رحل عبـــــــدالله خلــــــــيفة ‏‏‏‏‏‏…

DSC_0002

هكذا دون مقدمات طويلة. قضى -رحمه الله- قلماً شامخا ومناضلا شريفا، وكتابا مفتوحا لا ينتهي، سقط شهيدا، تشفع له لائحة الأماني وخارطة الأحلام التي نجح في حفرها في الأرض، من أجل الإنسان والوطن.

مضى منفردا عطشاناً، لم ينه ما في جعبته، مقاطعا عالم الكتابة المليء بالدجل والتزوير والأكاذيب والتزلف والأمجاد المستعارة مضى دون أن يعثر على النبع الصافي. إلا أنه وجد «هجعته» الأخيرة في ثلاجة الموت القصية: أهكذا الرحيل، أهكذا تكون الغيبة يا عبدالله؟!! طائرا مجروحا، في الليل يطلق الصرخات، يعذبه أن العيش حيث يستحيل الفكر محض تراب، إنه الموت الحقير، خلاص من عذاب الألم الذي لم يقعده عن الكتابة إلى آخر لحظة قبل أن يقضي واقفا.

لم يحزنني الخبر، بل أصابني بالشلل ليوم كامل…هذا الرجل الهارب كقبض الريح، بالأمس كان يحلم ويرسم آفاقا جديدة للبلد وللإنسان: يقاتل على جبهة الحرية والعدالة دون ادعاء أو تزييف للوعي، لم ينهزم أبدا في معركة المبادئ والحرية، ولكن هزمه الألم، فقضي في معركة الموت الجبانة…

كان يبحث عن بوابة البحر الأخيرة فلا يجدها، يركض، وبأظافره ينبش بحثاً عن لحظة إبداع نظيفة، يرجع كل ليلة خائباً يذكر بسيزيف الذي يحمل الصخرة قدراً، ولكنه لا يستسلم للعبة المحتومة، مثقل الجفون مضى، جسداً لم يستنفد شهوته الأخيرة، مغروسا في تراب البلد وناسه، يتأبط قدره المحتوم، ويبحث عن قبلة أوجاع أخيرة، مضى عقوداً من الخيبات العربية وخواتيم أحزان وآلام، يجري. يرميه الميناء إلى الميناء، والخيبة إلى الخيبة، لكنه لا يستسلم أبدا حتى أمام الألم والموت اللعينين، يقاتل ويستمر في كتابة مقاله اليومي وهو على فراش الموت (هكذا يكون القتال يا عبد الله)!

لقد علمتنا كيف نكون أو لا نكون، وكيف يكون الفقر غنى، والتعفف شرفا، والصدق مع النفس ومع الاخرين قاعدة الحياة الأولى والأخيرة!

كنت ترسم بقلمك الجريء رؤى الأيام القادمة، لم تكن من الحالمين بهدأة مريحة، بمحطة أكثر هدوءا لأنك اخترت ان تقاتل، أن تظل الى آخر لحظة في جبهة مقاومة الكذب والتزييف والتجارة البائرة بالفكر، رفضت مهادنة التخلف والرجعية أو التحالف مع الطائفية، اخترت أن تكون مع الحرية ومع العدالة ومع إنسانية الانسان، «أجندتك» الأخيرة، لا تبحث عن أي نوع من المكاسب أو المطامع خارج فعل الكتابة الحرة.

عندما عرفته أول مرة في خريف 1987م في أسرة الأدباء والكتاب، بدا لي وقتها وكأنني أعرفه منذ ثلاثين عاماً، لم اشعر في أي لحظة أو في أي كلمة باي نوع من الغربة أو الصلف او الادعاء، رجل إنساني الأفق والاشواق، فأحببته، وفي أخبار الخليج، محطته الأخيرة عملت معه خمس سنوات في تحرير وإعداد الملحق الثقافي الأسبوعي في تسعينيات القرن الماضي (16 صفحة ملونة) أيام كان للثقافة بعض الشأن، وبعض المكانة في الصحافة اليومية، كنا نرسم أحلام المثقف وهمومه وكانت المواد الثقافية ملتصقة بالمثقف البحريني وهمومه الحقيقية وإبداعه الحقيقي، وكان عبدالله لا يجامل في الابداع والنشر، لأنه يكره التزييف والمزيفين واشباه المثقفين…

واذكر أني سألته في بعض حواراتي معه: لماذا تصاب الثقافة المحلية بالانتكاسة وتدخل منطقة الظل والتهميش؟ فرد دون تردد: لقد كانت قصصنا واشعارنا تقرأ في الندوات، ويحدث حوار مفتوح حولها، وأحياناً بدون أي إعداد مسبق، والنقاش يفيض والكاتب يحس أنه جزء من حياة بشر يقرأون، وليس حاله مثل اليوم، يضاجع الأوراق فحسب، وهي لا تلد سوى الصمت.

