياسية فكرية ضاربة في البُنى الاجتماعية، رغم أنه يقول (الخرافة) وهي ليست عنصراً شيئاً ملموساً بل جملة من الظاهرات الفكرية – الاجتماعية المتشابكة.
ويضيف:
«الحرية والعقل ضد الخرافة والجهل والنص الديني المنقول». هذه هي الإشارات العامة التجريدية التي يرسمُ بها زكي نجيب محمود تطورَ الفكرِ الفلسفي في مصر.
ويعتبرُ ظهورَ العلومِ الطبيعية هو الكفيل بالتحرر من الخرافة (وكانت تلك العلوم قد بدأت تفعل فعلها في حياتنا الفكرية منذ القرن الماضي)، (إلا أن الفلسفة أفعل إيقاظاً للعقل).
ويعتبر زكي نجيب محمود أن الرعيلَ النهضوي الأولَ في مصر كالأفغاني ومحمد عبده وشبلي شميل وطه حسين هم (الهواة) الذين مهدوا الطريق «قبل ظهور الدراسة الفلسفية المتخصصة».
على أن هؤلاء (الهواة) أنفسهم ينقسمون فيما بينهم الى نوعين: أحدهما يجعل الدفاع عن الإسلام محور تفكيره، والآخر يجعل هدفه الرئيسي الدعوة إلى قيم ثقافية جديدة، لكن القضية المحورية هي ما دورهم في الصراع بين الإقطاع والرأسمالية، بين البنية التقليدية والبنية الجديدة؟
أي أن أحدهما يدعو الى دينٍ من دون أن يفصله عن البناء الإقطاعي الذي هيمن عليه في أغلب الزمن السابق، والآخر يحضر عناصر غربية ديمقراطية معينة، ويقبل بأسس النظام التقليدي، من دون أن يعيد النظر في الهيكل السياسي العام وموقع العناصر التجديدية المستوردة، مما يجعل التيارين ذوي رؤية دينية (إقطاعية ليبرالية) يسيطرُ عليها النظام التقليدي العام، وبطبيعة الحال لا يبدو لزكي نجيب محمود هذا التركيب المعقد للتيارين المعروضين، ورؤيتهما في المسار التاريخي العربي -الإسلامي والعالمي.
وتبدو اللوحة الفكرية – الفلسفية المتداخلة لزكي نجيب مختلفة عما أنتجه معاصره وابنُ بلده حسن حنفي، فيقول زكي نجيب محمود عنها:
إن الفكرَ الفلسفي يغدو لزكي نجيب باعتباره عروضاً للمباحث الفلسفية العربية القديمة والغربية المعاصرة، وهو ما بدا لحسن حنفي سابقاً كإنتاج خارج الواقع، أي خارج قدرة التوجهات الفلسفية المصرية على صهر الماضي العربي والحاضر الغربي في عملية فلسفية مركبة.
ويتضحُ ذلك أيضاً في قول زكي نجيب إن الفلسفةَ المصرية تنقسم إلى مرحلتين؛ هواة، ومتخصصين، وهو أمر يشير إلى الطابع التقني، ورغم أهميته الكبيرة فهو لا يلقي تحليلاً على أسباب بقاء النظرات الفكرية والأدبية والدينية في مرحلة الهواة عند طابعها غير الفلسفي، أي لماذا لم تستطع تجاوز نظراتها الجزئية في حقولها المعرفية الثقافية وتصل إلى تحليلات فلسفية واسعة؟ أي أن تقوم باستثمار معرفتها في تلك الحقول الأدبية والدينية إلى نتائج كلية في المجتمع والطبيعة والتاريخ العالمي؟
عبرت المعركةُ الفكرية بين زكي نجيب محمود ومحمود أمين العالم عن ضياع خُطى الطبقتين المنتجتين البرجوازية والعمال في معركة الحداثة ومعركة تصعيد النظام الديمقراطي الحديث المشترك.
فيما توجهت البرجوازية (بشكل التجريبية المنطقية) للاختباء عن المعارك السياسية الاجتماعية وتكريس المصالح الضيقة، ومعالجة قضايا فكرية مفصولة عن المعارك، وإلتقاط أي نقطة مفيدة من نتاجات العلوم والتيارات القديمة والمعاصرة، خاصة التوجهات النفعية العملية الغربية، بينما كرست المادية الجدلية نفسها لتصعيد الاشتراكية في العالم الثالث المتخلف، وكان ذلك تعبيراً عن رأسمالية دولة، أخذت تلقى قبولاً سياسياً واسعاً فتعددت صياغاتها وإلتباساتها.
إن زكي نجيب محمود يعرضُ نماذجَ لمرحلة الهواة عرضاً لموضوعاتها المختلفة المتضادة، فيقول على سبيل المثال:
(من هؤلاء (الهواة) الذين مهدوا الطريق قبل ظهور الدراسة الفلسفية المتخصصة: جمال الدين الأفغاني في رده على الدهريين، ومحمد عبده في شرحه لمفاهيم العقيدة الإسلامية على أساس المنطق العقلي، وأحمد لطفي السيد في قيادته لحركة التنوير. وطه حسين في إدخاله للمنهج العقلي في الدراسات الأدبية الخ).
