1 – الوقت المناسب
كنتُ أكتب منذ كنتُ طالباً ثم مدرساً، في أواخر الستينيات من القرن العشرين، وحينئذ لم تكن للكتابة وقت وطقوس، لأن الوقت الأصلي للكتابة كما تكرس لدي لم يكن موجوداً، فأن تكونَ مدرساً فإن الصباح يتم إختطافه منك، وتلعب ضجة الطلبة دورها في القضاء على أي مناخ إبداعي.
لكنني مع هذا كنت أكتب قصصاً قصيرة وبعض المقالات في الليل، في أجواء مشتتة.
كانت سنوات السبعينيات تجري بهذا المناخ، وقد دخلت الأعتقال السياسي منذ 1975 أغسطس، وخرجت في بداية الثمانينيات، وبالتأكيد فإن طقوسَ الكتابةِ في السجن صعبة، لكنها كرستْ كتابةً صباحية، حيث الفراغ الطويل والمزاج المفتوح، لكن الأمرَ يعتمدُ على وجودِ القراطيس من ورقِ السجائر ومن قلمٍ رصاص قصير صعب المنال، ولم يوجد الشاي وكان هذا عاملاً مُحبِطاً للكتابة.
كتبتُ في هذا المناخ مجموعةً قصصية واحدة(الرمل والياسمين)، وعدة روايات قصيرة: اللآلئ، الهيرات، القرصان والمدينة، والعديد من المقالات والتعليقات على ما يُكتب في السجن والعالم الخارجي، إضافة لمشروعات روائية وقصصية كثيرة ذهبتْ في ظروف حملات التفتتيش وعدم القبول من المؤلف نفسه!
لا بد لك في هذه الأحوال من قدرةٍ على الاحتفاظ بما تكتب، ولهذا فإن أمكنةً سريةً لا بد أن تكون موجودةً جاهزةً بعد إنجاز المسودة كقعرِ حقيبةٍ، أو داخل معاجين الحلاقة!
بعد الخروج من السجن لم يكن ثمة عمل، وعدتُ لبيتِ أبي القديم، ولم يكن ثمة مكان هادئ، وتغير الجو كثيراً، لكن تحولت غرفتي القديمة إلى ساحة قتال لإخراج المسودات الغائرة في المعاجين، لتبدأ عمليات التنقيح والتبييض.
أخذ الصباحُ مكانتَهُ مجدداً، وتوفر الشاي والورق والأقلام لكن لم يتوفر الهدوء، فلا بد من البحث عن عمل، وتغير البيت، وتغير الحي، لكنني تمكنتُ من نشرِ ما كتبتهُ في مرحلة السجن بمساعدة أصدقاء سواءً في التنظيم السياسي أم من قبل إتحاد الكتاب العرب بدمشق.
وقد تعودت أن أحول ساعات الصباح الأولى إلى ساعات كتابة للأدب أو الفكر عامة، وبشكل مستمر ومنضبط على مر السنوات، ولكن هذا يتوقف على الفكرة الموجودة والمزاج، وبضرورة الوحدة والعزلة في المكان الذي يوفر الهدوء والتركيز، ولكنني لا أكتب كثيراً كل يوم، فربما فصلاً أو صفحة، أو حتى فقرة صغيرة، لكن الكم المتابي يتراكم على مدى الأيام، وهذا يجعل الذات في جدل يومي مع المادة ومعالجتها. 2
كما قلت لك سابقاً بأن ثمة علاقة مفروضة على المكان، أحياناً تكون لديك زنزانة في سجون متعددة، بعضها شرح وبعضها مقبض جداً، لكن المكان الذي تواجد عبر الأختيار هو جو الغرفة المغلقة، أو الصالة حين تكون في شقة زواج، ونفس الصباح حيث تذهب الزوجة للعمل، وتبقى وحدك، لكن مع تواجد الآخرين والضجيج تتسحيل الكتابة، إلا في حالة السجن حين يصمت رفاق الزنزانة نهاراً وينشغلون بأعمالهم من تشكيل حرف أو كتابة أو قراءة، لكنك لا تنتج بنفس مستوى العزلة الحرة. 3
علمتني الظروف أن أكتب بكل شيء، بأي مادة تنهمر على الورق الأبيض أو على الشاشة، كان الجون يتملكني وأنا أبحث عن قلم لدى المسجونين بأحكام الذين تعلمهم العربية فيهدونك قلماً طويلاً أشبه بمعجزة. ثم كتبت كثيراً بالأقلام المتعددة بعد ذلك، وكنت قبل السجن قد أشتريتُ آلةَ طباعة كتبت عليها، فأشتريتُ أخرى بعد أن تم إلقاء تلك الآلة في البحر خوفاً!
الآلة الكاتبة الجديدة أخذت معي سنوات، تنقلت بها من الشقة الصغيرة حتى غرفة فوق السطوح على بناية، وقد تحملت عدة مجلدات من الروايات وعدة مجلات من الأبحاث فتصدعت، فكانت نهايتها هناك، أصبحت رثة، ضعيفة الطبع، وهنا بدأت العلاقة مع الكمبيوتر، كانت هذه الآلة تحفة وثراءاً وحفظاً جباراً، لكن البدايات كانت مروعة!
أخطاء في الحفظ فضاعت فصول وقصص، وأخذت سنوات عدة وأنا أـعلم وأتغلغل في السيطرة على هذه الآلة، وعشت مع عدة أجهزة ثابتة أصيبت بالأجهاد وتغلغلت فيها الفيروسات بسبب جمعي للكثير من المعلومات من مختلف المواقع، فأنا كاتب عمود يومي في جريدة أخبار الخليج وعبر عدة سنوات لا بد لي من الإطلاع المستمر ونقل المعلومات والدخول في مختلف المواقع، حتى أصبح المحمول رفيق الدرب! 4
لا أعترف بالإلهام الكتابي أو بأشياء مميزة للكتابة، لكن الآن أصبح المحمول أفضل صفحة بيضاء أخطُ عليها، وأصبحتْ العودةُ للقلم الناشف والحبر أو حتى قلم الرصاص الصديق الوفي لسنواتِ غيرَ ممكنةٍ بسبب هذه الآلة الجميلة الفذة!