وكان رؤساء التحرير، من أمثال محمود المردي وعلي سيار وعبد الله المدني، أناسا مثقفين وأدباء حقيقيين، يتذوقون الكتابة الابداعية ولهم مشاركات فيها. وكانت تحدث حوارات مع الكتاب يشارك فيها رؤساء التحرير مما كان يدعوننا للوضوح وصياغة ابداعنا بصورة أفضل، أكثر تماسكاً وعدم التركيز دائماً على السياسة.

لقد كانت أسرة الأدباء والكتاب منفتحة، تعددية، ذات مناخ ديمقراطي، وليس ثمة أي قطب يذوب فيه كل الأقطاب الأخرى، أو شلة تستولي على النشر وترتيب الندوات، كنا أشبه بالجوالين والكشافة، ننتقل من ناد إلى ناد، ومن أمسية إلى ندوة، ونتحاور بقسوة أحياناً، ونكتب بضراوة وكثرة، على مختلف الجبهات والصفحات.

لم يكن الهدف من الكتابة الحصول على نقود أو شهرة بإحداث الفعل الثقافي التنويري. وكانت الندوات العامة التي تحدث في قاعات الأندية، مليئة بجمهور المعرفة. حيث كان الكتاب والصحفية والندوة هي وسائل الإعلام القوية.

لكن كل هذا تغير اليوم، وتغير المناخ الثقافي، عبر حدوث التغيرات الاقتصادية الاجتماعية الكبيرة. فالمدن لم تعد لنا، صارت مليئة بالأجانب وعزلت الأندية عن دورها الثقافي، وصارت محتكرة من قبل إدارات من الوجهاء والأميين ولا يقودها الأدباء والمفكرون. عزلوها عن مناخها الفكري، وركزوا على الرياضية محاولين جعل الشباب بلا خليفة ثقافية. ومع ذلك لم ينجحوا لا في الرياضة ولا في أي شيء آخر.

لقد كانت قوة الثقافة الوطنية (مخترقة) على كافة الجبهات. لقد كان العدو يطلع من بين صفوفنا فظهرت نغمة (الشكلانية) الفارغة، ودعت الكتاب للتخلي عن (الكلمة من أجل الإنسان) وصار الغموض لغة تفجيرية تؤدي إلى عزل الشكل عن المضمون، وعزل الكاتب عن المجتمع، وتؤدي إلى الغرق في متاهات تجريدية ولغزية تدمر الأدب من الداخل. ولذلك فقدنا كتاباً كثيرين بسبب هذه الطريقة، لأن مبادئ الوعي المضيء والوطني، واعتبار الكاتب قوة تغيير روحية في المجتمع، ضاعت، وتحول الكاتب إلى شخص مهووس بذاته، تشرخه أحلام جنون العظمة والتعملق الفارغ.

ومشكلات الحياة الحادة المتفجرة، أدت هي الأخرى إلى بؤس الكتاب والمثقفين، ولهذا فإن الواقع الفكري تهشم وتقزم، والحياة الثقافية التي كانت تندفع مثل القطار في السابق أصبحت مثل سيارة مثقوبة الإطارات، ومع ذلك فإن سائقها ظل يحاول السير بها بين الرمال والحصى!

كانت تلك ومضة واحدة من ومضات أفكرا ورؤى الراحل الجميل، وقد قدر لي ان اجمع بعضها في كتاب تحت الطبع بعنوان (مساءلات في الثقافة البحرينية) أرجو أن يرى النور قريبا ويتضمن إضاءات عن تجربة عبدالله الإبداعية.

كمال الذيب

                                     رحل عبـــــــدالله خلــــــــيفة ‏‏‏‏‏‏…

أضف تعليق