إن كل هذه الأسماء وجهودها تُؤخذ هنا كعناصر إيجابية لذلك الكل التحديثي المبهم، رغم تضاد هذه العناصر في كلياتها الخاصة، فالمفهوم الديني مختلف عن المفهوم العلماني التحديثي عند لطفي السيد وشبلي شميل فكيف يكون جزءًا من هذا الكل التحديثي، مثلما تتناقض نظرية التطور عن رسالة الأفغاني في الرد على الدهريين؟
إن زكي نجيب يأخذ هذه العناصر الإيجابية وهي خارج البنية الاجتماعية وتضاداتها، وعبر وجودها الشيئي الملموس الجزئي، فليست هناك حركة صراع اجتماعية في تلك البنية تعبر هذه الجزئيات عنها.
ومن هنا فنحن لا نعرف لماذا استطاع (عقل محمد عبده) أن ينمو في البنية الاجتماعية المصرية بدلاً من (عقل) فرح انطون أو شبلي شميل العلمانيين؟ ولماذا تجمد (العقل) في هذا الوعي الديني ثم غدا موجات لا عقلانية شديدة الانفجار؟
إن البنيتين الإقطاعية الآفلة والرأسمالية الصاعدة لا تظهران ولا تتصارعان وليس ثمة لهما مساران تاريخيان مختلفان، ولهذا فإن معركة النظام التحديثي المطلوب بمختلف جوانبها السياسية والفكرية لا تُطرح كتعبير عن خوف البرجوازية من أجهزةِ الدول والمصادرات المالية وحركات اليسار!
أما محمود أمين العالم فقد بدأ دارساً فلسفياً بإنتاج (فلسفة المصادفة) لكنه أكثر غزارة في إنتاج النقد الأدبي والفكري مثل كتبه (معارك فكرية)، و(الوجه والقناع في المسرح العربي) و(تأملات في عالم نجيب محفوظ) وفي الفلسفة له (هربرت ماركوز وفلسفة الطريق المسدود) وغيرها.
إن المشروع الفلسفي الاجتماعي لتحليل مصر لم يعكف عليه، وعبّر كتابهُ الفلسفي الأول عن التحاقه بمشروع الماركسية وسيطرة القوانين السببية على الوجود حتى تغدو المصادفة تعبيراً عنها، ولهذا كانت سببية الوجود في ذلك الحين بين الثلاثينيات والخمسينيات من القرن العشرين تتجسدُ في ضرورة الاشتراكية، وهكذا كانت التنمية الوطنية والتحرر تمتزج بالاشتراكية، فلا تظهر البنيتان المتداخلتان الرأسمالية والاشتراكية في تعاقب تاريخي معقد، وتقود الاتجاهاتُ الشمولية معركة التحرر الوطني قاضية على التنوع وخاصة البرجوازية الخاصة، ونظراً لعدم تشكيل تحالف تاريخي بينها وبين العمال فكلاهما يتعرضان للتحطيم، وهنا لا يقوم الوعي الماركسي بقراءة الضرورة بشكل صحيح، وهذا كله يؤثر على حياة محمود العالم الشخصية والفكرية، الذي يجد نفسه في إنتاج الدراسات الأدبية النقدية الثرة ولكن المنقطعة عن البنية التاريخية فلا يبدو نجيب محفوظ مثلاً في كتاب (تأملات في عالم نجيب محفوظ) كناقدٍ حصيف للنظام العسكري ومخاطره وأهمية البرجوازية كقوة ديمقراطية هامة، هنا يبدو الانفصالُ واضحاً بين الناقد والروائي، رغم أن العالم لم يقم بقراءة كلية لعالم نجيب بسبب تقطع العملية النقدية والسجن، لكن هذا يشير إلى تصادم الطبقتين المنتجتين مؤسستي الحداثة الديمقراطية.
الرؤية الجبهوية الصراعية بين الطبقتين والثقافتين سوف يقاربها جيلٌ آخر هو جيل ثورة يناير، فحين تساقطت الأنظمةُ الشمولية، وغدت رأسماليةُ الدولة الكلية حجر عثرة للشرق، ولم تظهر الرأسمالية الحرة كنظامٍ وطني مشترك إنتقالي تحدث الصراعاتُ بين القوى ما قبل الرأسمالية؛ العسكر والإخوان، وتسود إلى حين حتى تنمو وتتجسد عملياتُ التحالف والصراع بين الطبقتين المنتجتين عبر نظام سياسي ديمقراطي مشترك مستقر يكرس الفوائض الاقتصادية لتطوير البنية الانتاجية لا للصراعات السياسية والحروب.

عبـــــــدالله خلــــــــيفة ‏‏‏‏‏‏.. الفكرُ المصري ودورُهُ التاريخي

Abdulla Khalifa author of stories and novels